قصة قصيرة كيريل بوليتشوف ـ ترجمة عمر ألتنجي ـ عقل في الأسر

إذا كنا نتكلم عن الحظ السيئ فإن حظي ـ أنا الأخطبوط العاقل ـ خانني الى درجة مأساوية مرعبة. أما اذا تكلمنا عن الحظ الجيد فمن الجائز جداً وصفي بالمحظوظ.
خانني حظي في التحليق الثاني، حينما أدركت أنني سأكون مجبراً على القيام بهبوط اضطراري. لقد حصل شيء للمحرك، لكنني لا أعرف ما هو. ولا يوجد ما هو أسوأ من محرك لا يعمل بشكل جيد، في حين يفصل بينك وبين كوكبك الأصلي حوالي نصف مجرّة. وكنت محظوظاً حينما عرفت أن الجو المحيط بالكوكب الواقع تحتي مناسب للتنفس، وهذا ما منحني شيئاً من الأمل في أن أطير ثانية في الفضاء وأعود إلى أهلي، هذا بالطبع ان استطعت اصلاح المحرك. كان واضحاً ان الجائحات شوهت الكوكب غاية التشويه، والصدوع العميقة قلبت أديمه، وارتفعت قمم جباله عالياً في الجو يغطيها برد فضائي. لم يكن عندي وقت كاف لمتابعة الملاحظات التفصيلية، كان عليّ ايجاد موقع مناسب للهبوط بسرعة، وقد وجدته على سطح هضبة فسيحة. وفجأة توقف المحرك عن العمل نهائياً، فيما كنت أتأهب للهبوط.
مررت بسرعة كنيزك فوق اقليم جبلي عديم الحياة، ثم دخلت المركبة الجو الكثيف المحيط بالكوكب فتباطأت سرعة الهبوط، وها أنا ذا على سطح الكوكب أخيراً.تطلعت من الكوة، لم أر أي شي يمكن أن يشكل خطراً. شغلت جميع الأجهزة المخصصة لدراسة الوسط الخارجي. وبعد وقت قصير كنت قد عرفت الكثير عن المكان الذي هبطت مركبتي فيه. لا توجد هنا حياة عاقلة، لكن الحياة غير العاقلة التي أحاطت بي كانت خطرة ومتعطشة لسفك الدماء، فجميع الكائنات في هذا العالم كانت في حالة حرب مع بعضها بعضاً، القوية كانت تفترس الضعيفة، والضعيفة كانت تقتنص الأضعف منها.
لم أستطع البقاء طويلاً بدون عمل. تسلحت بالصاعق وفتحت الباب. تبين ان الجو نتن جداً، ورائحته كريهة، ومع ذلك كان التنفس ممكناً.
تحركت ببطء وحذر، جاهداً ان يبقى جسم المركبة الأمين خلف ظهري طوال الوقت. وما أن أتممت خطوتين حتى اضطررت للتوقف، فقد انبثقت من الأرض رأس مستديرة لدودة كبيرة. كدت أستل الصاعق، لكن الرأس غاصت فوراً في الأرض، وأنا رحت أراقب طويلاً باستغراب كيف كانت فلقات جسم الدودة زهرية اللون تخرج من الأرض وترتفع إلى الأعلى مثل قنطرة ثم تختفي ثانية في الأرض. لم تكن الدودة ضخمة جداً، كانت ربما بنصف ارتفاعي. لكنني رأيت جزءاً منها فقط، لذلك بدت طويلة جداً ومخيفة.
وفجأة لاح ظل أسود. اندفعت الى الوراء والتصقت بمعدن المركبة البارد. مخلوق طائر ضخم يتلوى اندفع نحوي من أعلى. فتح حنكاً هائلاً فيه كثير من الأسنان الحادة، فاح منه نفس كريه الرائحة. أخرجت الصاعق وغرزت حشوة في حلق الوحش، فسقط جسمه الثقيل عليّ، ورحت أتدحرج على الأرض. وبعد وقت قصير شاهدت التنين الطائر يتلوى على الأرض في تشنجات ما قبل الموت. لم أتجرأ على الاقتراب من الغول، بل نهضت من على الأرض وأنا أرتجف من الخوف، ولاحظت فوراً ان طريقي الى المركبة مقطوع.
