عبد العظيم علي قناوي - أبو إسحاق الصابي

بعثني إلى الكتابة عن أبي إسحاق الصابي رغبة حافزة في أن أربط بينه وبين أبي الفرج الببغاء أديبين عفى عليهما الدهر، ثم أراد لأدبهما بعثاً، كما ربطت بين روحيهما أواصر الأدب، فتعارفا متباعدين وتآلفا متقاربين، فقد قدمنا أن الصلة بينهما كانت في الحياة وثيقة العرا محكمة الحلق، لم تشبها شائبة حفيظة، ولقد جعلني الحديث عن أبي الفرج على ذكر متصل بأبي إسحاق لا يبرح أفق تفكيري ولا يحيد عنه، ولا يريم عن محيط ذهني ولا يقصو دونه. ولعل من أهم عوامل علوق أسمه بذاكرتي، ورسوخ شخصه في مخيلتي، أن حظه في دنياه كان كحظ صنوه، بل إنه كان أسوأ من أخيه جداً وأنكد دهراً، وأتعس رجاء وأملاً، فكلما تقدم به الأجل وأشرق له الأمل أدركته حرفة الأدب، فتضاعف عليه الألم، لا يغني عنه ما أوتى من ألمعية نادرة، ولا يصرف صروف الدهر دونه ما وهب الله له من مواهب فياضة زاخرة، فغير الدهر تنصب عليه انصباباً، ونوبة تتقاذفه تقاذفاً، وأحداث الزمان تتعاوره كهلاً أناخ به المشيب، وخطوبة تتناوبه شيخاً بما لا يقوى عليه الفتى الصليب. وهكذا دواليك: غمرات تترى، ونكبات تتوالى، ولا يجد على تعاقب الليالي إلا ضيماً، وتسومه الأيام بكرها خسفاً وظلماً؛ حتى أنشد وأنشد وتمنى، فكانت المنية هي أصدق المنى، فلله هو إذ يقول:

إذا لم يكن للمرء بدّ من الردى ... فأسهله ما جاء والعيش أنكد

وأصبعه ما جاء والعيش راتع ... تطيف به اللذات والعيش مسعد

فإن أك شر العيشتين أعيشها ... فإني إلى خير المماتين أقصد

وسيان يوما شقوة وسعادة ... إذا كان غِبا واحداً لهما الغد

وما زال هذا شأنه لا يحول حاله إلا إلى سوء، وذلك ديدنه لا يتغير أمره إلا إلى غير، وهو يندب جده آنا وآنا، ويشكو بؤسه حيناً وحينا، فلا يجد لشكواه سكينة أو أونا، ولا يعرف إلى الحين مهيعاً أو سبيلاً؛ حتى صار ملجأ أمراض وأسقام، ومحط أوصاب وآلام. وهاهو ذا يشكو زمانته، وآثار الهرم في كيانه وحاجته إلى محفة يتخذها بدل قدميه اللتين ناءتا بحمله، وشاركتا الدهر في استثقال ظله، وقد بعث بقصيدته تلك إلى الشريف الرضي، وقد كان يشفق عليه ويرحمه، ويأسو كلومه ويرأمه، قال منها:

إذا ما تعدت بي وسارت محفة ... لها أرجل يسعى بها رجلان

وما كنت من فرسانها غير أنها ... وفت لي لما خانت القدمان

نزلتُ إليها عن سراةِ حصان ... بحكم مشيبي أو فراشَ حصان

فقد حملت مني ابن تسعين سالكاً ... سبيلاً عليها يسلك الثقلان

كما حمل المهدُ الصبيَّ وقبلها ... ذعرت ليوث الغيل بالنزوان

فجاءت مواساة الشريف له سخية وفية، وعطفه براً سابغاً ضافياً، فقد لأم جروحه بقصيدة تفيض بالعطف أشطارها وتفعم بالود أبياتها منها!

لئن رام قبضاً من بنانك حادث ... لقد عاضنا منك انبساط جنان

وإن بُزّ من ذاك الجناح مطاره ... فرب مقال منك ذي طيران

وإن أقعدتك النائبات فطالما ... سرى موقراً من مجدك الملوان

وإن هدمت منك الخطوب بمرها ... فثم لسان للمناقب بان

مآثر تبقى ما رأى الشمس ناظر ... وما سمعت من سامع أذنان

من هذه الأبيات ندرك تعاسته وبؤسه، ونتبين آلامه وأسقامه، وما زال يغالب الزمان ويجالد الحدثان حتى أراد الله له الدعة التي طالما تمناها، وآتاه الطلبة التي كثيراً ما طلبها فعزت عليه. وافاه أجله وقد جاوز التسعين سنة حلب فيها الدهر أشطره فذاق شره مترعاً وقلما طعم خيره، وشرب كئوس البؤس دهاقاً، ولما ما ألمّ بالنعيم، ولقد كان في فتوته أسعد حالاً منه في كهولته وعاش في شبيبته أنعم بالاً منه في شيخوخته، وإليك حديثه عن ذلك في خيال صاف وديباجة مطرزة:

عجباً لحظي إذا أراه مصالحي ... عصر الشباب وفي المشيب مغاضبي

أمن الغواني كان؟ حتى ملني ... شيخا، وكان على صباي مصاحبي

أمع التضعضع ملني متجنباً؟ ... ومع الترعرع كان غير مجانبي

يا ليت صبوته إليّ تأخرت ... حتى تكون ذخيرة لعواقبي

وبعد تلك الإلمامة بحاله نتحدث عن نشأته وحياته: يروي ياقوت في معجمه أن أبا إسحاق إبراهيم بن هلال بن زهرون ولد بحران سنة ثلاث عشرة وثلثمائة هجرية، وأدركته منيته لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر شوال لسنة أربع وثمانين وثلثمائة؛ فسنه على هذه الرواية إحدى وسبعون سنة، وهو يقول في تعزيز روايته تلك: (وذكر أبو منصور الثعالبي في كتابه (يعني كتاب يتيمة الدهر) أنه بلغ من العمر تسعين سنة والذي أوردته من تأريخ حفيده، وهو به أعلم) ويقصد بحفيده أبا الحسين هلالاً بن المحسن بن إبراهيم الصابي، ويعقب الأستاذ شارح معجم الأدباء على ياقوت فيقول: (إنما قال الثعالبي إنه خنق التسعين أي قاربها) والحق أن الثعالبي ذكر سن أبي إسحاق في موضعين فقال في صدر الحديث عنه، وهو بصدد التعريف به (وكان قد خنق التسعين في خدمة الخلفاء وخلافة الوزراء) ثم قال في نهاية الفصل الذي كتبه عنه تحت عنوان وفاته (توفي في يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة من شوال سنة أربع وثمانين وثلثمائة، وكانت سنوه إحدى وتسعين سنة قمرية).

وإني إلى تحقيق الثعالبي أميل لوجوه أعدد منها:

أولاً: يكاد أبو منصور الثعالبي يعتبر معاصراً لأبي إسحاق الصابي، فقد توفي أبو منصور عقبه بنحو خمس وأربعين سنة، وهو أمد قصير في أعمار التاريخ والمؤرخين.

ثانياً: السن التي ذكرها صاحب اليتيمة وردت في قصيدة لأبي إسحاق إذ يقول:

فقد حملت مني ابن تسعين سالكا ... سبيلا عليها يسلك الثقلان

وقد كان إنشاء هذه القصيدة قبل وفاته بنحو أربعة أشهر

ثالثاً: قد يكون حفيد أبي إسحاق صادراً في حديثه عن غير تروٍّ وتدبر للحقيقة، لأنه حديث يسمع وينسى لا كما يصدر حديث عن مؤلف يتحرى الصدق ويلتزم جادة الدقة؛ لأنه خبر يخلد ويبقى.

