مقامات حسن اليملاحي - المقامة المضيرية عرض وتحليل

عـلى سـبيل التقديم:
المقامات من الفنون الأدبية التي تفننت العرب فيها، وقد عرفت انتشارا واسعا في أوساط التلقي العربي القديم والحديث.
وتبرز أهمية المقامات من الناحية القيمية في الدراسات والأبحاث النقدية التي تناولتها بالمقاربة والتحليل. وعلى الرغم من حجم وطبيعة هذا التناول النقدي الذي قوبلت به المقامات، تبقى هاته الأخيرة في الحاجة إلى المزيد من الاهتمام النقدي قصد اكتشاف أبعادها الإنسانية والجمالية التي تتخفى وراء نصوصها.
"صحيح أن هناك محاولات في هذا الميدان، لكنها تصب اهتمامها على السرد الأدبي انطلاقا من مفهوم ضيق للأدب، يتناول الباحث أصنافا معينة من السرد، ويقصي أصنافا أخرى لا يعتبرها أدبية"(1).
وهكذا " لقد أصاب المقامة عبر التاريخ ما أصاب سائر أجناس الأدب التي تستقرأ ماهيتها في الغالب خارج حدود الدائرة الجمالية التي تخصها"(2).


في تجنيس المقامات:
هل يمكن تعريف المقامات أجناسيا؟
الحديث عن المقامة من الناحية النظرية، يقود ضمنيا إلى طرح جملة من الأسئلة النقدية حول التعريف الأجناسي للمقامات، في الوقت الذي ظلت فيه هاته الأسئلة منشرعة على الكثير من الإجابات والتعريفات.
إن هذا الاختلاف الذي يميز التناول النقدي للمقامات من داخل التعريف الأجناسي بقدر ما يحيل إلى أهمية وحضور هذا الجنس في مجال السرد الأدبي، فهو يحيل من جانب آخر إلى طبيعة الالتباس الذي يميزه عن باقي الأجناس الأدبية الأخرى. فهي ـ أي المقامات ـ بهذا المعنى "مندرجة في دائرة التعدد والمزيج"(3)، كما يقول عبد الفتاح كيليطو.
وبعيدا عن الفوضى النقدية الجميلة التي عادة ما تطرح نفسها لحظة تعريف المقامة، يمكن القول أنها تدخل في دائرة الجنس الأدبي الذي يأخذ وجوها كثيرة، وهي بهذا المعنى "كون قائم الذات" كما يقول ذلك الناقد المغربي محمد أنقار.


في المضمون:
المقامة المضيرية، من أشهر مقامات بديع الزمان الهمذاني، إذ تنسب لمضيرة، وهي طعام عبارة عن لحم يطبخ باللبن المضير، أي الحامض، وتعتبر من أجود طعام أهل الحضر في بلاد فارس والعراق.
تدورفصول وأحداث المقامة حسب حديث عيسى ابن هشام، أن الإسكندري دعي إلى وليمة، فقدمت إليهما مضيرة، غير أن الإسكندري امتنع عن تناولها، فلما استفسر عن سر امتناعه، روى قصته معها.
وتبدأ القصة الثانية لما دعاه أحد التجار إلى مضيرة، فانزعج بأحاديثه الرتيبة والطويلة، أمام ذلك فضل الإسكندري الانصراف والهروب فتبعه التاجر يناديه، المضيرة المضيرة، إذ اعتقد صبيان الحي أنه يلقب بذلك، فأمطروه صيحا، لكنه أمام ذلك فقد أعصابه، وقرر في النهاية أن يرشقهم بالحجارة، إذ أصاب رجلا، فكان أن أمسكوه، وضربوه، ليتم اقتياده السجن، ومنذ ذلك الوقت أقسم الإسكندري على نفسه أن لا يتناول المضيرة.


في المتن الحكائي:
تتناول المقامة المضيرية جملة من القضايا المتنوعة والمختلفة، وهي على هذا النحو اجتماعية، اقتصادية، تربوية، ثقافية، إنسانية.
ولعل أبرز هاته القضايا محنة الإسكندري مع الوليمة التي جلبت له مشاكل عدة.
ـ كيف صورت المقامة المضيرية صورة الإسكندري؟
يرمز اسم الإسكندري في كتاب المقامات لبديع الزمان الهمذاني إلى "المكدي" وهو كما معلوم شخص غريب الطبائع، شديد الحيل، مغامر، عالم، مثقف، دائم الانتصار للمكر والخداع بوسائل إبداعية ملفتة ، الشيء الذي ضمن له النجاح في كل أدواره التي يلعبها.
إن الإسكندري ـ في المقامة المضيرية ـ يجسد صورة "الضحية" الذي يتعرض إلى عنف الآخرين، إما نتيجة لأخطاء في الحسابات وسوء تقديريه الذي قاده إلى السجن. فهو بهذا الأمريجسد صورة الإنسان الذي يتحمل الآلام والجراحات مقابل قيم السلام والأخلاق
هاته الصورة كما تطرحها المقامة المضيرية تدفعنا إلى طرح الأسئلة الإنسانية الـتـالـيـة:
ـ هل من الضروري أن ينتهي المطاف بالإسكندري إلى السجن؟
ـ ما هي الجريمة التي اقترفها؟
ويبقى السؤال الأهم هو:
هل ستغير لغة العنف مثل ـ التي تعرض لها الإسكندري ـ من المشاكل الإنسانية ؟


في شخوص المقامة المضيرية:
في المقامة المضيرية تتسارع الأحداث متسارعة على نحو ملحوظ، كما يأتي الحكي خاضعا إلى الكثافة والقوة، وهي سمة جمالية بقدر ما تعني انفتاح النص على قضايا وأسئلة نقدية عديدة، فهي تعني أيضا أن المساحة النصية وما يرافقها من تنوع في الأزمنة والأمكنة، قد سمحت باحتضان شخوص كثيرة ومتنوعة، الشيء الذي أضفى طابعا رحبا على البناء النصي للمقامة . وهكذا ومن داخل هذا الاكتمال النصي يمكننا الإشارة إلى:
إلى جانب عيسى ابن هشام (الراوي الأول)، والإسكندري الذي يجسد الراوي الثاني والوسيط السردي، نشير إلى التاجر الأول والثاني وهم جميعا يشكلون نواة شخصيات محورية تعكس أدوارا بارزة في المبنى الحكائي، من حيث الحوارية والتفاعلية التي تتوسل بشخصيات ثانوية أخرى عابرة من قبيل:
: معاوية، إسحاق ابن محمد، عمران الفرائضي، الغلام، العباس، النخاس، الخباز، التلميذ.
على الرغم من دورها الثانوي داخل النص فهي تمثل حضورا رمزيا يميزها عن باقي الشخصيات الأخرى المكونة للنص ، فهي ـ داخل النص ـ لم تكن وليدة الاعتباطية، بقدر ما تحيل إلى دلالات ثقافية واجتماعية متنوعة.
غير أن هذه الشخصيات تبدو مختلفة فيما بينها من حيث المركز الاجتماعي والثقافي، ونذكر هنا بشكل خاص الحرفي، البورجوازي، الفقير، الطالب، وكل شخصية من هذه الشخصيات تحيل إلى مستوى ونمط من الوعي الاجتماعي والأخلاقي الذي يعيشه مجتمع الإسكندري.


