قصة قصيرة لو مين

لو مين
موت شيه بوه ماو




1

جاء مرة أخري ذلك الخطاب إلي شيه بوه ماو؛‮ ‬أرسله الشخص نفسه الذي اعتاد أن يرسل أمثاله من قبل،‮ ‬يمكننا أن نعرف ذلك،‮ من تلك الكلمات المكتوبة دائمًا بخط منمنم‮ ‬أسفل الظرف‮:"‬من تشين‮/‬نفس المدينة‮".‬
وضع‮ ‬لي فو هذا الخطاب في علبة الخطابات‮ ‬الموجودة بجانب يده اليسري،‮ ‬بعد أن أمسكه للحيظات،‮ ‬وتأمله بنظرات يشوبها القلق‮. ‬عندما حسب لي فو بالتقريب‮ ‬عدد الخطابات‮ "‬الميتة‮" ‬التي أرسلها ذلك الشخص إلي شيه بوه ماو،‮ ‬اعتراه شعور بالذهول،‮ ‬جعله يتسمر مكانه‮. ‬فقد وصل عددها إلي أكثر من ثلاثين جواباً،‮ ‬وقد تم إعدام بعض منها‮. ‬وما يسمي بالخطاب‮ "‬الميت"؛ هو الخطاب‮ ‬الذي لا يُسلم لأحد،‮ ‬أو يرد مرة أخري إلي من أرسله،‮ ‬نظرًا لعدم دقة الاسم والعنوان،‮ ‬أو جود أي أخطاء بهما،‮ ‬أو ما شابه ذلك من أسباب أخري كثيرة،‮ ‬ويطلق عليه بالتعبير المهني"خطاب‮ ‬غير قابل للتسليم‮". ‬ألا يكون بذلك‮ ‬ميتا حقًا‮!‬
كانت مهمة لي فو هي إنقاذ تلك الخطابات،‮ ‬وبذل كل ما في وسعه لتسليمها إلي أصحابها؛‮ ‬ولذلك فكانت خطابات المدينة كلها تتكدس عنده‮. ‬لُقب لي فو بالموظف المثالي علي مستوي المقاطعة،‮ ‬فهو‮ ‬يعمل كساعي بريد منذ‮ ‬ثلاثين عامًا تقريبًا‮. ‬ففي الثمانينيات،‮ ‬استطاع تسليم العديد من الخطابات التي لم يُستدل علي أصحابها،‮ ‬والتي كانت تُرسل من تايوان أو خارج الصين؛ لذلك كان كبار السن يرسلون له أوشحة حريرية تعبيرًا عن شكرهم له،‮ ‬حتي امتلأت جدران مكتبه‮ بالأوشحة ولم يتبق مكان فارغ‮ ‬علي الحائط لتعليق المزيد منها،‮ ‬فحتي الممر المؤدي إلي الحمام لم يخل منها‮. ‬ومن باب إطلاق العنان لموهبته هذه،‮ ‬ولمباشرة عمله بشكل أفضل،‮ ‬وأيضًا مراعاة لسنه،‮ ‬تم تخصيص‮ ‬منصب"إنقاذ الخطابات‮" ‬من أجله‮. ‬
اعتاد‮ ‬لي فو علي حمل دفتر صغير معه؛ ليدون فيه بدقة‮ ‬مراحل البحث عن كل خطاب،‮ ‬علي سبيل المثال‮: ‬مفاتيح البحث عنه من البداية إلي النهاية،‮ ‬والأخطاء التي حالت بينه وبين وصوله إلي صاحبه‮. ‬فكان يسأل موظفي الأحوال المدنية،‮ ‬ويجوب شوارع شتي‮. ‬بل وحتي يستشير الناس الذين يمكنهم أن يفيدوه بمعرفتهم الواسعة‮ ...‬الخ الخ‮. ‬فقد ملأ عشرات الدفاتر الصغيرة علي مر سنوات عمله‮. ‬وحتي الآن،‮ ‬إذا صادف شخصًا ما ذا معرفة واسعة،‮ ‬يخرج دفتره من حقيبته الخضراء الصغيرة،‮ ‬ويسأله عن بعض العناوين التي لا يعرفها،‮ ‬بل ويصغي إليه محدقًا فيه بتركيز شديد‮. ‬لم يجد لي فو تفسيرًا واضحًا،‮ ‬لسر اهتمامه بهذا النوع من الخطابات؛ فربما لأنه يوصلها إلي أصحابها‮!.‬
‮ ‬ففي الثمانينيات كانت تتأثر مشاعره بها،‮ ‬وفي التسعينيات كان يبذل مجهودًا كبيرًا،‮ ‬أما الآن فيغمره شعور بالتعاطف معها‮. ‬ويحاول بذل قصاري جهده لايصال هذا النوع من الخطابات إذا كانت مُرسلة من قبل أشخاص بسطاء،‮ ‬كبائع ورق يانصيب،‮ ‬عجلاتي أو طباخ‮. ‬ولكن من المؤسف أن الأمر اختلف كثيرًا في السنوات‮ ‬الأخيرة‮ ‬عما كان عليه‮ ‬من قبل،‮ ‬فأضحي توصيل الخطابات بالنسبة له أشبه بجراح يداوي مريضًا مُصابًا بمرض عضال‮. ‬فدائمًا ما يكون الكلام المطبوع علي الأظرف من الخارج أو الظاهر من خلال شبابيكها الشفافة،‮ ‬مطموس الملامح؛ لأنه يكون مغطي بختم‮ "‬مدفوع الرسوم‮" ‬الضخم‮. ‬كما أن معظم الخطابات،‮ ‬تكون مجرد‮ ‬خطابات إخطار من إدارة الكلية لدفع رسوم الالتحاق بها،‮ ‬أو بطاقة لعميل مهم مُرسلة من قبل مركز تجميل،‮ ‬أو حتي استطلاع رآي لموقع سياحي ما علي شبكة الإنترنت؛ فثمانون أو تسعون بالمئة من الخطابات تكون مُرسلة إلي أشخاص‮ ‬مزيفين أو عناوين خاطئة‮. ‬ويدرك لي فو‮ ‬جيدًا مصير مثل هذه الخطابات،‮ ‬في حالة‮ ‬استدلاله علي عناوينها الصحيحة،‮ ‬فلن تُرسل إليه وشاحات تقدير،‮ ‬أو توجه له كلمات شكر وعرفان،‮ ‬فبمجرد أن يسلمها لأصحابها ويلتفت،‮ ‬ستقطع‮ ‬وتلقي في صناديق القمامة؛ ولذلك فإن عدم إزعاج الناس يُعَد أمرًا كافيًا بالنسبة له‮. ‬ما الذي يضمن للطبيب عدم انتحار المريض بعد مداواته؟؛ فهكذا كان يحاول لي فو إقناع نفسه بتجاهل الأمر‮. ‬ففي المرة الأولي التي رأي فيها‮ ‬لي فو هذا العنوان‮:" ‬210006،‮ (١) ‬مدينة نان تچينغ،‮ ‬منطقة تشين خواي،‮ ‬رقم‮ ‬21‭.‬‮ ‬يُسلم إلي‮: ‬السيد شيه بوه ماو‮. ‬الراسل‮: ‬تشين/نفس المدينة‮". ‬مكتوب بذلك الخط المنمنم،‮ ‬بُعث في صدره قدر من هيبة والإحترام،‮ ‬واستشف‮ ‬أنه خطاب شخصي،‮ ‬بل وشعر أنه مسئول عن تسليمه إلي صاحبه‮.‬
قضي لي فو عمره في التعامل مع الخطابات،‮ ‬حتي بلغ‮ ‬من العمر أرذله،‮ ‬وسيكون مسرورًا إذا حصل علي وسام‮ ‬رمزي،‮ ‬في نهاية حياته المهنية‮. ‬حاول لي فو أن يقارن العناوين المكتوبة علي الظرف،‮ ‬بالمعلومات التي جمعها خلال سنوات عمله،‮ ‬من مصادر مختلفة‮. ‬وأخَذ يبحث بالترتيب وبشكل مفصل‮ عن أسماء الأماكن،‮ ‬المطابقة ومتجانسة النطق‮. ‬وفي أثناء بحثه قابلته عناوين شتي؛ منها ما أثارت فضوله،‮ ‬ومنها عناوين تافهة لا قيمة لها،‮ ‬وأخري جعلته يشعر بالملل والضجر،‮ ‬وغيرها‮ ‬جعلته يهز رأسه ضاحكًا‮. ‬ولكن بعد وقت طويل من البحث،‮ ‬اكتشف لي فو أن جميع الدلائل تشير إلي أنه أمام حالة مستعصية؛ لأنه‮ ‬لم يجد أي شيء يُدله علي عناوين الخطابات‮ ‬التي تُرسل إلي شيه بوه ماو،‮ ‬علي الرغم من كل ما دونه في دفاتره الصغيرة علي مدي ثلاثين عامًا،‮ ‬من أسماء أماكن ذهب إليها‮. ‬لم تُحل مشكلة هذا الخطاب،‮ ‬فبعد أسبوعين‮ ‬رُد إليه خطاب مرسل إلي شيه بوه ماو،‮ ‬مما شغل باله،‮ ‬وزاد من دهشته‮. ‬ومن ثم،‮ ‬فكل أسبوعين أو ثلاثه تقريبًا،‮ ‬تُرسل خطابات لشيه بوه ماو،‮ ‬بعناوين مختلفة لا يستدل عليها،‮ ‬وتكون كلها مكتوبة بنفس ذلك الخط المنمق الصغير،‮ ‬ومن أمثلة تلك العناوين:زقاق المئة قطة،‮ ‬شارع تشينع جوانغ‮ ‬يوان،‮ ‬شارع دي بو،‮ ‬شارع دجو باو،‮ ‬معبد آن له،‮ ‬شارع مدينة الزيت الكبير،‮ ‬متجر ساو خوا‮...... ‬فهل إرسال تشين،‮ ‬لتلك الخطابات هو مجرد مكيدة؟

