عبد الوهاب عجروم - الكذب المباح عند الغزالي

المقدمة:
هل يكذب الإنسان لأنه الكائن الوحيد الذي بإمكانه أن يجمع ما بين تقديم الوعود والخلف بها؟ أم لأنه سواء اعتبر النطق في تعريفه المنطقي يرجع إلى الفكر أو إلى الكلام فهو في النتيجة حيوان كاذب[1]! منذ القديم اهتم الفلاسفة بسؤال الكذب، وقدموا مقاربات متعددة اهتمت بمعناه ومشروعيته، وعلاقته بالحق، والسياسة، والأخلاق.
تقرأ هذه الورقة موقف الغزالي من الكذب المباح، من خلال تحليل نصوص كتاب "إحياء علوم الدين"[2]. وتحاول أن تقارب الموضوع من خلال العناصر التالية: 1- بين الكذب والحق والصدق. 2- في تعريف الكذب وحكمه. 3- مبيحات الكذب. 4- الكذب في المدينة. فيما تنفرد الخاتمة بخلاصات نقدية.

بين الكذب والحق والصدق والكمال:
ينفتح الكذب على مجموعة من المعاني في اللغة العربية، يكاد يصعب الإحاطة بها، غير أنه يتجاور (يتقابل) في نصوص الغزالي مع "الصدق" و"الحق"، كما تلتحق به مفاهيم "القصدية" و"الضرر" و"الفردية والشأن العام".
ويمكن أن نتبين إشكالية "الكذب المباح" عنده من خلال مستويين: المستوى الأول في علاقة الكذب بالصدق والحق. والمستوى الثاني في علاقة الكذب بمفهوم الكمال.

في ارتباط الكذب بالحق، يمكن القول إن إباحة قدر معين من الكذب يؤدي إلى عطالة مفهوم الحق. فإذا كان الشيء في ذاته لا يكون إلا واحدا، حسب الأفق القروسطي الذي كان يفكر فيه الغزالي، ما يعني أنه ذو حقيقة موضوعية، ينقلها الصدق؛ فإن الكذب يخرجه إلى التعدد والذاتية، لأنه تعبير ينفي الشيء في ذاته، ويقيم بَدَلَهُ حقيقة/ حقائق أخرى. لا توجد في عالم الكذب حقيقة منفردة، بل الحق ونقيضه في آن وحد. من هنا كان الكذب معولا لتعمية الحدود، ولا يمكن لعالم يقوم على الوحدة والنظام أن يسمح بكذب يقوض اركانه. يمكن القول إن الغزالي، في امتداده الفلسفي سيرفض الكذب جملة وتفصيلا، مهما ارتبط به من أحوال أو آثار.

ولكن، هل صحيح أن الكذب نقيض الحق؟
كل من الصادق والكاذب يعرف "الشيء في ذاته"، يختار الصادق أن يعبر عنه كما هو، بينما يتخذ الكاذب طرقا ملتوية، إما بنفيه، أو ذكر بعضه وإغفال البعض، أو ذكر شيء آخر، مختلف عنه تماما. وفق هذه القراءة يكتسب الكذب أهمية كبرى توازي الصدق، فهو مفهوم ضدي[3] يحمل معناه ونقيضه في نفس الوقت. وربما يحمل الكذب من الحقيقة بقدر ما يحمل منها الصدق. فهل يكون هذا مدخل الغزالي في الحديث عن قدر مباح من الكذب؟
من زاوية أخرى، يحيلنا "الكذب المباح" على صعوبة ثانية، وهو ما نعبر عنه بالتعارض مع مفهوم الكمال. مفهوم الكمال مفهوم مركزي في أطروحة الغزالي الأخلاقية، وهو يجعله غاية المعرفة العقلية والدينية[4]، والكمال عنده تحقيق كمالات النفس وسعادة الإنسان. وهنا تتظافر أدلة العقل وأدلة الشرع على تحسين الصدق، والحث عليه، وهو ما ينتهي بالكذب خارج دائرة مفهوم الكمال الأخلاقي. فهل القول بإباحة الكذب، أو جزء منه على الأقل يؤدي إلى زعزعة مفهوم الكمال؟ سواء الكمال الفردي الذي يقول به الغزالي، أو مصلحة الإنسانية جمعاء، كما يختار كنط[5]. أم أن علينا أن نتساءل بالأساس عن المعنى الذي يعطيه الغزالي للكذب المباح؟ وكيف يرى مساحته؟

