أنسي الحاج - حب7-8-9

حـــــــبّ [7]
ليس من حقّكَ أن تؤمّلها بأكثر من طاقتك.
إعجابك يبهرك، يولعك، فتقول ما يجعلها تنام على أحلامٍ مستحيلة، وتتصرّف، تحت نار رغبتك، كأنّك الفارس الذي سيعوّضها ويرفعها فوق السحاب.
ها هي تحلم بلا حدود، تُصدّق مهما تدلّلتْ متظاهرةً بعدم التصديق. والعاشقُ صادقُ العاطفة، لكنّه كذّاب لأنّه في الأغلب سوف يعجز عن المطابقة بين الوعد والتنفيذ.
لو استطاعت المرأةُ أن تستعذب الوعود دون أن تصدّقها لما تجهّمت العلاقة، لما تسمّم الجوّ في ما بعد بالعتاب والأسى. العاشقُ ينسج لها رؤى أشواقه، وهي تراها حياةً ستعيشها في الواقع.

لا تستطيع المرأة أن تعطي أكثر ممّا تعطيه. إنّها تفي بوعودها. ما تعجز عنه هو على الأرجح تصعيداتٌ ابتكرتها تصوّرات العاشق. سراباتٌ هي غير مسؤولة عنها. السحر يبعث بتوهّجاته وفق الأجهزة العصبيّة التي تتلقّاها. لا يُقاضى السحر في محاكم الاستحقاق. من حقّنا أن ننقم على أقدارنا لا على ضحايا الأقدار.
الطفلة التي تكون في الفتاة الصغيرة تبقى في الصبيّة وفي المرأة. في هذا رباطٌ أكيد بين المرأة والشاعر: كلاهما يكبر على طفولة. لا تَعِد طفلاً وتخلف بوعدك. ستكسر له حلماً لن يتوقّف نزفه وسيحفر في مكانه تجعيدةَ قلقٍ حيال جميع الوعود.

■ ■ ■

تحتاج المساكنةُ إلى تمثيلٍ يشبه حاجةَ الجسد إلى كساء.

■ ■ ■

ليت المعشوقة تأخذ من كلام الحبّ رحيقه وتنسى الباقي. شَهْدُ التوقِ، ولا تحاسب على الأطباق. لكنّ ذلك صعب. أرض الميعاد بالنسبة إلى المرأة تقع في الغالب على حدود الكلام. وراءه لا أمامه. جهاز دفاعها عن هذه الخيبة يكمن في القناعة. وفي أملٍ بإطلالةِ إعجاباتٍ جديدة.

■ ■ ■

تبكيتُ الإخلال بالوعد خنجرٌ يحزّ في روحك وشبحٌ يصعق عينيك كلّما خلا رأسكَ ممّا يلهيه.

■ ■ ■

الشوق، إن لم تتجاوز به الحُمّى حدود الشرود، فؤادٌ ساكن. يغلي، يغلي، ولا يفور. يحفر ويغور، ولا يفور.
الشوق حاجةٌ، إشباعُها فيضُها على السكون. والفيضُ، أي الوصال، قد يزيد الشوق، وقد ينقصه، وقد يمحوه.
الشوقُ يقيم في النقص، في التقصير، في الجبن، في شبهِ عَدَم. الوصول شجاعة. الوصال يراوح بين ثلاثة: الاعتياد، الشغف المتصاعد، الانتحار.
شعراءُ الحبّ المجنون يقيمون في النقص، مُشْبَعين ومحرومين.

■ ■ ■

معاينةُ اللهِ تُعمي، أي تُطفئ. الحرمانُ من مشاهدته يؤجّج الجوع إليه.
كذلك في الحبّ. قد نحبّ ذاتنا في الحبيب، غير أنّنا نحبّ أكثرَ منها ذاته، ذاته الضبابيّة، الناصعة الضبابيّة، الغامضة الحارقة، ذاته الحاملة أحلامنا، القابلة مستحيل أمانينا.
ذاته الغائبة غياباً نلقي عليه بآلامِ الشوقِ تباعاً، كأنفاسٍ كلّما قاربت الرمق الأخير تجدَّدَ شهيقها من زفيرها.

■ ■ ■

الحياةُ موتٌ بطيء، الشغفُ يتحدّاها ويتحدّاه.
يجب أن نحاذر تقليد الحبّ المجنون. يكون أو لا يكون.
اركنْ إلى الذاكرة لتتأكّد أنّك عرفته، لا إلى المخيّلة أو الثقافة.
الحبّ المجنون، أجمل حبّ، يهودي تائه يبحث عن موته.

