عمر ابو رصاع - تاريخية المصحف

مقدمة
تعد ظاهرة علاقة كتاب الله بالتاريخ، أحد القضايا التي ألحت في الآونة الأخيرة على الثقافة العربية، وهذا الحضور الخاص لهذه الإشكالية في ثقافتنا يأتي تحت ضغوط كثيرة في صياغة الموقف، ليس فقط من آليات الاشتغال في فهم الكتاب، بل أيضاً الحكم على مصدره نفسه.

إن مفهوم التاريخية على أي حال، ليس مفهوماً حديثاً في دراسة النص، فقد دخل حقل علم قراءة أو نقد النص عموماً في مراحل زمنية مبكرة، على نحو خاص مع أعمال النقد الأدبي النازعة إلى توظيف منهج الجدل المادي في دراسة النص، حيث ترى المدرسة المادية الديالكتيكية (الجدلية) أن النص أي نص ابن شرعي لبيئته التي وجد فيها.

مضت ظاهرة دراسة النص خطوات أعمق، مع المدرسة الهرمنيوطيقية "التأويلية" وهي المدرسة التي تركز على أن فهم النص، عملية تفاعلية لها عناصر، ويمكن أن نجملها بالتالية:
1- المؤلف و زمن وبيئة ظهور النص.
2- اللغة والنص.
3- المتلقي، وزمن وبيئة التلقي.
إن ظاهرة الهرمنيوطيقيا "التأويلية" ظاهرة تعلمن وتفسر اختلاف تأويلات النص، وليس صحيحاً أنها وليدة دريدا وغادايمر من رواد المدرسة المعاصرين، بل أن للتأويلية جذور ضاربة في القدم تمتد لترتبط بالنصوص المؤسسة للديانات التوحيدية الإبراهيمية الثلاث، بل تمتد كذلك كظاهرة في تأويل النص الديني عموماً، وإن كانت أكثر خصوصية في هذه الديانات لارتباطها على نحو خاص بنص يؤسس لها.

وتعد الدراسات الإنجيلية التأويلية الأغزر إنتاجاً، إلا أننا نعتقد أن للهرمنيوطيقيا حضوراً خاصاً في ثقافة دراسة كتاب الله المدون في المصحف الشريف، فقد احتفت كتب التفسير كثيراً، بدراسة العناصر التكوينية للنص وبيئة تنزيله وأسباب النزول والناسخ والمنسوخ...الخ
وإن كانت حركة التفاعل الفاهمة للمصحف، قد توقفت في مرحلة مبكرة نسبياً، بحيث لا نكاد نقع على كتاب تفسير جديد متكامل، ربما في القرون العشرة الأخيرة، إلا ما أعيد فيه ما سبق أن كتبه المفسرون قبلاً، بالاختصار والحواشي لا أكثر ولا أقل.

من جهة أخرى انقلبت المدرسة البنيوية على النظريات التأويلية التي حملتها المدرسة الهرمنيوطيقية، واعتبرت أن النص ظاهرة منفصلة، وكينونة مستقلة يجب أن يدرس من داخله، تحلل عناصره وتدرس بنيته الخاصة مستقلاً، وأنه لا يمكن اكتشاف النص إلى من داخله؛ فالنص كائن حي مستقل بذاته، مستقل حتى عن أعمال الكاتب الأخرى، ورغم أننا لا نقلل من أهمية الدراسة البنيوية للنص، إلا أننا أيضاً لا نستطيع التعامي عن الظاهرة التاريخية في النصوص، والتي لا يمكن فهم ترابطاتها بمعزل عن واقعها هي، فإغفال البيئة التي ولد فيها النص يبدو ضرب من تفريغ النص نفسه من كونه ظاهرة تفاعل مع الواقع.

التاريخية هي وجه لمشكلة أخرى كبيرة، عندما يتعلق الأمر بنص مطروح بصفته من مصدر إلهي، فالتاريخية ليست فقط ظهور لفعالية التاريخ في النص بل ظهور لفعاليته أيضاً في المؤلف، وهنا تواجهنا مشكلة عقدية من الدرجة الأولى، ذلك أن السؤال المنطقي الذي يبرز لنا هنا لا يمكن تجاوزه بسهولة، وفحواه إذا كان للتاريخية حضور في النص فمعنى ذلك أن لها حضور في المؤلف، وإذا كان المؤلف هو الله فمعنى ذلك أن الله "بيئي"، ولكن إذا كان الله مطلقاً فهو لا يمكن أن يكون بيئي ولا يمكن أن يتأثر بالتاريخ، فالله لا بيئي ولا تاريخي لأنه مطلق، والنتيجة التي يخلص إليها الناظر من هذه الزاوية هي أن الحضور الزمني والتاريخي في النص معناه أنه لا يمكن أن يكون إلهي المصدر إلا إذا كان الحضور التاريخي في النص مقتصر الأثرية على المتلقي ومرتبط به!

يبدو الأمر معجزة، لا يمكن أن يحققها إلا الله، أن نستطيع إنتاج نص بصبغة تاريخية لغوية وبيئية، لكن يحمل في نفس الوقت مضمون لا تاريخي ولا بيئي.

هذا الاستنتاج ليس بسيطاً، بل هو مصدر لإلحاد الكثيرين، وهو منطق سليم مئة بالمئة، إذا كان المصحف نص تاريخي المضمون، فلا يمكن أن يكون إلهي المصدر، فهل هو نص تاريخي أم لا؟

هذا هو موضوع هذه الدراسة، وهي تقترب من منطقة نزعم أن أحداً لم يقاربها بهذا الوضوح وبهذه الصراحة، فقد دارت دراسات عديدة حول الإشكالية دون أن تصرح بها حتى وإن أخذت منها موقفاً صريحاً، نذكر مثلا أعمال الدكتور نصر حامد أبو زيد "مفهوم النص دراسة في علوم القرآن" و "الاتجاه العقلي في التفسير دراسة في مفهوم المجاز عند المعتزلة" و "فلسفة التأويل، دراسة في تأويل القرآن عند محي الدين ابن عربي" و "أنظمة العلامات فى اللغة والأدب والثقافة؛ مدخل إلى السميوطيقا " و "إشكاليات القراءة وآليات التأويل" ونذكر أيضاً مشروع الجابري الأخير لفهم الكتاب، وإذا كان أبو زيد قد استند إلى نتائج الهرمنيوطيقيا الأخيرة في نقد دراسة المصحف كنص، فإن الجابري اتجه مباشرة إلى أداة تقليدية في دراسته هي أسباب النزول والناسخ والمنسوخ، وكلاهما لم يتحرر أبداً من علمي الناسخ والمنسوخ وأسباب النزول، بالتالي لم يستطع إنتاج القطيعة الابستمولوجية مع السلف في المستوى المنهجي.

إن هذه الدراسة قبل أن تشرع في تحديد أدوات فهم النص، تحاول أن تبحث عن العلاقة بين النص وهو هنا "المصحف" وبين التاريخ، للإجابة بكل وضوح وأمانة عن مصدرية هذا النص، وهي تتمسك بالفرض الأساسي أنه إذا كان هذا النص تاريخي المضمون فلا يمكن أن يكون إلهي المصدر.

فما هي تاريخية مضمون النص؟

تاريخية النص معناها عندنا، ليس تاريخ ظهور النص، بل حضور التاريخ في النص، وبالتالي أن يكون هذا النص مرتبطاً ببيئة تاريخية لا يمكن فهمه مستقلاً عنها ولا يمكن أن يتجاوز حدودها المعرفية في مضمونه، وأبعاد هذا المشكل لا يمكن استقصاؤها ببساطة، بل لا بد هنا من تحليل أبعاد الترابطات اللغوية للنص، وحصرية الدلالات البيئية؛ بمعنى أن يكون النص لا يعني إلا في بيئة معينة ومن خلالها، فضلاً عن ثبوت تجاوز مضمون النص بتجاوز معرفة الإنسان له.

حاولت الهرمنيوطيقيا، أن تحل الإشكالية عبر فرضها المؤسس، وهو أن النص ثابت شكلاً متحرك محتواً، بمعنى أنه متعدد الفهوم الناتجة عنه، تبدو هذه نتيجة رائعة، وحقيقية، ونحن نسلم بها، فكل نص هو ظاهرة قابلة لاستمرار الحضور في الثقافة، طالما أنه يمكن أن يعني في كل بيئة، مهما بلغت درجة تشابكه مع البيئة التاريخية ومهما كان حضور التاريخ فيه، فنحن من الممكن أن نقرأ قصصاً قديمة ونأخذ منها عبر معاصرة، لكن متى يكف النص عن أن يكون تاريخي؟ أو بعبارة أخرى، إذا كان بالإمكان تحليل النص بقراءة معاصرة لاستقصاء معاني معاصرة، فإلى أي مدى يمكن تنحية الترابطات التاريخية لهذا النص؟ إلى أي مدى يمكن أن لا يكون هذا النص تاريخي؟

هذا جوهر قضيتنا، ونعني تماماً أن دراستنا وحتى تتمكن من الإجابة على سؤالها المركزي، تبحث في حدود العلاقة بين المصحف والتاريخ، إنها تدرس حضور التاريخ في المصحف، وهنا يبرز تحدي مهم وأساسي، ما هو معيارنا في الفصل بين التاريخي واللاتاريخي؟