رابعاً: سن السبعين لا توهي جلداً ولا توهن عظماً، وإن كان صاحبها متزاحمة عليه النائبات مولعة به النكبات إلا في القليل النادر.

وسواء أكان موته عن إحدى وتسعين أم عن إحدى وسبعين فقد خلف في الأدب أخلد الأثر، وضرب في النبل والوفاء أصدق المثل، فلقد ولد ومات على دين الصابئة، والصابئون كما يقول الأمام الكبير الفخر الرازي في تفسير قوله تعالى: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر. . . الخ الآية): (قوم يعبدون الكواكب ثم لهم قولان: الأول إن خالق العالم هو الله سبحانه، إلا أنه سبحانه أمر بتعظيم هذه الكواكب واتخاذها قبلة للصلاة والدعاء والتعظيم. والثاني: إن الله سبحانه خلق الأفلاك والكواكب، ثم إن الكواكب هي المدبرة لما في هذا العالم من الخير والشر والصحة والمرض، والخالقة لها، فيجب على البشر تعظيمها لأنها هي الآلهة المدبرة لهذا العالم، ثم إنها تعبد الله سبحانه).

على هذا الدين ولد أبو إسحاق وعليه مات في عصر الإسلام فيه مزدهر والكلمة العليا له، والمكانة المكينة في العالم لرجاله، ولا فضل لمن لم يوله قلبه، ويهب له نفسه، وإن بقاءه على صابئته - على الرغم مما يحوطه ليدل أعظم الدلالة على أن الإسلام دين سمح، أساسه العفو والأمر بالعرف، والإعراض عن المشركين دون أن يصيبهم أذى، أو ينالهم حيف، أو تحل بهم نقمة مخلوق؛ لأنه دين العقل والحجة والمنطق والموعظة الحسنة، ولولا تسامح ذلك الدين القويم ما وجد مثل الصابئ كنفاً يلجأ إليه أو وزراً يحميه، فكيف وقد عاشر الخلفاء والأمراء والملوك والوزراء؟ وكذلك عاش أمثاله في رغد ورفهية؛ عاشوا موفوري الكرامة مرفوعي الرءوس مجدودي الحياة؛ ولقد بصر أبو إسحاق بالدين الإسلامي ورغب في الإسلام وألف قلبه، وأجزل له من أجل ذلك، فلم يهد الله قلبه للإيمان؛ لأنا لا نهدي من نحب، ولكن الله يهدي من يشاء؛ لذلك لم يصخ بسمعه إلى دعوة اليقين والداعون إليها هم سادته ومواليه وأرباب نعمته ومالكو زمام أمره إن شاءوا رفعوه وأعزوه، وأن أرادوا وضعوه وأذلوه. ولقد حدث التاريخ أن عز الدولة بختيار عرض عليه الوزارة على أن يسلم، فأباها مفضلاً أن يبقى على دين آبائه الغابرين؛ وإن وفائه لملته، وإخلاصه لنحلته لمصدر عجب لمن أراد العجب؛ إذ لم يعرف عنه أنه أرتكب أمراً حرم عليه، ولا جاء وزراً نهى عنه شرعه. ويروي المؤرخون أنه حضر مائدة للوزير المهلبي بن أبي صفرة، وكان أبو إسحاق من خلانه الأدنين وخلصائه المصطفين، فامتنع عن لون من ألوان الطعام محرم لدى الصابئة، فقال له المهلبي: لا تبرد وكل معنا من هذه الباقلاء. فقال: أيها الوزير لا أريد أن أعصي الله في مأكول، فكان موفقاً في إجابته مسدوداً في مجانته. وروي أن عز الدولة بختيار بذل له ألف دينار على أن يأكل الفول وهو مما يحرم أكله أيضاً في دينه، فرفضها متعففاً وهو الفقير إليها فأين من أولئك الذين لا يتناهون عن منكرات يجترمونها، ولا يتعففون عن محرمات يجترحونها غير مبالين ما ينتظرهم من حساب شديد وعذاب أليم؟ وآية نبله أنه مع تعصبه هذا وتشدده وتزمته في دينه كان جميل العشرة للمسلمين صادق الإخاء كريم الصنيع حسن المعونة، فكان يصوم رمضان لا تحنثاً بل تجملاً، ويحفظ القرآن الكريم إجلالاً له وعرفاناً بخطره؛ لأنه رأى فيه مهبط الحكمة ومصدر البلاغة، ومشرع اللسن والفصاحة، فظهر أثر ذلك على أسلة يراعه، وجرى على عذبة لسانه. وإليك ما يقوله أبو منصور الثعالبي في يتيمته عنه في تلك الناحية من خلقه وأدبه: (كان يعاشر المسلمين أحسن عشرة، ويخدم الأكابر أرفع خدمة، ويساعدهم على صيام شهر رمضان، ويحفظ القرآن حفظاً يدور على طرف لسانه وسن قلمه، وبرهان ذلك ما وردته في كتاب الاقتباس من فصوله التي أحسن فيها كل الإحسان وحلاها بآي من القرآن)

ومن آيات وفائه ونبله أنه كان صديقاً ودوداً للشريف الرضي حتى أتهم بأنه يدعو له بالخلافة، ويتمنى أن ينال مطمحه ويدرك مأربه، وهو لم ينف ذلك عن نفسه، بل إنه جهر به في قصيدة بعث بها إلى الشريف، وهو لا بد عالم بوقعها في نفوس أعدائه وحاسديه، ولكنه لم يعبأ بما قد يصيبه بسببها، لأنه أسير وجدانه، وينطق إذ ينطق عن شعوره وإحساسه، وما عليه إذ يرضيهما من بأس، وهذا بعض ما قاله فيها:

أبا حسن لي في الرجال فراسة ... تعودتُ منها أن تقول فتصدقا

وقد خبَّرتني عنك أنك ماجد ... سترقي من العلياء أبعد مرتقى

فوفَّيتك التعظيم قبل أوانه ... وقلت أطال الله للسيد البقا

وأضمرت منه لفظة لم أبح بها ... إلى أن أرى إطلاقها لي مطلقا

فإن عشت أو إن مت فاذكر بشارتي ... وأوجبْ بها حقاً عليك محققاً

وكن لي في الأولاد والأهل حافظاً ... إذا ما اطمأن الجنب في موضع البقا

ولقد كان مع هذا محببا إلى الخلفاء والوزراء، كلهم يطلب يده ويبتغي أن يقصر خدمته عليه دون غيره، فمنهم من كان يسلك إلى إربته طريق البذل والرفد، ومنهم من كان يطرق سبيل العقوبة والحقد، فعاش محسداً إن رضى عنه وزير غضب عليه آخر، وإن صفا له أمير جفاه خليفة. وممن اصطفاه ولم يجتوه وأحبه ولم يجفه الصاحب بن عباد، ولعل الأدب هو الذي قرب بين نفسيهما وألف بين روحيهما، فلم تقع بينهما نبوة، ولا لحق صدقتهما جفوة، فكثيراً ما بثه شكواه، واستمطر غيثه وكان موضع نجواه، ولقد كان أول أمره يأنف أن يتصل بالصاحب مادحاً أو أن يطلب صلته مانحاً؛ حتى استوزر الصاحب فنزل عن أنفته وقنع من مطاولته بمصاحبته، وكان الصاحب يعجب به أشد الإعجاب، ويراه أحد أفذاذ الأدب، فقد حدَّث عنه أنه كان يقول: (كتاب الدنيا وبلغاء العصر أربعة: الأستاذ أبن العميد، وأبو القاسم عبد العزيز بن يوسف، وأبو إسحاق الصابي ولو شئت لذكرت الرابع) وكان يعني بالرابع نفسه. ويقول الثعالبي (وأما الترجيح بين هذين الصدرين أعني الصاحب والصابي في الكتابة فقد خاض فيه الخائضون، وأخب فيه المخبون، ومن أشف ما سمعته في ذلك أن الصاحب كان يكتب كما يريد وأبو إسحاق كان يكتب كما يؤمر، وبين الحالتين بون بعيد) وأحسب أنه يقصد تفضيل الصابي لأن الذي يستطيع أن يكتب ما يراد منه ويؤمر به لاشك مستطيع أن يكتب مات يرده هو، وعلى هذا فقد برع في الناحيتين وفاق صاحبه فيما قصر فيه، وإلى أمد قاصد نكمل عنه الحديث متناولين جزءاً آخر من تاريخه الأدبي.

