فاروق حمادة - النهضة الفقهية في ظلال الدولة الموحدية

لقد امتد عمر الدولة الموحدية، قرنا ونيفا من الزمان، من نحو 540ه، لإلى محو 650ه وخفقت أعلامها الإسلامية من حدود مصر والسودان شرقا، إلى المحيط الأطلسي غربا ومن قمم جبال البرينية في قلب أوربا شمالا إلى ما شاء الله في قلب لإفريقيا جنوبا، ولولا البحر والمحيط الذي حجز امتداد في آسفي وما والاها ، لكان لها في مغرب الشمس قراع وصراع واتساع ، وقد بلغت كل هذه السعة في زمن يسير ، ودهر قصير ، عم في أغلب أيامها الرخاء، وطاولت قوتها الجوزاء، ونالت ولا زالت تنال من الباحثين أبلغ المدح والثناء ، لشواهدها الدالة عليها ، من مكارم وعظائم ،وفي مقدمة آيات فخارها ومجدها عن المعمار والبناء ، وقديما ردد الخليفة الأموي الناصر وهو يشيد ويبني في الأندلس:
هم الملوك إذا أرادوا ذكرها = إن البناء إذا تعاظم قـدره
من بعدها فبألسن البنيــان = أضحى يدل على عظيم الشان

لقد ترك الموحدون ، ويعقوب المنصور منهم على الخصوص الذس سنقف عنده ، منائر للإسلام شامخة ،يشق صوت مناديها أجواز الفضاء ، ويدعو الخليفة إلى رب السماء عنوانا لهذه الدولة السنية السنية ، فالكتبية في مراكش رمز لإفريقيا كلها، وصومعة حسان في رباط الفتح رمز للجهاد وأهله في الإسلام على مدى الأيام، والخيرالدا في إشبيلية قمة حضارة إنسانية معطاء لاتنال منها تشويهات الحاقدين ، وعبث العابثين على مر القرون ، شاهد حق للناس على أن المسلم يبني الخير أينما حل، وينتشر الرقى في كل الأنحاء .

لقد توجهت هذه الدولة بالفكر الإسلامي توجها جديدا يكن آنئد، وبهذا التوجيه حصل إبداع وابتكار ، وحفظت لهذه الأمة كثير من مصادر المعرفة والآثار ، ونتاج أعلامها الأخبار الأبرار.

لقد أرادت هذه الدولة أن تعيد أمر الحياة الإسلامية جذعا، وتعود بالمسلمين إلى عصور الخير والازدهار، إلى القرون الثلاث الأولى ، في الفكر والسلوك ونمط الحياة.

وقد كان القرن الرابع والخامس الهجريين مرحلة استقرار الفقه الإسلامي بمدارسه المعروفة، ومذاهبه السنية خاصة، الحنفية، والمالكية، والشافعية، والحنبلية، وتبلورت هذه المدارس الاربعة من خلال قواعد وأصول بنيت عليها، وأغصان وفروع انطلقت منها، وتميزت كل مدرسة بأصولها الخاصة التي تختلف بها عن المدارس الأخرى، مع اشتراك جميع هذه المدارس بجزء عظيم. ودونت هذه القواعد والأصول، وكتبت كتب الفروع ،ولا ضير في ذلك ، إلا أن المعركة التي استمرت في بناء الفقه الإسلامي في طليعة القرون الثلاثة الأولى، وعرفت فيها تقارع الأفكار وتدافع الحجج وابتكار الأساليب ، بما بهر العقول، وحير الأفكار، فأين مطارحات ابن أبي ليلى وأبي حنيفة ؟ وأين مناقشات الشافعي مع محمد بن الحسن الشسباني، وأين المراسلات التي كان ترد وتصدر بين مالك والليث بن سعد ،وأين ندوات الأوزاعي وغيره ؟ وأين حلقات أحمد بن حنبل وأبي عبيد القاسم بن سلام، وأبي ثور الفهمي ؟ وأين، وأين...؟

لقد همد هذا في القرن الرابع والخامس، وألفت في كل مذهب كتبه الخاصة، وتعدى الأمر إلى تأليف المختصرات والعكوف عليها والتعصب للمذاهب والدفاع عنها . فللحنفية مختصر الطحاوي ثم تلاه مختصر القدوري وهم عمدة هذا المذهب إلى اليوم، وللشافعي مختصر المزني زتلاه ما تلاه وإلى يومنا هذا ،وللمالكية مختصر بن عبد الحكم وغيره ، وللحنابلة مثل هذا، وبالأمس كان منزع الفقهاء من القرآن الكريم والسنة، واليوم عكوفهم على هذه المختصرات وكتب المذهب خاصة. فحصل بذلك نوع من الهمود والركود، وما كانت المناظرات بعد إلا دفاعا عما هو موجود ، وانتصارا لما هو قائم، وعرى دولة المسلمين نوع من التفكك وتقطيع الأوصال، مما قطع الأفكار وحير العقول، فالدولة البوهية في بغداد والمشرق، والسلجوقية في الشمال والفاطمية بمصر، والطوائف في الأندلس ، والمرابطية في أفريقيا والمغرب ... وهذا له ماله من أثر في دفع حركة الفقه، وعجلة التشريع، وتشذما وتشتتا .

وكانت أفريقيا والأندلس مقرا لأتباع مالك بوجه عام من أيام مالك رحمه الله في نهاية القرن الثاني ، ولكنها كانت إلى جانب الفقه المالكي تعج وتموج بالمحدثين الوارجين إلى مدارس الحديث بالمشرق، والصادرين عنها، فكان الفقهاء محدثين، والمحدثون فقهاء في الأعلم الأغلب .

واستمرت الأمور علة ذلك مدة حتى جاءت الدولة المرابطية من منتصف القرن الخامس 465ه تقريبا فعملت على ترسيخ الفقه المالكي المجرد عن الدليل، وذلك في أيام أمير المسلمين يوسف ين تاشفين وابنه علي الذي امتد حكمه إلى سنة سبع وثلاثين وخمسمائة، وكان كأبيه، ومما جاء في وصفه : أنه شجاع مجاهد، عادل دين، ورع صالح ، معظم للعلماء، مشاور لهم نفق في زمانه الفقه وكتب الفروع، حتى تكاسلوا عن الحديث والآثار، وأهينت الفلسفة ...[1] واستمرت سطوة الفروع، والكتب الفروعية مدة بقاء المرابطين ، ومن يرجع إلى تاربخ العلماء في هذه الفترة يجد أن عمل العلماء كان حول مدونة الإمام سحنون بن سعيد، اختصارا وتهذيبا، وشرحا وتعليقا ...

