علي حسين - وجوه الحب الثلاثون..

إن الحرب شبيهة بالحُب.. فتنحوا أيها الكسالى!

1
ما الحُب ؟ يتساءل شكسبير في مسرحيته الشهيرة، خاب سعي العشاق ، لم يكن الشاعر الكبير أول مَن تساءل ، فقبله بألف وخمسمئة عام خرج علينا شاعر روماني " اوفيد " بثلاثية شعرية مكرسة بالكامل لمفهوم الحب : " مراثي الحب وعلم الحب ودواء الحب " ، وقد جمعها المترجم الراحل ثروت عكاشة في مجلد واحد اسماه " فـن الهوى " ، ونجد الحب عند اوفيد ليس مجرد زينة الحياة كما كتب الفيلسوف ابيقور ، بل هو الحياة كلها ، فبالنسبة له ، ليس هناك حياة كاملة من دون حب ومن دون معاناة الحب الدائمة.

ونجد هذا الدفاع عن الحب في قصيدته " مراثي الحب " حيث تحوي القصيدة على أوصاف اللقاءات الغرامية ومسرات الحب المتبادل والخلافات والخيانات وانتصارات الحب وهزائمه . الحب بالنسبة لأوفيد ليس مجرد لعبة ، بل وفي الوقت نفسه موضوع هموم وجهود كبيرة ، وليس من قبيل المصادفة ان يقارن اوفيد الحب بالخدمة العسكرية والمحب بالمحارب : " ان كل محب هو جندي " ويعالج اوفيد بالتفصيل هذه المقارنة . فكلاهما الجندي والعاشق يتحملان فريضة قاسية ، كلاهما ساهر تحت الحراسة – الاول في المعسكر والثاني على ابواب محبوبته ، ينامان على الارض وكلاهما على سير ويقومان بالحصار ،إن الحب هو فريضة قاسية ، لا يضمن الفوز فيه إلا مَن يخدمه بمثابرة وصبر، ونجد في فن الهوى الاستراتيجية التي يضعها اوفيد لممارسة الحب ، وهي استراتيجية معقدة وتتطلب معرفة وجهداً ، فالجمال وحده غير كافٍ للحب المتبادل . فالعاشق او المحب عليه ان يكون لبقاً راقيا لطيفا متساهلا ومهيئا لجميع الصعوبات التي يجلبها الحب ، وهنا يستخدم اوفيد ثانية تشبيه الحب بفن الحرب :" ان الخدمة العسكرية شبيه بالحب ..فتنحوا ايها الكسالى ! " فالنصر هو وحده المهم في الحب ، ومن اجل تحقيقه يمكن استخدام جميع الوسائل: كالتملق والمداراة والخداع الكاذب.
ان اوفيبد يبحث في الحب عن الرضا المتبادل بين الرجل والمرأة ، وهو يحاول في كتبه ان يعطينا وصفا اكثر جدية وربما اكثر درامية لقصص الحب المختلفة ، ولهذا دخل اوفيد تاريخ الادب العالمي ، ليس باعتباره واعظا في الاخلاق ، بل باعتباره منشد الحب الحسي ، وقد جذبت لغته الرقيقة والساخرة الكاتب الروسي ليف تولستوي الذي اطلع في اثناء اقامته في باريس على نسخة من الترجمة الفرنسية لكتاب اوفيد عن الحب ، وقد اصبح فيما بعد من أشد المعجبين به ، بل أنه كتب في يومياته : " ياللهجته الساخرة ، المفعمة بالمشاعر ، اوفيد ليس واعظا ، وانما حكيم بأحاسيس البشر " .
************

انواع الحب
كان في التاسعة عشرة من عمره حين كتب في دفتر يومياته :" ان صحبة النساء ضرورة كريهة من ضرورات الحياة ، لهذا اتمنى ان ابتعد عنهن ما امكنني ذلك ، من يجعلنا نفقد مزايانا الطبيعية ، الشجاعة ، والحزم ، والعقل غير النساء " ، بعد ان ينتهى من كتابة هذه الكلمات يشعر بخيبة أمل تتمكن منه ، كان قد صمم ان يعيش في يسنايا بولينا مع عمته ، يقرأ ويتأمل ، لكنه لم يستطع ان يبعد تفكيره في النساء ، فقد أسرته فتاة لم تتجاوز الثامنة عشرة من عمرها " زينا مولوستفوف " دون ان يجرؤ بان يبوح لها بحبه وقد كتب في يومياته :" أمن الممكن ألا اعود فأراها ابداً ؟ أمن الممكن ان اسمع في يوم ما انها تزوجت ، ام هل اراها ثانية وذلك اكثر مدعاة الى الحزن بقبعتها سعيدة ، بنفس عينيها المفتوحتين المرحتين و العاشقتين ؟ " .