صورة المرأة في المقامة:
بالرغم من طبيعة حضور المرأة الذي يغلب عليه طابعا محتشما على لسان التاجر الثاني، تظل صورة المرأة مهمة داخل المشهد النصي للمقامة ، فهي بهذا تعكس نموذج المرأة الحاذقة، الطباخة الماهرة، ذات المنظر والحسن الجميل، والمعشوقة.
إن هذا الترميز الذي يعكس وضعية وأفق المرأة الإنسانة الخدومة والمتشبعة بروح القيم والعادات والتقاليد الاجتماعية التي تمتح منها في سياق الحياة، إنما يعكس نوعا من الرؤية الدونية لدور المرأة الذي حصرته المقامة في دور تقليدي لا يخرج عن دائرة (الطبخ، العناية بالبيت)، ودور آخر يختزل كينونتها في البعد الجمالي.


في الانفتاح النصي
القارىء للمقامات يدرك أن هذا الجنس الأدبي لا يتسع فقط لما هو نثري، بقدر ما أنه ينفتح على أجناس أدبية أخرى متنوعة ومختلفة، وفي هذا السياق يمكن الحديث عن تجاور وتعالق الكثير من النصوص بالمقامة، شعر، قصة، حكم، أمثال، رسائل، مناظرات.. إلى غيرها من باقي النصوص الأخرى.
إن هذا التجاور والتعالق يشير إلى ما يميز هذا الجنس الأدبي من قوة واتساع يشمل كل هموم الإنسانية، من داخل جدوى الكتابة الإبداعية وسؤال علاقتها الإبداع بالإنساني.
وغني عن البيان أن المقامة" تنفتح على أدب الطعام والموائد في الثقافة العربية الإسلامية، ويحضر الطعام في مقامات البديع والحريري مرتبطا ببطل الكدية-أبي الفتح الإسكندري وأبي زيد السروجي-. وقد يتحول الراوي- السارد- إلى فاعل سردي يحتال في سبيل الحصول على مأدبة عامرة بالطيبات واللذائذ" (4).
كما يلاحظ أن" حضور الطعام والبطل المتطفل أو الطفيلي يبدو بارزا في- المقامة المضيرية- للبديع، إلا أن ما يميز هذه المقامة عن سواها من مقامات الكدية أنها تقوم بقلب أفق توقعات المتلقي. فالطفيلي في المقامة المضيرية لن يحظى أبدا بالمائدة العامرة، وسيتحول إلى ما يصفه بيرجسون" henri bergson" باللص المسروق أي الشخصية التي تقع ضحية للنوع المحدد من الفعل الذي ترتكبه عادة. وإذا كان عيسى بن هشام في المقامة البغدادية هو المتحكم في مجريات السرد شأنه في ذلك شأن بخلاء الجاحظ، فإن هناك قلبا لأدوار التلقي في المقامة المضيرية يترتب عليه أن يصاب الضيف بحبسة لغوية، فالمضيف قد حرمه من الكلام. كما أن أبا الفتح الإسكندري يتماهى مع المضيرة ويصبحان شيئا واحدا"5).


في البعد التداولي الوظيفي
إن المقامة في مبناها ومعناها تطمح إلى أن تلعب دورا وظيفيا وإنسانيا في سياقها التداولي، بالإضافة إلى أنها تتحدث بلسان شرائح مجتمعية متعددة، فهي تعكس تعددا متنوعا في الأصوات والمرجعيات، خطاب التاجر، خطاب عيسى ابن هشام…، كما أنها أيضا تستضمر بعدا تربويا يكمن في نزوعها نحو صياغة بعض القواعد الحكمية، وهكذا في المقامة المضيرية يمكن الحديث عن حكم وأمثال عديدة نقتطف منها ما يلي:
ـ السعادة تنبط الماء من الحجارة.
ـ المؤمن ناصح لإخوانه.
ـ لكل آلة قوم.
ـ يزل عن حائطه الذر فلا يعلق.
ـ يمشي على أرضه الذباب فيزلق.


خلاصة واستنتاج
تبقى المقامة من الفنون الأدبية الممتعة، إضافة إلى كونها سجلا تاريخيا يكشف عن مهارة وقدرة الكاتب العربي الإبداعية. وعلى الرغم من كونها- أي المقامة- تبدو عصية من حيث المبنى والمعنى، فإنها لا زالت تستأثر باهتمام المتلقي والناقد معا، ولعل ذلك يكمن في طبيعة النجاحات التي حققتها في مجال الإبداع العربي.



