قصة قصيرة مجهول ـ ترجمة عبد اللطيف الخطيب ـ أمام الموت

كان السادس في صف المحكوم عليهم بالإعدام عندما نودي على كل منهم برقمه. وقد نظر إلى الأعمدة الثلاثة التي كانت تبعد عشرين خطوة ثم إلى الجنود الذين لم تكن تظهر على وجوههم إمارات التأثر فقال في نفسه انه سيموت بعد لحظات معدودات.
وكان شعوره بالحيرة والرهبة أمام هذا الشيء الجديد الذي يوشك أن ينزل به بضغط على حنجرته فيجعل تنفسه عسيرا شاقا. واقترب منه الراهب وهو يرفع الصليب إلى فمه فلاحظ أن شفتيه جافتان. أما صوت الراهب فكان ينتهي إلى سمعه كما لو قطع مسافات بعيدة من قبل. فلم تكن الكلمات قد احتفظت بقوتها حتى تؤثر ف ينفسه بحيث لم يكن يعيرها إلا اهتماما شاردا ذلك لأن التفكير في نهايته القريبة كان يستأثر بذهنه ولا يترك له من الوقت ما ينفقه في اعتبار الظروف الخارجية. أنه كان يشرف على توديع حياته ولا يريد أن ينساق على التفكير في تلك الكلمات الجوفاء أثناء اللحظة القصيرة الثمينة.
وسأل نفسه عما إذا كان له أن يتأسف على شيء فاقتنع بعد استعراض الذكريات أن تقويم حياته قد يكون احفل إذا هو رد إلى الحياة. وكانت الذكريات وهي شظايا وجود عاجل تعود إلى ذهنه فيرى نفسه طالبا بالمدرسة العسكرية للهندسة في سان بطرسبورغ ثم ضابطا في الجيش. أنه كان محقا في مغادرة الجيش ومصيبا في الانصراف عن دراسة لم يكن من شأنها إلا أن تخنق القوى التي كان يحس بها في نفسه. وسرعان ما أدرك أن الحياة بالنسبة إليه هي شيء يختلف تمام الاختلاف عن استخراج الجذور التربيعية.
ولم يكن قد استطاع لحد تلك اللحظة أن يتحرر من الشعور بالقلق والإحساس بأزمة ناتجة عن الحرمان والقصور عن إرضاء شهواته. انه كان يريد أن يستمتع بالحياة ويقبل عليها بكل قواه. إلا أنه كان يرتعش أمام ما كانت تتكشف عنه روحه فيفرغ لكتابة الصفحات ويستمر في الكتابة حتى ينسى الجوع الذي كان يأكل أحشاءه.
وأخذ مصيره يتراءى به بوضوح شيئا فشيئا فظهرت شخصيته الحقيقية ورأى طريقة الحق ينفرج أمامه وقد أحاط به ضياء يغشي الأبصار. إنه سيكون المحامي لجميع المحتقرين والمدافع عن كافة المهانين الموجودين بهذه الأرض. وقد كان يكتب من غي فتور ولا وهن فكان يصطلي بجميع الأطوار التي يتقلب فيها الإنسان إذا ما كتب عليه الشقاء.
إن السطور كانت تأتي تلو السطور وكلها صادرة عن تيار الحياة النابع من قرارة نفسه. إن ذلك التيار كان بمثابة الموج المتدفق الذي ينتهي إلى تكسير السدود والذهاب بها. فلم يكن هناك من القوانين والأعراف ما يستطيع حصره. إن الصراع كان صراعا بين الملك والشيطان ونفس الرجل ميدانا لذلك الصراع.
وأدرك الرجل ذات يوم أنه قد انتهى إلى مرحلة الحب المجرد القادر على تحمل مختلف أنواع الحرمان وشتى صروف الجهاد فسأل نفسه عما إذا كان في مستطاع غيره من البشر أن يرقى إلى تلك الدرجة أيضا. ولم يفتأ يسأل نفسه عما إذا لم يكن الإنسان قد آثر منذ العصور العتيقة محبة المظاهر على محبة الحقيقة العميقة المجردة التي تختفي وراءها.