■ ■ ■

لا تنظر وراء العبارة وأنت تقولها. تقدَّم. ستحلو الفراغات لمَن يملأها.

■ ■ ■

«مَن أنتِ؟ لا أدري وما ضَرَّني
جهلي، وجهلي اللذّة الباقيةْ
أطيَب ما في الشعرِ أغنيةٌ
تبقى بلا وزنٍ ولا قافيةْ»
صلاح لبكي

■ ■ ■

إنْ لم تُصِب من أوّل مرّة فلا داعي للتكرار.
إنْ لم يفهم من المرّات الأولى فعاودي الكرّة إلى أن يندم على ما فات.

■ ■ ■

اختَرْ، إنْ كنتَ من هواة الألم، حبيباً يتضاعف حجم الغياب فيه كلّما ازدادَ حضوراً.

■ ■ ■

يراوحُ بُعْدُ الغيابِ لدى المعشوق بين ما لا تفهمه في شخصيّته وبين ما لا وجودَ له في هذه الشخصيّة وإنّما في نظرتك إليه. النتيجة واحدة. المهمّ أنْ تستلقي على الغيمة وتظلّ تجهل أنّك ستقع.

■ ■ ■

بعضهم ما إنْ يعبّر عن حبّه حتّى يرتاح منه...

■ ■ ■

نستطيع العيش بلا ذاكرة فهل نستطيع العيش بلا نسيان؟ «نجّني يا ربّ من نسيان النسيان!» يقول الشاعر. النسيان هو الحجر الفلسفي، الينبوع الذي في الاغتسال به تتقشّر الروح.
والفيلسوف يجيب الشاعر: «بل حذارِ نسيان التذكّر، لأنّ الذاكرة هي فكرك وروحك، وبدونها أنت نبات».
الأوّل يهجس بالطمأنينة والآخر بالأخلاق. الشاعر يلوذ من نفسه بالمجهول، بأجنحة المخدّر، على رَحْب المُسْكر أو السَفَر، في مضيق الانطواء، وسائر المروقات على الذات أو الاضطجاع فوقها بأمل تغييبها، والفيلسوف يحاول حماية القيم والمبادئ من الضياع في زوبعة الأنا.
أين يقف مَن هو لا هذا ولا ذاك؟
في المنطقة المنزوعة السلاح بين هَلَع الشاعر ومبدئيّة الفيلسوف.
... وفي صَهْرِهما معاً، حيث الإنسان قبْل آدم وحوّاء.

■ ■ ■

يقول آباء الكنيسة، من بولس إلى يوحنا الذهبيِّ الفم إلى توما الإكويني، بوجوب خضوع المرأة للرجل، وبأنّها لم تُخْلق في البدء بل آدم، وإذاً فهي لم تكن واجبة الوجود.
يريدون أنّ الخليقة صناعةٌ محض ذَكَريّة، فالله، في اللغة والتصوّر وكتب الدين، مذكّر، وقد اجتزأ الأنثى ضلعاً من الذَكَر لمؤانسته في الوحشة. أي إنّ آدم ولد يتيم الأمّ. ولد راشداً بلا طفولة. أمّا حوّاء فلم تحظَ بشرفِ جَبْلها من تراب واكتُفيَ لها بقطعةٍ من آدم. هي طبعاً رموز، لكنّ الرمزَ أصدقُ إنباءً من الكتب: كلّه وكلّها احتكارٌ ذَكَريّ للسلطة.
لا تثوري يا سيدتي. لا تقتبسي شيئاً من عادات الرجل. يكفي أنْ تكوني على أجنحة مواهبكِ.
يستحيل تخيُّل الكون معزولاً عن احتضان الحنان له.

■ ■ ■

حيث يكون قلبك يكون كنزك.

■ ■ ■

حبّ يوقع في هاوية وآخرُ يَرْفع من هاوية. تعرف أيّهما هو، عند وحي الشروق وفي حصاد المغيب.