حتى جاءت دولة الموحدين التي انبثقت على هدي أفكار محمد بن تومرت الذي كان قد جال في المشرق، ورأى صراع المدارس الفقهية الاتجاهات العقائدية، ولمس محاولات النهوض بالفقه الإسلامي والبحث عن الدليل من القرآن والسنة، ودرس على الغزالي الشافعي، كما درس على مالكية المشرق، وعاد إلى المغرب ، وشارك بأعمال علمية منها اختصاره لموطأالإمام مالك وله المكانة العليا عند المحدثين والفقهاء، وحرر رسائل في العقائد وغيرها، ودرب أتباعه على قراءة القرآن حزب فيالصباح وحزب فيالمساء ليختم كل شهر ، وحاول إبعاد الناس عن الفروع الفقهية وكتبها (2) .

ولما آل الأمر إلى عبد المؤمن بن علي، وأقام الدولة الموحدية، ومد رواقها، وأصغى له الدهر كما قال الوزير أبو جعفر بن سعيد العنسي، مخاطبا له في قصيدة بجبل الفتح - جبل طارق(3) - :
تكلم فقد أصغى إلى قولك الدهر = ورم كل ما قد شئته فهو كائـن
فما لسواك اليوم نهي ولا أمر = وحاول فلا بر يفوت ولا بحر

وعمق عبد المؤمن اتجاه شيخه المهدي بن تومرت في دفع كتب العروع وإعلاء شأن الأصول، والرجوع إلى القرآن والحديث ، قال الناصري : لما كانت سنة خمسين وخمسمائة، أمر أمير المؤمنين عبد المؤمن بن علي بإصلاح المساجد وبنائها في جميع ممالكه ، وبتغيير المنكرات ما كانت، وأمر مع ذلك بتحريق كتب الفروع، ورد الناس إلى قراءة كتب الحديث، واستنباط الأحكام منها وكتب بذلك إلى جميع طلبة العلم من بلاد الأندلس والعدوة (4) .

وكان عبد المؤمن كما يصفه بن خلكان وغيره : فصيحا مفوها فقيها عالما بالأصول والجدل والحديث، مشاركا في كثير من العلوم الدينية والدنيوية .

وأقبل طلبة العلم منذ ئذ على الأصول، ودفع عبد المؤمن بن علي أولاده إلى أهل الحديث ، ليحفظوه مع كتاب الله ،وقد جاء ترجمة ابنه يوسف في المعجم للمراكشي، وهو قريب العهد به(5) : صح عندي أنه كان يحفظ أحد الصحيحين، وأظنه صحيح البخاري .

وقال : لما تجهز لغزو الروم، أمر العلماء أن يجمعوا أحاديث في الجهاد تملى على الجند، وكان هو يملي بنفسه، وكبار الموحدين يكتبون في ألواحهم، وكان فقيها يتكلم في المذاهب ويقول : قول فلان صواب، ودليله من الكتاب والسنة كذا وكذا ...

ولما استسلم ابنه يعقوب بن يوسف الملقب بالمنصور سنة 580ه ، كان هذا الإتجاه قد استقر وتوضح، وبلغ يعقوب المنصور من العلم بالكتاب والسنة و الفقه مبلغا عظيما، قال تاج الدين بن حمويه السرخسي، وقد زار المغرب سنة 593ه أي قبل وفاة المنصور بسنتين، وكان علىصلة بالمنصور، واطلع على أحوال دولته(6) : كانت الدنيا بسيادته مجملة، يقصد بفضله، ولعدله ولبذله، ولحسن معتقده ... وكانت مجالسه مزينة بحضور العلماء والفضلاء، تفتتح بالتلاوة، ثم الحديث، ثم يدعوا هو، وكان يجيد حفظ القرآن، ويحفظ الحديث، ويتكلم في الفقه، ويناظر، وينسبونه إلى مذهب الظاهر، وكان فصيحا مهيبا ... بزي العلماء وعليه جلالة الملوك، صنف في العبادات، وله فتاو، وبلغني السودان قدموا له فيلا فوصلهم، ورده وقال ما نريد أن نكون من أصحاب الفيل، وكان يجمع الزكاة ويفرقها بنفسه، وعمل مكتبا للأيتام فيه نحو ألف صبي وعشرة معلمين .

وقد صح عنه أنه أراد جمع صحيح السنة من مصادرها الأصلية، وأمر بذلك الحفاظ في عصره. قال الحافظ أبو الحسن ين القطان دولتهم ورأس طلبتهم : حرص رحمه الله على تدوين كتاب يشمل على عجب عجاب من صحيح آثار السنة، وتمحيص السنن الثابتة المثورة وتمييزها عن سقيمات الآثار المسطورة، وجعل ذلك لمهر طلبته الناهضين بخدمته...(7) وجمع كتاب الصلاة من الكتب الخمسة الأصول، والموطأ، ومسندي البزار وابن شبيه، وسنن الدرقطني، والبيهقي(8) .

وأراد المنصور رحمه الله أن يؤصل للاجتهاد، وينفخ فيه روحا جديدا في ربوع مملكته، وروع أهل العلم من حوله ، فأضاف إلى السنة المطهرة بعد القرآن أن أمر بجمع كتال في الإجماع ، يضم المسائل التي أجمع عليها المسلمون من قبل حتى لايتخطاها أهل العلم لما للإجماع من مكانة، وأمر بجمع كتب الفقه المدهبي على اختلافها، واعتنى بالكتب التي تبسط المسائل مع أدلتها من القرآن والسنة ، وكأني به رحمه الله أراد أن يحيي فقه الكتاب والسنة كما كان غضا طريا في القرون الثلاثة الأولى ، وجمعت كتب الفقه في هذا الباب وما اتهم به من ظاهرية (9) ينفيها ما ثبت عنها من رواح لكتب الفقه في عصره ، واعتماد الدولة ، لجميع الذاهب السنية ومنها المالكية،والظاهرية، وبما أن الظاهرية دائما يناقشون ويحتجون بالآثار فكتبهم محشوة بها ، وحظيت عندهم بهذا الإعتبار، وقد ثبت عندنا نفاق سوق كتب جليلة ذات شأن مما لم قرع اسمها إلا أسماع خاصة الخاصة منذ مدة طويلة، وهذا مادعانا إلى بيانها، وإشاعة ذكرها، وتغيير النظرو التي وجهت الدولة الموحدية وعدها في صف الظاهرية ، وتعصبها لها ، والأمر ليس كذلك ، لتكون هذه الكتب محل البحث والإهتمام، والبعث والدرس، عنوانا ليقظة فقهية كما أرادت الدولة الموحدية وواسطة عقدها يعقوب من قبل، معتمدا في ذلك على كتب أبي الحسن القطان الفاسي المتوفي 628 وقد عاش في كنف هذه الدولة وسلك خطتها العلمية، وترك وراءه عديدا من الآثار الجليلة العلمية، واعتمادنا في هذا البحث على كتابه الإقناع في مسائل الإجماع، ولازال مخطوطا، وكتابه أحكام النظر في أحكام النظر بحاسة البصر، وهو مطبوع(10) ، وكان هذا الإمام قيما على الخزانة الموحدية مسؤولا عنها، ولهذا فكتبه مستقاة منها معرفة بمظمون خزانة الموحدين، مرتبا الكتب الفقهية حسب المذاهب ومعرفا بها وبقيمتها.

