فضل بن عمّار العماري - الكتابة شعرًا في نظم أبي تمام

برز موقف جديد ينحو بدراسة شعر أبي تمام نحو النقد الغربيّ، فطه حسين، رأى فيه، في قراءة عابرة، ما رأى بول فاليري في مالارميه، وتبعه شوقي ضيف، فقال: «إن هناك شبهًا بين غموضه ومعانيه العويصة، وغموض الرمزيين المتفرِّع عن البرناسيين الذين يعنون بالموسيقا والجمال المادي». وجاء أدونيس، بموقف الحداثة القائل: «إن أبا تمام انطلق من أولية اللغة الشعرية…أي خلق العالم باللغة…شعره يصدر عن «ضمير صنع. ليصل إلى أن الشعر «هو التطابق أو زواج الكلمة البكر بالعالم البكر» وهي مفاهيم مشتقة من مالارميه وبودلير وفاليري». وربط كمال أبو ديب بين شعر أبي تمام والشعر الإنجليزي الميتافيزيقي في القرن السابع عشر الميلادي. ومن الغريب أن هذا الشعر الميتافيزيقي شعر الروحانيات والفلسفة، كما عند J. Donne- وG. Herbert A. Marvell و. Vaughan H وهو خلاف شعر القرن السابع عشر الشكسبيري- لا يتفق مع قوله الذي خلّط فيه، فجاء مشوَّهًا، صورة أخرى من قراءة أدونيس: «الحداثة في شعر أبي تمام».

وورد في دراسة إيليا حاوي لأبي تمام اسما مالارميه، ورامبو. والأشد غرابة أن يقول عنه في موضع آخر: «الحقيقة…أن طبيعة شعره كانت تناقض التجربة الرمزية؛ لأنه من أصحاب الاتجاه العقلي ومن الذين يتفكرون على التجربة بقدر ما يعانونها، وربما كان يتفكر بها أكثر مما يعانيها». ولكنه كذلك لا يستبعده من البرناسيين. والعجب كل العجب أن عمَل حسين الواد -وإن كان أثر عبدالقادر الرباعي وكمال أبو ديب فيه واضحًا، وإن لم يذكر هنا- تطبيق عمليّ لما فهمه من انتهاج أدونيس نهج الرمزيين، ولم يذكر أدونيس أيًّا من أولئك، مع فارقٍ هو أسبقية الرؤية عند أدونيس وجمودها عند الواد. يتفق الواد الآن مع أدونيس، حتى إنه يشير إليه ولا يذكره في قوله: «وقد تأثر كتّاب الحداثة في البلاد العربية بهذا المسلك حتى جعلوا لأبي تمام منزلة في الشعر القديم شبيهة بمنزلة مالارميه في الشعر الفرنسي لما لمسوه بين شعريهما من وجوه التشابه والتقارب».

ولهذا قال: «تأسر الناظر في شعر أبي تمام، من ناحية اختياراته اللغوية، أول ما تأسره منه، تلك اللغة الأساسية المنتقاة التي تكاد تنطق بلسان حال العالم. وهي لغة أنفق الشاعر في انتقائها مجهودًا كبيرًا، فالتمسها في الموروث الشعري، واستخلصها من مخبوء كلام العرب، فأحدث بها المفاجأة التي تبعث على الاندهاش، وتستفز الحس، وترجع بالمرء إلى التأمل في علاقة الأسماء بالمسميات في النظام اللغوي. ثم إن هذه الاختيارات تجرجر معها قضايا لغوية كانت محلّ خلاف لم يُحسم…». والمهم أن الواد، الذي لم يقدّم جديدًا، عاد، واعترف بتحصيل أدونيس، بل نقض هذا التطبيق عمومًا، واضطرب، فتورّط، حين قال: «استعمل أبو تمام إلى جانب هذه الاختيارات التي تعتمد، عادة، في التمييز بين الكلام الفني والكلام العادي، اللغة التي يكثر جريانها في المحاورة فقصَّ وسردَ وعلَّق شعره باليومي والتافه والراهن وأورد ألفاظًا من كلام «العامة وتعابيرهم». بينما يقيم دراسته على إيجاد حلّ لاختيارات أبي تمام اللغوية، على أساس أن لغته لغة ليست مكتسبة أو مصطنعة.
الشعر الفرنسي وأبو تمام