بعدها بعام ، سنة 1848 يكتب تولستوي رسالة الى شقيقه الاكبر :" كانت زينا ، كما علمت فيما بعد احدى اولئك الفتيات النادرات ، وان كنَّ قد ولدن للحياة العائلية ، ونتيجة لذلك يصممن على اغداق كل كنز الحب الذي يختزنّه في قلوبهن على أحبائهن المختارين ، والمحزن انني لم اكن يوما من بين جميع الناس الذين أثاروا إهتمامها "
بعدها يقرر ان ينشر مقالة ادبية يضع فيها مفهومه للحب فيكتب : " هناك ثلاثة انواع من الحب :
1- حب الجمال و حب التضحية بالذات والحب الذاتي ، ولا اتحدث عن حب شاب لفتاة أو حبها له ، فأنا اخاف هذه العواطف ، وقد كنت سيء الحظ للغاية في هذه الحياة من حيث اني فشلت في ان اشهد شرارة واحدة من الصدق في هذا النوع من الحب ، انني اتحدث عن الحب الموجه للجنس البشري الذي يتركز وفقا لقوة الروح شدة وضعفا على شخص واحد او على اشخاص عديدين ، او ينهمر على الكثيرين ، وينطوي حب الجمال على حب العاطفة نفسها والافصاح عنها ، لأن الناس الذين يحبون على هذا الوجه يكون هدفهم اثارة محبوبهم ، ذلك الشعور السار في الوجدان الذي يلذ لهم التعبير عنه ، والناس الذين يحبون مع حب الجمال لا يهتمون الا قليلا جدا بالمبادلة الا بوصفها شيئا لا اثر له ، وكثيرا ما يغيرون اهداف حبهم ، اذا ان غرضهم الاساسي ليس الا استثارة شعورهم السار بالحب . للمحافظة على هذا الاحساس السار في نفوسهم يتحدثون دون انقطاع عن عاطفتهم بألطف العبارات ، وعن الشخص المقصود بهذا الحب " .
في تلك الفترة يتفرغ تولستوي للقراءة ونجده في يومياته يدوّن الملاحظات حول المواضيع التي اثارت اعجابه : اعترافات جان جاك روسو ، اوجين اونغين لبوشكين ، اللصوص لشيلر ومعطف غوغول وحكايات صياد لتورجنيف ، ودايفيد كوبر فيلد لديكنز والتي كتب عنها انها اثارت لديه انطباعات عظيمة .وتبين اليوميات التي كتبها اثناء هذه الفترة ، انه أبدى اهتماما خاصاً بالادب الرومانسي وبخاصة الادب الفرنسي واشعار اوفيد وقد كان هذا الادب بالنسبة له يعني التحرر من المحظورات الاجتماعية وطريقا الى الحرية الادبية ، ولهذا نجده يبدأ منذ كتابة قصص الاولى القوزاق باضفاء هالة من القداسة على الحب ، وكانت اكثر مواضيع ابداعه تختلط باستمرار بوصف مفاتن المراة : " ان حب الجمال هو حب الحرية " ، ونجده بعد سنوات يكتب تحليلا نقديا مفصلا لنظريات الحب التي كانت منتشرة في الغرب انذاك ، فتولستوي يرى ان الحب ذو طابع فريد بصورة استثنائية .والحب هو القوة الوحيدة القادرة حسب راي تولستوي على لجم الانانية المفرطة ، دون ان يحذف السمات الفردية ، بل على العكس ينميها ويتفهمها ولهذا فان مغزى الحب البشري حسب رأي تولستوي هو تبرير وحماية النزعة الفردية من خلال التضحية بالانانية وهذا يحدث لانه عن طريق الحب نخن نؤكد الاهمية المطلقة للفرد ، والحب هو الغاء كامل للانانية ، انه نقل اهتمامنا من الذات الى الآخر ومن هنا تاتي قوة الحب الكبرى التي تلغي الانانية وتبعث الفرد وتسمو به نحو روحية جديدة .
************

الوقوع في الحُب
من المألوف ان يقال ان فلاناً وقع في الحب ، لان معظم العشاق يرتسم على وجوههم الذهول والحيرة والارتباك .
كم من الرجال والنساء أحبوا بععضهم البعض في كل الحقب والعصور التي سبقت تولستوي وسبقتنا ، كم من احلامهم تحققت وما قدر ما أهدر من عواطفهم وهواهم ، عادة ونحن نقرأ مؤلفات تولستوي او بلزاك او موباسان او تورجنيف ، نتساءل عن كل علاقات الحب الممزقة للقلوب تلك التي طرحها هؤلاء الكتّاب ، وهم يتركون لنا كل هذا الكم الهائل من الادلة التي تشير الى حياتهم العاطفية .
في 13 ايلول عام 1862 ، كتب تولستوي في يومياته :" انا احب حباً ، لم احبه في حياتي من قبل ، انا مجنون وسأطلق الرصاص على نفسي اذا سارت الامور على ما هي عليه ، لا يمكن وقف عواطفي نحوها " ، وفي اليوم التالي كتب " كل يوم يمر اعتقد فيه اني لن احتمل المزيد من شعوري بالسعادة ، سأذهب في الغـد اليهم وسأصارح لهم بكل شيء وإلا فإني أنتحر ؟ " .
كانت هي الابنة الثانية لعائلة يعرفها ويتردد عليهم دوما ونراها تكتب في يومياتها في 23 آب 1862 :" اني خائفة لو دلت تلك التجربة على رغبة خاطفة في الحب وليست حباً دائماً " .
كان هو حذراً في مسألة الحب والزواج وكان يعتقد ان الارتباط بامرأة مدى العمر شيء رهيب ، كانت علاقاته الاولى مع نساء كثيرات لا تتعدى اياما وتنتهي باستثناء علاقته بامرأة ريفية تدعى " اكسينيا " اثرت عليه تأثيرا كبيرا دامت علاقاته بها مدة طويلة ، وقد كتب عنها فيما بعد قصة الشيطان التي يروي فيها حكاية انسان يخضع لعبودية جسده ، لكنه وجد نفسه في أشد الحاجة الى امرأة ، وجعل يفكر في زوجته المستقبلية وقد اشترط فيها شروطا خاصة الى ان وقع في حب سونيا ونراه يكتب في يومياته 23 آب 1863 :" اني خائف ، ماذا لو دلت تلك التجربة على رغبة خاطفة في الحياة ، وليست حباً حقيقياً دائماً " لكنه عاد ليكتب في ايلول من نفس العام : لا اعتقد ان مستقبل حياتي مع زوحة يضارع ما يبدو لي الان مع سونيا .. المستقبل السعيد الهادىء الخالي من المخاوف " .