حسن اليملاحي
 
المقامة المضيرية
بديع الزمان الهمذاني

حَدَّثَنا عِيسَى بْنُ هِشامٍ قَالَ:
كُنْتُ بِالبَصْرَةِ، وَمَعِي أَبُو الفَتْحِ الإِسْكَنْدَرِيُّ رَجُلُ الفَصَاحَةِ يَدْعُوهَا فَتُجِيبُهُ، وَالبَلاغَةِ يَأَمُرُهَا فَتُطِيعُهُ، وَحَضَرْنَا مَعْهُ دَعْوَةَ بَعْضِ التُّجَّارِ، فَقُدِمَتْ إِلَيْنَا مَضِيرَةٌ، تُثْنِي على الحَضَارَةِ، وَتَتَرَجْرَجُ في الغَضَارَةِ، وَتُؤْذِنُ بِالسَّلاَمَةِ، وَتَشْهَدُ لِمَعَاوِيَةَ رَحِمَهُ اللهُ بِالإِمَامَة،ِ فِي قَصْعَةٍ يَزِلُّ عَنْهَا الطَّرْفُ، وَيَمُوجُ فِيهَا الظَّرْفُ، فَلَمَّا أَخَذَتْ مِنَ الخِوانِ مَكانَهَا، وَمِنَ القُلُوبِ أَوْطَانَهَا، قَامَ أَبُو الفَتْحِ الإِسْكَنْدَرِيُّ يَلْعَنُهَا وَصَاحِبَهَا، وَيَمْقُتُهَا وَآكِلَهَا، وَيَثْلِبُهَا وَطَابِخَهَا، وَظَنَنَّاهُ يَمْزَحُ فَإِذَا الأَمْرُ بِالضِّدِّ، وَإِذَا المِزَاحُ عَيْنُ الجِدِّ، وَتَنَحَى عَنِ اُلْخِوَانِ، وِتِرِكِ مُسَاعَدَةَ الإِخْوَانِ، وَرَفَعْنَاهَا فَارْتَفَعَتْ مَعَهَا القُلُوبُ، وَسَافَرَتْ خَلْفَهَا العُيُونُ، وَتَحَلَّبَتْ لَهَا الأَفْوَاهُ، وَتَلَمَّظَتْ لَهَا الشِّفَاهُ، وَاتَّقَدَتْ لَهَا الأَكْبَادُ، وَمَضَى فِي إِثْرِهَا الفُؤَادُ، وَلكِنَّا سَاعَدْنَاهُ على هَجْرِهَا، وَسَأَلْنَاهُ عَنْ أَمْرِهَا، فَقَالَ: قِصَّتِي مَعَهَا أَطْوَلُ مِنْ مُصِيبَتي فِيهَا، وَلَوْ حَدَّثْتُكُمْ بِهَا لَمْ آمَنِ المَقْتَ، وَإِضَاعَةَ الوَقْتِ، قُلْنَا: هَاتِ: قَالَ: دَعَاني بَعْضُ التُّجَّارِ إِلَى مَضِيرَةٍ وَأَنَا بِبَغْدَادَ، وَلَزِمَنِي مُلاَزَمَةَ الغَريمِ، وَالكَلْبِ لأَصْحَابِ الرَّقِيمِ، إِلَى أَنْ أَجَبْتُهُ إِلَيْهَا، وَقُمْنَا فَجَعَلَ طُولَ الطَّرِيقِِيُثَنِي عَلَي زَوْجَتِهِ، وَيُفَدِّيهَا بِمُهْجَتِهَ، وَيَصِفُ حِذْقَهَا فِي صَنْعَتِهَا، وَتَأَنُّقَهَا فِي طَبْخِهَا وَيَقُولُ: يَا مَولاْيَ لَوْ رَأَيْتَهَا، وَالخَرْقَةُ فِي وَسَطِهَا، وَهْيَ تَدُورُ فِي الدُّورِ، مِنَ التَّنُّورِ إِلَى القُدُورِ وَمِنَ القُدُورِ إِلَى التَّنُّورِ تَنْفُثُ بفِيهَا النَّارَ، وَتَدُقُّ بِيَدَيْهَا الأَبْزَارَ، وَلَوْ رَأَيْتَ الدُّخَانَ وَقَدْ غَبَّرَ فِي ذَلِكَ الوَجْهِ الجَمِيلِ، وَأَثَّرَ فِي ذَلِكَ الخَدِّ الصَّقِيلِ، لَرَأَيْتَ مَنْظَراً تَحارُ فِيهِ العيُوُنُ: وَأَنَا أَعْشَقُهَا لأَنَّهَا تَعْشَقُنِي، وَمِنْ سَعَادَةِ المَرْءِ أَنْ يُرْزَقَ المُسَاعَدَةَ مِنْ حَلِيلَتِهِ، وَأَنْ يَسْعَدَ بِظَعِينَتِهِ، وَلاَ سِيَمَّا إِذَا كانَتْ مِنْ طِينَتِهِ، وَهْيَ ابْنَةُ عَمِّي لَّحَا، طِينَتُها طِيِنَتِي، وَمَدِينَتُهَا مَدِينَتي، وَعُمُومَتُهَا عُمُومَتِي، وَأَرُومَتَها أَرُومَتي، لَكِنَّها أَوْسَعُ مِنِّي خُلْقاً، وَأَحْسَنُ خَلْقاً وَصَدَّعَنِي بِصِفَاتِ زَوْجَتِهِ، حَتَّى انْتَهَينَا إِلَى مَحَلَّتِهِ، ثُمَّ قَالَ: يَا مَوْلاي تَرَى هَذِهِ المَحَلَّةَ? هِيَ أَشْرَفُ مَحَالِّ بَغْدَادَ، يَتَنَافَسُ الأَخْيَارُ في نُزُولِها، وَيَتَغايَرُ الكِبَارُ فِي حُلُولِهَا، ثُمَّ لاَ يَسْكُنُهَا غَيْرُ التُّجَّارِ، وَإِنَّمَا المَرْءُ بِالْجَارِ وَدَارِى فِي السِّطَةِ مِنْ قِلادَتِهَا، وَالنُّقْطَةِ من دَائِرتَهَا، كَمْ تُقَدِّرُ يَا مَوْلايَ أُنْفِقَ عَلى كُلِّ دَارٍ مِنْهَا? قُلْهُ تَخْمِيناً إِنْ لَمْ تَعْرِفُهُ يَقِيناً، قُلْتُ: الكَثِيرُ، فَقَالَ: يَا سُبْحَانَ اللهِ! مَا أَكْبَرَ هَذا الغَلَطَ! تَقُولُ الكَثِيرَ فَقَطْ? وَتَنَفَّسَ الصُّعَدَاءَ، وَقَالَ: سُبْحَانَ مَنْ يَعْلَمُ الأَشْيَاءَ، وَانْتَهَيْنَا إِلَى بَابِ دَارِهِ، فَقَالَ: هَذِهِ دَارِي، كَمْ تُقَدِّرُ يَا مَوْلايَ أَنْفَقْتُ على هذِهِ الطَّاقَةِ? أَنْفَقْتُ واللهِ عَلَيْهَا فَوْقَ الطَّاقَةِ، وَوَرَاءَ الفَاقَةِ، كَيْفَ ترى صَنْعَتَهَا وَشَكْلَهَا? أَرَأَيْتَ باللهِ مِثْلَهَا? انْظُرْ إِلَى دَقَائِقِ الصَّنْعَةِ فِيهَا، وَتَأَمَّلْ حُسْنَ تَعْرِيجَهَا، فَكَأَنَّمَا خُطَّ بِالبِرْكارِ