وكان الرجل يجهد نفسه في البحث عن الأمثال فوجدها في المسيح وأدرك أن التصليب أمر لم يكن هناك مفر منه. ومع ذلك فقد واصل السير في الطريق التي اختطها لنفسه من قبل.
وقرأ السيد «بيلينسكي» مخطوطه ذات يوم فطلب منه أن يمر به ليمضيا بعض الوقت في الحديث. وكان صاحبنا ينتظر كل شيء من ذلك الناقد الذكي المعروف بقسوته غلا أن يحدثه بذلك النحو من الكلام. فلم يكد يدخل المكتب حتى سار «بيلينسكي» إليه وضمه بين ذراعيه وهو يقول وقد بلغ به الإعجاب غايته :
- هل تدرك يا صديقي ما كتبت وهل في مستطاع البشر أن يعلم ما علمت وعمرك لم يتجاوز العشرين بعد ؟. إن موظفكم «ديبوشكين» قد أصبح في وضاعته لا يجرؤ على التفكير في أنه شقي. وقد يعتبر أبسط الشكايات من وحي الثورة الفكرية بل برهانا على تمرد الضمير. إنه لم يعد في المستطاع أن نشعر بعطف على ذلك المخلوق الحقير وإنما نحس نحوه بالامتهان له والسخط عليه. إنك قد اهتديت منذ اللحظة الأولى إلى المسألة الرئيسية وتعمقت قلب المشكلة. فعليك أن تظل فيما أنت فيه من الإخلاص لنفسك بمصارحتك لها لتدخل في زمرة أكابر الكتاب.
وكان المحكوم عليه بالإعدام يحس لآخر مرة بشعور الاعتزاز عندما يتذكر قول الناقد فيستعين به على مغالبة الخوف. وقد أقسم أن يظل مخلصا لنفسه أمام الموت وأن لا يخور عزمه لأن جهاده لنفسه هو سر مهمته الجديرة بالتضحية بالوجود في سبيلها. ولم يكن يكره شيئا ككرهه لهذا الكذب المهين الذي يعيش فيه معظم الناس.
إنه لم يجهل الجريمة التي سبق بسببها إلى ساحة «سيمينوف» التي كان ينتظر فيها أن يمسك بأحد الأعمدة في ذلك الصباح البارد من شهر دجنبر. فقد تجرأ على الثورة ضد حكم كان يسوق الناس كما تساق قطعان الثيران. وكان يرى أنه لن يصبح بعد دقيقتين أو ثلاث إلا شيئا لا حركة فيه ولا حياة فكان يشق عليه التفكير في ذلك ويسأل نفسه عن مصيره بعد الموت وعما إذا كان يوجد شيء تمكن معرفته بعدها. وقد أصبح من العسير عليه أن يتبين الجنود الذين كانوا في تلك اللحظات يتكتلون ضمن مجموعات ثلاث صغيرة أمام الأعمدة. وكان صوت الراهب الرتيب وهو يرتل الدعوات يقرع سمعه من بعيد قبل أن يطغى عليه صوت الضابط وهو يصدر أوامره إلى الجنود ف يعنف وقسوة. وإذا كان الصوت عاليا مدويا فإن إدراكه لم يكن بالشيء اليسير المثال.