2

شيه بوه ماو هو صديق تشين إيي شين الجديد‮. ‬تبدو كلمة"صديق‮"‬،‮ ‬كلمة‮ ‬غريبة بعض الشيء ؛ولكن إذا دققت النظر ستجد أن لها استخدامات عديدة ومتنوعة‮. ‬كان الجميع في طفولتهم يلقبون‮ "‬الصديق الصغير‮"‬،‮ ‬وحين يخاطب المذيع المشاهدين في التلفاز يقول لهم‮ "‬أصدقائي المشاهدين‮"‬،‮ ‬ويُنادي البائع الزبائن في مراكز التسوق قائلاً‮ :"‬صديقي المشتري‮"‬،‮ ‬وإذا كان الشخص‮ ‬غريبًا جديدًا في مكان ما يلقبونه‮ "‬الصديق الجديد‮"‬،‮ ‬فإن‮ ‬كلمة صديق‮ ‬كلمة شائعة الاستخدام‮. فدائمًا ما نذهب مع‮ "‬بعض الأصدقاء‮" ‬لمشاهدة المباراة،‮ ‬أو‮ ‬لاحتساء الشاي،‮ ‬أما في ساحة العمل وماتحتويه من تبادل منافع أو خصومة،‮ ‬فنجد أن‮ "‬كلمة صديق‮" ‬مستخدمة أيضًا،‮ ‬وحتي قبل تشاجر الأطفال في الشارع،‮ ‬يمكنهم أن يتبادلوا اللوم‮ ‬قائلين هذا الصديق فعل كذا وكذا‮.. ‬وطبعًا،‮ ‬هي‮ ‬كلمة‮ ‬تطلق أيضًا علي‮ ‬العلاقة التي تَجمع بين الرجل والمرأة،‮ ‬فيقال صديق أو صديقة‮. ‬كما يوجد أيضا كلمة رفيق الكفاح؛ علي سبيل المثال الزعيم ماو زي دونغ‮ ‬وصديقه‮ (‬2‮) ‬تچيانغ‮ ‬تچيه شي‮... ‬الخ الخ‮. ‬خلاصة القول،‮ ‬فإن أصدقاء تشين إيي شين كثيرون جدًا،‮ ‬ويُعَد شيه بوه ماو واحدًا من أبرزهم‮. ‬وقد تعرف عليه بفضل ابنته الصغيرة‮. ‬إن ابنة تشين إيي شين‮ ‬والتي لم تتجاوز خمس‮ ‬سنوات بعد،‮ ‬لها صديق وهمي اسمه في يوه؛لا أحد يعرف إذا كان إنسانًا أم كائنا آخر،‮ ‬فحتي نوعه أو عمره‮ ‬غير معروفين‮. ‬وكان تشين إيي شين يحسد ابنته علي هذا الصديق الحميم؛ لأنها كانت دائمًا ما تلقي عليه التحية أو تهمس متحدثة إليه،‮ ‬بل وتشاركه مشاعرها كلها؛‮ حتي وهي‮ ‬تشرب اللبن،‮ ‬تستيقظ من نومها،‮ ‬تلعب،‮ ‬أو وهي ذاهبة في طريقها‮ ‬إلي الحضانة،‮ ‬وحتي وهي تتناول طعامها أو تتنزه في حديقة الحيوان فهي تتحدث إليه‮.‬
‮ ‬لاحت فجأة إلي تشين إيي شين بعض الأفكار الجهنمية،‮ والتي أستوحاها من‮ ‬ابنته‮. ‬فعندما كان مستلقيًا علي الكنبة ذات يوم،‮ ‬وفتح عينيه فجأة،‮ ‬رأي الستائر تتطاير في الأُفق،‮ ‬وكأنه الموت يعكس ظلاله عليه‮. ‬كما أن زميليه في العمل يجلسان وجها لوجه‮ ‬يضحكان علي شيء ما رآه علي الإنترنت‮. ‬وصوت‮ أوراق الكوتشينة المنبعث من الحجرة المجاورة،‮ ‬خافت ولكنه مؤثر‮. ‬كان بهاتفه الجوال بضع رسائل لم تُقرأ بعد،‮ ‬ومن المحتمل أن يكون ضمنها رسائل من زوجته‮ ‬تسأله‮ ‬فيها،‮ ‬عمن منهما سيذهب لأخذ ابنته من الحضانة،‮ ‬أو رسائل إعلانات عن‮ ‬منتجات جديدة‮. ‬وكانت شبابيك دردشة‮ (‬3‮)‬ا‮ ‬ QQ ‮ ‬الخاصة بزملائه في المدرسة،‮ ‬وزملائه في الشركة وأصدقائه من بلدته،‮ ‬لا تتوقف عن اعطاء إشارات‮. ‬وكانت صفحات كثيرة من‮ (‬4‮)‬مدونة وي الخاصة به كانت مفتوحة‮. ‬
فجأة اعتملت‮ ‬بداخل تشين إيي شين مشاعر طفولية جياشة،‮ ‬فهو أيضًا يريد أن يصبح له صديق خيالي مثل صديق ابنته الوهمي‮ ‬في يوه‮. ‬كل شيء كان يسير‮ ‬كالمعتاد،‮ ‬تمامًا‮ ‬كمياه نهر‮ ‬متدفقة‮. ‬
فتشين إيي شين‮ ‬يرغب بصديق يكون بصحبته دائمًا،‮ ‬يجعله صافي النفس والوجدان،‮ ‬ولا يراه‮ ‬أحد سواه‮. ‬فعندما كان ينهض تشين إيي شين من علي الأريكة،‮ ‬خطر بباله اسم شيه بوه ماو،‮ ‬وبدون مقدمات وبشكل مفاجيء،‮ ‬انبثقت في مخيلته صورة لهذا الصديق؛ فهو آت من‮ ‬عصر قديم،‮ ‬من العصر الذي كان يعيش فيه‮ (‬5‮) ‬شيه آن‮ ‬أو عصر الشاعر‮ (‬6‮) ‬شيه لينغ‮ ‬يوين،‮ ‬بل وأنه يسكن في مكان ما في مدينة نان تچينغ،‮ ‬ومن حسن الحظ أنه بات صديقه‮. ‬بعد ذلك‮ ‬شعر تشين إيي شين بتحسن شديد طوال اليوم‮. ‬وكأن نكهة مختلفة قد أُضيفت‮ ‬لحياته،‮ ‬لم يتغير شيء مما كان يفعله أو يقوله،‮ ‬سوي أنه أصبح يتبادل‮ ‬آراءه ووجهات نظره مع صديقه الجديد شيه بوه ماو‮. ‬فكلما تَذكر ابنته،‮ ‬ارتسمت علي شفتيه ابتسامة؛ لأنه يشعر بسعادة طفولية مثلها تمامًا‮. ‬ففي اجتماعات العمل في الصباح،‮ ‬أو احتساء الخمر ليلاً،‮ ‬أو حتي عند إصابته بالأرق،‮ ‬جعلته يَتعرف أكثر علي شيه بوه ماو ويفهمه؛ فهو يَبلغ‮ ‬نفس عمره تقريبًا‮. ‬ويعاني من‮ ‬التهاب في مفاصل الأكتاف‮. ‬كما أنه يُحب قراءة الروايات التاريخية،‮ ‬ومشاهدة الأفلام الأجنبية وخاصة الرومانسية منها؛ لأن كليهما يؤثران فيه للغاية‮. ‬ولكنه يسأم كثيرًا من بعض المواضيع التي تظهر له وهو يتصفح الإنترنت؛ كمؤشر الأسعار للمستهلكين،‮ ‬والأبراج،‮ ‬وغيرها من مواضيع مشابهة‮. ‬كما أنه يحب التدخين ويشرب القليل من الخمر‮. ‬لا يحب رؤية الناس الذين يرتدون‮ (‬7‮)‬زي التانغ‮ ‬في المناسابات الرسمية،‮ ‬وأيضًا يستاء كثيرًا من أولئك الناس الذين يبدأون الحديث في الندوات،‮ ‬لإبداء تعليقاتهم وآرائهم‮. ‬
لم يستطع تشن إيي شين تَجنب التفكير في ابنته،‮ ‬فكل مرة‮ ‬ترغب فيها اللعب لوقت أطول بالألعاب الموجودة علي‮ ‬جهاز الكومبيوتر،‮ ‬أو تأكل المزيد من‮ (‬8‮)‬شوكلاتة فيريرو روشيه،‮ ‬أو تلبس فستانها الصيفي الجميل،‮ ‬تتناقش بصوت ناعم منخفض مع صديقها الوهمي في يوه،‮ ‬ثم تعلن عما سوف تفعله باسميهما‮. ‬ليس من الغريب أن‮ ‬تكون طباع‮ ‬شيه بوه ماو قريبة جدًا من طباعه،‮ ‬وكأنهما فولة وانقسمت إلي نصفين‮. ‬هز تشين إيي شين رأسه مبتسمًا،‮ ‬عندما استشف هذا من‮ ‬حال ابنته مع صديقها الوهمي‮.‬

3

انزعج موظفو‮ ‬مصلحة السجل المدني،‮ ‬من فرط ذهاب لي فو إلي هناك‮. ‬إن العناوين التي يُرسل عليها الخطابات الموجهة إلي شيه بوه ماو،‮ ‬لا يُستدل عليها؛ لأن منها عناوين لأماكن‮ ‬أصبحت مزارات تاريخية،‮ ‬وبعضها قديم جدًا ولم يكن له أثر،‮ ‬حتي قبل إعلان جمهورية الصين الشعبية،‮ ‬وأخري قد تغيرت بسبب توسيع الشوارع،‮ ‬أو بسبب إنشاء شوارع أخري جديدة في السنوات العشر الأخيرة،‮ ‬وبعضها قد تحول إلي مدارس مهنية،‮ ‬وغيرها إلي مراكز إدارية،‮ ‬ومنها ما بُني مكانها مراكز تجارية مشهورة‮ ‬مثل‮ (‬9‮) ‬كارفور‮. ‬تَبدلت ملامح الأماكن القديمة كلها،‮ ‬وحلت محلها أخري جديدة مختلفة‮. ‬المعلومة‮ ‬الوحيدة التي استطاع أن يتوصل إليها‮ ‬لي فو بالنسبة للمرسل إليه‮:"‬شيه بوه ماو"؛ فقط هي أن‮ ‬بمدينة نان تچينغ‮ ‬أشخاصا،‮ ‬يحملون‮ ‬نفس الاسم،‮ ‬وعرف لي فو ذلك‮ ‬عندما ذَهب‮ ‬إلي السجل المدني ليسأل عن أي خيط يدله علي عنوان شيه بوه ماو،‮ ‬فحينها‮ ‬أخبرته بذلك‮ ‬موظفة عابسة الوجه تجلس أمام الحاسوب‮. ‬فعندما رأت‮ ‬الفتاة،‮ ‬وجه‮ ‬لي فو‮ ‬قد انطفأ وبدا عليه الإحباط‮. ‬هزت رأسها وسألته‮:"‬هل لشيه بوه ماو‮ ‬حساب علي الإنترنت؟،‮ ‬مدونة خاصة به؟،‮ ‬أو صورة تذكارية جماعية لتخرجه؟‮. ‬يمكنك أن تستعين بمحرك بحث‮ (‬10‮) "‬رو وانغ‮" ‬في البحث عنه‮. ‬فبغض النظر عن مكانه،‮ ‬فحتمًا سوف تجده،‮ ‬إذا كان لديه مثل هذه الأشياء علي شبكة الإنترنت‮". ‬لم يستوعب لي فو تمامًا ما قالته‮ ‬الموظفة،‮ ‬ولكنه شكرها،‮ ‬ثم دَون العناوين الأربعة التي أعطتها إياه،‮ ‬وقرر أن يذهب للبحث عن شيه بوه ماو‮. ‬
في أولي‮ ‬محطات بحثه عن شيه بوه ماو،‮ ‬دعونا نقول شيه بوه ماو الأول،‮ ‬قالت زوجته للي فو،‮ ‬بلهجة عدائية حادة،‮ ‬وهي تلوح في وجهه بمغرفة قَلي الطعام،‮ ‬أن شيه بوه ماو ليس لديه أصدقاء من الأصل،‮ ‬وهو الآن خارج البلاد في‮ ‬مهمة عمل،‮ ‬ثم أغلقت الباب بعنف في وجهه‮. ‬أما شيه بوه ماو الثاني‮ ‬فهو مساعد مُدير محل متخصص في بيع‮ ‬الماركات المشهورة للمستلزمات‮ ‬الرياضية،‮ ‬يَضع في أُذنيه سماعات،‮ ‬ويبدو أنه يتواصل مع شخص ما سرًا من خلالها في أغلب وقته‮. ‬فأخذ الرجل الخطاب بخفة بأصابعه،‮ ‬ثم‮ ‬غمز إلي بائعة جميلة بالمحل،‮ ‬قائلا‮:"‬يالها من مزحة سخيفة‮!". ‬وعندما علم‮ ‬أن للي فو ابنا حديث العمل،‮ ‬تقمص في الحال دور البائع المحترف،‮ ‬وحاول إقناع لي فو بشراء حذاء كرة سلة جديد لابنه،‮ ‬وقال له أن هذا الحذاء يُباع في الصين وفي الأسواق الأمريكية في نفس الوقت،‮ ‬وأن يوجد منه عدد محدود جدًا،‮ ‬ومدبج بداخله بلوتوث لقياس السعرات الحرارية‮ ‬في الجسم،‮ ‬كما أن نعله مزود بوسادة هوائية،‮ ‬لتريح القدمين،‮ ‬ثم أضاف قائلا أن بوسعه منحه‮ ‬تخفيض‮ ‬12٪‮.‬

