هاجر الفتوح - الرسائل على عهد الدولة العلوية

مدخل:
من خلال موضوع الرسائل الذي سنقوم بإدراجه، فقد ارتأينا أن نضمن هذ الركن بموضوع عام يشمل الرسائل في عهد الدولة العلوية دراسة إحصائية تصنيفية تحليلية من خلال النبوغ المغربي في الأدب المغربي لعبد الله كنون.
وفي كل مرة سنقوم بتقديم سلسلة تتعلق بالموضوع العام المشار إليه وذلك في شكل حلقات أو سلسلات.
كان العرب يستعملون فعل (ترسَّلَ) استعمالا عاما في كلامهم بمعنى: تمهل وتأنى وترفق واسترخى، ومصدره (ترسُّل)، غير أن أول إشارة صريحة إلى المعنى الاصطلاحي وردت في كتاب {البرهان في وجوه البيان} لابن وهب الكاتب (من القرن الرابع للهجرة/العاشر الميلادي) إذ يقول: أنا مُترسِّل ولا يقال إلا فيمن تكرر فعله في الرسائل، ولذلك كانت كلمة ( مُترسِّل) تطلق أكثر ما تطلق على كتاب دواوين الرسائل المتفرغين فيها لكتابة رسائل الخلفاء أو الولاة، والحقيقة أن هذا الفن ازدهر بعد الإسلام ازدهارا عظيما على يد هؤلاء الكتاب.
وكان المؤلفون في القرن الثالث للهجرة يستعملون كلمات ( ترسل ، والترسل ، والمترسل) استعمالا عمليا بالدلالة الاصطلاحية التي رأيناها آنفا.
وقد خلط بعض القدماء والمحدثين مفهوم الترسل الاصطلاحي الخاص الذي رأيناه بمفهوم النثر الأدبي أو الكتابة عموما؛ كقول طه حسين: ( وربما كان عبد الحميد الأستاذ المباشر للكُتاب المترسلين وبنوع خاص الجاحظ.
وهناك مصطلحات رديفة للترسل استعملت عند بعض مؤرخي الأدب القدماء، منها: الإنشاء والكتابة، والمراسلة أو المراسلات، والترسيل، غير أن مصطلح الترسل كان الأكثر شيوعا وشهرة.
والمعلوم أن الرسالة، التي هي مضمون هذا النوع الأدبي، إنما هي هذا الكلام الذي يرسِلُ به مرسل من بعيد، عبر وسيلة من الوسائل الناقلة لمضمونها كالرسول الذي يحملها مشافهة، أو يحملها في الورق مكتوبة.
وقد مرت الرسالة عند العرب بمراحل أبرزها: الشكل الإشاري، ومن ذلك أن العرب في الجاهلية كان أحدهم ينذر قبيلته عن بعد بقدوم غزو نحوها بأن يخلع ثيابه جميعا حتى يصبح عريانا، ثم يلوح بها لهم، ولذلك قالوا في أمثالهم: "أنا النذير العريان". والشكل اللغوي، ويكون على مستويين: الأول شفوي، والثاني تدويني. والشكل الأهم في تاريخ الأدب العربي، هو الشكل اللغوي التدويني لأنه من أصح أشكال الترسل وأدقها وأوثقها.
إن أدب الرسائل مجال واسع من مجالات الكتابة عرفته مختلف الثقافات القديمة في عصور مدنيتها وتحضرها، وازدادا انتشارا في الأداب الغربية الكلاسيكية والحديثة وفي الأدب العربي الحديث، ولم تنفك أجناسه وأساليبه تتطور بتطور أنواع التواصل المكتوب وفنون النثر الرسائلي.
ولئن اختلفت نشأة هذا الأدب من حضارة إلى أخرى وتباينت وجوه تطوره من لغة إلى سواها، فإن الذي عليه عامة المهتمين به أن للرسائل حدا أدنى من المقومات العامة تشترك فيها جميع الدراسات الحديثة في الغرب خاصة إلى هذه النتيجة بفضل اعتمادها مكتسبات علوم اللسان ونظريات الأجناس الأدبية أسسا معرفية تستند إليها في نقد الر سائل.