وكانت هناك كنيسة تبعد حوالي مائتي متر عن ذلك الفناء وضوء الشمس ينعكس على قمتها فجعل يتأمل فيها كما لو كانت تلك الأشعة إشراق حياة جديدة بالنسبة إليه وكما لو كان سيفنى فيها بعد لحظة. وأصبح من الصعب عليه أن يصرف عينيه عن ذلك المنظر. فلما وقع بصره على الجنود مرة أخرى أحس بالاطمئنان العظيم يسيطر على نفسه وبالهدوء الشامل يتملك تفكيره الذي استأثر به التساؤل عن مصيره لو لم ينفذ فيه الإعدام بعد لحظة وردت إليه الحياة. إنه كان يرى أن آفاق العمل عريضة من حوله وأن إمكانياته عديدة بحيث يكون في متناوله أن يصير الدقيقة الواحدة قرنا وأن يحسب اللحظة الواحدة كما يعد البخيل كنزه وقد صح لديه العزم على عدم إضاعة ثانية واحدة من ذلك الثراء الزمني العريض.
إنه لو رد إلى الحياة لقرأ كتب «بوشكين» و «غوغول» وغيرهما من الكتاب الذين يعجب بهم ولا قبل على شرب نبيذ القوقاز والتنقل بين شوارع سان بطرسبوغ وأزقتها ليقرأ على وجوه الناس سر بؤسهم ومكنون آلامهم. إنه لو رد إلى الحياة الحرة لعاش بين أولئك الناس وأنفق الوقت الطويل في الحديث مع المومسات والسكارى ومع المولدات وأصحاب الدكاكين. بل لجادل الكفار والعباد على السواء ليعلم آنذاك أنه موجود وانه يشرب الحياة في مذاقاتها المختلفة كما يشرب الظمآن كأسا من الماء.
لأن يكون الإنسان حيا خير له من أن يواري في التراب. فالحياة هي أن يفتح الإنسان عينيه الشغوفتين بالاستطلاع على الناس والحوادث فيشغل نفسه بها ويقاسم الأحياء صداقتهم والمهم وخوفهم ورجاءهم ودمعهم وضحكهم ودفء الشمس وعتو الريح.
إن الإنسان يستطيع متى كان حيا أن يهمس في نفسه بأسماء الأشخاص المحببين إليه فينطق بكلمة «الأم» ويذكر اسم أخ أو أخت أو صديق. وهو يستطيع أيضا أن يخرج إلى الشوارع متى ضاق ذرعا بالجدران الضيقة القائمة من حوله وان يضحك لنكتة ويداعب بلطف شعر امرأة فيعلي رأسها ويرغمها على النظر إلى عينيه. بل في مستطاعه أن يسقي الأزهار ويستمع إلى صرير النحل أو يستلقي على الكلأ ليشاهد مر السحاب.
إنه في مستطاع الشخص متى كان حيا أن يتضامن مع كافة أبناء البشر فيتمم مسؤولية أعمالهم ويقاسمهم وزر آثامهم لأنه يكون آنذاك متساويا معهم وجانبا عندما يقترفون الجناية ويتعلق بالحياة كما يتعلقون.
إنه في متناول الإنسان أن يأتي كل شيء إذا هو أراد. والشيء المهم بالنسبة إليه هو أن يعرف إمكانياته ولا يترك فرصة مواتية للعمل دون أن ينتهزها.
وكان الغيظ يتأجج ف ينفسه عندما يفكر في أن الموت يعبث بكل تلك الآمال ويذهب بها. وكان مجرد التفكير في قرب الموت يشيع في نفسه المزيد من الرعب. فقد كان يشد يديه بقوة حتى أن الأظفار كانت تؤلمه إلى أبعد حدود الإيلام وكان يبذل مجهودا كبيرا لترويض نفسه على الصبر وتهدئة غضبه الجامح. وكان هو السادس في صف المحكوم عليهم بحيث أن الأشخاص الثلاثة الواقفين عن يمينه والذين لم يكن يجرؤ على النظر إليهم سيسبقونه إلى لقاء الموت.
وأحس بوقع نعال الجند على الطوار الذي كان يعلوه الجليد فأدار رأسه إلى الجهة التي كان يأتي منها صدى الأقدام فرأى الجنود الأربعة يقطعون الساحة متوجهين إليه في بطء كما يسير الرجال أصحاب المعدة الراضية والضمير المرتاح الهادئ.