1- أما المالكية فلم تحارثها الدولة الموحدية بإطلاق كما هو شائع بين كثير من الباحثين بل كانت كتب المالكية سائرة رائجة، ولكنها الكتب النقاوة، التي كانت قبل الدولة وبعدها محط اهتمام العلماء، وحازت قصب السبق في جميع الأعصار، وفي مقدمتها الموطأ للإمام مالك أصل الأصول ، فكان له شأن لدءا من محمد بن تومرت الذي اختصره إلى يعقوب المنصور. والمدونة، التي نقل فيها سحنون آراء مالك وابن القاسم.

* ومن أعلام المالمية وأصحاب المصنفات الذين استمر أثرهم الفقهي ولقي قبولا في الدولة الموحدية، القاسم بن محمد بن سيار القرطبي المتوفي 278ه ، وهو المحدث الكبير تلميذ المزني حام لعلم الشافعي، وتلميذ يونس بن عبد الأعلى، ومحمد بن عبد الله بن عبد الخكم، والحارث بن مسكين، وكان يعرف بصاحب الوثائق لشهرته بها، قال بن حزم : وإذا ذكرنا قاسم بن محمد لم نباه به إلا القفال، ومحمد بن عقيل الفريابي ، وله تآليف جليلة، ومنها كتاب الإيضاح في الرد على المقلدين، ومصنف جليل في خبر الواحد(11) .

* ومنهم محمد بن إبراهيم بن زياد الإسكندراني المعروف بابن المواز المتوفي 281ه أو نحوها، كان راسخا في الفقه والفتيا علما في ذلك، وكان المعول بمصر على قوله .

قال القاضي عياض(12) : وله كتابه الكبير المشهور، وهو أجل كتاب ألفه قدماء المالكيين وأصحه مسائل وأبسطه كلاما وأوعبه، وذكره أبو الحسن القابسي، ورجحه على سائر الأمهات، وقال : لأن صاحبه قصد إلى بناء فروع أصحاب المذهب على أصولهم في تصنيفه، وغيره وإنما قصد إلى جمع الروايات ونقل منصوص السماعات ... إلا ابن حبيب فإنه قصد بناء المذهب على معان تأدية إليه .... ويسمى كتابه هذا بالموازية، وكان له حضور قوي في الغرب إبان العهد الموحدي وقد اقتبس منه ابن رشد الحفيد في بداية المجتهد، وابن قطان في كتابه إحكام النظر وأكثر عنه(13) .

* ومنهم كذلك إسماعيل بن إسحق القاضي المتوفى 282ه(14) أحد الرؤساء الكبار، وإمام المدرسة المالكية ببغداد جمع القرآن، وعلوم القرآن، والحديث، وآثار العلماء والفقه والكلام والمعرفة بعلم اللسان صنف في مذهب مالك ورد على أصحاب الشافعي وأبي حنيفة، وولي القضاء، وكان لكتبه وزن كبير، وكانت عمدة في فقه المالكية ومنها المبسوط الذي اقتبس منه فقهاء المالكية كثيرا وأحكام القرآن والأموال، والشفاعة، والصلاة على النبي عليه الصلاة و مسند حديث يحيى بن سعيد الأنصاري، وأيوب السختياني، وهذه الكتب هب من مرويات محمد بن خير الأشبيلي في فهرسته والمتوفي سنة 575ه أي في عصر الدولة الموحدية(15) .

* ومنهم ابن الجهم المالكي، محمد بن أحمد، يعرف بابن الوراق المروزي، صحب إسماعبل القاضي، وتفقه به ومعه، ومع كبار أصحاب ابن بكير وغيره وتوفي سنة تسع وعشرين وثلاثمائة .

ألف كتابا جليلة على مذهب مالك، وشرح مختصر ابن عبد الحكم الصغير، وله معرفة تامة بالحديث، قال الخطيب : له مصنفات حسان محشوة بالآثار، يحتج المذهب مالك، ويرد على مخالفيه، وقد انتشرت مؤلفاته في الدولة الموحدية واقتبس منها العلماء (16) ولانعلم عنها شيئا الآن .

* ومنهم المنذر بن سعيد البلوطي، أبو الحسن الأندلسي المتوفي 355ه سمع بالأندلس من عبيد الله بن يحيى ونظرائه، ثم رحل حاجا سنة 308ه فسمع بمكة من محمد بن المنذر النيسابوري المتوفي 318ه كتابه الإشراف على اختلاف العلماء، وهو من أعظم كتب الإسلام في الفقه وروى بمصر كتاب العين للخليل بن أحمد، وكان متفننا في ضروب العلم، ولي القضاء الجماعة بقرطبة من سنة 339إلى سنة 355ه حتى موته وكان يقضي بمذهب مالك بن أنس لايخرج عنه ، وكان له احتفالا بكتب الأدلة وخاصة كتب داود الظاهري، مما أكسبه معرفة بالمناظرة واختلاف العلماء، قال خشمي في قضاة قرطية : وكان من أهل النفاذ والتحصيل، متدربا للمناظرة متخلقا بالإنصاف جيد الفهم، طويل العلم؛ بليغا موجزا يميل إلى طرق الفضائل، ويوالي أهلها، ويلهج بأخبار الصالحين .

وله تصانيف حسان جدا كما يقول ابن بشكوال، وقال ابن الفرضي : له كتب مشهورة كثيرة في القرآن والفقه، والرد، أخدها الناس عنه، وقرؤوها عليه .

ومن كتبه التي راجت وكان لها شأن في الدولة الموحدية : الإنباه عن الأحكام من كتاب الله، والإبانة عن حقائق أصول الديانة، وناسخ القرأن ومنسوخه، وقد اقتبس العلماء من كتبه وخاصة الأول منهم ابن القطان في الإقناع وهو من مرويات ابن خير الإشبيلي في فهرسته(17) .

* ومنهم الإمام الأبهيري ، أبو بكر محمد بن عبد الله بن محمد بن صالح المتوفي 375 جمع بين القراءات، وعلوم الإسناد في الحديث، والفقه الجيد، وشرح مختصر ابن عبد الحكم، وعنه انتشرت مذهب مالك في المشرق قال الإمام الدرقطيني : هو إمام المالكية، وإليه الرحلة من أقطار الدنيا، رأيت جماعة من الأندلس والمغرب على بابه، ورأيته يذاكر بالأحاديث الفقهية، ويذاكر بحديث مالك، ثقة مؤمون زاهد ورع.