في تعريف الكذب وحكمه:
سنسجل في البداية أن الغزالي يظهر لنا متقدما على كانط، في اكتفائه في تحديد الكذب بمخالفته لـ "الشيء في ذاته"، دون تفريق بين أحواله (العمد أو الخطأ أو حتى المزاح)، ودون اهتمام كذلك بتحقق النفع أو دفع الضرر. فالكذب كذب في ذاته، دون النظر في الاعتبارات المحيطة به. على خلاف كنط الذي يحدد الكذب بقصدية التغليط. والكذب خطأً عنده ليس كذبا، لأنه غير مقصود فيه إرادة التغليط[6].
يقول الغزالي: الكذب "تفهيم الشيء على خلاف ما هو عليه في نفسه"[7]. وحكمه في ميزان الشرع أنه حرام، فهو قبيح. لكنه ليس حراما لذاته، بل لما يلتحق به من الضرر على المخاطب أو غيره. ولهذا فقد يخرج إلى دائرة الجواز، فيصير حسنا، إما استثناء (لضرورة)، أو لـ"غرض" شرعي صحيح. يقول: "الكلام وسيلة إلى المقاصد، فكل مقصود محمود يمكن التوصل إليه بالصدق والكذب جميعا، فالكذب فيه حرام. وإن أمكن التوصل إليه بالكذب دون الصدق، فالكذب فيه مباح إن كان تحصيل ذلك المحصول مباحا، وواجب إن كان المقصود واجبا ... فكان الكذب حراما في الأصل إلا لضرورة"[8].
والذي يجعل هذا الخروج شرعيا عند الغزالي، إضافة للآثار الواردة في الاستثناء، موقفه من التحسين والتقبيح. فالأشاعرة يقولون إن الحسن والقبح ليسا صفتين ذاتيتين في الأفعال. والفعل إنما يكتسب الحسنَ والقبحَ بحسب ورود الأمر. والمقاصد الشرعية المعتبرة، مثلها مثل الأحكام الإلهية، تَحْكُمُ[9] على الفعل بالحسن والقبح (بتوسط آلية الاجتهاد). ولما كان "الكذب ليس حراما لعينه، بل لما فيه من الضرر على المخاطب أو على غيره"[10]. فإن "الإخبار عن الشيء بخلاف ما هو عليه" من حيث هو، ليس فعلا حسنا ولا قبيحا، إنما يحسن ويقبح بحسب ورود الأمر. فحيث ورد النهي فالكذب قبيح/ حرام، وحيث ورد الأمر (أو الغرض الشرعي الصحيح) فالكذب حسن/جائز.

مبيحات الكذب عند الغزالي:
الكذب والصدق إذن وسيلتان إلى المقاصد، يحسن منهما ما تعلق بمقصد حسن، ويقبح منهما ما تعلق بمقصد قبيح. ما هي إذن المقاصد الحسنة التي يعتبرها الغزالي مبيحة للكذب؟
نجد في أمثلة الإحياء تفريقا هاما بين مستويين من الكذب: الكذب استثناء (ضرورة)؛ ويمكن التعبير عنه أنه متعلق بحفظ مقاصد الشريعة الكلية، كحفظ النفس، وحفظ الدين، والكذب فيه واجب، لأن الضرر المترتب على الكذب أهون من الضرر المترتب على الصدق. والكذب لغير الضرورة، ويضع له الغزالي معيار "المصلحة" و"المنفعة". وأكثره في باب المعاملات، وهو جائز، يخضع لتقدير (اجتهاد) صاحبه.
وهكذا نجد أن الغزالي يضع نصب عينيه مقولة كلية هي أن مقصد الملة تحقيق مصلحة العباد، ومنه فكل ما يحقق للعباد مصالحهم التي اعتبرها الشرع فالكذب فيه مباح إذا لم يكن ثمة سبيل لتحقيقها إلا بالكذب. ويضرب الغزالي أمثلة لما يمكن أن يقع للمسلم من حالات يباح له فيها الكذب. فيجيز له أن يكذب على ولده إذا كان لا يدفعه للذهاب إلى المدرسة غير الكذب. ويجيز له أن يكذب على نسائه تطييبا لخاطرهن، أو صرفا لتذمرهن. كما يجوز للرجل أن يكذب على أخيه لإصلاح ما بينهما إذا كان لا يصلح ما بينهما إلا بالكذب. "أو كانت امرأته لا تطيعه إلا بوعد لا يقدر عليه، فيعدها في الحال تطييبا لقلبها، أو يعتذر إلى إنسان وكان لا يطيب قلبه إلا بإنكار ذنب وزيادة تودد؛ فلا بأس به"[11]. "ومما يلتحق بالنساء، الصبيان؛ فإن الصبي إذا كان لا يرغب في المكتب إلا بوعد أو وعيد، أو تخويف كاذب، كان ذلك مباحا"[12].
سنتوقف هاهنا قليلا عند "من يجري مجرى الصبيان والنسوان"، لأن الثقافة/ التراث الإسلامي يجمع علاقات ثلاث، تتداخل أحكامها ونصائحها كثيرا. الرجل وأهل بيته، والسيد وخدمه، والحاكم ورعيته. هل نحن أمام توسعة للكذب المباح حتى يدخل الكذب إلى ميدان السياسة؟

