الحسن السايح - القصة في تاريخ الأدب المغربي

لم أعثر في آثارنا الأدبية القديمة على ما يفيد أن المغاربة عالجوا القصة قديما، فلقد اتصلوا بالحضارة الرومانية واتصلوا كذلك بالحضارة المسيحية، وكان هذا الاتصال وثيقا جدا.
فالذي أعرفه أن بعض المغاربة القدماء كانوا من رجال الفكر في روما، وقد تركوا أثرا أدبيا وفلسفيا ودينيا، ولكنهم لم يعالجوا القصة كما عالجها الرومانيون، أو لعلنا لم يصل إلينا شيء من إنتاجهم في هذا الموضوع.
ولما جاء الإسلام اشتغلوا طيلة العهد الإدريسي بالفتوح ونشر الدعوة الإسلامية، بل أنهم في عصر المرابطين تعرفوا على كتب ابن المقفع القصص المطولة وإن كانت حكايات (جحا) عريقة في التاريخ الأدبي المغربي يتحدث عنها المؤرخون كأثر قديم جدا، غير أنها لا تخرج عن نطاق المسليات والأحاجي والمضحكات.
وفي العصر الموحدي، نجد ثلاثة أنواع من القصص : القصص الفلسفي الذي تركه لنا الفيلسوف ابن الطفيل، في حي بن يقظان، وقصص الرحلات وهي عبارة عن القصص التي يسردها الرحالون المغاربة، إذا من المعلوم أن المغاربة أكثروا من التجوال سواء في داخل بلادهم أو في الشرق العربي، مصر وسوريا والحجاز والعراق وبلاد الفرس وبلاد تركيا.. أو في بلاد الغرب كالأندلس (بعد الاحتلال) وفرنسا وألمانيا أو في الجنوب المغربي كبلاد السودان وغيرها، ومن المعلوم أنهم تجولوا كثيرا في مختلف أقطار العالم ودونوا مشاهداتهم وكانوا ينزعون منزعا قصصيا في سرد الحوادث والمشاهدات والوقائع والتاريخ.
وهناك قصص شعبي كان ملهاة للشعب يسمر بسرده الناس، ويقرأونه في الكتب، ويمثلونه في الحلقات لسرد العبر الماضية والاتعاظ بها.
أما عن هذه الأقاصيص الأدبية التي تصف الوقائع وتسرد الأحداث فقد ذكر ابن خلدون في تاريخه عندما تحدث عن الهلاليين قائلا:
ولهؤلاء الهلاليين في الحكاية عن دخولهم إلى إفريقيا طرق يزعمون إن الشريف ابن هاشم كان صاحب الحجاز ومكة، ويسمونه شكر بن أبي الفتوح وأنه أصهر إلى الحسن بن سرحان في أخته جازية، فانكحه أياها وولدت منه ولدا واسمه محمد، وأنه حدث بينهم وبين الشريف المذكور مغاضبة وفتنة فأجمعوا الرحلة عن أرض نجد إلى إفريقيا، وتحيلوا عليه في استرجاع أختهم جازية المذكورة فطالبته بزيارة أبوبها فأزارها أياهم وخرج بها إلى حللهم وأقام معها مدة الزيارة، فارتحلوا به وبها كتموا رحلتهم عنه وموهوا عليه بأنهم يباركون به للعيد والقنص، ويروحون به إلى بيوتهم بعد بنائها، فلم يشعر بالرحلة إلى أن فارق موضع ملكه وصار إلى حيث لا يملك أمرها عليهم، ففارقوه ورجع إلى مكانه من مكة وبين جوانحه من حبها داء دخيل، وإنها من بعد ذلك كلفت به مثلما كلف بها إلى أن ماتت من حبه. ويتناقلون من أخبارها في ذلك ما يعفي على خير قيس وليلى ويروون كثيرا من أشعارها محكمة المباني مثقفة الأطراف وفيها المطبوع والمنتحل والمصنوع، لم يفقد فيها من البلاغة شيء، وإنما فقد منها الأعراب فقط ولا مدخل له في البلاغة، وفي هذه الأشعار شيء كثير دخلته الصنعة وفقدت فيه صحة الرواية فلذلك لا يوثق به، ولو صحت روايته لكانت فيه شواهد بآياتهم ووقائعهم مع زناتة وحروبهم، وضبط لأسماء رجالاتهم وكثير من أحوالهم، لكنا لا نثق بروايتها، وربما يشعر البصير بالبلاغة المصنوع منها غيره، وهم مثقفون على الخبر عن حال جازية هذه والشريف خلفا عن سلف، وجيلا عن جيل، ويكاد القادح فيها والمستريب في أمرها أن يرمي عندهم بالجنون لتواترهم بينهم» (هذا نص ابن خلدون).
