سعيد الغانمي - حكاية بلوقيا ولغز اختراق الزَّمن في «ألف ليلة وليلة»

تتعلَّق حكاية بلوقيا بمحاولة اختراق الزَّمن وافتضاض سرِّ الخلود. وهي تقع في داخل حكاية حاسب كريم الدِّين، وترويها له ملكة الحيّات. لكنَّها لا تروي لحاسب حكايتَه إلّا بعد أن تشترطَ عليه البقاء معها، والاستماع إلى حكاياتها. كان بلوقيا ابن ملك من بني إسرائيلَ في مدينة مصر. وبعد وفاة أبيه التَّقيِّ، أخذَ بلوقيا يفتِّشُ في خزائن أبيه، فوجد خزانةً ففتحَها، فوجدَ فيها باباً ففتحَهُ، فوجد خلوةً فدخلَها، فوجدَ صندوقاً من الآبنوس ففتحَهُ، فوجدَ فيه صندوقاً من الذَّهَب. وحين فتحَهُ رأى كتاباً فيه أوصافُ النَّبيِّ محمَّد (ص)، “وأنَّه يُبعَثُ في آخرِ الزَّمان، وهو سيِّدُ الأوَّلين والآخرينَ. فلمّا قرأَ بلوقيا هذا الكتابَ، وعرفَ صفاتِ سيِّدِنا محمَّد (ص)، تعلَّقَ قلبُهُ بحبِّهِ” (1/660). ومن الواضح أنَّنا هنا أمام لعبة الصُّندوق في داخل الصُّندوق. وفي الصُّندوق الأخير تكمنُ أخطرُ الأسرار. ما السِّرُّ الذي ينطوي عليه الصُّندوق الأخير؟ الإعلان عن حقيقة النَّبيِّ محمَّد، وأنَّه سيِّد الأوَّلين والآخرينَ، أي المعنى التاريخيُّ لوجود العالم من بدئِهِ إلى مُنتهاه. وتتمثَّل خطورة هذا الإعلان في أنَّه يأتي قبل زمان النَّبيِّ محمَّد بقرونٍ متطاولةٍ. فالزَّمن الفعليُّ للحكاية هو بعد وفاة السَّيِّد سُلَيمان بقليل، والنَّبيُّ محمَّد لم يُخلَقْ بعدُ، وبالتالي لا يمكنُ لأحدٍ أن يلتقيَ به إلّا إذا استطاع اختراق حاجز الزَّمن.


استغرب بلوقيا أنَّ أباه كتمَ عنه هذه المعرفة، وقرَّرَ السَّفر في محاولة للوصول إلى زمان النَّبيِّ محمَّد. وصارح أُمَّهُ بهذه الرَّغبة: “يا أُمِّي، إنِّي رأيتُ في خزائنِ أبي كتاباً فيه صفةُ محمَّد (ص)، وهو نبيٌّ يُبعَثُ في آخرِ الزَّمان، وقد تعلَّقَ قلبي بحبِّهِ، وأنا أريدُ أن أسيحَ في البلادِ حتّى أجتمعَ به. فإنَّني إن لم أجتمعْ به متُّ غراماً في حبِّهِ” (1/660). الوسيلة الأولى للسَّفر في الزَّمان هي السَّفر في المكانِ. وهكذا قرَّ قرارُ بلوقيا على مغادرةِ مصرَ خفيةً متَّجهاً نحو الشام. وفي الشام اقتادَهُ مركبٌ إلى جزيرةٍ في البحر. وحين نزل الرُّكّاب، انفرد عنهم، وخامرَهُ النَّوم. وحين استيقظ وجد أنَّ المركب قد غادرَ الجزيرة وتركَهُ وحده. فأخذَ يمشي في الجزيرة، فرأى حيّاتٍ بحجم الجمال والنَّخيل، وعرف منهم أنَّهم من حيّات جهنَّمَ. وحين سألهم عن النَّبيِّ محمَّد، قالوا له: “يا بلوقيا، إنَّ اسمَ النَّبيِّ محمَّد مكتوبٌ على بابِ الجنَّة، ولولاهُ ما خلقَ اللهُ المخلوقاتِ، ولا جنَّةً ولا ناراً، ولا سماءً ولا أرضاً، لأنَّ اللهَ لم يخلقْ جميعَ الموجوداتِ إلّا من أجل محمَّد (ص)، وقرنَ اسمَهُ باسمِهِ في كلِّ مكانٍ، ولأجلِ هذا نحنُ نحبُّ محمَّداً (ص). فلمّا سمعَ بلوقيا هذا الكلامَ من الحيّات زادَ غرامُهُ في حبِّ محمَّدٍ (ص)، وعظمَ اشتياقُهُ إليهِ” (1/661).