ووقف الجنود لما أصبحوا على خطوة واحدة من المحكوم عليهم فصاح أحدهم قائلا : «الأرقام واحد اثنين ثلاثة... غادروا الصف». وكان هذا الجندي ذا صوت غليظ يمجه السمع. وما أن سمع هذا الصوت حتى أصاب بصره بعض الضباب لما رأى الرجال الثلاثة قد شرعوا يسيرون وقد أحاط بهم الجنود فأحس بهم كما لو كانوا يستأثر بهم ومقدار الإحساس بالعجز الذي كان ينتابهم. كما أحس بضعف أجسامهم التي سيخترقها الرصاص ويمزقها بعد حين دون أن يجد في ذلك مقاومة ولا عناء.
إنه كان يعرف ما كان أولئك الرجال يفكرون فيه ويعرف إنهم كانوا يعلنون حظهم العاثر الذي حكم عليهم بالسبق إلى الموت ولو استطاع أولئك الرجال لقدموا كل ما هو موجود في العالم ليوضعوا في الجانب الآخر من ذلك الصف.
إن هذا المنظر قد استثار قلبه فأغمض عينيه وطأطأ رأسه يحاول أن ينسى ما رآه قبل لحظات. وكان يتصور في مخيلته المهتاجة صور أشخاص آخرين ومناظر أخرى. إلا أن تلك الصور كانت غامضة وان كان الألم العميق يجتاح صدره لما كان يرى من عجزه عن أداء القسم الثاني من رسالته إلى الناس.
إنه رأى الكتب التي كان في مستطاعه أن يكتبها لو كان له متسع من الوقت وهي تستعرض أمامه. وكان إحساسه بالألم الشديد والتمرد الجامح يجتاح صدره فيصطك فكاه عندما يرى قرب عجزه النهائي عن الإبداع والخلق وقرب قصوره التام عن الإفصاح بالحب والتعبير عن إشفاق الذي كان يحس به نحو كافة الناس ويرى أن نوازع الثروة الروحية التي يتحلى بها قلبه ذاهبة إلى العدم عبتا.
ماذا سيقول التاريخ عن ذلك الطالب الذي اضطر بحكم الفقر إلى التخلي عن الدرس والتحصيل وساقه الجوع إلى اغتيال عجوز مرابية ؟. ماذا سيقول ضميره عندما يسأل نفسه عما إذا كان قد فعل فعلة القتلة السافلين أو كان ينتمي إلى زمرة المختارين اللذين لهم حق التصرف في الحياة البشرية ؟.
من هو هذا الذي سيصف العواطف والأحاسيس التي تجتاح نفس المقامر عندما يقرع سمعه رنين الكرة الدائرة في انسيابها وتمسك أصابعه المحمومة بأوراق المكاسب الأولى. أن الألعاب تتعاقب ويزول الواحد منها تلو الآخر فلا يبقى منها أمام المقامر إلا رقص الكرة وتأرجحها في الانسياب... من هذا الذي سيصف خسران المقامر ومغادرته لمائدة الميسر وخروجه من النادي متحسرا؟.
من هذا الذي سيهتم بمصير الأطفال الذين لفظوا بقسوة إلى هذا العالم الذي اعتاد الناس فيه جريان الدماء وأصبحت الرذيلة تتفشى فيه بكل حرية ولم تعد مجلبة للعار والمهانة بينما كل واحد يهذي هذيانا هستيريا مطالبا بالإنسانية والشفقة فلا نجد شخصا يريد الاضطلاع بذلك الواجب فيملأ الفراغ الذي نتخوفه؟. إن الناس كلهم يريدون أن يشربوا من ذلك المعين ويستمروا دائما في أرواء ظمأهم. يغر أن الأمور تنعكس تماما كلما نودي على أحد منهم بأداء نصيبه من التضحية.