أما شيه بوه ماو الثالث،‮ ‬فكان يعبر ملعبًا ضخمًا،‮ ‬حاملًا تلميذًا صغيرًا،‮ ‬ويجر حقيبة مدرسية ثقيلة‮. ‬وعندما سمع أن هناك خطابًا له،‮ ‬أبطأت خطاه،‮ ‬وأحمرت وجنتاه،‮ ‬بل وأيضًا بدا عليه الوقار،‮ ‬ثم نظر‮ ‬إلي بعض‮ ‬زملائه الذين كانوا يقفون علي بعد خطوات منه،‮ ‬وسأل بصوت عال مسموع‮:"‬ممَن هذا الخطاب،‮ ‬هل أرسله تساو مينغ؟ أم ليو بانغ؟،‮ ‬فقد أرسلت لكل منهما خطابًا في نفس الوقت،‮ ‬وتراهنت مع كل منهما،‮ ‬أن الآخر سيرد علي خطابي أولاً،‮ ‬فمن المؤكد أن إحدهما قد رد علي خطابي‮! ‬ولكن‮ .....‬ما أرسلته كان عبر البريد الإلكتروني‮ ‬وليس خطابًا عاديًا عبر البريد‮". ‬بعد انتهاء لي فو من عمله،‮ ‬عزم علي الذهاب للبحث عن شيه بوه ماو الرابع‮ ‬والأخير،‮ ‬والذي كان يسكن في‮ ‬شمال الصين‮ ‬بمنطقة‮ ‬للصناعات الكيميائية‮. ‬لم يتوقع لي فو أن يكون الطريق شاقًا وطويلًا هكذا،‮ ‬وكأنه طريق لا نهاية له،‮ ‬وكادت السماء أن تظلم عليه‮. ‬وعندما وصل لي فو وجد شيه بوه ماو‮ ‬يُحمي كلبه من فصيلة السامويد،‮ ‬ووسط صوت المجفف العالي،‮ ‬عبر له عن استيائه مستخدما لهجة تدل علي أنه شخص ذو خبرة،‮ ‬وقد مر‮ ‬بالكثير من التجارب في الحياة،‮ ‬وقال‮:" ‬أصبحت طرق الخداع والغش الآن أكثر أناقة عن ذي قبل‮". ‬أمازال يجرؤ علي كتابة خطابات‮! ‬هل تعرف أمه‮ ‬من الأصل كيف تستخدم فرشاة الخط‮!‬،‮ ‬يالها من طريقة جديدة ومبتكرة‮!! ‬من فضلك مزق هذا الخطاب بدلًا مني‮". ‬أبتلع لي فو حزنه بداخله،‮ ‬ولم يخبر به أحدا‮. ‬كانت زوجته دائماً‮ ‬ما توبخه بشكل فج وتسبه،‮ ‬بل وتصفه بأنه‮ "‬مريض نفسي‮".‬أما ابنه فكان يخجل من أن يذكر وظيفته أمام الناس‮. ‬وحتي زملاؤه في العمل فكانوا يختلفون عنه كثيرًا،‮ ‬معظمهم شباب،‮ ‬يحبون التحدث حول مباريات الإتحاد الأوروبي لكرة القدم،‮ ‬أو ألعاب الكمبيوتر،‮ ‬أو المكافآت التي سيحصلون عليها في العمل‮. ‬فإذا ذهب‮ ‬وتحدث معهم حول موضوع‮ "‬شيه بو ماو‮"‬،‮ ‬فسيختفون من أمامه كسرب من الطيور تلاشي في أحضان السماء‮. ‬قرر لي فو أن يغير طريقة تفكيره،‮ ‬وأن يبحث عن‮ "‬راسل الخطاب تشين‮" ‬بدلًا من الُمرسل إليه شيه بوه ماو‮. ‬كانت الحروف المكتوبة علي الظرف من الخارج‮ ‬متوسطة الحجم مما يجعلها مريحة للعينين عند قراءتها،‮ ‬فكان لي فو يحدق فيها،‮ ‬ويلمسها‮ ‬بلطف مرارًا وتكرارًا‮. ‬ولكنه لم يتمكن‮ ‬من رؤية ما بداخل الظرف،‮ ‬تحت الضوء؛ لأن الظرف كان مصنوعًا من ورق الكرافت السميك،‮ ‬ولكن استطاع لي فو‮ ‬أن يخمن أن بداخله ورقتين أو ثلاثا‮. ‬وفي هذه اللحظة مر زميله بجواره،‮ ‬وتهكم عليه قائلاً‮" ‬افتحه وأنظر ما بداخله‮!". ‬نعم‮... .‬يمكن أن‮ ‬يفتحه لي فو بكل سهولة ليري ما بداخله،‮ ‬وحينها سيعرف حقيقة الأمر،‮ ‬حتي بدون أن يترك أي أثر يدل علي أن هذا الخطاب سبق فتحه،‮ ‬فهو‮ ‬يعرف طريقة ما يعيد بها‮ ‬الشق الذي سيحدثه فتح الخطاب في الختم الموجود أعلي‮ ‬الظرف‮. ‬ولكن لا يمكنه فعل ذلك،‮ ‬لا يمكنه أبدًا استغلال‮ ‬وظيفته في فتح الخطاب دون إذن وفي السر،‮ ‬ثم يقوم بطمس آثار‮ ‬ما فعله،‮ ‬ولكنه لايحب‮ ‬فعل مثل هذه الأمور علي الإطلاق،‮ ‬فعلي الرغم من أن هذا الخطاب يعد ميتًا ولم يستدل علي صاحبه،‮ ‬إلا أنه مازال خطابًا،‮ ‬له احترام وقوانين،‮ ‬وفتح الخطاب بهذه الطريقة‮ ‬سيكون نوعًا من الغش وعدم الأمانة من وجهة نظره‮. ‬رفض لي فو أن يفتح الخطاب‮.‬
في وقت راحة الظهيرة،‮ ‬حمل لي فو حقيبته الخضراء الصغيرة،‮ ‬وركب دراجته باحثًا عن مكتبة موجودة بجنوب المدينة‮. ‬فوجد‮ ‬واحدة في شارع تچين شا تچيانغ‮. ‬ولكنها كانت تَعج بالطلاب‮ ‬عندما دخلها،‮ ‬كان الطلاب ينقون‮ ‬من بين أنواع‮ ‬الأقلام المختلفة‮: ‬أقلام جرافيت،‮ ‬أقلام ماركر،‮ ‬أقلاما‮ ‬ملونة،‮ ‬وأقلاما ذات رائحة‮. ‬وكان هناك بضع فتيات‮ ‬صغيرات حائرات‮ ‬في اختياراتهن بين الأشكال والرسومات الجذابة للكراسات والدفاتر الصغيرة،‮ ‬وحتي لي فو نفسه أعجبته تلك الدفاتر كثيرًا‮.‬
بحث لي فو‮ ‬مطولاً‮ ‬عما يريد شراءه ولكنه لم يعثر عليه،‮ ‬فسأل أحد بائعي المكتبة،‮ ‬فأشار له البائع إلي الجزء‮ ‬السفلي لرف عال‮. ‬أخيرًا وجد‮ ‬لي فو الأظرف والأوراق المخصصة لكتابة الخطابات،‮ ‬ولكنه‮ ‬لم يحتر في الاختيار بينها؛ لأنه لم يكن هناك سوي نوعين فقط،‮ ‬عاديين جدًا،‮ ‬ورديئين أيضًا‮. ‬لا حظ‮ ‬لي فو أن‮ "‬تشين‮"‬،‮ ‬راسل ذاك الخطاب يستخدم نفس هذا النوع من الأظرف الموجودة،‮ ‬والمصنوعة من ورق الكرافت‮. ‬لم يجد لي فو‮ ‬سببًا لشعوره المفاجيء بالتعاطف مع مرسل الخطاب؛ ربما لأنه يجلس مثله القرفصاء‮ ‬ليختار من بين هذه الأظرف القبيحةَ‮!‬،‮ ‬إنه حقًا أمر صعب‮. ‬جلس لي فو القرفصاء في إحدي الزوايا الهادئة،‮ ‬حتي شعر بتنميل في قدميه‮. ‬ولكنه لم يصادف أي زبائن آخرين‮. ‬نعم لم‮ "‬يصادف‮" ‬أيا منهم‮. ‬سبح لي فو‮ ‬في خياله،‮ ‬وأخذ يفكر إذا كانت هناك‮ ‬طريقة ما،‮ ‬تجعله يلتقي بمرسل الخطاب تشين‮. ‬قرر أن يبحث عنه في أماكن أخري‮. ‬عندما بحث لي فو‮ ‬عن أختام الطوابع الموجودة علي أظرف تلك الخطابات‮ (‬ختم الطابع‮: ‬هو الختم الذي يُطبع علي طابع البريد،‮ ‬ليوضح المكان الذي أرسل منه الخطاب‮)‬،‮ ‬اكتشف‮ ‬أن‮ ‬كل الأظرف هذه الخطابات تحمل الختم الخاص بمكتب بريد چونغ‮ ‬خوا مين،‮ ‬إلا خطابا واحدا‮. ‬عادة ما يكون علي ختم الطابع‮ ‬أرقام صغيرة،‮ ‬فمن خلال هذه الأرقام يمكن تتبع الخطابات‮. ‬
من الواضح أن هذه الخطابات قد وضعت في صناديق البريد الموجودة علي أبواب مكاتب البريد أو قاعات العمل‮. ‬ذهب‮ ‬لي فو إلي‮ ‬مكتب البريد لأيام متتالية؛ وذلك لاقتراب موعد إرسال الخطاب التالي،‮ ‬فكان إما يجلس‮ ‬بهدوء علي إحدي الطاولات المخصصة لكتابة الخطابات في‮ ‬قاعة مكتب البريد،‮ ‬ويتفحص المارة‮. ‬أو يقف في الشارع المواجه لمكتب البريد،‮ ‬محدقًا بعينيه‮ ‬إلي صناديق البريد،‮ ‬تمامًا كما يحدق الصقر بعينيه قبل أن ينقض علي فريسته‮. ‬ولكنه سرعان ما أدرك أن ما يفعله لن يؤدي به إلي أي نتيجة‮. ‬لأنه لا يوجد شخص بين الحضور مكتوب علي جبينه تشين،‮ ‬أو حتي يكتب خطابا منمق الكلمات بالفرشاة المخصصة لذلك،‮ ‬فكل شخص موجود يحتمل أن يكون هو أو لا يكون‮.‬
ذات يوم،‮ ‬انتظر لي فو حتي الساعة الخامسة والنصف مساءًا،‮ ‬وفجأة رأي موظف‮ ‬البريد يفتح صندوقًا صغيرًا للبريد،‮ ‬ويخرج منه خطابين فقط‮. ‬فكان إحدهما‮ ‬مكتوبًا عليه بخط أكبر من حبات الفول،‮ ‬وموجهًا إلي مكتب شكاوي المجلس الوطني لنواب الشعب الصيني،‮ (‬11‮) ‬بمقاطعة تيچيانغ‮ ‬سو،‮ ‬كما كان هناك أيضًا‮ ‬كلمتان مكتوبتان بشكل خاطيء‮. ‬أما الخطاب الثاني فلم يكن عليه ختم،‮ ‬وكان بداخله ورقة يانصيب قديمة مهلهلة‮. ‬تنهد لي فو،‮ ‬واستشف أن تشين مرسل‮ ‬الخطاب شخص حذر وغير سهل بالمرة،‮ ‬يطارد شيه بوه ماو عن طريق إرسال هذه الخطابات،‮ ‬فلابد أن يكون هناك أمر ما خطير وضروري‮.‬

