قصة قصيرة روبرت شيكلي - أحذية.. ت: محمود صالح

لم يعد حذائي يصلح للانتعال, كان متعباً ويصدر أصواتا في الأماكن الهادئة, لذلك, انتهزت فرصة مروري بأحد المتاجر التي تبيع البضائع المستعملة ودخلت إليه, لعلي أجد فيه شيئا يناسبني.

إن البضائع التي تجدها في مثل هذه الأماكن لا تتمتع بالذوق العالي, كما أن الأحذية التي توجد فيها لا تتناسب مع الأقدام ذات المقاييس العادية مثل قدمي, ولكني هذه المرة وجدت غايتي, زوجا من الأحذية مصنوعا من الجلد الإسباني الثقيل, من قرطبة على وجه التحديد, يبدو لامعا وجديدا ما عدا ذلك الخدش الذي يوجد في مقدمته, علامة حدثت بلا شك عندما تم إلقاء هذا الحذاء في سلة القمامة, ولكنه كان ذات يوم حذاء باهظ الثمن, ولا أدري لماذا تخلى عنه صاحبه, ربما كان وقتها يمر بحالة من المزاج السوداوي التي أمر بها أحياناً.

ولكن مزاجي كان جيدا اليوم, كما أنك لا تجد حذاء جيدا مثل هذا كل يوم, أما سعر الدولارات الأربعة المكتوب عليها فهي مثيرة للسخرية, وهكذا خلعت حذائي القديم, وأدخلت قدمي في ذلك الحذاء القرطبي لأرى إن كان يناسبني, وفي الحال سمعت صوتا يدوي في داخل رأسي, واضحا كصوت الأجراس, كان يهتف بي:

- أنت لست كارلتون جونسون, من أنت?

قلت في صوت عال: أنا إد فليبس.

قال الصوت: لا يحق لك أن ترتدي هذا الحذاء إذن, إنه من حق كارلتون جونسون فقط.

- اسمع أنا في متجر للبضائع المستعملة, وهذا الحذاء مكتوب عليه أربعة دولارات وهو حق لمن يشتريه.

قال الصوت في حيرة: هل أنت متأكد من ذلك? هل استطاع كارلتون جونسون أن يتخلى عني هكذا ببساطة, لقد كان في غاية السرور عندما اشتراني, وفي قمة السعادة عندما وهبت قدميه الراحة التي لم يشعر بها مع أي حذاء آخر?

قلت: من أنت?

- أليس هذا واضحا, أنا نموذج أولي من الأحذية الذكية, أتحدث إليك من خلال وصلات دقيقة موجودة في النعل, إنني أتلقى أصداء صوتك من خلال عضلات جسدك وأقوم بترجمتها, ثم أقوم ببث صوتي إليك بالطريقة نفسها.

- لا تستطيع القيام بكل هذه الأشياء?

- أستطيع القيام بأكثر من هذا, ألم أقل لك إنني حذاء ذكي.

في تلك اللحظة لمحت سيدتين تنظران إلي في إشفاق, ولا بد أنهما كانتا تستمعان إلى جانب واحد من هذه المناقشة, حيث إن الجانب الآخر لا مكان له إلا داخل رأسي, ذهبت ودفعت ثمن الحذاء دون أن يجرؤ على الاعتراض ثم سرت خارجا من المتجر.

كان مسكني عبارة عن شقة من غرفة واحدة في فندق (جاك لندن) بالقرب من الشارع الرابع, ولم أسمع أي تعليق من الحذاء إلا عندما أصبحت وحدي في الطرقة المؤدية إلى غرفتي, لم يكن المصعد يعمل هذا المساء, واضطررت إلى صعود الطوابق الثلاثة على قدمي, وسمعت صوت الحذاء وهو يقول:

- يا للبؤس.

- كيف تستطيع أن ترى المكان الذي أعيش فيه.

- بعيني الصغيرتين, أستطيع أن أمتص الضوء من الفتحات المعدة للرباط.

قلت في سخرية:

- لعلك لم تر مع كارلتون جونسون إلا الأشياء الجيدة.
قال الحذاء في أسف:

- آه, كان السجاد يغطي كل مكان, وحتى الأرضيات العارية كانت مطلية بطبقة من الورنيش, لم تكن تؤثر في إلا أقل تأثير.

- ولكنك تسير الآن فوق البلاط العاري, ماذا ستقول عن هذا?