عبد العظيم علي قناوي
مجلة الرسالة/العدد 231
06 - 12 - 1937


.../...
 
- 2 -

لعل أبا اسحق الصابي أصدق مثل يضرب لمن يماري في وجوب نزول الآباء على إرادة الأبناء فيما يحبون من فروع العلوم أو ينزعون إليه من آفنان الفنون، وأن خير ما يؤخذ به المتعلم هو الرغبة الحافزة لا الرهبة القاسية، إذ لا يرتجي كثير نجاح في قسر الأبناء على علم بعينه يريده الآباء، ولا أخذهم بدراسة مخصصة لا يبغيها أولئك ويحتمها هؤلاء، فإن ذلك قاتل لملكاتهم رافع بهم إلى الاستيئاس من النجاح، أو على الأقل الأدنى نازع بهم إلى القصور في كل علم، والتقصير فيما لا يميلون إليه من الفن، وضارب بهم في مهامه لا يعرفون وجه المحجة فيها، وموقع بهم في مفاوز إن نجوا منها فبعد لأي وعناء؛ ولاسيما متى كان ذكاؤهم محدوداً ونبوغهم قاصراً. ورضى الله عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب حيث يقول: (لا تقسروا أبناءكم على آدابكم، فإنهم خلقوا لزمان غير زمانكم) وإذا كان رضوان الله عليه قد قصد بالتأديب معناه الأخص فهو على وجه العموم أولى، وبشموله كل أدب أجدى

دفعني إلى تلك التقدمة أني رجل تربية من واجبي تنبيه الأذهان إلى ترك الحرية العلمية للتلميذ ينهج فيها نهجه الذي يحبه. فلقد حاول أبو الحسن والد إبراهيم الصابي تعليمه منذ نشأته صناعة الطب وحذق الحكمة سيرا على سنن آبائه ونهجا على منهج أسلافه، إذ كان جلهم رجال طب وحكمة. وبذل في سبيل ذلك غاية الجهد، وجهد لتنفيذ أربته إلى أقصى غاية، وقد وجد من ابنه سميعاً ومن إبراهيم مطيعاً، لا عن رغبة وحب، بل عن رهبة وأدب، وقسر وزجر. ولو غير أبي إسحاق لرمى بكلام أبيه عرض الأفق، ولكنه كان باراً بأبيه عالماً بواجبات الأبوة لا يعصى له أمراً وإن جاء قاسياً، ولا يخالف له رأياً وإن بدا له رأياً خاطئاً، وإن هذه النزعة فيه نزعة البر والحدب والحب والولاء ليعبر عنها شعره تعبيراً قوي الأسر صادق النزعة، فهو أي أن الإنسان بعد فقد والديه ليس شيئاً مذكوراً، وأنه يعيش في الدنيا غريباً، لأنه لا يجد فؤاداً يحنو عليه ولا عيناً ترمقه، وأنه يعيش - متى كان حي الوجدان - جنيب صفاء وأليف شقاء، فمن هذا قوله: أسرة المرء والداه وفيما ... بين حضنيهما الحياة تطيب

فإذا ما طواهما الموت عنه ... فهو في الناس أجنبي غريب

ولا يختلف شأنه مع أبنائه عن شانه مع والديه، فإنه ليعطف عليهم عطف الأم الرءوم لا الأب الرحيم، ويتجاوز عن جرائرهم ويجعل هفواتهم دبر أذنه، حتى لا تقع عليهم لعنة الله ولا تحق فيهم كلمته؛ شأن الأب الكريم، وشيمة الرجل الحليم الحكيم. وهو إذ يتحدث عن ذلك يتحدث في زهو، ويقصه في فخر معلما أولئك الآباء القساة طرائق في التربية تسعدهم وتسعد أبناءهم، ومتى أغنت النظرة فلا حاجة إلى الكلمة، وفي مثل ذلك يقول:

أرضى عن ابني إذا ما عقني حذَرا ... عليه أن يغضب الرحمن من غضبي

ولست أدري بما استحققت من ولدي ... أقذاء عيني وقد أقررت عين أبي

واستمع إليه يرد على رسالة وردته من ابنه أبي علي المحسّن كان قد كتبه تسلية له في إحدى نكباته، وجاء في رسالة أبي علي هذان البيتان:

لا تأس للمال إن غالته غائلة ... ففي حياتك من فقد اللُّهى عوض

إذ أنت جوهرنا الأعلى وما جمعْت ... يداك من تالد أو طارف عَرَض

فكتب تلك الأبيات التي أحسبها من حبات قلبه نسيجها، ومن عبرات عينيه نظيمها، فكل حرف شفقة وعطف، وكل كلمة بر ورحمة، قال:

يا درة أنا من دون الردى صدف ... لها أقيها المنايا حين تعترض

قد قلت للدهر قولاً كان مصدره ... عن نية لم يشب إخلاصها مرض

دع المحسّن يحيا فهو جوهرة ... جواهر الأرض طرا عندها عرض

فالنفس لي عوض عما أصبتُ به ... وإن أصبت بنفسي فهو لي عوض

أتركه لي وأخاه، ثم خذ سلبي ... ومهجتي فهما مغزاي والغرض

فلا غرو إذا ما نزل، وهذا خلقه وتلك شيمه، على أمر أبيه كارهاً، وأطاعه تكلفاً، وجامله فيما كلفه إياه مصانعاً، فتعلم الطب مخلصاً في تعلمه، وإن لم ينته عن التعرض لما تصبو إليه نفسه، ويرغب فيه طبعه، فكان يزاول في أوقات خلوته وسويعات فراغه من كتب الحكمة - أشتات علوم اللغة والأدب وما إليهما، فإن علم أبوه ذلك عنه نهاه وزجره، حتى يأخذ فيما يؤهله له، ولا يصرف وقته فيما لا غناء فيه في نظره. وأجدر بي أن أسوق حديث أبي إسحاق عن نفسه في هذا الموقف، فإنه يقول: (كان والدي أبو الحسن يلزمني في الحداثة والصبا قراءة كتب الطب والتحلي بصناعته، وينهاني عن التعرض لغير ذلك، فقويت فيها قوة شديدة، وجعل لي برسم الخدمة في (البيمارستان) عشرون ديناراً في كل شهر، وكنت أتردد إلى جماعة من الرؤساء خلافة له، ونيابة عنه، وأنا مع ذلك كاره للطب، ومائل إلى قراءة كتب الأدب، كاللغة والشعر والنحو والرسائل والأدب؛ وكان إذا أحس بهذا مني يعاتبني عليه، وينهاني عنه، ويقول: يا بني لا تعدل عن صناعة أسلافك. فلما كان في بعض الأيام ورد عليه كتاب من بعض وزراء خراسان يتضمن أشياء كثيرة كلفه إياها، ومسائل في الطب وغيره سأله عنها، وكان الكتاب طويلا بليغاً، قد تأنق منشئه وتغارب. فأجاب عن تلك المسائل، وعمل جملا لما يريده، وأنفذها على يديّ إلى كاتب لم يكن في ذلك العصر أبلغ منه، وسأله إنشاء الجواب عنه. قال: فمضيت وأنشأت أنا الجواب، وأطلته وحررته، وجئت به إليه، فلما قرأه قال: يا بني سبحان الله! ما أفضل هذا الرجل وأبلغه! فقلت له: هذا من إنشائي، فكاد يطير فرحاً، وضمني إليه، وقبلني بين عيني، وقال: قد أذنت لك الآن، فامض فكن كاتباً