كانت سونيا الابنه الوسط لطبيب الماني الاصل " بيرز " يعمل في بلاط القيصر ، تزوج من الانسة ليوبونوف ابنة احد ملاك الاراضي ، كانت اول زيارة لتولستوي لعائلة الطبيب الالماني سنة 1856 ، في تلك الفترة كان قد انتهى من كتابة قصص من سيبستول وكانت سونيا واخواتها يشعرن بسعادة حين يقوم تولستوي بقراءة الاجزاء الاولى من قصة عهد الطفولة ، ونراه يعجب بالفتيات ويقول لاخته انه لو تزوج يوما فستكون عروسه من عائلة الدكتور بيرز ، وكانت الاخت تعتقد ان الابنة الكبرى ليزا خير من تصلح عروس لشقيقها الكاتب ، لكنه يخبر شقيقته انه لايحبها ونراه يكتب في يومياته :" ليزا تغريني ، لكني لن ادع ذلك يحدث ، فان مجرد الإغراء الذي لا يصحبه اي شعور ما غير مجدٍ " .فقد احسّ ان سونيا الأقرب الى قلبه ن وذات يوم تقترب منه على استحياء لتطلب منه ان يرقص معها فيجيبها بابتسامة :" اني اليوم اكبر سناً من ان افعل ذلك " . ونراها تكتب في مذكراتها ان الكونت تولستوي رفض الرقص لكنه طلب منها طلبا غريبا " ان أغني ولما كان ذلك آخر ما كنت ارغب فيه فقد هربت الى غرفتي " . يكتب في يومياته : لقد بقيت يومين افكر على انفراد في امر سونيا .. وقلت لنفسي لا تدفع نفسك حيث الشباب والجمال والشعر والحب ، فان لهذه ايها الشيخ من هم اصغر منك ، ان موضوعك في صومعة من صومعات العمل ، لقد عشت في هذه الصومعة وسأعود اليها " .
ويكتب بعد ايام " : لقد سطّرت خطاباً سوف أرسله اليها في الغد ، ياإلهي أمنحني القوة ، أخاف ان أموت ، فان مثل هذه السعادة تبدو مستحيلة "
وذهب في مساء اليوم التالي وفي جيبه الخطاب الذي أعدّه ووجد سونيا جالسة مع شقيقاتها ، انتظر ساعات حتى انسحبت الشقيقتان فمد يده الى سونيا بالخطاب قائلا : انه ينتظر ردّها ، فذهبت مسرعة الى غرفتها لتقرأ : " اي سونيا أصبح الأمر لا يُطاق ، لقد ظللت أقول لنفسي طيلة الاسابيع الماضية انني سأبوح الان ، ومع ذلك كنت اشعر بالحرج ، وكنت اخرج من البيت حزينا ساخطا على نفسي أسأل ما عساي ان اقول لو انني تكلمت ..لكن اذا كنتِ تحسين نحوي بأي عاطفة فأرجوكِ ان توافقي على ان تكوني زوجة لي ، ولكن اذا كنت تحسين ادنى شك فقولي لا ، ناشدتك الله ان تفكري ملياً في الأمر " .
وقفت سونيا جامدة وفي يدها الخطاب ، وعندما شاهدتها شقيقتها الكبرى على هذه الحال صرخت :" اخبريني ماذا بك ؟ فقالت بهدوء : ان الكونت طلب يدي ، فصرخت الاخت قائلة : ارفضيه ، كان تولستوي خلال هذه الفترة ينتظر والقلق قد سيطر عليه يحاول ان يسترق السمع على ما يجري داخل الغرفة الى ان سمع وقع أقدام حيث خرجت سونيا لتقول له جملة واحدة :" نعم .. ثم دخلت مسرعة الى غرفتها .
************

الغيرة القاتلة
كانت اول كلمة كتبها تولستوي في يومياته بعد الزواج قوله :" حظ من السعادة لا يُصدَّق " ، لكن هذه السعادة لم تدم طويلا اذ سرعان ما كدّر صفوها الغيرة ، فنجد سونيا تكتب في مذكراتها ": ان ماضي زوجي كله مخيف حتى انني لا اعتقد اني سوف أقبله " ثم تكتب بعد ايام :" إن زوجي مريض ، معتل المزاج وليس يحبني ، إنه يفترُ يوما في حين اني ازداد له حباً وانه يعتقد اني لا أحبه " .، وفي يومياتها هناك غيرة واضحة من بطلات رواياته فتكتب لتصف شعورها :" لقد قرأت اوائل بعض كتبه ، وكنت اشمئز واضيق كلما قرأت له شيئا عن الحب والنساء "
كانت سونيا تتنقل في قراءة أعمال زوجها ، ولم يكن يخامرها ألشك بأنه كان يحاول ان يرسم صورة للمرأة الحقيقية التي في مخيلته ، كان تولستوي من جانبه قد وجد مفهوما جديدا للحب عند الالماني شوبنهور ففي تلك السنوات تفرغ لقراءة الفلسفة وأُعجب اعجاباً شديداً بكتاب شوبنهور " العالم ارادة وتمثلا " والذي يفند فيه شوبنهور جميع مبادىء الحب الرومانسي ، وهو يعتقد ان جميع الشعراء والكتّاب الرومانسيين قد أخطأوا في سعيهم الى امثلة الحب من حيث هو الشهوة الانسانية ، فمثل هذا الرأي يُعد وهماً مطلقاً ، اما الحقبقة فهي ان الحب هو انعكاس لإرادة عمياء في الحياة وغريزة لاعقلانية لاستمرار النوع البشري.