على الساحل، وجد بلوقيا مركباً، فتركَ الحيّاتِ وصعدَ فيه، ولم يزالوا سائرينَ حتّى وصلوا إلى جزيرةٍ أُخرى، فنزل بلوقيا، وتمشَّى في الجزيرة، فرأى هذه المرَّةَ حيّاتٍ مختلفةً، كان من بينها ملكة الحيّات التي تروي حكايته. “رأى فيها حيّاتٍ كباراً وصغاراً، لا يعلمُ عددَها إلّا اللهُ تعالى، وبينَها حيَّةٌ بيضاءُ أبيضُ من البلُّور، وهي جالسةٌ في طبقٍ من ذهبٍ، وذلك الطَّبق على ظهرِ حيَّةٍ مثل الفيلِ. وتلك الحيَّةُ ملكةُ الحيّات، وهي أنا” (1/661). لكنَّ هذا اللِّقاء لم يدمْ طويلاً، ولم يتجاوزْ حدَّ التَّعارف. فقد كان على بلوقيا أن يتوجَّهَ إلى بيتِ المقدسِ.
في بيت المقدس، يلتقي بلوقيا بأحدِ الحُكَماء العارفين، واسمُهُ عفّان، يكشف له أنَّ كلَّ مَن لبس خاتم سليمان انقادَتْ له الإنس والجنُّ. وخاتمُ سليمان لا يوجَدُ إلّا خلفَ الأبحر السَّبعة، ولا يمكنُ اجتيازُها إلّا إذا حصلَ الإنسان على العشبِ الذي مَن دهنَ به قدميه صارَ بوسعه أن يمشيَ على الماءِ. ولا يمكنُ الحصول على هذا العشبِ إلّا إذا أخذَ المرء معه ملكةَ الحيّات. هنا تدخل ملكة الحيّات في المخطَّط المشترك لعفّانَ وبلوقيا. فيعرض عليه عفّانُ عرضاً يعود بالنَّفع على كليهما: “ثمَّ إنَّ عفّان قالَ لبلوقيا: اجمعْني على ملكةِ الحيّات، وأنا أجمعُكَ على محمَّدٍ (ص)، لأنَّ زمانَ مبعثِ محمَّد بعيدٌ. وإذا ظفرْنا بملكةِ الحيّات، نحطُّها في قفصٍ، ونروحُ بها إلى الأعشابِ التي في الجبالِ، وكلُّ عشبٍ جُزْنا عليه وهي معَنا ينطقُ ويخبرُ بمنفعتِهِ، بقدرةِ اللهِ تعالى. فإنِّي قد وجدتُ عندي في الكتبِ أنَّ في الأعشابِ عشباً كلُّ مَن أخذَهُ ودقَّهُ، وأخذَ ماءَهُ، ودهنَ به قدميه، ومشى على أيِّ بحرٍ خلقَهُ اللهُ تعالى لم يبتلَّ له قدمٌ. فإذا أخذْنا ملكةَ الحيّات تدلُّنا على ذلك العشبِ. وإذا وجدْناه نأخذُهُ وندقُّهُ، ونأخذُ ماءَهُ، ثمَّ نطلقُها إلى حالِ سبيلِها، وندهنُ بذلك الماءِ أقدامَنا، ونعدِّي الأبحرَ السَّبعة، ونصلُ إلى مدفنِ سيِّدِنا سُلَيمان، ونأخذُ الخاتمَ من إصبعِهِ، ونحكمُ كما حكمَ سيِّدُنا سُلَيمان، ونصلُ إلى مقصودِنا. وبعدَ ذلكَ ندخلُ بحرَ الظُّلماتِ، ونشربُ من ماءِ الحياةِ، فيُمهِلُنا اللهُ إلى آخرِ الزَّمانِ، ونجتمعُ بمحمَّدٍ (ص)” (1/662).