ومن ذلك اليوم هجر أبو إسحاق الطب إلى الأدب وقلى الحكمة ليواصل اللغة، فكان كاتباً أريباً وشاعراً مجيداً، جرى اسمه في كل مجلس، سواء في ذلك مجالس الأنس والنحس، وحلق في كل أفق لا يبالي أكان الأفق ساطعاً أم ملبداً، وبرع في كل فن حتى صار ملء الأسماع ومهبط الآماق؛ ولله در واصفه إذ يقول:

أصبحت مشتاقاً حليف صبابة ... برسائل الصابي أبي إسحاقِ

صوب البلاغة والحلاوة والحجا ... ذوب البراعة سلوة العشاق

طوراً كما رق النسيم وتارة ... يحكى لنا الأطواق في الأعناق

لا يبلغ البلغاء شأو مبرز ... كتبت بدائعه على الأحداق

وإن أدبه - كما يقول معاصروه - لسلوة الحزين، وشفاء الكليم، وأنيس المسافر والمقيم، وسمير الصديق والحميم، مما يدل على أنه كان أمة عصره ونابغة دهره، يشهد له بذلك البعيد والقريب، والعدو والحبيب، ولن أبلغ في وصف أدبه الغاية كما بلغ لداته، فهذا أحدهم يقول: يا بؤس من يمني بدمع ساجم ... يهمي على حجب الفؤاد الواجم

لولا تعلله بكأس مدامة ... ورسائل الصابي وشعر كشاجم

ولكنه لبؤس حاله ونكد طالعه نشأ في عصر أفعم بالفتن، فسياسته مختلة، ورياسته معتلة، والخلافة اسم ليس له مسمى، ورسم لا حقيقة، وملوك الديلم تتأرث بينهم الأحقاد، وتحاك الدسائس وتفشو الفتن، والرجل ذو المروءة لا يسلم روحيّاً وحسيّاً، فإما النفاق فيسخر ضميره لكل حاكم، ويكتب بكل قلم، ويأكل على كل مائدة، ويمنح عقله كل راغب، ويعطي لسانه كل خاطب؛ وإلا فالمحابس مفتحة، والسلب والنهب أيسر عقاب. ولقد كان إبان شبابه قبل أن تستشري الفتن، ويتنزى الاضطراب وتتأصل في النفوس السخائم، يتسامى ويتصاعد، وجده يتعالى ويتماجد، حتى صار من العظماء الممدوحين لا من الأدباء المادحين، فسعى إلى أبي الطيب المتنبي راغباً إليه أن يمدحه بقصيدتين ولا يمنعه رفده، أو يقطع عنه سيبه بل يرفده بخمسة آلاف درهم، فبعث إليه المتنبي قائلاً: (والله ما رأيت بالعراق من يستحق المدح غيرك، ولا أوجب عليَّ في هذه البلاد أحد من الحق ما أوجبت، وإن أنا مدحتك تنكر لك الوزير (يقصد المهلبي) وتغير عليك لأنني لم أمدحه، فإن كنت لا تبالي هذه الحال، فأنا أجيبك إلى ما التمست، وما أريد منك مالاً، ولا عن شعري عوضاً؛ فتنبه إلى موضع خطئه ولم يعاوده بعدئذ. وإن دلنا ذلك الحديث الذي رويناه عن ياقوت على شيء فإنه يدل على سمو نفسه واعتزازه بقدره، فمن أسمى من ممدوح المتنبي؟ كما يدل على علو منزلته لدى أبي الطيب، وعلى أن هذا كان شديد الإخلاص وفير الوفاء لصداقته، فلو قد فعل دون تحذير أو تنبيه لبكرت عليه النكبات، ولفقد ولياً طالما بذل له رفده، ولعب على ضوء وده

وكان لذيوع اسمه بين الكتاب والشعراء موجدة إن نأى ومحبة إن دنا في نفوس الملوك والوزراء، وما أكثرهم في ذلك العصر، فهو إن أخلص لهذا عوقب، وإن والى ذلك عوتب، وإن لزم الحيدة أنب، وإن أعلن عن رأيه أدب، فهو ملوم في كل حال، مستحق العقوبة في كل زمان ومكان، فكان نزيل السجن مسلوب الوفر، وهذا ما جناه على نفسه. فلو أنه أطاع أباه وانصرف إلى الطب لعاش سعيداً ومات سعيدا، ولكنه تنكب الطريق السوي فكان من أمره ما سنفصله في مقال تال عبد العظيم علي قناوي
تصنيف:


مجلة الرسالة/العدد 233

.../...
 
- 3 -

لا بد للكاتب الحريص أن يتحرى النواحي التاريخية التي تتصل بالحياة الأدبية عندما يعرض حياة رجل كأبي إسحاق الصابي خبّ في السياسة ووضع، وارتفع بأسبابها ووقع؛ ليتبين هل كان بؤس ذلك الرجل طوال عمره أثر سرف في خطته، ونتيجة سفه في مسلكه؟ أم أن جيله الذي نشأ فيه هو رأس نكباته، وأس ويلاته، حتى صار البؤس على وجهه كتاباً مسطورا، والشقاء في حياته طريقاً مرسوما؛ لذلك أرى وصف الحالة السياسية في العصر الذي عاش فيه موجِزا.

ولد أبو إسحاق في أوائل القرن الرابع الهجري، والخلافة مزعزعة الأركان، واهية البنيان، يتبارى في تقويض دعائمها وتهوين رواسخها أمراء متعددون، وقواد متحفزون، شغلتهم نفوسهم عن دولتهم، فهم يبغون لشخوصهم ملكاً عضودا، ولذواتهم نهوضاً وسعودا، لا يبالون أن يبنوا ذلك على أنقاض منعة الإسلام، أو على انتهاك حرمة السلام؛ وكان المتألبون أجناساً شتى؛ فللترك طوراً القدح المعلى والنصيب الأعلى، وللديلم حيناً القوة والبطش، والمنعة والبأس، والأمة حيال أولئك وهؤلاء كأسراب القطا تتخاطفها البزاة الجارحة، أو كقطعان الحملان تتناهبها الذئاب الضارية.