4

‮ ‬يرجع الفضل لابنة تشين إيي شين أيضًا،‮ ‬في أن تجعله يكتب أول خطاب حقيقي لشيه بوه ماو‮. ‬عممت حضانة ابنته مؤخرًا،‮ ‬نظامًا تعليميًا‮ ‬يعرف باسم‮ "‬منهج موتسري التعليمي"؛ وهو منهج‮ ‬يساعد الطفل علي إطلاق العنان لمهاراته وتطويرها‮. ‬فمثلًا كان واجب ابنته اليوم،‮ ‬هو أن يحضر لها والداها‮ ‬ورقة،‮ ‬واثني عشر لونًا مختلفًا،‮ ‬ثم يتركاها ترسم ما يحلو لها بحرية‮. ‬في المساء أصبح كل شيء في البيت مبعثرا وغير مرتب،‮ ‬فكانت الجرائد متناثرة علي الأرض،‮ ‬وابنة شين إيي شين تلعب مع صديقها الوهمي،‮ ‬حتي تعبت وغلبها النوم‮. ‬فذهبت زوجة تشين إيي شين لتحمل الفتاة بينما كان هو يحاول ترتيب آثار الفوضي التي أحدثتها ابنته،‮ ‬وعندما كان يعيد الأشياء المبعثرة إلي أماكنها مرة أخري،‮ ‬التقط قلمًا من أقلام الألوان الموجودة،‮ ‬ولف رأس سنه القلم،‮ ‬فتدفق منه حبر كثيف أزرق نيلي اللون،‮ ‬وأخذ يكتب به‮ ‬علي الجريدة‮.‬
‮ ‬كان تشين‮ ‬إيي شين يستطيع أن يكتب الرموز بطريقة منمقة وجميلة،‮ ‬فقد سبق له وتعلم الخط الصيني علي يد أستاذ خط‮ ‬لمدة عامين ونصف عندما كان في الجامعة،‮ ‬ولكنه لم يستمر بسبب‮ ‬انشغاله بزواجه‮ ‬وظروف عمله أيضًا‮. ‬وفجأة جعلته تلك الرموز الصينية التي كتبها علي الجريدة يشعر بوهج خافت لشعور قديم،‮ ‬فلم يتذكر أيام الجامعة أو الحنين إلي‮ ‬شبابه فحسب،‮ ‬بل تذكر أيضًا أنه قد قطع شوطًا كبيرًا في هذه الدنيا وتقدم به العمر،‮ ‬فانتابه شعور‮ ‬غريب‮.‬
اندهش تشين إيي شين كثيرًا،‮ ‬عندما اكتشف وهو يرمي تلك الجرائد القديمة،‮ ‬أن الرموز التي كتبها‮ ‬كلها علي الجريدة بالحبر الأزرق،‮ ‬ما هي إلا اسم شيه بوه ماو،‮ ‬بشكل متكرر‮. ‬وكأن شيه بوه ماو قد سيطر علي تفكيره كليًا،‮ ‬بل وكأن لديه كلامًا كثيرًا‮ ‬يود أن يحكيه له‮. ‬فقرر بعد تردد،‮ ‬أنه من الأفضل أن يفضي له بما يجول بخاطره،‮ ‬ويقول له عن الأشياء التي تشغل باله‮. ‬
كان أول شيء فعله تشين إيي شين في اليوم التالي،‮ ‬هو أنه اشتري أوراقًا وأظرفًا مخصصة لكتابة الخطابات،‮ ‬لم تكن ذات جودة عالية،‮ ‬ولكنه لم يبال بذلك؛ لأن الأهم بالنسبة إليه هو فحوي الخطاب نفسه‮. ‬عندما استلقي تشين إيي شين علي الأريكة وقت راحة الظهيرة،‮ ‬كان يفكر مترددًا،‮ ‬في محتوي الخطاب الذي سيرسله إلي شيه بوه ماو‮. ‬ثم فجأة نهض من مكانه،‮ ‬وحول رنين جواله إلي صامت،‮ ‬وغير‮ ‬وضع حالته علي‮ ‬برامج الدردشة‮ ‬QQ ‮ ‬إلي‮ ‬غير موجود،‮ ‬وخرج من كلتا صفحتي‮ ‬بريده الإلكتروني ومدونته الخاصة،‮ ‬ثم رفع سماعة التليفون ووضعها جانبًا،‮ ‬حتي لا يزعجه أحد‮. ‬ومع ذلك لم يكن مافعله مُجديًا بالمرة؛ لأن عقله كان مازال خاويًا من الأفكار‮. ‬جلس تشين إيي شين علي الأريكة ساهمًا،‮ ‬وبدون أن يشعر أخذ يكرمش بيده جلد الأريكة،‮ ‬فهو لا يعرف إذا كان‮ ‬يإمكانه اليوم كتابة ذلك‮ ‬الخطاب أم لا؟،‮ ‬لأنه لايدري إذا كان لديه ما يفصح به من كلمات لم يصرح بها لأحد من قبل؟ أم‮ ‬وجدانه خالٍ‮ ‬من الأصل؟‮. ‬حقًا هو لا يُقارن بابنته‮. ‬في النهاية لم يكتب شيئًا في الخطاب،‮ ‬فقط‮ ‬طوي ورقتين أو ثلاثًا فارغة،‮ ‬وأدخلها جيدًا في‮ ‬الظرف،‮ ‬ومع ذلك‮ ‬لم يشعر قلبه بأي أسي‮. ‬فشيه بوه ماو صديق حميم له،‮ ‬وأمر مفروغ‮ ‬منه أن يفهم‮ ‬جيدًا ما يقصد أن يقوله له‮.‬
‮ ‬استخدم‮ ‬تشين إيي شين ختمًا‮ ‬لاصقًا،‮ ‬بينما‮ ‬كان يفكر بهدوء،‮ ‬في الطرق المختلفة‮ ‬لطي الخطاب‮. ‬فمثلاً‮ ‬بعد أن يطويه ثلاث ثنيات عمودية،‮ ‬يطويه مرة أخري بشكل أفقي‮. ‬ثم يعيد طيه مرة أخري بشكل عمودي‮. ‬فعندما كان في المرحلة الإعدادية كان لديه زميل بارع‮ ‬في طي الورق،‮ ‬حتي إنه كان يصنع به أشكالاً‮ ‬معقدة كثيرة،‮ ‬ومن ضمنها شكل‮ (‬12‮) ‬طائر الكراكي‮. ‬بل كان لديه أيضًا شغف شديد بطوابع البريد،‮ ‬فمنها ما يلصقه بالمقلوب ليعبرعن كلمة‮ "‬أنا أحبك‮"‬،‮ ‬ويمكنه أن يضع طابعين متقابلين فيتحولان إلي كلمة‮ "‬اشتقت إليك‮"‬،‮ ‬ويمكن أن يضع ثلاثة طوابع بشكل متتال،‮ ‬فتعبر عن جملة‮ "‬انتظر ردك‮". ‬وكان أيضًا لديه زميلة تطبع‮ ‬بشفتيها الملونة بالحمرة كأنه ختم للجواب،‮ ‬وكأنها تُرسل قبلة‮....... ‬ففي الحقيقة لم يكن تشين إيي شين‮ ‬معجبًا بهذه الألعاب،‮ ‬ولكنه فقط كان يتذكرها،‮ ‬وكأنه‮ ‬يحيي ذكري أشياء مضت‮. ‬كانت لحظة كتابة تشين إيي شين للعنوان الُمرسل عليه الجواب،‮ ‬من أسعد لحظاته؛ لأن حينها شعر بنشوة لا تضاهي،‮ ‬وكأنه شخص يحضر احتفالاً‮ (‬بل هو في احتفال بالفعل‮). ‬بمدينة نان تچينغ‮ ‬أسماء أماكن كثيرة قديمة محببة إلي قلبه،‮ ‬من ضمنها‮ ‬أماكن قد ذهب إليها لزيارة العديد من الأشخاص الذين يحبهم‮. ‬أغمض تشين إيي شين عينيه لوهلة،‮ ‬وأخذ يستدعي أسماء شوارع وأزقة قديمة،‮ ‬لم تعد‮ ‬موجودة منذ زمن‮: ‬ليو شيه،‮ ‬لي يو،‮ ‬جو خونغ‮ ‬چونغ،‮ ‬ووه تچينغ‮ ‬زي،‮ ‬كوين تسان،‮ ‬جان شي،‮ ‬چانغ‮ ‬جيه دونغ‮....‬،‮ ‬ثم كتب العنوان برضا علي الظرف،‮ ‬يبدو وكـأنه قد اخترع عنوانًا وهميًا،‮ ‬تمامًا كفكرة الخطاب كلها‮. ‬كان يمسك بيده فرشاة خط مصنوعة من شعر الماعز؛ وقد أكلتها الحشرات بسبب عدم استخدامها لفترة طويلة،‮ ‬وأصبح بالكاد يمكن‮ ‬استخدامها‮. ‬فبإمكانه‮ ‬شراء فرشاة جديدة بدلًا من هذه،‮ ‬ولكن تآكل الفرشاة القديمة بهذا الشكل،‮ ‬أمر مرح بالنسبة له؛‮ ‬ربما لأن بها شيئا ناقصا‮ ‬غير مكتمل،‮ ‬تمامًا مثل ما يريد كتابته،‮ ‬فهو يريد أن يقول شيئًا ما،‮ ‬ولكنه لا يدري ما هو‮.‬
لم يمض وقت طويل حتي باتت كتابة الرسائل عادة عند تشين إيي شين،‮ ‬فكانت الجوابات التي‮ ‬يرسلها مجرد ورق أبيض خال من الكلام،‮ ‬فكانت الفكرة‮ ‬التي يرنو إليها شاغفًا،‮ ‬هي‮ ‬تأليف عناوين وهمية،‮ ‬والتفكير في أخري قديمة لكل خطاب‮. ‬فكان عندما يمسك بتلك الفرشاة المتآكلة،‮ ‬ذات شعيرات طرية وجافة،‮ ‬ويبدأ في كتابة العنوان بها علي الظرف،‮ ‬يصدر منها صوت رقيق يشبه صوت حفيف الأوراق،‮ ‬وكأنه‮ ‬يترك أثرًا صغيرًا في هذا الكون‮. ‬
‮ ‬عندما‮ ‬خرج تشين إيي شين من بيته،‮ ‬ليضع هذا الخطاب في صندوق البريد،‮ ‬كان يبدو صندوق البريد وكـأنه فارغ‮. ‬كانت الأجواء ممتلئة بالضجيج والصخب عندما ألقي الخطاب في صندوق البريد،‮ ‬فوضع أُذنه علي الصندوق من الخارج؛ ليستمع إلي صدي صوت الخطاب الرقيق وهو يلامس قاعه،‮ ‬وكأنه يستمع إلي صوت طوبة أُلقيت في قاع بئر قديم،‮ ‬فتهاوت في الفضاء،‮ ‬مستمرة في السقوط،‮ ‬حتي اصطدمت بالأرض واخترقتها،‮ ‬مجتازة‮ ‬غلافها الجوي،‮ ‬وصلت إلي الفضاء الخارجي،‮ ‬ثم أخذت تدور حول القمر،‮ ‬زحل والمشتري،‮ ‬ثم سبحت مع النجوم المتلألئة في الفضاء،‮ ‬فإن شيه بوه ماو ينتظر هذا الخطاب في مكان ما‮. ‬كان تشين إيي شين مستمتعًا للغاية،‮ ‬بهذه المرحلة التي تتسم بالغرابة‮ ‬والانطلاق‮.‬
‮ ‬
5