اقترب مني وحش آخر ببطء. جسمه قذر أخضر قاتم اللون، وعيناه بارزتان بعيداً إلى الأمام، وله ملقطان هائلان قاتلان. نهض الوحش على قوائمه وفتح ملقطيه.
لم أرغب أن يكون دخولي هذا العالم موسوماً بالقتل وبالدم، إذ يوجد من ذلك ما يكفي بدون تدخلي. تراجعت إلى الخلف، فأدار الوحش عينيه نحوي، أخافني، لكنه لم يندفع باتجاهي. حاولت ان أتحاشاه بحيث أعود تحت حماية مركبتي. لم يفارقني الشعور الكريه بالخطر القادم من الخلف. بدا أن العيون المتنبهة لساكني هذا المكان تتبعني خطوة خطوة.
ودون تحويل نظري عن الوحش قمت بخطوتين أخريين الى الخلف، وهنا لمع شيء ما تحت قدمي. كان على الأرض شيء غريب مصنوع من المعدن، أقول «مصنوع» بما تحمله الكلمة من معنى، لأن أيدي الكائنات العاقلة فحسب كان باستطاعها اكساب هذا المعدن الأبيض شكل اهليلج مدبب من طرفه. كان الشيء مفلطحاً مصقول السطح باتقان. الكائنات التي تقدمت الى الأمام بعيداً في طريق الحضارة باستطاعتها وحدها التضلع هكذا في علم التعدين.
أمسكت بالشيء ورفعته عن الأرض، إنه ثقيل الوزن، تأسفت لأنني لا أستطيع حمله الآن الى المركبة، فما زال الوحش جاحظ العينين واقفاً في الطريق الى المركبة وهو يحرك كلاّباته متوعداً.
وفي هذه الحالة ألقي شيء متطاول على ظله. كدت أظن ان هذا تنين آخر، فنظرت الى الأعلى. كلا، هذا ليس بتنين. ربما استطعت ان اقسم انني أرى سفينة فضاء، سفينة طائرة! انها ضخمة، اكبر من مركبتي، وهي تتحرك ببطء. ويصعب عليّ تحديد ما يحركها. لكن انتظام شكلها، وتماسك أجزائها استبعدا تماماً أية امكانية لاعتبار انها ربما كانت كائناً حياً. ربما بحث عني شخص ما، ومن الممكن انه لاحظ كيف هبطت مركبتي على هذا الكوكب. مر وقت قصير، وها هم يبحثون عني. أما نواياهم فلا أعرف ان كانت خيرة أم شريرة.
جمدت السفينة الطائرة فوقي تماماً. وشعر الوحش ذو الملاقط بشيء غير مناسب يدور حوله، فراح يتراجع ببطء نحو أدغال الأشجار العالية المتمايلة. لم أترك الشيء المعدني، فهو الدليل الثمين على الحياة العاقلة على هذا الكوكب.
تعلقت سفينة الفضاء على الحدود العليا للغلاف الجوي. رفعت الشيء المعدني الى الأعلى كي أجذب انتباههم إليّ، وليكن ما يكون. كنت واثقاً ان على الكائنات العاقلة ان تكون ودودة.
انتبه إليّ من كان على السفينة، فتدلى منه حبل انقاذ، لمعت في نهايته آلة لربط الأشياء. انهم يستدعونني الى الأعلى. ماذا أفعل؟ فلنخاطر. ألقيت نظرة أخيرة على مركبتي، طوقت حبل الانقاذ بأذرعي، دون أن أترك الشيء المعدني، وشددت حبل الانقاذ ثلاث مرات، وهي اشارة بأنه يمكن رفعي. وأصبحت فوراً ارتفع الى الأعلى بسرعة.