النص كظاهرة يحمل محتوى دلالي، وحضور التاريخ فيه ضرورة يفرضها المتلقي نفسه، فالمتلقي تاريخي، فكيف يمكن أن يوجه فكر لا تاريخي لمتلقي تاريخي، تلك هي القضية، بمعنى أنه إذا كان مصدر النص إلهياً فلا بد أن يكون الفكر لا تاريخي، ولا تاريخي هنا تماماً "غير متجاوز"، ونركز هنا على التذكير بأننا نعني النص وليس فهم النص، فمن الطبيعي أن يكون فهم النص تاريخياً لأن الفهم في حالة المصحف منتج إنساني، هو أنسنة فكر النص إن جاز التعبير، وبالتالي عندما نحاول أن نستجلي الإشكالية موضوع الدراسة، فنحن نستجليها في النص مباشرة وليس في أي فهم تاريخي للنص، وهذا فخ لا ننكر أننا تخلصنا منه بسهولة، هذا الفخ هو الذي يصطاد العقلانية المعاصرة، التي تقول بتاريخية النص، لأن هذه العقلانية ابتداء سوّت بين النص وفهم النص، وبالتالي أصبحت كتب التفسير تساوي النص، ومن الحماقة أن لا نحكم بأن كتب التفسير تاريخية بالضرورة، ولكن كتب التفسير لا يمكن أن تساوي النص الأصلي وهو هنا المصحف هنا، وبالتالي فإن الحكم المسبق الذي تم تسطيره لا علاقة له بالنص الموضوع (المصحف) بل هو حكم موضوعه كتب الأقدمين (كتب التفسير)، ومن هنا نظهر بقوة فداحة الجريمة التي ارتكبت بحق النص الأصلي من قبل التابعين، عندما تمت التسوية بين الفهم (أي فهم كان ولأي مدرسة فاهمة) والنص نفسه ، وخصوصاً عندما تصبح العقلانية التي أنتجت النص متجاوزة، فالنتيجة المؤكدة أن اللاحق سيحكم بتاريخية النص بالضرورة، إذا تساوى أمامه النص مع فهم النص.
نعني هنا على وجه الدقة، إشكالية العقلانية العربية المعاصرة، التي أصبحت موضوعاً لشكلين من التكوين، وليس كما زعم الجابري الذي تناول شكل واحداً وعممه، فلو كان صحيحاً أن هذا الشكل الواحد متفرد لما شعرنا أساساً بالإشكالية التي نتحدث عنها هنا، إن بنية العقلانية العربية المعاصرة يتنازعها الشكل المعاصر للمعرفة الإنسانية وأدواتها الفاهمة والمكونة لمناهج العقلانية من ناحية، ومن الناحية الثانية الشكل التقليدي المرتبط بفهم المصحف خصوصاً والدين عموماً.
من هنا نقول أنه لا بد من القطيعة المعرفية مع التراث، ومرة أخرى نذكر أن القطيعة الابستمولوجية المنشودة، ليست تنكراً لهذا التراث ولا إلغاء أو طرداً له من الحضور، بل هي قطيعة منهجية، أي أنها قطيعة مع المناهج التراثية في الفهم والتحليل والدرس، لا بد من عصرنة منهج القراءة، تحرير القراءة من المنهج التقليدي في الدراسة والفهم وإعمال المناهج المعاصرة فيه، إنها الحقيقة التي عبر عنها الجابري ونصر أبو زيد، إلا أنهما مع ذلك لم يخرجا عن إطار المنهج التاريخي في النهاية، عندما انصاعا إلى توظيف المنهج السلفي نفسه عبر علمي الناسخ والمنسوخ وأسباب النزول في دراسة النص الأصلي "المصحف".
وبعد
فإن القطيعة المنهجية التي نروم، لا يمكن أن تتحقق إلا بنقد وتجاوز المنهجية الكلاسيكية، فنحن لا نقطع لمجرد أننا نريد أن نقطع، فلا بد لنا أن نبين مكمن الخلل في المنهج التقليدي، والأسباب الداعية لتجاوز هذا المنهج، أبعد من ذلك خطوة، نقول أن الحكم بالحضور التاريخي القوي بل بتاريخية المصحف عموماً هو نتيجة لعلمي الناسخ والمنسوخ وأسباب النزول، إن قراءة المصحف وفق هذه الطريقة والمنهجية ستؤدي بنا حتماً للإقرار بأن هذا نص تاريخي بيئي، وبالتالي فإن اختبار هذه الأدوات المنهجية أولاً وقبل كل شيء هي طريقتنا في معرفة الإجابة على سؤالنا المركزي، فأول ما سنوليه عنايتنا في هذه الدراسة هو أدوات القراءة السلفية المنتجة للتاريخية "أسباب النزول والناسخ والمنسوخ" ، أما الفرضية التي سندرسها فهي: أن المصحف ليس نصاً تاريخياً وفق معنى التاريخية التي قدمنا له.
إن النص يتوقف عن أن يكون تاريخي، تماماً عندما يتحول إلى مستوى التجريد النظري القابل للحياة والاستمرار، ومع ذلك فإن النظرية المجردة اللاتاريخية تصبح كذلك (أي تاريخية) عندما يثبت التاريخ فشلها، فتوظيف ماركس للمادية الجدلية في قراءة التاريخ واستنتاجاته هو نظرية مجردة، ولكن ثبتت تاريخيتها عندما فشلت في استقراء المستقبل (حتمية التحول نحو الشيوعية)، بمعنى عندما أثبتت حركة التاريخ نفسه إنها متجاوزة وأن بها عطب ما مرتبط بأسباب تاريخية تتعلق بالقراءة التنظيرية نفسها، كذلك هو الحال بالنسبة لنظرية مالتوس السكانية مثلاً، وحتى في النظريات العلمية ظهرت جميعاً في نهاية المطاف تاريخيتها عندما أصبحت متجاوزة، إن المعرفة الإنسانية تاريخية لأنها تتجاوز نفسها بدون توقف، فهل المعرفة النظرية المجردة موجودة في التنزيل الحكيم؟ ثم إن كانت موجودة هل هي متجاوزة أي هل هي تاريخية؟
هذا هو شاغل دراستنا هذه الذي نحاول أن نجيب عليه


مفهوم القطيعة الابستمولوجية وعمى الزمن

أنتج الخطاب الإسلاموي المعاصر جملة من الإشكاليات على رأسها إشكالية الخطاب السياسي التعبوي، سواء كان بشكله التوتاليتاري الدوغمائي (الشمولي العقدي) أو بشكله العنفي الإرهابي، وإذا كان لهذا الخطاب دوافعه الكامنة في الواقع الذي سبق لنا تناولها في إطار تحليلنا لإشكالية النهضة في الخطاب المعاصر، فإن له أيضاً بنية مفاهيم خاصة، بنية مستوحاة من تراثنا، وعلى وجه أكثر خصوصية مدرسة معينة في هذا التراث، من هنا تستمد برأينا مشروعية إحياء التراث المسكوت عنه تراث العقلانية العربية، ليس هذا الإحياء قائماً بمثابة استحضار الضد الحضاري للخطاب الإسلاموي المعاصر، لأننا إن استلهمناه على هذا النحو نقع في نفس الخطأ الذي سبقنا إليه الخطاب الإسلاموي المعاصر، ونضحي نوع آخر من السلفوية المضادة، وبالتالي يكون هذا الاستحضار شكل من أشكال رد الفعل لا الفعل.

إن مشروعية الاستحضار والإبراز إذن، تلك التي نطمح إليها، تهدف بكل وضوح إلى هدفين أولهما تتبع تاريخ العقلانية العربية، والثاني الرد من داخل التاريخ على الاستفراد والإقصاء الذي مارسه ويمارسه الخطاب المهيمن، فالإسلاموية المعاصرة تحاول أن ترسم ملامح التاريخ الفقهي والمذهبي في المخيال العام كما لو كان واحداً واتفاقياً، مقتصراً على المدرسة التي يستند إليها هذا الخطاب، فلا بد إذن من تصحيح معالم هذا الخطأ، وإعادة الاعتبار لتاريخ الاختلاف، وتصحيح نتائج الجريمة التي ارتكبها أنصار مدرسة الحديث عندما قضوا على كل مختلف معهم.
تتبع مشروع العقلانية العربية المسلمة منذ فجر الإسلام مروراً بأهم الحلقات "المعتزلة" وحلقة ابن رشد، واكتشاف أبعاد العلاقة العضوية العقلانية بين خطابات معاصرة على رأسها خطاب الامام الأكبر محمد عبده، ومحمد اركون، والجابري، وشحرور، وتاريخ هذه العقلانية، ليس من أجل التبتل في محراب الذات الثقافية، بقدر ما هو هادف للكشف عن تاريخ فعالية العقلانية وقانونها الجدلي.

هذا المشروع على ضخامته وطموحه، جزء لا يتجزأ من مجموع الجهود التي يقدمها باحثون معاصرون من عينة السادة الذين ذكروا، ولا يعنينا أين توضع إضافتنا في الذيل أم في الصدر، بقدر ما تعنينا قضية الحراك نفسها، قضية تيار العقلانية العربية المسلمة، وهي تولد من جديد وتتحرك، إن هذا الجهد الموضوعي لو أردت أن أأصل له، لقلت هو انجاز للقطيعة الابستمولوجية مع السلف، وليست القطيعة هنا بمعنى التنكر للهوية والأنا الثقافية، بل بالعكس هي البرهان على جدلية العقلانية العربية المسلمة، أو بأقل مستوى من الطموح، إمكانية هذه الجدلية، هي محض قطيعة ابستمية (معرفية )، بمعنى أنها قطيعة في مستوى المنهج، وهنا جوهر المسألة كلها.

استئنافاً لنظر جديد، نريد أن نعيد تأصيل قضيتنا المعرفية على أسس منهجية معاصرة، وهذا جوهر معنى القطيعة الابستمولوجية كما نعيه ونفهمه، والانتقال من مستوى التوظيف التقليدي لمناهج قديمة، إلى مستوى عصرنة الخطاب بل قل عصرنة منهج فهم الخطاب الإلهي على وجه الدقة والتحديد.

إن تحرير الدراسات التيولوجية (الإلهية) ليس فقط مشروعاً لنقد العقلانية المسلمة في فهم الخطاب التنزيلي، بل في حقيقته مشروع لإعادة وعي وفهم ديانة التوحيد في مستوياتها الخطابية الثلاث اليهودية والمسيحية والمحمدية، أي أنه مشروع انتربولوجي متكامل، ولعل مشروع هيغل في حينه شكل حاضن فلسفي مثالي حاول أن يقدم في مستوى العقلانية المسيحية على الأقل، البديل الفلسفي لفهم الفكرة المطلقة، بغض النظر عن موقفنا من المثالية في حد ذاته كإعادة إنتاج لوعي الواقع يقدم المثال على المادة ويكرس الجدل في الفكر ويجعله محرك موضوعي، فإن ما يعنينا هنا أن هيغل في حد ذاته مشروع لإعادة فهم المطلق، من هنا كان يرد على متهميه بالكفر بأنه إنما "يحاول إنقاذ أسس الإيمان المسيحي".
فمن ماذا ينقذها؟

لسنا هنا في وارد الدفاع عن اللاهوت، كما لم يكن هيغل كذلك، فالله لا يحتاج لمن يدافع عنه، إنما مفصلية القضية تدور على رحى جدلية المعرفة، نظرية العلم والمعرفة، والتي هي كائن حي جدلي ينمو باستمرار، وهنا نكون أمام نموذج متناقض يحمل في أحشائه، توتر خاص، ناجم عن التعارض بين طبيعة الخطاب الديني -أي خطاب ديني - وطبيعة المعرفة الإنسانية كبنية، الأولى طبيعة تميل إلى الثبات وإلى المضمون المطلق للفكرة، والثانية تميل إلى التغيير الدائم وتجاوز نفسها بدون توقف، وجوهر الإشكالية يكمن هنا، أي بكل تركيز السؤال: هل المشكلة مشكلة خطاب ديني يفهم ويشرح أم مشكلة الدين بوصفه فكرة مطلقة؟

نحن لا نملك أن ندين المعرفة، فنحن أصلاً لا نملك سواها، ومن الجحود أن نتنكر لها في مستوى إبداعها وإنتاجها، وما تقدمه للإنسان، بل أكثر من ذلك، بكل الوضوح المبدئي نقول لا يملك الإنسان التعويل إلا عليها والثقة بها، يبقى إذن أن المشكلة لا بد، مشكلة الخطاب الديني أو مشكلة الفكرة المطلقة التي هي موضوع له، وهنا يتحدد اتجاهين في التعامل مع هذه القضية، أما الأول فهو الاتجاه الذي يسوي بين الفكرة المطلقة والخطاب الديني، وبالتالي ستقوده التسوية حتماً هنا إلى التقرير بأن الفكرة المطلقة ذاتها متجاوزة بحكم تطور السوية المعرفية الإنسانية، وأما الاتجاه الثاني وهو الذي نصنف أنفسنا ضمنه، فهو الذي يفصل ما بين الفكرة المطلقة وفهم هذه الفكرة المطلقة، ما بين الله وكيف فهم الله، ما بين خطاب الله وبين شارح خطاب الله، وهنا نقول بالقطيعة الابستمولوجية في المستوى المنهجي، إنها ليست قطيعة مع خطاب الله أو الله بل هي قطيعة مع مناهج فهمه وشرحه التقليدية، مع جذور هذا الفهم والشرح، إنها الجذور المنهجية المؤسسة التي يقوم عليها الخطاب الديني التقليدي، ولصوصه المعاصرون من أرباب الخطاب الإسلاموي التعبوي في كل مستوياته.

