قصة قصيرة إيزابيل ألليندي - رسائل حب مغدور Cartas de amor traicionado قصة - ت: صالح علماني

Isabel_Allende.jpeg

ماتت أم آناليا توريس بحمى هذيانية عند ولادتها، فلم يتحمل أبوها الحزن، وأطلق بعد أسبوعين من ذلك، رصاصة مسدس على صدره. احتضر عدة أيام، واسم زوجته على شفتيه. وتولى بعد ذلك، شقيقه اوخينيو، مسؤولية إدارة أراضي الأسرة، ومصير اليتيمة الصغيرة، على هواه. ترعرعت آناليا، حتى السنة السادسة من عمرها، وهي تتعلق بأذيال تنورة خادمة هندية، فـي غرف الخدم، فـي بيت كفـيلها. وما كادت تبلغ سن الذهاب إلى المدرسة، حتى أرسلوها إلى العاصمة، تلميذة داخلية فـي مدرسة راهبات القلب المقدس، حيث أمضت الاثنتي عشرة سنة التالية. كانت تلميذة جيدة، تحب الانضباط، وصرامة المبنى الحجري، والمصلى بتماثيله القدسية ورائحة شموعه وزنابقه، والممرات الجرداء، والأفناء الظليلة. وكان أقل ما يجتذبها هو صخب أترابها، ورائحة قاعات الدرس الحرّيفة. وكلما تمكنت من مغافلة رقابة الراهبات، كانت تختبئ فـي غرفة المهملات، بين تماثيل مقطوعة الرؤوس، وأثاث مكسر، لكي تحكي لنفسها حكايات. فـي تلك اللحظات المختلسة، كانت تغرق فـي الصمت، بإحساس من تسلم نفسها إلى خطيئة.
وكل ستة شهور، كانت تتلقى ملاحظة مكتوبة من عمها أوخينيو، يذكرها فـيها بأن تحسّن سلوكها، وتكرم ذكرى أبويها اللذين كانا مسيحيين طيبين، فـي حياتيهما، وسيكونان فخورين إذا ما كرست ابنتهما الوحيدة حياتها، لأعلى فروض الفضيلة، أي بانضمامها إلى الدير كراهبة مستجدة. ولكن آناليا أعلمته، منذ اللحظة الأولى، أنها ليست مستعدة لعمل ذلك. وتمسكت بموقفها بعناد، لمجرد مناكفته؛ مع أنها كانت تحب فـي أعماقها الحياة الدينية. فقد كانت تفكر فـي أنها ربما تجد الطمأنينة الدائمة، بالاختباء وراء مسوح الراهبة، فـي عزلة الرفض الأخير لأي متعة؛ ولكن غريزتها كانت تحذرها، مع ذلك، من نصيحة الوصي عليها. فقد كانت تشك فـي أن الدافع، وراء كل أعماله، هو الطمع بالأرض، وليس الوفاء الأسري. فكانت لا تأخذ أي اقتراح منه على محمل الثقة، وترى أن ثمة شركاً، ينصبه لها فـي كل ما يقوله.
عندما أتمت آناليا السادسة عشرة من عمرها، ذهب عمها لزيارتها فـي المدرسة، لأول مرة، فاستدعت رئيسة الراهبات الفتاة إلى مكتبها. وكان عليها أن تقدم كلاً منهما إلى الآخر، لأن كليهما كان قد تبدل كثيراً، منذ زمن الخادمة الهندية فـي أفناء البيت الخلفـية. ولم يتعرف أحدهما على الآخر.
قال العم، وهو يحرك فنجان الشيكولاتة:
- أرى أن الراهبات يعتنين بك جيداً يا آناليا، فأنت تبدين سليمة الجسم، بل جميلة أيضاً. لقد أخبرتك فـي رسالتي الأخيرة بأنك، ابتداء من عيد ميلادك هذا، ستتلقين مبلغاً شهرياً من المال، من أجل نفقاتك، مثلما اشترط أخي - لترقد روحه بسلام - فـي وصيته.
- كم؟
- مئة بيزو.