قال الخطيب البغدادي : وله التصانيف في شرح مذهب مالك بن أنس والاحتجاج له والرد على من خالفه وقال القاضي عياض : لأبي بكر من التواليف سوى شرحي المختصرين : الرد على المزني، وكتاب الأصول، وكتاب إجماع أهل المدينة، ومسألة إثبات حكم القافة، وكتاب فضل المدينة على مكة ومسألة الجواب، والدلائل والعلل.

وقد حمل علمه وكتبه جمع من المغاربة والأندلسيين وشاعت كتبه فيهم واقتبسوا منها في العهد الموحدي، ولم يبق منها أثر اليوم(18) .

* ومنهم أبو الحسن علي بن عمر بن أحمد المعروف بابن القصار المتوفي 398ه، قال القاضي عبد الوهاب المالكي : تذاكرت مع أبي حامد الأسفرايني الشافعي في العلم، وجرى ذكر أبي الحسن القصار وكتابه في الحجة المذهب مالك فقال لي : ماترك صاحبكم لقائل ما يقول .

وقال الشيرازي : وله مسائل الخلاف كتاب كبير ، لاأعرف لهم في الخلاف كتابا أحسن منه(19) . وقد اختصر كتابه في عيون المسائل،واختصر بدوره نكت العيون، وأكثر ابن القطاب النقل منه كتابه الإقناع.

* ومنهم : ابن بطال سليمان بن محمد بن بطال البطليوسي، أبو أيوب المتوفى نحو 400ه وهو فقيه مقدم، وشاعر محسن كثير الشعر ، ترجمه غير واحد كالحمدي والضبي، وذكر له في نفح الطيب : الأحكام فيما لا يستغني عنه الحكام، وله شرح على البخاري،وهو غير ابن بطال علي ين خلف الآتي ذكره ، فأين كتابه الأحكام ؟!

* ومنهم الباقلاني؛ سيف السنة زلسان الأمة ، المتكلم على لسان أهل الحديث، وطريقة أبي الحسن الأشعري المتوفى 403ه إليه انتهت رئاسة المالكية في عصره، وكان له في جامع البصرة حلقة عظيمة، وذكر له القاضي في المدارك كتبا كثيرة، منها البيان عن فرائض الدين وشرائع الاسلام ووصف ما يلزم من جرت عليه الأقلام من معرفة الأحكام، وكتاب الانتصار وقد حمل المغاربة والأندلسيون كتبه وآراءه عن تلميذه الحافظ أبي ذر الهروي من مكة، وكان لها رواج في العهد الموحدي لأنهم قفوا طريقته في العقائد الأشعرية. وقد نقل ابن القطان في كتابه أحكام النظر نصوصا عديدة عنه(20) .

* ومنهم أبو القاسم ين الجلاب، عبيد الله بن الحسن، وقيل : الحسين المتوفى 398ه تفقه بالأبهري وغيره وله كتاب في مسائل الخلاف، وكتاب التفريع في المذهب وهو مشهور، وقد اقتبس منه الحافظ ابن القطان(21) .

* ومنهم القاضي عبد الوهاب بن علي بن نصر، المتولى 422 ه الفقيه الشاعر المتأدب له كتب كثيرة في كل فن من الفقه، ومنها الإشراف، والتلقين وهو من أجود المختصرات، والممونة في شرح الرسالة، وغير ذلك، وقد اقتبس ابن القطان وغيره من شرحه الرسالة(22) .

* ومنهم أبو عمر والطلمينكي، الإمام المقرئ المحدث الحافظ المتوفى429 ه، من شيوخ الحافظ ابن عبدالبر، وابن حزم، وكان من بحور العلم، رحل، وأدخل الأندلس علما جما نافعا قال الذهبي(23) : صنف كتبا كثيرة في السنة يلوح فيها فضله، وحفظه وإمامته، واتباعه للأثر .

وقال القاضي عياض(24) اتسعت روايته، وتفنن في علوم الشريعة، وغلب عليه القرآن والحديث وألف تآليف نافعة كثيرة كبارا وصغارا، مختصرة، احتسابا، ككتاب الدليل إلى المعرفة الجليل، ونحومائة جزء، وكتابه في تفسير القرآن نخو هذا، والبيان في إعراب القرآن، وفضل مالك، ورجال الموطأ، والرد على ابن مسرة، والوصول إلى معرقة الأصول، وغير ذلك، وكان هذا الأخير متداولا في العصر الموحدي، واقتبس منه الحافظ ابن القطان في كتابه الإقناع، كما اقتبس منه معاصره في المشرق الحافظ ابن تيمية الحراني وتلميذه ابن قيم الجوزية(25) .وهو من مرويات ابن خير الأشبيلي في فهرسته.

* ومنهم ابن بطال، علي بن خلف العلامة الفقيه المشهور المتوفي 444 ه أو 49، صاحب شرح البخاري الذي اكثر النقل عنه ابن حجر في فتح الباري، وقال القاضي عياض(26) كبير يتنافس فيه كثير الفائدة، وله الزهد والرقائق، والاعتصام في الحديث، وقد أكثر النقل عنه ابن القطان في كتابه الإقناع بشكل واضح فيما يتعلق بمسائل الأجماع(27) .

* ومنهم حافظ المغرب الإمام الحجة أبو عمر يوسف بن عبد البر القرطبي المتوفى 463 ه صاحب المؤلفات الجليلة النافعة زمنها التمهيد، والاستنكار في شرح الموطأ، وعد الإمام الذهبي كتاب التمهيد رابع أربعة كتب هي أمهات كتب الإسلام، وكانت كتبه من مفاخر الغرب الإسلامي، ولهذا علا شأنها في الدولة الموحدية، ورجح ميزانها في هذه الفترة لأنها مملوءة بالأدلة مترعة بنفس الاجتهاد عمدة في نقل مذاهب الماضي الموافقين للمالكية والمخالفين.

وقد أكثر عنها جدا ابن القطان في جميع كتبه الحديثية والفقيهية ووصفه بأنه أحد أشياخ المذهب المالكية وما كتاب بداية المجتهد لابن رشد إلا اختصار لكتاب الاستذكار كما صرع هو بنفسه(28) .