أما علوم اللسان فقد مدت الباحثين في أدب الرسائل بالمقومات الأساسية التي يمكن اعتمادها في تصنيف الخطابات عامة، والخطابات الأدبية على وجه الخصوص، ولعل أهم مقولة تم استغلالها في هذا المضمار مقولة (التلفظ)؛ فإنها مكنت نقاد الرسائل من استخدام أدوات تحليل الخطاب السردي في دراسة الرسائل السردية من جهة، ومكنتهم من جهة ثانية من بلورة مفهوم التلفظ الرسائلي؛ وهو مفهوم ذو نتائج حاسمة في مجال التمييز بين خطاب الرسالة وسائر خطابات النثر الأدبي من جهة وفي مجال التمييز بين كاتب الرسالة باعتباره ذاتا متلفظة وباعتباره طرفا من أطراف التواصل في عالم خطابي من جهة ثانية.
مفهوم الرسالة:
إن المتمعن في النصوص القديمة عامة يلاحظ أن المادة الأدبية التي تسمى رسائل تضم نصوصا مختلفة الأشكال والوظائف، أما من ناحية الأشكال فنجد نوعين من الرسائل: النوع الأول شعري ونصوصه مبثوثة في دواوين الشعراء، وفي كتب الأدب؛ فقد استعمل كثير من الشعراء أبياتا في صيغة مراسلة، وذلك في استهلال القصائد، لتحقيق مقاصد مختلفة، أما النوع الثاني فهو نثري؛ إلا أننا نجد نوعا ثالثا من الرسائل الأدبية تجمع في شكلها بين الشعر والنثر، ولا نقصد بها الرسائل النثرية التي تتضمن شواهد قليلة أو التي ينظم الكاتب في غضونها بيتا أو نتفة أو مقطوعة بل نعني جنسا من الرسائل يكتبها شعراء ثائرون يجمعون فيها وضعا الشاعر والناثر، ويراوحون فيها بين إنشاء الفقرة النثرية ونظم المقطوعة أحيانا، وتكون مقادير الشعر والنثر فيها متقاربة فهي أقرب إلى الجنس المتحول أو الممزوج الواقع بين حدود الأجناس.
وأما من ناحية الوظائف فيمكن أن نصف الرسائل الأدبية أصنافا، يشمل الصنف الأول الرسائل ذات الوظيفة الإنشائية وهي صناعة الترسل، وقد عده القدامى إحدى صناعات النثر الكبرى ويضم الصنف الثاني الرسائل ذات الوظيفة العرفانية والتثقيفية والنقدية، وقد أدرجها مؤرخوا الأدب في باب النثر الأدبي التأليفي، ويشمل الصنف الثالث الرسائل المدرجة في سياقات قصصية.
إن السياقات التي وردت فيها كلمة رسالة في التراث العربي متنوعة ونجد مدونة ضخمة تسمى رسائل، ولكنها تضم أنواعا من النصوص مختلفة.
وترد عبارة رسالة في عناوين الآثار، ويكفي ذلك بعض الموسوعات كالفهرست لابن النديم، لنرى أن قسما كبيرا من المصنفات العلمية والأدبية تتضمن في عناوينه عبارة، رسالة في ـ وفي مظانها سواء أكان النص مرسلا إلى قارئ بعينه أم موجها إلى عامة القراء.
يثير استعمال كلمة رسالة عدة مشاكل تتصل بدلالة الاستعمال وبحقيقة العلاقة بين التسمية ونوع النص الذي تطلق عليه من حيث البنية والمضمون، وقد لا تعترضنا هذه المشاكل في دراسة بعض الأجناس النثرية كالخطبة والمقامة، لأن وجوه استعمال المصطلح فيها محدودة، ولأن النقاد تمكنوا من تحديد دلالاتها الإصطلاحية.
أما مصطلح رسالة فإنه لم يحظ بدراسة خاصة تتصدى للبحث في وجوه استعماله وللنظر في دلالات العبارات التي لها به صلة معنوية كالكتاب والترسل والمراسل وغيرها.
وسنحاول في مرحلة أولى دراسة معنى الرسالة في اللغة وفي مختلف سياقات استعمالها ودراسة صلتها بالكلمات القريبة منها ، ونحاول في مرحلة ثانية تحليل الصلة بين الدلالة اللغوية العامة، والاستعمال الإصطلاحي الأدبي وكذا دورها في عملية التواصل على عهد الدولة العلوية، إضافة إلى أخذ عينات وتصنيفات وإحصاءات لها من خلال الجوهرة النفيسة كتاب النبوغ المغربي لعبد الله كنون.