ونجد تولستوي يعلق على ما كتبه شوبنهور فيكتب في يومياته :" لقد ايقنت ان جميع الاحلام والآلام الغرامية للعاشقين ليست سوى رقاقة رومانسية تخفي شيئا واحدا هو الغريزة الجنسية القاهرة " .
ويحاول ان يطبق نظرية شوبنهور في عمله الملحمي الكبير الحرب والسلام فيضع على لسان اندريه هذه الكلمات :" لا تتزوج ياصديقي العزيز ، هذه نصيحتي لك ، لا تتزوج الى ان تقنع نفسك بانك قمت بكل ما تقوى عليه ، وحتى تكون قد هدأت ثورة حبك للمرأة ، فيمكنك رؤيتها على حقيقتها " .
يكتب شوبنهور في العالم ارادة وتمثلا :" الانسان يخدع نفسه لاعتقاده بانه في الحب يخدم عواطفه وشهواته السامية ، انما يخدع نفسه بنفسه ، لان الحب ليس عاطفة فردية ، بل عاطفة جنسية بشرية ، انه نداء مجهول وقاهر ، علينا ان نتريث قبل ان نلبي نداءه " .
************

الحب نقمة ونعمة
في 1873 بدأ تولستوي روايته الشهيرة " آنا كارنينا "، عزل نفسه في مكتبه في ياسنايا بوليانا، يقرأ وبدأ يدوِّن الملاحظات ، من جانبها تكتب زوجته سونيا في يومياتها : "قال لي البارحة مساء أن قد ظهر له نموذج امرأة متزوجة، من الطبقة الارستقراطية. ضلّت سبيلها ، إن مهمته تنحصر في عَرض هذه المرأة على أنها جديرة بالعطف وليست مذنبة "
كان قد تذكر حادثة اثرت فيه كثيرا ، حكاية جاره بيبيكوف الذي يعيش مع امرأة أسمها آنا ستيبانوفنا ، امرأة في اوج شبابها ، لكنه اهملها بعد ذلك من اجل مربية اولاده الالمانية. وكان يفكر بالزواج من الشقراء فريولين. فهمت خيانته، غيرة ستيبانوفنا فاقت كل الحدود ، قررت الهرب ، عاشت بجنون وكآبة. ثم القت بنفسها تحت قطار لنقل البضائع . قبل ان تموت ارسلت رسالة الى بيبيكوف : " انت من قتلني، كن سعيداً, ، أذا كان يمكن لقاتل ان يكون سعيداً، أن احببت, تستطيع ان ترى جثتي على القضبان" ، في اليوم التالي ذهب تولستوي الى المحطة كمتفرج ، تخيل وجود تلك المرأة المسكينة التي اعطت كل شيء من اجل الحب ، فقط لتلتقي بهذه الميتة المبتذلة والحقيرة.
يكتب تولستوي ان " الحب نقمة ونعمة. الحب قوة متطرفة في الانسان, مثل العبقرية , الغضب الصلابة أو الثروة. وبالنسبة لــ آنا كان من الافضل لو لم تقع في حب فرونسكي. " . لانها اعطت كل شيء ، من اجل فرصة في الحب.
ينتهي من مسودة الرواية عام 1875 ليرسلها إلى صديقه ستراكوف: "إنها رواية حية، مثيرة، تامة، أنا راضٍ عنها، وستكون جاهزة قريبا". وطلب إلى ستراكوف أن يتولى تصحيح التجارب المطبعية!. وظهر الكتاب عام 1878 ، في نحو ألف صفحة.
************

فات الآوان
كان تولستوي قد قرأ من قبل مدام بوفاري لفلوبير وقد نشرت متسلسلة ، ونتعرف من يومياته ان موضوع الخيانة قد شغل باله منذ زمن طويل ، لكنه يجد ان الكاتب الفرنسي كان قاسيا مع بطلته فقد طاردها بمشاعر متجمدة ومتواصلة بلا رحمة ، ويتساءل تولستوي لماذا أصر فلوبير على ان تحيا مدام بوفاري حياة خالية وهمية ، ونجد تولستوي برغم اعجابه الشديد بالرواية فانه ياخذ على المؤلف ان حاول ان يعكس الكثير من طباعه على " ايما بوفاري " .
يتحدث دستويفسكي عن انا كارنينا باعجاب شديد :" لقد دشن تولستوي مفهموما جديدا لادانة الظلم في آنا كارنينا " . وفي رسالة بعثها فلوبير الى تورجنيف عام 1880 يتحدث عن تولستوي وروايته الجديدة :" ياله من فنان ، وياله من نفساني " .