وَانْظُرْ إِلى حِذْقِ النَّجَّارِ فِي صَنْعَةِ هذَا البَابِ، اتَخَذَهُ مِنْ كَمْ? قُلْ: وَمِنْ أَيْنَ أَعْلَمُ، هُوَ سَاجٌ مِنْ قِطْعَةٍ وَاحِدَةٍ لاَ مَأْرُوضٌ وَلا عَفِنٌ، إِذَا حُرَِكَ أَنَّ، وَإِذَا نُقِرَ طَنَّ، مَنِ اتَّخَذَهُ يا سَيِّدِي? اتَّخَذَهُ أَبُو إِسْحَاقَ بْنُ مَحَمَّدٍ البَصْريُّ، وَهْوَ واللهِ رَجُلٌ نَظِيفُ الأَثْوَابِ، بَصِيرٌ بِصَنْعِة الأَبْوَابِ خَفِيفُ اليَدِ فِي العَمَلِ، للهِ دَرُّ ذَلِكَ الرَّجُلِ! بِحَياتِي لا اسْتَعَنْتَ إِلا بِهِ عَلى مِثْلِهِ، وَهَذِهِ الحَلَقَةُ تَرَاهَا اشْتَرَيْتُهَا فِي سُوقِ الطَّرَائِفِ مِنْ عِمْرَانَ الطَّرَائِفِيِّ بِثَلاثَةِ دَنَانِيرَ مُعِزِّيَّة، وَكَمْ فِيهَا يَا سَيِّدِي مِنَ الشَّبَهِ? فِيهَا سِتَّةُ أَرْطَالٍ، وَهْيَ تَدُورُ بِلَوْلَبٍ فِي البَابِ، بِاللهِ دَوِّرْهَا، ثُمَّ انْقُرْهَا وَأْبْصُرْهَا، وَبِحَياتِي عَلَيْكَ لا اشْتَرَيْتَ الحَلَقَ إِلاَّ مِنْهُ؛ فَلَيْسَ يَبِيعُ إِلاَّ الأَعْلاَقَ، ثُمَّ قَرَعَ البَابَ وَدَخَلْنَا الدِّهْلِيزَ، وَقَالَ: عَمَّرَكِ اللهُ يَا دَارُ وَلاَ خَرَّبَكَ يَا جِدَارُ، فَمَا أَمْتَنَ حِيطَانَكِ، وَأَوْثَقَ بُنْيَانَكِ، وَأَقْوى أَسَاسَكِ، تَأَمَّلْ بِاللهِ مَعَارِجَهَا، وَتَبَيَّنْ دَواخِلَهَا وَخَوارِجَهَا، وَسَلْني: كَيْفَ حَصَّلْتَهَا? وَكَمْ مِنْ حِيلَةٍ احْتَلْتَهَا، حَتَّى عَقَدْتَهَا? كانَ لِي جَارٌ يُكْنى أَبَا سُلَيْمَانَ يَسْكُنُ هَذِهِ المَحَلَّةَ، وَلَهُ مِنَ المَالِ مَا لا يَسَعُهُ الخْزْنُ، وَمِنَ الصَّامِتِ مَا لاَ يَحْصُرُهُ الوَزْنُ، مَاتَ رَحِمَهُ اللهُ وَخَلَّفَ خَلْفاً أَتْلَفَهُ بَيْنَ الخَمْرِ وَالزَّمْرِ، وَمَزَّقَهُ بَيْنَ النَّرْدِ وَالقَمْرِ، وَأَشْفَقْتُ أَنْ يَسُوَقُه قَائِدُ الاضْطِرَارِ، إِلَى بَيْعِ الدَّارِ، فَيَبِيعَهَا فِي أَثْنَاءِ الضَّجَرِ، أَوْ يَجْعَلَهَا عُرْضَةً لِلْخَطَرِ، ثُمَّ أَرَاها، وَقَدْ فَاتَنِي شِرَاهَا، فَأَتَقَطَّعُ عَلَيْهَا حَسَرَاتٍ، إِلَى يَوْمِ المَماتِ، فَعَمِدْتُ إِلَى أَثْوَابٍ لاَ تَنِضُّ تِجَارَتُهَا فَحَمَلْتُهَا إِلَيْهِ، وَعَرَضْتُهَا عَلَيْهِ، وَسَاوَمْتُهُ عَلَى أَنْ يَشْتَرِيهَا نَسِيَّةً،وَالمُدْبِرُ يَحْسَبُ النَّسِيَّةَ عَطِيَّةً، والمُتَخَلِّفُ يَعْتَدُّهَا هَديَّةً، وَسَأَلْتُهُ وَثِيقَةً بِأَصْلِ المَالِ، فَفَعَلَ وَعَقَدَهَا لِي، ثُمَّ تَغَافَلْتُ عَنِ اقْتِضَائِهِ، حَتَّى كَادَتْ حَاشِيَةُ حَالِهِ تَرِقُّ، فَأَتَيْتُهُ فَاقْتَضَيْتُهُ، واسْتَمْهَلَنِي فَأَنْظَرْتُهُ، وَالْتَمَسَ غَيْرَهَا مِنَ الثِيَّابِ فَأَحْضَرْتُهُ، وَسَأَلْتُهُ أَنْ يَجْعَلَ دَارَهُ رَهِينَةً لَدَيَّ، وَوَثِيقَةً فِي يَدَيَّ، فَفَعَلَ، ثُمَّ دَرَّجْتُهُ بِالمُعَامَلاتِ إِلَى بَيْعِهَا حَتَّى حَصَلَتْ لِي بِجَدٍّ صَاعِدٍ، وَبَخْتٍ مُسَاعِدٍ، وَقُوَّة ِسَاعِدٍ، وَرُبَّ سَاعٍ لِقَاعِدٍ، وَأَنَا بِحَمْدِ اللهِ مَجْدُودٌ، وَفي مِثْلِ هَذهِ الأَحْوَالِ مَحْمُودٌ، وَحَسْبُكَ يَا مَوْلاَي أَنِّي كُنْتُ مُنْذُ لَيَالٍ ناَئِماً في البَيْتِ مَعَ مَنْ فَيِهِ إِذْ قُرِعَ عَلَيْنَا البَابُ