وبعد
فإننا لا نميز ونفصل فقط بين المطلق وفهم المطلق، بين الخطاب وشرح الخطاب، بين المنهج والموضوع، بل نميز كذلك بين المنهجية والخطاب الناتج عنها في بيئتها الزمكانية (الزمانية المكانية) وبين استلهامها وتوظيفها المعاصر، أي أننا نميز كذلك، بين الخطاب الإسلامي القروسطي (نسبة للقرون الوسطى) وبين موظفيه المعاصرين في مستويات مختلفة ولأهداف مختلفة، نعني أننا نميز بين الخطاب الإسلامي المنهجي القديم وبين الخطاب الإسلاموي التعبوي المعاصر؛ فكما أننا نرى خطأ منهجياً قاتلاً في التسوية بين الخطاب وفهم الخطاب، بين كتاب الله وفهم كتاب الله، فإننا كذلك نرى خطأ منهجي أفدح في التسوية بين أي خطاب في بيئته وخارج بيئته، لا يعني هذا أن الخطاب أي خطاب منتهي في حدوده الزمانية المكانية، فنحن نؤمن بوحدة واستمرارية فعالية التاريخ المعرفي للإنسان، من هنا فالقطيعة المعرفية لا تعني بحال إلغاء التراث، ولكنها تعني أن الخطاب الفاهم والشارح القروسطي هو موضوع للنقد المعرفي وللتجاوز بتطور أدوات هذا النقد المعرفي.

إن هذه النتيجة في مستوى تصورنا للاشكاليات التي ينبغي تفكيكها، تقودنا إلى منطقة جديدة لا بد من إضاءتها، وهي نسبية المعرفة، من هنا تحدثنا ولا زلنا نتحدث عن ظاهرة عمى الزمن، فعندما يسأل أحدهم من يقدم فهماً جديداً مختلفاً للخطاب الإلهي: "هل نفهم أن أحداً قبلك لم يعرف مراد كلام الله؟! أو هل كل الذين سبقوك كانوا على خطأ؟!"

هو في واقع الأمر يمسك بقلمه ليشطب على تاريخ المعرفة بالكامل بجرة قلم، فهو يلغي الحدود، ويجعل شرط الفهم والمعرفة واحد بغض النظر عن فروق المكان والزمان، ناسياً (وهذا عمى الزمن الذي نتكلم عنه) الطبيعة الجدلية المتطورة للمعرفة الإنسانية والبيئة الاجتماعية الاقتصادية لكلا الخطابين والفهمين، بمعنى أخر، أن مقارنة الخطاب الفاهم والشارح لنصر أبو زيد مثلاً بالخطاب الفاهم والشارح لابن تيمية معناه أننا نلغي ونختزل الفروق المعرفية للبيئة فيما بينهما، إن المقارنة هنا تتطلب أن يكون الفهمين والخطابين تحت سقف معرفي واحد، أي أن يكون نصر أبو زيد عائشاً في زمان ومكان ابن تيمية أو العكس، وينسى أعمى الزمن المعاصر من مقلدي ومقتفي الأثر التقليدي، أننا لو عكسنا الآية فسننتج مهزلة وملهاة هائلة الضخامة، وما أسهل أن نستعرض عضلات العصر المعرفية في وجه ابن تيمية وغيره من معاصريه وسابقيه، فنتساءل مستنكرين مثلاً: ما هذا الغباء كيف لم يفهم هؤلاء حركة الكون والكواكب والنجوم، كيف يقولون أن الله يعني هنا أن الأرض على قرن ثور؟!!!!!!!!!!!!! أو كيف يقولون أن داجن نسخت كتاب الله بأن أكلت آيات منه؟!!!

بطبيعة الحال إننا لو طرحنا الاستنكار بهذه الطريقة، نكون أيضاً مصابون بعمى الزمن، ولكنه عمى زمن في الاتجاه المقابل، وهو بالمناسبة موجود وبكثرة، وعلة كليهما واحدة وهي إلغاء الفروق الابستمولوجية بين الخطابين وكأنهما ينتسبان إلى سقف معرفي واحد.


(3) بنية المرجعية التراثية - الناسخ والمنسوخ واسباب النزول

"ومعنى التأويل هو إخراج دلالة اللفظ من الدلالة الحقيقية إلى الدلالة المجازية، من غير أن يخلّ في ذلك بعادة لسان العرب في التجوّز، من تسمية الشيء شبيهه أو بسببه أو لاحقه أو مقارنه، أو غير ذلك من الأشياء التي عُدِّدت في تعريف أصناف الكلام المجازي"- ابن رشد (1)

"...أجمع المسلمون ليس يجب أن تحمل ألفاظ الشرع كلها على ظاهرها، ولا أن تخرج كلها عن ظاهرها بالتأويل. واختلفوا في المؤوّل منها من غير المؤوّل: فالأشعريون مثلاً يتأوَلون آية الاستواء، وحديث النزول، والحنابلة تحمل ذلك على ظاهره" ابن رشد (2)