في الرواية نجد تصمم آنا على هجر زوجها وابنها لتقيم مع عشيقها بعد صراع نفسي طويل. إنها أعظم صدقاً واستقامة من أن تقبل بوضعها الملتبس، وأعظم حساسية من أن تكبت شعورها الفاجع بدورها كامرأة ينبذها المجتمع لأنها تصرّفت بصراحة، هذا المجتمع الراقي الذي تنتمي إليه والذي يغْتفر أشد المواقف زيفاً إذا ظلّت مخبّأة، وإذا راعت القاعدة الاجتماعية. إن آنا التي لا تطيق الرياء، تكره الكذب وتتحدّى المجتمع. بيد أن المجتمع لا يغفر لها، ففي المساء الذي قصدت فيه المسرح، أشعرها معارُفها بذلك على نحوٍ قاس. وهكذا فإنها ترى نفسها مَدينة، دانَها عالم ليس أهلاً "للحكم عليها". العدل الإلهي وحده، يستطيع في عرف تولستوي، أن يُنزل بها عقابه لأنها هجرت زوجها وابنها. وبهذا المعنى ينبغي أن نفهم تلك العبارة المعمّاة التي صدّر بها روايته." لي النقمة انا أجازي".
ولقد قرأها تولستوي في نص لشوبنهاور بالألمانية.
************
في الخامس من شباط 1893، تذهب سونيا مع وزوجها إلى رحلة صيد فتكتب في يومياتها : " كان يقف خلف إحدى الأشجار.. وسألته لماذا لم يعد يكتب. طأطأ رأسه وتطلّع حوله بطريقة أقرب إلى الكوميديّا وقال: لا أحد يستطيع سماعنا عدا هذه الأشجار، كما أعتقد يا عزيزتي - كان ينادي كل شخص يا عزيزي حينما تقدّم به العمر -، لذا سأخبرك بأنني قبل أن أكتب أي شيء جديد، أحتاج أن التهب بالحب، وهذا ما انتهى الآن. ( يا للعيب ) قلت مضيفة بروح النكتة، يمكنك أن تقع في حبي، إن أحببت لكي تستطيع أن تكتب شيئا ما. قال: (كلا، لقد فات الأوان )".
 
الحب سعي محموم نحو أمل يأتي أو لا يأتي
 علي حسين

| 2 |

" ولِدَ الانسان وهو يتوق الى الحُب " ، بهذه العبارة استطاع رجل سويسري ولد عام 1712 لعائلة فقيرة ، أن يصبح استاذاً في فن الحب ، كان جان جاك روسو في السادسة والاربعين من عمره ، حين كتب روايته الوحيدة ، ولم تظهر الا بعد ثلاث سنوات في شباط من عام 1761 باسم "جولي أو هلويز الجديدة، كانت جولي بطلة الرواية ، شابة مثالية ، تقع في حب معلمها الخاص وحين تختلي بنفسها تكتب : " لقد جعلت السماء أحدنا للآخر ، لم يكن هناك اتحاد اكثر مثالية من هذا ، روحانا متداخلتان أيضا بشكل وثيق ، ولم يعد بوسعهما الانفصال أبداً " .

الحب والجمال
يقع الأستاذ في حب تلميذته الجميلة ، ويقرر ان يفاتحها بأشواقه فيرسل اليها خطاباً ، لا يطلب به شيئا سوى ان يقول لها ان جمالها سيطر على مشاعره :" ولِمَ لا أفرض ان قلبينا ينبضان بعاطفة واحدة ، كما يخيل ألي ، انه ليحدث احيانا ان تلتقي أعيننا فجأة ، فتفضح التأوهات مشاعرنا ، وتنهمر من مآقينا الدموع ، ياحبيبتي جوليا لو لم يكن اتحاد روحينا إلهاماً ، لو لم تكن السماء اعدت كلينا للآخر ، دون ان يحوجنا الامر الى الفرار " .ويقرر الاستاذ ان يتقدم للزواج من تلميذته ، الا ان والدها الارستقراطي ، يحرم عليها الزواج من رجل من العامة ، مصراً على ان تتزوج بدلا عنه من وولمر الغني ، وتوافق جولي بالرغم من حبها لسانت برو ، ويصر المعلم ان لا يفارقها ويسعى لان يصبح معلماً لأطفالها ، وقد علق القراء على تصرف جولي بانه تصرف منافق وعديم الشرف ، اذ كيف تتخلى عن الرجل الذي عشقها من اجل آخر اكثر غنى ، لكن الأمر بحسب روسو كان محاولة لمزج تخيلات الرغبة مع براءة الحب ، وعلى الرغم من ان الرواية تنتهي نهاية مأساوية حيث نجد جولي على فراش الموت تقول تقول لحبيبها الاول وهي تحتضر :" ان الخطوة الاولى نحو الرذيلة ، هي أخفاء التصرفات البريئة في ذاتها ! وليكن شعارك دائما ، ان لا تقول أو تفعل شيئا تجد غضاضة في أن يسمعه الناس جميعاً او يروه " وعندما تصدر الرواية تصبح الاكثر مبيعاً وتُكسب روسو شهرة عالمية ، وتعمل على تغيير مفهوم الحب ، حيث اعتبرت جولي امراة مثالية وقدوة للنساء ، وهي ترتعش باصدق العواطف المتحررة ، واصبحت الرواية حديث المجتمع الاوروبي ، من السويد مرورا بباريس وصالونات انكلترا الادبية ، كان الجميع يتحسر على حب جولي ، فيما الفتيات المراهقات تنتابهن نوبات بكاء ونشيج كلما قرأن هذا المقطع : " وداعاً إذن يا جولي المفرطة الفتنة،غداً سأكون رحلت إلى الأبد. ولكن ثقي أن غرامي العنيف الطاهر لن ينتهي إلا بانتهاء حياتي، وأن قلبي المفعم بهذا المخلوق الملائكي، لن يهبط بنفسه إلى إفساح مكان فيه لحب ثانِ، وأنه سيوزع كل ولائه المستقبل بينك وبين العفة، وأنه لن يدنس لهيباً آخر المذبح الذي عبدت عليه جولي"كان الحب بالنسبة لروسو شكل من اشكال من العذاب ، ونجده في الاعترافات يكتب : " الحب حيلة معدية ، رجل كاد يموت من دون ان يعرف ذاته " .