نقد آدم فتحي - كانيباليّة الفرجة!

يوم 8 تموز 2014، كانت القذائف الإسرائيليّة تحصد الروحَ المئة في شوارع غزّة، حين كان الفريق الألمانيّ يسجّل الهدف الأوّل، فالثاني، فالثالث، ضدّ البرازيل في ملعب البيلو أوريزونتي. لم نعلم بما حدث في غزّة إلاّ لاحقًا، طبعًا... لأنّ البثّ لم ينقطع في معظم بلاد العالم، وفي كلّ البلاد العربيّة! ولماذا ينقطع البثّ؟ غزّة لم تعد مدينة، ولا هي قطاع، في نظر العين الجماعيّة التي احترفت أكل اللحم البشريّ! إنّها مرمى قذائف وصواريخ! والفلسطينيّ انخفضت أسهمه في بورصة "قِيَم" أكلَة اللحم الآدميّ، حتى بات لا يستحقّ دقيقة صمت من تلك التي يدغدغ بها العالمُ ضميرَه بين الحين والآخر!

ثمّ إنّ للمونديال أكثر من دور! لعلّ من بين أدواره أن يحجب الرؤية عمّا يحدث هنا وهناك، على الأقلّ طوال أسابيع. أن يصبح شبيهًا بالمياه التي يتمرأى فيها نرسيس (الجماعيّ) كي يُعجَب بنفسه. شبيهًا بمرآة الحكاية القديمة، مع فارقٍ مهمّ: أنّ مرآة الفوتبول لا تقول الحقيقة، بل تجعلنا نرى أنفسنا أجمل منّا بكثير.
* * *

بعد اختتام مونديال البرازيل بقليل، وتحديدًا يوم 16 تموز 2014، كان الجنود التونسيّون يختمون يومًا رمضانيًّا شاقًّا، ويستعدّون للإفطار، في نقطتَي المراقبة العسكريّة بجبل الشعانبي، بمحافظة القصرين غرب تونس، حين عمدت مجموعتان إرهابيّتان إلى الهجوم عليهم بشكل متزامن، وباستخدام الأسلحة الرشّاشة وقذائف الآر بي جي، ممّا أسفر عن سقوط 14 قتيلاً وأكثر من 20 جريحًا.
سرى الخبر في الـ"فايسبوك" سريان النار في الهشيم، واهتزّ له التونسيّون. إلاّ أنّ الفضاءات الإعلاميّة اكتفت بإيراد الخبر والعودة إلى سالف نشاطها المسلسلاتي والتسلويّ المعهود. حتى بعد ذلك، لم يأخذ الخبر من البرامج بقدر ما أخذ المونديال وتفاصيله وشرح تفاصيله وشرح شروح تفاصيله!
* * *