لم يغب عن ذاكرة لي فو أبدًا،‮ ‬أن في عام‮ ‬87‮ ‬أو‮ ‬88‮ ‬تقريباً،‮ ‬كان هناك جواب مُرسل لشخص اسمه‮" ‬تشين چانغ‮ ‬جيه‮" (‬اسم شهرته‮: ‬دزيه يينغ‮)‬،‮ ‬وكان مكتوبًا علي الظرف بالطول بضعة‮ (‬13‮) ‬رموز معقدة،‮ ‬أما علي الخلف،‮ ‬فقد‮ ‬كان مكتوباً‮ ‬عليه‮ ‬بخط رديء متعرج هذه العبارة‮:" ‬يتوجه الجندي القديم من‮ ‬تايوان‮ ‬بالشكر إلي صاحب المثل العليا والسامية،‮ ‬الذي ساعدنا علي إيجاد أقاربنا وعائلتنا‮". ‬ولكن كان عنوان هذا الجندي قد تغير منذ فترة كبيرة،‮ ‬حتي أصبح قصر‮ ‬ثقافة العمال،‮ ‬والذي لم يفتتح قَط،‮ ‬وتحول فيما بعد إلي مطعم،‮ ‬ضمن سلسلة مطاعم الوجبات السريعة‮. ‬دَون لي فو هذه الواقعة في دفتره الصغير؛ لذلك فهو يتذكر جيدًا وبوضوح أنه قد عاني كثيرًا حينها،‮ ‬لأن موضوع هذا الخطاب استغرق منه‮ ‬خمسة أشهر‮ ‬من البحث المستمر‮. ‬وفي النهاية عثر لي فو علي‮ ‬الشخص المُرسل إليه الخطاب،‮ ‬فكانت امرأة عجوزًا ترقد في أحد مستشفيات الرعاية،‮ ‬ضامرة مثل اللوفة،‮ ‬لا يتوقف لعابها عن السيل،‮ ‬فقد أُصيبت بمرض الخرف‮. ‬كان‮ ‬ابنها الكبير ذو الوجه العابس،‮ ‬والمظهر‮ ‬غير المهندم،‮ ‬جالسًا بجانبها،‮ ‬حينما فتح الخطاب،‮ ‬وانهمرت دموعه فجأة،‮ ‬كشلال جار،‮ ‬بعدما قرأ بضعة سطور،‮ ‬ثم قال بصوت متقطع‮: "‬لماذا خدعتني؟،أنا عندي أب أليس كذلك؟‮". ‬فهذا الموقف كان أشبه بمشهد من مسلسل تليفزيوني،‮ ‬أثر في‮ ‬لي فو‮ ‬كثيرًا وجعل قلبه يئن من فرط الألم‮.‬
عادة ما تحدث أشياء وأمور عديدة،‮ ‬في هذه الدنيا الكبيرة المضطربة،‮ ‬تفرق بين الناس؛ بين الزوجة وزوجها،‮ ‬الأشقاء،‮ ‬الأب وابنه،‮ ‬وحتي بين الأصدقاء وبعضهم،‮ ‬فإنه حقًا شيء قاس وغير هين‮. ‬فهل فرقت الدنيا أيضًا بينك يا‮ "‬تشين‮" ‬وبين شيه بوه ماو؟،‮ ‬وهل شيه بوه ماو يدري أنك تبذل جهودًا مضنية في البحث عنه والوصول إليه؟،‮ ‬فأنا حقًا أريد‮ ‬أن أُساعدكما من كل قلبي،‮ ‬حتي يعثر كل منكما علي الآخر‮. ‬
ذات ليلة،‮ ‬رأي لي فو منامًا رائعًا،‮ ‬فحلم‮ ‬أن صوته يدوي عاليًا في الأفق،‮ ‬من خلال مكبر الصوت‮ :"‬الإذاعة تبحث عن شخص،‮ ‬الإذاعة الآن تبحث عن شخص،‮ ‬من فضلك يا رفيق شيه بوه ماو،‮ ‬احضر بسرعة إلي مكتب البريد‮". ‬وكان مكبر الصوت هذا يشبه تمامًا تلك المكبرات التي كانت موجودة قديمًا في المصانع،‮ ‬المناجم،‮ ‬المدارس،‮ ‬والمناطق الريفية‮. ‬من فضلك يا رفيق شيه بوه ماو‮......". ‬أَدرك لي فو مغزي ذلك الحلم،‮ ‬بعد أن استيقظ من نومه‮. ‬قد يكون‮ ‬شيه بوه ماو دخيلًا علي المدينة،‮ ‬ولذلك بياناته‮ ‬غير مسجلة بالسجل المدني هنا‮. ‬استعاد لي فو طاقته من جديد،‮ ‬فهو علي أمل أن ينجح في توصيل هذا الخطاب إلي صاحبه،‮ ‬قبل خروجه علي المعاش‮. ‬عندما دقق لي فو‮ ‬البحث عن العناوين المرسل إليها الخطابات الموجهة إلي شيه بوه ماو،‮ ‬اكتشف أن معظمها‮ ‬عناوين قديمة بجنوب مدينة نان‮ . ‬تچينغ‮: (‬14‮) ‬معبد فو زيه‮. (‬15‮) ‬منطقة نان بو،‮ ‬والبوابتان الشرقية والغربية،‮ ‬وكأن‮ ‬شيه بوه ماو يظهر ويختفي في تلك الأماكن‮.‬
‮ ‬بالطبع إن فكرة مكبر الصوت،‮ ‬فكرة‮ ‬غير واقعية بالمرة‮. ‬كان لي فو دائمًا ما يري شخصًا في المحطة يحمل لوحة مكتوبًا عليها أسماء الأشخاص الذين ينتظرهم،‮ ‬كما كان هناك أيضًا بائع،‮ ‬يقف‮ ‬في قارعة الطريق يرفع بيديه لوحة إعلانات إلكترونية ملونة للإعلان عن ثلاجات‮. ‬فاستوحي لي فو منهما تلك الفكرة،‮ ‬والتي‮ ‬رأي أن ليس‮ ‬بها ما يجعله يخجل من تنفيذها‮. ‬فسرعان ما أحضر فرخين من الورق الأبيض،‮ ‬يبلغ‮ ‬حجم كل منهما‮ ‬30‮ ‬أو‮ ‬40‮ ‬سنتيمترا مربعا،‮ ‬وكتب عليهما‮ ‬بخط أسود كبير‮ "‬شيه بوه ماو‮"‬،‮ ‬ثم ثقب ثقبين،‮ ‬ومرر حبلاً‮ ‬من خلالهما،‮ ‬وعلقمها علي كتفيه،‮ ‬حتي باتت اللوحة‮ ‬ظاهرة علي‮ ‬صدره وظهره،‮ ‬وهكذا يستطيع الناس رؤية الرموز الثلاثة المكتوبة علي اللوحة التي يعلقها سواء من الخلف أو الأمام،‮ ‬حتي ولو كانوا بعيدين عنه بمسافة كبيرة‮. ‬ومع ذلك،‮ ‬فهو لا يدري إذا كان المارة في الشارع المتفرقين سيرًا علي الأرصفة،‮ ‬منومين مغناطيسًا،‮ ‬أم أنهم‮ ‬غير مهتمين بالأمر،‮ ‬أم أصابتهم نوبة من‮ ‬الكسل‮ ‬فمنعتهم من السؤال عن شيء لا يعنيهم بالمرة‮. ‬جذب لي فو الأنظار إليه،‮ ‬في الشوارع التي تجول فيها كلها مثل‮: ‬شارع تشانغ‮ ‬له،‮ ‬شارع سان شان،‮ ‬جسر شوي جوان،‮ ‬طريق حديقة جان،‮ ‬ومع ذلك لم يسأله‮ ‬حتي ولو شخص واحد عن الأمر‮. ‬ومع ذلك‮ ‬لم تَفتر عزيمة‮ ‬لي فو قَط؛ لأنه كان مقتنعًا أن شيه بوه ماو شخص يستحق البحث عنه،‮ ‬وإلا ما كان‮ "‬تشين مرسل‮ ‬الخطاب‮"‬،‮ ‬بذل كل هذا المجهود الضخم في‮ ‬كتابة هذا الكم من الخطابات له؟‮. ‬فكان‮ ‬يفكر وهو يسير في طريقه،‮ ‬في الأشياء التي يحتاج إليها أي إنسان يعيش في مكان ما،‮ ‬فمثلًا‮ ‬ما هي الأماكن التي يحتاج الذهاب إليها،‮ ‬الأشياء التي يحتاج إلي شرائها،‮ ‬المأكولات التي يحب أن يأكلها،‮ ‬الأشياء التي يحب أن يراها أو التي يحتاجها‮......... ‬فربما يحتاج الذهاب إلي مثل هذه الأماكن‮: ‬فندق جاردينو،‮ ‬أو متجر سو جووه،‮ ‬أو ربما مكاتب خدمة العملاء التي تعمل طوال‮ ‬24‮ ‬ساعة،‮ ‬أو حتي مطاعم خوي وي المشهورة بتقديم أطباق البط الشهية‮. ‬أو حتي الذهاب إلي محطة المترو،‮ ‬المستشفي،‮ ‬مطاعم خاي لاو المشهورة،‮ ‬أو حتي إلي شركة الصين للاتصالات‮. ‬أي مكان سيذهب إليه،‮ ‬من المؤكد أنه سيكون داخل نطاق المدينة‮. ‬فربما أيضًا يذهب كل يوم بعد الانتهاء من عمله للتنزه،‮ ‬فالجو جميل وصاف‮. ‬
قد تُحفر الصخور بفعل قطرات الماء الصغيرة المتساقطة عليها،‮ ‬فجأة خطر علي بال لي فو‮ ‬هذا المثل‮. ‬ففي طفولته،‮ ‬كان دائماً‮ ‬ما يجلس القرفصاء تحت‮ (‬16‮) ‬إفريز البيوت العتيقة،‮ ‬ويسرح في ملكوت الكون،‮ ‬ويتأمل طويلًا‮ ‬في الصخور التي تآكلت بفعل سقوط قطرات الماء المتتالية عليها‮. ‬وأحيانًا كانت تهب رياح‮ ‬عاتية،‮ ‬فتهز الأحبال،‮ ‬وتقلب اللوحات،‮ ‬فيظهر منها ظهرها الأبيض الخالي من الكتابة‮. ‬فكان يجوب‮ ‬الشوارع ماشيًا علي قدميه،‮ ‬عندما‮ ‬يشعر بالرياح‮ ‬تضرب وجهه الصغير‮. ‬ارتسمت علي وجه لي فو ابتسامة ساخرة،‮ ‬عندما لاحت له صورة زوجته وهي تسبه قائلة‮:" ‬يالك من مريض نفسي‮"‬،‮ ‬ثم قال بصوت خافت‮: "‬ربما ما تقوله حقيقي‮". ‬فهو يعرف جيدًا أن لب الموضوع ليس البحث عن شيه بوه ماو،‮ ‬أو إعادة تلك الخطابات الميتة‮ ‬إلي الحياة مرة أخري‮. ‬ففي الحقيقة الأمر،‮ ‬أن الذي دفعه للمشي في الشوارع القديمة والأزقة الصغيرة،‮ ‬حاملًا حقيبته الخضراء الصغيرة،‮ ‬هو‮ ‬شعوره بحزن لا يستطيع تفسيره،‮ ‬أو‮ ‬الإعراب عنه‮ ‬بكلمات‮.‬