شهدت حركة فهم الكتاب تطوراً متسارعاً وملحوظاً في صدر تاريخ الدعوة المحمدية، والحق أن أكبر كذبة حاولت مدرسة الحديث تكريسها لمصادرة كتاب الله، هي الزعم بأن الحديث المنسوب للرسول الأعظم يشرح الكتاب، إذ أن أول سؤال يتبادر أين المدون في شرح سورة البقرة مثلاً أو آل عمران؟!
أين هو شرح سورة مريم أو يوسف؟
لا يوجد
إذن لنا أن نسأل لماذا حرص النبي الكريم على أن لا يشرح الكتاب؟
لماذا لم يحدد لنا فهم معين لهذا الكتاب؟ فيتناول آياته وسوره بالتفصيل الممل، شارحاً وموضحاً ومعطياً لأمثلة؟
الملاحظ بوضوح أن دين مدرسة الحديث يقوم على مجموعات هائلة الضخامة من الأحاديث المقتضبة، في مواقف هنا وهناك يقول هذا أو ذاك أنه سمع النبي الكريم يقولها.
أليس غريباً أن يكون النبي الكريم كما زعموا حريصاً على شرح الكتاب وآياته بنفسه، فلا يكون لدينا حديث مدون له في كتاب ثان، يتولى هو فيه الشرح بنفسه ويتخذ لهذه المهمة مجموعة من الكتاب، ويميز حديثه الشارح هذا عن كتاب الله؟
من الواضح تماماً وبلا شك أن آيات الكتاب، تختلف تماماً في بنيتها وطريقتها عن ما يسمى بالحديث، فما زعموه من الخوف من اختلاط الحديث بالآيات ليس بحجة، فالفرق واضح لا مجال للبس فيه، وهم عموماً وقعوا في حيص بيص جراء الآحاديث الناهية عن كتابة أحاديثه، فأرادوا دفع ذلك بأنه قاله خوفاً من اختلاط الآيات بالأحاديث، ولكن هل اندفع هذا عندما -كما نسبوا إليه- امرهم بكتابته؟
يعني إذا كان أول الأمر خشي من أن يختلط حديثه المدون بالمدون من آيات الكتاب، فهل اندفع هذا السبب عندما عاد وأمر بكتابته؟
ثم
ألم يكن حديثه الأول الذي نهى عن تدوينه وحي؟ أم أن حديثه أصبح وحي بعد ذلك؟
جيد، إن كنا سنسلم بأنه أمر بتدوين حديثه، فالأولى إذن أن يكون لدينا دروس مفصلة شارحة للكتاب، فلماذا لا يوجد لدينا مثل هذا الشرح؟!
فهل كان النبي الكريم عاجزاً عن الجلوس في مسجده لدروس منتظمة يقعد فيها في حلقة بين اصحابه ويشرح لهم آيات الكتاب ومقاصدها تفصيلاً، كما يفعل المفسرون في دروسهم؟
ألا يدلنا هذا على شيء؟
ألا يدلنا على حرص النبي الكريم على أن لا يقدم تفسيراً حصرياً لهذا الكتاب؟
سواء بوحي أو بدون وحي، لماذا هذا الحرص على تجنب التفسير من قبله؟ بل أنهم نسبوا إليه الكثير من الأحاديث التي امتنع فيها عن الخوض في التفسير.
بل أن أصحابه كانوا يدركون، وجود فرق بين محمد بصفته رسول الله الذي يتلقى الوحي من السماء، ومحمد النبي الكريم الإنسان، الذي يجتهد في الفهم والتطبيق ويحمل اعباء الدعوة ويخالط الناس ويمشي بالاسواق ويتزوج النساء...الخ
فلم يعترض كما نسبوا إليه على الرجل الذي برز له يوم بدر سائلاً عن الموقع الذي اتخذه للجيش، أهو من قبيل الوحي أم من قبيل الرأي والحرب والمشورة، فقال له ما معناه بل الرأي والحرب والمشورة، فأشار عليه أن يتحول إلى أبيار بدر.
ومن مثله حادثة تأبير النخل، التي طالما توقفت عندها لأسأل، إن كان ما يصدر عنه من قول وحي بالجملة فهل كان رأيه الخطأ وحي في هذه الحادثة؟ يعني هل أوحى له الله بالرأي الخطأ؟!
وليس في هذه الحادثة فحسب، بل كذلك في: {عبس وتولى} (عبس) و {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (الأنفال: 67) لاحظ هنا أن الخطأ المنسوب له اينما ورد في الكتاب فينسب للنبي وليس للرسول، المهم سؤالنا: إذا كان كل ما يقوله ويفعله بوحي فهل كان عبوسه واتخاذه الاسرى وامره بتأبير النخل...الخ وحي؟ يعني هل أوحى له الله بالفعل الخطأ ثم أنزل الآيات تستنكر فعله ذاك؟!!!!
وبعد
شهد منهج فهم التنزيل الحكيم الكثير من التطور في صدر التاريخ العربي الإسلامي، حيث لم تكن المنهجية الرسمية المعتمدة قد اكتملت بعد وأخذت سمة القداسة، لهذا من الأهمية بمكان أن نتتبع تلك الحركة التطورية لنفهم طريقة تكوينها التاريخية، ذلك إننا نجد تطوراً ملحوظاً لعلم المجاز اللغوي على سبيل المثال في دراسة التنزيل الحكيم، والذي كان للمتكلمين فيه قدم السبق وبخاصة المعتزلة، العلم الذي يقوم أساساً على إيجاد المعنى المجازي إذا ما تعارض ظاهر اللفظ مع ما أدى إليه المنطق العقلاني عندهم، وعلى هذا الأساس شيد علم التأويل، أي كان هدفه إزالة التعارض بين ما أدى له التفكير العقلاني وما يؤدي له ظاهر الخطاب، كما بين ابن رشد في الاشتهاد الذي سقناه في صدر هذا القسم، ولم تعرف بنية العقلانية الفاهمة للمصحف ثباتاً أو اتفاقاً تاماً في القرون الأولى التي عاش فيها الجيل الاول والثاني وحتى الثالث، ورغم المحاولات المعاصرة الحثيثة في الزعم أن فجوة الخلاف بينهم كانت هامشية، إلا أن دراسة آثارهم تؤكد لنا عكس ذلك تماماً، فقد كان اختلافهم في التأويل اختلافاً جوهرياً وليس ظاهرياً، أساسياً وليس ثانوياً، وجميع الفرق التي ظهرت في القرنين الأول والثاني بدون استثناء تأولت النصوص، وتناقضت تأويلاتها فيما بينها في أمور العقيدة نفسها، مما يجعل الكلام عن الإجماع مجرد زعم واهم لا أساس له من الصحة، بل إن الإجماع المزعوم إن وجد، قد كان في هذا بالذات، كما قال ابن رشد الحفيد أن المسلمين إنما كان إجماعهم على ضرورة التأويل وتعارضهم في نتائجه، كما بينا في ما اقتبسنا الثاني عنه أعلاه، كانت النتيجة التي خلص لها ابن رشد هي استحالة الاجماع في أي عصر أو مصر.
كان الاجتهاد والتأويل قد تطور بشكل واسع خلال قرنين أعقبا ظهور الرسالة المحمدية، فقد كانت الثقافة العربية قبل الإسلام من منتجات البيئة الصحراوية. وبعد ظهور الرسالة المحمدية، في القرن الثامن، امتدت سيطرة العرب من أتباع الرسالة المحمدية وانبسطت رقعة دولتهم لتبتلع مناطق شاسعة خلال أقل من قرن، زخرت بألوان وأنواع من التكوينات الثقافية الأكثر رقياً من منظومة الثقافة العربية قبل الرسالة المحمدية في مناحي عديدة، إن عنصر القوة الرئيس في الثقافة العربية كان ذاك المستمد من رحم الرسالة نفسها، ممثلاً بالقيم الأخلاقية الإنسانية للدعوة الجديدة ورسالة توحيد وتنزيه الله، وقد ظهرت هذه القوة القيمية رغم عوامل التثبيط التي فرضتها طبيعة الثقافة العربية بمستويات متفاوتة، متفوقة على ما يناظرها لدى الشعوب الأخرى، لهذا نعتقد أن المضمون القيمي للرسالة المحمدية كان ولا يزال متقدماً بمراحل على القيم التي تعبر عنها ثقافتنا العربية فعلاً، إذن كانت هذه الحمولة الحضارية القيمية، في ذات الوقت الذي لم تكن لغة العرب نفسها قد وصلت مستوى أصبحت معه صاحبة أثار أبجدية مدونة، ذلك أن الحروف العربية المكتوبة كانت تقبل أكثر من قراءة، وكانت ثقافة المشافهة مهيمنة في حضورها، ذلك أن الاستخدام الفعلي الواسع التداول للأبجدية لم يبدأ عند العرب على نحو فعال إلى بعد قرن من وفاة الرسول الأعظم محمد بن عبد لله.
إذن كان من الطبيعي اعتبار المصحف بالذات نقطة انطلاق تاريخ العقلانية العربية، لا يعني ذلك أنه لم يكن للعرب ثقافة قبل المصحف، لكنه يعني أن التاريخ الثقافي العربي المدون إنما بدأ بالمصحف، فالمصحف هو أقدم كتاب بالأبجدية العربية، وحتى بعض النصوص التي ثبتت صحة نسبتها لأزمنة سابقة تميزت بعدم نضج الأبجدية المستخدمة فيها، بل أن الأبجدية التي استخدمت في كتابة التنزيل الحكيم لم تكن ناضجة بعد، بحيث لا يحسن قراءته بها إلا من حفظه أصلاً، والنتيجة كانت انتشار اللحن في قراءته، حتى تم ضبط الأبجدية على نحو صحيح على يد أبو الأسود الدؤلي (605- 688) - عندما فشا اللحن باختلاط العرب بالعجم، فوضع الحركات على شكل نقط، ثم أكمل عمله تلميذاه: يحيى بن يعمر، ونصر بن عاصم في عهد عبد الملك بن مروان وبأمر من الحجاج بن يوسف الثقفي وقيل أن من أمر أبو الأسود هو علي بن أبي طالب وقيل بل زياد عامل الأمويين في العراق، ما يعنينا أن نقط الحروف العربية لم يبدأ إلا بعد نصف قرن على الأقل من وفاة الرسول الأعظم كما روى لنا الإخباريون، فيما تأكد لنا نسخ المصحف الأقدم غير المضبوطة والمنقوطة، أن الأبجدية العربية لم تنضج إلا بعد وفاة الرسول الأعظم بعقود، فسواء قبلنا خبر أبو الأسود ويحيى بن يعمر ونصر بن عاصم أم شككنا فيه، الأصل ما أكدته المعرفة المادية بالمخطوطات، ذلك أن الكتابة الأبجدية العربية لم تنضج إلا بعد وفاة الرسول الأعظم بنصف قرن على الأقل•.
تحت الضغط الثقافي للمناطق التي سيطر عليها العرب وأصبحت واقعة في قبضة دولتهم، هذه المناطق التي لها تاريخ حضاري عريض، وجد القادمون الجدد أنفسهم يواجهون التحدي الرئيس والمتمثل بهضم الإرث الحضاري الذي قابلوه في هذه المناطق التي سيطروا عليها، لم تكن المهمة سهلة أبداً، في مواجهة هذا التراث الضخم، لشعوب وثقافات سابقة، كان لها إسهامات هامة في بناء حضارة الإنسان، واستيعاب ذلك كله وهضمه، في الوقت الذي كانت فيه الأبجدية العربية نفسها غير ملائمة للكتابة والتأليف، والثقافة العربية لا زالت تعتمد على السماع؛ فهي ثقافة مشافهة لم تتحول بعد للكتابة والإنتاج الفكري باستخدام الأبجدية. لقد كان للإيمان القوي والولاء القبلي والتنظيم الجيد الدور الرئيس الذي أهلهم لهذه المهمة، إضافة بطبيعة الحال للظروف الموضوعية، التاريخية، الاقتصادية والاجتماعية، والسياسية، للعالم القديم في تلك المرحلة الحرجة من تاريخ الإنسانية.

للأسف تعتمد محاولات دراسة التاريخ العربي لمرحلة ما بعد البعثة المحمدية، على مناهج ومصادر تقود إلى فهم مشوش وسقيم أكثر مما تقود إلى فهم علمي سليم، ولعل المشكلة الأكبر آتية من طبيعة المنهج الإخباري، والاعتماد على كتب الرواة والإخباريون في فهم التجربة، وأخطر ما في ذلك هو رفع منهجهم فوق مستوى النقد وإضفاء صفة القداسة عليه كما لو كان منهجاً إلهياً، بالتالي أصبحنا أمام وعي مؤسطر ينزع إلى تقديس التجربة ورفعها فوق مصاف بيئتها التاريخية والموضوعية، وعي وسع دائرة المقدس لتشمل كل التجربة، ففقد شخصوها إنسانيتهم في وعينا، وأصبحوا شخصيات أسطورية مفارقة للواقع فضلاً عن مفارقة الظروف البيئية التاريخية، الاجتماعية، والاقتصادية، التي صدروا عنها.