اقتران الحرب والرياضة ليس ابن اليوم. الحرب من جوهر الرياضة منذ أوّل حلبة أتاحت للجمهور الاستمتاع بالفرجة على قتل الغلادياتور بعضهم بعضًا. لكنّ الرياضة حاولت الابتعاد عن الحرب. حاولت ترويضها على الأقلّ. ذاك ما أشار إليه بيار بورجاد في ثمانينات القرن العشرين في كتاب عنوانه "الفوتبول كاستمرار للحرب بوسائل أخرى". لم يكن هذا العنوان سوى تنويع على فكرة ترسّخت منذ دي كوبرتان، مضمونُها أنّ الرياضة كالسياسة قناةٌ لتصريف الغريزة الحربيّة. لكنّ الواقع أثبت أنّ الغريزة عصيّة على الترويض.
من ثمّ أمكن لباسكال بونيفاس أن يؤلّف كتابه "حروب المستقبل"، مؤكّدًا أنّ الرياضة، والفوتبول تحديدًا، كان وسيكون سببًا لحروب حقيقيّة عديدة. لعلّ الأمر لم يكن بعيدًا عن ذهن وزير الدفاع الإسرائيليّ الذي أنكر قبل سنوات أن يكون أحد قنّاصته استهدف طبيبًا فلسطينيًّا، زاعمًا أنّ جنوده كانوا يمارسون رياضة الرمي حين اعترض الطبيب طريق رصاصة طائشة! لعلّ الأمر لم يكن بعيدًا أيضًا عن ذهن السيّد راشد الغنّوشي زعيم "حركة النهضة" حين أنكر سنة 2012 وجود إرهابيّين يتدرّبون على استخدام السلاح في تونس، بحمايةٍ من قياديّين في حركته، مؤكّدًا أنّها تدريبات رياضيّة يمارسها شبابٌ يحمل ثقافةً جديدة! هذه الثقافة نفسُها، عينُها، التي رأينا تجلّياتها بدايةً من اغتيال لطفي نقض وشكري بلعيد ومحمد البراهمي وصولاً إلى جنود الشعانبي الأربعة عشر.
إنّ من حقّ الإسرائيليّ أن يمارس رياضة الرمي لكن بعيدًا عن حمامنا وأطفالنا ونسائنا ورجالنا. كما أنّ من حقّ السيّد راشد الغنّوشي وأمثاله والواقفين على يمينه في مختلف أصقاع الأرض، أن يؤمنوا بالرياضة التي يريدون. على أن يمارسوها بعيدًا عن البشر، بعيدًا عن محبّي الحياة والنور، بعيدًا عن شوارعنا وجبالنا وصدورنا ودمنا. بعيدًا عن رغبتنا في أن تتمخّض هذه الثورة الممكنة عن ثورة متحقّقة، تُخلّصنا من قيودنا، سواء أكانت جذورًا صدئة أم أجنحة مستعارة، وتحرّرنا من ربقة العبوديّة المختارة والاضطراريّة، وتفتحنا على المستقبل.
* * *

هذا النوع القاتل من الرياضة هو الذي شجبه أمبرتو إيكو حين جاهر بكراهيته لكرة القدم في أحد حواراته الصحافيّة، مؤكّدًا أنّه يفضّل الرياضات التي يقامر فيها اللاعبون بحياتهم طوعًا، واستجابة لكبريائهم، لكنّه يرفض الرياضات التي تَجرّ إلى الحرب (ومن ثمّ إلى الموت) من لا يرغب فيها. مضيفًا أنّه لا يملك الاعتراض على كلّ نشاط جسديّ قد يؤدّي إلى موت الأبطال، شرط أن يكون ذلك باختيارهم. إلاّ أنّ ما يحدث الآن: "بضعُ كائنات تُفَبْرَكُ لتلعب دور أبطالٍ بلا روح، تتفرّج عليها الجماهير، في نوع من الاستبداد المعنويّ الذي يفرض على الأغلبية أن تنسى جسدها (أي أن تقتله) لتعيش من خلال جسدِ الآخر النجم".
إنّه اللعب وهو يكفّ عن مَدِّ الجدّ بما يحتاج إليه من حيويّة، ليصبح افتراسًا للجدّ، وكتمانًا لأنفاسه. وهو الرمز يتخشّب، ليصبح حجابًا يمنع تبيُّنَ الواقع كي يمنع تغييره أو مواجهة سلبيّاته.
* * *