في القسم الأخير من الطريق راح حبل الانقاذ يرتفع باندفاع. كان واضحاً انني سأطير بعد قليل خارج حدود الغلاف الجوي. لكن لباس الفضاء بقي في مركبتي! حاولت الوثب عن حبل الانقاذ، لكن خطافاً حاداً في نهايته غرز عميقاً في جسدي. بعد ثانية فقدت الوعي، وطرت في الفضاء الخالي. غولان هائلان مدا أطرافهما باتجاهي.
قال فلوديا أودالوف بدهشة وهو يسحب صنارته:ـ انظر من الذي قضم شصي.
أجابه صديقه ساشا غروبين، وهو هاوي صيد السمك أيضاً: ـ وما دخل الشص هنا؟ هل سمعت يوماً أن الأخطبوطات تعيش في بحيرتنا؟ صاح غروبين:ـ أعطني سطلاً، سطلاً مملوءاً بالماء! ماذا بك، ألا تفهم؟ لقد حققنا اكتشافاً كبيراً! قال اودالوف مشككاً:ـ ربما كانت الأخطبوطات تعيش هنا.
قال غروبين وهو ينتزع الأخطبوط من الصنارة:ـ من أين؟ إنها تعيش في البحار والمحيطات فقط. سيكتبون الآن عنا في مجلة العلوم.
رمى غروبين الأخطبوط في سطل الماء، فنزل بخمود الى قاع السطل، في حين كان أحد مجساته ما زال يقبض على الشص الذي كان اودالوف قد ربطه بالخيط بشكل رديء.
قال اودالوف:ـ ساشا، انزع منه الشص.
ـ ولماذا أنا؟ ـ وماذا لو كان ساماً؟ ـ هكذا إذن! بالنسبة إليك سامّ. يعني، بالنسبة إليّ، أليس ساماً؟ ـ حسناً، انزعه بشيء ما، فلم يعد لديّ غيره.
تحرك الأخطبوط في السطل، فقال غروبين: ـ آه، لقد عادت إليه الحياة. ظننت انه سينفق.
قال اودالوف بتأفف:ـ وما الفرق بالنسبة إليك؟ كان اودالوف قد وعد زوجته بإحضار أفراخ سمك من رحلة الصيد هذه، وحضّر لذلك شصاً خاصاً... قال لصديقه:ـ اعطني الشص، كن صديقاً، فربما نصطاد شيئاً آخر. يصعب عليّ أن أعود خالي الوفاض. لكن غروبين كان قد أخذ المجدافين وراح يجدف باتجاه الشاطئ.
... وضعاني في اسطوانة معدنية مفتوحة من الأعلى. لكن الغلاف الجوي ينتهي عند حافتها العليا. وبذلك، فإن أية محاولة مني للخروج ستؤدي بي الى الهلاك المحتم.
لم أستطع ان أغفر لنفسي ثقتي السريعة والحمقاء بالآخرين. لقد تبين ان الكائنات العاقلة ـ التي كان بمقدورها بناء سفن الفضاء وتصنيع المعادن ـ غادرة وجائرة. وهم ـ كما يبدو ـ ليسوا على دراية بأفكار الإخاء الكوني. تلمست الصاعق. أستطيع على الأقل الدفاع عن نفسي...
من فوق حافة الاسطوانة بان رأس كروي لواحد من حارسيّ. إنه هائل. حجم رأسه لوحده أكبر من جسمي كله، بدون حساب الاطراف. من الواضح ان هذا الكائن يعيش في فضاء فارغ. وأنا مستعد للقسم انه بدون لباس الفضاء! وهذا اكتشاف عظيم. فمن المعروف انه لا يوجد كائن واحد ـ باستثناء البكتيريا ـ يستطيع الحياة خارج الغلاف الجوي.
تأملني الغول طويلاً. وأخيراً رفعت اثنين من أذرعي بإشارة سلام، فاختفى الغول.
وفيما بعد ظهر رأس الغول ثانية. وفجأة غاص في الغلاف الجوي كف دميم ذو خمس زوائد. أدركت ان الغول يريد قتلي. أخرجت الصاعق بسرعة وأطلقت عياراً.
صاح اودالوف: ـ آي، آي! لقد صعقني بشحنة كهربائية.
قال غروبين:ـ لقد حذرتك.