فَقُلْتُ: مَنِ الطَّارِقُ المُنْتَابُ، فَإِذَا امْرَأَةٌ مَعَهَا عِقْدُ لآلٍ، فِي جِلْدَةِ مَاءٍ وَرِقَّةِ آلٍ، تَعْرِضُهُ لِلْبَيْعِ، فَأَخَذْتُهُ مِنْهَا إِخْذَةَ خَلْسٍ، وَاْشَتَريْتُهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ، وَسَيَكُونُ لَهُ نَفْعٌ ظَاهِرٌ، وَرِبْحٌ وَافِرٌ، بِعَوْنِ اللهِ تَعَالَى وَدَوْلَتِكَ، وَإِنَّمَا حَدَّثْتُكَ بِهَذَا الحَدِيثِ لِتَعْلَمَ سَعَادَةَ جَدِّيَ فِي التِّجَارَةِ، وَالسَّعَادَةُ تُنْبِطُ المَاءَ مِنَ الحِجَارَةِ، اللهُ أَكْبَرُ لاَ يُنْبِئُكَ أَصْدَقُ مِنْ نَفْسِكَ، وَلاَ أَقْرَبُ مِنْ أَمْسِكَ، اشْتَرَيْتُ هَذا الحَصِيرَ فِي المُنَادَاتِ، وَقَدْ أُخْرِجَ مِنْ دُورِ آلِ الفُرَاتِ، وَقْتَ المُصَادَرَاتِ، وَزَمَنَ الغَارَاتِ وَكُنْتُ أَطْلُبُ مِثْلُهُ مُنْذُ الزَّمَنِ الَأْطَوِل فَلا أَجِدُ، وَالدَّهْرُ حُبْلَى لَيْسَ يُدْرَى مَا يَلِدُ، ثُمَّ اتَّفَقَ أَنِّي حَضَرْتُ بَابَ الطَّاقِ، وَهَذا يُعْرَضُ بِالأَسْوَاقِ، فَوَزَنْتُ فِيهِ كَذَا وَكَذَا دِينَاراً، تَأَمَّلْ بِاللهِ دِقَّتَهُ وَلِينَهُ، وَصَنْعَتَهُ وَلَوْنَهُ، فَهْوَ عَظِيمُ القَدْرِ، لا يَقَعُ مِثْلُهُ إِلاَّ فِي النَّدْرِ، وَإِنْ كُنْتَ سَمِعْتَ بِأَبِي عِمْرَانَ الحَصِيريِّ فَهْوَ عَمَلُهُ، وَلَهُ ابْنٌ يَخْلُفُهُ الآنَ فِي حَانُوتِهِ لاَ يُوْجَدُ اعْلاَقُ الحُصُرِ إِلاَّ عِنْدَهُ؛ فَبِحَياتِي لاَ اشْتَرَيْتَ الحُصُرَ إِلا مِنْ دُكَّانِهِ، فَالمُؤْمِنُ نَاصِحٌ لإِخْوانِهِ، لاَ سِيَّما مَنْ تَحَرَّمَ بِخُوَانِهِ، وَنَعُودُ إِلَى حَدِيثِ المَضِيرَةِ، فَقَدْ حَانَ وَقْتُ الظَّهِيرَةِ، يَا غُلاَمُ الطَّسْتَ وَالمَاءَ فَقُلْتُ: اللهُ أَكْبَرُ، رُبَّمَا قَرُبَ الفَرَجُ، وَسَهُلَ المَخْرَجُ، وَتقَدَّمَ الغُلاَمُ، فَقَالَ: تَرى هذَا الغُلاَمَ? إِنَّهُ رُومِيُّ الأَصْلِ، عِرَاقِيُّ النَّشْءِ. تَقَدَّمْ يَا غُلاَمُ وَاحْسِرْ عَنْ رَأْسِكَ، وَشَمِّرْ عَنْ سَاقِكَ، وانْضُ عَنْ ذِرَاعِكَ، وَافْتَرَّ عَنْ أَسْنَانِكَ، وَأَقْبِلْ وَأَدْبِرْ، فَفَعَلَ الغُلاَمُ ذَلِكَ، وَقَالَ: التَّاجِرُ: باللهِ منَ ِاشْتَرَاهُ? اشْتَرَاهُ وَاللهِ أَبُو العَبَّاسِ، مِنَ النَّخَّاسِ، ضَعِ الطَّسْتَ، وَهَاتِ الإِبْريقَ، فَوَضَعَهُ الغُلاَمُ، وَأَخَذَهُ التَّاجِرُ وَقَلَّبَهُ وَأَدَارَ فِيهِ النَّظَرَ ثُمَّ نَقَرَهُ، فَقَالَ: انْظُرْ إِلى هَذَا الشَّبَهِ كَأَنَّهُ جِذْوَةُ اللَّهَبِ، أَوْ قِطْعَةٌ مِنَ الذَّهَبِ، شَبَهُ الشَّامِ، وَصَنْعَةُ العِراقِ، لِيْسَ مِنْ خُلْقَانِ الأَعْلاَقِ قَدْ عَرَفَ دُورَ المُلُوكِ ودَارَهَا، تَأَمَّلْ حُسْنَهُ وَسَلْنِي مَتَى اشْتَرَيْتُهُ? اشْتَرَيْتُهُ واللهِ عَامَ المَجَاعَةِ، وَادَّخَرْتُهُ لِهَذِهِ السَّاعَةِ، يَا غُلاَمُ الإِبْرِيقُ، فَقَدَّمَهُ وَأَخَذُه التَّاجِرُ فَقَلَّبَهُ ثُمَّ قَالَ وَأُنْبُوبُهُ مِنْهُ لاَ يَصْلُحُ هَذا الإِبْرِيقُ إِلاَّ لِهَذا الطَّسْتَ، وَلاَ يَصْلِحُ هَذا الطَّسْتَ إِلاَّ مَعَ هَذَا الدَّسْتِ، وَلاَ يَحْسُنُ هَذا الدَّسْتُ إِلاَّ فِي هَذا البَيْتِ، وَلاَ يَجْمُلُ هذَا البَيْتُ إِلاَ مَعَ هَذا الضَّيْفِ، أَرْسِلِ المَاءَ يَا غُلاَمُ، فَقَدْ حَانَ وَقْتُ الطَّعَامِ، باللهِ تَرى هَذَا المَاءَ مَا أَصْفَاهُ، أَزرَقُ كَعَيْنِ السِّنَّوْرِ، وَصَافٍ كَقَضِيبِ البِلَّوْرِ، اسْتُقِىَ مِنَ الفُرَاتِ، وَاسْتُعْمِلَ بَعْدَ البَيَاتِ، فَجَاءَ كَلِسَانِ الشَّمْعَةِ، فِي صَفَاءِ الدَّمْعَةِ، وَلَيْسَ الشَّانُ فِي السَّقَّاءِ، الشَّانُ فِي الإِنَاءِ، لاَ يَدُلُّكَ عَلَى نَظَافَةِ أَسْبَابِهِ، أَصْدَقُ مِنْ نَظَافَةِ شَرَابِهِ، وَهذَا المِنْدِيلُ سَلْنِي عَنْ قِصَّتِهِ، فَهُوَ نَسْجُ جُرْجَانَ، وَعَملُ أَرَّجَانَ، وَقَعَ إِلَيَّ فَاشْتَرَيْتُهُ، فَاتَّخَذَتَ امْرَأَتِي بَعْضَهُ سَرَاوِيلاً، وَاتَّخَذْتُ بَعْضَهُ مِنْدِيلاً، دَخَلَ فِي سَرَاوِيلهَا عِشْرُونَ ذِرَاعاً، وانْتَزَعْتُ مِنْ يَدِهَا هَذَا القْدَرَ انْتِزاعاً، وأَسْلَمْتُهُ إِلى المُطَرِّزِ حَتَّى صَنَعَهُ كَمَا تَرَاهُ وَطَرَّزَهُ، ثُمَّ رَدَدْتُهُ مِنَ السُّوقِ، وَخَزَنْتُهُ في