مصطفى عمر الأنور - أبو العلاء المعري.. عندما خرج الرهين من محبسه

أراني في الثلاثة من سجوني = فلا تسأل عن الخبر النبيث
لفقدي ناظري ولزوم بيتي = وكون النفس في الجسم الخبيث
أبو العلاء المعري

لم يتفق طه حسين مع تعبير «رهين المحبسين» الذي أطلق على حكيم المعرة. رأى في سيرته سجنًا ثالثًا، سجن خيالي فلسفي لمن يتوق إلى الحرية مثل المعري. رأى المعري أنه لا حرية من هذا السجن إلا بالموت، وهي حرية مجهولة المدى مجهولة الموضوع، لا نستطيع تقديرها أو تجربة لذاتها ونحن أحياء. جاء العقاد ليقتص في خياله من السجون الثلاثة التي عانى منها المعري «لعلها أربعة إذا أضفنا إليها سجن القبر». خطر له أن يحقق للحكيم حلمه بالحرية؛ فأعاده من موته يجوس خلال الديار، ويتمرس بأحوال الأمم في عالمنا الحاضر، يدور حول بلدان الأرض مبديًا آراءه وأقواله. لكن العقاد شعر بغضاضة قد تستوجب اعتذارًا للمعري في إعادته للحياة، فها هو يعيده إلى سجنه الثالث مرة أخرى، ها هو المعري المدبر عن الحياة الزاهد فيها يعود أو يُعاد ثانيةً من الموت.

عرض العقاد في كتابه «رجعة أبي العلاء» حوادث الدنيا لشيخ المعرة، ونظرة الشيخ ورد فعله تجاه أحوال العصر الحاضر. تخيل لو أنه لم يكن في سجن العمى، ونجا من الجدري الذي أصاب عينيه، لم يكن ليصبح المعري الشاعر والفيلسوف. كان في الأغلب سيصبح مرشحًا للقضاء مثل بعض أهله مكتفيًا بالدروس الفقهية مستغنيًا عن دروس الحكمة والفلسفة والأديان. كان سيجد الوظيفة والبصر، لكنه بعد موته يعيش في ظلام التاريخ. رأى العقاد أن المعري تشابه مع أبي نواس في الثقافة العربية، ومع عمر الخيام في نزعته الفلسفية المتصدية إلى مشكلات الوجود، والباحثة عن أصول الأشياء؛ بل كان يشبههما في اشتهاء الخمر والنزوع إلى شربها خاصةً في بعض أوقات العزلة حتى لقد قال عنها: فلا تشربنها ما حييت، وإن تمل.. إلى الغي فاشربها بغير نديم.

كان الجميل والممتع في صحبة العقاد لأبي العلاء أنك تسمع رأي المعري في مسائل العصر الحاضر وشؤونه. رأينا المعري وهو يبدي رأيه في الحكومات العسكرية، ويوازن بين فضيلة الاستقرار، ورذيلة الاستبداد. عرفنا رأي المعري في الفكر النازي، وكيف وظّف العقاد حسه الساخر في إبداع الحوار بين الصحافي الإسرائيلي، والشيخ. أخرج العقاد قدر ما استطاع من جعبة المعري الشعرية آراءه في الشيوعية السوفيتية، ونظم الدعم الاجتماعي في إسكندنافيا، والحكم النيابي في بريطانيا. استفاض العقاد شارحًا للحكيم من هم برنارد شو وروزفلت ودانتي، ورأي البعض في التشابه بين رسالة الغفران والكوميديا الإلهية، واقتباس الثانية من الأولى. لم يعجب معري العقاد بحب الأمريكيين للمال. وبعد طواف طويل بالصين والهند وفارس والعراق ومصر، يختم العقاد كتابه بأبيات شعر له عن المعري تودعه وكأن اللقاء كان حقيقيًّا.

كان الدكتور طه حسين يرى في معرض نقده للأستاذ العقاد حول الكتاب أن صاحب الكتاب لم يرتحل، ولم يطف بأقطار الأرض التي زارها مع المعري، فلم يرها رأي العين ،ولم يلمم بها إلا عن طريق الكتب؛ فكانت النتيجة أن الارتحال كان في طائفة من الكتب التي قرأها العقاد، وفي فنون من الآراء التي أتقنها واستقصاها. بالطبع كان رد العقاد أن الرجل نفسه «المعري» كتب عن الجنة والجحيم والعالم الآخر وهو قابع في محبسيه. كذلك رأى طه حسين أن العقاد وضع آراءه على لسان المعري فـ«أراد أن يعطينا صورة من أبي العلاء لو عاش في هذا العصر؛ فأعطانا صورة من الأستاذ العقاد الذي يعيش في هذا العصر»، بالرغم من أن العقاد كان لا يسند فكرة أو جملة للمعري إلا ودلل عليها ببيت شعري قاله الحكيم في مسألة قديمة تقترب من المسألة الحديثة. لا نعرف ختامًا هل نستطيع استشفاف رأي المعري وحلوله تجاه إشكالات العالم المعاصر، وخاصةً أحوال العالم العربي أم أننا بحاجة إلى آلة الزمن هذه المرة؟
 
أعلى