انغرز القارب في الرمل، تخبّط الماء في السطل، وراح الأخطبوط يحرك جميع مجساته بانزعاج.
لمس غروبين السطل بحذر، فلم يشعر بأية صعقة كهربائية. ربما بدا لاودالوف ان شحنة صعقته من شدة خوفه.
سأل غروبين:ـ حسناً، هل ستبقى، أم ستذهب معي؟ أجاب اودالوف: ـ لعلني سأبقى، سأحاول صيد أفراخ السمك.
قال غروبين:ـ كما تريد. ثم تقلد حقيبة الظهر على كتفيه. أخذ الصنارة بيده اليسرى، وحمل السطل باليمنى، وسار بتؤدة عبر الغابة باتجاه موقف القطار، جاهداً ألا يطرطش الماء وألا يزعج الحيوان.
سأرى هذه الرحلة في أحلام كابوسية، هذا إن قُدر لي عموماً ان أرى أحلاماً يوماً ما. اهتزت الاسطوانة، فتدفقت حولي تيارات ماء عنيفة. التنفس صعب، وأنا مضطر الى التمسك بجدران الاسطوانة الملساء طوال الوقت حتى لا أنقلب. آه، لو تمكنت يوماً من العودة إلى وطني! أية اثارة ستحدثها اخباري عن العرق العاقل الجائر الذي يعيش على حدود الفضاء! بلغ أسماعي دوي غامض، اهتز قاع الاسطوانة. أحسست بعد ذلك ان عدوي حمل الاسطوانة وبدأ يصعد شيئاً ما. وهنا بدأ اهتزاز أكثر هولاً من ذي قبل! أحد ركاب القطار ـ ويبدو انه من معارف غروبين ـ سأله: ـ ماذا تحمل؟ هل يعقل انك اصطدت ملء السطل سمكاً؟ دعني أرى.
جلس غروبين على مقعد خال حاملاً السطل بين يديه، بحيث يهتز أقل قدر ممكن.
قال:ـ انظر.
قال المعرفة وهو ينظر في السطل: لا أفهم شيئاً. ما هذا لديك؟ ـ أخطبوط.
لم يفهم المعرفة:ـ ماذا؟ ـ قلت: اصطدت أخطبوطاً.
قال المعرفة:ـ آ،آ، مفهوم، حيوان نادر... ولم يعد يعير اهتماماً اكبر للأخطبوط، حتى ان غروبين شعر باستياء.
ـ هل رأيت أخطبوطاً من قبل؟ قال المعرفة:ـ في الصور فقط. ولم يحدث ان اصطدت واحداً.
قال غروبين:ـ ولن يحدث.
قال المعرفة وهو يفتح صحيفة:ـ ولماذا؟ أنت اليوم اصطدت، وغداً، ربما أصطاد أنا. علماً أنني لست شديد الولع بصيد السمك.
فكر غروبين:ـ «شيء يجنن. أنا أمسكت أخطبوطاً، وهو يقرأ جريدة. لو كنت اصطدت قرموطاً لكانت دهشته أكبر».
التفت راكب من المقعد الأمامي قائلاً:ـ هل تأخذه لأطفالك؟ إنه مثير للاهتمام بالنسبة للأطفال. أنا أحضرت لأطفالي زرزوراً منذ مدة قريبة. إنه طائر مثير للاهتمام.
تلفظ غروبين بامتعاض:ـ يقارن! ذاك زرزور، وهذا أخطبوط.
قال شاب واقف بقربهم:ـ أنا رأيت أخطبوطاً، حتى اني أكلته. اشتريته من مخزن الأسماك حيث كان مجمداً مع أسماك الحبار.
أيده جاره إلى اليسار:ـ آها، ومنها يصنعون المعلبات.
قال غروبين لنفسه باستياء:ـ «يا لهم من بشر! ربما ما كانوا اندهشوا حتى ولو حملت تمساحاً».

لف الأخطبوط مجسه ثم فلّه بعصبية. من الواضح ان الاهتزاز لم يرق له.