وفي الثلث الثاني من هذا القرن استتب الأمر قليلاً لآل بويه واطمأن إليهم الملك، فاستولى معز الدولة بن بويه على بغداد بعد أن انتشر فيها الفساد، وطغت عليها الفاقة، واجتاحتها المخمصة؛ حتى هجرها أهلها إلى المدائن والقرى يستمطرون الرحمة، ويبحثون عن الطمأنينة والدعة، وبعد مدة خلع معز الدولة الخليفة المستكفي بالله؛ لاتهامه إياه بدسائس يحوكها ضده، وتدبيرات ينسجها في الخفاء له، وولى بعده أبن عمه المطيع لله، وكان هذا كرة صولجانها معز الدولة، وخلة سيفها آل بويه؛ يأمرون فيأتمر، ويشيرون فيصنع، ويشاءون فينفذ، أما أن يكون له من الأمر شيء، فذلك مالا سبيل إليه. وظل ذلك شأن معز الدولة يدير شئون الأمة متفرداً، ويقضي في سياستها متوحداً، حتى أدركه المنون في منتصف القرن الرابع. فتولى الملك بعده ابنه بختيار، وتلقب بعز الدولة، وقد أشرف على الخلافة أحد عشراً عاماً، وهو لاهٍ عن أمر وَليَه، وملك سَلبَه حتى سُلبه؛ لها بالغواني الكواعب والمغنيات الكواكب، فبرز له منافس قوي أوتي نبلاً وبعد همة ونباهة ذكر وحسن أحدوثة هو عضد الدولة، فدخل بغداد فاتحاً، وقبض على محمد بن بَقية وزير عز الدولة وصلبه على رأس الجسر، وهو المرثي بالقصيدة الخالدة لأبي الحسين الأنباري وأولها:

علو في الحياة وفي الممات ... لحق تلك إحدى المعجزات

في هذا العصر أهلّ أبو إسحاق ودرج، وشب واكتهل، وشاب وهرم، فلا بدع أن يناله ما ناله، ولكن البدع أن يخرج من هذا المعترك لا عليه ولا له، إذ معنى هذا أنه كان في الأدباء من النكرات، وفي رجال الدولة من الإمعات، وأن حياته لتنبئ عن غير هذا، فقد اعتقل في عصر معز الدولة عندما أناب عن الوزير المهلبي على ديوان الوزارة والرسائل لخروج الوزير إلى الشام مقاتلاً، فقتل بعمان، وقبض على عماله جميعاً وعلى رأسهم أبو إسحاق ومن قوله وهو معتقل:

يا أيها الرؤساء دعوة خادم ... أوفت رسائله على التعديد

أيجوز في حكم المروءة عندكم ... حبسي وطول تهددي ووعيدي؟

قلدت ديوان الرسائل فانظروا ... أعدوت في لفظي عن التسديد؟

أعليَّ رفع حسام ما أنشأته ... فأقيم فيه أدلتي وشهودي

ولما فك اعتقاله خدم عضد الدولة وهو بفارس، بالشعر والكتابة يفيض عليه المدح ويضفي الثناء حتى صار الصابي من جملة خاصته، وموضع ثقته ومحبته، ومحل رفده ورضيخته؛ وحتى همَّ بالنزوح معه إلى فارس بعد حلف عقد بينه وبين عز الدولة بختيار خوف سطوته، وخشية بطشه وفتكه؛ لتوثق علاقته بعضد الدولة، ولكنه - وهو من عرفنا رعاية لأهله، وحدباً على ولده - خاف أن يأخذ عز الدولة البريء بالمذنب، والمحسن بالمسيء، فينال أهله منه سوء لا يجد لرده دفعاً، ويصيبهم منه شر لا يعرف له درءا، فيكون كمن يفدي نفسه بولده، ويستخلص دمه بدماء ذوي قرابته، وما عرفنا فيه خيانة للجار الجنب، فكيف به يسلم بنيه وذويه، ويخرج مع البازي عليه سواد؟ عرف عضد الدولة ما يعتلج في نفسه، وما يضطرب به فكره، فجعل أمنه في سربه جزءاً من الحلف، وسلامته في ولده شرط من شروط العقد، فنص فيه على حراسته في نفسه وماله، وترك تتبعه في شيء من أحواله. وبعد مزايلة عضد الدولة بغداد استخفى خائفاً، واستتر متوجساً شراً، حتى توسل أحد أصدقائه إلى عز الدولة وإلى وزيره ابن بقية أن يهبا له أمناً، ويبذلا له عوناً، فقبلا التوسل وتركاه طليقاً، وما لبثا أن قيداه سجيناً بإغراء ابن السراج لهما به، وفي هذا يقول ياقوت في معجمه (وجرت له في هذه النكبة خطوب أشفى فيها على ذهاب النفس، ثم كفاه الله بأن فسد أمر ابن السراج مع ابن بقية بما عامله بالعلة التي عرضت له، فقبض عليه، ونقل القيد من رجل أبي إسحاق إلى رجله) وفي محبسه هذا كتب إلى ابن بقية يستعطفه ويستميحه:

ألا يا نصير الدين والدولة الذي ... رددت إليها العز إذ فات رده

أيعجزك استخلاص عبدك بعدما ... تخلصت مولاك الذي أنت عبده؟

وصفا له الجو، وهدأت عواصف الشر، فاستخدمه عز الدولة فأخلص، واصطفاه فكان نعم المصطفى، وكتب له كتباً كانت مثار حنق عضد الدولة، ومدار إحنه، ولشد ما غضب عندما أنشأ كتاباً عن الخليفة الطائع لله يشيد فيه بعز الدولة، ومنه (وقد جدد أمير المؤمنين له (أي لعز الدولة) مع هذه المساعي السوابق، والمعالي السوامق، التي يلزم كل دان وقاص، وعام وخاص، أن يعرف له حق ما كرّم به منها، ويتزحزح له عن رتبة المماثلة فيها) فقد أحفظه هذا التعريض أعظم حفيظة، واضطغن عليه أشد ضغينة، فلما ملك بغداد سنة سبع وستين وثلاثمائة هجرية أمره أن يؤلف كتاباً في مناقبه، وفي آثار الدولة الديلمية، وذكر فتوحها، فأطاع. وبينا هو في تأليفه وتصنيفه، وتسويده وتطريسه زاره في داره عدو في ثياب صديق، وسأله عما يعمل، فزعم عنه أنه قال: أباطيل أنمقها، وأكاذيب الفقها، فحركت القالة المزعومة في عضد الدولة كوامن غيظه، وأثارت منه عوامل ضغنه، فأمر بإلقائه تحت أرجل الفيلة، ولولا أن استشفع فيه من أصدقائه نصر بن هارون، ومطهر بن عبد الله، وعبد العزيز بن يوسف، لكان في ذلك اليوم من الهالكين؛ فقد أقبلوا على الأرض يقبلونها بين يدي ملكهم ضارعين مستشفعين راجين متوسلين؛ حتى صدر أمره باستحيائه مع اعتقاله، واستصفاء أمواله، فبقى في معتقله هذا ثلاث سنوات وسبعة أشهر وأياماً، وإن جاء ذكرها في شعره أربعاً على سبيل التجوز في قصيدة يسترحم بها عضد الدولة، وقد خرج لزيارة مشهد أمير المؤمنين سيدنا علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأولها: توجهت نحو المشهد العلم الفرد ... على اليمن والتوفيق والطائر السعد

تزور أمير المؤمنين فيا له ... ويالك من مجد منيخ على مجد

فلم يُر فوق الأرض مثلك زائراً ... ولا تحتها مثل المزور إلى اللحد

وفيها يقول:

أمولاي: مولاك الذي أنت ربه ... إليك على جور النوائب يستعدي

وهذي يدي مدت إليك بقصة ... أعيذك فيها من إباء ورد

أتاني شتاء ليس عندي دثاره ... سوى لوعة في الصدر مشبوبة الوقد

فلو أن برد الجلد عاد إلى الحشا ... وفار الحشا الحران مني على الجلد

أزيحت لنفسي علتاها فأعرضت ... عن البث والشكوى إلى الشكر والحمد

وداويت داءي النقيضين ذا بذا ... أعدل إفراطاً من الضد للضد

ومنها:

فلا تبعدني عنك من أجل عثرة ... فإن جياد الخيل تعثر إذ تخدى

ولو كنت تنفي كل من جاء مخطئاً ... إذن لعممت الناس بالنفي والطرد

ومن زلّ يوماً زلة فاستقالها ... فذاك حقيق بالهداية والرشد

توالت شني أربع ومدامعي ... لها أربع كالسلك سل من العقد

أحوم إلى رؤياك كيما أنالها ... حيام العطاش الناظرات إلى الورد

ويبدو لي أنه أفرج عنه عقب هذه القصيدة، ولكنه ما سلم حتى ودَّع، وما هنئ حتى ووسى؛ إذ قبض عليه مرة أخرى عندما فتح بغداد للمرة الثانية بعد أن استشفع لديه قبل وصوله إليها بأبي سعد بهرام بن أردشير، وسأله أن يذكره لدى عضد الدولة، ويقيم له عذره، ويوضح له أمره؛ فكان جواب عضد الدولة العفو والمغفرة في كتاب طويل منه: (ومن كانت به حاجة إلى إقامة معذرة، واستقالة من عثرة، أو الاستظهار في مثل هذه الأحوال بوثيقة، فأنت مستغن عن ذلك بسابقتك في الخدمة ومنزلتك من الثقة، وموقعك لدينا من الخصوص والزلفة). ومنه: (فاسكن إلى ذلك واعتمده، ولك علينا - الوفاء به - عهد الله وميثاقه، وقد حملنا أبا سعد - أعزه الله - في هذا الباب ما يذكره لك. والله نستعين على النية فيه وهو حسبنا).

ودخل عضد الدولة بغداد وهو عنه راض، وبرحها إلى الموصل وهو إلى ولاء الصابي مطمئن، ولكن الوشاة - وما أكثرهم - نبشوا الدفائن، وأخرجوا كتباً من عز الدولة إلى أحد عماله بخط الصابي، وفي بعضها قدح في عضد الدولة، ورفعوها إليه، فكتب من الموصل بالقبض عليه، ولعل حديثه هو عن نفسه أدق من حديثنا عنه، فهو يقول:

(كنت جالساً بحضرة أبي القاسم المطهر بن عبد الله وزير عضد الدولة في يوم القبض عليَّ إذ وردت النوبة، ففضت بين يديه وبدأ منها بقراءة كتاب عضد الدولة، فلما انتهى إلى فصل منه وجم وجوماً بان في وجهه، فقال لي أبو العلاء صاعد بن ثابت: أظن في هذا الكتاب ما ضاق صدراً به، وقمت من مجلسه لأنصرف، فتبعني بعض حجابه، وعدل بي إلى بيت من داره؛ ووكل بي، وأرسل يقول لي: لعلك قد عرفت مني الانزعاج عند الوقوف على الكتاب الوارد من الحضرة اليوم، وكان ذلك لما تضمن من القبض عليك، وأخذ مائة ألف درهم منك، وينبغي أن تكتب خطك بهذا المال، ولا تراجع فيه؛ فوالله لا تركت ممكناً في معونتك وتخليصك إلا بذلته. وقد جعلت اعتقالك في دار ضيافتي، فطب نفساً بقولي، وثق بما يتبعه من فعلي) كما قبض على ولديه أبي على الحسن، وأبي سعيد سنان؛ وقد وفى الوزير أبو القاسم بما وعد، فسأل عضد الدولة إطلاقه واستخلافه لقيام أبي القاسم على رأس جند لقتال صاحب البطيحة فقال له:

أما العفو فقد شفعناك فيه، وينبغي أن تعرفه ذلك وتقول له إننا قد غفرنا لك عن ذنب، لم نعف عما دونه لأهلنا يعني: عز الدولة والديلم، ولأولادنا بيتنا - يعني: أبا الحسن محمد بن عمر وأبا أحمد الموسوي، ولكنا وهبنا إساءتك لخدمتك وعلينا المحافظة فيك على الحفيظة منك، وأما استخلافك إياه بحضرتنا فكيف يجوز أن ننقله من السخط والنكبة إلى النظر في الوزارة ولنا في أمره تدبير، وبالعاجل، فتحمل إليه من عندك ثياباً ونفقة وتطلق ولديه، وتقدم إليه عنا بعمل كتاب في مفاخرنا. فحمل إليه المطهر ما أمر به الملك وأطلق ولديه، ورسم له تأليف الكتاب وبقى الصابي في محبسه يؤلف حتى أتم المؤلف، فلم يفرج عنه لوقته بل قيل: إنه أخر الإفراج عنه سنة، فلما رفع إليه إحدى قصائده يطلب فيها الصفح عنه والإفراج، قرأت عليه ولديه بعض أصدقاء أبي إسحاق ومنهم أبو الريان حامد بن محمد وعبد الله بن سعدان فقبلا الأرض وقال أحدهما: إن من أعظم حقوقه علينا وذرائعه عندنا أن عرفناه في خدمتك، وخالطناه في أيامك. قال: فإذا كان رأيكما فيه، فأنفذا وأفرجا عنه، وتقدما إليه بملازمة داره إلى أن يرسم له ما يليق بمثله، فأفرج عنه قبل وفاة عضد الدولة بأيام، وقيل بل بقي في السجن حتى أفرج عنه ابن عضد الدولة أبو الحسين تاج الدولة.

وإني أرجو غير فاخر أن أكون قد وفقت في سرد وقائع هذا الجزء من حياته، وقربت بين الروايات المتضاربة عن اعتقالاته مستنداً في ذلك الترتيب على التاريخ السياسي للدولة البويهية، وفي المقال التالي نتحدث عن كتابته.

عبد العظيم علي قناوي

مجلة الرسالة/العدد 237


.../...
 
- 4 -

كان العصر الذي نشأ فيه أبو إسحاق الصابي عصراً زاخراً بالكتاب النابغين والشعراء المجيدين ممن خلفوا للغة ثروة ثمينة خالدة، وتركوا في الأدب روحاً فريدة صافية؛ إذ لم يعدْ الخيال وقفاً على الشعر، بل تعداه إلى الكتابة والنثر، فضرب الكتاب به في ضروب متنوعة لم تعهدها العربية، وساروا به في دروب متشعبة لم يألفها من قبلهم، وإن أعزم بها وسار على نمطها من جاء بعدهم. ولعلَّ من أعظم البواعث على رقي النثر والشعر في هذا العصر ذلك الاضطراب الذي انتظم جميع شئون الدولة؛ فهناك اضطراب ديني يدفع إلى الجدل والمنافحة، والنقد والمدافعة واضطراب سياسي، يسوق إلى المؤازرة والمعاضدة، والمنافسة والمعارضة، فكان ذلك الجو المضطرب جو صفاء للغة وآدابها، وهذا العصر المكهرب عصر ازدهار للنثر والشعر على السواء، فاتسع أمام هؤلاء وهؤلاء أفق الابتكار، ولمع مجال الابتداع، وأوحى إليهم ذلك المعترك المنطق الخلاب، والخيال الصافي والبيان الرائع والنسيج الساحر، فجاء نتاجهم عصارة أذهانهم، وذوب أفكارهم، وصفوة قرائحهم؛ تعمقاً في إبراز فكَرهم واضحة جلية، وتعملاً في تنسيق آرائهم ناصعة صفية؛ لتبدو للقارئ مصقولة مستساغة يرضاها عقله البريء؛ إذ لا يعتورها وهن ولا التواء، ولا يكتنفها غموض أو إبهام، وكثيراً ما كانت تدفعهم أحداث السياسة ودفع ما قد ينتظرهم من كوارث، وخوف ما ربما استقبلهم من حوادث، فيما لو تغير مجرى الأمور إلى الكتابة اللولبية، لا تكاد تتبين مرماها، ولا تعرف مأتاها أو مؤداها، إمعاناً في الإبهام، وإيغالاً في الإبهام. وناهيك بعصر نامت فيه السكينة وصحت الفتنة، وأشرقت الأسارير، وأظلمت السرائر؛ فملوكه متنافسون، وأمراؤه متنابزون، وقواده متحفزون، لا يخشى أحد هؤلاء قربى، ولا يأبه لزلفى، كلما جمعتهم جامعة فرقتهم شيعاً مآربُ، وإذا ألف بينهم حلف نقضته دوافع، وأولئك جميعاً يريدون الأدب للسياسة فرساً ذلولا يركضون متنه وسيفاً مسلولاً يشهرونه على ضغنهم، والويل أي ويل لمن تخلف عن الطاعة أو نكص دون تنفيذ الإرادة، إنه إذن لمن المنبوذين المبغضين، ينتظره الحيف ويترصد له الظلم كل مرصد. ومن هنا كان البطش ببعض الكتاب والشعراء سنة مسنونة، فمن أمن اليوم فهو قليل الأمن والدعة غداً، ومن سعد فترات ترقبه النحس سنوات