ليس الأمر جديدًا:
يوم الجمعة 9 حزيران 2006. كان بيليه "الجوهرة الكرويّة السوداء" يتمشّى على العشب الأخضر متقدّمًا من المنصّة التي توسّطت ملعب ميونيخ، مصحوبًا بكلوديا شيفر "القنبلة الجسديّة الشقراء"، وقد اكتنفتهما آلات التصوير من كلّ جانب، وتراقصت الأضواء.
في اليوم نفسه (قبل تلك اللحظة بساعات أو بعدها بدقائق) كانت هدى غالية، الطفلة الفلسطينيّة الصغيرة، تتمشّى على الرمل وقد خرجت مع أسرتها في نزهة على شاطئ غزّة. انحنت الأمّ على رضيعها تناغيه، وفرغ الأب إلى شيء من الذرة يشويه على الفحم، بينما أخذ الطفل يلعب بالكرة ويحلم، من دون شكّ، بالمونديال. أمّا هدى فذهبت إلى البحر تسبح وهي تنظر إلى بوارج إسرائيليّة تلوح في الأفق.
في اللحظة نفسها (قبلها بساعات أو بعدها بدقائق) كان بيليه مصحوبًا بكلوديا شيفر يرفع كأس العالم في سماء ميونيخ في رمزيّةٍ تختزل العالم في مفتتح هذا القرن المركانتيليّ بامتياز: رمز الشهرة ورمز الشهوة يحتفلان جنبًا إلى جنب رافعين كأس الذهب: رمز المال.
أمّا في غزّة فقد التفتت هدى فجأةً إلى حيث أسرتها لترى الدخان والرماد. لم تنتبه المسكينة إلى الصواريخ إلاّ بعدما فقدت كلّ شيء: الأب طيّرته القذيفة من مكانه وتركت في ظهره حفرة مثل فوهة المدفع؛ الأمّ مزّقها الانفجار إربًا؛ أمّا هدى فظلّت تركض كالمجنونة من كومة أشلاء إلى كومة أشلاء، صارخة بفجيعتها في وجه البحر والرمل والمصوّر والقتلة والمتفرّجين.
ولكنْ، من يسمع صراخ الأطفال في زحمة صراخ المونديال؟ لا فرق بين مونديال 2006 ومونديال 2014: لكأنّي بالطفلة نفسها وهي تصرخ منذ أيّام: وين ماما؟ وين ماما؟ بينما المراسل يواصل مهمّته العظيمة غير عابئ بحزنها ولا بحزننا. ولا شيء يحدث. إنْ هو إلاّ تعليق مُخزٍ أدلى به القنصل الإسرائيليّ في كندا: كان على الأب أن لا يترك أطفاله يلعبون في زمن الحرب!
وهل تركتم في الزمن زمنًا للعب؟ باستثناء ذلك الذي أصبحنا نسرقه من زمن الحرب، كما نسرق الحياة من بين أنياب الموت؟
* * *

في ميونيخ وفي البرازيل، كانت رمزيّة اللعب بالجسد تعلن انطلاق كأس العالم.
أمّا في غزّة، في الأمس واليوم، كما هي الحال في تونس، مع الفارق، فإنّ واقعيّة الفتك بالجسد ما انفكّت تعلن نهاية العالم.
في انتظار بداية عالمٍ جديد؟ أتمنّى ذلك.
* * *

أذكر أنّي زرت العراق بعد الحرب الثانية مباشرة. وصلتُ منهكًا بعد رحلة بريّة طويلة من عمّان إلى بغداد، وعلى الرغم من ذلك ألححتُ على الأصدقاء حكمت الحاج وأحمد ونصيف كي يأخذوني في جولة اطمئنان سريعةٍ على مدينتي. كان دخان الحرائق عالقًا بالهواء، وعلى الرغم من ذلك كان الأطفال مبتهجين يركلون كرة القدم في كلّ مكان. فأيّ "استبدال" هنا، إذا استعملنا مفردات اللغويّين؟ وأيّ Transfert إذا استعملنا مفردات علماء النفس؟
رأيتُ الشيء نفسه في فلسطين يوم استدعانا أبو عمّار ضمن مجموعة من الشعراء والفنّانين العرب لدعم الانتفاضة. رأيت ملعب غزّة يحتشد بالمتظاهرين صباحًا، ويستقبل حفلاً غنائيًّا مساءً، من دون أن ينسى احتضان مباراة كرويّة قبل الغروب. بل رأيت أطفال غزّة ورام الله ونابلس، بين جنازتَي شهيدين ورشْقَتَي حجارةٍ في وجه دبّابة إسرائيليّة، يلعبون بالكرة ويقتنصون الفرح من فم الوحش وهو يزأر.
ترى ما سرّ هذا الحوار العجائبيّ بين اللعب والموت والحياة؟ ما سرّ تآلف هذه الصور مع نقيضها؟ أعترف أنّي من عشّاق هذه اللعبة، وأنّي من المفتونين بها، لكنّي أعترف أيضًا بانتمائي إلى أولئك الذين لا يرضيهم الحبّ الأعمى ولا تقنعهم المتعة العمياء.
لعلّ من شروط منح هذا الحبّ عينين مُبصرتين، أن نقرّ بأنّ الفرح جزء من المقاومة والحياة، من دون تغافُلٍ عن ضرورة أن يكون هذا الفرح "محتشمًا" حين يتجاور مع المأساة. ما من عرس إلاّ ويحرص أهله على أن يكون خافت الصوت إذا تجاور مع مأتم. فلماذا تكون أعراس الفوتبول مستثناةً من هذا التقليد؟ لماذا يظلّ صوت الفرح "وقِحًا" في تظاهرات بهذه الخفّة، في حضرة حوادث تكاد تخرّ لها الجبال؟
* * *