6


كان تشين إيي شين يجلس في‮ ‬إحدي المقاهي،‮ ‬ينتظر صديقًا له،‮ ‬يعيش في الخارج لم يره منذ خمسة عشر عامًا‮. ‬ولكنه كان يشعر بالضجر،‮ ‬لأن صديقه لم يأت بعد،‮ ‬بسبب تأخُر طيارته قليلًا‮. ‬فصديقه هذا كان الأقرب إليه،‮ ‬ولكنه لم يره منذ أن كانا يسكنان في مساكن الطلاب بالجامعة‮. ‬سحب تشين إيي شين ورقة،‮ ‬من الورق الذي كان موجودًا علي الطاولة،‮ ‬وأخذ يشخبط عليها بشكل عشوائي،‮ ‬وكـأنه يتبع منهج‮ "‬مونتسري التعليمي‮" ‬الذي تُطبقه حضانة ابنته‮. ‬فهو لم‮ ‬يحب اللعب في هاتفه الجوال،‮ ‬أو‮ ‬تصفح مجلات الإعلانات السميكة المملة‮ ‬أو حتي قراءة‮ ‬بعض الكتب،‮ ‬لقتل شعوره بالملل وطول الوقت،‮ ‬بل اعتاد منذ زمن،‮ ‬أينما كان‮: ‬في اجتماع،‮ ‬في ندوة،‮ ‬منتظرًا دوره‮ ‬في البنك،‮ ‬أو حتي في المحطة،‮ ‬أن يحمل ورقة وقلمًا ويسرح في عالم من الخطوط الذي يرسمها‮. ‬فإن التفكير في أشكال الانتظار،‮ ‬جعله يطلق تنهيدة تملؤها الحسرة‮. ‬إن الانتظار في الواقع،‮ ‬يشبه قطع البازل التي نضعها جنبًا إلي جنب‮. ‬انتظار الأشخاص،‮ ‬انتظار الأشياء،‮ ‬انتظار العلاقات،‮ ‬انتظار تفسير،‮ ‬انتظار البداية والنهاية‮. ‬فقد يبدو لنا أننا بإمكاننا اختيار هذه الاشكال من الانتظار أو تقريرها،‮ ‬تمامًا مثل اختيارنا للديمقراطية،‮ ‬وتقريرنا لمصيرنا،‮ ‬ولكن في الحقيقة‮ ‬أنها تكون مقررة سلفًا‮. ‬فلابد أن النتيجة التي ننتظرها ستظهر لنا في وقت معين،‮ ‬ولكن لا مفر من انتظارها‮.‬
أخيرًا ظهر صديق شيه إيي شين،‮ ‬بينما كان هو يرسم علي الورق‮. ‬الترحيب،‮ ‬مشاركة الذكريات الجميلة وما مضي،‮ ‬طلب الطعام،‮ ‬التنهد بحسرة،‮ ‬الشكوي أو التباهي‮. ‬فهذه المواضيع،‮ ‬يمكن التحدث فيها دون انتهاء،‮ ‬كما يمكن التوقف عن التحدث فيها فجأة‮. ‬ولأنها ليست مهمة للدرجة،‮ ‬فلن يكون ثمة فرق بين التحدث فيها وعدمه‮. ‬فكل منهما كان مشغولًا،‮ ‬لذلك كان من الأفضل أن يتقابلا مجددًا في المساء لتبادل الحديث كما يحلو لهما‮. ‬كما أنهما قررا دعوة بعض الأصدقاء المقربين‮ ‬لتناول الطعام،‮ ‬واحتساء القليل من الخمر‮. ‬بقي تشين إيي شين في المقهي،‮ ‬بعد أن‮ ‬غادر صديقه،‮ ‬وحينها شعر بفراغ‮ ‬غريب يملأ قلبه،‮ ‬فراغ‮ ‬أكبر من الذي شعر به قبل‮. ‬لم تتغير حالة تشين إيي شين،‮ ‬بل ازدادت سوءًا،‮ ‬حتي بعد لقائه‮ ‬بصديقه الحميم‮. ‬ولكنه علي الرغم من ذلك لم يُبالِ،‮ ‬ونادي علي النادل ليحضر له الحساب‮. ‬
أتته نادلة ذات شعر قصير،‮ ‬ترتدي نظارة سوداء الإطار،‮ ‬وناولته ورقة الحساب قائلة‮:"‬الحساب كله‮ ‬145‮ (‬17‮)‬ي وان،‮ ‬ويوجد‮ ‬12‮ ‬٪‮ ‬خصما‮. ‬فهل ستدفع نقدًا أم بالكارت يا سيدي؟‮". ‬اختلس‮ ‬تشين إيي شين نظرة‮ ‬إلي شعرها الأصفر،‮ ‬والمنديل الصغير المربوط علي رأسها والصديري الأزرق سماوي اللون الذي ترتديه،‮ ‬والببيونة الخضراء المربوطة علي عنقها‮. ‬فكان تشين إيي شين‮ ‬مغرمًا بمشاهدة‮ ‬الملابس الرسمية المتنوعة والمختلفة للعاملين بمختلف الأماكن،‮ ‬بدءًا من‮ ‬ملابس الأمن الواقف أمام الباب،‮ ‬إلي‮ ‬مدير النُدُلٌ‮ ‬الذي يقف علي باب قاعة الكاروكي،‮ ‬ويرتدي ملابس علي‮ ‬الطراز الغربي‮.‬
‮ ‬نَظرت إليه النادلة بابتسامة خافتة،‮ ‬وقالت له مترددة وهي تشير إلي الورق المكدس علي زاوية الطاولة‮: "‬أمازلت تريد هذا الورق؟‮.... ‬شيه بوه ماو‮...!!!!". ‬فجاوبها تشين إيي شين‮ : "‬لا‮... ‬لا‮ "‬،‮ ‬وهو يلملم الورق بسرعة،‮ ‬دون أن يدرك ما قام بكتابته‮ ‬منذ قليل‮. ‬ثم أضاف هذه جملة موضحًا لها‮:" ‬إن شيه بوه ماو‮ .....‬صديقي‮". ‬فقالت الفتاة وقد بدت تعابير وجهها‮ ‬غريبة بعض الشيء‮: "‬أليس قريبًا من هنا؟‮". ‬سحب‮ ‬تشين إيي شين النقود من جيبه‮ ‬ليدفع الحساب،‮ ‬وكان يهز رأسه،‮ ‬وهو يفكر في محتوي الخطاب القادم الذي سيرسله لشيه بوه ماو،‮ ‬لاسيما أنه نوي أن يكتب له عن الانتظار أو شيء من هذا القبيل‮. ‬ولت الفتاة وجهها تجاه النافذة قائلة‮:"‬من المؤكد أنه هو‮. ‬فالجميع هنا يعرفون شيه بوه ماو،‮ ‬فهو يمر من هذا الشارع نهاية نهار كل يوم‮". ‬نظر تشين إيي شين ببطء في نفس الاتجاه الذي نظرت إليه الفتاة،‮ ‬وحينها‮ ‬أوشك قلبه علي التوقف،‮ ‬من تسارع دقاته المفاجيء‮. ‬
كانت أوراق‮ (‬18‮) ‬شجر البارسول الصيني تتساقط مبعثرة علي‮ ‬كشك الجرائد والعجل القديم،‮ ‬الموجودين في الشارع المقابل للمقهي،‮ ‬ومع ذلك لم ينتبه تشين إيي شين إلي أن خريف هذا العام قد يكون قاسيًا‮. ‬بدأ تشين إيي شين في كتابة تلك الخطابات إلي‮ ‬لشيه بوه ماو منذ عام تقريبًا،‮ ‬ومع مرور وقت من كتابة الرسائل هذه،‮ ‬خُلق لديه شعور قوي بالحماسة‮. ‬فكتب له أنه علي وشك أن ينسي حبيبته التي رحلت عن الدنيا منذ زمن،‮ ‬وكتب وكأنه يطلق‮ ‬صرخات صامتة‮. ‬وكتب أيضًا عن الناس من حوله،‮ ‬وكم هم‮ ‬يشبهون النمل،‮ ‬يعملون بشقاء طوال الوقت،‮ ‬في مقابل‮ ‬الحصول علي نقطة صغيرة من العسل‮. ‬حتي إنه ذات‮ ‬ليلة،‮ ‬خفض فيها صوت التلفاز،‮ ‬وسلي‮ ‬نفسه بكتابة خطاب‮ ‬عن تناسل الحيوانات المفترسة في أفريقيا‮. ‬فلا يعقل أن شيه بوه ماو قد تحول إلي شخصية حقيقية موجودة علي أرض الواقع،‮ ‬من فرط كتابة خطابات له‮. ‬
سأل تشين إيي شين الفتاة قائلًا‮ :"‬كيف عرفت أنه‮ ‬شيه بوه ماو؟‮ "‬،‮ ‬فأجابته‮:" ‬منذ بضعة أشهر وهو‮ ‬يمر يوميًا من هنا،‮ ‬في الساعة السادسة تقريبًا،‮ ‬معلقًا لوحة‮ ‬كبيرة،‮ ‬مكتوبًا عليها شيه بوه ماو‮". ‬كانت أصابع النادلة رقيقة،‮ ‬طويلة وجميلة الشكل وهي‮ ‬تلملم أطباق الطعام‮. ‬أُصيب تشين إيي شين بحالة من الدهشة طوال اليوم،‮ ‬جعلته يفقد شعوره بجسده،‮ ‬وأصبحت عيناه تري كل شيء مزدوجًا وغير واضح،‮ ‬حتي لاحظت إحدي زميلاته ما ألم به،‮ ‬وقالت له بانزعاج‮ ‬،‮ ‬إن وجهه‮ ‬شاحب جدًا ويبدو عليه الإعياء‮. ‬فقد عاني بشدة‮ ‬طوال اليوم حتي انتهي من عمله،‮ ‬تمامًا كما كان يعاني عندما أخبرته الفتاة بموضوع شيه بوه ماو‮.‬
عاود تشين إيي شين الذهاب إلي نفس المقهي مرة أخري،‮ ‬ووقف منتصبًا كالجندي في الشارع المقابل له‮ ‬،‮ ‬فجأة تذكر أنه علي موعد في المساء،‮ ‬مع أصدقائه لاحتساء الخمر وتناول الطعام،‮ ‬ولذلك فلن‮ ‬يستطيع قيادة سيارته‮. ‬وقف تشين إيي شين لشراء الجرائد من الكشك الموجود في الشارع‮. ‬وفجأة لمح رجلًا يمشي بين أمواج البشر في الشارع المقابل،‮ ‬ويعلق لافتة مكتوبًا عليها‮ "‬شيه بوه ماو‮". ‬
كان ذلك الرجل يبدو عليه أنه‮ ‬قد اجتاز منتصف العمر،‮ ‬كما أن اللافتة التي يحملها،‮ ‬كانت بيضاء ولكنها متسخة بعض الشيء،‮ ‬ومكتوب عليها ثلاثة رموز متناثرة‮ ‬غير منظمة‮. ‬أخذ تشين إيي شين يحملق بعينيه حتي كادتا تخرجان من محجريهما‮. ‬ولكنه تسمر في مكانه،‮ ‬ولم يناد هذا الرجل‮ ‬أو يذهب للبحث عنه،‮ ‬وكأن ساقيه قد تجمدتا أو كبلتا بحديد ثقيل‮. ‬وأخذ يتتبع‮ "‬شيه بوه ماو‮" ‬وهو ينعطف إلي شارع آخر،‮ ‬بنظرات تملؤها الدهشة والخجل‮. ‬فور ذلك،‮ ‬اتجه تشين إيي شين‮ ‬إلي فندق كبير شرق المدينة‮. ‬وعندما وصل،‮ ‬كان‮ ‬صديقه الذي يعيش خارج البلاد،‮ ‬وصديقة‮ ‬أخري وزوجها،‮ ‬يجلسون علي المائدة متحمسين‮. ‬اندمج شين إيي شين مع الجميع في احتساء الخمر،‮ ‬وكأنه استرد حيويته مرة أخري‮. ‬وبعد تناول العشاء ذهب الجميع إلي صالة الكريوكي،‮ ‬فغنوا ورقصوا،‮ ‬وشربوا المزيد من الخمر‮. ‬وغادروا المكان‮ ‬قرب بُزوغ‮ ‬الفجر‮.‬
‮ ‬كان علي مدخل الباب مجموعة من الأشخاص‮ ‬يترنحون من‮ ‬فرط ثملهم،‮ ‬فنظر إليهم تشين إيي شين،‮ ‬ثم نظر إلي صورته‮ ‬المعكوسة علي الحائط الزجاجي،‮ ‬فوجد‮ ‬أن ملامح وجهه شاردة وحائرة،‮ ‬وكأنه مُشرد هائم علي وجهه في الأرض،‮ ‬ليس لديه بيت أو مأوي يلجأ إليه‮. ‬وفي طريق عودته إلي المنزل،‮ ‬قال تشين إيي شين لسائق التاكسي الذي كان يركب معه،‮ ‬بنفس مفعم برائحة الخمر،‮ ‬وبنغمة توحي بأنه ثمل‮:" ‬هاها،‮ ‬اليوم قابلت صديقي‮ ‬القديم‮". ‬قال له السائق‮ ‬بلا مبالاة‮:" ‬حقًا،‮ ‬آلتقيت بصديقك القديم‮.....‬فهذا أمر‮ ‬غير سهل‮". ‬ثم فتح زجاج نافذة السيارة قليلًا،‮ ‬وعلّي صوت المذياع‮. ‬
كان تشين إيي شين ينظر من نافذة السيارة،‮ ‬فاغر الفم،‮ ‬وكأن الرياح‮ ‬تصفع وجوه المارة،‮ ‬فيكاد يري ملامحهم‮. ‬كان يسند يده‮ ‬باِسْتِرْخاء علي‮ ‬فتحة النافذة،‮ ‬ثم فجأة داهمه الإحباط،‮ ‬وشعر ببعض الحزن،‮ ‬عندما استرجع مشهد الشخص الذي كان يحمل اللافتة البيضاء المكتوب عليها‮ "‬شيه بوه ماو‮". ‬فبغض النظر عن كونه رجلًا أم امرأة،‮ ‬عاقلًا أم مجنونًا،‮ ‬أو حتي إنسانًا أم عفريتاً،‮ ‬فيجب عليه أن يذهب للبحث عنه مرة أخري‮. ‬تذكر تشين إيي شين الحكايات‮ ‬التي كان يقصها‮ ‬علي ابنته كل ليلة قبل أن تنام،‮ ‬فكان يحكي لها قصص أطفال وأساطير،‮ ‬كلها قصص خيالية،‮ ‬ولكنها‮ ‬غاية في الروعة‮. ‬ولكنه يعرف جيدًا أن ليس هناك مثل هذه القصص في واقع الكبار‮.‬
‮ ‬لم يستطع تشين إيي شين النوم طوال الليل،‮ ‬لأنه كان يفكر في مصير كل من‮ ‬قلمه المتآكل،‮ ‬الخطاب الذي لم ينته من كتابته بعد،‮ ‬وزجاجة حبر‮(‬19‮)"‬يه دا چيه‮" ‬نصف الممتلئة‮. ‬فكل هذه الأدوات وسط‮ ‬ظلام دامس بمكتبه الآن،‮ ‬فكلما تذكر أنه لن يستخدمها مرة أخري،‮ ‬اغرورقت عيناه بالدموع،‮ ‬وازداد حزنًا؛ لأن ذلك يعني أن أمر شيه بوه ماو قد انتهي،‮ ‬ولن يعود‮ ‬له وجود،‮ ‬بل إنه سيتوقف عن كتابة تلك الخطابات له،‮ ‬فلم يكن الأمر سهلا،‮ ‬لكي يعثر علي صديق مثله‮.‬

