نقد ماجـد صالح السـامرائي - ذلك «المتحف الشخصي» الذي اختفى !


كان الأدباء والفنانون، وهم يقصدون إبراهيم جبرا في حياته، يجدون ما يأملون أن يجدوه من حاضر راهن لهم عنده ومن حفاوة استقبال: فمكتبته لم تكن لتضيق رفوفها ومساحاتها عن إضافة أيٍّ من كتبهم إليها ،ولم يكن يضع كتاباً يأتيه به مؤلِّفه على الرَّفّ قبل أن يقرأه.

هل أبدأ بالكلام على «مكتبة جبرا إبراهيم جبرا» التي كتبها بنفسه، وتألَّفت من كتبه التي بلغت أربعةً وستين كتاباً، وشكَّلت أنموذجاً يُحتذى: في الشعر- تحديداً- نجد فيه الحداثة متمثِّلة بحضورها مفهوماً وإبداعاً، وفي الرواية التي أسَّس فيها لنمط جديد من الكتابة أبدع فيه وقدّم أنموذجه الخاص، أو في النقد الذي سيكرّس من خلاله عديد المفهومات والرؤى المتَّصلة بالحداثة، والمنتجة للتجديد مفهوماً ومعطيات، وترجمةً عن لغة عرف أسرارها كما عرف أسرار لغته، وأدرك بلاغتها ببلاغته متجدِّدة العبارة، فقدَّم من بعض ما قدم فيها «شكسبير» و«مآسيه الكبرى» بلغة حرص على أن يكون التوازي بين «اللغة المكتوب بها» و«اللغة المنقول إليها» متحقِّقاً، وقد تحقَّق؟، أم أتكلّم على مكتبته الشخصية بعموم كتبها ومراجعها، وقد جمعت، أو اجتمع له فيها من الكتب العربية أكبر بكثير مما اجتمع من كتب «لغته الأخرى»، أعني الإنجليزية، وكان قد حمل منها ما حمل على أيام دراسته في «كيمبردج»، واجتمع له بعضها الآخر على أيام «هارفرد»، وقد قصدها من بعد استقراره في بغداد على النصف الأول من خمسينات القرن العشرين؟، أم أتكلَّم على الدار، داره التي وضع تصميمها الهندسي بنفسه من بعد التشاور مع أصدقائه من المعماريين العراقيين، وقد جمعته وإياهم تلك الفكرة التي كَوَّنوها عبر منظورهم الخاص لما ينبغي أن تكون عليه المدينة العربية الجديدة، مُتَّخذين من بغداد أنموذجاً ومجالاً لتنفيذ فكرتهم هذه، وقد أرادوا لها أن تأتي جامعة بين الكيانين: المعماري، والثقافي.. فقدّم من تلك الدار التي ابتنى الأنموذج والمثل، فإذا هي أقرب ما يكون إلى «متحف شخصي» كان يقصده أصدقاؤه زائرين، ويغادرونه، إذ يغادرون- وفي نفوسهم شيء من نشوة الحياة والفن التي قدَّمها لهم المشهد الداخلي للدار، على بساطة ما له من تكوين؟

فلأبدأ من هنا، حيث النهاية الكارثية التي انتهى إليها هذا كلّه...

لم أكن أحسب يوماً أن «الدائرة القنصلية المصرية» وقد اختارت موقعها في دار ملاصقة لدار جبرا، وفي حيّ من أرقى أحياء العاصمة العراقية وأبهاها حياة ومشاهد وتكوينات معمارية وإنسانية (حَيّ المنصور)، ستكون السبب في دماره، بعد أن كنا نعدّها في سنوات مضت «مصدر أمن» له ولساكنيه بحكم ما تحيط به نفسها من حراسة!. إلا أن «زمن الاحتلال» غَيَّرَ كل شيء: ففي صباح يوم من أيام شهر نيسان العام 2010 هزّ الحيَّ انفجار مروّع، ما لبثت الأخبار، من بعده، أن أشارت إلى أنه ناجم عن تفجير سيارة مُلَغَّمة يقودها انتحاري مجهول الهويّة استهدف القنصلية المصرية.. وذكرت الأخبار أن مبنى القنصلية لم يُصَبْ بأضرار كبيرة لأن الانتحاري الذي يقود السيارة تعرَّض إلى وابل من رصاص الحرس الخاص بالمبنى، ففَجَّر نفسه والسيارة التي يقودها قبل أن يبلغه... فما الذي وقع؟ وأين وقع ما وقع؟ وأين تحقَّقت الإصابة القاتلة؟

