نقد عبد الحميد الرشودي - مكتبتـــــي

لم أكن غريباً عن الكتاب ولم يكن الكتاب عني غريباً، فقد فتحت عيني – حين فتحتها – على خزانة كتب كان والدي – رحمه الله – قد اقتناها وهي تتكون من عدة رفوف لها بوابة ذات مصراعين وكثيراً ما كنت افتح بوابتها وأجيل الطرف في رفوفها مبهوراً، وحين كنت أرى والدي وقد جلس أرضا ً تحت المصباح النفطي وقد اسند ظهره الى الجدار واستغرق في القراءة اتمنى أن يأتي اليوم الذي اكون فيه قادراً على قراءة هذه الكتب والانتفاع بما فيها من العلوم والمعارف وشد ما سروري يزداد حين يكلفني والدي باعادة كتاب الى الخزانة او جلب غيره بعد ان يصفه لي وصفاً كاملاً (جلده كذا وحجمه كذا) فاعود اليه بالكتاب المطلوب، وقد ملأ السرور جوانحي وطفح البشر على قسماتي. وحين انتقل الوالد الى رحمة الله اضطرت العائلة تحت وطأة الحاجة ان تبيع شطرا من هذه المكتبة وخاصة كتب الفقه والتفسير والحديث والعقائد وقد استخلصت لنفسي الكتب النحوية والادبية والبلاغية والتي اصبحت بعد ذلك نواة فما ضننت به من تلك الكتب شروح الفية ابن مالك الاشموني والخضري والمكودي بطبعاتها الاولى ذات الورق الاصفر وكذلك من الكتب الادبية التي احتفظت بها معاهد التنصيص للعباسي والطراز في البلاغة للعلوي اليماني وديوان المتنبي بشرح البرقوقي في طبعته الاولى عام 1932 ومن الكتب التاريخية ثلاثة اجزاء من تأريخ ابن خلدون وجزء يضم تعليقات الامير شكيب ارسلان عليه ومن كتب التفسير احتفظت بالكشاف للزمخشري ومن الحديث باجزاء من صحيح البخاري وغيرها من الكتب التي تلائم هوايتي وهي تمثل الجانب الطارف منها – فقد بدأت عام 1943 عندما دخلت مدرسة متوسطة الكرخ فقد لمحت ذات يوم بيد احد زملائنا ديوانا ضخما فطلبته منه وتصفحته فاذا به ديوان الرصافي (طبعة بيروت عام 1931) فسألته متعجبا من اين لك هذا (يا عبد الغني) فقال انه يعود لاخيه الاكبر وانه اشتراه من سوق السراي فازمعت امري وصممت على اقتناء نسخة منه وقد وجدتني ذات يوم ادخل سوق السراي وفي جيبي دينار واحد فما كنت اخطو عدة خطوات حتى وقفت امام مكتبة تحمل اسم (الإصلاح) لصاحبها صادق الشكرجي وكان رحمه الله بدينا انيقا يبدو لرائيه وهو ببذلته البيضاء وحمائل سرواله وربطة عنقه الحمراء، وكأنه طبيب جراح او صيدلي فجمعت شتات شجاعتي وسألته هل عندكم ديوان الرصافي؟ فأجاب نعم ثم التفت الى احد الرفوف وقدم لي نسخة مجلدة تجليدا افرنجيا ومذهبة فسألته عن ثمنها فقال لي (800) فلس فنقدته الدينار وأعاد لي ريالا (وحدة نقدية تساوي 200 فلس) ولاتسل عن سروري الغامر حين ظفرت بهذا الديوان فاتخذته محرابا اتعبد بتلاوة قصائده حتى استظهرت اكثرها وازداد اعجابي بالرصافي وبروحه الوطنية ومشاعره الانسانية ولعل سر ولوعي بادب الرصافي واهتمامي بآثاره واخباره يعود الى هذا الديوان فأنا واياه كما قال الشاعر:
اتاني هواها قبل ان اعرف الهوى = فصادف قلبا خاليا فتمكنا