7

أسدل الليل ستاره،‮ ‬بينما كان لي فو‮ ‬مارًا بنفس الشارع الموجود به ذلك المقهي،‮ ‬ويحمل اللافتة المكتوب عليها‮ "‬شيه بوه ماو‮". ‬وكان يفكر متعبًا في أن يومًا‮ ‬جديدًا قد أوشك علي الانتهاء،‮ ‬ولكن دون أي نتائج مثمرة‮. ‬أرسل مدير لي فو إخطاراً‮ ‬للنقابة في‮ ‬صباح اليوم،‮ ‬يطلب منهم إرسال درع الموظف المثالي‮. ‬وربت علي كتفه قائلاً‮ ‬له‮:" ‬بعد أن تتقاعد،‮ ‬سنتخلص من كل هذه الخطابات التي تود أن تعيدها‮ ‬مرة أخري للحياة وتوصلها لأصحابها‮". ‬فرد عليه لي فو مؤيدًا لما قاله‮: "‬بالطبع،‮ ‬يجب التخلص منها،‮ ‬فلا فائدة لها‮". ‬
في الأيام التي كان يسير لي فو فيها في الشوارع،‮ ‬كان عادة ما يشاهد‮ ‬خطوات الناس العجلة،‮ ‬أو يشاهدهم وهم ينظرون إلي هواتفهم المحمولة بشغف،‮ ‬أو حتي‮ ‬يشاهدهم وهم يجلسون القرفصاء علي قارعة الطريق مقطبي الجباه‮. ‬ولكن‮ ‬تعابير وجوههم وحركاتهم أزعجته كثيرًا،‮ ‬وجعلته يتذكر جريدة قرأها ذات مساء،‮ ‬ويتذكر تنهد الناس عندما يرتكبون أخطاء‮ ‬غير مقصودة بعضهم في حق بعض‮. ‬تملكه شعور مسبق بالحزن الممزوج بشيء من الندم‮. ‬فإذا باتت تلك الخطابات ميتة فعلًا،‮ ‬أو تم التخلص منها،‮ ‬فسيفني معها كل الكلام الذي يود أن يقوله مُرسل الخطاب تشين إلي شيه بوه ماو‮. ‬فهو يريد أن يساعدهما حقًا‮!. ‬
توقف لي فو برهة عند تقاطع الشارع‮ ‬الموجود به المقهي،‮ ‬عندما شعر بالعطش،‮ ‬وفكر في أن يعبر الشارع لشراء زجاجة ماء من كشك الجرائد المقابل،‮ ‬ولكنه سرعان ما تناسي الأمر،‮ ‬فمن الأفضل أن تظل شفتاه جافتين‮. ‬حينئذ نَبت بقلبه شعور‮ ‬غريب،‮ ‬وكأنما كلما ازداد شقاؤه،‮ ‬أصبحت هناك نتيجة لما يفعل‮. ‬قد عاني كثيرًا من أجل‮ ‬إيصال الجوابات الميتة التي كانت موجودة من قبل إلي أصحابها،‮ ‬فآلمته قدماه،‮ ‬وقطع بنطاله،‮ ‬وذهب إلي أماكن نائية،‮ ‬راكبًا دراجته دون أن تكون منتفخة العجل،‮ ‬ولكن في النهاية استطاع إعادة تلك الخطابات إلي الحياة‮. ‬
كانت رياح الخريف تلطم وجه لي فو فتؤلمه،‮ ‬فقد بات الشتاء علي الأبواب‮. ‬ولكن ذلك لم يوقفه عن جوب‮ ‬الشوارع طولًا وعرضًا‮. ‬خاف لي فو ألا يري الناس اللافتة التي يعلقها،‮ ‬لأن‮ ‬الشمس أصبحت تغوص في باطن السماء،‮ ‬في وقت مبكرعن ذي قبل‮. ‬وفجأة سمع لي فو شخصاً‮ ‬بجانبه،‮ ‬يقول بصوت يكاد أن يكون مسموعًا،‮ ‬وبنبرة يشوبها الشك‮:" ‬آه،‮ ‬شيه بوه ماو؟‮". ‬وعندما أدار وجهه،‮ ‬رأي رجلاً‮ ‬عاديًا يرتدي‮ ‬نظارة،‮ ‬يبدو عليه أنه في منتصف عمره‮. ‬هذا هو الخامس‮. ‬أي أنه‮ ‬خامس شخص يسأله عن‮ "‬شيه بوه ماو‮"‬،‮ ‬بعد أيام عديدة من سيره في هذا الشارع‮. ‬فهو لا ينوي أن يحكي له حكاية ذلك الخطاب من أولها،‮ ‬مثلما فعل مع الأربعة السابقين؛ لأنه خشي أن ينفد صبرهم،‮ ‬فيتركوه ويغادروا‮. ‬
‮ ‬انشرح قلب لي فو،‮ ‬وسند‮ ‬اللافتة بيديه وهو يبتسم،‮ ‬فمن حسن حظه أنه لم يذهب لشراء زجاجة ماء ليروي بها ظمأه،‮ ‬ثم قال‮:" ‬أنا لست شيه بوه ماو،‮ ‬ولكنني‮ ‬أبحث عنه‮. ‬هل أنت شيه بوه ماو؟‮". ‬كان وجه الرجل هذا‮ ‬غير واضح،‮ ‬بسبب الظلام وظلال الأشجار حينما سأله الرجل مرة أخري‮: "‬منذ متي وأنت تبحث عنه؟‮. "‬فكر لي فو برهة،‮ ‬قبل أن يجيبه مباشرة،‮ ‬ثم قرر أن يقول له إنه يبحث عنه منذ المرة الأولي التي تسلم فيها هذا الخطاب،‮ ‬فقال له‮:"‬منذ سنة وشهرين تقريبًا وأنا أبحث عنه‮". ‬خرج الرجل من بين أفرع الأشجار التي كان يتواري خلفها،‮ ‬فباتت ملامحه أوضح،‮ ‬وقال‮:"‬هذا‮ ‬يعني أنك قد بدأت البحث عنه منذ خريف العام الماضي‮". ‬رمقه الرجل بنظرة يملؤها التساؤل،‮ ‬ثم قال له وهو يعقب علي ما قاله بحركة فمه المفتوح‮:" ‬هل شيه بوه ماو يعرف أنك تبحث عنه؟‮". ‬ثم اختلس نظرة إلي اللافتة،‮ ‬ونظر إلي لي فو مرة أخري بوجه فاتر الملامح‮. ‬فرد لي فو‮" ‬لا،‮ ‬هو لا يعرف،‮ ‬في الحقيقة إنه لا يعرفني من الأساس‮". ‬ثم قال مختصرًا لكلامه‮ :"‬من فضلك،‮ ‬هل تعرفه أنت؟‮". ‬فلي فو‮ ‬يعرف جيدًا أن هذا الكلام قد يثير ضحك الناس حينما يسمعونه‮. "‬لا فأنا لا أعرفه أيضًا،‮ ‬أنا أستفسر عن الأمر فحسب‮"‬،‮ ‬قال الرجل وهو يهز رأسه،‮ ‬ثم تنهد بلطف‮. ‬
تغيرت ملامح لي فو‮ ‬فجأة،‮ ‬وبدا عليه شيء من الحزن‮. ‬فهو حتمًا ليس مريضاً‮ ‬نفسياً،‮ ‬كما تتدعي زوجته‮. ‬عندما رأي الرجل علي وشك المغادرة،‮ ‬تضاربت مشاعره واضطرب،‮ ‬فهو لا يعرف إذا كان الأمر يستدعي منه أن يقص عليه الحكاية من بدايتها أم لا،‮ ‬لذلك فسرعان ما قال لي فو‮:" ‬في الحقيقة أنني أحاول مساعدة شخص‮ ‬في العثور عليه‮ ......". ‬من يكون الشخص الذي تساعده إذًا‮"‬،‮ ‬قال الرجل‮ ‬عائدًا‮ ‬خطوة إلي الوراء،‮ ‬وبدت نظراته بها شيء من الذهول الممزوج بالرعب‮. ‬فقال لي فو‮: " ‬أنا أساعد شخصاً‮ ‬لا أعرفه أيضًا،‮ ‬ولكنني أعرف الرجل الذي يبحث عن شيه بوه ماو؛‮ ‬فهو يبحث عنه منذ فترة أطول من التي بدأت البحث عنه فيها‮". ‬ومن أجل أن يوضح لي فو كلامه،‮ ‬بسط يديه الاثنتين،‮ ‬ونظر إلي كل منهما‮. ‬بمجرد أن أُضيئت فوانيس الإنارة في الشوارع،‮ ‬أغلق ذلك‮ ‬الرجل عينيه تلقائيًا،‮ ‬وكأنه ابتلع كل مشاعره بداخله،‮ ‬ثم ولي وجههه نحو الشارع،‮ ‬وهو يقول بصوت خافت‮:"‬لا تتعب نفسك،‮ ‬فلن تجده‮." ‬ربما‮ ‬يعرف هذا الرجل شيه بوه ماو،‮ ‬لكن لا يعلم‮ ‬الحقيقة سوي الله‮. ‬