وكان روسو يرى ان الحب لم يكن طبيعيا في حياته ، وانما تاريخ لاضطراباته النفسية ، جرب الحب للمرة الاولى عندما بلغ العشرين من عمره ، لكن بهجة الحب تلك لم تكن صافية ، فبعد سنوات من نشر رواية هلويز الجديدة يعيش قصة حب مشابهة ، وهذه المرة مع الكونتيسة " صوفي دويتويو " امرأة جميلة ولطيفة تصغره بتسعة عشر عاما ، وقد كتب يصفها في اعترافاته : " الذكرى الخالدة للبراءة والنعمة جالسة في ذلك البستان ، على مقعد عشبي تحت شجرة ( أكاسيا ) في حالة إزهارها الكامل ، لا أجد كلمات تناسب عواطف قلبي ، انها المرة الاولى والوحيدة في حياتي ، يا لتلك الدموع المسكرة التي ذرفتها عند قدميها " ، ومثل بطلة قصته جوليا ، تتزوج صوفي من المركيز دي سانت لامبيرت لتترك الفيلسوف يعيش مع احلامه يكتب رسائل لامرأة في الخيال :" النيران تتأجج في انحاء جسدي ، آلام حبي لك .الوجع يسري في جسدي مع لهيب غرامي بك ، السقم يجول في جسدي مع حبي لك ، اتذكر ما قلته لي : أفكر في حبك لي ، الوجع والمزيد من الوجع ، الى اين تذهبين مع حبي ، أخبروني بأنكِ ستمضين بعيداً وستتركينني وحيدا ها هنا " . ويُعيد روسو على مسامع صوفي ما قالته جولي في الرواية :" لا يمكن لمن تذوق الحب إلا ان يشعر بالخزي حين يفقد الحبيب " .
لم يتوقف روسو خلال حياته التي استمرت 66 عاما توفى عام 1778 ، عن الاشارة لخيالية الحب ، لكن وعلى الرغم من كونه نابعاً من الخيال ، الا ان آثاره واقعية تماماً : " الحب ليس إلا وهماً ، اعترف بذلك ، إلا انه يحوي حقيقة واحدة تتمثل في ما يولده فينا من شعور بالجمال الحقيقي الذي يجعلنا نحب ، هذا الجمال لا يتمثل في من نحب ، بل هو من صنع أخطائنا . ماذا ؟ هل تضمحل الجوانب المنحطة من ذواتنا من اجل هذا النموذج الخيالي ؟ هل يجعلنا الحب نتخلى عن الاشياء الوضيعة في الحياة ؟ "
في العشرين من عمره يعثر بالصدفة على نسخة من رواية " هلويز الجديدة " وتسحره الرواية ، ويقرر ان يكرس جزءاً من وقته لقراءة اعمال روسو ، ويكتب لأستاذه هنري جيمس :" كان روسو مجهولاً تماماً بالنسبة لي ، وبدأت بتقليب صفحات روايته " هلويز الجديدة . لا أعلم أية روح حارسة كانت تهمس لي "خذ هذا الكتاب الى المنزل". في جميع الأحوال هذا ما حدث ، مع انه كان مناقضاً لعادتي بعدم التعجل بقراءة كتاب أبداً . في المنزل رميت بجسدي على السرير ، وبدأت بالسماح لتلك الرواية الساحرة بالتأثير على حياتي .كان كل سطر يصدح بالتضحية والشوق والألم " .
*****
عن أي أمل تتحدث؟
عندما بلغ الثامنة عشرة من عمره ، لم يتحقق حلمه بان يصبح ممثلا ، لكنه أدمن كل اسبوع على مشاهدة كلاسيكيات شكسبير، حفظ حوارات مسرحياته ، وكان اذا عاد الى غرفته الرطبة يقوم بإداء الادوار بصوت مرتفع ، وذات يوم شاهدها تؤدي دورا صغيرا في مسرحية عطيل ، اقترب منها ليقول لها بتردد : اسمي تشارلز ديكنز ، أحاول ان اكتب للمسرح . فتجيبه ببرود : " لم أسألك عن هواياتك .ياعزيزي".
منذ ذلك اليوم اخذ يحرص على ارتداء ملابس مناسبة ، حرص على أناقته ، وقد لاحظ صديقه بوب فاجن ، التغيّر الذي طرأ عليه فقال له : ابتعد عنها يا تشارلز ، فهذا النوع من النساء لا يهتم بصعلوك مثلك.
- لكني أحبها ..أجاب.
• وما الفائدة .. انها محاطة دائما بالأثرياء.
- لا يهم اني احبها وكفى وستصير لي وحدي ذات يوم.
• هذا هو الجنون ..قال له صديقه.
ولم يتجرأ على مفاتحتها بمشاعره ، لكنه شرح لها حبهه من خلال رسالة كتبها بعناية ، وانتظر خروجها من المسرح ليسلمها لها ويهرب .