من بعد مضي «الساعات الحرجة»، التي عادة ما تعقب كل انفجار من الانفجارات التي ألفتها المدينة وناسها، قصدتُ المكان متوجِّساً الخيفة من أن يكون الهدف أصبح «البيت المجاور»... فإذا ذلك هو ما وقع، لأجد كل شيء قد تناثر- متمزِّقاً- على الأرض، أو احترق تحت الركام: من جدران الدار الأمامية وأبوابها، إلى الكتب، والأوراق التي من بينها وثائق ثمينة تخصّه، وهي التي تجمع بين كتاباته الأولى، ومخطوطات أعماله الروائية في صيغها الأوّلية، ومصوّرات عن الرسائل التي كتبها منذ العام 1980 (وكان ذلك باقتراح مني)، والرسائل التي كتبها إليه كبار أدباء العرب وفنّانيهم منذ أن استقرَّ في بغداد أواخر العام 1948، وتُعدّ بالمئات إذا ما أحصيناها (وهو الذي أخبرني يوماً بأنه كتب، في خلال حياته، ما لا يقلّ عن عشرة آلاف رسالة كنتُ أنوي جمع ما يتيسر لي منها بمساعدته).. هذا فضلاً عن الأعمال الفنية، له ولكبار فنّاني العراق.

كانت رسائله الأولى مع أدباء الحداثة وشعرائها من أصدقائه ومجايليه. فممّن تواصل معهم الشاعر توفيق صايغ الذي أخبرني عنه يوماً بأن رسائله إليه قبل أن يتسلم المسؤولية عن مجلة «حوار» كانت رسائل ذات أهمّيّة شعرية وشخصية معاً. وكذلك هي رسائل يوسف الخال، ورياض الريس، وحليم بركات (وكان أول من قدَّمهما في أعمالهما الأولى: الريّس شاعراً، وبركات روائياً)..

ومن الرسائل المهمّة تلك التي تبادلها مع تلميذيه أولاً، صديقيه تالياً: عبدالواحد لؤلؤة (على أيام دراسته في أميركا، وتالياً على أيام إقامته في الأردن)، وكذلك الحال بالنسبة إلى محمد عصفور. ورسائل أخرى بينه وبين عيسى بلاطة، وروجر آلن، ومنح خوري.

وهناك مئة وخمسون رسالة تبادلها مع امرأة كاتبة، كما أخبرتني شخصياً بذلك.. وهي تمتنع عن فتحها أمام عينين غير عينيها!.

وأودّ الإشارة هنا إلى أنه لم يكن يترك رسالة تصله من دون الردّ عليها، وبينها رسائل من طلبة دراسات عليا، في جامعات عربية وأجنبية مختلفة، كانوا كتبوا رسائلهم وأطروحاتهم الجامعية عنه...

لقد كان يحلم أن يظل حاضراً في المدينة التي أحبّ، ولها قد اختار- من بعد «بيت لحم»، مدينته الأولى- اسماً، وتراثاً، وداراً كانت تحمل اسمه. إلا أنه فوجئ، كما فوجئ كثير من أصدقائه ومحبّيه، بأن ذلك الحلم قد تبدَّد، ولم يعد له شيء من «ثوابت المكان». فحتى الدار بيعت.. أما ما تبقى من كتب وأوراق فآلت إلى مجهول آخر!

كان ما حصل هو الكارثة بعينها. فحين وصلتُ الدار لم أجد شيئاً من المكان الذي أعرف قد تبقّى. وقفتُ مشدوهاً أمام المشهد. لم أكن أتساءل بقدر ما كنت حزيناً وفي حال من الذهول. قال لي صديقي الذي ظل ينتظرني على طرف الانهيارات في الخارج، وقد دخلت ما تبقّى من المبنى الذي كان يُنذر بالانهيار في أية لحظة: حين خرجتَ لم أميِّزك جيداً.. حسبتك شخصاً آخر لما حمل وجهك من ذهول...

ورحتُ أحدّث صديقي، ونحن نقطع الطريق العائد بنا من هذا المشهد الحزين، فأخبره بأن جبرا- وقد حدَّثني بذلك يوماً- كان يريد لداره هذه أن تكون متحفاً شخصياً له.. لذلك كان أن جمع كل ما لديه من «وثائق شخصية»، وصور، ومخطوطات، ورسائل، فوضعها في خزانات تلك الغرفة الصغيرة لتي كان يفضِّلها على سواها حين يستقبل أصدقاءه القريبين. حدَّثني بهذا حديث من كان يريدني أن أضطلع بالمهمّة من بعده. وكنتُ أخطِّط في رأسي للكيفية التي يمكن أن نجعل بها من هذه الدار «متحفاً شخصياً»، وكما كان يريد ويرغب، وهو الرائد الكبير من رواد الحداثة العربية في الآداب والفنون.