الصُّنْدُوقِ، وَأَدَّخَرْتُهُ لِلْظِّرَافِ، مِنْ الأَضْيَافِ لَمْ تُذِلَّهُ عَرَبُ العَامّضةِ بِأَيْدِيهَا، وَلاَ النِّسَاءُ لِمَآقِيهَا، فَلِكُلِّ عِلْقٍ يَوْمٌ، وَلِكُلِّ آلَةٍ قَوْمٌ، يَاغُلاَمُ الْخُوَانَ، فَقَدْ طَالَ الزَّمَانُ، وَالقِصَاعَ، فَقَدْ طَالَ المِصَاعُ، والطَّعَامَ، فَقَدْ كَثْرَ الكَلامَ، فَأَتَى الغُلاَمُ بَالخُوَانِ، وَقَلَّبَهُ التَّاجِرُ عَلَى المَكانِ، وَنَقَرَهُ بِالبَنَانِ، وَعَجَمَهُ بِالأَسْنَانِ، وَقَالَ: عَمَّرَ اللهُ بَغْدَادَ فَما أَجْوَدَ مَتَاعَهَا، وَأَظْرَفَ صُنَّاعَهَا، تَأَمَّلْ بِاللهِ هَذَا الخِوَانُ، وَانْظُرْ إِلَى عَرْضِ مَتْنِهِ، وَخِفَّةِ وَزْنِهِ، وَصَلاَبَةَ عُودِهِ، وَحُسْنِ شَكْلِهِ، فَقُلْتُ: هَذا الشَّكْلُ، فَمَتى الأَكْلُ? فقَالَ: الآنَ، عَجِّلْ يَاغُلاَمُ الطَّعَامَ، لكِنَّ الخِوَانَ قَوَائِمُهُ مِنْهُ، قَالَ أَبُو الفَتْحِ الإِسْكَنْدَرِيُّ فَجَاشَتْ نَفْسِي وَقُلْتُ قَدْ بَقِيَ الخَبْزُ وآَلاتُهُ وَالخُبْزُ وَصِفاتُهُ وَالحِنْطَةُ مِنْ أَيْنَ اشْتُرِيَتْ أَصْلاً، وَكَيْفَ اكْتَرى لَهَا حَمْلاً، وَفِي أَيِّ رَحىً طَحَنَ، وَإِجَّانَةٍ عَجَنَ، وَأَيَّ تَنُّورٍ سَجَرَ، وَخَبَّازٍ اسْتَأْجَرَ، وَبَقِيَ الحَطَبُ مِنْ أَيْنَ احْتُطِبَ، وَمَتَى جُلِبَ? وَكَيْفَ صُفِّفَ حَتَّى جُفِّفَ? وَحُبِسَ، حَتَّى يَبِسَ، وَبَقِيَ الخَبَّازُ وَوَصْفُهُ، وَالتِّلْمِيذُ وَنَعْتُهُ، وَالدَّقِيقُ وَمَدْحُهُ، وَالْخَمِيرُ وَشَرْحُهُ، وَالمِلْحُ ومَلاَحَتُهُ
وَبَقِيَتِ السُّكُرَّجاتُ مَنِ اتَّخَذَها، وَكَيْفَ انْتَقَذَهَا، وَمَنِ اسْتَعْمَلَهاَ،? وَمَنْ عَمِلَها? والخَلُّ كَيفَ انْتُقِى عِنَبُهُ، أَوْ اشْتُرِيَ رُطَبُهُ، وَكَيفَ صُهْرِجَتْ مِعْصَرَتُهُ? وَاسْتُخْلِصَ لُبُّهُ? وَكَيْفَ قُيِّرَ حَبُّهُ? وَكَمْ يُساوِي دَنُّهُ? وَبَقِيَ البَقْلُ كيفَ احْتِيلَ لَهُ حَتَّى قُطِفَ? وَفِي أَيِّ مَبْقَلَةٍ رُصِفَ? وَكَيْفَ تُؤُنِّقَ حَتَّى نُظِّفَ? وَبَقيتِ المَضِيرَةُ كَيْفَ اشْتُرِيَ لَحْمُها? وَوُفِّيَ شَحْمُهَا? ونُصِبَتْ قِدْرُها، وَأَجِّجَتْ نَارُها، وَدُقَّتْ أَزَارُها، حَتَّى أُجِيدَ طَبْخُها وَعُقِدَ مَرَقُها? وَهذَا خَطْبٌ يَطُمُّ، وأَمْرٌ لا يَتِمُّ، فَقُمْتُ، فَقَالَ: أَيْنَ تُرِيدُ? فَقُلْتُ: حَاجَةً أَقْضِيها، فَقَالَ: يَامَوْلايَ تُرِيدُ كَنِيفاً يُزْري برَبِيِعيَّ الأَمِيرِ، وَخَريِفِيَّ الوَزِيرِ، قَدْ جُصِّصَ أَعْلاَهُ، وَصُهْرِجَ أَسْفَلُهُ، وَسُطِّحَ سَقْفُهُ، وَفُرِشَتْ بِالمَرْمَرِ أَرْضُهُ، يَزِلُّ عَنْ حائِطِهِ الذَّرُّ فَلاَ يَعْلَقُ، وَيَمْشِي عَلَى أَرْضُهُ الذُّبَابُ فَيَنْزَلِقُِ، عَلَيْهِ بَابٌ غِيِرَانُهُ مِنْ خَلِيطيْ ساجٍ وَعَاجٍ، مُزْدَوجَينِ أَحْسَنَ ازْدِواجٍ، يِتِمِنَّى الضَّيْفُ أَنْ يَأَكُلَ فِيهِ، فَقُلْتُ: كُلْ أَنْتَ مِنْ هَذا الجِرابِ، لَمْ يَكُنِ الكَنِيفُ فِي الحِسابِ، وَخَرَجْتُ نَحْوَ البَابِ، وَأَسْرَعْتُ فِي الذَّهَابِ، وََجَعَلْتُ أَعْدُو وَهُوَ يَتْبَعُنشي وَيَصِيحُ: يَا أَبَا الفَتْحِ المَضِيرَةَ، وَظَنَّ الصِّبْيَانُ أَنَّ المَضِيرَةَ لَقَبٌ لِي فَصاحُوا صِياحَهُ، فَرَمَيْتُ أَحَدَهُمْ بِحَجَرٍ، مِنْ فَرْطِ الضَّجَرِ، فَلقِي رَجُلٌ الحَجَرَ بِعِمامَتِهِ، فَغَاصَ فِي هامَتِهِ، فَأُخِذْتُ مِنَ النَّعَالِ بِما قَدُمَ وَحَدُثُ، وَمِنَ الصَّفْعِ بِمَا طَابَ وَخَبُثَ، وَحُشِرْتُ إِلَى الحَبْسِ، فَأَقَمْتُ عامَينِ فِي ذلكَ النَّحْسِ، فَنَذرْتُ أَنْ لا آكلَ مَضِيرَةً ما عِشْتُ، فَهَلْ أَنَا فِي ذَا يَالَهَمْدَانَ ظَالمُ?.
قَالَ عِيسَى بْنُ هِشَامٍ: فَقَبِلْنَا عُذْرَهُ، وَنَذَرْنَا نَذْرَهُ، وَقُلْنا: قَدِيماً جَنَتِ المَضِيرةُ عَلَى الأَحْرَارِ، وَقَدَّمَتِ الأَرَاذِلِ عَلى الأَخْيارِ.