في اليوم التالي يجدها تنتظره على باب المسرح لتقول له :" انك انسان رقيق جدا ، لم اكن اعرف ان قلبك يحمل كل هذا الحب لفتاة مثلي محاطة بعشرات المعجبين ، لكن ثق ان لك احتراما خاصا في نفسي" .
لم يصدق وهو يقول إذن هناك أمل.
• عن أي أمل تتحدث ..قالت:
- أعني قد يأتي اليوم ، فتقاطعه : " ماذا لو تركنا الامور للايام ياعزيزي ديكنز فمن يدري كيف ستكون النهاية " ؟
وترسخ في ذهن ديكنز ان الشابة قد احبته وانها تبادله نفس المشاعر ، مما دفعه ذات يوم الى ان يتقدم للزواج منها ، ليجد احدى صديقاتها تقف امام بوابة المسرح وهي تحمل رسالة مكتوب فيها : " أنصحك وانت في اول شبابك ان تنساني ، وانت تبحث لنفسك عن زوجة تناسب ظروفك ".
كانت رسالة ماريا ، ايذانا بان يصحو من أوهامه ، ويتوقف عن الذهاب الى المسرح ، وينسى فكرة التمثيل ، ليجد نفسه يجلس ذات ليلة الى منضدته الصغيرة ، يكتب قصة غرامه الاول ، وليعبر عن احاسيسه ومشاعره تجاه ماريا التي اوصدت الابواب في وجهه ، ليجد نفسه بعد ثلاثة اشهر من الكتابة المتواصلة قد انتهى من رواياته " دوريت الصغيرة " : لم اصدق انني انهيت الفصل الاخير منها ، انني كتبت رواية ذات شخصيات ومواقف ، كان كل همي ان ادوّن احاسيسي بعد ان تخلصت من حب ماريا ، وبعد ان الحقت بي مذلة لا تزال مرارتها تهيمن على عقلي " . في اليوم التالي ذهب بالمخطوطة الى رئيس تحرير الصحيفة التي يعمل بها مندوبا ، فلم يجد غير سخرية مرة :
- انت ياتشارلز تكتب رواية ، وماذا تفهم في الادب؟
• لا افهم شيئا ، ولكني قرأت كثيرا ، كل ما اريده ان تقرأ الرواية فربما تروق لك .
لم ترق الرواية لرئيس التحرير الذي وجد صفحاتها الاولى ساذجة ، فنصح تشارلز بان يركز جهده على اخبار البلدية ، لكن الرواية التي كتبها ديكنز في دفاتر ، تقع بيد الابنة الكبرى لرئيس التحرير ، الفتاة كاترين كانت في العشرين من عمرها ، جميلة ومثقفة اخذت تتصفح الدفاتر ، وما ان قرات الجملة الاولى من الرواية :" ذات يوم في لندن التقى آرثر بخطيبته السابقة فلورا فينتشينغ " حتى اقبلت على مواصلة القراءة ، وحين اخبرتها والدتها بموعد العشاء رفضت ان تترك الرواية جانباً ، وحين جاءتها المربية لتخبرها ان الساعة تجاوزت منتصف الليل ، وحان وقت النوم ، قالت كاترين : لا داعي للعجلة ، واستمرت في القراءة ، ولم تسأل عن الوقت حتى ادركها الصباح وهي تقرأ الصفحات الاخيرة من حكاية دوريت ، فتخبر والدها الذي وجدها متورمة العينين من البكاء ، ان هذا الكتاب لو نشر في الجريدة ، فانه سيحقق نجاحا هائلا :" ان كاتب هذه الرواية استاذ في الرقة والاحلام العاطفية " ويتعجب الاب من كلام ابنته ، هل يعقل أن مندوب البلدية ، يمكن ان يكتب رواية جيدة ، فقد قرأ منها عدة صفحات لم ترق له . وفي اليوم التالي يطلب حضور ديكنز ليفاجئه بالقول : لقد قررت ان انشر قصتك على حلقات . كان رئيس التحرير يعتقد انه جازف في الامر ، لكن توسلات ابنته العزيزة على قلبه وحبه لها جعله ، ينشر رواية لكاتب لم يسمع به احد من قبل ، الا ان المفاجاة كانت بانتظاره ، حيث ارتفع توزيع الصحيفة من 2000 الى 30000 نسخة ، وانهالت رسائل القراء تسأل عن صاحب قصة الحب هذه ، الأمر الذي جعل رئيس التحرير يطلب الاجتماع بتشارلز ديكنز ليبحث معه توسيع مساهماته في الصحيفة .
- القراء يحبون حكاياتك ، حسنا لنوقع عقد رواية جديدة
• لديّ اوراق جمعتها من حكايات المدينة اسميتها " أوراق بيكوك "
- موافق قال رئيس التحرير ، وبهذه المناسبة اقمت الليلة في البيت حفلا صغيرا بمناسبة نجاح الرواية ، فأرجو ان تشرفني بالحضور ، ثم اضاف : لكني احذرك لدي اربع بنات كلهن من المعجبات بروايتك ، ارجو ان لا تحاول ان تغازل واحدة منهن ، الا اذا كنت تنوي الزواج
• وإذا كنت لا أنوي الزواج ..قال ديكنز.
- اجاب رئيس التحرير وهو يضحك : عندها سأتوقف عن نشر روايتك حتى لو صدر قرار ملكي بنشرها .