أعود إلى مونديال البرازيل 2014.
تصادى الحدثان كأنّهما نتيجة تدبير مُحَكَم: في غزّة تمزّقت أشلاء المدنيّين من نساء ورجال وأطفال، ودُكّت البيوت تحت أطنان القذائف. وفي البرازيل تمزّقت أشلاء السيليساو في دقائق معدودة تحت ضربات خطّ الهجوم الألمانيّ. في غزّة ارتفع العويل ولعلعت صفّارات الإنذار بينما خيمّ الصمت على الجميع للحظات في البيلو أوريزونتي. وفجأةً، بدا صمتُ الملعب البرازيليّ مسموعًا ومرئيًّا أكثر من عويل الغزّاويّات وصراخ الغزّاويّين ودمار غزّة!
بدت الهزيمة ُ البرازيليّة أثقلَ من أن تُتَحمَّل. ما إن بلغت النتيجة ثلاثة أهداف لصفر حتى صمتَ المعلّقون والجمهور في الملعب وفي البيوت وأمام الشاشات العملاقة. كان صمتًا مشوبًا بخليط من المفاجأة والحزن والحيرة والخجل.
انهالت علينا التحليلات بعد ذلك، لتؤكّد لنا أنّنا، لحظتئذٍ، لم نعد أمام مباراة عاديّة في كرة القدم انتصر فيها فريق (ألمانيّ) على منافسه (البرازيليّ). ولا حتى أمام فاجعةِ بلادٍ في منتخبها الكرويّ. بل كنّا نعيش لحظةَ انهيارِ أيقونةٍ كونيّة.
أجمع فطاحلةُ المحلّلين على أنّ الفريق البرازيليّ لكرة القدم شبيهٌ بموتزارت في الموسيقى، شبيهٌ بتشارلي شابلن في السينما. إنّه رمزٌ جماعيّ يشترك في إعلائه الفقير والغنيّ، النخبة والغوغاء، اليسار واليمين، الغرب والشرق.
لذلك أحسّ الكثيرون بشيء يشبه الخزي وهم يرون اللاعبين البرازيليّين مذهولين، خائري القوى، مغلوبين على أمرهم، شبيهين بملاكم تلقّى ضربة قاضية على حين غرّة، ولم يعد قادرًا على الدفاع عن نفسه، بينما منافسُه لا يكفّ عنه، ويكاد يُرديه قتيلاً.
هناك، في البرازيل، بدا واضحًا من بعض التعليقات "العميقة جدًّا جدًّا" أنّ النتيجة لم تعد مجردّ هزيمة كرويّة، بل أصبحت تنكيلاً بجزءٍ من التراث الرمزيّ الكونيّ! إهانةً للذات العالميّة متمثّلة في مرجعيّتها الفوتبوليّة العظمى! تمثيلاً بجثّة جماعيّة!
وغزّة؟! أليست جزءًا من التراث الكونيّ؟! هل الهزيمة الكونيّة (الأخلاقيّة والفكريّة والإعلاميّة) أخفّ وطأة فيها، وهي تُدَكُّ على رؤوس نسائها وأطفالها ورجالها بأسلحة الإسرائيليّين ونفط العرب في واحدة من أبشع الجرائم ضدّ الإنسانيّة؟!
كثيرون رثوا لحال الفريق البرازيليّ المترنّح وتمنّوا له ما لم يتمنّوه لغزّة: أن يتحوّل الحدث فجأةً إلى مباراة في الملاكمة، كي يتدخّل الحكم لإيقاف المباراة، أو يسرع الكوتش إلى رمي المنديل. لكنّها لم تكن مباراة في الملاكمة. لا هنا ولا هناك.
وكان لا بدّ من تجرُّع الكأس حتى الثمالة. واصل الإسرائيليّون إبادتهم وما انفكّوا يفعلون (200 مُقابل 1 حتى كتابة هذه السطور). وسجّل الألمان الهدف الرابع، ثمّ السابع. شيئًا فشيئًا ترك الصمتُ مكانه لكانيباليّة الفرجة من جديد.
* * *