بل ابتدأ بالقول: «استعمل… الكلام الغريب الوحشي والساذج الغث السخيف المبتذل الذي يتنكّبه المُغرِبون ويترفّع عنه الشُّداة المبتدئون ويتجنّبه الصِّغار من المتشاعرين». فهِم الواد الشعرَ علـــــى أنه «فعل شعري»، ولم يستقم له الربط بين «الواقع والحلم والخيال»، فها هو يقول: «الفعل الشعري…فعل إرادي وواعٍ، فلو لم يكن كذلك لكان هذيان المجانين وكلام الحمقى شعرًا». وسنرى أن هذا نقيض رأي الرباعي. وحيث ينحدر الشعر إلى الإرادة والوعي، ولا توضع قيمة للعاطفة في هذه العمل، فإن المقارنة بين الشعر الفرنسي الرمزي وشعر أبي تمام لا واقع لها. وإنما أخضع الواد شعر أبي تمام له على ما بينهما من بون شاسع. ولا عجب أن تتأسّس دراسة الرباعي على «الإلهام الفطري»، و«القصيدة عند أبي تمام… شعرية تعبيرية أخرجها الانفعال وولّدها الخيال»، و«اندماج الذات في الموضوع»، و«في قصائده المدحية… تشعر أنك فوق اللذة الأرضية… كان يمتلك دائمًا انفعالًا قويًّا…إنه زحزح اللغة عن مواضعها». وكذلك: «كان أبو تمام في دراميته شبيهًا بـ(هاردي) وعلينا أن نلحظ الفرق بين المدرستين: المدرسة الرمزية ومدرسة كلٍّ من شكسبير وهاردي، التي يحاول كل فريق أن ينسب أبا تمام إلى إحداها. وإذ أصبحت الجادَّة سالكة لشعر أبي تمام، وآلَ إلى تلك النتيجة، فإن بعض أصحاب النقد الحديث رأى أنه لم يعد بعدُ مجال للعودة إلى الوراء، وكان علينا أن نتقدّم خطوات في دراسة أبي تمام، فكان هنالك طريقان: الطريق الأول هو الطريق البنيوي، على ما تمّ على يد يسرية المصري، ثم الطريق الذي يجمع بين البنيوية والتأويل.

وقد أقام سعيد السريحي دراسة عن شعر أبي تمام، على منهج «جدلية الأضداد». وواضح من تحليلاته أننا خرجنا من التحليل إلى التأويل، وليت ما قاله السريحي صادقًا: «إن الشعر عنده تجربة مع اللغة تتفجر فيه أعماق طاقاتها، وتترامى فيها الكلمات إلى آفاق قصوى».. ورأينا منه مؤخَّرًا ذكر للرمزية والميتافيزيقية. وقد أشاد الواد بالسريحي، فقال: «أما عمليًّا فيتمثّل انعتاق السريحي من الحِرباويّة في اتجاه الباحث إلى فهم الأبيات الشعرية في علاقة مكوّناتها بعضها ببعض مع السعي إلى فهم اختيار الشاعر لها دون سواها في اللفظ أو التركيب أو في العلاقات التي تنسجها داخليًّا وتدلّ بها خارجيًّا». وليس هناك خلاف يذكر بين السريحي والواد وستيتكيفيتش، إلا إيغال الأخيرة في «البنية الطقوسية».

التصنيع وتشويه الشعر

لقد شوّه التصنيع شعر أبي تمام، ولم يبق له إلا الصور مجتزأةً، والألفاظ موقَّعةً، إذ لم يكن يهمّه إلا ذلك الحشد. كان أبو تمام واعيًا كل الوعي بالعملية الشعرية، حاضرًا كل الحضور في أثناء الصياغة الشعرية، فكانت هذه مفارقة حادّة بين الشعر والصناعة. وحتى يكون شعرًا لا بد أن يتناغم مع سواه في جو انسجامي مشحون بالعاطف والتنامي، وأن يأتي متفجرًا من أعماق نفسه. ولم تكن معاني أبي تمام جزءًا من روحه الخفّاقة، بل كانت صياغات خياله المدرِك، من تفكيره. وهنا يتبيّن البون الشاسع بين الشعر الحلم والصناعة الشعرية. وهنا، علينا التوقّف كلية عن دراسة شعر أبي تمام دراسة فنية أو إبداعية، وإن جاز لنا أن نقرأه أسلوبيًّا (لغة وتراكيب) على أنه طريقة كتابية، وليس شعرًا. ومن ثم، نتفق مع عبدالله التطاوي حين ساح مع نقد أبي تمام، مائلًا إلى تقديمه، ولكنه انتهى إلى القول: «التقت فيه العلوم، وتبلورت المصطلحات ممّا أثقل كاهل العملية الفنية كموقف إبداعي التقى فيه الوجدان بالعقل، والفكر بالشعور، والفن بالمنطق وبغيره من العلوم». وإن خالف هذا بعد زمن، فقال: «حالة العقل والاضطراب التي يعيشها الشاعر لحظة الإبداع ليستجمع طاقته وليصوغ فنّه، ومع محاولة الاضطراب – هذه- تتسع دائرة الانفعالات الأصيلة التي تحوّل المادة الواقعية إلى مادة فنية، وتحيل الحقائق إلى رموز».