ولست أدري مصير هذه الأقاصيص وإن كان الغالب على الظن أن بقاياها ما تزال تسرد في باب عجيسة وباب الفتوح (بفاس) وفي باب جامع الفناء (بمراكش) وفي باب منصور العلج (بمكناس) في حلقات هادئة يطيب فيها سرد القصص ويروق سماعها.
وكما كانت قصة (الهلاليين) شائعة فقد كانت هناك قصص أخرى أكثر ذيوعا منها، بل أن مؤلف كتاب تاريخ الأندلس في عهد المرابطين والموحدين (يقول في الجزء الثاني ص 54) أن الموحدين شجعوا نشر الكتب التي تتحدث عن الفروسية أو كتب المغامرات والقصص في جميع أنحاء المملكة سواء في المغرب أو في الأندلس، بل لقد سمحوا بقراءة هذه الكتب من فوق منابر المساجد...
والذي نعرفه في تاريخ المغرب هو أن الخلفاء عندما يشجعون حركة أدبية يباركونها في الواقع، وقد أشار مؤلف كتاب العلوم والفنون والآداب الموحدية إلى هذه الملاحظة، ونقل نص ابن خلدون عن الاستقصا، ونص أشباخ كذلك.
أما القصة الفلسفية: فقد ترك لنا ابن الطفيل المتوفى سنة 580 قصة رائعة، ولكنها ليست بأدبية وإنما هي قصة فلسفية، ولا أعلم لها نظيرا في كتب الفلسفة الإسلامية، ولا أعلم لها نظيرا في كتب الفلسفة الإسلامية، وهذا الكتاب هو (حي بن يقظان) ويقول مؤرخو الفلسفة أنه أول فيلسوف إسلامي صب فلسفته في قالب قصصي، وجعل بطل قصته شخصا موحدا يكون نفسه وأفكاره بالاحتكاك بالطبيعة والكائنات التي هي أقل منه درجات، من جماد ونبات وحيوان إلى أن يصل إلى نقطة الإدراك والاتصال، ويقول (محمد لطفي جمعه) أن هذه القصة الخيالية تعد بحق نوعا من الطوبى العقلية التي قلدها ونسج على منوالها كثيرون من كتاب الإفرنج ومفكريهم كقصة (كريستان كرزوي) ونستنتج من كلام المراكشي في المعجب أنها كانت منتشرة في عهده، فقد قرأها في جملة من قرأها، ووصفها وصفا موجزا، وفي دائرة المعارف الإسلامية (مجلد لـ ع4) ذكر لخلاصة هذه القصة المشهورة.
وأما النوع الثاني وأعني أدب الرحلات، فإن الذين كتب لهم أن يجولوا في المخطوطات المغربية لاشك أنهم عثروا على كثير من هذه الرحلات القصصية التي تشابه رحلة ابن بطوطة مثلا، تلك الرحلة التي رغم رداءة أسلوبها القصصي ما تزال قصة ممتعة غالبت رحلة (ماركو بولو) وكانت أثبت منها على الخلود.
والمغاربة أحبوا من قديم الرحلة عن ديارهم مدفوعين إلى ذلك التجوال حبا للعلم والمغامرة أو للحج أو الاتجار أو للبحث والاستكشاف أو للغزو والجهاد أو للنفقد والتعهد، كرحلات بعض الملوك والأمراء، أو للسفارة إلى بعض الدول، وكانوا يكتبون ما يشاهدون ويدونون الملاحظات والارتسامات وأحيانا يسردون أقاصيص وحكايات مما ينزع منزع القصة الأدبية) كل ذلك فيما يكتبون في هذه الكتب التي يعبرون عنها (بالرحلات).
وفن الرحلات هذا، فن قصصي شائق وجذاب، فرحلة ابن بطوطة مثلا ليست إلا قصة شائقة لم يكتب لها أن تصاغ في لغة أدبية وزينة، ولم تمتد عناية أبي عنان الذي أمر بجمعها إلى أسلوبها وقاليها، ولا أريد بالرحلات الرحلات السفارية أو الرحالات الرسمية، وإنما أقصد (الرحالات) السياحية التي يباح للمؤلف فيها سرد الوقائع والاحتفاء بالغرائب والنوادر وإضفاء شخصيته على ما يكتب ويسرد، كرحلة ابن بطوطة وكرحلة ابن رشيد الفهري من قبله المتوفى سنة (657) ولا يمكن استقصاء هذا النوع من الرحلات لأن الحديث عنها طويل ولأن لها من يثقن الكلام عنها من علماء الأدب المغربي المعاصرين.