إنه كان يعلم حق العلم إنه ليس قادرا على النظر إلى الأمور كما تنظر إليها الدهماء. فقد حكمت عليه الطبيعة باستفسار نفسه وطرح الأسئلة العويصة عليها وبالاجتهاد دائما في الجواب عنها. ولو لم تكن طبيعته على هذا النحو لكان يفوز بأكاليل الغار ولما كان في ذلك الوقت بتلك الساحة ينتظر أن ينفذ فيه الحكم بالإعدام رميا بالرصاص.
وظهر أمام روحه منظر خلاب رائع... هو منظر رجل شاب وسيم الطلعة كأحد الأمراء... وكان الرجل نبيلا كريما يقدم إلى العالم إحسانه إيمانه بعظمة الإنسان. ومع ذلك فقد رأى هذا الرجل احتقار أمثاله له لقاء رحمته بهم. بل إن وجوده كان في نظر العامة سبة حية مائلة تكفي للحكم عليه. وكان الناس يتسابقون في إذايته ويتصرفون عنه منادين إياه بالسخيف وهو يدعوهم إلى إيثار المحبة الشاملة العاملة على لبغض والعداوة.
وكان هذا المصير المحزن لذلك اشخص يملك عليه إعجابه كله حتى نسي ما كان يحيط به خلال بضع ثوان ويرى ذلك المصير موضوعا حببت إلى نفسه الكتابة فيه.
وتعالت صيحة مدوية رهيبة انتزعت منه تلك الآراء انتزاعا فأحس بقطرات العرق تنصب على جبهته وخديه وعنقه وتنساب إلى ظهره. واضطر أمام ذلك الإحساس إلى فتح عينيه بقدر ما كان يستطيع فوجد حجابا رقيقا قائما أمام بصره وانه لا يرى ما كان يجري في تلك الساحة على بعد خطوات معدودة عنه. ومع ذلك فلم يحد ببصره عن ذلك الاتجاه.
إنه رأى الجنود يمسكون بذراعي الأول من المحكوم عليهم ويربطون معصميه بعنف وراء ظهره حتى أن الجسم المنهوك من فرط الألم والخوف كان يستقيم وتظهر على الرجل إمارات العزة. وتكرر ذلك المنظر ثلاث مرات ورأى كيف أن الجنود يعصبون أعين البؤساء ويسوقونهم إلى العمدة ليشدوهم إليها شدا وثيقا لا يترك لهم مجالا للتحرك ولو قيد أنملة.
وحاول صاحبنا أن يتذكر معالم الوجوه التي كانت على مقربة منه قبل لحظات فلم يستطع وانتهى إلى إخفاء وجهه بين يديه لأنه لم يعد قادرا على تحمل ذلك الانتظار وذلك الإحساس بالعجز أمام النهاية القريبة.
ولم يكن قد فكر إلى ذلك اليوم في أوجه الموت المختلفة. أما الآن فقد فات الأوان ولم يعد هناك مجال للتفكير فيها لأن الرصاصة التي ستذهب بحياته كانت مصهورة منذ وقت طويل وقد استوت الآن كمثيلاتها داخل الحزام الذي يتذرع به الجنود.
غير أن الشيء الذي أغاظ صاحبنا وأقلقه إلى حد الجنون هو رفض ضابط الشرذمة لطلب الإنعام عليه بالنظر إلى العالم نظرته الأخيرة. فقد كان على حق في أن يرى الموت يسعى إليه. غير أنه كلن يعلم أن الاحتجاج لا يفيد خصوصا وقد رأى كيف أنه من اليسير تعصيب عيني رجل مكتوف اليدين.