من المخيف أن تعرف أن أحداثاً عنيفة تدور حولك لكنك لا تدرك مغزاها. تأرجحت وانهززت، وآلمت سمعي أصوات عالية من جميع الجهات. يبدو ان سكان هذا الكوكب حولي، وانهم يناقشون امراً ما بحيوية. ربما كانوا خائفين من حدوث اعتداء خارجي على كوكبهم. وأنا ليست لديّ الامكانية لأحكي لهم عن الأهداف السلمية لرحلة الفضاء خاصتي، وعن هبوطي الاضطراري على كوكبهم.
انقطع الدوي والهز والأصوات فيما بعد، وحملت ثانية الى مكان ما. أصبح الهواء في سجني غير ملائم اطلاقاً للتنفس، وسأصبح قريباً في عداد الموتى. إن الموت يتهددني في كل خطوة على هذا الكوكب.
كانت الشمس حارة. تعكر الماء في السطل، وفاحت منه رائحة كريهة. وضع غروبين السطل على الأرض وتطلع الى الحيوان. يبدو ان الأخطبوط تحرك ثانية. يوجد بئر، لحسن الحظ، في مكان ما هنا.
وجده غروبين، وراح يصب ماء عذباً بارداً بكميات قليلة ولمدة عشرين دقيقة، خشية ان يزكم الأخطبوط، فالمفروض ـ حسب معرفة غروبين ـ ان الأخطبوط يحب المياه الدافئة في البحار الاستوائية.
لم يدخل غروبين الى بيته، بل قرر المرور أولاً بالعجوز لوجكين الذي يعيش في الطابق الأعلى. وهكذا، صعد الى الطابق الثاني ودق الجرس، وهو يشعر ببعض الوجل. كانت علاقة العجوز لوجكين بساشا غروبين جادة، لأن غروبين بالمقارنة مع عالم الطبيعة شخص سطحي وطائش.
نظر لوجكين الى غروبين من فوق نظارته سائلاً:ـ ماذا تريد؟ ـ مررت أسأل إن كان لديك حوض أسماك زائد.
ـ وما حاجتك الى حوض سمك؟ ـ لقد اصطدت هنا شيئاً، ولا أعرف ماذا أفعل به.
أثار اهتمام غروبين ان يعرف ماذا سيقول لوجكين. ربما هو على الأقل ـ عالم الطبيعة المشهور في المدينة ـ سيفهم غرابة ظهور أخطبوط في ضواحي المدينة البعيدة عن البحار.
طلب لوجكين حمل السطل الى الضوء، وراح يتأمل الحيوان باهتمام.
تأمله طويلاً. صمت. وانتظر غروبين بصبر بالغ.
وأخيراً تنهد لوجكين، وقال بلطف: ـ نوع جديد على أقل تقدير.
ـ كيف؟ ـ نوع جديد من الأخطبوطات.
وترامت في صوت لوجكين نبرة احترام لزميل:ـ انت محظوظ أيها الشاب. وحتى لو كان هذا طفرة، فإنه مع ذلك لقية عظيمة. ان لدى هذا الأخطبوط عشرة أرجل! سأعطيك حوض سمك بالطبع. وبالمناسبة، أين حصلت عليه؟ ـ اصطدته في بحيرتنا. علق بصنارتي الخالية.
ـ وما هذا الشيء اللامع الذي يضمه؟ ـ إنه يمسك بالشص الذي أضاعه اودالوف.
ـ هم م. إليك ما ستفعله: الأفضل ان تتركه عندي، فعندك القط سيلتهمه.
ـ وهل تأكل القطط الأخطبوطات؟ زد على ذلك انه يصعق بالكهرباء. لقد صعق اودالوف، وأخافه حتى الموت.
ـ م ـ نعم.
العجوز أعطى غروبين حوض سمك، فنزل غروبين الى بيته في الطابق الأول.
مهما يكن من أمر، يبدو ان الحظ يساعدني. وإذا كنت أفهم ما يحدث بشكل صحيح، فأنا أخضع لمراقبة العلماء. ومن غير المستبعد حتى انني وقعت في أيدي مختصين بالاتصال مع حضارات الكواكب الأخرى.