الكذب في المدينة، بين الحاكم والقاضي:
في كتابه "نصيحة الملوك"، لا نكاد نجد عند الغزالي حضورا للكذب، إلا في نصوص أربعة[13]، وهذا الصمت يمكن قراءته بصور مختلفة، على اعتبار أن الكتاب ينتمي لنصوص مرايا الأمراء وأدب النصيحة، التي تكتفي بتوجيه النصح بدل البحث عن آليات لتنفيذه. غير أننا نميل إلى الاعتقاد أن الغزالي لم يكن مهتما بإدخال الكذب السياسي في باب ما يباح من الكذب.

ذلك لأننا نجد لغة الإحياء متصالحة مع الكذب المباح في مجال المعاملات والعلاقات الفردية، بينما تأخذ منحى التشديد والحظر، شيئا فشيئا، كلما اتجهت لمجال الشأن العام. فالغزالي يمنع كذب الحاشية والمتقربين إلى الحاكم لنيل حظوة أو جاه: "وأكثر كذب الناس إنما هو لحظوظ أنفسهم، ثم هو لزيادات المال والجاه ... وذلك حرام"[14]. كما يشدد في كذب الحاكم على رعيته، وينقل آثارا في عقاب الحاكم الكذاب "ثلاث لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم ... وملك كذاب"[15].
يمكن القول كذلك إن نصوص الغزالي في الكذب المباح ذات بُعْدٍ عملي، ما يعني أن الغزالي، كعادة فقهاء السياسة في عصره (الماوردي، الجويني ...) يهتم بالكذب باعتباره ظاهرة في حياة الناس، تستلزم بناء موقف شرعي (قانوني) وأخلاقي لها، موقف يقيم فصلا واضحا بين ما يحل وما يحرم. وهذا موقف ينتظم فيه منظرو الأشعرية الكبار، الأشعري والجويني، والغزالي، الذين كان حديثهم في الأخلاق حديثا في منظومة قانونية-شرعية، لا مساهمة كلامية فقط.
لذلك، سنجد عند الغزالي اهتماما[16] بالكذب في حال الحرب، من خلال التأكيد على جوازه. رغم ذلك، لا يبين لنا هل الكذب الجائز هنا هو الكذب على العدو فقط، أم حتى على الجنود؟ كما يتجاوز طبيعة الحرب التي يباح فيها الكذب؛ هل تكون ضد المختلف في الملة فقط، أم تشمل حتى المختلف في المذهب؟ ثم هل يلحق بالكذب المباح أجهزة الأمن (الاستخبارات وما في معناهم) باعتبار عملهم حربيا وإن كان في وقت السلم؟ خصوصا وأن الغزالي يبيح لوزير الحاكم أن يكذب في أسرار الملك لئلا يطلع عليها العدو[17]، ويستحضر أثرا في تعمية الرسول لأخبار غزواته حين كان يخرج إليها: "يوري بغيرها"[18].