خطَّة رهيبة تبدأ بطموحٍ بسيطٍ في الظاهر، ولكنَّها تنتهي بمحاولة اختلاس لغز الزَّمن والظَّفر بالخلود. يبدو أنَّ البداية تتعلَّق بمقايضة بسيطة؛ اجمعْني بملكة الحيّات، أجمعْكَ بمحمَّد. لكنَّ هذه المقايضة تُخفي في داخلها مشروعاً خطيراً. فملكة الحيّات مخلوقٌ موجودٌ، ومهما كان صعباً، فإنَّه معاصرٌ لهما، في حين أنَّ النَّبيَّ محمَّداً، وإن كان جزءاً من المخطَّط الإلهيِّ، فإنَّه لم يتحقَّقْ زمنيّاً بعد. ولذلك فالخطوات الخفيَّة في هذه المقايضة أنَّ الحصول على ملكة الحيّات يُفضي إلى الحصول على عشبِ المشيِ على الماء، ويُفضي هذا إلى عبور البحار السَّبعة، والوصول إلى مدفن السَّيِّد سليمان للحصول على خاتمه. وإذا حصلا على الخاتم أطاعَهما مردَةُ الجنِّ، وصار بوسعهما بلوغ نبع الحياة مثل الخضر. وحينئذٍ يستطيعُ بلوقيا لقاء النَّبيِّ محمَّد، ما دام يستطيع التَّحكُّم بالزَّمن.
اتَّفقَ الطَّرفانِ على اختطاف ملكة الحيّات. صنع عفّانُ قفصاً من حديد، وأخذ معَهُ قدحَينِ، وملأ أحدَهما خمراً، والآخرَ لبناً. وحين وصلا إلى الجزيرة التي رآها فيها بلوقيا، وضعا القفص والقدحَينِ في محاولةٍ منهما لاستدراجِها. وقد نجحَتِ الخطَّة، فحالما دخلتْ ملكة الحيّات في القفص، أسرعَ الصَّديقانِ إلى إطباقِهِ عليها واختطافِها. واعتذرا منهما بأنَّهما فقط يريدانِ اصطحابها للوصول إلى عشبِ السَّيرِ على الماءِ، ثمَّ يُطلقانِها. وبقيا يسيرانِ أيّاماً ولياليَ حتّى وصلا إلى الجزيرة التي تنطقُ فيها الأعشابُ بمنفعتها، إذا مرَّت بها ملكة الحيّات. وهناك صارت الأعشاب جميعاً تهتفُ بمنافعِها، وكان من بينها عشبُ المشيِ على الماء. فأخذاه، وعادا بملكة الحيّات في الطَّريق نفسه. وشرحا لها أنَّ هدفَهما هو عبور البحار السَّبعة للوصول إلى خاتم سُلَيمان، فأخبرتْهما: “لو أَخَذتُما من العشب الذي كلُّ مَن أكلَ منه لا يموتُ إلى النَّفخة الأولى، وهو بينَ تلكَ الأعشابِ، لكانَ أنفعَ لكما من هذا الذي أخذتماه، فإنَّه لا يحصلُ لكما منه مقصودٌ” (1/663).
عادت ملكة الحيّات إلى جزيرتها. واستأنفَتْ روايةَ قصَّة بلوقيا لحاسب، وأوضحَتْ له أنَّها كانت تعيشُ في هذا المكان الذي التقيا فيه. وهنا روَتْ له أنَّهما استمرّا فيما يسعيانِ إليه، وبعد أن عبرا البحار السَّبعة، “وجدا جَبَلاً عظيماً شاهِقاً في الهواءِ، وهو من الزُّمُرُّد الأخضرِ، وفيه عينٌ تجري، وترابُهُ كلُّهُ من المسكِ. فلمّا وصلا إلى ذلكَ المكانَ فَرِحا، وقالا قد بلغنا مقصودَنا. ثمَّ سارا حتّى وصلا إلى جبلٍ عالٍ، فَمَشيا فيه، فَرَأَيا مغارةً من بعيدٍ في ذلك الجبلِ، وعليها قبَّةٌ عظيمةٌ، والنُّور يلوحُ منها. فلمّا رَأَيا تلكَ المغارةَ قصداها، حتّى وصلا إليها. فدخلا فَرَأَيا تختاً منصوباً من الذَّهَب، مرصَّعاً بأنواعِ الجواهرِ، وحولَهُ كراسيُّ منصوبةٌ لا يُحصي لها عَدَداً إلّا اللهُ تعالى. وَرَأَيا