وقد علمت بعد ان اخذت اتردد على سوق السراي، واطلعت على دخائله ان (صادق الشكرجي) كان مختصا ببيع القرطاسية وانه نادرا ما يتجر بالكتب ولكنها المصادفة التي ساقت هذا الفتى الساذج فأوقفته عند حانوت هذا الرجل فلم يخب مأموله فحصل على بغيته وطلبته بلمح البصر وعاد الى داره فرحا جذلا وكأنه عثر على كنز من كنوز سليمان..
كان باعة الكتب انماطا اعاجيب منهم السهل السمح ومنهم المماكس المغالي ومن الذين اذكرهم بخير ولمست فيهم مروءة وسماحة المرحوم نعمان الاعظمي (صاحب المكتبة العربية) فقد اتيته يوما لشراء كتاب (العقد المفصل) للسيد حيدر الحلي فسألته عن ثمنه فقال لي (300) فلس وبما انك طالب ادب فتشجيعاً لك هات ربع دينار فأخذته شاكرا له هذه الاريحية..
ومن اولئك الكتبيين الذين تركوا اثرا طيبا في نفسي المرحوم قاسم محمد الرجب صاحب مكتبة المثنى فما اشتريت منه كتابا الاواجرى عليه خصما مناسبا ولم اكن اعرف يومئذ هذا الاسلوب في البيع. وان انسى لا انسى المرحوم محمود حلمي صاحب المكتبة العصرية فقد وجدت فيه طيبة وسماحة وقد ادركته في سنيه الاخيرة.
لقد اصبح سوق السراي نزهتي المفضلة الم به كلما توفر لدى شيء من النقود فقد كانت الكتب يومئذ زهيدة الاثمان واذكر اني اشتريت كتاب (صندوق الدنيا) لابراهيم عبد القادر المازني باربعين فلسا وكانت المجلات القديمة وخاصة مجلة الرسالة والرواية والثقافة مطروحة ارضا وقد وقف عليها من ينادي باعلى صوته العدد بعشرة فلوس فاستطعت ان اقتني منها اعدادا وفيرة هي اليوم قرة عيني وبهجة قلبي.
واذكر ان مجلدات من الجرائد العراقية القديمة قد طرحت للبيع عن طريق المزايدة وقد علمت انها تعود للمربي الاستاذ ساطع الحصري بعد ان اسقطت عنه الجنسية العراقية وقد ظلت ايدي الباعة تتعاور صحفه وكتبه مدة طويلة تارة عن طريق المزايدة واخرى عن طريق المساومة.
وقد ازدادت خبرتي بسوق الكتب وباعتها فلم يعد سوق السراي يشبع رغباتي فقد عثرت ذات يوم على قائمة كتب للمكتبة العربية في القاهرة وفيها تعليمات لمن يرغب في اقتناء كتبها بالاسعار المدونة ازاءها على ان ترسل اثمانها سلفا مع قائمة الطلب فزينت لي سذاجتي ان احول بعض الدنانير العراقية الى جنيهات مصرية فوضعتها داخل رسالة مع قائمة باسماء الكتب التي طلبتها وارسلتها بالبريد العادي وشد ما كان عجبي حين جاء ساعي البريد (عباس) الموزع الوحيد في الكرخ وهو يحمل رزمة من الكتب ومعها رسالة بالحساب وقد بقي في ذمتي شيء من الحساب فأبردت له شاكرا صدقه وامانته وارسلت اليه المبلغ المطلوب مع قائمة جديدة بكتب اخترتها واني ما زلت احتفظ برسائل هذا الرجل الشهم محمد احمد برغم مضي اكثر من اربعين عاما عليها اسبغ الله عليه ثوب العافية ان كان في المنتظرين وتغمده برحمته ان كان سبقنا الى لقاء وجه ربه الكريم..
وحين اصبح لي مورد ثابت من المال خصصت شطرا منه لاقتناء الكثير فقد عينت معلما في مدرسة التفيض عام 1952 وبذلك ازدادت قدرتي على الشراء..