أما عن المسرحيات فلا شك أنهم عرفوا المسرح حين اتصلوا بالفنيقيين وحين اتصلوا بالرمان، وفي نار (وليلي) ما يدل على هذا، بل أن البكري وهو رحالة قديم يتحدث عن إفريقيا فيصف (المسرح) بها، والعجيب أنه يسميه (طياطرو) باسمه الغربي، وسأنقل منه هذه الفترة، قال البكري في كتابه المالك والممالك :
« وأعجب ما بقرطاجتة دار الملعب وهم يسمونه (الطياطرو) قد بينت أقواسا على سواري وعليها مثلما ما أحاط بالدار، وقد صور في حيطانها جميع الحيوان، وصور أصحاب جميع الصناعات، وجعلت فيه صور الرياح، فجعل صور الصبا وجهه مستبشرا، وصوره الدبور وجهه عابس، ورخام قرطاجتة لو اجتمع أهل إفريقيا على نقله واستخراج جميعه ما أمكنهم ذلك لكثرته، وفيها قصر يعرف بالمعلقة مفرط العظم والعلو فيه اقباء معقودة طبقات كثيرة مطل على البحر، في غربيه قصر يعرف بالطياطير، وهو الذي فيه دار الملعب المذكور، وهو كثير الأبواب والترويح، وهو أيضا طبقات على كل باب صورة حيوان من رخام، وصور جميع الصناع، وقصر يقال له قومش طبقات كثيرة أيضا في سواري رخام مفرطة الكبر والعظم، يتربع على أرس السارية منها أثنا عشر رجلا وبينهم شفرة طعام أو شراب، وهي مشطية كالثلج بياضا والمهاة صفاء (عن المالك والممالك للبكري ص 44 طبعة أرسلان).
هذا نص البكري وهو من رحالات أول القرن الرابع، أما الروايات التي كانت تشخص بهذا المسرح فهذا ما لم يذكره البكري.
لقد عرف العرب قديما المسرح خيال الظل. وفي مجلة (المقتبس) إن خيال الظل أو الخيال الراقص أو خيال جعفر هو الذي تسميه العامة (كركوز) مأخوذ عن (قره كوز) التركية وهو المعبر عنه بالفرنسية ماريونت وهو من أنواع المسرح في القديم.
وكذلك عرف العرب التعزية عن الشيعة، والفلكور المغربي وإن كان احتفظ ببعض عوائد الشيعة كرقصة النار مثلا إلا أنه لم يحتفظ بهذا المسرح، وفي (حلقات) بعض المدن نعثر على مشاهد هزلية، وأشد القارئ إلى دراسات المستشرق (كراتشكو فسكي) عن المسرح العربي فهي مفيدة جدا وقد نقلها إلى العربية الأستاذ عثمان الكعاك في مجلة (الثريا) التونسية.
أما عن أصول القصة فقد عرف المغاربة فن (المقامات) وعالجوا هذا الفن الأدبي كما عالجوا كل الفنون الأدبية التي وردت عليهم من الشرق، ولاشك أنهم أكثروا فيه وتفرقوا كذلك لما في طبعهم من حب للحديث الطويل المهلهل الأسلوب، والذي عثرت عليه من المقامات هي مقامات لابن الخطيب وقد نشرها العبادي تحت عنوان (مشاهدات لابن الخطيب) وهي مفاضلات بين المدن المغربية وذكريات، وهي وإن كان ينقصها (أسلوب) المقامات.. ثم مقامات المكلاني وهو أديب سعدي وترجمته مشهورة في تاريخ السعديين كان كاتبا وأديبا ممتازا.. وهناك مقامات لأحمد بن حسين الحلبي المسماة الحلل السندسية في الصفات الأحمدية، والحلبي هذا أديب شرقي أستوطن فاسا وكان من أدبائها، وقد ترجم له غير واحد من المؤرخين.