على ذكر الكانيباليزم.
قد يكون مونديال 2014 من ناحيةٍ ما مونديال لاعب الأوروغواي لويس سواريز الذي عضّ منافسه الإيطاليّ. هذه العضّة لم تأت من عدم. ولا هي خاصّة بسواريز. إنّها ثمرة تراكم، وملامح ظاهرة مركّبة من البذاءة والعنصريّة والعنف تكاد تسيطر منذ سنوات على الفوتبول كلعبة رياضيّة وكشفرة سيميولوجيّة تتجاوز اللعب بكثير.
ظاهرة يتنافس فرويديّو الرصيف في نسبتها إلى طفولة اللاعبين المضطربة وسيرتهم البائسة والدوار الذي يُطيحهم نتيجة الانتقال السريع من درجة اجتماعيّة إلى درجة أخرى يدوّخهم فيها المال وتعبث بهم الوجاهة في غياب المحصَّنات الثقافيّة والسيكولوجيّة.
استفاد لويس سواريز من هذا الخطاب طبعًا؛ هو الذي لم يدّخر جهدًا في العضّ الرمزيّ قبل الارتقاء إلى ممارسة العضّ الحقيقيّ! فالكلّ يعرف بذاءته، وعنصريّته، إلاّ أنّ العضّ في اللحم الرمزيّ لم يعد يشبعه، لذلك انتقل إلى ممارسة العضّ الحقيقيّ بدايةً من سنة 2010، وأعاد الكرّة سنة 2013، وتوّج أعماله بأُمّ العضّات سنة 2014.
ولماذا لا يفعل؟ إنّه لاعبٌ عبقريّ! وقنّاصُ أهدافٍ منقطع النظير! ونجمٌ يجلب آلاف المعجبين! ومن ثمّ فإنّ من حقّه أن يُغفَرَ له كلّ شيء! ثمّ إنّ العضّة تصنع الفرجة والـ Buzz، أي أنّها تضمن كسب المليارات (وهل الفيفا إلاّ أكبر شركةٍ ربحيّة في العالم؟)، فضلاً عن أنّ مشهَدة العضّ والنهش والفتك تقترب بملاعب الفوتبول من الحلبات الرومانيّة، قرينها الحقيقيّ المسكوت عنه، كميدان للتفريج عن شهوة الدم التي وقفت وراء ابتكار أوّل ألعاب غلادياتور في العالم.
هكذا انتقل سواريز من مذنب إلى بطل تراجيديّ. فجأة عثر له باعةُ الدم على سلفٍ صالح في شخص الملاكم مايك تايسون! ودخل على الخطّ الملاكم هوليفيلد الذي كاد تايسون يذهب بأذنه! وأصبح سواريز تجسيدًا واقعيًّا لشخصيّة هانيبال ليكتر بطل فيلم "صمت الخرفان". وبات الواقع كانيباليًّا على مرأى ومسمع، في هيئة أيقونة كرويّة.
لم يُضيّع زبانيةُ الفرجة فرصتهم طبعًا. وسرعان ما انبروا يدافعون عن بطلهم مستنكرين عقوبة الفيفا المبالغ فيها! معتبرين العضّة جزءًا من اللعبة وسحرها، أليس السحر بطلان العقل؟ أليس السحر نفيًا للمنطق؟ بلى! لذلك لم يتورّع مدرّب الأوروغواي عن القول مدافعًا عن كانيباليّة لاعبه: نحن في مجال الفوتبول ولسنا في مجال الأخلاق!
عضّةُ سواريز أصبحت فجأةً نجمة المونديال! أكثر حتى من نايمار، الفنّان البرازيليّ الشابّ الذي تعرّض إلى اعتداء شبيه بمحاولة الاغتيال. لا صوت يعلو فوق صوت العضّة! التي غطّى صوتها على كلّ شيء، بما في ذلك صوت عضّة المعدن في لحم غزّة وطينها!
* * *