■ ■ ■

لماذا نَنْشد التخلّص من حبائلنا؟
شيءٌ آخر سيحلّ محلّها، وقد لا يكون أرحم.
لن نتمكّن من العيش بدون حبائل، بدون قَهْر، بدون مغالبة.
بدونها نقع. لن نعود نتلمّس شيئاً وراء الشيء، وسنفتقد اللعب. سيفقد صوتنا رونق الصباح، وصمتُنا معنى الكبرياء. وسيخسر الحبّ ارتعاشةَ المعجزة.

عابــــــرات

جئتِ كنتُ حزيناً قلتُ نعم
ابتداءً منكِ قلتُ للعالم نعم.
بول إيلوار

■ ■ ■

ليس الجمال إلّا الوعد بالسعادة.
ستندال
■ ■ ■
أَنْ يُحَبَّ المرءُ دون أن يُغوي، لواحدٌ من أجمل أقدارِ الإنسان.
أندريه مالرو

■ ■ ■

الحبّ هو الهوى الوحيد الذي لا يحتمل ماضياً ولا مستقبلاً.
أنوري دو بلزاك

■ ■ ■

ما فائدة الكلام!... ما نفع الكتابة؟ ما لم يكن المصغي هو الحبّ، ما لم يكن الحبّ هو الذي سيَقرأ؟
شانتال شوّاف

■ ■ ■

مستقبل الرجل هو المرأة.
إنّها لون روحه.
آراغون

■ ■ ■

دعني أحبّك
دعني أُعميك.
جويس منصور

■ ■ ■

حرمان الحبّ هو أفدح أنواع الفقر.
الأمّ تيريزا

■ ■ ■

في الحبّ هناك دوماً واحدٌ يتألّم وآخر يَضْجَر.
بلزاك

■ ■ ■

أن تكون عاشقاً هو أن تَخْلق ديانةً إلهُها ليس معصوماً عن الخطأ.
جورج لويس بورخيس

*********************

حـــــــبّ [8]
أنسي الحاج

نجهل حقيقة مواقف معشوقات الشعراء. ماذا كانت تفكّر أو تقول عبلة لعنترة، أو ليلى لقيس، أو بثينة لجميل. هل كانت خولة شقيقة سيف الدولة سعيدة بحبّ المتنبّي لها؟ هل «أحسّت» بهذا الحبّ؟ هل أَحبَّها أبو الطيّب حقّاً؟
نرى غربة مستعصية بين لغتَي الجنسين، جسديّاً وذهنيّاً. نعود إلى الشعراء والأدباء والفنّانين والفلاسفة وربّما وعلى الأرجح إلى العلماء، نجد، من خلال الوثائق التي هي القصص والأفلام وكتب السيرة، أنّ الفرق في التخاطب بين الجنسين ناجم عن «نوعيّة» الحبّ لدى كلّ منهما، وعن التباين في مفهوم العلاقة.
يفهم كلّ واحدٍ جانباً من الآخر ولا يفهم جوانب، ويحبّ ملمحاً ولا يحبّ ملامح. أكثر مَن يرتاح هم الأشخاص «الطبيعيّون»، لا المأخوذون ولا العباقرة، لا الصوفيّون ولا «المتطلّعون». غير الطبيعيّين، مهما تكن درجةُ التناغم بينهم وبين شركائهم، سيظلّون وحيدين أو جلّادين أو ضحايا، وفي كلّ حالٍ غرباء.

■ ■ ■

نظرةُ الرجل المعجَب تحمل اشتهاءه. نظرةُ المرأةِ المشتهية تحملها بأسرها.

■ ■ ■

الشهوانيّةُ تأخذ حقوقها، العاطفيّة تؤخذ. الأولى إذا خسرت في ما بعد، عزاؤها أنّها كسبت في ما قبل، وأحياناً، إذا بَرَعت، يدمنها العاشق.
المرأة مظلومة في كلّ حال، لكنّ أبواب الشهوانيّة كثيرة، وعندما تُظْلَم فبعد أن تكون قد انتقمت سلفاً.

■ ■ ■

«كلّ دا كان ليه لمّا شفت عينيه؟» تسأل أغنية محمد عبد الوهاب. لعلّ واحداً من الأسباب أنّه رأى فيهما ما حُفظ حتّى الآن له وحده دون سواه.