ومن المقامات التي أذكرها مقامات حضرة الاتياح المغنية عن الراح لابن أبي حاتم المالقي المنسوبة خطأ إلى ابن الخطيب، ومؤلفها ابن أبي حاتم كان قاضيا بجبل الفتح، ويقول أحد علماء المخطوطات بأن المخطوط منسوب إليه والمطبوع منسوب لابن الخطيب خطأ، ويذكر الأستاذ كنون من بين المقامات، مقامة لمحمد بن الطيب العلمي المتوفى بالشرق سنة (1134) وإن كنت أرى أنها بعيدة عن فن المقامات لعدم خضوعها لقوانينه وإفراغها في قوالبه، وقد عثر على مقامتين لمؤلف مجهول يروي المقامة فيها الراغب بن الوارث، والأولى عبارة عن نزهة في وادي فاس والثانية برواية الراغب أيضا عن جولة في تطوان.
ومن أصحاب المقامات الأديب الكبير الوزير ابن إدريس المتوفى سنة 1264 وهو أديب بارع الإنشاء وشاعر مطبوع ويحدثنا في مقاماته عن الفتح بن سلامة، كما عثرت على مقامات لابن شقرون وهي في الصباح، وممن كتب المقامات أيضا شاعر فاس الأديب المرحوم غريط وهو أديب كيبر ألف (الجمان) وعالج الشعر فتفوق وقد ترك لنا (مقامة) أدبية.
إن العملي ترك لنا قصة (المحب والحجام) وهي في نظري يمكن أن تقارن بقصة المويلحي (حديث عيسى بن هشام).. وإن كان المؤلف المصري أكثر تحررا في الأسلوب من تقاليد الكتابة العميدية، وتنعدم عند العلمي التجربة الاجتماعية والاحتكاك بمشاكل عصره، وأبا ما كان فهو قصته يكون حلقة بين المقامات والقصة كما كانت قصة المويلحي واسطة بين المقامات والقصة في الأدب المصري.
إذ المقامة شبه قصة تدور حول بطل وهمي يروي أخباره رواية وهمي، لا تربطهما وحدة موضوعية، وهي ميدان لإظهار المقدرة البلاغية والتفنن في البيان والبديع، وإذن فلا بد من رواية كعيسى بن همام وأبي زيد السروجي مثلا.
لذلك فقصة (المحب والحجام) لا تتوفر فيها شروط المقامات، لأنها تهدف إلى سرد قصة لها وحدة، وتهدف إلى مغزى أدبي واجتماعي أكثر من هدفها إلى التفنن البلاغي وإظهار المقدرة على التلاعب بالأساليب البديعة من جناس وغيره.
ولنا في ميدان الشعر الملحون أقاصيص ذات أسلوب رائع في لغتها، محكمة النسيج نبيلة الموعظة، كقصة سيدنا يوسف، وكقصة النبي عليه السلام، وكقصة (الحراز) ويطول بنا الكلام لو عرضنا إلى نواحي الجمال فيها، لأن لغتها ليست بعربية وإن كانت إنتاجا مغربيا لأننا في هذا الحديث لا نعرض إلا للإنتاج العربي الفصيح.
أما عن التمثيل فقد عالجه المغاربة لأول مرة في القرن العشرين وقد رأيت في مذكرات مؤرخ مغربي توفى قريبا ما يلي:
كان يوم الثلاثاء 19 جمادى الثانية سنة 1341 أول تمثيل ظهر بالرباط، وقد مثلت رواية تاريخية عربية غرامية وهي الخلفية هارون الرشيد مع حاكم البصرة، قام فيه بأهم الأدوار محمد عز الدين المصري خليفة سلامة حجازي، أما أول تمثيل وقع من المغاربة فهو رواية صلاح الدين الأيوبي وقلب الأسد، وكان بفاس في رمضان سنة 1345، ثم الرباط سنة 1346 مثلت نفس الرواية، ثم في ذي الحجة همت فرقة بالرباط يتمثيل رواية فتح الأندلس فمنعتها الحكومة.
أما العصر الحديث فهناك محاولات لكتابة القصة وكتابة المسرحية، عالج الفن الأول كثير من شبابنا وبالأخص الكاتب القصصي بباي في قصص فاس، وعبد الرحمن الفاسي في قصص نشرها بجريدة المغرب، وعبد المجيد بن جلون، كما عالج الفن الثاني كثير من شبابنا غير أن كل هذا ما يزال يتعثر بين الفن الصحيح والمحاولات، فعسى أن تحقق الأيام آمالنا الكبرى في شبابنا الناهض.


دعوة الحق -
17 العدد



الادب المغربي.jpg
 
أعلى