ذكّرني الاحتفاء بهذا "اللاحدث" السواريزي، بشذرة أشار فيها سيوران إلى الشيخوخة الحضاريّة كاتبًا: "إنّ الحضارة التي مثّلها دون كيخوته كانت من دون شكّ حضارة في عنفوان شبابها ما دامت قد أحوجته إلى أن يخترع له حوادث. أمّا نحن فلم نعد نعرف إلى النجاة سبيلاً أمام الحوادث التي تضغط علينا من كلّ جانب".
قد تكون هذه الحضارة الهرمة هي التي تحاول أن تشدّ جلدتها بحوادث مفرغة من المضمون، وأن تطعم شعوبها المتضوّرة جوعًا إلى الخبز والحرية والكرامة كلامًا خاويًا لا يفضي إلى غير الكلام الخاوي، ثمّ أن "تأكل" لغتها في النهاية كي لا تفضح اللغة ذاك الخواء.
والحقّ أنّ "أكل" اللغة ليس جديدًا. فقد اعتاد الكثيرون في الكثير من البلاد الإسلاميّة أن يطرقوا باب من يعتقدون أنّه من ذوي الكرامات، فيكتب لهم تعويذة يقومون بأكلها مع رغيف الخبز أو ينقعونها في الماء ويشربونها راجين الشفاء.
في اليهوديّة طقس شبيه مرتبط بعيد الشافوت ذكره مانغويل في "تاريخ القراءة". يأتي الوالد بطفله إلى المعلّم فيُجلسه المعلّم في حضنه ويعرض عليه لوحًا يتضمّن كلمات توراتيّة يتلوها المعلّم ويكرّرها الطفل قبل أن يلعق اللوح المطليّ بالشهد في كناية عن أكل الكلمات.
أجد رغبة في تطبيق هذه الفكرة على دُوَلِنا العربيّة، أو على ما خُيِّل إلينا أنّها دُول! يأخذني ذلك إلى استنتاج مختلف: ليست الحضارة هي التي شاخت فأصبحت تأكل نفسَها، بل الدولة العربيّة في شكلها الحاليّ، وقد هرمت وبلغت حدّها وآن لها أن تندثر.
أجد رغبةً في تطبيق هذه الفكرة على دُوَل ما سُمِّي بالحراك العربيّ أو الربيع العربيّ، مضافًا إليها العراق وغيرها، وهي فريسة مخرّبين يريدون تدميرها والعودة بها وبأنفسهم إلى عصر القبيلة والكهف من طريق إباحة الدم، أي أكل الآخر رمزيًّا في البداية، ثمّ من طريق إراقة الدم، أي أكل الآخر فعليًّا في النهاية.
ماذا يفعل هؤلاء غير ممارسة الكانيباليزم اللغويّ في البداية، ثمّ الكانيباليزم المحض في النهاية، متوهّمين أنّهم يفترسون غيرهم، في حين أنّهم يأكلون أنفسهم!
إنّه المجاز وهو يلتبس بالحقيقة، فإذا نحن لا ننجو من دولةٍ أَكُول حتى نقع فريسةَ لغةٍ مفترسة. ولا نقع فريسة لغة مفترسة حتى نصبح مهووسين بممارسة الافتراس نحن أيضًا، فلا يبقى لنا إلاّ افتراس الآخرين، أي افتراس أنسنا، تمامًا مثل بطل رواية صنع الله إبرهيم "اللجنة"، الذي لا يتعرّض إلى عقاب أبشع من أن يأكل نفسه.
تلك نتيجة الفرجة التي لا تفتح على غير الانهيار.
لا مناص من إدخال إمكان الانهيار في حسابنا، على الأقلّ، من منطلق أنّه مرحلةٌ لا بدّ منها لإعادة بناء الذات على أسس صحيحة. قد يكون هؤلاء الكانيباليّون (هم فينا أيضًا) أدواتٍ ضروريّة لعبور هذه المرحلة. قد يكون هذا الانهيار شرًّا لا بدّ منه! قد يكون ثمن حريّتنا وتحرّرنا، إن كان من حريّة! قد يكون محنةً لا بدّ من عبورها في طريق الخلاص إن كان من خلاص.
إلاّ أنّه في كلّ الأحوال نتيجة ارتخائنا في وضع الفرجة. نتيجة انخراطنا في عين جماعيّة احترفت امتصاص الكوارث كما يمتصّ دراكولا الدماء. حدَّ تحويل الكوارث إلى قوت يوميّ. حدّ تطبيع الكارثة. حدّ تحويل الكائن البشريّ إلى كتلة من عدم الاكتراث.
* * *