نقلوني من الاسطوانة العاتمة الخانقة الى مكعب شفاف مملوء بالهواء العليل، لكنه على الرغم من هذا سجن. تحيط به مساحة واسعة، توجد فيها أشياء لا أعرفها. وبعيداً في الاسفل يتسكع حيوان مخيف مغطى بشعر رمادي كث. يفتح فمه من حين لآخر، فتظهر اسنان حادة ولسان احمر. ينظر الى سجني باهتمام واضح. ربما كان سجني مسكنه من قبل، والحيوان يظهر عدم الرضا لأنني أقمت فيه. ولربما أمروه بحراستي.
انشغل بدراستي ومحاولة الاتصال معي كائنان محليان. وأثار اهتمامي الأسلوب الذي يتبادلان المعلومات به: فم كل منهما كان تارة ينفتح وتارة ينغلق. أما أنا فقد وضعت نصب عيني المهمة الآتية: عليّ أن أبين لهما انني اتفوق على ذكائهما، انما بطريقة لا تجرح كرامتهما.
أنا جائع جداً.
يبدو انهما تشاورا طويلاً، بعد ذلك اقترب من سجني واحد منهما وأدخل في الغلاف الجوي شيئاً طويلاً مسطحاً. هذه أول محاولة للاتصال، حتى ان وجهي احمر من هذه المفاجأة اللطيفة. فرحت بإمكانية التعبير لهم انني كائن عاقل كذلك، أمسكت الشيء الممدود لي بعزة نفس وشددته ثلاث مرات. سحبوا الشيء فوراً. فهل فهموا شيئاً أم لا؟ هذا ما بقي لغزاً بالنسبة إليّ.
سأل غروبين العجوز لوجكين الذي عرج عليه للسؤال عن أحوال الأخطبوط:ـ ماذا تأكل الأخطبوطات؟ أجاب لوجكين:ـ إنها حيوانات مفترسة بشكل عام... ثم أضاف دونما سبب واضح:ـ وقد ذكر العالم بريم في مؤلفاته ان الأخطبوط يغير لونه في حالة الاستثارة.
سأل غروبين:ـ هل نحاول استثارته؟ قال لوجكين بحزم:ـ هيا.
تناول غروبين مسطرة بلاستيكية ولمس الأخطبوط بها.
قال لوجكين بلهجة رسمية:ـ لقد غير لونه الى الاحمر. يتحدث بريم عن امكانية ظهور اللون الأحمر لدى الأخطبوط المستثار. إذن، هذا الأخطبوط ليس نوعاً جديداً، بل مجرد مسخ.
ذهب غروبين الى المطبخ، ثم عاد بقطعة من اللحم النيئ. هرول القط خلفه ظاناً ان اللحم له. لكن اللحمة طارت وسقطت في حوض السمك، فتلمّظ القط بحسرة.
قطعة لحمية مدماة وشوهاء سقطت عليّ من الأعلى. ماذا يريدون مني؟ أم انهم يريدون أن أتغذى بها؟ نعم، أنا جائع جداً، لكن خير لي أن أموت من الجوع من أن آكل لحم كائن مذبوح. وقد فعلت ما كان سيفعله في بلدي أي واحد من شعبي: أخذت القطعة اللحمية ورميتها بعيداً.
صاح لوجكين:ـ ما أعجبك! لم يأخذها، يعني شبعان... أما القط فقد التقط قطعة اللحم بلمح البصر وهرب بها، إلى الزاوية.
قال لوجكين:ـ سيتوجب عليك الذهاب الى مخزن السمك.
وافق غروبين:ـ سأسرع.
خطر ببالي أن أي كائن عاقل يجب أن يعرف مبادئ الهندسة.