ومن كتاب ذلك العصر الذي أسلفت وصفه الرئيس ابن العميد، والوزير ابن عباد، والكاتب أبو بكر الخوارزمي؛ ومن شعرائه أبو فراس الحمداني، وأبو الطيب المتنبي، والشريف الرضي. ولقد كان الصابئ مع معاصرته لأولئك الأفذاذ الذين قلما يجود الدهر بأمثالهم، أو يسمح بمن يجري على غرارهم جملة - مرموق الأثر، موموق الخبر؛ يجري أسمه على الألسنة في مراتع اللهو والأنس، أو مهامه اليأس والبؤس، وتتناقل أنباءه الأندية إن أصابته غبطة ونعماء، أو مسته مخمصة وضراء، وتعمر به المحافل والمجالس متى صفرت منه المعاقل والمحابس، وهكذا دواليك يظهره تاريخه حركة دائبة، لا تقفها نعمى تركن بها الدعة، ولا تفدحها بؤسي، فتستسلم للشدة، فهو كادح في الحالين، وأداة عاملة لا يعطل محركاتها ميسرة أو معسرة. ولكأني به يشحذه طول الضراب، ويستثير شعوره أمل الثواب، ويستحيي وجدانه توقع العقاب، فيأتي بما يلذ السامع سمعه، ويعجب القارئ وقعه، وسيبرز هذا الوصف واضحاً جلياً ما سأقدمه بين يدي الكتاب من كتاباته، وما أعرضه على الشعراء من فرائد أبياته، فسنرى أن أروع نثره وأقواه ما جاء في الشكوى؛ وأرق شعره وأرقاه ما جرى في العتبى، ولقد عرف له فضله حامدوه وحاسدوه، ونفس عليه أدبه شاكروه وكافروه، وحسبه ذلك فخراً

نعم إن الصابي كان في الشكوى والاستماح، والنصح والاستنصاح قوي الصوغ والنسج رائع التصوير والخيال بارع المنطق والبرهان، لا تعوزه الحجة، ولا تنأى دون غرضه المحجة. وإذا كان (خير الأدب ما انبعث عن عاطفة صحيحة لا مريضة) فشكوى الاعتقال وذم الحبس يصدران عن عاطفة صحيحة قوية لا سقيمة ضعيفة؛ ودعك من حبس الجسم والحد من حريته، فذلك أهون خطبه وأيسر أمره، وإنما مر الشكاة تصدر عن سجين العقل معتقل الفكر مرهف الحس، فذلك إذ ينثر أو يشعر يعبر تعبيراً قوياً جياشاً يستثير به العواطف الكامنة، ويستجيش المشاعر الهامدة، ليبعث فيها عواطف ثائرة للعطف عليه ولتستحيل المشاعر الخامدة مشاعر مشتعلة للبر به، ومن يطالب مثل ذلك بالصبر والسلوى والسكون إلى البلوى وعدم الشكوى، أو يعتبر إعلان ألمه خوراً في أدبه، أو استظهار الناس إلى معرفته ضعفاً في خلقه، متطلب في النار جذوة نار، أو هو كما قيل:

ومن البلية أن يسام أخو الأسى ... رعىَ التجلد، وهو غير جماد

ولو أن أبا أسحاق كان في سياسته كما كان في ديانته، يكتب عن إيمان، ويصدر عن عقيدة (مهما كانت حقيقتهما) لنجا بعض النجو من كثير مما أمضه، ولكنه كما يروي الثعالبي كان يكتب كما يؤمر، وكان كالمركب السهل يوجهه راكبه حينما شاء، فهو يتحدث بما يمليه عليه ربه، ويعبر عن أفكار مولاه، ومع هذا فإنه يأتي بالعجيب، فكيف به إذ يكتب عن عاطفة أو يشعر عن حافزة؟ إنه ليجمع بين اللفظ الرشيق والمعنى العميق، ومن ذلك الذي يبلغ به فنه الجمع بين لغة الألفاظ ولغة العواطف إلا الكاتب المالك عنان قلمه؟ (لأن الألفاظ (كما يقول الأستاذ أحمد أمين) لم توضع لنقل العواطف، وإنما وضعت لنقل المعاني، والألفاظ أعجز ما تكون عن نقل عاطفة الأديب إلى القارئ، فكيف أنقل إعجابي بالطبيعة، أو أنقل حباً ملأ جوانحي أو غضباً استفزني، أو رحمة ملكت مشاعري! لم توضع الألفاظ لشيء من ذلك، وإنما وضعت لنقل مقدمات ونتائج منطقية، ولكن ما حيلتنا وقد خلقنا عاجزين لم نمنح لغة العواطف، ولابد لنا من التعبير عنها ونقلها إلى قارئنا وسامعنا، لذلك استخدمنا لغة العقل مرغمين، وأردنا أن نكمل هذا العجز بضروب من الفن كموسيقى الشعر من وزن وقافية، وكالسجع وكل ضروب البديع، وليس القصد منها إلا أن نكمل نقص الألفاظ في أداء العواطف) إذا كان ذلك الرأي صحيحاً ولا أخاله غير ذلك، فقد بلغ الصابي أفقاً لم يبلغه كاتب سواه

ويجدر بنا إذ نتحدث عن نثر الصابي أن نقسمه أقساماً ثلاثة: النثر الديواني، والاخواني، والنثر العام غير المقيد بأحد هذين الوصفين

فأما كتابته الديوانية فكان يصورها باللون الذي يريده عليه سيده ويرسمها بالريشة التي يهبها له، فتارة تبرز سافرة واضحة هينة لينة، ناصعة الكلمات رقيقة الفقرات رفيعة اللمزات والغمزات، تبعث في نفس قارئها الرضا إن كان غاضباً، وتوليه العتبى إن كان عاتباً، والسكون إن كان عاصفاً، وربما لمحت في ثناياها الحكمة العابرة، والأمثال السائرة. فمن ذلك قوله يؤلف بين عز الدولة وابن عمه عضد الدولة على لسان أولهما:

(والله العالم أني مع ما عودنيه الله من الإظهار، وأوجدنيه من الاستظهار، ومنحنيه من شرف المكان، وظل السلطان، وكثرة الأعوان - لأجزع في مناضلة عضد الدولة من أن أصيب الغرض منه، كما أجزع من أن يصيب الغرض مني، وأكره أن أظفر به، كما أكره أن يظفر بي، وأشفق من أن أطرف عيني بيدي، وأعض لحمي بنابي)