بدأت اول الامر بجمع كتبي في زاوية ثم ضاقت فاشتريت (دولابا) من سوق الهرج فاختنق بعد مدة من الزمن فخصصت لها غرفة صغيرة من غرف الدار ثم ضاقت كما ضاق قبلها (الدولاب) ومن رأيي في المكتبة والانتفاع بها يجب ان تكون في متناول طالبها فاذا كدست ونضد بعضها فوق بعض فقد صارت مخزنا وعندئذ يتعذر الانتفاع بها لذا رأيت ان اركنها في رفوف متوازية بحيث تكون جميعها تحت نظري وفي متناول يدي فان من عادتي اذا قرأت كتابا وخامرني شك في نص من نصوصه ان ارجع الى مظانه لأقارن بين ما اورده المؤلف وماهو مدون في المصدر المنقولة منه تلك النصوص وكثيرا ما كنت اقف على فروق واختلافات مما وقر في نفسي ان اكثر المؤلفين تعوزهم الدقة واحيانا الامانة او ان بعضهم يرجعون الى مصادر ثانوية ويوهمون القارئ بأنهم استقوا من الاماكن الاصلية وذلك بسبب الكسل او التسرع وايثار الميسور على المعسور..
ومن الوفاء ان نذكر للدار الوطنية في العراق فضلها السابغ على الثقافة فقد درجت على دعم الكتاب طباعة ونشرا وتوزيعا وان معارضها التي اقامتها قبل سنتين فنازلا – ولا اقول فصاعدا – قد ساعدت كثيرا من هواة الكتب على تكوين مكتبات عامرة بيسر وسهولة واسعار معتدلة..
ان الكتاب مثله مثل الكائن الحي يعتريه من اسباب المرض والعطب ما يعتري الانسان. فالارضة هذه الدابة الرهيبة الفتاكة – على ضعفها وصغر حجمها –عدو مبين لم ينج منها حتى منسأة سيدنا سليمان فاذا اخذت طريقها الى المكتبة فاقرأ على كتبها سورة الفاتحة. وكذلك المستعير الذي يلتوي بالكتاب حين يطلبه ولايعيده الى صاحبه ويعتذر باعذار باردة واهية مما جعل بعض اصحاب الكتب يضنون بكتبهم ولايعيرونها خشية ضياعها وقد رأيت بعض اصحاب المكتبات الخاصة قد كتب على كل كتاب من كتبه المهمة هذين البيتين:
اذا استعرت كتابي وانتفعت به = احذر وقيت الردى من ان تؤخره
واردده لي سالما اني شغفت به = لولا مخافة كتم العلم لم تره
وبرغم انني اكتويت بنار الاستعارة وفقدت مني كتب نفيسة فاني لا اشايع الرأي القائل: ان الغبي من يعير كتابا والاغبى منه من يعيده.
ففي هذا قطع لسبيل الاحسان فكل كتاب تستطيع ان تصل اليه يدك فتقتنيه بل من الكتب ماهو نادر مفقود لذا فاني مع الرأي القائل بأن "زكاة الكتاب اعارته" على ان يعرف المزكي من
يستحق الزكاة: فيشكرها ولايكفرها..
ان مكتبتي على صغرها وبساطتها – هي واحتي في صحراء الحياة آوي الى ظلالها الوارفة وقطوفها الدانية وجدولها العذب النمير كلما امضني لهيب الهاجرة أو حزبني امر من امور هذه الدنيا – وما اكثرها – فاجد فيها روحا وريحانا ثم استغرق بين سطورها في حلم صوفي سعيد لايوقظني منه الا عندما اجد النعاس قد عقد اجفاني واخذ رأسي يهوم واحيانا يسقط الكتاب من يدي من شدة الاعياء ولله در الشاعر الذي وصف الكتاب بهذا الوصف الذي جمع فأوعى وهو مما انشده ابن الاعرابي (معجم الادباء 7/8)

لنا جلساء ما نمل حديثهم = الباء مأمون غيبا ومشهدا
يفيدوننا من علمهم علم من مضى = وعقلاً وتأديباً ورأياً مسددا
فلا فتنة نخشى ولاسوء عشرة = ولا نتقي منهم لسانا ولا يدا
فإن قلت: اموات فما انت كاذب = وإن قلت احياء فلست مفندا



خير جليس.jpg

خير جليس.jpg
 
أعلى