معنى الرسالة في اللغة:
تتضمن مادة ترسل في العربية ثلاثة مجالات معنوية متقاربة هي الإمتداد والطول والإتساع أولا، واللين والسهولة والتحرر من القيد ثانيا، والتمهل والترفق والتأني ثالثا، وقد جاء فعل أرسل ليفيد هذه المعاني جميعها، فهو يعني توجيه الشيء من مكان إلى آخر، والإنطلاق من القيد والتوسع والتمديد، كما جاء فعل ترسل ليفيد تمهل وتأتى في القيام بالفعل.وقد عرفت الرسالة في كتاب رسائل أبي علي اليوسي بقوله: لقد استعمل الأدب العربي هذا اللفظ لدلالات مختلفة ورد منها في دائرة المعارف لبطرس البستاني ج8/593، الرسالة في الأصل الكلام الذي أرسل للغير، وخصصت في اصطلاح العلماء بالكلام المشتمل على قواعد علمية، والفرق بينها وبين الكتاب على ما هو مشهور، بحسب الكمال والنقص والزيادة والنقصان، فالكتاب هو الكامل والرسالة غير الكامل فيه، والمعنى الثالث هو أن الرسالة تستعمل في الشرع؛ بمعنى بعث الله تعالى إنسانا إلى الخلق بشريعة سواء أمر بتبليغها أو لا وتساويها النبوة.
معاني الرسالة السياقية:
اتسع معنى الرسالة فاستعملت الكلمة في سياقات مخصوصة ودلت على نصوص بعينها، ففي القرآن الكريم دلت على مجمل ما أنزل على الرسل من تعاليم سماوية: « فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي». الأعراف /79. غير أن تسمية الكتب السماوية رسائل، والقرآن الكريم على وجه الخصوص لم تشع في الإستعمال، وإنما استقرت في عبارات أخرى منها خاصة الكتاب، والتنزيل علاوة على أن كلمة القرآن هي نفسها أوسع استعمالا من سواها.
ويمكن أن يعد العصر الأموي منعرجا هاما في تاريخ تطور معنى لفظة رسالة، فقد كانت مؤسسة الديوان السياق الحضاري الذي ازداد فيه معنى الرسالة اتساعا وارتباطا بأنماط الكتابة.
وقد أطلق مصطلح رسالة على جميع النماذج، الإخوانيات، السلطانيات، رسائل الحرب، والتولية، التهنئة والعزل، دون تميز وقد رسخت الكتابة الديوانية الدلالة المزدوجة لكلمة رسالة فبرز الاشتراك المعنوي بين الرسالة باعتبارها جنسا من أجناس الكتابة الأدبية ، وبين الرسالة باعتبارها جنسا من أجناس المكاتبة الإدارية، وكان لهذا الجيل الأول دور حاسم في بلورة المصطلح ورسم حدود استعماله، فقد وضع القسم الأكبر من النثر الأدبي المكتوب في باب الترسل، وأطلقت عبارة الرسالة على مختلف النماذج التي تمثل اتجاها جديدا في النثر العربي بغض النظر على مقام الكتابة أو بنياتها الخارجية.
وقد عرف الدكتور عبد الله المرابط الترغي الرسالة في أطروحته المعنونة بـ الحركة الأدبية في المغرب على عهد المولى اسماعيل بقوله: وهي أكثر الأصناف الأدبية في أعمال الكتاب وممارسي عملية الخطاب النثري، وهي أوفاها حضورا في إنتاج أدباء العصر الإسماعيلي وما بعده بقليل، فتكثر كتابة الرسائل وإنشاؤها لديهم، لتصبح الرسالة النص الأكثر تداولا بالنسبة لبقية نصوص النثر الأخرى، فيمارس كتابتها وعلى نطاق واسع، مختلف الفئات الأدبية والعلمية، الرسمية منها وغير الرسمية، من الأدباء والكتاب والعلماء والقضاة والفقهاء وشيوخ التصوف وغيرهم، وتتداولها في مختلف الأغراض والمواضيع، وتسخر حضورها في أنواع المخاطبات التي تتبادلها هذه الفئات فيما بينها، أو فيما ترفعه إلى مقام من المقامات، فتحقق به أهداف خطابها من نصح وتوجيه وتهنئة واعتذار وتعزية وغيرها.

المراجع المعتمدة:
[1] ـ الرسائل الأدبية ودورها في تطوير النثر العربي القديم، صالح رمضان، جامعة منونة، تونس كلية الآداب 2001.
[2] ـ حركة الأدب في المغرب على عهد المولى اسماعيل(1082/1139)، دراسة في المكونات والإتجاهات، عبد الله المرابط الترغي، ج/4.
[3] ـ رسائل أبي علي الحسن بن مسعود اليوسي، فاطمة خليل القبلي، دار الثقافة، الدار البيضاء.




الادب المغربي.jpg
 
أعلى