شرح غريب الألفاظ :



- رجل الفصاحة : أي صاحبها المتفرد فيها فلايوجد في الرجال مَن تُؤهله أدبياته لأن
- يُقارع أبا الفتح في الفصاحة والتي كأنّها مِن حشمه وحَفَدته فهو إذا دعاها ليستخدمها فيما يريد مِن أغراضه تجيبه وكذلك البلاغة يأمرها بإصابة الغرض مِن قلوب سامعيه وبلوغ مراده من نفوسهم فتطيعه .
- الترجرج : التحرك بشدة وهو صفة للأشياء الرقيقة كالجلي وخلافه من الأطمعة
- الغضارة : القصعة الكبيرة وهي لفظة فارسية دارجة في بعض مناطق الخليج
- إيذانها بالسلامة : أي أن إشعارها بسلامة مَن يأكل منها لطيبتها وجودتها وسهولة هضمها فلا يُخشى على آكلها من ضرر البطنة وإن بالغ في نهمه
- يزل عنها الطّرف : أي يزلق البصر عنها لشدة نقاوتها وشدة وبيصها
- الظرف : حُسن الهيئة ومُطلق الحسن وهو كناية عن سعة القصة فتمرح اليد فيها ذهاباً وإيابا
- الخُوان : مايوضع عليه الطعام
- المقت : أشد البغض
- والثّلب : الشتم والسب
- تحلّبت : أي سال ريق تلك الأفواه اشتهاء لها
- التلمظ : هو لعق الشفتان بإخراج اللسان وتمريره عليهما وهي في الأصل تكون بعد الأكل وهنا جاءت كتخييل بأنهم قد أكلوا من المضيرية
- اتقدت الأكباد : اشتعالها بحرارة الأسف عليها
- ساعدناه على هجرها : مع مايجدون من ألم فقدهم للمضيرية إلا إنهم ابتعدوا عنها وحُرموا منها
- سألناه عن أمرها : أي عن سبب غضبته ونفوره من تلك المضيريّة
- قصتي معها أطول من مصيبتي فيها : ويعني سبب وقصة نفرته منها أعظم من تحرّقه على الحرمان منها ( أي المضيريّة)
- الغريم : هو رب الدين والكناية هنا ثقل التاجر في دعوته
- الكلب لأصحاب الرقيم : تعنى الملازمة الدائمة وهنا كناية عن خسته وقلة ذوقه
- يفديها بمهجته : يفديها من قوله جعلتُ فداكِ والمهجة هي دم القلب وهو كناية على أنّها أحب إليه من الحياة ومَن فيها
- تأنقها في طبخها : المهارة الشديدة وهي أن الإتيان به على أحسن وجوهه
- الخِرقة : مايضعه الطبّاخ في وسطه مرسلاً إلى ساقيه وهي بالعامية ( المريلة) وليغفر لي سيبويه شططي هنا
- وهي تدور في الدور : أي تتحرك في كل دار تكون فيها وهو كناية عن علو الهمة والنشاط
- من التنور إلى القدور : أيضا كناية عن نشاطها فهي تصنع الأشياء الكثيرة في نفس الوقت
- الأبزار أو الأباريز : هو مايوضع في الطعام لاضفاء نكهة طيبة كالفلفل والقرنفل .. الخ
- الصقيل : البريق واللمعان والوضيء
- الظّعينة : المرأة مادامت في هودجها
- الحليلة : التي يحل له استيلادها
- لحّاً : مصدر لحّت أي التصقت والتحمت
- الأرومة : الأصل ويعني أنّها أصولها هي أصوله
- يتغاير : أي يغار كل واحد منهم عليها أن يسكنها غيره
- وداري في السطة من قلادتها : السطة أي مكان الوسط فهو شبّه بيوت المحلة كجواهر القلادة وبيته في مكان الوسط من القلادة كناية على أنّ بيته أعظم وأفضل البيوت
- تُقدّر : أي اجعل قدراً بكم تحسب مقدار ما أُنفق في كل دار من دور تلك المحلة
- الصُعَداء : وهو مايُعرف بالعامية التّنهد وهو إطلاق النّفَس من الصدر وعادة مايرتبط بالحزن والأسف
- فوق الطّاقة ووراء الفاقة : أي أنّه أنفق على داره مايفوق استطاعته ويسوق إليه فقره وعوزه وكل هذا كناية على عظم الإنفاق
- التعريج : هو الميل والانحاء على نسب محفوظة يُضيف للبناء الزينة والجَمال
- البركار : نسميه الآن الفرجار وهي أداة لرسم الدوائر
- اتخذه مِن كم : هنا يسأل ذلك التاجر الثقيل ليظهر عجز ضيفه عن المعرفة ومِن ثم يقوم بكشف غرابة الصّنعة ودقتها
- الساج : شجرة عظيمة الطول واللحاء تنبت بالهند
- المأروض من الخشب : هو مَن أكلته الأرضة
- عَفِنٌ : الفاسد من الخشب والذي أصابته رطوبة فيصبح هشا سريع التفتت
- إذا حُرّكّ أن وإذا نُقِر طنّ : وكلها صور افتراضية عن جودة ومتانة الخشب من الأرضة والعفن
- الحَلَقة : هي التي يُطرق بها الباب عند الاستفتاح ويُجذب منها عند الإقفال
- سوق الطرائف : سوق ببغداد يُعنى ببيع النفائس
- دنانير مُعِزيّة : نسبة إلى المعز الحاكم العبيدي ( الفاطمي) وكان صكّها في القاهرة وقام بنشرها على الأمصار
- الشّبَهِ : هو النحاس الأصفر
- اللولب : ألة من الحديد لها محور ذو دوائر يتحرك يمنة ويسارا
- الأعلاق : جمع عِلق وهو النفيس وهو هنا يمتدح عمران الطرائفي بأنه لايشتري ولا يبيع إلا النّفيس
- المعارج : السلالم التي يُصعد منها إلى أعلى الدار
- حتى عقدتها : أي تملكها وأصبحت من أملاكه بعد جهود وحيل
- الصّامت : من المال هو الذهب والفضة ونحوهما من المعادن والجواهر النفيسة وهي تقابل الناطق ويُقصد بها بهيمة الأنعام
- خلّف خَلَفاً : أي ذرية وأبناء غلب عليهم الفساد والمجون فأهدروا ثروة مورثهم
- النّرد والقَمْرِ : النرد لعب الطاولة والقَمرِ هو لعب القمار ودواعيه ومايدخل في حكمه فهلك مال مورثهم مابين خمر وزمر ونرد وقَمر
- أشفقتُ : خفتُ وخشيت
- الإضطرار : شدّة الحاجة التي لاتُحتمل وهي تقود الإنسان إلى بيع أملاكه ليدفع عن نفسه الضرورة
- الضّجر : الملل وقلة الصبر مع ضيق دائم