نعجب كل العجب، من هذه المحاولة لأسطرة الوعي بالتجربة وشخوصها، إلى الدرجة التي بات فيها المنهاج المعتمد متعارض عمودياً مع التنزيل الحكيم نفسه، ذلك أن أهل الرواية والحديث، إنما اعتمدوا على منطلق أساس هو أن صحابة الرسول الأعظم كلهم عدول، وأن كل مؤمن عرفه وعاصره ولو يوماً يعد من الصحابة. نقول إن ذلك متعارض مع التنزيل الحكيم نفسه لقوله وتعالى:{وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ*}[التوبة: 101]، يتحدث هنا عن منافقين أعراب ومنافقين في المدينة، وينفي علم النبي الكريم بهم، والطريف أن شرط الصحبة على منهاج الرواة يتحقق في المنافقين الذين لا يعلمهم حتى النبي الكريم محمد، إن هذه الآية من سورة التوبة، تقطع يقيناً بأن تعديل الرواة لكل من آمن ورأى النبي أو عاش معه في مدينته ولو يوماً واحداً، واعتبارهم إياه صحابي عدل، خطأ جسيم، ورأي متعارض كما قلنا مع صريح التنزيل الحكيم.
ناهيك عن التعارض العمودي بين تعديلهم وإضفاء صفة الصحبة عليهم جميعاً وبين قتالهم وقتلهم بعضهم لبعض في الجمل وصفين، فبما أن بعضهم قتل بعض وكلاهما مؤمن، فماذا نفعل بقوله تعالى:{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}[النساء: 93]، فإذا قيل لنا أن أحد الطائفتين على حق ويجب قتال الثانية مصداقاً لقوله تعالى:{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ*}[الحجرات: 9]، قلنا مما لا شك فيه أن أحد الطائفتين المتقاتلتين على الأقل باغية، أو كلتيهما، أما أن الطائفتين معاً على حق وصلاح وصواب، فمما لا يستقيم عقلاً وديناً، فإن ذهبنا مع من ذهب إلى أن أحد الطائفتين لا كلتيهما على باطل جرحنا التي هي على الباطل بحكم التنزيل الحكيم، وإن قلنا أن كلتيهما معاً على باطل جرحنا كلتيهما، وفي الحالتين لا يستقيم أبداً أن نقول فيهم جميعاً صحابة عدول.
هذا ما جعل عمرو بن عبيد كما نسب إليه، وهو من أعلام المعتزلة، وإليه وواصل بن عطاء ينسب تأسيسها، يرفض شهادة فريقي معركة الجمل معاً ذلك أنه "قال: لا أقبل شهادة الجماعة منهم سواء كانوا من أحد الفريقين أو كان بعضهم من حزب علي وبعضهم من حزب الجمل"(3)
إن عملية أسطرة الوعي بالتجربة التاريخية وصل إلى حد تقديس صحيح البخاري في الذهن العام، إلى درجة تقديمه في الصحة على كل الكتب الأخرى ما عدا المصحف، بحيث استقر بوصفه أصح كتاب بعد كتاب الله، لدرجة أن العامة أصبحت تستعمل عبارة "وهل أخطأنا في البخاري" عندما يردّ أحدهم على من يستنكر عليه خطأه في أمر ما.
بل راح من يفتي، يعظم من شأن صحة كتاب البخاري، ويقدسه، إلى درجة جعله آية من آيات الله: " قال رجاء الحافظ: فضل محمد بن إسماعيل على العلماء كفضل الرجال على النساء، وقال: هو آية من آيات الله يمشي على ظهر الأرض ويقول محمد بن إسحاق بن خزيمة: ما رأيت تحت أديم السماء أعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحفظ له من محمد بن إسماعيل (البخاري).ولذا كان صحيحه، وصحيح الإمام مسلم الذي قيل في ترجمته ما قيل في الإمام البخاري من حيث الحفظ والإتقان والزهد والعبادة محل قبولٍ عند الأمة، لتوافر شروط الصحيح فيهما في أعلى درجاته، ولا يطعن فيهما إلا مبتدع ضال، يهدف من وراء تشكيكه فيها إلى هدم مبنى الشريعة… ويقول أبو المعالي الجويني: لو حلف إنسان بطلاق امرأته أن ما في كتابي البخاري ومسلم مما حكما بصحته من قول النبي صلى الله عليه وسلم لما ألزمته الطلاق ولا حنثته لإجماع علماء المسلمين على صحتهما. "(4)
لا يكتفي فضيلته بجعل فضل البخاري على سائر العلماء كفضل الرجال على النساء (مع ما في هذا من فهم مغلوط للتفضيل)، بل أنه يجعل من يشك في البخاري ومسلم، بالطبع يقصد هنا ما جاء في صحيحيهما، مبتدع، وضال، وهادف إلى هدم مبنى الشريعة، بل لو حلف على الطلاق أنه ما فيهما خطأ لما ألزمه ذلك!
وهكذا يضحي كتاب البخاري وكتاب مسلم على خط واحد مع كتاب الله نفسه، طالما أن الشك فيهما ابتداع وضلال وهدم لمبنى الشريعة، فضلاً عن أنهما منزهين تماماً عن أي خطأ!
لا ينتهي الأمر عند كتب الحديث، بل يتجاوزها إلى ما هو أبعد، إلى علوم وضعها السلف لفهم التنزيل الحكيم، فما لبثت أن حلت محله، وأضحينا كلما رمنا دراسة التنزيل الحكيم، نجد كل ما يتعلق بالسلف، وبأفكاره، وقيمه، وعاداته، وطرائقه، إلا التنزيل الحكيم نفسه، من هذا علوم الناسخ والمنسوخ، وأسباب النزول.
لقد بلغوا بالنسخ حداً لا نعود بعده نجد من آيات التنزيل الحكيم ما استمر عمله إلا النذر اليسير، نكتفي هنا بمثال صارخ ، هو ما قدروا أن الآية التي سموها آية السيف نسخته، وهو أكثر من مئة آية، بل كثر من ذلك قالوا أن آخرها نسخ أولها، إذ نقل لنا أن ابن عربي قال فيها أنها نسخت مائة وأربعاً وعشرين آية في المصحف، ليس ذلك فحسب، بل هي نفسها بعد ذلك نسخ آخرها أولها!
"قال ابن العربي كل ما في القرآن من الصفح عن الكفار والتولي والإعراض والكف عنهم فهو منسوخ بآية السيف وهي فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين . . الآية نسخت مائة وأربعا وعشرين آية ثم نسخ آخرها أولها"(5)
وصل الأمر بهم إلى حد نسخ آيات المصحف بالمرويات التي أثبتوها عن الرسول الأعظم، كما نقل لنا البغدادي، إذ كتب يقول: "ذهب إلى جواز نسخ القرآن بالسنة المتواترة جمهور المتكلمين من الأشاعرة والمعتزلة ومن الفقهاء مالك وأصحاب أبي حنيفة وابن سريج من الشافعية...وزاد الحنفية أنه يجوز نسخ القرآن بالسنة المشهورة...أما نسخ القرآن بخبر الواحد فمنعه الجمهور واجازه بعض أهل الظاهر منهم ابن حزم...وذهب قوم منهم الغزالي والقرطبي والسرخسي وأبو الوليد الباجي إلى جوازه في زمن النبي عليه السلام وعدم جوازه بعده" (6)
من النسخ الذي يتكلمون عنه أيضاً نوع أدى لحذف آيات باكملها من التنزيل الحكيم، أي كانت هناك فيه آيات تم حذفها منه نهائياً! آيات كانت موجودة ولم تعد موجودة أصلاً! وللأسف هذا ما استقروا عليه وليس بالرأي الغريب أو الذي أختص به جماعة منهم دون أخرى، ذلك أن النسخ عندهم "على ثلاثة أقسام: أحدهم : ما نسخ رسمه وبقي حكمه، كآية الرجم...والقسم الثاني: ما نسخ حكمه ورسمه معاً، كالعشر من الرضعات عند الشافعي وأصحابه. والقسم الثالث: ما نسخ حكمه وبقي رسمه..." .(7)
ذهبوا كذلك إلى أنهم يعرفون آيات نقلت إليهم كانت جزء من المصحف ولكنها حذفت منه، أي أنهم يعرفون هذه الآيات ويعرفون أنها كانت جزء من المصحف، وليس لديهم أي تفسير لماذا خذفت هذه الآيات منه؟!!!
نذكر من هذا ما رواه البخاري ومسلم من حديث أنس مرفوعاً، وكذلك رواه أحمد بن حنبل في مسنده ونقله الزركشي " ما بقي رسمه وحكمه، ولا نعلم الذي نسخه، كالمروي أنه كان في القرآن { لو كان لابن آدم واد من ذهب ، لابتغى أن يكون له ثان . ولا يملأ فاه إلا التراب، ويتوب الله على من تاب } رواه البخاري ومسلم من حديث أنس مرفوعا، ورواه أحمد في مسنده. وقال: كان هذا قرآنا فنسخ خطه. قال ابن عبد البر في التمهيد: قيل: إنه في سورة ص ... وأخرج الحاكم في مستدركه من حديث زر بن حبيش ، عن أبي بن كعب أن النبي قرأ عليه: لم يكن، وقرأ فيها: {إن ذات الدين عند الله الحنيفية لا اليهودية ولا النصرانية، ومن تعجل خيرا فلن يكفر} قال الحاكم : صحيح الإسناد ...منه قول من قال: إن سورة الأحزاب كانت نحو سورة البقرة والأعراف" (8)
بل ذهبوا إلى أن بعض آيات المصحف نسختها داجن، ونسخ بعضها الآخر أيضاً أن عثمان لما جمع المصحف لم يتسنى له جمعها فيما جمع فاعتبرت منسوخة من الكتاب!
" قالت عائشة: لقد نزلت آية الرجم ورضاع الكبير وكانتا في رقعة تحت سريري، وشغلنا بشكاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخلت داجن فأكلته ... وأثبت ابن مسعود: بسم الله في سورة البراءة. وقالت عائشة: كانت الأحزاب تقرأ في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم مائة آية، فلما جمعه عثمان لم يجد إلا ما هو الآن وكان فيه آية الرجم، وأسقط ابن مسعود من مصحفه أم القرآن والمعوذتين."(9)

تتوالى المشكلة في مستوى علم أسباب النزول، بشكل يجعلنا ونحن نطالع ما دوّنوه لا نملك إلا رفضه، فإما أنه لا يمكن فهمه إلا بهذا العلم فكان الأولى أن تصير أسباب النزول مادة لازمة مع الكتاب لها درجته من التوثيق والمكانة، وإما أنه لا يحتفى بأسباب النزول هذه إلا ما أفصح عنها التنزيل نفسه؛ من مثل قوله :{عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى}[عبس: 1-7]، وقوله :{لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ * }[التوبة: 25-26]، وقوله: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ *}[الحج: 39-40]…الخ. فلو قيل بل هناك أسباب نزول لم يذكرها التنزيل ولا يستقيم فهمه إلا بمعرفتها، قلنا: إن كان من أسباب نزول لم يذكرها التنزيل الحكيم فإما أنه تعمد إهمالها لعدم خصوص الفهم بها فنهملها كما أهملها، وإما أنه عَمِلَ بعبثية فذكرها أحياناً وأغفلها أخرى فعلينا أن نستدركه ونجد ما أغفله هو وهذا لا يجوز على الله وكتابه.
النتيجة أن البنية المنهجية التقليدية للخطاب الإسلامي السائد واستطالاته المعاصرة تنطلق من:
1- كون التنزيل الحكيم محكوم لمرجعيات خارجه، ذلك أن التنزيل الحكيم لا يمكن فهمه عندهم إلا بالاعتماد على ما صححه الرواة من الأحاديث المنسوبة للرسول الأعظم وبخاصة ما جاء منها في صحيحي البخاري ومسلم، كذلك لا يمكن فهمه إلا بمعرفة الناسخ والمنسوخ، ومعرفة أسباب النزول، وبالتالي فإن التنزيل الحكيم كله تاريخي بالضرورة، ما كان لينزل لولا أسباب النزول، ولا سبيل لمعرفة غاية الله منه إلا عن طريق السلف، ولا ينضبط فهم مراد الله فيه إلا بمعرفة ناسخه ومنسوخه حسبما ذكروا، وأي محاولة لمقاربته وفهمه، تتطلب اليوم دراسة تلك العلوم والمعارف السلفية، دراسة مستفيضة متخصصة، وحفظها قبل استئناف عملية البحث في التنزيل الحكيم، بالتالي فإن التنزيل الحكيم بهذا كله لم يعد مبيناً كما يخبرنا: {الر تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ *}[يوسف: 1-2] إنما هو معتمد على غيره لا يفهم إلا بمعرفة تضاف إليه؛ ناسخ، ومنسوخ، وأسباب نزول، وأحداث، وروايات…الخ، فأصبح محكوماً لها بدلاً من أن يكون هو المُحَكَّم فيها.
2- حاكمية الفهم التاريخي، ذلك أنه اعتماد نفس المناهج التقليدية في التحليل والفهم، فالمنطقة المتاحة للجديد هي فقط التي لم يسبق تغطيتها، ويكون هذا الجديد بنفس الأدوات والأساليب القديمة. الحقيقة أن محاولة تقديم قراءة معاصرة لا يمكن أبداً أن تتحقق وفق هذا الشرط، لا يمكن كما قال اينشتاين أن نتوقع نتائج جديدة بتكرارنا لنفس التجربة، إن هذا الشرط معناه ضمناً إنتاج نفس القراءة، وانضباطها لنفس الشروط المعرفية المناسبة لثقافة عاشت في القرون الوسطى، بالتالي فإن لم نعي أن القداسة والثبات هما لشكل الخطاب الإلهي حصراً، وأنه ما من قداسة ولا ثبات لمناهج فهمه التي هي منتج إنساني بحت، لا يمكن أن نتقدم خطوة واحدة في علاقتنا بالمصحف.