■ ■ ■

تهدي النظرات خبايا الكائن وخفاياه وأسراره إلى الناظر. تهبان إيّاه روح صاحبتهما وجسدها والشوق الذي لا تعرف أين سيلقي بها... هل تحبّه؟ هل تعني هذه النظرات الثابتة الحارقة أنّها تستغيث؟ هل يتلقّى الناظر الرسالة كما أرادتها ذات العينين؟
في هذه اللحظات كلّ هديّة الذات. وستظلّ العينان، عينا تلك اللحظات، تحدّقان إلى الناظر من أعماق غرائزه وذاكرته، وكلّما واجهته نظرات إحداهنّ، وإلى نهاية العمر.

■ ■ ■

النظرات قربان الأحلام، وهي نفسها الضمير وجهاً وقفا.

■ ■ ■

العواطف الجيّاشة التي يظهرها الرجل للمرأة خلال احتدام رغبته، صادقة أثناءها. قلناها ونكرّرها: الجنس يأتي معه بحبّه. وحبّه نوعٌ من الحبّ، لا شكّ. المشكلة هي في الخلط بين الأنواع. بين الحوافز والمراحل. قليلة _ موجودة ولكنْ قليلة _ حالاتُ الثبات على إظهار العواطف قبل وبعد، وبلا تفاوت. أحياناً تنحبس العواطف بعد تحقيق الرغبة مرحلة تقصر أو تطول، وأحياناً أخرى، إذا كان الحافز محض شَبَقٍ عابر، تكون العواطف التمهيديّة غيمة صيف، ولا بدّ للمرأة، أيّاً تكن غصّتها، من اعتبار الأمر نزوة، لا جدوى من محاسبة الرجل عليها ولا من تقريع نفسها.
والأكثر عدلاً في هذا الإطار أن يكون الاثنان متساويين في الشَبَق وفي روح المغامرة العابرة.

■ ■ ■

أتظنّ أنّك تمتلك قوّة الحبّ أم ضعفه؟

■ ■ ■

أقوى ما في النظرة هو ما تقوله لنفسها وليس لك.

■ ■ ■

رأيتُ نهايتي عندما شَيَّعَتْني نظرة الآخر بتهذيبٍ مبتسم.

«ما من خطّة لجلّاد إلّا أوحتها له نظرة الضحيّة». (بيار باولو بازوليني)

■ ■ ■

نظركِ المفترِس يرى كلّ شيء في الشفّاف والشفّاف مُغْلَق على نفسه.

■ ■ ■

ليت جميع المشبَعين يصيرون مكبوتين ليحظوا بمثل لَفْح عينيكِ!

■ ■ ■

في عهد المرئيّات تُفِّهَ النظر. صارت العين، على قول أحدهم، كالفم، تلتهم كلّ ما تُلَقَّم.
إلّا عين الطفل.
ولو أُتخِم.
الحسناءُ هي الأنثى بعينَي طفلٍ جائع.

■ ■ ■

اعتدتُ الحياة وسوف أعتاد الموت ولم أنجح في اعتياد الحبّ.

■ ■ ■

ــــ لو استطعتِ أن تصنعي العالم على هواكِ فماذا تفعلين؟
ــــ أجعلكَ على الدوام مسحوراً بما أوحيه لا بما أفعله.

■ ■ ■

جحيمُ امرأةٍ هاربة نعيمٌ لمَن يلاقيها.

■ ■ ■

الماء للمرأة كالمرأة للمرآة: غلافها الثاني.

■ ■ ■

ما أعظم القدرة التي تكسر نرجسيّة الرجل وتوقعه في حبائل امرأة! خمس دقائق من غربته عن نرجسيّته تفقده رشده، تعميه. لم يكن يتوقّع أن يجد شيئاً يُحَبّ أكثر من نفسه. هرطقة وهرطقة مرغوبة! كيف هذا!؟ كيف حصل!؟
كان يعشق نفسه جسداً وروحاً. مَن هي هذه المختلسة المحتلّة؟ روحه كانت غرامه بنفسه، وإذا به تصبح غرامه بامرأة؟
بعد قليل سيحاسبها على هذا. سيدفّعها استرجاع عبادته لنفسه أقوى ممّا كانت وينقل لها هي أزمة الذات.
الرجل لا يفقد نرجسيّته بل يحوّلها من مجونٍ طائش أو تسلّطٍ أناني إلى اندحارٍ يعرضه كما لو كان مادة لاستدرار الشفقة أو الدلال. ينتقل من المستبدّ إلى المسكين المظلوم. يظلّ كيفما فعل هو المحور.
المرأة، مهما بالغت في تضخيم نرجسيّتها، لا تستمتع بها إنْ لم يكن لها شريك. هكذا تسقط اللعبة عند أوّل حلقة من الصدامات التي ستنشب. المرأة ترضى بشريك في النرجسيّة لكنّ الرجل لا يستطيع. لا مكان على هذا العرش لمالكين.