وماذا يبقى لأبي تمام، إن وافقنا على مقولة عبده بدوي: «الثابت أن موسيقا أبي تمام كانت ريّانة، ومسترسلة حين يطلق لوجدانه العِنان ولكن حين يتحكّم فيها العقل نحسّ بنوع من الخفوت والرتوب الموسيقي». فكيف يكون هذا شاعرًا؟

ولم يأت أبو تمام من فراغ، بل جاء من ثقافة أدبية، شكّل أبو تمام قمتها، أي: استخدام البديع، وهكذا، سلَّم الجميع بأن هذا هو نوع الشعر الذي يفرض نفسه. وبالتأكيد، فإن هذا النوع من الشعر كان خاصًّا بالطبقة العليا من المتعلّمين، ولم يكن يستهوي الشريحة الواسعة من القرّاء، حتى إنه كان مفصولًا كلية عن الشعب. كان أبو تمام فاتر العاطفة، جامد الإحساس. ويرى سيد الأهل أن هذا: «هو غاية الإبداع الفني». يقول بدوي: «إنه شاعر «صنّاع». ولقد قال العشماوي: «كان معظم محاولاته ضربًا من العناية بالشكل وإسرافًا في التأنق والتزويق والزخرف».. ليست الشاعرية في الشعر «المحدَث» مسألة إلهام وأحلام، وإنما مسألة وعي وصناعة، وعلى مقدار ما يتحقّق في ذلك الشعر من غنائية وتأثير يكون استقبال ذلك الشعر، بحيث لم يعد هناك أدنى معيار لما قاله أبو العتاهية، أو ابن دريد، أو ابن المعتز، أو غيرهم من العلماء والفقهاء، والكُتّاب، والنقّاد، والفلاسفة، وهلمَّ جرًّا. وكان النقّاد الأوائل قد وضعوا معيارًا فصلوا به بين الشفوي والكتابي: «الإسلاميون» و«المولَّدون» و«المحدَثون». والعجب أن يمجّد نجيب البهبيتي هؤلاء، فيما نرى خلافه عنده، فيقول: «أما ما كتبه القدماء، فأحكام مركَّزة صادقة، تقوم على علم صحيح، وإلمام سليم بدقائق فنّ أبي تمام ومذهبه، وهم في ذلك لا يَغلون، ولا يفرّطون، وليس فيما كتبوه شيء من التخليط الذي هو الطابع البيّن لبعض الكتابات الحديثة…».

وكان أولئك الدارسون قد ضربوا عُرض الحائط بنقد محمد مندور الذي لم يجد في شعر أبي تمام، كي يكون تجديديًّا إلا «استعارة الهياكل»؛ لأنه أدب جزئيات «صادر عن صنعة ووعي بما يفعل، وأن الطبع فيه ضعيف الحظ» حتى وصفه وصفًا لائقًا به، وهو «الكلاسيكي الجديد». ولقد كان إخفاق دعاة الميتافيزيقية الرمزية وكذلك الشكسبيرية- الهاردية اللتين قامت عليهما البنيوية من كونهما لم يقدّما نماذج عملية من الرمزية نفسها للقياس والمقارنة؛ لأن ذلك غير ممكن، وإنما عرضوا انطباعية وذاتية، فتحجّرت البنيوية. ليست الميتافيزيقية إلا مغالطة وجهالة، فشعر أبي تمام أبعد ما يكون عنها.

وليست الرمزية أبياتًا منتقاةً؛ لأن «الشعرية عند مالارميه هي شعرية الأحاسيس الباطنية والانفعالات المتأجّجة لا شعرية القوالب اللغوية الجاهزة». وإن وضع شعر أبي تمام في مكانه الملائم له من صناعة البلاغة العربية هو الوضع المناسب له جدًّا. ولذا، فإنه لا يسع المرء إلا أن يدهش أشد الدهشة لهذا التحكم في تحويل الفنّ الكتابي إلى صناعة شعرية؛ وليته كان فنًّا شعريًّا خالصًا!! ومن ثمّ، فإن أبا تمام باستعماله لغة لا يستخدمها، ولا تجاري عصره، حتى في اللغة الفصحى المكتوبة في ذلك العصر، يقع خارج العصر والزمان والطبيعة، فهي إذن لغة -لغته الأم- لا تصلح للدراسة على النحو السابق. والظن بأن أبا تمام كان يتكلم الفصحى سليقة هو الذي جرّ إلى كل تلك المغالطات. أننتهي حسبما يرى بسيوني عبدالفتاح بسيوني إلى أن موقفنا من شعر أبي تمام ليس لأنه تمادى في الإغراب والتخييل، وإنما لأنه كان يستخدم اللغة بوعي تامّ، وهنا تكون المفارقة، وليس لأن الشعر عنده «نتاج عبقرية؟ وهل نقبل رأي كامل حسن البصير القائل: «كثير هو دون شكّ شعر أبي تمام الذي لا يغذّي في هذا العصر عقلًا ولا عاطفة والذي إن دُرس فإنما يُدرس لغاية تاريخية».



فضل بن عمّار العماري
 
أعلى