3- الوعي الأسطوري بالتجربة التاريخية، من خلال المبالغة في تقديس السلف ومن عاش التجربة مع النبي الكريم وبعده، وخلق وعي مؤسطر بكل ذلك، وبطريقة مفضية إلى استحالة الدراسة أو النقد أو التحليل العلمي، لأن كل ما هو متصل بذلك عندهم، بات مرفوعاً فوق مستوى الطبيعة الإنسانية، وباتت معه شخوص التجربة أساطير مفارقة لواقع إنسانية الإنسان. أما الأصل فهو أن كل شيء يأخذ منه ويرد إلا كتاب الله، ولا تثبت لغيره صحة إلا بالأدلة العلمية المادية، والبراهين المعتبرة، ما لم يضحدها العلم، وبه يعرف الرجال وليس العكس، أي لا يعرف هو بالرجال.
4- ظاهرة أسلمة المعارف، فقد عمد المعاصرون من أتباع المنهج السلفي، إلى أسلمة المعارف•، فألّفوا فيما ما أسموه اقتصاداً إسلامياً، وطباً إسلامياً، وإعجاز علمي قرآني، ونبوي…الخ. كما سبق وبينا فإن هذه الظاهرة بمجملها جاءت نتاج عاملين؛ الأول هو الموقف من الآخر وتقسيم العالم في كل صغيرة وكبيرة إلى "مع" و "ضد"، والثاني هو أزمة الثقافة والهوية، ورد الفعل الحضاري على تحدي المدنية الحديثة، بالتالي كان لا بد من علوم إسلامية وأخرى غير إسلامية، وأنظمة إسلامية وأخرى غير إسلامية. فيما نعتقد أن العلم هو العلم، وليس للعلم ديانة أو قومية، والتنزيل الحكيم اشتمل على الكثير من الأفكار المؤسسة، التي من الممكن أن تعرض عليها العلوم ونتائجها والأنظمة وطباعها، وتصير أدوات العلم فعالة ومعتبرة في فهم التنزيل الحكيم، لكن التنزيل الحكيم ليس مطالباً بتقديم علوم وأنظمة شاملة دقيقة، لأن طبعه الثبات شكلاً، فيما طبيعة تلك العلوم والأنظمة التغيير والتبدل حسب الزمان والمكان، تناسباً مع نسبية المعرفة الإنسانية.
5- الفهم الحدي لا الحدودي للشريعة، فقد فهم المتقدمون وتبعهم السلفيون المعاصرون، الشريعة المحمدية فهماً حدياً لا حدودياً ، فأغلقوا عليهم وعلى من تبعهم الدوائر، وضيقوا الآفاق، وأهدروا الصلاحية لكل زمان ومكان، لأنهم جعلوها حدية، يوقف فيها على الحدود، ولم يفهموا أن هذه الحدود إنما هي حدود لمجال حركة مباحة داخلها، الغاية منها أن تحد نطاق التشريع من أدنى أو أعلا أو من كليهما، أما الإلزام بالوقوف عليها فيصيرها مرحلية صالحة لمكان وزمان دون غيره، وبالتالي متجاوزة بضرورة ما يفرضه علينا التقادم من تبدل في الأحوال، والحاجات، والطبائع، والظروف، والإمكانيات.
6- غياب النظرية اللغوية المكتملة عند السلف، ولا زال العجز مستمراً في هذا حتى اليوم، كما لا زال النحو العربي، وعموم الفهم اللغوي، بعيداً عن الانتظام في نظرية لغوية مكتملة ، ولعل أسوء تجل لهذا في ظاهرة الترادف، فلم يشوه فهم التنزيل الحكيم شيء، كما شوهه القول بالترادف، بحيث تمت التسوية بين الكثير من ألفاظ التنزيل الحكيم، وصار التنزيل الحكيم مساو للقرآن مساو للفرقان…الخ، وبالتالي أهدرت البنية الهندسية الدقيقة للَّفظ داخل التنزيل الحكيم، والعجيب أنهم قالوا بعدم صحة إحلال حرف فيه محل آخر، لكنهم مع ذلك عندما أرادوا فهمه رادفوا المصطلحات بشكل أهدر هندسته المعنوية إهداراً تاماً•، وليس هذا بالأمر الهين بل نتج عنه الكثير من سوء الفهم في معاملة مفردات التنزيل وفهمها وفي مختلف المجالات، فليس القتل كالقتال، ولا الشهادة كالشهيد، ولا الروح كالنفس، ولا القرآن كالفرقان ولا الصدقة كالزكاة …الخ ،.
كل لفظ في التنزيل الحكيم هو اقتران دلالي مستقل، له مجاله الخاص به وتتحدد دلالته داخل التنزيل وفق السياق الذي أتى به، ومجالات الألفاظ قد تتقاطع دلالياً حسب سياقاتها، إلا أنها لا يمكن أن تتطابق دلالياً مع بعضها البعض.

الحقيقة في ظل المعطيات الستة السابقة لا يمكن أبداً أن نستقبل كتاب الله بصفته كتاب لكل زمان ومكان، فإما أنه لكل زمان ومكان فيجب أن يتحرر من قبضة الكهنوت الديني وينفتح هو على القراءة وإما أنه خاص بمكونات ثقافية ومعرفية ومناهج معينة تنتمي للقرون الوسطى، بالتالي فهو كتاب تاريخي بحت.
سنحاول أن نعطي في الجزء القادم أمثلة تفصيلية لما نعنيه من اساليب في التعامل مع المصحف الشريف بعقلانية معاصرة، مستقلة عن المناهج السلفوية.


-------------------------
(1) ابن رشد، أبو الوليد محمد،(1968)، فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من الاتصال، لبنان- بيروت: دار المشرق المطبعة الكاثوليكية، ط: 2، ص: 35.
(2) نفس المصدر ، ص:36.
• ظهرت في السنوات الأخيرة بعض الأبحاث التي زعمت أن رسم المصحف جزء من الوحي، أي أن هذا الرسم الحالي للمصحف هو جزء من رسالة الرسول محمد، الحقيقة أن وجود أقدم نسخ المصحف المعروفة غير منقط يثبت أن هذه النظرية قائمة على باطل بالدليل المادي، إضافة إلى أنه لو كان هذا الزعم صحيحاً وكان رسم الكتاب جزء من الرسالة لحفظت لنا نسخة أصلية بخط النبي نفسه باعتباره مبلغ رسالة ربه.
(3)انظر الفرق بين الفرق ص/121 ، التبصير في الدين ص69، الملل والنحل للشهر ستاني 1/49.
(4)فتاوي الشبكة الإسلامية، الفتوى رقم: (13678)، بتاريخ 29 ذو القعدة 1424، المفتي: مركز الفتوى بإشراف د.عبدا لله الفقيه
(5) السيوطي، جلال الدين، الاتقان في علوم القرآن، ج: 2، ص: 64. (المصدر: الموسوعة الشاملة).
(6) البغدادي، عبدالقاهر، الناسخ والمنسوخ، تحقيق د.حلمي عبد الهادي، دار العدوي، ص: 48.
(7) نفس المصدر، ص: 52-53.
(8) الزركشي، بدر الدين بن محمد، (1994)، البحر المحيط- (كتاب النسخ)، دار الكتبي للنشر، ط1، ص: 257-258.
(9) الأصفهاني، الراغب، محاضرات الأدباء، (المصدر: موقع الوراق ج: 2، ص:10.



يليه الجزء الثاني


عمر ابو رصاع
 
عمر ابو رصاع

تاريخية المصحف

تابع

(4) القراءات المعاصرة ضرورة وجودية
(ضرورة أو حاجة انطولوجية Ontological need)

قدمنا سابقاً لمفهوم عمى الزمن، وشددنا على أن الثقافة العربية بنسختها الكلاسيكية (التقليدية) غير مؤهلة لإدراك الفروق العبر زمانية، على نحو دقيق ليست الثقافة العربية فقط بل الثقافة الإنسانية كاملة، وحتى تخوم القرن الثامن عشر، ما كانت لتدرك حركية المعاني والمفاهيم.
وحتى لا يبدو أننا نتكلم في طلاسم نقول: لم يتعرف الإنسان ويدرك الطبيعة الجدلية في الشيء إلا في القرون الثلاث الأخيرة، بمعنى أن المفاهيم عامة كانت حاضرة في الثقافة بصفتها ثوابت لا تتغير، مثل مفاهيم العقل والجمال والحق والعدل ومعنى النص...الخ

لم يكن بإمكان الثقافة الفاعلة في القرون الوسطى أن تدرك أن الحسن والقبيح مسائل نسبية، وكذلك مفهوم النص ودلالات القيم العامة كالحق والجمال والعدالة، هذه الظاهرة سميناها عمى الزمن كما سبق وبينا، نسبة لمقياس الزمن فهو المؤشر القياسي لظاهرة تطور المفاهيم الإنسانية، بمعنى أنه بإمكاننا أن نؤشر للمفهوم زمنياً ونتابع تطوره على هذا النحو، وبالتالي فإن عمى الزمن في إطار توظيفنا له كمصطلح يعني: عدم القدرة على إدراك تطور المفاهيم عبر الزمن.