- أهذا هو كل ما خلّفه لي أبواي؟
- لا، طبعاً لا. أنت تعرفـين أن الأرض ملكك، ولكن الزراعة ليست من عمل النساء، وخاصة فـي أزمنة الإضرابات والثورات هذه. سأبعث إليك، ابتداء من الآن، مبلغاً شهرياً، يتضاعف كل سنة، إلى أن تبلغي سن الرشد. وبعدها ننظر ما الذي سنفعله.
- ماذا ستنظر يا عماه؟
- ننظر فـي ما هو الأنسب لك.
- وما هي خياراتي؟
- ستكونين دائماً بحاجة إلى رجل، من أجل إدارة الأراضي، يا صغيرتي. لقد قمت أنا نفسي بهذا العمل، طوال السنوات الماضية؛ ولم يكن بالمهمة السهلة. ولكنه واجبي، فقد وعدت أخي بذلك، فـي ساعته الأخيرة، وأنا مستعد لمواصلة القيام بهذا الواجب من أجلك.
- لن يكون عليك مواصلة ذلك لوقت طويل، يا عماه. فعندما أتزوج، سأتولى مسؤولية الأراضي بنفسي.
- أقالت الصغيرة «عندما أتزوج»؟ أخبريني أيتها الأم، هل لديها خطيب؟
- كيف يخطر ببالك مثل هذا الكلام، يا سيد توريس! إننا نعتني جيداً بالصغيرات. لقد كانت مجرد كلمة. يا لِما تتفوه به هذه البنت!
نهضت آناليا توريس واقفة، وشدت ثنيات زيها المدرسي، وحيت بانحناءة احترام خفـيفة، أقرب إلى السخرية، ثم خرجت. قدمت رئيسة الراهبات مزيداً من الشيكولاتة للرجل، وقالت له إن تفسيرها الوحيد، لهذا التصرف غير اللائق، هو قلة تواصل الفتاة مع أسرتها. وأضافت الراهبة بنبرة جافة:
- إنها التلميذة الوحيدة التي لا تذهب فـي إجازات على الإطلاق، والتي لم تصلها أية هدية فـي أعياد الميلاد قط.
- لستُ بالرجل الميال إلى التدليل. ولكنني أؤكد لك أني أحب ابنة أخي كثيراً. وقد حافظت على مصالحها، كأنني أبوها. ولكنك محقة، مع ذلك… آناليا بحاجة إلى الحنان؛ فالنساء عاطفـيات بطبعهن.
وقبل انقضاء ثلاثين يوماً، حضر العم مرة أخرى، إلى المدرسة. ولكنه لم يطلب مقابلة ابنة أخيه هذه المرة، بل اكتفى بأن أبلغ رئيسة الراهبات بأن ابنه يرغب فـي مراسلة آناليا. ورجاها أن توصل إليها رسائله، ليرى إذا ما كانت العلاقة الرفاقية، مع ابن عمها، قادرة على تعزيز الأواصر الأسرية.
بدأت الرسائل ترد بانتظام. ورق أبيض بسيط وحبر أسود، وكتابة بحروف كبيرة أنيقة. بعضها يتحدث عن الحياة فـي الريف، عن المواسم والمواشي، وأخرى عن شعراء ميتين، وعن الأفكار التي كتبوها. وكان مغلف الرسالة يتضمن، فـي بعض الأحيان، زخرفة أو رسماً، بالخط الثابت نفسه. قررت آناليا عدم قراءة تلك الرسائل، وفاءً لفكرة أن كل ما له علاقة بعمها، يخبئ خطراً ما. ولكن الرسائل ما لبثت أن بدأت تمثل الإمكانية الوحيدة المتاحة لها، للتحليق فـي ضجر المدرسة. فصارت تختبئ فـي غرفة المهملات، لا لتبدع حكايات غير محتملة الحدوث، وإنما لتقرأ بنهم الرسائل التي يرسلها ابن عمها، إلى أن حفظت عن ظهر قلب أشكال الحروف، ونسيج الورق. ولم تكن ترد عليها فـي أول الأمر، ولكنها لم تستطع عدم فعل ذلك بعد وقت قصير. وراح مضمون الرسائل يصبح أكثر جدوى، فـي مغافلة رقابة رئيسة الراهبات التي تفتح كل المراسلات، وازدادت الروابط الحميمة بين الاثنين، وسرعان ما توصلا إلى الاتفاق على رموز سرية، وبدأا يتحدثان، من خلالها، فـي الحب.