* ومنهم الباجي، الوليد سليمان ين خلف المتوفى 474 ه القاضي العلامة صاحب التصانيف(29) ، ورافع راية المالكية في وجه ظاهرية ابن حزم، وله كتب كثيرة ومنها المنتقى في شرح الموطأ، وغيره. وكان لكتبه استمرار وحضور، واقتبس منها الحافظ ابت القطان في إحكان النظر(30) ووصفه بأنه أحد أشياخ المذهب المالكيين، ونقل ابن خير في فهرسته رواية عن الباجي في عديد من كتبه بلغت اثني عشر كتابا(31)

* ومنهم الإمام اللخمي، أبو الحسن علي بن محمد الربعي المتوفى بصفاقس سنة 478 ه هو شيخ الإمام المازري، ورئيس فقهاء إفريقية كان متفننا في علوم الأدب والحديث،والفقه، وحسن الفهم جيد النظر، له التعليق على المدونة المشثور باسم التبصير. وله اختيارات خرجت عم قواعد مذهب مالك، وضرب به المثل حتى قيل :
لقد هتكت قلبي سهام جفونها = كما هتك اللخمي مذهب مالك

ومع هذا فهو أحد الأئمة الأربعة المالكية المعتمدة ترجيحهم عند خليل ابن إسحق في مختصره المشهور .وكانت كتبه حاصرة في العهد الموحدي، واقتبس منها الحافظ ابن القطان(32) .

* ومنهم إمام المالكية في عصره بلا منازع أبو الوليد محمد بن أحمد بن رشد الجد المتوفى 520 ه صاحب البيان والتحصيل لما في المستخرجة من التوجيه والتعليل، شرح فيه المستخرجة من أسمعة مالك للعتبي، ووجه أقوالها، ومهد بين يدي هذا الكتاب الموسوعة وبين يدي كتاب المدونة للإمام سحنون بالمقدمات الممهدات، لبيان ما اقتضته رسوم المدونة من الأحكام الشرعيات والتحصيلات الممكنات، لأمهات مسائلها المشكلات والبيان والتحصيل جمع فيه ما تفرق من أقوال المالكية وكتبهم، ومحص ذلك أفضل تمحيص.

وقد وصف ابن رشد الجد بأنه أوحد زمانه في طريقة الفقهاء، وقرب مذهب مالك تقريبا لم يسبق إليه(33).

وقد كان لكتب إمام المالكية وهو من رجال الدولة المرابطية التي قامت على أنقاضها دولة الموحدية، حضور واستمرار، فقد نقل عنها حفيده أبو الوليد بن رشد الفيلسوف كثيرا، ومثله الحافظ ابن القطان في أحكام النظر وغيره (34) وينقل نصوصا من البيان والتحصيل كما هي كما اقتبس من المقدمات الممهدات عدة نصوص مع تسمية الكتاب(35) .

وقد كان لأمهات كتب المالكية قبل الدولة الموحدية ورجال الفقه حضور أثناء هذا العهد في آرائهم ونصوصهم، فمن ذلك العتبية لمحمد بن أحمد بن عبد العزيز المعروف بالعتبي (ت 255ه) وسمى المستخرجة، وهي التي شرحها ووجهها ابن رشد الجد ، واقتبس منها بن القطان وابن رشد (36) .

والمجموعة لابن عبدوس، محمد بن إبراهيم بن بشير (ت 260ه ) الإمام الزاهد الثقة. وقد وصفها الخشني بقوله(37) وألف كتابا شريفا سماه المجموعة على مذهب مالك وأصحابه، وهي نحو خمسين كتابا وقد اقتبس منها الحافظ ابن القطان في إحكام النظر(38) .

وكانت غير هذه الكتب من أمهات المالكية تذكر وآراؤهم تتداولها حلقات الدرس بدءا من ابن القاسم إلى حبيب الأندلس وكتابه الواضحة وغيرهم، وأشهب، وأصبغ بن الفرج، وبن دينار وعبد الله بن وهب بن كنالة ... وغيرهم .

وإن تدقيقا وتفحصا في تطور المذهب المالكي ومصنفاته يؤكد لنا أن هؤلاء هم بناة المذهب فما كان العهد الموحدي عهد خمول للمذهب المالكي كما هو شائع، بل عهد تجديد وتمحيص ودعم بالأدلة والحجج ببعث أمهات كتبه وإحياء مصنفات رواده، وقد أكدنا ذلك في بحث آخر لنا يتمم هذا البحث(39) ، ولهذا نستطيع القول بأن الفقه المالكي قد جدد شبابه خلال العهد الموحدي .

وإذا كان للفقه المالكي رسوخ في المجتمع المغربي والأندلسي قبل العهد الموحدي وأثناءه، فإن المذهب الشافعي كان له حضور أثناء العهد الموحدي ولكتبه سوق نافقة، وسأذكر طائفة الأئمة الذين وقع الاقتباس من كتبهم؛

* فمنهم الإمام محمد بن إدريس الشافعي صاحب المذهب المتوفى204 ه، وكان عديد من كتبه حاضرا واقتبس ابن القطان في كتابه الإقناع من كتابيه الرسالة، واختلاف الحديث نصوصا عديدة(40) .

* ومنهم محمد بن نصر المروزي شيخ الإسلام المتوفى 294 ه، وهو أحد أئمة الدنيا ممن جمع وصنف في فنون العلم، وبرع في الحديث وفقهه، واختلاف العلماء والأحكام، وله كتب جليلة مطبوعة، منها : اختلاف العلماء، وقد اقتبس الحافظ لبن القطان نصوصا كثيرة في كتاب الإقناع(41) .

* ومنهم الإمام محمد بن المنذر النيسابوري شيخ الحرم المتوفي 318ه صاحب المصنفات التي يحتاجها الموافق والمخالف، كالإشراف على كذاهب العلماء، والإجماع، والأوسط، والتفسير وغيرهاو من كتابه الإشراف على مذاهب العلماء أكثر الاقتباس ابن القطان في كتابه الإقناع وإحكام النظر(42) .

* ومنهم الإمام أحمد بن محمد الأسفيرايني المتوفى 408ه أبو حامد، انتهت إليه في عصره ببغداد رئاسة الدين والدنيا ، قال السبكي : ما جاء بعد أبي العباس ين سريج من اشتهرت كتبه، وكثرت تلاميذته واتسعت أقواله وبعد عن القرين في زمانه وله كتب منها التعليقة، وهي شرح حختصر المزني، وكتاب في أصول الفقه، ومختصر يسمى : الرونق(43) .وقد اقتبس الحافظ ابن القطان في إحكام النظر كثيرا من الأسفيرايني مما يدل على انتشار كتبه(44) .

* الإمام الجليل أبو سعيد الإصطخري الحسن ين أحمد القاضي المتوفى 328ه قال الخطيب البغدادي أحد الأئمة المذكورين، ومن شيوخ الشافعيين،ولي قضاء قم، وحسبهة بغداد، وله آراء ومواقف فقهية، ومن أصحاب الوجوه في المذهب الشافعي قال الشيرازي : صنف كتابا حسنا في أدب القضاء وقد اقتبس منه الحافظ ابن القطان في إحكام النظر(45) .