نتيجة ظاهرة عمى الزمن هذه التي تكتنف ثقافة القرون الوسطى، وللأسف لازالت تكتنف الثقافة العربية في المستوى الشائع -نعني المستوى المقبول والمتبنى على نطاق جماهيري- مصابة بعمى الزمن هذا، بالتالي فهي ثقافة لا تعترف بتطور المفاهيم والمضامين، ولعل أبسط وأشهر الأمثلة هنا هو مفهوم العقل؛ لا بمعنى الآلة Mind بل بمعنى القدرة على الربط والتحليل وإنتاج المعرفة Reason ، فقد تعاملت ثقافة القرون الوسطى مع العقل هنا كما لو كان معطى ثابت لا يتغير، وبالتالي فإن الإنسان الأول يملك نفس القدرات العقلية التي يملكها الإنسان الذي يعيش في القرن الثامن أو القرن الحادي والعشرين، قد ينطبق هذا على العقل الحسي أعني العقل بوصفه آلة إدراك -جهاز وعي- Mind ولكنه بحال لا ينطبق على العقل بوصفه فكر وإنتاج معرفة وأدوات ومناهج دراسة وتحليل، نستفيد هنا كثيراً، من القسمة اللالاندية –نسبة للفيلسوف الفرنسي اندريه لالاند Lalande André - التي وظفها الجابري في مشروعه النقدي وإن كنا لا نتفق معه في توظيفه ذاك وليس هذا مقام التفصيل في ذلك، لكننا نتفق مع لالاند في تقسيمه لمفهوم العقل إلى عقل مكوَّن (بتشديد وفتح الواو) وعقل مكوِّن (بتشديد وكسر الواو) على أساس وحدة العقل الإنساني المكوِّن المنصرف للدلالة على الآلة -ولو أنه حتى هذا العقل الآلة تشير الدراسات إلى أنه هو الآخر أيضاً يتطور وراثياً بتطور وتعقد المجتمعات والوظائف العقلية- واختلاف العقل المكوَّن تبعاً لاختلاف البيئة التاريخية بما تعنيه من محتوى ثقافي ومعرفي، والمعنى الذي نريد أن نخلص إليه هنا، هو أن العقل الإنساني المنتج للفكر والمعرفة ليس آلة إدراك فحسب بل هو أيضاً آلة إنتاج فكر ومعرفة باستخدام حمولته المتراكمة لديه في ثقافته وبنيته المعرفية، ينعكس هذا بالضرورة على المنهجية (Methodology) التي تستعمل في معرفة الحقيقة والصواب، وإصدار الأحكام ...الخ.

قد نقع على بعض الآثار الدالة على إدراك أثر التغير على المفاهيم، من مثل القول المنسوب للرسول الأعظم " علموا أولادكم على غير عاداتكم فإنهم خلقوا لزمان غير زمانكم" أو بما في هذا المعنى إلا أن هذا لا يشكل حركة وعي حقيقية انعكست على المفاهيم، نعني أن إدراك ذلك الأثر بقي مقتصراً على الظرفية وليس المفهوم، من مثل رفع الحد في عام الرمادة مثلاً.

• ما فائدة هذا التقديم لمفهوم: عمى الزمن؟

فائدته التعريف بإشكالية كبرى تواجهها القراءات المعاصرة، من وجهة نظرنا وعلى نحو محدد، الميل العام إلى إنكار تطور المفاهيم، والذي يشكل عبء ضخم وقيد يحول دون الحركة إلى الأمام، الواقع أن الخطاب الإسلاموي المهيمن، يحشد خلفه الجمهور بقوة في خندق القراءات الموروثة، مستغلاً ظاهرة عمى الزمن، ليشرح خلافه مع القراءات المعاصرة ومع الآخر أيضاً، كما لو كان خلاف هؤلاء هو في واقع الأمر خلافاً مع التراث نفسه، والحقيقة أن هناك فرق جوهري بين الخلاف مع التراث وعليه وبين الاختلاف عن التراث، الأول ربما يصلح توصيفه خلافاً مع من يرفض هذا التراث رفضاً تنكرياً، بمعنى أنه يدعو للقطيعة مع التراث (يختلف مع التراث وعليه)، أما الثاني فهو يتبنى القطيعة الابستمولوجية (المنهجية) قطيعة في مستوى المنهج (يختلف عن التراث وليس معه).

إن تراثنا أنتج بواسطة مناهج تنتمي للسوية المعرفية للقرون الوسطى، وهذا عمل مشروع لمن أنتج تلك القراءات التراثية، وليس متوقعاً أصلاً من منتجيها أن يتجاوزوا حدود سويتهم المعرفية تلك، بمعنى أنهم استندوا لمعارف عصرهم وأعملوا عقولهم لإنتاج قراءاتهم، المشكلة هنا تكمن فيمن يحاول أن يقصر القراءة الصحيحة على المناهج التقليدية في القراءة والتفكير، لهذا لا يستوي في نظرنا ابن تيمية مثلاً ومن يستحضر قراءته اليوم ويتمثلها باعتبارها القراءة الصحيحة، إن القراءة بالنتيجة تستمد مشروعيتها من عصرها هي، وليس هناك قراءة عبر زمنية على الإطلاق، ينطبق هذا على الكتاب السماوية تماماً كما ينطبق على أي نص بل وبدرجة أكبر أيضاً لما للكتاب السماوي من بنية خاصة تجعله ينفتح لا نهائياً على إنتاج المفاهيم، ذلك أن قدرة العقلانية على استنطاق النص لا ترتهن فقط لسويته المعرفية –نعني سوية القارئ أو المفسر- بل كذلك إلى بنية النص نفسه، ويتوقف ذلك النص عن أن يكون منهلاً متجدداً ثرياً ومعطاء، تماماً عندما تقطع دلالته المعنوية بما يتناقض كلياً والحقيقة العلمية الدامغة، ولكن نص المصحف الذي بين أيدينا ، والحاوي للخطاب التنزيلي، لديه بنية خاصة، تجعل من المستحيل كما نرى أن نتوقف فيه مع دلالات قطعية تناقض الحقيقة العلمية، وليس هذا حكماً إستباقياً لتبرئة الكتاب، بل هو حكم يتعلق ببنية الخطاب نفسه، وهذه قضية سنتعرض لها على نحو أكثر تفصيلاً عندما نناقش آلية قراءتنا المعاصرة لكتاب الله.

• اختلاف القراءات وضياع الإجماع

يذهب العديد من النقاد للقراءات المعاصرة لكتاب الله، إلى أن هذه القراءات والتيارات الفكرية المعاصرة التي تقدم مفاهيم مختلفة لكتاب الله، ستؤدي بالضرورة إلى ضياع الإجماع على مفاهيم عامة كان لها سمة الثبات التاريخ.

بنظرنا فإن السؤال المشروع هنا هو هل التوافق حول مفاهيم عامة ثابتة هدف؟ أو هل في مصلحة المجموع ومصلحة الدين عامة أن تكون له قراءة توافقية واحدة مقبولة قبولاً عاماً؟

عبر تاريخ التجربة التفاعلية مع المصحف، فيما سمي بالمجتمع أو المجتمعات المسلمة، كانت هناك دائماً محاولات حثيثة لخلق وتثبيت القراءة الواحدة الوحيدة الممكنة، والحقيقة بنظرنا أن أحد جذور العطل العميق في العقلانية العربية ما سميناه بالتفكير الإجماعي كضد حاضر ومكثف للتفكير الجماعي، أما التفكير الإجماعي فهو الذي تتبناه وتدافع عنه الإيديولوجيات الشمولية، ذلك أنها تعتبر أن وجودها ووجود الآخر معاً أمر مستحيل، فإما هي وإما ذلك الآخر، أي أن الحوار الممكن هو في واقع الأمر حوار الإلغاء، حوار أضداد يحاول كل منهما إلغاء الآخر، يحاول أن يهيمن منفرداً، وبالتالي فلا مكان إلا للإجماع على الرأي الواحد والفكر الواحد والقراءة الواحدة، ينسحب هذا ليس فقط على قراءة الدين وفهم الكتاب بل أيضاً على النظام السياسي والمواقف الاجتماعية، حيث يكون هناك نزوع عام للإجماع على موقف ورأي وتصور واحد وهنا تستحضر كل أشكال القوة الممكنة في الصراع الإلغائي هذا، ولا يكون الإلغاء ممكناً في هذه الحالة إلا عندما تستخدم القوة والعنف بشتى الأشكال والصور لإلغاء هذا الآخر ومن ثم إقصائه تماماً.

على النقيض نجد التفكير الجماعي، والذي نعني به اشتراك الجميع في التفاعل وفي التفكير وفي صناعة القرار، حالة مختلفة كلياً، ولا شك أيضاً أن حالة الصراع قائمة في هذا التفاعل بين المختلفين أيضاً، إلا أن الفرق الجوهري بين التفكير الإجماعي والتفكير الجماعي، هو أن الأخير يحافظ على وحدة وبقاء المختلفين داخل بنيته، وهنا لا بد من اشتراط الحد الأدنى المطلوب من الحقوق حتى لا ينزلق المجتمع نحو محاولة الإلغاء وخلق الإجماع.

فالجدل يبقى قائماً ومستمراً والتوتر المنتج كذلك في ظل التفكير الجماعي لأنه يحافظ على ديمومة الصراع الخلاق، بينما ينتفي هذا الجدل والتوتر المنتج في حالة إعدام النقائض وفرض الإجماع، تماماً نقول مطمئنين هنا أنه عندما كان الاختلاف موجوداً بين المسلمين في القرون الأولى وكان هناك تنوع مذهبي وفكري وعقائدي كان هناك حالة من التفكير الجماعي، وفي اللحظة التي هيمن فيها منطق ضرورة فرض الإجماع وإلغاء أو إعدام البدائل وتحول إلى حقيقة واقعة توقفت العقلانية العربية عن الإبداع.

ناهيك عن أن الإجماع مجرد اختراع تبريري للقمع لا أكثر ولا أقل، والحق أن مراجعة تاريخ الاعتقاد المؤمن برسالة محمد يقطع لنا كلياً بما ذهب له ابن رشد الحفيد من أنه لم يكن هناك إجماع على الإطلاق في تاريخ الفقه والاعتقاد عند المسلمين.

ثم أن الإجماع معناه ابتداء أن لا يكون الرأي محل الإجماع مختلف عليه ولو من قبل الواحد، فلا تنفع فيه الكثرة، فلو أن واحداً كسر الإجماع لانتفى ذلك الإجماع بالضرورة، فكيف إذن يصلح الإجماع حجة على من كسره؟!

أما الأخطر فهو أن الإجماع كمفهوم كرس عبر التراث في قناته التي هيمنت، في الواقع الأمر هو أداة لمنع التفكير وحظر موضوعات الرأي عن أن تكون موضوعات للرأي كما هي فعلاً، فعندما نقول أن الجمهور مثلاً أجمع على كذا في هذه المسألة، فكأنما نقول على من يتبع أن يأخذ هذا المجمع عليه كما هو، وليس له أن يفكر فيه أصلاً ببساطة لأنه مهما فكر فيه، عليه أن يتذكر دائماً أنه موضوع فيه رأي مجمع عليه، وبالتالي فليس من الممكن ولا من الحق أن يخرج القارئ الجديد هذا برأي يخالفه فلماذا يفكر فيه أصلاً؟!