لم تكن آناليا توريس تتذكر أنها رأت ابن عمها، ذاك الذي يوقع الرسائل باسم لويس، لأنها عندما كانت تعيش فـي بيت عمها، كان الفتى فـي مدرسة داخلية فـي العاصمة. لقد كانت واثقة من أنه رجل قبيح، وربما مريض أو مشوه، لأنه بدا لها من المستحيل أن يُضاف مظهر جذاب، إلى مثل تلك الحساسية العميقة، وذلك الذكاء الحاد. وكانت تحاول أن ترسم فـي ذهنها صورة لابن عمها: مربوع القامة مثل أبيه، ووجهه محفور بالجدري، أعرج ونصف أصلع. ولكنها كلما كانت تضيف إليه مزيداً من العيوب، كانت تزداد ميلاً إلى حبه. فقد كان ألق الروح هو الشيء الوحيد المهم، والشيء الوحيد الذي يقاوم مرور الزمن، دون أن يناله التلف، ويتعاظم مع انقضاء السنوات. وتوصلت الفتاة إلى القناعة بأن جمال أولئك الأبطال الخياليين، فـي الحكايات، ليس له أي قيمة، بل يمكن له أن يتحول إلى مسوغ للتفاهة. ولكنها لم تستطع، مع ذلك، أن تُبعد ظلاً من القلق عن تفكيرها العقلاني ذاك. فكانت تتساءل عن مقدار التشوه الذي يمكنها أن تتحمله.
استمرت مراسلات آناليا ولويس توريس سنتين، تجمع لدى الفتاة خلالهما، ملء صندوق قبعة، من مغلفات الرسائل، وروح مستسلمة للحب نهائياً. فإذا ما خطر لذهنها أنه يمكن لتلك العلاقة، أن تكون خطة دبرها عمها، لكي تنتقل الممتلكات التي ورثتها عن أبيها إلى يدي لويس، كانت تستبعد تلك الخواطر فوراً، خجلة من ضغينة أفكارها. ويوم أكملت ثمانية عشر عاماً من عمرها، استدعتها رئيسة الراهبات إلى قاعة المقابلات، لأن زائراً بانتظارها. لقد خمنت آناليا توريس من يكون ذلك الزائر، وكانت على وشك الهرب، لتختبئ بين تماثيل القديسين المنسيين فـي مستودع المهملات، مذعورة من حتمية مواجهتها، أخيراً، للرجل الذي طالما تخيلته. وعندما دخلت القاعة، ووقفت أمامه، احتاجت إلى عدة دقائق، كي تتغلب على خيبة أملها.
لم يكن لويس توريس ذلك القزم المعوج الذي رسمت صورته فـي أحلامها، وتعلمت أن تحبه. بل كان رجلاً كاملاً، لطيف الوجه، عادي القسمات، له فم لا يزال طفولياً، ولحية قاتمة ومشذبة جيداً، وعينان طويلتا الرموش، ولكنهما خاليتان من التعبير. لقد كان يشبه، إلى حد ما، قديسي المصلى. فهو جميل، وفـيه شيء من البلادة. سيطرت آناليا على الصدمة، وفكرت فـي أنها إذا كانت قد تقبلت فـي قلبها شخصاً أحدب، فلن تنقصها الأسباب، لتتمكن من محبة هذا الشاب الأنيق الذي يقبلها من وجنتها، مخلفاً فـي أنفها أثراً من عطر الخزامى.