وأحسبه خشي أن يدور بخلد أحد أن عز الدولة يتهافت على مرضاة قرنه أو أنه يرهب مصاولته وضعفه، فبدأ الكتاب بأسلوب القوي الصارم، واستهله بلهجة الغالب الظافر، فذكر العز والمنعة، والقوى والمنة، والملك والسلطان، والجند والأعوان وتأييد الله له، والتفاف الأمة حوله، ثم ثنى بالغرض الذي إليه أراد، وهي فطنة وذكانة في جزالة ورصانة. ومن ذلك قوله أيضاً وفيه حكمة ومواعظ، وتبصره وذكرى، وإن أنكر عليه الحكمة إلا قليلاً الدكتور زكي مبارك في كتابه النثر الفني حيث يقول: (وقد تصفحنا رسائله غير مرة لنرى أثر الحكمة فيها فوجدناه ضئيلاً):

(إن انتثار النظام إذا بدا - والعياذ بالله تعالى - لم يقف عند الحد الذي يقدر فلان أن يقف عنده، ولم يخصص الجانب الذي يظن أنه يلحقه وحده، بل يدب دبيب النار في الهشيم، ويسري كما يسرى النغل في الأديم؛ وكثيراً ما تعدى الصحاح مبارك الجرْب، ويتخطى الأذى إلى المرتقى الصعب)

وتارة يشاء الموحي إليه صرامة وحزماً، فتقرأ له كتباً أقوى من كاتبها منة، وأرصن من منشئها قوة، تخالها إذ تقرؤها لرجل مارس الحروب، وخفقت فوق رأسه الألوية والبنود، وسبح فوق متون الجباد، وأوتي قوة وعزمة في القيادة والجلاد؛ فهو يتقمص روح مليكه، أو يستعيره قلبه الفتي عندما يهم بكتابة رسالة من هذا النوع. وكأني به يعصر فكره، ويقدح ذهنه، ويكد عقله، ليأتي بالمعاني الشاردة تتصدع لها القلوب، والألفاظ الصادعة تصك الآذان؛ فكل كلمة من كلماته وعيد ونذر، وكل فقراته نار يتطاير منها الشرر؛ وقد يخلطها أحياناً بالسخرية اللاذعة، والتهكم الساخر والهزء الممض، دون إفحاش في ذلك أو بذاءة. فمن ذلك ما كتبه على لسان عز الدولة إلى سبكتين الغزني:

(ليت شعري بأي قدم تواقفنا، وراياتنا خافقة فوق رأسك، ومماليكنا عن يمينك وشمالك، وخيولنا موسومة بأسمائنا تحتك، وثيابنا المنسوجة في طرزنا على جسدك، وسلاحنا المشحوذ على أعدائنا في يدك). ويقول له أيضاً: (تناولتك الألسنة العاذلة، وتناقلت حديثك الأندية الحافلة، وقلدت نفسك عاراُ لا يرحضه الأعتذار، ولا يعفيه الليل والنهار). وتحدث عنه فقال:

(هو أرق ديناً وأمانة، وأخفض قدراً ومكانة، وأتم ذلاً ومهانة، وأظهر عجزاً وزمانة من أن تستقل به قدم مطاولتنا، أو تطمئن له ضلوع على منابذتنا، وهو في نشوزه عنا وطلبنا إياه كالضالة المنشودة، وفيما نرجوه من الظفر به كالظلامة المردودة)

ومن هذا الطرز قوله أيضاً:

(ولما بَعُد صيته بعد الخمول، وطلع سعده بعد الأفول، وجمعت عنده الأموال، ووطئت عقبه الرجال، وتضرمت بحسده جوانب الأكفاء، وتقطعت لمنافسته أنفاس النظراء، نزت به بطنته فأدركته شقوته، ونزع به شيطانه، وامتدت في الغي أشطانه)

وإنا لنجد في كتبه ورسائله محاولة قد تكون ناجحة في هدم الرجال وتخضيد شوكتهم وتعضيد قوتهم، تلك هي التهوين من شأنهم والحط من قيمهم، فيصمهم بوصمة الذل، ويسمهم بسمة الرق؛ وذلك أحز في النفس، وأعلق بالذهن، وأجرى على الألسن؛ وربما كان حديث تنادر، وطرف فكاهة. وهو يلم بالموضوع الذي يتناوله، فلا يترك فيه فرجة إلا سدها، ولو كوة إلا رقعها، وربما استخدم في سبيل ذلك الطب الذي تعلمه في يفعه استخداماً نافعاً؛ فقد عهد الخليفة إلى عالم بالقضاء فكتب إليه يوصيه، فكانت وصاته خليطاً من حكمة الأطباء، وطب الحكماء، فذكر بأن البطنة شر الأدواء، ونبهه على أنها تذهب الفطنة، ثم بصره عواقب البطر، وخوفه آثار الشره، وأنهما يفسدان عليه أمره، ويحطان من قدره، وإليك كتابه:

(وأمره أن يجلس للخصوم وقد نال من المطعم والمشرب طرفاً يقف به عند أول حده من الكفاية، ولا يبلغ منه إلى آخر النهاية، وأن يعرض نفسه على أسباب الحاجة كلها، وعوارض البشرية بأسرها، لئلا يلم به من ذلك ملم، ويطيف به طائف، فيحيلانه عن رشده، ويحولان بينه وبين سداده)

وهذه فقرات من رسالة يصف فيها حرباً نشبت بين المسلمين والروم، وكانت الغلبة للمسلمين، يصور فيها الحرب وقد حمي وطيسها، واشتعل أوارها، فتتخيل إذ تقرؤها أنه أحد قوادها وبطل من أبطالها؛ فإنه ليبعث النخوة في النفوس، ويثير الحمية في الرؤوس، فكأنه يشرع الأسنة لا اليراع، ويشهر الرماح لا الأقلام؛ وإن القارئ ليحسب أن كاتب الرسالة رجل من صفوة المسلمين، وتقي من خلاصة المتقين، لا صابئ من الكفار الجاحدين، فهو يقول:

(فلما استعرت الملحمة، وعلت الغمغمة، ودارت رحى الحرب، واستحر الطعن والضرب، واشتجرت سمر الرماح، وتصافحت بيض الصفاح، تداعى الأولياء بشعار أمير المؤمنين المنصور، وتنادى الكفار بالويل والثبور، فنكصوا على أقدامهم مجدين في الهزيمة، واعتدوا الحشاشات لو سلمت لهم من أعظم الغنيمة، واستلحمتهم السيوف، واحتكمت فيهم الحتوف، وأخذ المسلمون منهم الثار، وعجل الله بأرواحهم إلى النار)

ورسائله الديوانية كثيرة، فلقد خدم عدة ملوك، وطال به العمر فاتصل بكثير من الولاة والأمراء. ولعل ما بين أيدينا من كتابته في هذا الباب قُل من كُثر، فقلما يعني المؤرخون بمثل هذه الرسائل، وإلا لكان له ولغيره ممن اتصلوا بالسلطان عن قرب أو بعد مجلدات يعيا بها العبء، فلنجاوز هذا الضرب من النثر، فقد عرضنا منه ما فيه الغناء؛ وسنتحدث مستقبلاً عن الضربين الآخرين إن شاء الله، ولن تقف بنا دورة الفلك

عبد العظيم علي قناوي
تصنيف:

مجلة الرسالة/العدد 241
 
أعلى