ولا بد أنني رفعت صوتي عالياً مرة أخرى, فقد فتح أحد الأبواب في الممر وأطلّت منه امرأة عجوز, وعندما رأتني وأنا أتحدث إلى نفسي, هزت رأسها في حزن ثم أغلقت الباب, قال الحذاء:

- هل من الضروري أن تصيح هكذا, يكفيك أن توجه أفكارك نحوي, لا توجد مشكلة عندي في تلقي الأصوات الداخلية.

- أعتقد أنني أصبتك بالاضطراب, أنا آسف من أجل ذلك.

لم يجبني الحذاء إلا بعد أن فتحت باب حجرتي وخطوت بداخلها وأضأت الأنوار وأغلقت الباب, عندها قال:

- أنا لست مضطربا من أجل نفسي, ولكن من أجلك يا مالكي الجديد, لقد كنت أضطر لمراقبة كارلتون جونسون أيضا.

- لماذا?

- من أجل أن أساعده على أن يكون ثابتا, فقد كانت له عادة مؤسفة وهي الإسراف في شرب الكحول بين فترة وأخرى.

- آه, لقد كان الفتى سكيرا إذن, هل كان يتقيأ عليك أحيانا?

- لا تحاول أن تكون مثيرا للاشمئزاز, لقد كان كارلتون جونسون سيدا مهذبا, جنتلمانا حقيقيا.

- يخيل إلي أنني سمعت ما فيه الكفاية حول كارلتون جونسون هذا, هل لديك موضوع آخر تود أن تحدثني عنه.

- لقد كان مالكي الأول, ولكني سوف أكف عن الحديث عنه مادام هذا الأمر يزعجك.

- لا يهمني ذلك, ولكنني الآن أستعد لشرب زجاجة من البيرة, إذا لم يكن عند حضرتكم أي مانع.

- ولماذا أعترض, فقط - من فضلك - لا تحاول أن تسكب شيئا منها علي.

- هل لديك شيء ضد البيرة.

- لا معها ولا ضدها, كل ما في الأمر أنها تصنع حولي هالة من الضباب تشوش أفكاري.

تناولت زجاجة من الثلاجة الصغيرة وجلست في المقعد المواجه للتلفزيون الصغير, ولكن قبل أن أهم بفتحه عبرت رأسي فكرة فالتفت إلى الحذاء وأنا اقول:

- كيف يمكن أن تتكلم بهذه الطريقة?

- أي طريقة?

- طريقة رسمية بعض الشيء, ولكن تصل إلى أشياء من الصعب أن أتوقع أن يصل حذاء إليها.

- أنا حذاء كمبيوتر ولست مجرد حذاء.

- أنت تفهم ماذا أعني, كيف حدث هذا? أنت تتحدث بذكاء أكثر من بائع الأحذية نفسه.

- أنا لست النموذج المعتاد, أنا نموذج أولي كما قلت لك, ولسوء الحظ أو حسنه فقد وضع فيّ الذين قاموا بصنعي بعض المزايا الخاصة.

- ماذا يعني هذا?

- أنا أذكى من كل الأحذية التي يرتديها بقية البشر, كما أنني مزود بدائرة من المشاعر العاطفية.

- أنا لم ألاحظ أي نوع من التعاطف معي.

- هذا لأنني مازلت مبرمجا حيال كارلتون جونسون.

- هل سوف أظل أسمع إلى الأبد اسم هذا الفتى?

- أنا آسف, إن دائرة التأقلم داخلي قد بدأت عملها ولكنها سوف تأخذ بعضا من الوقت حتى أتأثر بالمجال الذي تصنعه أنت عندما تنتعلني.

راقبت التلفزيون لفترة قصيرة ثم ذهبت للنوم, يبدو أن شراء زوج من الأحذية الذكية قد أجهدني تماماً, ولكني نهضت في منتصف الليل, كان الحذاء يقوم بعمل شيء ما, ولم أكن أستطيع أن أعرف ما هو دون أن أنتعله, قلت له: هاي, ماذا تفعل? ولكن يبدو أنه لم يسمعني, أخذت أتجول قليلاً عبر الغرفة, قال الحذاء أخيرا:

- لا تتعب نفسك, أستطيع أن أسمع أصداء صوتك دون أن تبذل مثل هذا الجهد.

- ماذا تفعل إذن?

- أقوم بعملية استخراج الجذر التربيعي لبعض الأرقام فأنا لا أستطيع النوم.

- منذ متى يحتاج الكمبيوتر إلى النوم?