* * *

منذ اليوم الأول لزواجها، بدأت آناليا تحس بالنفور من لويس توريس. فحين هصرها بين الملاءات المطرزة، على سرير شديد الطراوة، أدركت أنها قد أحبت شبحاً، وأنها لن تستطيع مطلقاً، نقل تلك العاطفة المتخيلة إلى واقع زواجها. قاومت مشاعرها بصرامة، فـي أول الأمر، معتقدة أنها مجرد نزوة. ولكنها حين لم تعد قادرة، في ما بعد، على مواصلة تجاهل تلك المشاعر، حاولت الوصول إلى أعماق روحها، لانتزاع مشاعر النفور من زوجها من جذورها. لقد كان لويس مهذباً، بل مسلياً أحياناً، فلم يكن يزعجها بمطالب غير مناسبة، ولم يحاول تغيير ميلها إلى العزلة والصمت. بل لقد قدرت، هي نفسها، أنها بقليل من طيب النية، يمكنها أن تجد شيئاً من السعادة، فـي هذه العلاقة، حتى ولو بمقدار ما كانت ستحصل عليه، لو أنها اختبأت وراء مسوح راهبة. لم تكن لديها مبررات محددة لذلك النفور الغريب، من الرجل الذي أحبته طوال سنتين، دون أن تعرفه. ولم تكن قادرة كذلك، على التعبير عن مشاعرها بالكلام. ولكنها، حتى لو استطاعت ذلك، لما وجدت من تحدثه فـي الأمر. كانت تشعر بأنها قد خُدعت حين لم تستطع المواءمة بين صورة الخطيب الرسائلي، وهذا الزوج الذي من لحم وعظم. ولم يكن لويس يأتي على ذكر الرسائل مطلقاً، وإذا ما تطرقت هي إلى الموضوع، كان يطبق فمها بقبلة سريعة، وبعبارة متعجلة عن تلك الرومانسية، غير المناسبة للحياة الزوجية، حيث الثقة والاحترام، والمصالح المشتركة، ومستقبل الأسرة، أهم بكثير من مراسلات المراهقة. لم تقم بين الاثنين علاقة حميمة حقيقية؛ فكل منهما يهتم بمشاغله خلال النهار. وفـي الليل يجدان نفسيهما بين وسائد الريش، حيث يخيل إلى آناليا ـ المعتادة على سرير المدرسة القاسي ـ أنها ستختنق. لقد كانا يتعانقان بسرعة فـي بعض الأحيان، فتكون هي جامدة ومتيبسة، بينما يفعل هو ذلك، كمن ينجز أحد متطلبات الجسد التي لا يمكن تجنبها، ثم ينام لويس بعد ذلك مباشرة، بينما تبقى هي مفتوحة العينين فـي الظلام، وفـي حلقها عبارة احتجاج عالقة. حاولت آناليا اللجوء إلى أساليب متعددة، للتغلب على النفور الذي يبعثه فـيها، بدءاً من محاولة تثبيت كل تفاصيل زواجها، فـي ذاكرتها، لكي تحبه بإصرار، حتى تفريغ ذهنها من أي تفكير، والانتقال إلى بُعدٍ لا يستطيع الوصول إليه. كانت تصلي راجية أن يكون مجرد نفور عابر؛ ولكن الشهور كانت تمضي. وبدلاً من الراحة المنشودة، كانت الكراهية تنمو، حتى تحولت إلى حقد. وفـي إحدى الليالي، فاجأت نفسها تحلم برجل دميم إلى حد مرعب، يداعبها بأصابع ملوثة بحبر أسود.
كان الزوجان توريس يعيشان فـي الأراضي التي امتلكها والد آناليا، حين كانت تلك المنطقة لا تزال شبه برية، لا يرتادها إلا الجنود وقطاع الطرق. ولكنها صارت الآن بجوار الطريق العام، وعلى مقربة من قرية مزدهرة، تقام فـيها كل سنة مهرجانات زراعية، وأخرى لمربي الماشية. وقد كان لويس هو المسؤول، قانونياً، عن إدارة تلك الأملاك. ولكن العم أوخينيو، هو الذي كان يمارس هذه المهمة عملياً، لأن لويس يضيق ذرعاً بشؤون الحقول. وعندما كان الأب وابنه يجلسان، بعد الغداء، فـي المكتبة ليشربا الكونياك، ويلعبا الدومينو، كانت آناليا تسمع عمها وهو يتخذ القرارات، حول الاستثمارات والماشية، والبذار والمحاصيل. وفـي المناسبات النادرة التي كانت تتجرأ فـيها على التدخل، وإبداء رأيها، كان الرجلان يصغيان إليها باهتمام ظاهري، ويؤكدان أنهما سيأخذان اقتراحاتها بعين الاعتبار. ولكنهما يتصرفان بعد ذلك على هواهما. فكانت آناليا تخرج ممتطية الحصان أحياناً، إلى المراعي، وتصل إلى حدود الجبل، متمنية لو أنها كانت رجلاً.