والحق أن التورية والمعاريض مفهومان ضبابيان، لأن الغرض منهما تفهيم السامع خلاف ما يريده المتكلم. فهما يتفقان مع الكذب في الغاية، وإن اختلفا معه في طريقة التعبير عنه. لذلك، ينشئ صاحب الإحياء بابا في "بيان التحذير من الكذب في المعاريض"، ويميز بين أن يكون اللفظ صريحا في الكذب، أو محتملا، فالمحتمل مكروه فقط، أما الصريح فمباح للحاجة والضرورة، والحاجة كما هو معروف مرتبة دون الضرورة حسب التقسيم الأصولي. غير أننا لا نهتم كثيرا لهذا التقسيم، لأنه كما سبق، فالغزالي يبيح الكذب الصريح في حال الضرورة، فبم يفترق التعريض عن الكذب في هذا المستوى؟ سنجد أن الغزالي ينص على أن "المعاريض تباح لغرض خفيف"[19]. هنا تفترق المعاريض عن الكذب، الكذب مباح للضرورة، والحاجة، بينما تختص المعاريض بالأغراض الخفيفة. هل يمكن أن نقول إن الغزالي يقيم للكذب المباح بنيانا يوازي بنيان الأصوليين، في الضروريات والحاجيات والتكميليات؟ ليس هذا ببعيد. بل يكاد تؤكده النصوص التي يذكرها، كقصة "لا تدخل الجنة عجوز"، وهذا من باب المزاح، والمزاح لا من الضروريات ولا من الحاجيات.
لنعد مرة أخرى للكذب في المدينة. يولي صاحب الإحياء اهتماما خاصا بالكذب في مؤسسة القضاء. وهو وإن كان يعتبر الكذب مسقطا للشهادة[20]، وأن شهادة الزور كبيرة من الكبائر؛ إلا أن ذلك لم يمنعه من القول بإباحته إذا كانت مؤسسة القضاء/الحكم ظالمة.
يقول فيما يجوز فيه الكذب: "فمثل أن يأخذه ظالم ويسأله عن ماله فله أن ينكر، أو يأخذه السلطان فيسأله عن فاحشة بينه وبين الله تعالى ارتكبها، فله أن ينكر ذلك ... فللرجل أن يحفظ دمه وماله الذي يؤخذ ظلما وعرضه بلسانه وإن كان كاذبا"[21]. ويتعدى هذا إلى حفظ حقوق الغير، من المسلمين، فلو كان الحاكم أو القاضي ظالما جاز للشهود أن يكذبوا عليه حفظا لحقوق بعضهم، "فمهما كان في الصدق سفك دم امرئ مسلم قد اختفى من ظالم، فالكذب فيه واجب"[22]. "وأما غرض غيره، فبأن يسأل عن سر أخيه، فله أن ينكره"[23].
غير أن إلحاق القضاء والشهادة بما يجوز فيه الكذب يحيلنا على جملة من الإشكالات، التي لا نعتقد أنه يمكن تجاوزها بسهولة، تحاول الورقة فيما تبقى أن تتعرض لأهمها.