- أثواب لاتنض تجارتها : والمقصود بأن الأثواب كسدت تجارتها فلم تعد تأتي بقيمتها الحقيقية لكنه احتال على الرجل وحملها إليه
- نَسيّة : أصلها نسيئة وهو شراء البضاعة مع تأجيل الثمن فيكون ثمنها دينا في الذمة
- والمدبر يحسب النسية عطية : المدبر هو من ساءت أموره وأدبرعن السعادة وولاها ظهره فهو يفرح بهذه النسية الذي هو دَين في الذمة فيراها وكأنّها عطية أي هبة أي أنّه لايكترث بعواقب الأمور كثيرا
- الوثيقة : الصك الذي يكتبه الدائن على المدين
- أصل المال : ثمن ماباعه من تلك الأثواب الكاسدة
- عقد له الوثيقة : حررها وأمضاها والتزم فيها
- تغافلت اقتضائه : أي تجاهل وتغافل عن طلب المدين مِن أن يقضي دينه ويؤديه لحيلة ومكر سيقوم بها لاحقا
- حتى كادت حاشية حاله تَرق : كناية عن شدة العوز وقلة ذات اليد
- أنظره : أخره حتى ينظر كيف يقضي دينه
- جِد صاعد : أي حظ صاعد بي على مراقي السعادة
- وبختٍِ مساعد وقوة ساعد : معاونة القدر والتي لادخل للانسان فيها وقوة ساعد ما قام به من حيل ماكرة فهي كانت له قوة الساعد
- رب ساعٍ لقاعد : هي لفظة من ألفاظ أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ويُعنى بها أن كم من ساعٍ يسعى بجهده ويكون حصيلة ذلك الجهد لآخر لم يكسبه بسعيه
- مجدود : العظيم الحظ
- المنتاب : الذي يأتي في أوقات غير مناسبة ولم تدرج عليها أعراف الناس
- عِقد لآل : لآل جمع لؤلؤ
- في جلدة ماء : كناية عن صفاء تلك اللآلي
- الآل : في الأصل السراب وهنا كناية عن شدة رقة تلك اللآلي
- إخذة خَلس : أي بثمن بخس فكأنه اختلسه منها اختلاساً لزهد مادفعه ثمنا له
- بعون الله ودولتك : قيل بأن دولتك والتي جاءت معطوف على عون الله يُقصد بها عونه وقوته وقيل بأنّ المقصود بدولتك معونته في الرواية عنه حتى يعلو ويُشتهر أمره
- والسعادة تُنبط الماء مِن الحجارة : تستنبعه منها والمراد أنّ كما الحجارة ليست مظنة الماء كذلك مَن ساعده الحظ يكسب مِن حيث لامظنة الكسب
- الدهر حُبلى : وهو تشبيه لعوالم الدهر الخفية والتي لاتُعلم حتى حدوثها فكأنه حبلى تحمل ثقلها ولا تعلم ما تحمل وأي شيء يكون
- باب الطّاق : باب من أبواب بغداد
- النّدر : مصدر ندر أي قل وجوده وشُحّ
- تحرّم بخوانه : وتعني هنا مَن أكل من خوان شخص فقد أصبح في حرمه وحمايته
- حسر عن رأسه : كشف عنها
- انض عن ذراعك : أي انزع ثوبك عن ذراعك
- افترّ عن أسنانك : أي تبسم لتكشف عن أسنانك
- وأقبل وأدبر : وفي رواية أقبل ببدرك وأدبر بربلك أي أقبل بوجهك وأدبر بمؤخرك
- النّخاس : بائع العبيد يتجر فيها
- جُذوة اللهب : القبسة من النار
- شَبَهُ الشّام : نحاس الشام وكان مشهوراً بالجودة وصفاء اللون
- خلقانها : جمع خِلق وهو بمعنى البالي الرثيث
- أنبوبه منه : أي أن أنبوبه الذي ينزل الماء منه هو منه ليس قطعة أخرى وهذا دليل على حذق الصنعة وإبداعها
- الدّست : أشرف مجلس في البيت بما فيه من فُرُش ووسائد
- السّنور : القط
- استقي الماء من الفرات واستُعمل بعد البيات : يُظهر التاجر عنايته وحرصه بإخايار الماء من نهر الفرات رغم بعده عن بغداد ومن حرصه المضاعف أنه لم يستخدمه إلا بعد أن بات عنده ليلة فإن كان به عكر رسب وخلص الماء منه
- لسان الشمعة : مصباحها المضيء وشبهه باللسان لقربه منه في شكله
- صفاء الدمعة : دمعة العين يضرب بها المثل بالصفاء
- وليس الشأن في السقاء الشأن في الإناء : وهو اسلوب التفافي للعودة لمدح إبريقه بنفي أن يكون للسقاء دور في صفاء الماء مهما أظهر من دراية وبراعة بل إبريقه هو السبب في صفاء ونقاء ذلك الماء
- فهو نسج جرجان وعمل أرّجان : يزعم بأنّ منديله الفريد تم نسجه في جرجان وهي تقع بين طبرستان وخرسان في حين تم عمله وإنجازه في أرّجان التي تقع في آخر حدود فارس وبين جرجان وأرجّان الليالي والأيام الطوال من السفر والمشقة
- التطريز : هو في معناه اليوم مِن رَقم الثوب وتوشيته
- الظِّراف : جمع ظريف ويُقصد هنا حسن الهيئة
- لم تذله عَرَب العامة بأيديها : يقصد أن منديله بعدما طرّزه قام بخزنه في صندوق وأعده للأضياف ولم يتم ابتذاله للاستعمال العام كي لاتمتهنه أيدي العرب من العامة ويعني بالإمتهان هنا كثرة المسح فيه مما يُذهب رونقه وبهاءه
- مآقيها : جمع ماق أ و مؤق وهو طرف العين
- فلكل عِلق يوم : أي لكل نفيس يوم يُستعمل هو فيه كي لايتم ابتذال النفائس في جميع الأيام
- المصاع : من ماصع القوم مماصعة أي تجالدوا وتقاتلوا والمقصود هنا بأن إطالته في وصف زوجته ومابعدها هو مجالدة ومقاتلة لضيفه لثقل الأسر عليه مع مايعانيه من مسغبة الجوع وحرارته
- البَنان : أطراف الأصابع
- وعجمه بالأسنان : أي اختبره بأسنانه عضّا
- المتن : الظهر والمقصود هنا ظهر الخُوان وما اتسع منه مما يوضع عليه الأكل
- جاشت نفسي : هاجت وغلت غضباً
- الخَبز : هو المكان الذي يخبز فيه مع أدواته
- الخُبز : هو الرغيف
- إجانة عجن : هو إناء واسع يُغسل فيه الدقيق ويُعجن فيه
- سجر التنور : ملأه وقوداً وأحماه
- التلميذ : هو مساعد الخبّاز والذي ينفذ تعليمات الخبّاز سيده
- السُّكرجات : الصحاف التي توضع فيها ألوان الطعام
- اتخذها : صنعها
- انتقذها : أي مَن قام بالشراء من صانعها أو بائعها
- صُهرجت : أي تم طلاؤها بالأدهنة والأخلاط
- المعصرة : ما يوضع فيها للعصر كالعنب والزبيب والرطب وخلافه
- استخلص لبه : استخلص أجوده مِن رديئه
- قٌيّر حُبُّهُ : الخابية أو الجرّة الكبيرة ، والقير هوالطلاء بالقطران للخابية أو الجرّة
- دَنّهُ : الدّن أيضا نوع من الجرار والإعادة هنا من باب الإطناب
- وفي أي مَبقلة رُصف : المبقلة مايُوضع فيه البقل والرصف هو جمع البقل بعضه على بعض بعد غسله وتشذيبه
- أُججت النّار : أُشعلت وأُضرمت
- عقد المرق تعقيدا : إذا أغلاه حتى يصبح المرق غليظ الشكل
- الخطب : الأمر الجسيم
- يَطم : أي يعظم ويتفاقم
- ربيعي الأمير: مايتخذه من المساكن في الخلوات أيام الربيع ومثلها خريفي الأمير أي مايتخذه من مساكن في خلوات الخريف
- جُصّص : طُلي بالجص وهو الجير
- سُطح سقفه : أي تم تسوية سقفه
- الذّر : صغار النمل
- يزل عن حائطه : يزلق عنه لشدة ملاسته وكذلك الذباب حين يمشي على أرضه يزلق
- الغيران : هي الفواصل بين ألواح الباب والذي تقدم وصفه بأنه مصنوع من ساج شجرة عظيمة لاتنبت الا بالهند
 
أعلى