إلا أنني تلقيتُ الصدمة الأولى من بعد رحيل جبرا بأسابيع حين سالتُ ابنه الأكبر، ووريثه، عما يفكّر به من مستقبل لهذه الدار.. وقلتُ له: إن والدك كان يريدها أن تكون متحفاً له. ودهشت لحظة وجدته يستنكر ذلك، ويقول إنه سيسكنها. ولكن من بعد مرور عام على رحيل جبرا، غادر الابن بغداد والعراق، مهاجراً إلى أستراليا، وترك الدار وما فيها في عهدة إنسانة نبيلة، هي شقيقة زوجته التي اختلط دمها ودم ابنها بنثار الدار يوم طالها التفجير!

لم يكن لمكتبة جبرا مكان واحد تنفرد به من الدار، وإنما كانت، شأنها شأن أعمال الفنانين، تتوزَّع على الدار كلها: في غرفة الاستقبال، وفي فضاء البهو، وفي تلك الغرفة الصغيرة التي كنتُ أسمّيها «الصومعة»، وقد طالها التفجير فأتى على كل ما فيها. كانت الكتب تجمع بين الأدب الحديث، والدراسة الأدبية، وما يتَّصل من هذه الدراسات بالفن التشكيلي، إلى جانب معاجم كان لا يكفّ عن مراجعتها. قال لي يوماً إنه لم يترجم من الكتب، التي كانت من مقتنيات مكتبته، إلا ما وجده ينتظم في السياق الذي أخذه، هو نفسه، في كتاباته النقدية منها والإبداعية. (هل كان يرمي إلى تعميق ما اتخذ من توجُّه؟). وكانت مكتبته هذه مرجعه الأساس في كل ما كتب، ومنها كان قد استلّ ما ترجم.

إلا أن ما يتَّصل بعملية القراءة عنده (وهو قارئ مثالي، ظلَّ يقرأ حتى اللحظة الأخيرة من حياته) قراءته الملحق الأدبي الأسبوعي لصحيفة التايمز اللندنية (T.L.S) الذي ترافق معه على أيام دراسته في كيمبردج، وظل متواصلاً معه، حيث كان البريد يحمله إليه أسبوعياً. لقد كانت علاقته به أقرب إلى «التعلُّق»! فيوم فُرض الحصار على العراق العام 1990 امتنعت دوائر البريد في البلدان التي أقرّت عليه الحصار- عقوبةً- عن تسليم أية «مادة بريدية»، إلى الأفراد والمؤسَّسات فيه، يزيد وزنها على ثلاثة غرامات!. يومها وجدته كمن فقد فجأة ما يعقد صلته بما هو ثقافي في العالم، هو الذي كان حريصاً على التواصل مع آخر التطوُّرات الأدبية فيه.. حتى وجد له الحَلّ صديقه رياض نجيب الريس.. فاشترك عنه بالملحق ليصل إلى عنوانه في بيروت، ومن بيروت كان يُعيد إرساله إليه في بغداد.. واستمرَّ على هذا النحو حتى سنة رحيله (1994)، وقد رحل عند حلول منتصف شهرها الأخير!

كان الأدباء والفنانون، وهم يقصدون جبرا في حياته، يجدون ما يأملون أن يجدوه من حاضر راهن لهم عنده ومن حفاوة استقبال: فمكتبته لم تكن لتضيق رفوفها ومساحاتها عن إضافة أيٍّ من كتبهم إليها ولم يكن يضع كتاباً يأتيه به مؤلِّفه على الرف قبل أن يقرأه. كما كانت جدران بيته مفتوحة لأعمال الفنانين، الكبار منهم والشباب، وهم يحملون إليه، بين الحين والآخر، ما يودّون إهداءه إليه، فيسعدهم ما يجدون لأعمالهم من حضور عنده واهتمام... حتى سمعنا من بينهم من يقول: إن زائرِيْ جبرا، في بيته/ متحفه هذا، من الأدباء والفنانين، عراقيين وعرباً، أكثر من زائرِيْ أيّ متحف للفن في العراق. وكنتُ أجده في غاية السعادة مما يحصل.. فهو- كما يراه في أقل حالاته- يُعبّر عن محبة له وتقدير. وهو في ما كتب عمّن كتب عنهم، وبينهم شباب أدباء وفنانون، كان أن جعل مما كتب رافداً للثقافة، وداعماً مؤازراً للمكتوب عنهم.


خير جليس.jpg
 
أعلى