* زمنهم الإمام الزاهد شيخ الخراسانيين عبد الله بن أحمد بن عبد الله يعرف بالفقال الصغير المروزي (ت 417ه) قال السبكي : ليس هو بالقفال الكبير، هذا أكثر ذكرا في الكتب، أي كتب الفقه، ولا يذكر غالبا إلا مطلقا، وذاك أطلق فيه بالشاشي، وكان من أعظم محاسن الدنيا، إماما كبيرا وبحرا عميقا، غواصا على المعاني الدقيقة، نقي القريحة، وثاقب الفهم، عظيم المحل كبير الشأن ... له في فقه الشافعي وغيره من الآثار ما ليس لغيره من أهل عصره(46) وقد اقتبس منه الحافظ ابن القطان(47) .

* ومنهم الإمام حجة الإسلام أبو حامد الغزالي المتوفى 505ه الذي طبقت شهرته الآفاق وملأت القماطر في ضروب العلم وفنون المعرفة. أما في جانب الفقه والأصول، وكان شافعي المذهب، فله فيها الباع الطولي، والقدم الراسخة وكتاباه المستصفى، والمنخول في الأصول عمدة في هذا العلم، أما كتبه الفقهية فمنها الوجيز وهو عمدة في المذهب الشافعي وصفه أبو القاسم الرافعي بقوله : غزير الفوائد، جم العوائد، وله القدم المعلى والحظ الأوفى من استيفاء أقسام الحسن والكمال، واستحقاق صرف الهمة إليه، والاعتناء بالأكباب عليه والإقبال ، وله كذلك في الفقه: الوسيط ،والبسيط، والخلاصة.

ومن كتب الفائقة إحياء علوم الدين، وكان له شأن في الغرب الإسلامي في دولة المرابطين ونظرا لأن الغزالي كان شيخ المهدي بن تومرت إمام الدولة الموحدية فقد كان لكتبه انتشار وحضور في العهد الموحدي، مع ما لها من قوة وريادة في ذاتها، وقد وقع الاقتباس من كتبه الفقهية كثيرا كما في أحكام النظر لابن القطان(48) .

وهؤلاء الأعلام من المذهب الشافعي، وكتبهم الفائقة تعطي خلاصة المذهب الشافعي وأدلته ونظرته للقضايا والأحكام .

أما الفقه الحنفي وأعلامه، فقد ثبت عندي أن عددا منهم كان لهم حضورفي العهد الموحدي ولكتبهم مجال واسع في الحركة الفقهية الموحدية لما لكتبهم وآثارهم من مكانة وقوة فمنهم :

* ناصر المذهب الحنفي بالحجة والدليل، وناشره بالبيان والتأصيل الإمام الحافظ الحجة أبو الطحاوي المتوفى 321ه ، وكتب هذا الإمام زينة المذهب الحنفي وركيزته ، وهي كثيرة وعديدة، أقبل عليها علماء المذاهب كلها من عصر مؤلفها إلى يومنا هذا ، ومنها : مشكل الآثار واقد اختصره عدد من المالكية المغاربة، ومنهم أبوالوليد بن رشد الجد المتقدم ذكره ،واختصاره مشهور، وله بقية في المكتبات حري أن يبحث عنها، وتنشر، ومنهم الإمام أبو الوليد الباجي المتوفى 474ه المتقدم ذكره، وله بقية في المتحف البريطاني. ومن كتب الإمام الطحاوي، كتابه العجيب : شرح معاني الآثار، وهو مطبوع.

وله اختلاف العلماء، ويقع في نحو مائة وثلاثين جزءا حديثيا أي في نحو ألفين ومائتين وثمانين ورقة، ويذكر فيه المسألة الفقهية، وأقوال الأئمة الأربعة وأصحابهم، والإمام النخمي، والبتي، والأوزاغي، والثوري، والليث بن سعد، وابن شبرمة، وابن أبي ليلى والحسن بن حي، وغيرهم من الأقدمين الذين صعب علينا اليوم الاطلاع على آرائهم في المسائل الفقهية، وقد اختصره غير واحد، وله كذلك بقية حري بالباحثين أن يبحثوا عنها. وله كذلك أحكام القرآن، وقال القاضي عياض : للطحاوي في تفسير القرآن ألف ورقة ، وهو الأحكام.

وله المختصر في الفقه كمختصر خاله الإمام المزني، وهو مطبوع متداول وعليه شروح كثيرة . وله كتب أخرى جليلة في الفقه والحديث والعقيدة، ومنها عقيدته التي تداولها المسلمون شرقا وغربا وأجمعوا عليها.

ونظرا لأن كتب الطحاوي تنافح عن المذهب الحنفي بالأدالة والأصول فقد حظيت بالمكانة والتداول والاعتبار في العصر الموحدي، واقتبس منها الحافظ ابن قطان كثيرا(49) .

* ومنهم : الإمام القدوري أبو الحسين أحمد بن محمد المتوفى 428ه نسبته إلى بيع القدور أو صنعها(50) ، وهو من شيوخ الخطيب البغدادي ، قال عنه : كتبت عنه وكان صدوقا، وانتهت إليه بالعراق رئاسة الحنفية وعظم وارتفع جاهه ...ومصنفاته في المذهب الحنفي جليلة معتمدة وعلى رأسها المختصر الذي أصبح اسم (الكتاب) علما عليه عند الفقهاء الحنفية، كما أصبح اسم الكتاب عند النحويين علما على كتاب سيبويه وله من الكتب التجريد في سبعه أسفار يشمل على الخلاف بين الشافعي وأبي حنيفة وله التقريب الأول والتقريب الثاني، وقد اقتبس منه الحافظ ابن القطان كثيرا مؤكدا على أنه يأخذ نصه(51) .

أما أعلام الحنابلة في الفقه، فلم أجد لهم ذكرا سوى ما كان في جانب الحديث والتصنيف فيه، ولم أعثر على كتاب فقهي مبسوطا كان أو مختصرا ينسب للحنابلة، وذلك راجع والله أعلم إلى أن الفقه الحنبلي لم ينتشر ويتقعد وتمم مؤلفاته إلا مع المقادسة في نهاية القرن الخامس الهجري .