وجدت قطعة حجر مدببة، وخدشت بها على جدار سجني مثلثاً متساوي الساقين، لكن المثلث لم يثر انتباههم. لم يخطر على بالي قبل الآن ان الاتصال يمكن ان يكون عملية معقدة الى هذه الدرجة. وها أنا ذا كائن عاقل موجود أمام أعين ممثلي عرق عاقل آخر. نعم، بالطبع، الوسط الحياتي عندنا مختلف، ونحن نختلف في الحجم والمظهر الخارجي، وماذا في ذلك؟ لماذا أنا أفهم انهم عاقلون وأحاول اقامة اتصال معهم؟ لماذا هم لا يلاحظون انني كائن عاقل ويستمرون في إيلامي؟ لا، يجب فعل شيء، شيء ما، يجب إيجاد مخرج من هذا الموقف.
تحسست الجدران والأرضية. الجدران مصنوعة من مادة قابلة للكسر كما يبدو، أما الأرضية فهي من المعدن، وهذا ما أعطاني أملاً بالنجاة.
شغلت الصاعق، وأطلقت شحنة على الأرضية أحدثت فيها ثقباً على الفور، سددت الثقب بواحد من أطرافي. غادر الذين يعذبونني، فكان عليّ الاسراع في العمل. وحينما ظهر سجاني الرئيسي كنت قد صنعت ستة ثقوب، سددت كلاً منها بطرف. كان الكائن يحمل شيئاً ملفوفاً بمادة بيضاء، وضع اللفافة قرب سجني، فتحها، رأيت فيها كائناً كبير الشبه بذلك الذي هاجمني قرب سفينتي. انتزع السجان من الكائن قطعة كبيرة، ورماها لي...
قال غروبين:ـ لا يأكل، ما العمل؟... أما لوجكين الذي دخل في إثره فقال إنه سيكتب رسالة إلى أكاديمية العلوم. سيحضرون من كل بلد، وسيأخذون الأخطبوط.
سرعان ما خرج الجميع ثانية، ولم يبق سوى الكائن المغطى بشعر رمادي. إنه لم يعد يعرني أي اهتمام. أدخلت ستة من أطرافي في الثقوب، وبالأربعة الباقية أمسكت بالحواف العليا للمكعب. بذلت جهدي في إدخال أطرافي في الثقوب أبعد ما يمكن. رفعت نفسي قليلاً مع المكعب، واقتربت من الحافة...
اعتمدت على عنصر المفاجأة، وعلى ذاكرتي الجيدة. آمل ان أجد الطريق إلى مركبتي بدون متاعب. وما أن رأى الكائن الرمادي وثبتي حتى رمى نفسه في رعب على جدار الغرفة محاولاً تسلقه.
اجتزت الممر الطويل، نزلت الدرجات الضخمة، خرجت الى السهل المحاط من جميع الجهات بمساكن الغيلان. لكنني لم أكد أعبر نصف الطريق عبر السهل حتى ظهرت حولي الغيلان نفسها، فأدركت أنه لا مفر. الشيء الوحيد الذي تبقى لي هو الانتحار. توقفت، سحبت أطرافي من ثقوب أرضية المكعب، فراح الغلاف الجوي ينفد... كلا، لن أستسلم لهم حياً.
كان اودالوف يتغدى حينما وصلت الى أسماعه صيحات من الساحة. نهض من على الطاولة واقترب من النافذة ليرى ما يحدث. بدا له ما رآه مستحيلاً. في الساحة يركض حوض سمك، ومن تحته برزت مجسات أخطبوط تتلألأ عيناه من خلال كتلة الماء في توعد.
وصل غروبين الى الأخطبوط راكضاً حينما لم يبق في الحوض من الماء سوى القليل.
صاح غروبين:ـ أعطوني ماء! سيموت بدون الماء! وخلال بضع لحظات ظهرت طناجر مليئة بالماء، وسطول، وطاسات. واحد أحضر كأس ماء، وآخر جلب صحناً. أخذ غروبين أكبر سطل، وضع الأخطبوط فيه بحذر، ثم حمل السطل بيد، وبالأخرى حوض السمك.

_______
* كاتب روسي ولد عام 1943 يكتب قصص الخيال العلمي (جزيرة الملازم الصدئ ـ 1968، قانون التنين ـ 1975، بطل بلا جدارة ـ 1978، خطف الساحر ـ 1979، مفتاح القياصرة ـ 1981).
 
أعلى