لم يُحسّن ميلاد ابن لهما من مشاعر آناليا تجاه زوجها. فقد ازدادت حدة طبعها الانزوائي خلال شهور الحمل، ولكن لويس عزا ذلك إلى حالتها. وقد كانت لديه، على أية حال، شؤون أخرى، تشغل تفكيره. وبعد ولادة الطفل، انتقلت هي إلى غرفة أخرى، لا يوجد فـيها من الأثاث، سوى سرير ضيق وقاس. وعندما بلغ عمر الطفل سنة، وكانت الأم لا تزال تغلق باب حجرتها بالمفتاح، وتتجنب أي فرصة للانفراد بزوجها، قرر لويس بأن الوقت قد حان ليطالب بمعاملة أكثر لياقة، وحذّر زوجته بأنه من الأفضل لها أن تبدل سلوكها، قبل أن يخلع الباب بالقوة. لم تكن قد رأته مطلقاً بمثل ذلك العنف، فانصاعت دون مناقشات. وفـي السنوات السبع التالية، ازداد التوتر بينهما، إلى أن تحولا إلى عدوين مستترين. ولكنهما كانا يتعاملان بلطف مبالغ فـيه، أمام الآخرين. الطفل وحده كان يدرك مدى عمق العداء المستتر بين أبويه، فكان يستيقظ فـي منتصف الليل باكياً، وفراشه مبلل. أحاطت آناليا نفسها بقشرة قاسية من الصمت، وبدت كما لو أنها تجف فـي داخلها شيئاً فشيئاً. أما لويس بالمقابل، فأصبح أكثر تمادياً وطيشاً، وانصرف إلى متعه المتعددة، فكان يكثر من الشراب، ويغيب عدة أيام، فـي مغامرات لا يمكن التصريح بها. وعندما لم يعد يواري ممارساته الماجنة، فـي ما بعد، وجدت آناليا فـي ذلك مبرراً للابتعاد عنه أكثر. وفقد لويس أي اهتمام بالأرض، فحلت زوجته محله، سعيدة بهذا الوضع الجديد. وصار العم أوخينيو، يبقى معها فـي غرفة الطعام، كل يوم أحد، ليناقشا القرارات، بينما يبقى لويس مستغرقاً فـي قيلولة طويلة، لا يستيقظ منها إلا عند الغروب، مبللاً بالعرق، ومعانياً تقلبات فـي معدته؛ ولكنه على استعداد، دائماً، للذهاب، مرة أخرى، إلى حفلات القصف مع أصدقائه.
علّمت آناليا ابنها مبادئ الكتابة والحساب، وحاولت أن توجهه نحو حب الكتب. وعندما أكمل الطفل سبع سنوات من عمره، قرر لويس بأن الوقت قد حان من أجل تعليمه بصورة رسمية، بعيداً عن تدليل الأم. وأراد إرساله إلى مدرسة فـي العاصمة، لعله يتحول بسرعة إلى رجل. ولكن آناليا وقفت فـي مواجهته بشراسة، فاضطر إلى الموافقة على حل أقل صرامة. وهكذا أخذه إلى مدرسة القرية، حيث يبقى من يوم الاثنين حتى يوم الجمعة. ولكن السيارة كانت تذهب لإحضاره صباح السبت، فـيبقى فـي البيت حتى الأحد. فـي الأسبوع الأول تفحصت آناليا ابنها بجزع، باحثة عن أسباب تتيح لها أن تبقيه إلى جوارها، ولكنها لم تجدها. كان الصبي يبدو سعيداً، فهو يتحدث عن معلمه ورفاقه بحماسة بريئة، وكأنه ولد بينهم. كما أنه لم يعد يبول فـي فراشه. وبعد ثلاثة أشهر، جاء حاملاً وثيقة درجاته، ورسالة تهنئة قصيرة من المعلم، على نتائجه الجيدة. قرأتها آناليا وهي ترتعش بانفعال، وابتسمت للمرة الأولى منذ زمن طويل. احتضنت ابنها بانفعال، وراحت تسأله عن كل التفاصيل: كيف هي غرف النوم فـي المدرسة، وماذا يقدمون لهم من طعام، وهل الجو بارد فـي الليل، وكم صديقاً لديه، وكيف هو معلمه. صارت تبدو أكثر اطمئناناً، ولم تعد تتحدث عن إخراجه من المدرسة. وقد حصل الصغير، فـي الشهور التالية كذلك، على درجات جيدة، كانت آناليا تجمعها كأنها كنوز، وتبعث هدايا إلى الصف كله، علباً من المربيات، وسلالاً من كل أنواع الفاكهة. وكانت تحاول ألا تفكر في أن هذا الحل لن يدوم إلا لمرحلة التعليم الابتدائي، وأنه لن يكون هناك مفر، بعد سنوات، من إرسال الطفل إلى مدرسة فـي المدينة، حيث لن تستطيع رؤيته عندئذ، إلا فـي الإجازات الصيفـية.