- هناك خطأ في برمجتي, أحتاج دائما إلى شيء أقوم به, إنني أفتقد أطرافي بشدة.

- وماذا يعني هذا?

- أنا متردد في ذكر الاسم, ولكن كارلتون جونسون كانت لديه نظارة للقراءة وكنت أستعيرها منه حتى أحسن من الطريقة التي أنظر بها إلى الأشياء, لو كان لديك واحدة ربما تعيرني إياها.

- عندي واحدة ولكنني لا أستخدمها كثيراً.

- هل يمكن أن أراها, هناك أشياء أود القيام بها?

كانت نظارتي موجودة فوق التلفزيون, أخذتها ووضعتها بجانب الحذاء, وسمعت صوته وهو يقول في ارتياح: (شكرا لك), لم أرد عليه لأنني عدت مباشرة إلى النوم.

في الصباح كان الحذاء هو الذي بدأ الحديث معي, قال:

- أخبرني شيئاً عن نفسك?

قلت: ماذا يمكن أن أقول? أنا كاتب حر, لا أنتمي لأي مؤسسة, والأمور تمشي بشكل جيد بحيث أستطيع العيش في هذا الفندق, هذه هي نهاية القصة.

- هل يمكن أن أرى شيئا من كتاباتك?

- هل أنت ناقد أيضا?

- كلا على الإطلاق, أنا مجرد آلة للتفكير الابتكاري, ويمكنني أن أمدك ببعض الأفكار التي يمكن أن تستخدمها.

-انس هذا الأمر, لا أريد أن أريك أيا من أعمالي.

- لقد نظرت بالمصادفة إلى قصتك (قاتل من القمر الداكن).

- كيف حدث أنك نظرت إليها? لا أعتقد أنني أريتك إياها.

- إنها موجودة ومفتوحة فوق منضدتك.

- كل ما يمكنك رؤيته إذن هو صفحة العنوان.

- في الحقيقة, لقد قرأت كل شيء.

- كيف يمكنك أن تفعل ذلك?

- لقد أجريت بعض التعديلات على نظارتك, لم يكن من الصعب أن أضيف إليها أشعة إكس, وهكذا استطعت أن أقرأ كل الصفحات الموجودة تحت الصفحة الأولى.

- إنجاز عظيم, ولكنني لم أكن أرغب في أن تنبش في أشيائي الخاصة.

- أي أشياء خاصة, لقد كنت تنوي إرسالها إلى إحدى المجلات للنشر.

- ولكني لم أفعل, على أي حال ما هو رأيك فيها?

- موضوع قديم, هذا النوع من الأشياء لم يعد يباع.

- إنها قصة ساخرة, أحاول أن أقلد فيها أسلوب الكتّاب القدامى, وهكذا أنت لست منظما للأحذية فقط, أنت أيضاً محلل أدبي.

- كل ما في الأمر أنني ألقيت نظرة على رفوف مكتبك.

ومن نبرة صوت الحذاء التي رنت في أفكاري عرفت أنه غير راض عن ذوقي الأدبي, وفيما بعد سمعته وهو يقول:

- أتعرف يا إد يجب ألا تكون كئيباً هكذا, إن عندك بعض النقاط اللامعة, يجب أن تفعل شيئا من أجل نفسك.

- من أنت, محلل نفسي أيضا.

- لست شيئا من هذا النوع, أعني كل ما أعرفه هو بعض الأوهام عن نفسي, ولكني عرفت بعض الأشياء عنك منذ أن بدأت دورتي العاطفية في العمل, لم أستطع أن أمنع نفسي من الملاحظة أنك رجل ذكي, أنت تعرف ذلك بالطبع, تعليمك جيد أيضاً, كل ما ينقصك بعض من الطموح, وإذا وجدت امرأة جيدة يمكنها أن تدفعك في هذا الاتجاه.

- آخر امرأة غادرتني وأنا ممزق, وأنا الآن لست مستعداً لامرأة أخرى.

- أنا أعرف هذا الإحساس, ولكنني كنت أفكر في (مارشا).

- يا للجحيم, كيف عرفت بأمر (مارشا).

- اسمها كان مدونا في دفتر الهواتف الأحمر الخاص بك, وقد حدث بالمصادفة أن نظرت إليه بوساطة أشعة إكس, كنت أريد أن أبذل كل جهدي لأجعلك أفضل.

- والآن استمع إلي, حتى كتابة اسم (مارشا) في مفكرتي هو نوع من الخطأ, إنها أخصائية في صنع الأفضل, وأنا أكره هذا النوع.

