نقد رشا عبدالله سلامة - "جفرا" يستحضر الأجواء التراثية والثقافية على صدى عشق قديم

رائحة المعسل تعبق بالأجواء.. تمتزج بدخان الأراجيل وبترنيمات “ نسم علينا الهوى” التي تتناثر بخورا بين فوانيس ومصابيح أيام زمان.. صور فيروز وأم كلثوم وسميح شقير ومارسيل خليفة تحرس المكان كتعويذة شرقية ذات سطوة بالغة التأثير على كل من هم هنالك..
إنه مقهى “جفرا”.. الذي استطاع برغم حداثة عهده استحضار طقوس الماضي وعبقها التراثي، كما تمكن من اختزال مفردات رمضان ذات الخصوصية العالية، مازجاً إياها بالطابع الثقافي المهيمن على المكان..

بينما يدندن مندمجا مع مطرب المقهى “كلموني تاني عنك فكروني.. فكروني”، ينفث دخان أرجيلته “ كلما أتيت إلى هذه الأجواء وسمعت صوت المطرب الذي يرافقه العود تعود بي الأيام إلى بيروت في السبعينيات.. كم تذكرني أجواء جفرا بتلك السنوات وبطابعها الثقافي وشخصياتها التي كانت مهيمنة على فكرنا”، يقول أبو ثائر (61 عاماً).

يردف، بينما يتأمل في صورة جيفارا المنتصبة أمامه، “أفضّل هذا المكان على غيره من الأماكن التي تلهث وراء الطابع الغربي في أثاثها وأجوائها وحتى الموسيقى التي تفرضها على المرتادين”. ينفث أبو ثائر في أرجيلته من جديد، بينما يعود لحالة الاندماج مع الغناء، مرددا مع المطرب “الليل يا ليلى يعاتبني ويقول لي سلّم على ليلى”.

حسن الحلبي (34 عاما) يتأمل هو الآخر في جنبات المكان، بينما تعلو طاولته صورة الشاعر السوري أدونيس.. يقول “ لا أصنف جفرا كمقهى ثقافي، بل على العكس فالفئة الشعبية هي المهيمنة عليه، كما أن تفرّده جاء من اجتراحه خطاً تراثيا بسيطاً”. يكمل الحلبي “ثمة خلط بين الثقافي والتراثي.. غير أن جفرا بكل حالاته يثري مرتاده.. فعلى الأقل يتطرق لأجواء الماضي ويحيط كثيرين بها علما”.

على الجهة المقابلة، تجلس رانيا محمود (27 عاماً) على شرفة “جفرا” بينما يتناهى لسمعها صوت المطرب نصري خالد وهو يردد “قلي عملك إيه قلبي.. قلبي اللي إنت ناسيه”.

تقول “كم أتوق دوما للجلوس على هذه الشرفة أكثر من داخل المقهى، فهنا دخان الأراجيل أقل كثافة، كما أنني أرقب مشهدا عمانيا أصيلا لوسط البلد من مكاني هنا”.

تكمل رانيا بينما تلتفت نحو ضجيج السيارات وصوت المشادة العابرة بين شباب يمضون في الطريق الذي تملؤه المحال المتناثرة صخبا شعبياً، “بعد أن أجلس هنا طويلا لاستنشاق نسائم ليالي رمضان بنكهة عمانية خالصة أتصفح الكتب المعروضة في رواق المقهى، والتي يهيمن عليها عبق الفكر اليساري كدواوين الشاعر محمود درويش التي تزيد قيمتها كما التحف كلما تعتقت”.

من جهته، يعلق مدير المقهى سيد صابر على ما سبق قائلا “يتبنى المقهى رؤية إحياء الطبقة الوسطى التي تعد عماد أي مجتمع ومعول التغيير فيه”. ويوضح قائلا “ويكون هذا الإحياء من خلال الأسعار المناسبة لهذه الطبقة، ومن خلال المعاملة الخاصة التي يحظون بها هنا، كما من خلال ترسيخ الهوية الثقافية العربية لهم عبر استضافة رموز ثقافية في جفرا ومنها مريد البرغوثي وعز الدين المناصرة وأدونيس ورضوى عاشور وسميح شقير ومارسيل خليفة وفرقة بلدنا ويافة الناصرة وغيرهم”.