تلك الفرجة الكانيباليّة هي التي جعلت العمى الإعلاميّ (والأخلاقيّ) يستعيد إيقاعه المعهود، بسرعةٍ خاطفة، بالنسبة إلى محرقة غزّة؛ وهي التي جعلت العمى السياسيّ (والأخلاقيّ) يستعيد تخبّطه المعهود، ما إن مرّت أيّام الحداد، بالنسبة إلى مذبحة الشعانبي، تمامًا كما عاد المعلّقون والمتفرّجون إلى صراخهم في البرازيل. مع فارقٍ مهمّ: لا لوم على العين الكانيباليّة في البرازيل! إذا لم يرفَّ للكاميرا جفنٌ أمام كارثةٍ من لحم ودم، فكيف يرفّ لها جفنٌ أمام كارثة استعاريّة؟!
* * *
إلاّ أنّ العودة لم تخلُ من بعض الغضب والشماتة أحيانًا: لا فرق بين مَن يريد معاقبة الفلسطينيّين على أنّهم سمحوا لغزّاويّتهم (أي لمقاومتهم) بالصمود. ومن يريد معاقبة الجنود التونسيّين على أنّهم سمحوا لصورتهم (أي لحقيقتهم) بالانكسار، ومَن يريد معاقبة البرازيليّين على أنّهم سمحوا لكرتهم (أي لأيقونيّتهم) بالسقوط.
* * *

أحد صحافيّي "ليكيب" قال في مراسلة من البرازيل: "لقد كففنا للحظاتٍ عن أن نكون جمهور فوتبول وتحوّلنا إلى «voyeurs»، وهي عبارة فرنسيّة أعتقد أنّنا لا نفيها حقّها حين نقترح لها في العربيّة عبارة "رنّائين" أو "متلصّصين".
إذا صحّ ذلك في شان مباراة في كرة القدم، فماذا عمّا يحدث في غزّة؟ ماذا عن هذا التقتيل الذي يدعمه صمت بعضنا أو انقسامنا مِللاً ونِحلاً: هذا يشمت في "حماس"، وهذا يدافع عنها، والآخر يخوّن الضحايا جميعًا لفائدة الجلاّد! كأّنَّنا لسنا قبل كلّ ذلك وبعده، أمام أرض محتلّة، يتعرّض شعبها إلى إبادة جماعيّة! ماذا عمّا يحدث في العراق؟ ماذا عمّا يحدث في سوريا؟ ماذا عمّا يحدث في ليبيا؟ ماذا عمّا يحدث في تونس؟ أليس أقلّ ما يُنعت به هذا أنّه "Voyeurisme"؟
وإذا كانت الفرجة على أكل الرمز جريمة، فماذا حين يتعلّق الأمر برمزٍ من لحم ودم؟ هل يُعقَل أن يصبح فريقُ من فِرَق الفوتبول أقرب إلى تحريك إنسانيّةِ بعضِنا من شعبٍ بأسره؟!



الكرة.jpg
 
أعلى