■ ■ ■

نتخيّلُ عرزالاً على سطح بيتٍ في القرية، لماذا لا نتخيّله ممكناً في السماء؟ بل في مدينة؟
نتخيّل السراح الحرّ في الطبيعة الخضراء، على شطّ البحر، في الغابة، بكأس خمر، بولعٍ جنسيّ، لماذا لا نتخيّله أيضاً في السماء؟
تمييزٌ لم تصنعه السماء بل نحن.
لا شيء يعطينا الإذن بهذا الحظر، لا دين ولا شريعة. وهو تَباخُلٌ من الإنسان واعتيادٌ لعدم النظر إلى فوق.

■ ■ ■

لم أعرف أعمق من رقّة المرأة. أشبه بأعماق المعبد: فيء البخور وطمأنينة كتمان الأسرار. لا فظاظة ولا صفاقة إلّا في المسترجلة.
ما تفقده المرأة لحساب حقوقها الجوهريّة يربحه الإنسان فيها وتربحه الأنثى. ما تفقده في حومةِ السباق على الخشونة ومضاهاة الرجل في الاستهتار بنظافته وشكله وخطابه، تخسره فيها الأنثى ويخسره الإنسان.
لعمق الرجل صدى التهديد. لم أعرف أعمق من رقّة المرأة.
لا رقّة في عمق الرجال كرقّة عمق المرأة إلّا بين القدّيسين، أو أولئك الذين كانت أرواحهم تتمنّى أن يُخْلَقوا بغير جنس.

■ ■ ■

نأخذ على العاشقَين أنانيتهما، اكتفاءهما بحبّهما. لا يشعران بمآسي المجتمع: لا حرب ولا وباء، لا فقر ولا أزمة.
صحيح، ولكنْ ما سبب هذا الشطح عن الواقع؟ وما غايته؟
السبب معروف: للحبّ عالمه ودنياه، وفي هذين ينتفي الزمن ومعه وقائعه ولغته.
أمّا غاية الانخطاف فهي التعويض عمّا سيليها من ارتطام بالأرض.
عيشوا أيّها العشّاق مَطْلَع السحر حتى الثمالة. لا تبقوا شيئاً في الكأس. بعد الصحوة، أقصى ما قد تحظون به من تضميدٍ للجرح هو لقاءٌ جديد. عودةٌ إلى المرّة الأولى. ثم عودة ثم عودة. لا تَسَلوا عن حاسدي اكتفائكم بذاتكم. لكُم أجنحة وتطيرون، كيف يمكن أن يفرح بكم السجناء؟

************

حـــــــبّ [9]
أنسي الحاج

الله في الوجه.
في صورة الوجه.
قبل أن يموت الإنسانُ الأوّل كان الله فيه كلّه.
بعدما صار يموت انحسر الله عن الجسد وانحصر في الوجه.
في صورة الوجه.
لأنّ الإنسان صار يتوالد بعد اكتشاف المرأة.
لأنّه قبل ذلك كان خالداً كسائر الآلهةِ وغير ذي حاجة.
ليست المرأةُ مَنْ كسر الإنسان بل الحبّ.
المرأةُ بلسمٌ لجرح الكسر.
المرأةُ صورةُ وجهها.
الله في صورة وجه المرأةِ أكثر ممّا هو في السماء ووجوه الأرض.

■ ■ ■

حين نمتدح الجوهر وننتقد المظهر هل نكون دوماً صادقين؟
لا، طبعاً.
لا الظاهر وحده ولا الباطن وحده بل اختلاطهما. الشكل حيث هو إغراءٌ بعجينه وبالروح معاً. لولا المظهر كاد الجوهر أن يكون واحداً، قاتلاً ومقتولاً.
المظهر مسرحُ الجوهر. الجوهرُ يشتهي المظهر ومِن بَعْدِه الجوهر.
أحبّكَ أيّها المَظْهر لذاتك وأحبّكَ لما تخبّئ ممّا هو أَفْتَن منك، وبالطبع سأراهُ أفتن منك ولو لم يكن كذلك، ما دمتُ منتشياً بسحرك.
أرجوك أيّها المظهر لا تخذلني! راوغني!...