فـي إحدى ليالي الصخب فـي القرية، أعرب توماس توريس، وكان قد أفرط في الشراب، عن استعداده لأداء قفزات بهلوانية، على حصان غريب، ليثبت مهارته كفارس، أمام جماعة من رفاق الشرب فـي الحانة. ولكن الحيوان ألقى به أرضاً برفسة من قائمته، وداس على خصيتيه. وبعد تسعة أيام من ذلك، قضى توريس نحبه، وهو يولول من الألم فـي أحد مستشفـيات العاصمة، حيث كانوا قد نقلوه إلى هناك، آملين بإنقاذه من الالتهاب. وكانت زوجته إلى جواره تبكي إحساسها بالذنب، لأنها لم تستطع منحه الحب، وراحتها لأنها لم تعد بحاجة لأن تصلي طالبة له الموت. وقبل أن ترجع إلى الريف، مع الجثة فـي تابوت، لتدفنها فـي أرضها بالذات، اشترت آناليا ثوباً أبيض، ودسته فـي قاع حقيبتها. وصلت إلى القرية بملابس الحداد. وكانت تغطي وجهها ببرقع أرملة، حتى لا يلحظ أحد تعابير عينيها، وقد وضعت البرقع فـي الجنازة أيضاً، وهي تمسك بيد ابنها، وترتدي ثوباً أسود. وبعد انتهاء المراسم الجنائزية، جاء العم أوخينيو الذي مازال يحتفظ ببنية قوية، رغم بلوغه السبعين، واقترح على كنته أن تتنازل له عن الأراضي، وتذهب لتعيش من ريعها فـي المدينة، حيث يمكن للطفل إنهاء تعليمه، ويمكنها هي أيضاً أن تنسى أحزان الماضي. وقال لها:
- أنا لم يفتني يا آناليا، أنك أنت وابني المسكين لويس، لم تكونا سعيدين على الإطلاق.
- معك حق يا عمي، فقد خدعني لويس منذ البداية.
- بالله عليك يا بنتي.. لقد كان رصيناً ومحترماً معك على الدوام. كان لويس زوجاً طيباً.. جميع الرجال لهم بعض المغامرات الصغيرة؛ ولكن ليس لهذا أية أهمية.
- ليس هذا ما أعنيه، وإنما الخدعة التي لا يمكن إصلاحها.
- لا أريد أن أعرف ما الذي تعنينه. وعلى أي حال، أظن أنك ستكونين أنت والطفل أحسن حالاً فـي العاصمة. لن ينقصكما أي شيء. وأنا سأتولى إدارة الأراضي. صحيح أني عجوز ولكنني لم أنته بعد. فأنا لا أزال قادراً على طرح ثورٍ، أرضاً.
- سأبقى هنا. وابني سيبقى هنا أيضاً، لأن عليه أن يساعدني فـي أعمال الحقول. لقد عملت، فـي السنوات الأخيرة، فـي المراعي أكثر من عملي فـي البيت. والفرق الوحيد الآن، هو أنني سأتولى اتخاذ القرارات بنفسي، دون التشاور مع أحد. هذه الأراضي أصبحت لي وحدي أخيراً. الوداع أيها العم أوخينيو.
فـي الأسبوع الأول، نظمت آناليا حياتها الجديدة. فبدأت بإحراق الملاءات التي نامت عليها مع زوجها، وبنقل سريرها الضيق إلى الغرفة الرئيسية. ثم درست بعمق سجلات إدارة الأملاك. وما إن أصبحت لديها فكرة دقيقة عن ثرواتها، حتى بحثت عن مشرف مستعد لتنفـيذ أوامرها، دون توجيه أسئلة. وعندما تأكدت من أنها قد أمسكت بزمام الأمور كلها، ووضعتها تحت مراقبتها، أخرجت ثوبها الأبيض من الحقيبة، وكوته بعناية، ثم ارتدته، وتزينت وذهبت فـي سيارتها إلى مدرسة القرية، حاملة تحت إبطها علبة قبعة قديمة.