السَّيِّد سُلَيمان نائماً فوقَ ذلكَ التَّخت، وعليه حلَّةٌ من الحريرِ الأخضرِ، مزركشةٌ بالذَّهَب، مرصَّعةٌ بنفيسِ المعادنِ من الجواهرِ، ويدُهُ اليُمنى على صدرِهِ، والخاتمُ في إصبعِهِ، ونورُ الخاتمِ يغلبُ على نورِ تلك الجواهرِ التي في ذلكَ المكانِ. ثمَّ إنَّ عفّان علَّمَ بلوقيا أقساماً وعزائمَ وقالَ له: اقرأْ هذه الأقسامَ، ولا تتركْ قراءتَها، حتّى آخذَ الخاتمَ. ثمَّ تقدَّمَ عفّان إلى التَّخت، حتّى قربَ منه. وإذا بحيَّةٍ عظيمةٍ طلعتْ من تحت التَّختِ، وزعقَتْ زعقةً عظيمةً، فارتعدَ ذلكَ المكانُ من زعقتِها، وصارَ الشَّررُ يطيرُ مِن فمِها. ثمَّ إنَّ الحيَّة قالتْ لعفّان: إن لم ترجعْ هلكتَ. فاشتغلَ عفّان بالأقسام، ولم ينزعجْ من تلك الحيَّة. فنفخَتْ عليه الحيَّةُ نفخةً عظيمةً كادت أن تحرقَ ذلك المكانَ، وقالتْ: يا ويلَكَ، إن لم ترجعْ أحرقتُكَ. فلمّا سمعَ بلوقيا هذا الكلامَ من الحيَّةِ طلعَ من المغارةِ. وأمّا عفّانُ فإنَّه لم ينزعجْ من ذلكَ، بل تقدَّمَ إلى السَّيِّد سُلَيمان، ومدَّ يدَهُ ولمسَ الخاتمَ، وأرادَ أن يسحبَهُ من إصبعِ السَّيِّدِ سليمانَ. وإذا بالحيَّةِ نفختْ على عفّانَ، فأحرقتْهُ، فصارَ كومَ رمادٍ. هذا ما كانَ من أمرِهِ، وأمّا ما كانَ من أمرِ بلوقيا فإنَّه وقعَ مغشيّاً عليه من هذا الأمرِ” (1/664).
شتّانَ بين الهدف الذي جاءَ من أجلِهِ بلوقيا، وهو رؤية النَّبيِّ محمَّد، والهدف الذي جاءَ من أجلِهِ عفّان، وهو امتلاك خاتم سُلَيمان. لذلك واجهَ عفّانُ هذا المصيرَ المؤلم. نفخَتْ عليه الأفعى حارسة الكنوز، فأنهتْ وجودَهُ. وبدلاً من حصولِهِ على إكسير البقاء الأبديِّ، لقيَ حتفه بطريقةٍ مأساويَّةٍ مؤلمةٍ. أمّا بلوقيا فقد أدركتْهُ العناية الإلهيَّة. ففي اللَّحظة التي نفخَتْ فيها الحيَّةُ على عفّانَ، هبطَ جبريل على بلوقيا، واستطاعَ أن يخلِّصَهُ من صعقة النَّفخ الساحقة، احتراماً لمقصدِهِ النَّبيل في رؤية النَّبيِّ محمَّد. لكنَّ دور جبريل لم يتعدَّ تخليصَهُ من شرور النَّفخة القاتلة. وهكذا تركَهُ وحده وارتفعَ إلى السَّماء.
كان دهن السَّير على الماءِ ما زال مع بلوقيا، فاستعملَهُ حتّى يعبر البحار المتلاطمة. وفي طريق عودتِهِ، مرَّ “بجزيرة عظيمة، ترابها الزَّعفران، وحصاها من الياقوت والمعادن الفاخرة، وسياجها الياسمين، وزرعها من أحسن الأشجار وأطيبها” (1/665). وهي دون شك مشابهة في أوصافها للجزيرة التي مرَّ بها جلجامش بعد أن ترك الحرّاس العمالقة المعروفين باسم الرِّجال العقارب، وقبل لقائِهِ بصاحبة الحانة. لكنَّ تلك الجزيرة كانتْ في اللَّيلِ مأوى لحيواناتٍ عملاقةٍ متوحِّشة، فقرَّرَ بلوقيا مفارقتَها مع إشراقة الشَّمس. وكلَّما وجد بلوقيا برّاً، هاجمَهُ خطرُ حيوانٍ يجهلُهُ. لذلك كان البحر ملاذَهُ، يدهنُ قَدَميه بالعشب، ويظلُّ سائراً فوقَهُ.
ــــــــــــــــــ
* مجلة نزوي
 
أعلى