وأما أئمة الظاهرية وكتبهم فقد كان لها رواج في الدولة الموحدية، ووجدنا نصوصا نادرة ولها شأن كبير مما يدل على غضمة المؤلفات التي أخذت منها، وجلالة مؤلفيها وقد وجدت الحافظ ابن القطان ينقل مسائل الظاهرية من كتبهم، ويفتش عن آرائهم من مصادرهم فمن ذلك قوله : وما يحكي عن داود من إباحة النظر إلى الفرج، لم أره عنه في كتب أصحابه ...(52) . ومن أعلام الظاهرية الذين تردد صداهم في حقبة الموحدين في المغرب الإسلامي:

* محمد ابن داود بن علي بن خلف الظاهري المتوفى 274ه وعمره إثنتان وأربعون سنة وأبوه مؤسس المذهب الظاهري، وكان محمد هذا فقيها كبيرا، وأديبا مناظرا، يناظر أبا العباس بن سريج الشافعي، أمثاله من الكبار، وكان يضرب به المثل في ذكائه، وكان ذا بصر تام بالحديث، وأقوال الصحابة، وكان يجتهد ولا يقلد أحدا، وأثنى عليه الأئمة في دينه، وورعه وعلمه، وله مؤلفات جليلة منها : الإعذار، والإنذار، والتقصي في الفقه، والإيجاز والانتصار من محمد بن جرير الطبري ، والوصول إلى معرفة الأصول، واختلاف مصاحف الصحابة، وغير ذلك.

وقد نقل الحافظ ابن القطان في كتابه الإقناع نصوصا كثيرة من كتابه الإيجاز(53) ، وهذا الكتاب أي الإيجاز لم يتممه محمد بن داود، وتممه من بعده يوسف بن عمر المتوفى 356 ه وكان مالكيا ثم انتقل إلى مذهب أهل الظاهر، ولم نسمع بأثر لهذا الكتاب اليوم.

* منهم أبو الحسن عبد الله بن أحمد بن المفسر المتوفى 324 تلميذ أبي بكر محمد بن داود، وكان إماما في مذهب أهل الظاهر وعنه انتشر في البلاد وله فيه كتاب جليل كما يقول الشرازي أبو إسحاق، يعرف بالموضح على شاكلة كتاب المزني(54) وقد شرحه قاضي القضاة أبو سعيد بشر بن حسين، وقال الذهبي : وله من التصانيف : أحكام القرآن، والمبهج، والدافع في الرد على من خالفه وغير ذلك(55) .

ولجلالة كتابه الموضح، فقد اختصره أبو محمد بن حزم في مجلد(56) وقد اقتبس الحافظ بن القطان في كتابه الإقناع من هذا الكتاب كثيرا(57) .

* ومنهم أبو العباس أحمد بن محمد بن صالح المنصوري القاضي، قال ابن النديم في الفهرست : من أفاضل الداودييين، وله كتب جليلة حسنة كبار منها : المصباح، كبير، وكتاب الهادي، وكتاب النير(58) ووصفه الشرازي بأنه صاحب كتاب النير، وسمع من الأثرم وهم من شيوخ الحاكم النيسابوري كما يقول السمعاني .

ومن كتابه النير اقتبس ابن القطان كثيرا في كتابه الإقناع(59) .

* ومنهم حامل راية هذا المذهب وجامع أشتات كتبه وأفكاره، ومجدده بعد مؤسسه أبو محمد علي بن أحمد بن حزم الأندلسي المتوفي 465ه وكان لكتبه حضور من عصره واستمر وعلا في العهد الموحدي، ومنها : مراتب الإجماع، والمحلي، وإحكام الأحكام وغيرها، وقد اعتمدها الموافق والمخالف، فقد كان أبو محمد في نقله لمذاهب الفقهاء أمينا دقيقا، وفي اجتهاده يعلوا ثارة ويهبط أخرى لكنه مدافع عنيد عن السنة خاصة والنصوص عامة، يرفض القياس، ويحارب التعصب المذهبي ، وقد اقتبس الحافظ ابن القطان كثيرا من كتبه، وكذلك أبو الوليد ين رشد في بداية المجتهد نقل نصوصا كثيرة منها(60) .

لقد كانت جميع هذه الكتب والمصنفات بتعدد مذهبيتها، واختلاف مشارب مؤلفيها محل استمداد واستلهام في العصر الموحدي، مما يؤكد لنا أن البحث عن الدليل الصحيح، والقول الرجيح كان غاية مقصودة، وخطة منشودة مما جعل الفكر الفقهي في المغرب يدخل مشاركا بنوع من التجديد، وبروز أئمة مجتهدين يحظون بالتقدير والإحترام، لأن توجه الدولة يسير في ضد الاتجاه، قال ابن خلكان في وصف يعقوب المنصور بعد أن أثنى وأطرى : وأمر برفض فرع الفقه، وأن العلماء لايفتون إلا بالكتاب والسنة النبوية، ولايقلدون أحدا بل تكون أحكامهم بما يؤدي إليه اجتهادهم من استنباطهم القضايا من القرآن والحديث والإجماع والقياس، ولقد أدركنا جماعة من مشايبخ المغرب وصلوا إلينا، وهم على ذلك الطريق، كأبي الخطاب بن دحية، وأخيه أبي عمر، ومحي الدين بن عربي وغيرهم(61) .

ولو راى ابن خلكان مؤلفات الحافظ ابن القطان وأمثاله لدهش من ذلك واهتبل بها ومنها الكتاب الفقهي الذي اعتمدناه إحكام النظر في أحكام النظر بحاسة البصر.

وفي هذا العصر بدواعي التجديد الفقهي والازدهار التشريعي بدأت المشاركات الجادة للمغاربة في علم أصول الفقه الذي لابد منه في توجيه حركة الإجتهاد، واستمر مزدهرا خلال القرن السادس والسابع حتى بلغ القمة على يد الشاطبي في القرن الثامن الهجري ، وهذا يحتاج لتفصيل وبيان .

وخلاصة القول : مما تقدم يتأكد لنا العصر الموحدي كان فترة ازدهار فقهي عظيم خلد أرفع المصنفات وأحيى خطة الاجتهاد الأولى، وترك بصماته الفكرية في تاريخ الفقه الإسلامي على الدوام .