ولم يعد في مستطاع صاحبنا إلا أن يقبل الموت على ذلك الحال فلا يستطيع أحد أن يرى الابتسامة التي كان يرغب توديع الحياة بها. وسمع بعد حين سعال احد الحاضرين فرأى أن الضابط الذي ظل ربع ساعة يقرأ نصوص الأحكام بالموت قد شرع يبتعد عن الجنود ويشير إلى الراهب بالابتعاد عن الأعمدة. ثم سمع صوتا بعيدا كما لو كان آتيا من عالم الفناء وهو يأمر العساكر من أفراد الشرذمة المكلفة بتنفيذ الإعدام بأخذ أسلحتهم والوقوف موقف الاستعداد.
وشرعت الطبول تقرع قرعا وئيدا متعاليا فاعتقد بأن رأسه يوشك أن يتطاير في الفضاء. وأحس من خلال ذلك القرع الوئيد المتعالي بصدى إعداد البنادق لتلفظ ما في جوفها من رصاص قاتل فأدرك تمام الإدراك أن الثنية الأخيرة في حياة أولئك الرجال المربوطين بالأعمدة قد وصلت وانتظر خروج الطلقة النارية الأولى.
وأصبح قرع الطبول يصم الآذان. وقد أدار رأسه بتؤدة خوفا من أن يصاب بالجنون إذا امتد ذلك الانتظار الرهيب بضع لحظات. وظن مع ذلك أنه رأى الضابط وهو يتوجه إلى الجنود محركا شفتيه. غير انه لم يسمع لتلك الحركة صدى. أنه رأى أحد الجنود يسير نحو الأعمدة. غير أنه ظن تلك الرؤيا إنما هي من مفعول الهذيان. وكان يود أن تتوقف أذناه عن سماع قرع الطبول...
فهل كان سينهار من فرط الخوف ساعة الموت وهو الذي كان يريد أن يحتفظ بوعيه وشهامته ويبرهن للعالم على قدرته ورابطة جأشه في مجابهة الموت ولقائه كما يلقاه أحرار الرجال ؟.
أنه رأي الجندي ينزع العصابة عن أعين الأول فالثاني فالثالث من المحكوم عليهم. ثم جعل الجندي يفسخ الحبال التي كانت تشدهم إلى العمدة ثم الحبال التي تمسك معاصمهم فيدفعهم أمامه حيث يقطعون الساحة ليسترجعوا أماكنهم داخل الصف.
ولم يكن صاحبنا يبحث عن شيء ولا يريد أن يحرص على إدراك أي شيء فظل واقفا وسط تلك الساحة وقد أصبح مخه مادة لزجة لا تستطيع التفكير في شيء. فقد فقد القدرة على الاندهاش وحتى على التألم فكان يرضى عن ذلك الوجع الشديد ويتحمله في هدوء وسكينة. ولم يكن يستطيع أن يفكر حتى في الصياح أو في الفرار مادام يحس بالقدرة على العدو.
وفجأة توقف الجنود عن قرع الطبول دون أن تطلق الرصاصة الأولى. غير أنه لم يندهش لذلك أيضا.
ثم سمع صوتا يناديه باسمه متبوعا بكلمات لم يدرك لها معنى في تلك اللحظة. وعندما تفرق صف المحكوم عليهم واخذوا يسيرون تاركين ساحة «سيميونوف» وراءهم استأنف طريقه نحو السجن فاستعاد فيه شيئا من إحساسه ووجدانه. ولما كان المحكوم عليهم قد أخذوا يسيرون ببطء عندما اقتبسوا من منعرج الطريق شاهد أولهم الذي كان أقربهم ميعادا مع الموت وهو يسير أمامه فلم تعد ركبتاه ترتعشان. عند ذلك تذكر الكلمات التي سمعها : «إن صاحب الجلالة القيصر قد أصدر عفوه عن فيودور ميكايلوفيتش دو ستويفسكي واستبدل الحكم عليه بالإعدام بالنفي إلى سيبيريا لقضاء أربع سنوات سجينا لها.»
 
أعلى