انتظرت آناليا توريس فـي الباحة، إلى أن أعلن جرس الساعة الخامسة انتهاء الدرس المسائي الأخير، وخرج حشد الأطفال متزاحمين إلى الباحة. وقد خرج ابنها بينهم، وهو يركض سعيداً. لكنه توقف فجأة عندما رآها، فقد كانت تلك هي أول مرة تأتي فـيها أمه إلى المدرسة.
قالت له:
- أرني قاعة درسك. أريد التعرف على معلمك.
وعند الباب، أومأت آناليا للصغير بالانصراف، لأن المسألة خاصة، ودخلت وحدها. كانت القاعة واسعة وعالية السقف، على جدرانها خرائط، ورسوم بيولوجية. وكانت تفوح منها رائحة الحبس وعرق الأطفال نفسها التي أثرت فـي طفولتها، ولكن الرائحة لم تزعجها فـي هذه المرة، بل على العكس، فقد تنشقتها بتلذذ. كانت المقاعد فـي حالة من الفوضى بعد الاستخدام اليومي، وكانت هناك بعض قصاصات الورق، مبعثرة على الأرض، ومحابر مفتوحة. وتمكنت آناليا من رؤية عمود من الأرقام على السبورة. وفـي أقصى القاعة، وراء منضدة موضوعة فوق منصة، كان يجلس المعلم. رفع الرجل رأسه متفاجئاً، ولكنه لم ينهض واقفاً، لأن عكازيه كانا بعيدين، فـي الركن، لا يمكنه الوصول إليهما دون جر كرسيّه. اجتازت آناليا الممر بين صفـين من المقاعد، وتوقفت أمامه.
- أنا أم التلميذ توريس. قالت ذلك، لأنه لم يخطر لها قول أي شيء آخر.
- مساء الخير يا سيدتي. وأنتهز هذه الفرصة لأشكرك على الحلوى والفاكهة التي أرسلتها إلينا.
فقالت آناليا، وهي تضع علبة القبعة على الطاولة:
- فلندع هذا الكلام، لأني لم أحضر من أجل المجاملات. لقد جئت لأطالبك بتصفـية حساب قديم.
- ماذا تعنين؟
ففتحت العلبة، وأخرجت رسائل الحب التي خبأتها طوال تلك السنين. ومرّ هو ببصره، فـي لحظة، على كومة المغلفات.
قالت آناليا:
- أنت مدين لي بإحدى عشرة سنة من حياتي.
فتلعثم هو، عندما تمكن من إخراج صوته الذي انحبس فـي مكان ما:
- كيف عرفتِ أنني من كتبها؟
- فـي يوم زفافـي بالذات، اكتشفت أنه لا يمكن أن يكون زوجي هو من كتبها. وعندما أحضر ابني سجل درجاته الأول إلى البيت، تعرفت على الخط فوراً. وحين رأيتك الآن، لم يعد لدي أي شك، لأني كنت قد رأيتك فـي أحلامي، مذ كنتُ فـي السادسة عشرة من عمري. لماذا فعلت ذلك؟
- كان لويس توريس صديقاً لي. وعندما طلب مني كتابة رسالة إلى ابنة عمه، بدا لي أنه ليس فـي ذلك أي سوء. وهذا ما حدث فـي الرسالة الثانية ثم الثالثة. ولكنني لم أعد قادراً على التوقف، عندما جاءني ردك بعد ذلك. لقد كانت تانك السنتان، أفضل فترة فـي حياتي؛ فهي الفترة الوحيدة التي كنت أنتظر خلالها شيئاً.. كنت أنتظر البريد.
- والآن.
- أيمكنك أن تغفري لي؟
فقالت آناليا، وهي تقدم إليه العكازين:
- الأمر يعتمد عليك.
لبس المعلم سترته ونهض. ثم خرجا معاً إلى الباحة الصاخبة، حيث لم تكن الشمس قد غابت بعد.
 
أعلى