- ولكنها يمكن أن تكون جيدة بالنسبة لك, لقد لاحظت أنك وضعت نجمة أمام اسمها.

- وهل لاحظت أنني شطبت عليها?

- كان هذا هو التفكير الثاني, نحن الآن في التفكير الثالث, يمكن أن تكون جيدة مرة أخرى, أنا أعتقد أنكما سوف تكونان جيدين معا.

- يمكنك أن تفهم جيداً في الأحذية, ولكن من المؤكد أنك لا تفهم في نوع المرأة التي أفضلها, هل رأيت ساقيها?

- الصورة التي في محفظتك تظهر وجهها فقط.

- ماذا? هل نظرت في محفظتي أيضا?

- بمساعدة نظارتك طبعا... وليس بعيداً عن اهتماماتي البريئة بك, إذ أود أن أؤكد لك, أنا فقط أريد أن أساعدك.

ـ أنت بالفعل ساعدتني كثيراً.

- أعتقد أنك لا تمانع في تلك الخطوة الصغيرة التي اتخذتها نيابة عنك.

- خطوة? أي خطوة?

دق جرس الباب, حدقت في الحذاء, وهو يواصل القول:

- لقد سمحت لنفسي أن أتصل بـ (مارشا) وأدعوها للقدوم هنا.

صرخت بأعلى صوتي: فعلت ماذا?

- إد, إد, اهدأ أرجوك, لقد اتصلت بها فقط, ولكني لم أتصل بمديرك السابق مستر أدجرسون في مؤسسة سوبر جلووس للنشر.

- أنت لا تجرؤ على ذلك.

- بل أجرؤ, ولكني لم أفعل, ولكنك يمكنك القيام بأشياء رديئة أسوأ بكثير من العودة إلى جلووس للنشر, لقد كان مرتبهم جيداً.

- هل قرأت منشورات هذه المؤسسة, أنا لا أعتقد أنك تعرف ماذا تفعل, ولكنك لن تفعل ذلك من أجلي.

كان هناك طرق على الباب.

- إد, أنا أحاول البحث من أجلك, قل لي ماذا تفعل ماكينة ذات دائرة عاطفية وذكاء صناعي غير ذلك.

- سوف أقول لك خلال لحظات.

فتحت الباب, كانت (مارشا) واقفة وهي تبتسم:

- أوه, إد, أنا سعيدة لأنك اتصلت بي.

هذا الحذاء السافل قد قلد صوتي أيضاً, نظرت إليه, إلى لمعته الكئيبة, وتصاعدت مشاعر الغضب, في أعماقي, قلت:

- تعالي هنا يا (مارشا) أنا سعيد لأنك جئت, هناك شيء من أجلك.

دخلت الغرفة, جلست أنا على أول مقعد وخلعت الحذاء من قدمي, تجاهلت صرخة الكمبيوتر المتضايقة التي دوت في رأسي:

(إد, لا تفعل ذلك بي), نهضت واقفاً وناولت الحذاء لها, قالت:

- ما هذا?

- حذاء من أجل أي حالة من حالاتك الخيرية, آسف لأنني لا أملك ورقاً ولا حقيبة حتى أضعه فيها.

- ولكن ماذا أفعل بهذا?

- إنه حذاء خاص جدا, مبرمج بالكمبيوتر, أعطه لشخص يكون بعيدا عنك, دعيه ينتعله ربما يصنع منه شخصا جديدا, اختاري شخصاً ضعيف الإرادة من الذين تعرفينهم وسوف يقدم له هذا الحذاء الدعم اللازم.

نظرت (مارشا) إلى الحذاء قليلاً وهي تقول:

- أتعني أنه قادر على ذلك?

- بشكل أو بآخر, أنا واثق أن المالك السابق لهذا الحذاء كارلتون جونسون لم يستطع أن يتحمل أن يقوم الكمبيوتر بالنبش في حياته الخاصة, لذلك, بادر بالتخلص منه, ولكن صدقيني يا مارشا هذا الحذاء مناسب جدا للرجل المناسب, كارلتون جونسون لم يكن الرجل المناسب وكذلك أنا, ولكن شخصا آخر تعرفينه سوف يقبل الأرض التي تسيرين عليها من أجل هذا الحذاء, صدقيني.

- ولكن متى سوف تتصل بي?

قلت: لا تقلقي, سوف أتصل.

ولكني كنت بذلك أضيف كذبة أخرى لبقية الأكاذيب التي قلتها في حياتي
 
أعلى