■ ■ ■

لا حدود لشيء ما دام الخيالُ هنا. المظهر مادّة؟ ومَن قال إنّ المادّة محدودة؟ تحت وهج الخيال المادّة نسغ وظلال، يدان ترسمان وعينان تعيدان الخَلْق. الجوهر وَهْم، الجوهر مادّة من خلال رؤية واهمة؟ ليكنْ! هذا الوهم جوهريّ!
الإنسان (وربّما الحيوان جميعاً) كائنٌ يروح ويجيء على أرجوحةِ الرؤى، لا يرى شيئاً كما هو ولا يراه شيءٌ ولا أحد كما هو.
أنا مَظْهرٌ إذاً أنا موجود.
أنا مَظْهرٌ إذاً أنا جوهر.
أنا مَظْهرٌ إذاً أنا سرٌّ تحت هذا المظهر.
لا تخذلني أيّها المظهر!

■ ■ ■

لن أقنع بأن أكون أنا.
سأداوم على التظاهر بالاستسلام لمحايلة المعاودة.
لا حدود للمصير.

■ ■ ■

المظهر الأخّاذُ تجلٍّ من تجليّات الرونق، بلّورةٌ للجمال. لهذا يُوقِع في الحبّ. الجمال يصطاد الحبّ ويروّضه على الألم والمتعة. المظهر الأخّاذ يشعل فتيل الفتنة نحو المجهول.
المجهول هو الغرف الداخليّة، هو ما ندعوه الجوهر. الجوهر بطانةُ المظهر، السعداءُ هم الذين يعميهم المظهر إلى النهاية، حيث هو جوهر دون أن يدروا...

■ ■ ■

نحبّ الشيء فنراه جميلاً أم نراه جميلاً لأنّنا نحبّه؟
هذه وتلك وغيرهما: نحبّ ما يعطينا أجنحة.

■ ■ ■

هناك دوماً أساسٌ حقيقيّ للانطباع. الانطباع علامةُ بصمة، إنذار، بُشرى. لسنا ملزمين مشاركة كلّ واحدٍ انطباعاته، لكنّ من واجبنا الإصغاء إليه. قد نشاركه بعد الإصغاء.

■ ■ ■

كلّ بدايةٍ، جوهر.

■ ■ ■

لا تخلطي بين حبّك الآخر وبين انعكاس حبّه عليكِ.

■ ■ ■

سيّدةٌ تسألني بألم: «اشرح لي قدرةَ البشر على أن يتخطّوا حبيباً لطالما أقسموا انّهم يعشقونه حدّ الثمالة!؟».
ليست قدرةُ الأشخاص وإنّما قدرة الزمن. ولا نخلط بين النزوة والحبّ، النزوة أيضاً تُقسم لكنّه قَسَمُ اللحظة. أكبر الظنّ أنّ الإنسان يُحبّ نمطاً واحداً من البشر، نموذجاً واحداً، لا شخصاً واحداً، إلّا في النادر. عندما يُقسم رجلٌ لامرأةٍ أنّه يحبّها إلى الأبد هو في الواقع يقسم صادقاً أنّه يحبّ هذا «النوع» من النساء ولن يحبّ سواه. النوعُ قد يتكرّر في نساءٍ كثيرات، لكنّه الهاجس نفسه، والمرأةُ نفسها.
لا تَدَعي أَلَمكِ يتمكّن منكِ. لو كان هذا الشخص لكِ، لظلَّ لكِ، ولو عَبْر غيركِ من النساء.

■ ■ ■

أمجدُ جنونٍ يصطحب العاشق هو أن يُحِبّ معشوقه أكثر ممّا يحبّه المعشوق.

■ ■ ■

الحبّ يُثْقل القلب بأخفّ وزنٍ على الإطلاق هو وزن الوهم. وهذا الوهم يدفئ حامله أقوى ممّا تدفئ الشمسُ الكائنات.

■ ■ ■

الجمال هو ما يجعلنا نقيم معه علاقات لا نفهم سرّها، ومن خلاله نمدّ جسوراً مع العالم أو نقطع جسوراً.

■ ■ ■

نشتهي حضور الحبيب ونعبد غيابه. الحلم يصنع آيته في الغياب.