وعلى أنغام “أنا قلبي إليك ميّال.. ومفيش غيرك عالبال” “يتسامر عاشقين، فضلا عدم ذكر اسميهما، بينما يقولان “ عشقنا هذا المكان ليس لطابعه التراثي الدافئ فحسب، بل عندما علمنا سر اسم جفرا”.

يقولان بتأثر واضح “كنا نعلم أن جفرا من أسماء فلسطين، وأنها تعني الفتاة الجميلة، بيد أننا عرفنا أيضا قصة مطلع الأغاني الفلسطينية الكثيرة التي تقول: جفرا وهيه يالربع”. يكملان باندماج واضح “ كان هنالك عاشق فلسطيني لقريبته تقدم لخطبتها يوما وعندما رفضته لحبها غيره صار يغني لها في كل المحافل: جفرا وهيه يالربع.

برغم أن اسمها ليس جفرا، ولكنه كان يسعى لإخفائه، حتى درج هذا المطلع وصار مقدمة لأغان فلسطينية كثيرة منها الغرامية ومنها النضالية”.

ويقول القائمون على جفرا أن القصة بدقة هي أنه كان شاب ما اسمه أحمد عزيز علي حسن يعيش في قرية كويكات- قضاء عكا في العام 1939م، وبأنه تقدم لخطبة ابنة خاله التي رفضته لحبها غيره، ليهيم حينها عشقاً بها وليذهب إلى الأعراس ويغني لها “ جفرا وهيه يالربع” التي أخفى من خلالها اسم معشوقته لأنها قريبته. واشتهر مطلع الأغنية منذ ذلك الحين في كل فلسطين.

وبعدما حلت نكبة العام 1948 حينها لجأت جفرا إلى لبنان، كما لجأ العاشق أحمد عزيز إلى لبنان أيضا، وبرغم زواج جفرا من رجل آخر وزواجه هو من امرأة اخرى إلا أن الأغنية ظلت تساهر ليالي المخيم وفلسطين المنكوبة.

وبعد ذلك بسنوات طوال جاء من أكمل أسطورة جفرا، وهو الشاعر عز الدين المناصرة الذي رثى حبيبته التي استشهدت في القصف الإسرائيلي لبيروت في العام 1975 من خلال قصيدة “جفرا أمي إن غابت أمي”.

واشتهرت القصيدة مغناة بصوت المطربين اللبنانيين خالد الهبر ومارسيل خليفة، كما عُرِضت فيلما بعنوان “جفرا” في مهرجان موسكو الدولي في العام 1980.

وفي العام 1982 شاءت الأقدار أن تجمع عاشقي جفرا معاً في بيروت، إذ التقى العاشق أحمد عزيز والعاشق عزالدين المناصرة في مخيم عين الحلوة في لبنان، عندما ذهب المناصرة لإحياء أمسية شعرية في المخيم وألقى قصيدة “جفرا أمي إن غابت أمي”، وإذ برجل يسأله إن كان يريد التعرف إلى “ راعي الجفرا” الحقيقي، وعندما أجابه المناصرة بالقبول عرّفه بذاته وتحاورا طويلا، ثم سنحت الفرصة للمناصرة بأن يرى “ جفرا الحقيقية” التي تقطن في مخيم برج البراجنة من دون أن يكلمها، لينشر على إثر ذلك بحثا مطولاً عن الموضوع في مجلة “شؤون فلسطينية” في العام 1982.

وتُرجِمت “جفرا” إلى لغات عدة، كما ألقاها أحد رموز المسرح الفرنسي على خشبة مسرح موليير في باريس بحضور الشعراء الفلسطينيين محمود درويش وفدوى طوقان والمناصرة والفيلسوف الفرنسي دريدا، ليخلّدوا جميعا وكل من تسمىّ باسم جفرا من فتيات ومحال ودواوين شعر قصة “ راعي الجفرا” الحقيقي ومعشوقته اللذين توفيا في منتصف التسعينيات في مخيمات لبنان من غير أن ينعما بالعودة إلى أرض جفرا.



المقهى.jpg
 
أعلى