الخاتمة:
أتاحت لنا القراءة في نصوص الغزالي لحظ مفارقة أساسية، تعتبر أن الكذب لا يعارض الحق، ما دام كل منهما يمكن أن يؤدي "غرض الشارع". على أن تعريف الكذب يشير إلى أن الغزالي كان يجده عائقا أمام نظرية الحق (الحق النظري، الحق العملي، الحق الشرعي). والذي نميل إليه هو أن هذا التناقض أصلي في معالجة الغزالي لهذا الموضوع، وهو لا يرجع فقط بالأساس إلى لبس المفاهيم التي تجاور الكذب، بل يرجع كذلك إلى اختلاف المرجعيات التي صدر بها مقاربته للموضوع.
وتتجاور في مقاربة الغزالي للكذب، الأصول الشرعية والكلامية التي كانت تدفعه لاعتبار الكذب قبيحا، في ذاته، والنصوص التي وردت مستثنية بعض صور الكذب. وعلى الرغم من أن صاحب الإحياء ظل وفيّا ما استطاع إلى موقفه العقلاني الشرعي، القائل بتحريم الكذب، إلا أنه تمكن من خلال زوجي التحسين والتقبيح، الخروج من عنق الزجاجة، والقول بإمكانية الكذب المباح.
ويمكن أن نلحظ بيسر أن الغزالي عند بنائه للقاعدة العامة في الموقف من الكذب، يجنح بلغته إلى التشديد في منع الكذب، ومحاصرة أي تقرير يسمح بتفشيه فيمنع، وبقوة مثلا: وضع الحديث في الفضائل، والكذب في المزاح، ويشدد في المعاريض كما سبق ذكره. ولكن، كلما اقترب من نصوص الاستثناء، والحالات التي يمكن أن تلحق بها، ظهرت لنا لغة متصالحة مع الكذب المباح، فأمثلة التراخي في الكذب على الأولاد، والمرأة، والصديق، تؤكد لنا أن خطاب الفقيه في نص الغزالي أكثر تصالحا مع الكذب المباح، بينما يتخذ خطاب الكلام موقفا أكثر تشددا.
من جهة ثانية؛ نسجل للغزالي اهتمامه ب "تطييب القلب والخاطر"، وهو غرض جمالي قرنه الغزالي بأحوال كثيرة أباح فيها الكذب، بل يمكن القول إنه أحد أهم أغراضه على الإطلاق. وفي هذا اهتمام بالأبعاد الجمالية والاجتماعية عند النظر إلى الأخلاق، ولو من زاوية قانونية. وعليه فالمحافظة على تماسك الأسرة والعلاقات الاجتماعية وحقوق الأخوة والصحبة، مقصد شريف، ولعله غاية الاجتماع الإنساني كله، وقيام المدينة، فالاهتمام به، ولو بإباحة كذب يساهم في استمراره، ولا يضر بأفراده موقف حسن.
غير أن المثير في نص الغزالي في الكذب هو تعليقه التقدير على الفرد؛ تقدير الضرورة، وتقدير المصلحة والمنفعة، وهذا يجعل من المسألة أمرا نسبيا وذاتيا. فالذي يقدره أحد من الناس ذا منفعة له يقدره غيره بخلافه. وقد يخالط هذا التقدير هوى النفس، وبعض الميل. والغزالي نفسه يتنبه إلى هذه المسألة، يقول: "وكل من أتى بكذبة فقد وقع في خطر الاجتهاد، ليعلم أن المقصود الذي كذب لأجله، هل هو أهم من الشرع في الصدق أم لا، وذلك غامض جدا، فالحزم في تركه إلا أن يصير واجبا بحيث لا يجوز تركه"[24]. ويقول: "ولأجل غموض إدراك مراتب المقاصد ينبغي أن يحترز الإنسان من الكذب ما أمكنه، ولذلك مهما كانت الحاجة له، فيستحب أن يترك أغراضه ويهجر الكذب"[25]. نعم، كما سبق، ينتهي الغزالي في تقريراته غالبا إلى تضييق مساحة الكذب، كثيرا، غير أن هذا لا ينفي أن الفردية التي يعلق بها إباحة بعض الكذب مفهوم ضبابي بعض الشيء.
غير أن هذا لا يمنعنا من تسجيل مساهمة متقدمة للغزالي، إذ هو يفتح باب الاجتهاد للعامة، فالتقدير هنا هو تقدير الفرد المسلم، وهو وإن كان خفيا إلا أنه يظل في دائرة المسموح به، وهذه اللفتة من الغزالي تدفعنا إلى التساؤل حول الغاية من هذا العمل، خصوصا وأن الاجتهاد الفردي، كما يخضع للذاتية وربما الهوى، فإنه يعزز مسؤولية الفرد وتحمله لقراراته، ما يجعل من آلية الاجتهاد آلية صالحة لمحاصرة الكذب كذلك.
نختم بالإشارة إلى أن أمثلة جواز الكذب لا تعدم -في نظرنا- حلولا صادقة. فسواء كانت علاقة الرجل بزوجته، أو الأخ بأخيه، أو الوالد بولده، أو غيرها مما يدخل في غير باب الضرورة، فإن الإنسان لا يعدم أن يحقق غايته بغير الكذب، فالإسراع إلى تجويز الكذب، حتى مع الدعوة إلى التقليل منه، بدل التأكيد على قيمة الصدق وأهميته، وحث النفس على معالجته، والصبر على آثاره، يرجع بنوع من الفساد على أغراض الشارع المراد تحقيقها.