‮ ‬أزاح لي فو‮ ‬اللافتة بيده،‮ ‬لاخراج دفتره الصغير من حقيبته،‮ ‬ولكن كانت هناك نقود محشورة بين أوراقه،‮ ‬فأدخلها إلي الحقيبة‮. ‬كان الرجل قد مضي وترك لي فو،‮ ‬دون أن ينبس بكلمة واحدة،‮ ‬أو حتي إنه لم يلق السلام عليه،‮ ‬بل التفت وراءه،‮ ‬ونظر إليه بسخرية‮. ‬كان لي فو ممسكًا بحقيبته،‮ ‬يقلب فيها بيده،‮ ‬وكان مشغول البال يفكر،‮ ‬في الخطأ الذي وقع‮.‬
‮ ‬كان الليل قد أسدل ستاره،‮ ‬عندما رفع لي فو‮ ‬رأسه ونظر حوله،‮ ‬فلم يجد أحدًا‮. ‬أنزل بحرص اللافتة التي يعلقها،‮ ‬وحدق فيها لوهلة،‮ ‬ثم مزقها حتي باتت قصاصات بيضاء صغيرة،‮ ‬وألقاها علي مضض في صندوق القمامة الموجود بجانب الطريق،‮ ‬وكأنه يودع شخصاً‮ ‬عزيزًا علي قلبه‮. ‬ثم قال‮:" ‬عذرًا شيه بوه ماو،‮ ‬قد فشلت في إنقاذ حياتك هذه المرة‮". ‬وفي اللحظة التي سلك فيها لي فو طريق العودة إلي منزله،‮ ‬بخطوات واهنة بطيئة‮. ‬فجأة هبت ريح باردة،‮ ‬حملت تلك القصاصات الصغيرة،‮ ‬ونثرتها في الأفق‮. ‬ولكن لي فو لم يبال؛ لأن هذا آخر شتاء سيحاول فيه إنقاذ خطاب فيه أو توصيله إلي صاحبه‮. ‬فيكفيه أنه شَعر بقدر من السعادة والامتنان،‮ ‬عندما لامست يده النقود الموجودة في حقيبته‮.‬



الهوامش

‮(١) ‬مدينة نان تچينغ‮ ‬هي عاصمة مقاطعة تچانغ‮ ‬سو،‮ ‬وتعد مركزا تجاريا،‮ ‬سياسيا،‮ ‬وثقافيا‮. ‬كما أنها واحدة من أقدم المدن في الصين حيث يرجع تاريخها إلي‮ ‬6‮ ‬آلاف سنة،‮ ‬وتقع شرقي الصين‮.(‬المترجمة‮)‬
‮(‬2‮) ‬چيانغ‮ ‬تچيه شي‮: ‬هو قائد سياسي وعسكري صيني،‮ ‬والمعروف‮ ‬بشيانغ‮ ‬كاي شيك،‮ ‬رأس الجوه مينغ‮ ‬دانغ‮ ‬أي الحزب الوطني الشعبي الصيني،‮ ‬إثر رحيل القائد سوين چونغ‮ ‬شان‮. (‬المترجمة‮)‬
‮(‬3‮) ‬هو برنامج صيني للدردشة يوازي الياهو والهوت ميل‮. (‬المترجمة‮)‬QQ (2)
‮(‬4‮) ‬مدونة وي‮: ‬من أشهر المدونات الموجودة في الصين‮. (‬المترجمة‮)‬
‮(‬5‮) ‬شيه آن‮: ‬هو رجل دولة؛ قائد سياسي وعسكري،‮ ‬عاش في عصر أسرة تچين،‮ ‬في الفترة ما بين‮ (‬320‮ - ‬385‮). (‬المترجمة‮).‬
‮(‬6‮) ‬شيه لينغ‮ ‬يوين‮: ‬هو شاعر صيني كبير عاش في عصر الأسرة الشمالية والجنوبية في الفترة ما بين‮ (‬385‮-‬433‮). (‬المترجمة‮).‬
‮(‬7‮) ‬زي التانغ‮ : ‬يعرف بالصينية باسم التانغ‮ ‬جوانغ‮ (‬TANG ZHUANG )هو زي صيني تقليدي،‮ ‬ظهر في‮ ‬نهاية عصر أسرة تشينغ‮. (‬المترجمة‮).‬
‮(‬8‮) ‬شوكلاتة فيريرو روشيه‮: ‬نوع فاخر من الشوكلاتة الإيطالية‮. (‬المترجمة‮).‬
‮(‬9‮) ‬كارفور:هي سلسلة مراكز تجارية عالمية،‮ ‬فرنسية الأصل‮. ( ‬المترجمة‮).‬
‮ (‬10‮) ‬ور وانغ‮: ‬هو محرك بحث كجوجل،‮ ‬ولكنه مصمم من أجل بحث الأشخاص بعضهم البعض‮. (‬المترجمة‮).‬
‮(‬11‮) ‬مقاطعة تيچيانغ‮ ‬سو‮: ‬تقع علي الساحل الشرقي لبحر الصين،‮ ‬ومن أشهر المدن فيها مدينة‮ ‬نان تچينغ‮ .‬
فعل لي فو كل ما في وسعه،‮ ‬وسيكون أمرًا محزنًا للغاية،‮ ‬إذا‮ ‬فشل في العثور علي مرسل الخطابات،‮ ‬وإعادة هذه الخطابات مرة أخري إليه،‮ ‬هكذا كان يفكر‮.‬
‮(‬12‮) ‬طائر الكراكي‮: ‬هو طائر مائي طويل القدمين،‮ ‬يمكنه أن يعيش بالأماكن الباردة‮. (‬المترجمة‮) ‬
‮(‬13‮) ‬الرموز المعقدة‮: ‬هي رموز أكثر تعقيدًا من حيث الشكل،‮ ‬والخطوط المكونة للرمز،‮ ‬ومازالت تستخدمها تايوان حتي الآن‮. (‬المترجمة‮)‬
‮(‬14‮) ‬معبد فو زيه‮: ‬يقع‮ ‬في مدينة نان تچينغ،‮ ‬وتم إنشاؤه في عصر أسرة سونغ‮ ‬عام‮ ‬1034‮ ‬ويعرف هذا المعبد أيضًا باسم معبد كونفشيوس،‮ ‬ويعد من أكبر أربعة معابد في الصين،‮ ‬وترجع أهميته إلي أنه كان المكان الذي يتعبد فيه الفيلسوف والمعلم الصيني الكبير كونفشيوس‮. (‬المترجمة‮)‬
‮(‬15‮) ‬منطقة نان بو‮: ‬هي منطقة أثرية وتاريخية،‮ ‬مبنية علي الطراز المعماري،‮ ‬لعصر أسرتي مينغ‮ ‬وتشينغ،‮ ‬وتقع في مدينة نان تچينغ‮. (‬المترجمة‮)‬
‮(‬16‮)‬الافريز‮: ‬هو سقف يبرز خارج البناء،‮ ‬وهو عبارة عن جزءٍ‮ ‬بسيط مزخرف بيِّن الحِلْية المعماريَّة،‮ ‬ومعظم البيوت الصينية القديمة كان بها أفاريز‮.‬
‮(‬17‮) ‬اليوان‮: ‬عملة الصين الرسمية‮.‬
‮(‬18‮) ‬البارسول الصيني‮: ‬نوع من الشجر الصيني،‮ ‬أوراقه تشبه‮ ‬أوراق شجرة القبقب‮.‬
‮(‬19‮) ‬يه دا چيه‮: ‬ماركة مشهورة من الحبر الصيني‮.‬
 
أعلى