نقد علي خالد الغامدي - المثقفون.. والنهاية الكروية ..

في العام 1983م وضح الحزن، والأسى على الأديب العربي الكبير توفيق الحكيم وهو يتحدث من خلال الشاشة الصغيرة عن الهموم الأدبية، ومسيرته الطويلة في التأليف، والنشر التي جعلته أحد الرموز الفكرية في عالمنا العربي.. قال: إننا اليوم أمام لعبة مسلية تدر دخلا ماديا على صاحبها، وتجعل الأكف تلتهب بالتصفيق، والحناجر تهتز بالهتاف لكرة صغيرة يدفع أحد اللاعبين بها للمرمى فتدخل هدفا فتشعر ان المدرجات في الملعب قد أصابها زلزال، وهذا لا يحدث لو أن اديبا، او عالما كبيرا اصدر كتابا مهما، او موسوعة عظيمة، وتمنى لو انه لاعب كرة قدم لينال حظه من الشهرة، والمجد بأقصى سرعة مما ينال الأديب، والمفكر، والعالم، والمخترع، والمبدع، وكان توفيق الحكيم يشير الى ظهور الموهبة الكروية مارادونا في تلك الفترة، وكيف تمتلئ الصحف بأخباره، وكيف تعرض التلفزيونات مبارياته، وكيف يتداول الناس أخباره، وأخبارغيره من اللاعبين الذين يلعبون كرة القدم، ويحظون بالتصفيق، والهتاف، والتشجيع الذي يصل احيانا الى درجة الجنون..

ولم يعش توفيق ليقرأ، أو يسمع عن عشرات الملايين التي تدفع في شراء اللاعبين، ومئات الالوف من الدولارات التي يحصل عليها بعض اللاعبين كراتب شهري من المستحيل ان يحصل على نصفها أو ربعها، او ثُمنها كاتب في قيمة توفيق الحكيم، او يوسف ادريس، او نجيب محفوظ، او نزار قباني، او محمود درويش، او غيرهم من مشاعل الثقافة، والأدب، والفكر، والعلم، والإبداع وهم اليوم أقل عدداً منهم بالأمس، بعد أن تقدمت الماديات، وتراجعت المعنويات، وصار المجد، والشهرة، والمال لكل صاحب موهبة كروية يليه كل صاحب حنجرة غنائية، أو صاحبة كل حنجرة غنائية، وصدر مكشوف، ووسط ملفوف، وهذه مسائل لا يفصل فيها الا إقبال الشباب على العمل الجاد، وطرق كل أبواب المستقبل المفيد لهم، ولمجتمعهم، وللبشرية في كل مكان من هذا العالم..

ونحن الآن في العام 2002م. وهذا هو الأديب الكبير أنيس منصور يكرر أسفه، وأساه، وحزنه على ضياع العمر لأنه أهمل الالتفات لهذه الساحرة المستديرة "كرة القدم"..

يقول أنيسس، في مقال نشر بمجلة اكتوبر "الأحد 5مايو 2002م". ما نصه: مسكين كل انسان لا يحب كرة القدم، هذا اقتناعي اخيرا، إنني أندم اليوم على كل السنوات التي مضت دون أن أضيعها في الجلوس في الملاعب، أو في المدرجات، أصرخ، وأصفق، واهتف للكرة تنطلق يمينا، وشمالا، تهز الشبكة، أو تهتز الخشبات الثلاث..!

ويصل انيس منصور بعد هذه المقدمة الجميلة التي يطرب لها رؤساء الأقسام الرياضية الى بيت القصيد.. وبيت القصيد عند أنيس أن كل هذا الانصراف نحو كرة القدم، ونحو الانشغال بها، والذهاب لملاعبها، والجلوس في مدرجاتها، والهتاف، والتصفيق لنجومها من شأنه "إطالة العمر" وهاهو يشير لذلك بوضوح "وأرجوك بعد ذلك أن تنظر الى وجوه السياسيين، والكتاب، أنت لا ترى عليها الا الهم، والغم الذي يطيل ألسنتهم، وأقلامهم، ويقصف أعمارهم فأقصر الناس عمراً أكثر الناس هماً، وأطولهم عمرا اكثرهم لعباً، أو تفرجاً على اللاعبين".

وكانت هذه الحسرة الكروية لدى انيس مفاجأة للكثير من أصدقاء انيس، ومحبيه فهو لم يعرف عنه هذا الاهتمام بالكرة، أو مصاحبة الكرويين لينقلوا له حبها، أو على الأقل يرشدوه الى هذا الحب..!

وليس هذا التوافق الكروي، أو الاتفاق الكروي بين الحكيم، وأنيس في المرحلة المتأخرة من العمر دليلا على العلاقة الحميمة بين الأديبين الكبيرين فأنيس لا يترك مناسبة الا ويخربش فيها توفيق الحكيم، ويحاول التقليل من شأنه، ودوره، وهو اذا لم يجد مناسبة لذلك اخترعها بطريقته، واسلوبه، ولم اقرأ لتوفيق الحكيم حرفا واحدا يشير فيه مدحا، أو قدحاً لأنيس منصورر ولذلك شدتني أقوالهما الكروية المتشابهة الى حد بعيد مع ما بينهما من مسافة زمنية طويلة، وهذا قد يغضب أنيس، ولا يسره ان يقلد استاذه توفيق الحكيم في هذه الحسرة الكروية بعد عشرين عاما مع هذا الفارق في الحسرتين فتوفيق نظر للحالة الكروية من باب إعجاب الناس بها، وتصفيقهم، وهتافهم لنجومها، وكيف لا يفعلون - بعض ذلك - عند صدور كتاب، أو رواية، أو ديوان شعر، أو مسرحية ليرفعوا من معنويات المؤلف، والكاتب، والشاعر حتى يستطيع تسديد ديون دار النشر، وتأمين لقمة العيش الكريمة بينما حسرة أنيس منصور على نفسه، وعمره الذي امضاه بين الكتب قارئا، ومؤلفا، وتمنى - مؤخرا - لو أنه قضاه في الملاعب، والمدرجات، والهتاف، والتصفيق باعتبار ذلك عنده شأنا يطيل العمر، ولا يقصفه..؟

وهانحن على بعد ايام من مسابقة العرس الكروي العالمي الموزع على كوريا، واليابان، وعلى أديبنا الكبير أنيس منصور أن يشمر عن ساعديه، ويبدأ من الآن استعداداته للتشجيع، والتصفيق، والزعيق، وأن يراجع أرقام عقود اللاعبين المشاركين في المونديال العالمي لعله يزداد حباً في التشجيع، والتصفيق لهؤلاء اللاعبين، أو يطوي هذه الصفحة من أحلامه المتأخرة..؟




الكرة.jpg
 
أعلى