المصادر والمراجع:
الغزالي، أبو حامد، إحياء علوم الدين، ت اللجنة العلمية بمركز دار المنهاج، جدة، دار المنهاج، 2011.
الغزالي، أبو حامد، التبر المسبوك في نصيحة الملوك، ت أحمد شمس الدين، بيروت، دار الكتب العلمية، 1988.
المصباحي، محمد، لوازم الحق العملي، نص من مقرر الحق والواجب، منشور على المودل.
المصباحي، محمد، من أجل حداثة متعددة الأصوات، ورش لفلسفات الحق والثقافة والسياسة والدين، بيروت، دار الطليعة، 2010.

[1] عالج هذه الأسئلة بلغة فلسفية رائقة الدكتور محمد المصباحي في بحث: الحق في الكذب، ينظر: المصباحي، محمد، من أجل حداثة متعددة الأصوات، ورش لفلسفات الحق والثقافة والسياسة والدين، بيروت، (دار الطليعة، 2010)، 174.
[2] النصوص التي نعالجها من الإحياء تتوزع على كتاب: آفات اللسان، وكتاب: النية والإخلاص والصدق، وكتاب آداب الصحبة والأخوة.
[3] عن ضدية مفهوم الكذب والصدق، ينظر: المصباحي، محمد، من أجل حداثة متعددة الأصوات، مصدر سابق.
[4] حول مفهوم الكمال عند ابن رشد، ينظر: المصباحي، محمد، لوازم الحق العملي، نص من مقرر الحق والواجب، منشور على المودل، 1.
[5] يرى كنط أن الكذب ضار للإنسانية جمعاء، حتى لو اقترن به خير عاجل، لأنه يقوض مصدر الحق، ما ينسف كل المبادئ الأخلاقية والعقود السياسية. ينظر: المصباحي، محمد، من أجل حداثة متعددة الأصوات، مصدر سابق، 186.
[6] يعرف كنط الكذب بأنه: "قول يراد منه تغليط الآخر قصدا". ينظر: كنط، إيمانويل ... ص11. نقلا عن: المصباحي، محمد، من أجل حداثة متعددة الأصوات، نفس المصدر، 186.
[7] الغزالي، أبو حامد، إحياء علوم الدين، ت اللجنة العلمية بمركز دار المنهاج، جدة، (دار المنهاج، 2011)، 9: 98.
[8] الغزالي، أبو حامد، إحياء علوم الدين، نفس المصدر، 5:488.
[9] الغزالي يعبر بلفظ "حكم" وليس "وصف". فورود الأمر حكم على الفعل بالحسن والقبح، لا وصف له.
[10] الغزالي، أبو حامد، إحياء علوم الدين، مصدر سابق، 5: 488.
[11] الغزالي، أبو حامد، إحياء علوم الدين، نفس المصدر، 5: 492.
[12] الغزالي، أبو حامد، إحياء علوم الدين، نفس المصدر، 5: 494.
[13] تدور كلها حول التحذير من الكاذب (لا وفاء لكذوب)، وأن الملوك لا يكذبون (ولا عمل من الأعمال إلا كذبا)، وعقوبة الملك الكاذب، والصبر على كذب الكاذبين. ينظر: الغزالي، أبو حامد، التبر المسبوك في نصيحة الملوك، ت أحمد شمس الدين، بيروت، (دار الكتب العلمية، 1988).
[14] الغزالي، أبو حامد، إحياء علوم الدين، مصدر سابق، 5: 493.
[15] الغزالي، أبو حامد، إحياء علوم الدين، نفس المصدر، 5: 482.
[16] رغم أنه قليل جدا.
[17] الغزالي، أبو حامد، إحياء علوم الدين، مصدر سابق، 9: 98.
[18] الغزالي، أبو حامد، إحياء علوم الدين، نفس المصدر، 9: 98.
[19] الغزالي، أبو حامد، إحياء علوم الدين، نفس المصدر، 5: 498.
[20] الغزالي، أبو حامد، إحياء علوم الدين، نفس المصدر، 5: 484.
[21] الغزالي، أبو حامد، إحياء علوم الدين، نفس المصدر، 5: 492.
[22] الغزالي، أبو حامد، إحياء علوم الدين، نفس المصدر، 5: 484.
[23] الغزالي، أبو حامد، إحياء علوم الدين، نفس المصدر، 5: 492.
[24] الغزالي، أبو حامد، إحياء علوم الدين، مصدر سابق، 5: 494.
[25] الغزالي، أبو حامد، إحياء علوم الدين، مصدر سابق، 5: 493.
 
أعلى