■ ■ ■

حبّ النظرةِ الأولى غالباً ليس من النظرة الأولى. تكون قد مهّدتْ له مُشاهَدَة أو مشاهدات سابقة من صنف انفراجات الفضاء، رؤية خلال الرؤى. ما هي هذه الرؤية _ الرؤيا؟ جَذْرُ ما تصبو إليه النفس: الشخص المحلومُ مذ نشأة الحالم وربّما قبل النشأة. مزيجٌ من نتاج الجينات وأصابع الأمومة، مع التنقيح والتنميق، تضفيهما المخيّلة الخاصّة وهامشُ ما استَقَلّ من الطبع.
حبّ الصاعقةِ ابنٌ لأبوين: حريّة الحلم وحتميّة القَدَر.
حبّ النظرةِ الأولى استردادٌ لمفقود.

■ ■ ■

الحبّ حالةُ نسيان. حتّى الأفكار التي يستثيرها في العاشق حبّه تغدو في خدمةِ النسيان.
حالةُ الحبّ عزلةٌ عن الشارع نحو الغابة وعن الغابة نحو نورٍ داخليّ لا يُرى فيه غير الحبيب.
النسيانُ الذي يغدقه الحبّ على صاحبه هو ذاكرةُ الغفران.

عابــــــرات


تعلّقتُ ليلى وهي غِرٌّ صغيرةٌ = ولم يبدُ للأتراب من ثديها حجمُ
صغيرين نرعى البَهْمَ يا ليت أنّنا = إلى اليوم لم نكبرْ ولم تكبرِ البَهْمُ
المجنون

■ ■ ■


... ويحسبُ نسوانٌ من الجهلِ أنّني = إذا جئتُ، إيّاهُنَّ كنتُ أريدُ...
يموتُ الهوى منّي إذا ما لقيْتها = ويحيا إذا فارقتُها فيعودُ
جميل بثينة

■ ■ ■


لقد خفتُ أن ألقى المنيّةَ بغتةً = وفي النفسِ حاجاتٌ إليكِ كما هيا
وإنّي ليُنسيني لقاؤكِ كلّما = لقيتُكِ يوماً أن أبثّكِ ما بيا...
جميل بثينة

■ ■ ■


حدّثونا أنّها لي نفثتْ = عُقَداً _ يا حبّذا تلك العُقَدْ
كلّما قلتُ: متى ميعادُنا = ضحِكَتْ هندٌ وقالت: بَعْدَ غَدْ.
عمر بن أبي ربيعة

■ ■ ■


أدعو إلى هجرها قلبي فيتبعني = حتّى إذا قلتُ هذا صادقٌ نزعا
وزادني كَلَفاً في الحبّ أنْ مُنِعَتْ = أَحَبُّ شيءٍ إلى الإنسانِ ما مُنِعا...
الأحوص الأنصاري

■ ■ ■


لقد خِفْتُ حتّى خلتُ أنْ ليس ناظرٌ = إلى أحدٍ غيري، فكدتُ أطيرُ
وليس فمٌ إلّا بسرّي محدّثٌ = وليس يدٌ إلّا إليَّ تشيرُ
عُبَيْد بن أيّوب العنبري

■ ■ ■


يوم قالت: إذا رأيتكَ في النوم = خيالاً أَصَبْتَ عيني بداءِ
واسْتخَفَّ الفؤادُ شوقاً إلى قربِكَ = حتّى كأنّني في الهواءِ
بشّار بن بُرْد

■ ■ ■


لو كانَ يدري الميتُ ماذا بَعْدَهُ = بالحيِّ حَلَّ، بكى له في قبرهِ
غُصُصٌ تكادُ تفيضُ منها نفسُهُ = وتكاد تُخرِج قلبه في صدرهِ...
ديك الجنّ الحمصي

■ ■ ■


تاهتْ على صورةِ الأشياء صورتُهُ = حتّى إذا كملت تاهت على التّيهِ.
أبو تمّام

■ ■ ■


ولم تعطني الأيّام نوماً مسكّناً = ألَذُّ بهِ إلّا بنومٍ مشرَّدِ
وطولِ مقامِ المرءِ في الحيّ مُخْلِقٌ = لديباجتيه، فاغتربْ تتجدّدِ
فإنّي رأيتُ الشمس زيدتْ محبّةً = إلى الناس أَنْ ليست عليهم بسرمدِ
أبو تمّام


.
spies31-10-08-4.jpg

Pablo Picasso
Femme nue au bonnet turc,1er décembre 1955
 
التعديل الأخير بواسطة المشرف:
أعلى