[1] انظر : الذهبي، سير الأعلام النبلاء، ج20، ص. 124؛ الناصري، الاستقصاء، ج2، ص. 69.
(2) انظر : عبد المجيد النجار، المهدي بن تومرت : حياته وآراؤه، ص. 362.
(3) انظر : الحلل الموشية في الأخبار المراكشية، ص.
(4) انظر : الناصري، الاستقصاء، ج2، ص. 126
(5) انظر : المعجب، ص. 347.
(6) انظر : سير النبلاء، ج21، ص. 316.
(7) من مخطوط الإقناع لابن القطاع الورقة الأخيرة، وانظر : عبد الواحد المراكشي، المعجب، ص. 401
(8) انظر : عبد الواحد المراكشي، المعجب، ص. 401.
(9) المصدر السابق، ص. 401.
(10) طبع الكتاب سنة 1416م بدار إحياء العلوم ببيروت، والشركة الجديدة دار الثقافة بالدار البيضاء بتحقيق الأستاذ الصمدي ومراجعتنا.
(11) انظر ترجمته في : القاضي عياض، ترتيب المدارك لمعرفة أعيان مذهب مالك، ج4، ص. 446.
(12) انظر : ترتيب المدارك، ج4، ص. 167- 169.
(13) انظر : إحكام النظر، ص. 185، 313، 316، 345 وغيرها وانظر 318 حيث يذكر أنه نقل النص من كتابه.
(14) انظر ترجمة في ، تاريخ بغداد، ج6، ص. 284؛ ومعجم الأدباء، ج6، ص. 129؛ والدبياج المذهب،ج1، ص. 282؛ وسير النبلاء، ج13، ص. 339.
(15) انظرالمقياسات عنه في : إحكام النظر، ص. 145، 292 وغيرها.
(16)انظر : الاقتباس في إحكام النظر : ص. 99، 144، 385، 299، 303؛ وانظر ترجمته وهي عزيزة نادرة في ترتيب المدارك، ج5، ص. 19، 20؛ والديباج المذهب، ص. 185.
(17) انظر : ابن خير، فهرسته، ص. 53؛ وامظر : الاقتباس في الإقناع، الفقرات : 257، 262، 279، 323، 330، 333 وغيرهاكثير؛ وترجمته مطولة في غير مصدر ومنها سيرا علام النبلاء، ج16، ص. 173.
(18) انظر ترجمة في : تاريخ بغداد، ج5، ص. 466؛ والسيرازي، طبقات الفقهاء، ص. 167؛ وترتيب المدارك، ج6، ص. 183 وغيرها.
(19) انظر الشيرازي، طبقات الفقهاء، ص. 168.
(20) انظر : الاقباس في إحكام النظر، ص. 128، 386، 402، 407، وقد أكثر عنه أما ترجمته فمشهورة متداولة.
(21) انظر ترجمته في : المدارك، ج7، ص.76؛ والشيرازي، طبقات الفقهاء، ص. 168؛ وانظر: الاقباس في لأحكام النظر، ص. 261.
(22) انظر : إحكام النظر، ص. 287.
(23) انظر : سير النبلاء، ج17، ص.567.
(24)انظر ، ترتيب المدارك، ج8، ص. 32.
(25) انظر : الإقناع، الفقرات : 2، 8، 13، 70، 72، 76 وغيرها، انظر : بن تيمية، درء تعارض العقل مع النقل، ج2، ص.35، ج6، ص. 250؛ وانظر : ابن خير، فهرسته، ص. 259.
(26) انظر :ترتيب المدارك، ج8، ص. 160.
(27) انظر عن سبيل المثال الفقرات : 354، 407، 417، 599، 673، 696، 827.
(28) انظر : بداية المجتهد، ج2، ص. 241؛ وانظر ترجمته في المدارك، ج8، ص.127؛ وانظر : حكام النظر، ص. 222.
(29) ترجمته في : عياض، ترتيب المدارك، ج8، ص. 117، فقد بسط ترجمته وذكر مصنفاته.
(30) انظر : إحكام النظر، ص. 143، 222.
(31) انظر : ص. 552.
(32) انظر : إحكام النظر، ص. 213؛ وانظر ترجمته في : ترتيب المدارك، ج8، ص. 109.
(33) انظر : بغية الملتمس، ص. 51، ترجمة رقم 24؛ والصلة، ج2، ص. 576؛ ونفح الطيب، ج5، ص. 346.
(34) انظر إحكام النظر عن سبيل المثال، ص. 228، 292، 303، 268، 355، 386، 410 وغيرها.
(35) انظر : ص. 144، 322.
(36) انظر إحكام النظر، ص. 122؛ وانظر : ابن رشيد، بداية المجتهد، ج8، ص. 82.
(37) انظر : ترتيب المدارك، ج4، ص. 223.
(38) انظر : ص. 306.
(39) تحت عنوان المذهبية في فكر أبي الوليد بن رشد، ضمن ندوة ابن رشد في حاضرة مراكش، سنة 1997.
(40) انظر : الإقناع، الأرقام التالية : 182، 256، 508، 537/ 758.
(41) انظر منها رقم 384.
(42) انظر : إحكام النظر، ص. 145؛ وفي الأقناع كثير جدا من نصوصه.
(43) انظر : الشيرازي، طبقات الفقهاء، ص. 126؛ وطبقات الشافعية، ج4، ص. 61.
(44)انظر : إحكام النظر، ص. 381، 386، 393، 205.
(45) انظر : إحكام النظر، ص. 380؛ وانظر ترجمة في : تاريخ بغداد، ج7، ص. 268؛ وطبقات الشافعية الكبرى، ج3، ص.230؛ والشيرازي، طبقات الفقهاء، ص. 111.
(46) انظر : طبقات الشافعية الكبرى، ج5، ص. 53.
(47) انظر : إحكام النظر، ص. 231.
(48) انظر عن سبيل المثال في الاقتباس : إحكام النظر، ص. 185، 231، 233، 279، 290، 321، وغيرها؛ وانظر ترجمة مطولة مفصلة للإمام الغزالي في : السبكي، طبقات الشافعية، ج6، ص. 191 وما بعدها.
(49) انظر الاقناع ، الفقرة : 420، 458، 507، 511، 415، 649ومواطن أخرى كثيرة وترجنته مشهورة انظر : الكنوي، الفوائد النهية في تراجم الحنفية، ص. 31؛ والشيرازي، طبقات الفقرة، ص. 142.
(50) انظر ترجمة في : تاريخ بغداد، ج4، ص. 377؛ والفوائد البهية في تراجم الحنفية، ص. 30.
(51) انظر : إحكام النظر، ص. 287، 303، 313، 322، 355، 381، 448 وغيرها في مواصع كثيرة.
(52) إحكام النظر، ص. 392، 393.
(53) انظر الفقرات، 226، 638، 737، 808، 825، وغيرها وانظر ترجمته في : الشيرازي طبقات الفقهاء، ص. 175، 176.
(54) انظر : الشيرازي، طبقات الفقهاء، ص. 177.
(55) انظر : سير أعلام النبلاء، ج17، ص. 77
(56) انظر : سير النبلاء، ج18، ص. 194.
(57) انظر الفقرات : 679، 719، 246، 303، 340، 349، 679، 719 وغيرها كثير.
(58) انظر الفهرست، ص. 273؛ وانزر ترجمته في الشيرازي، طبقات الفقهاء، ص. 178؛ واللباب في تهذيب الأنساب، ج3، ص.263.
(59) انظر : الفقرات : 263، 284، 351، 643، 813، 242.
(60) انظر ترجمة مطولة له في : سير النبلاء، ج18، ص. 184.
(61) وفيات أبو عيان، ج7، ص. 11.

الدكتور فاروق حمادة




الادب المغربي.jpg
 
أعلى