نقد أحمد دلباني - للظاهرة الرياضية أبعادًا أنتروبولوجية عميقة مثقفون في حروب "البارصا والريال"

من المعروف أنَّ الرياضة ليست لعبا مجانيا أوتسلية وإنما هي مَسرَحة لنمط الحياة وعلاقاتها، وانعكاسٌ للقيم السَّائدة في المُجتمع واحتفاءٌ بها. إنها المشهدُ الذي يتمّ فيه تكريسُ معقولية قيم التنافس والنجاح وإثبات الذات والجدارة في المُجتمع، وهذا ما يمنحها وظيفة إيديولوجية لا تخفى باعتبارها "جهازا إيديولوجيا" للدولة - كما يُعبِّرُ لويس ألتوسير - تمنحُ بنية المُجتمع الليبرالي الفرداني / الطبقي وقيمَهُ مشروعية تجعلها في مُستوى الطبيعة غير القابلة للنقد. الظاهرة الرياضية، بهذا المعنى، انعكاسٌ جلي لإيديولوجية "البقاء للأصلح" التي يُمكنُ اعتبارها ركيزة وقاعدة للمجتمع الليبرالي الصناعي الحديث. وكأنَّ الرياضة، هنا، تريدُ أن تقول في إنجيلها: "في البدء كان التنافسُ والصِّراعُ والغلبة". إنها، بهذا، تبرِّرُ الصفة الصِّراعية للتاريخ الاجتماعي والسياسي وتمنحها شرعية عبر آلية اللعب والمسرح الذي يتمّ فيه عرض المشهد. كما نستطيعُ أن نلاحظ أنَّ الرياضة تكشفُ عن الرغبة الدفينة في تأكيد الذات – فردية كانت أو جماعية - من خلال سحق الخصم؛ وهي بذلك تمثل وسيلة من وسائل إنتاج الشوفينية وأوهام البطولة التي قد تنقذ الذات من التفاهة والتفكك والانهيار. هذا ما يجعل منها شيئا قابلا للاستثمار السياسي خدمة للوضع القائم من خلال تحويل وجهة الغضب الكامن - لدى الفئات المقموعة المُهمَّشة - إلى الخصم الذي يتم إنتاجه حسب الحال. وهل ينسى الجزائريون، مثلا، كيف أنَّهم عاشوا كل ذلك من خلال الجنون الذي رافق مُباراة الفريق الوطني الجزائريِّ مع الفريق المصريّ أثناء تصفيات كأس العالم لكرة القدم العام 2009؟ هل نستطيعُ أن ننسى كيف أصبح الشبابُ الجزائريّ – بضربة عصا سحرية - وطنيا وشديدَ الاعتداد بانتمائه عبر كره الآخر من خلال آلية إنتاج "كبش الفداء" التي أحسنَ مُهندسو الأزمات - في البلدين معا - إدارتها من أجل إنتاج وهم الوطنية التي لم تنجح الدولة الوطنية العربية في ترسيخها لدى الناشئة بسياساتها التنموية والتربوية؟ لقد صارت الرياضة، فعلا، جهازا إيديولوجيا للدولة يُنتج الأوهام من أجل تأجيل يقظة بركان الغضب الاجتماعي الذي يقفُ على واقع سوسيو- اقتصادي وسوسيو- سياسي مُلتهب.
من المُؤكد أنَّ للظاهرة الرياضية أبعادًا أنتروبولوجية عميقة تتجاوز الظرفية ومُلابسات الزمان والمكان من حيثُ هي فعالية تنغرسُ جذورها في التكوين البنيوي العميق للتنظيمات الاجتماعية وآلياتها في إنتاج نفسها وتثمين قيمها؛ كما تمتد بجذورها إلى التكوين البيولوجي / النفسي للفرد، ولكنَّ هذا الأمرَ لوحده لا يُفسِّرُ تحولها إلى ظاهرةٍ أصبح بإمكانها، اليوم، أن تملأ وظائفَ الأديان التقليدية الكبرى في تعزيز الهوية والشعور بالانتماء وإنتاج الوهم الخلاصي. إنها - من هذه الزاوية - تمثل "أفيون الشعب" فعلا كما كان يُعبِّرُ ماركس مُتحدثا عن وظيفة الدين باعتباره ما يقدِّمُ العزاءَ وقلبا دافئا في "عالم بدون قلب". وهل نحتاجُ إلى أدلة في ذلك؟ ربما أمكننا أن نلاحظ أنَّ الهوس بالمجد الرياضي يتناسبُ طردا مع تردي الأوضاع السوسيو- اقتصادية وعدم قدرة الدولة على احتضان مشكلات شبابها المختلفة. المجدُ الرياضي سيفٌ لا يلمعُ إلا على رقبة الكرامة والعدالة والازدهار الثقافي. بل إنَّ التعلق المُبالغ فيه بالرموز الرياضية عند شبابنا لا يُفسِّرهُ إلا الرغبة في ذلك التماهي العاشق مع نماذج البطولة الغائبة عن واقعنا المهزوم. لقد حل ميسي وكريستيانو رونالدو محل تشي غيفارا والعربي بن مهيدي وعبد الناصر وبومدين. وربما كان هذا مُؤشرًا بالغ الدلالة على واقع غابت عنه، منذ عشريات تقريبا، القضايا الكبرى التي كانت تسحرُ الشباب وتدفعُ به إلى الانخراط في المجال العام وفي السياسة تأكيدًا لذاته وإفصاحا عن وعيه بالانتماء إلى المصائر الجماعية. هذا ما نستطيعُ أن نرى فيه ظاهرة من ظواهر انتقال مُجتمعاتنا إلى ثقافة الاستهلاك والليبرالية الاقتصادية المُتوحشة وتحول كل القيم إلى سلعةٍ وإنتاج ما يشي بتفكك روابط المجتمع التقليدي. والمؤسف في الأمر حقا هو أن يتمَّ الاستثمارُ السياسي في هذا المجال من طرف أنظمة فاسدة وفاشلة واستبدادية لم تحقق لشعوبها الخبز والحرية والكرامة والمناعة الحضارية، فأرادت أن تلهيها عن مشاكلها الفعلية وعن بؤسها الذي لا ينتهي بنوع من المخدر القوي المفعول الذي يدخلها "الفراديس الاصطناعية " كما يُعبِّرُ الشاعر الفرنسي بودلير. إنَّ الشباب العربيَّ الذي فقد الأمل في التغيير الفعلي الإيجابي لم يعُد يجدُ مجالا للفاعليات التي تشعره بكيانه، ولم يعُد يعثر في الواقع على فضاءات تتيحُ له تأكيد ذاته وصنع مستقبله في كنف الحرية، فأصبح يلجأ إلى نوع من التعلق الأعمى بالرموز الرياضية التي يجد في التماهي معها انعتاقا من الهامشية والوجود المفرغ من المعنى الذي أنتجته الأنظمة العربية الفاسدة والقمعية. لقد أصبح النجمُ الرياضيّ رمزا فوق العادة في أزمنة الرَّمادة الحضارية التي شهدت اضمحلال صوت القضايا الكبرى.


الكرة.jpg
 
أعلى