إن القول بالإجماع حجة معناه النهائي إغلاق دائرة المفكر فيه والذي فيه رأي، إنه عملية تضييق للخناق على الآخر، وبالنتيجة تحويل البنية كلها إلى بنية مقدسة وأسطورية وغير قابلة لإعادة الوعي أو الإنتاج أو القراءة.

الانطولوجي Ontology أو علم الكينونة أو الوجود، هي ذلك المبحث الفلسفي الذي يهتم بدراسة ما هو موجود وخصائص هذا الوجود وعلاقاته البينية، والانطولوجيا المعاصرة تكاد تنفصل مستقلة عن الميتافيزيقيا، لتصبح مختصة في دراسة الظاهر (الظاهراتية) ، ونحن نعني هنا تماماً الوجود الموضوعي للمجتمعات على نحو دقيق ذلك الخاص بالهوية.

كتاب الله لا يستعمل مصطلح العقل أو مشتقاته للدلالة على التفكير أو الوعي أو الإدراك الحسي، إنما المصطلحات ذات العلاقة هي القلب والفؤاد الأول بمعنى Reason والثاني بمعنى Mind، الأول يدل على التفكير وانتاج المعرفة والعلم واتخاذ مواقف نتيجة اختيار مدرك ورابط وسببي، والثاني للدلالة على آلة التفكير والإدراك المرتبطة بالظواهر الحسية السمع والبصر؛ فالفؤاد هو مكان ربط الدال بالمدلول أي هو ترجمان الإحساس إلى علاقات فكرية أو دلالات مدركة عقلياً، أما القلب فهو الدال في الكتاب على التفكير وانتاج المعرفة وتحليل وتركيب علاقات معقدة من العمليات العقلية، فالفؤاد لا إرادي والقلب إرادي، فليس القلب هو العضلة الضاخة للدم في جسم الإنسان بحال بل هو ما اصطلح على تسميته بالعقل في ثقافتنا.


(5)القراءات المعاصرة ضرورةوجودية 2
(ضرورة أو حاجة انطولوجية) (Ontological need)

إذا كانت الشعوب العربية ومن ورائها المسلمة عموماً قد دخلت رقدتها الطويلة منذ أواخر القرون الوسطى، فإن الإنسانية استأنفت مسيرة الحضارة في أوربا، ولا شك أنها ابدعت الكثير حضارياً، الشيء الذي انعكس بشكل واضح ليس فقط على المنظومة الفكرية والقيمية والقانونية ونظم الدولة، بل كذلك على الواقع المادي الملموس بشكل أساسي.
وقد حملت أوربا المستعمرة معها هذه النماذج إلينا، أو على الأقل حملت معها ما كان كافياً لإحداث الصدمة الحضارية، وإثارت التساؤل لماذا تقدمت الإنسانية وتخلفنا نحن عن الركب؟!

كان لهذه الصدمة أن تشعل شرارة التنوير التي تحولت مشعلاً حملته حركة التحرر الوطني في مطلع القرن العشرين، وعبر عنها أمثال خير الدين التونسي ومحمد عبده وسعد زغلول والحسين بن علي…الخ

وكان الموقف الرئيس الذي هيمن على الثقافة العربية، اختيار التوفيقية بين الحداثة القادمة من الغرب وبين الموروث الثقافي العربي، ضداً على حركة أخرى كانت تدعو إلى ضرورة تمثل الغرب في نظمه وإحداث قطيعة شاملة مع التراث، الموقف الذي كان يبدو غير عملي لأنه أشبه بالمطالبة بإلغاء الهوية وهو أمر لا يمكن تصور أمة تستسلم له، بالمقابل فإن الموقف التوفيقي اصطدم مشروعه وتفكك على صخرة حقيقة عدم التلاءم، ونعني بعدم التلاءم هنا اختلاف المرجعية المنهجية لكل من الثقافتين، الأوربية المنتجة للحداثة والعربية التقليدية.

لقد كانت محاولات التوفيق بين الموروث والحداثة، محاولة في واقع أمرها لتوفيق ما لا يتفق وبالتالي لم يكن مناص من انقلاب التوفيق إلى التلفيق بالضرورة، وبالتالي فإن ذلك المشروع الوطني عامة وجناحه الفكري خاصة معاقاً منذ انطلاقته الأولى لأنه يريد أن يستولد من العدم، فالاستئناف على قاعدة التوفيق أمر يستحيل عملياً، وفرض التراث الثقافي العربي سطوته عندما تبدى بفكرة المستبد العادل التي طرحها أولاً جمال الدين الأفغاني مستوحياً من التراث في الذهن الذي دفعه لتلك الصياغة شخصيات عربية في التاريخ كان لها ذلك الدور الرائد، إلا أن الفكرة ما كان لها أن تلد إطلاقاً فضلاً عن أن تصمد عندما تجلت للجماهير العربية بشخصية الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، لأنها حقيقة موضوعة في مواجهة بنية أقوى وأمتن وأكثر تطوراً، نعني بنية الدولة المدنية الدستورية بمقوماتها المادية المتفوقة ومنظومتها الأرقى وإنسانها الأطور.
إن دولة صغيرة مصطنعة من حجم اسرائيل كانت كافية بدعم غربي لإجهاض المشروع وإلحاق هزيمة تاريخية ليس فقط بعبد الناصر ومشروعه بل بحلم النهضة العربي.

وما كان للمشروع أن يتمخض عن أي تطور نقدي يتجاوز به هزيمته ذاتياً وجدلياً لأنه في الأصل مشروع شمولي ايديولوجياً وغير مؤسس، أهدر أول ما أهدر القيم الحضارية الإنسانية الفردية التي انتجتها الحضارة الإنسانية إبان الثورتين الفرنسية والأمريكية.

لسنا هنا في وارد تحليل التجربة التاريخية على أهميتها، بقدر ما يعنينا التنبيه على أن تجلي الفكرة في المستوى السياسي كان نفسه في المستوى الفكري والنقدي؛ هذا ما يجعلنا دائماً نؤكد على أهمية طه حسين رائداً ليس في الحقيقة للقيمة المعرفية لما كتبه بقدر ما هو لإدراكه لأهمية وجوهرية فكرة القطيعة المعرفية في مستوى المنهج الذي حاول أن يتبناها ويفعلها عندما لجأ لتوظيف المنهج الديكارتي في دراسته للشعر العربي.

نعتقد أن توظيف مناهج المعرفة الإنسانية، في الدراسة والفكر عامة وفي الدراسات التيولوجية خاصة بقي بعيد المنال، فحتى طه حسين ما أن اصطدم بالواقع حتى انكفأ ليكتب على هامش السيرة وعاد إلى منوال الأسلوب التقليدي في السرد والتوصيف والنقل.

هزيمة 67 كانت طعنة نجلاء للمشروع النهضوي العربي الذي حمل لواءه عبد الناصر، وهو المسؤول عن سؤال لماذا مرة أخرى، لماذا تقدم العالم ولا زال قادراً على توسيع الهوة ولا زلنا نحن متأخرين؟!

أحد أبرز التحديات التي ظهرت كانت ردة الفعل على الهزيمة الحضارية، والتي توفرت لها ظروف موضوعية خاصة سياسية كذلك، من ناحية كانت رغبة السادات في استحضار البديل القادر على مواجهة اليساريين والقوميين في الشارع السياسي المصري والعربي، ومن جهة كانت السعودية –فيصل- داعمة أيضاً للحركات السلفوية كذلك لمصالح سياسية عضوية تحمي دولته وتتصدى للحركات اليسارية والقومية التي تستهدف عرشه في الحملة ضد ما كان يوصف بالرجعية العربية، ومن جهة ثالثة كانت المصلحة الأمريكية في جانبين الأول التصدي للمد اليساري داخل المجتمعات الواقعة جنوب الاتحاد السوفيتي ومنها العربية ومن جهة الحاجة لعقيدة قتالية اعتقدت ان غيابها كان السبب الرئيس وراء هزيمتها في فيتنام.

هذا بجملته وفر بيئة مثالية انتشر فيها التطرف الديني والعقيدة الدينية القتالية التكفيرية، ونجحت آنياً في تحقيق الأهداف التي أريدت منها، نجحت في افغانستان في هزم الجيش السوفيتي، ونجحت في مصر والعالم العربي في هزيمة اليسار السياسي والقوميين، ومن جهة أضعف المشروعات الكبرى لحساب الدولة القطرية، لكن ما لبث السحر أن انقلب على الساحر، وما عاد بالإمكان السيطرة على البعبع الذي تم اخراجه من العلبة.

من هذا المنطلق فإن انشغال المثقف العربي بسؤال النهضة ولماذا؟ ألح عليه أيضاً اسئلة حول الإرهاب وهذه الموجة العتية من التدين القشوري المتطرف.

أقول للأسف أن إشكالية النهضة لدى الكثير من مثقفينا أصبحت منحشرة في تفكيك ظاهرة التطرف الديني، أو بصياغة أبسط أصبح التدين المتطرف أو الخطاب الإسلاموي التعبوي هو السبب الرئيس في ذهن المتنورين العرب للتخلف، وليس نتيجة لهذا التخلف كما نرى ونعتقد ونكرر دوماً، أن الخطاب الإسلاموي المهيمن اليوم هو نتيجة وليس سبب في الأساس، ومن ثم يضحي سبباً في انتاج وإدامة نفسه بالضرورة بما أصبح جزء من الواقع.

من هنا فإننا نلح دائماً، على التذكير أن القراءة المعاصرة أي قراءة معاصرة تحاول أن تقدم فهماً عصرياً للدين عامة وللكتاب خاصة، ليست في ذاتها مشروع نهضة، على الإطلاق فالنهضة لا تبنى على مشروع لإعادة فهم الذات أو التراث أو حتى قراءة كتاب الله.

في الوقت ذاته هذه القراءة حاجة وجودية لانقاذ الأنا الناهضة والأنا الممزقة والمبعثرة بين الفهم التراثي من ناحية، والحداثة والحضارة الإنسانية من ناحية ثانية، بكل وضوح لا يمكن للإنسان المعاصر المدرك لمعارف وعلوم ونظم وفكر عصره أن يقبل بأن الدين وفق فهمه التراثي إلهي المصدر.

من هنا فإن مشروعية القراءة المعاصرة لكتاب الله تنبني على أمرين الأول هو كونها ضرورة وجودية انطلوجية للمجتمعات، والثاني هو أنها توفر أداة أو سلاح من الأسلحة في يد مشروع النهضة الحقيقي القائم على واقع المجتمعات نفسها ترد به على القوى التي تريد فرض القراءة التراثية على الدولة والمجتمع
 
أعلى