*****
ست نساء
في حياة تشارلز ديكنز ست نساء ، الممثلة ماريا حبّه الاول ، كاترين هوجارت ابنة رئيس التحرير التي تزوجها وشقيقتها ماري وجورجيينا ، وانجيلا بودريت التي كون معها جمعية خيرية ، والين تيران حبيبته التي عشقها في اواخر حياته ، وكان واضحا ان ديكنز حاول ان يشارك القراء وصف حالات الحب التي مرت به ، وطالما وضع هذه الحكايات على لسان شخصياته التي يؤكد دارسو ادبه ، ان مغامراته العاطفية كانت مادة دسمة للعديد من رواياته ، فقد الهمته ماريا شخصية فلورا في دوريت الصغيرة ويبدو ان قصة المرأة الاولى تركت اثرا عميقا في نفسه ، فنجده يكتب لها في احدى رسائله :" تركت لدي انطباعا عميقا حتى انني ارجع اليك تلك العادة التي لازمتني في قهر النفس ، والتي اعرف انها ليست جزءا من طبيعتي الاصلية ، ولكنها تجعلني شحيحا في اظهار عواطفي حتى بالنسبة لاطفالي " ، ونجدها تكتب اليه بعد انتهاء قصة حبهما بعشرين عاما :" ان صورة فلورا فينتشينغ في دوريت الصغيرة تشبهها كثيراً على الرغم من انه قدمها بصورة المرأة اللعوب . تقع رواية دوريت الصغيرة في قسمين الاول بعنوان الفقر ، والثاني الأغنياء وتدور احداث القسم الاول حول رجل أُحتجز في سجن المدينة مدة طويلة ، حتى ان ابنته تولد وتنمو وتكبر بعيدة عنه ، وفجأة يجد نفسه مضطرباً وحائرا ، فهو حر وغني في القسم الثاني ينتاول ديكنز ما يفعله الرجل بحريته وماله ، حيث يحدوه دائما هدف لفعل الخير لكنه قلق ومشتت وخصوصا في علاقاته مع النساء ، وفي هذه الفترة يتعرف على " فلورا فينتشينغ " ابنة صاحب أقطاعية ويجد فيها متنفسا لرغبة خاصة لا تتوقف ولا تحد للانتقام من النساء الخائنات وهو الموضوع الذي ظل يشغل ديكنز منذ ان اهملته ماريا وصدته ، وفي الرواية نجد الذكريات تنخر عقل كلينام ، وهو طيلة الجزء الاكبر من الاحداث لايريد ان يعرف ان حبّه للورا محكوم بالفشل ، وان الهوى المبالغ الذي تكنه له " دوريت " سيكون من اكثر العلاقات تألقا وبريقا في حياته التي طغت عليها السوداوية.
ان كليام هو ديكنز الذي يحلم بالثروة والانتقام من ماريا ، يخبرنا الروائي هنري جيمس وهو من معاصري ديكنز ، ان عاطفة ديكنز الاخلاقية في دوريت الصغيرة تتركز حول فكرة الهجر والخيانة ، كما تتمثل في فلورا ، التي تحبكُ المؤامرات من اجل الاستمتاع بثروة كليام ، ورغم خداعها له الا انها تترك تاثيرا كبيرا عليه . ومع ان " دوريت الصغيرة توصف بالرواية السوداء ، فان قلة من القراء لم تحركها مشاعر التضامن مع بطل الرواية : " رجل في الثلاثين من عمره له رأس عالية لكنها حسنة الشكل وشعره القصير المقصوص لا يزال خفيفاً ووجهه صغير ، به ملامح من الجمال رغم التعب والأسى ، عيبه الوحيد حالات الشرود التي تنتابه كثيرا ، اما عيناه الواعيتان الغريبتان ، فهما مع ذلك عينان غامضتان وثاقبتان في الوقت نفسه ، ذكيتان وقاسيتان ، تعبران عن المراقب وكذلك عن عيون الحالم " ، ولعل الصورة التي يرسمها ديكنز لبطله تقترب كثيرا من صورته عندما كان يقترب من سن الثلاثين .وهي نفس الصورة التي سحرت كاترين ابنة رئيس التحرير التي كانت فتاة جميلة تتفوق على شقيقاتها في المرح ، ولما شاهدت ديكنز للمرة الاولى قالت له بكل ثقة :" لا تظن ياسيد ديكنز ان شهرتك الادبية يمكن ان تؤثر في فتاة مثلي وتجعلها تقع في حبك ، انني محصنة ضد الغرام . "
من النظرة الاولى أحب ديكنز كاترين ، واخذ يرسل لها يوميا قصاصات ملونة من الورق يكتب فيها :" حياتي العزيزة .، ارسل اليك قبلاتي الحارة ولثماتي الثائرة " ، وكان ديكنز يسال كاترين بعد كل رسالة ان تصارحه رأيها فيه ، فتطلب منه ان يُكثر من هذه الرسائل . وذات يوم تطلب منه ان يرسم لها صورة للحب كما يفهمه فيكتب رسالة مطولة نشرت فيما بعد ضمن مجموعة رسائله :" عزيزتي كاترين بالطبع بوسع الحب ان يتخذ اشكالا عدة لكنها في معظم الحالات مطاردة للفرح وسعي محموم نحو امل يأتي او لا يأتي ، انه اشبه بالفيضانات والاعاصير ، نسبح في هذا المد والجزر ، والكُتاب من امثالي يميزون بين نوعين من الحب ، الحب المتبادل وهو المصحوب بالتحقق والفرح ، والحب غير المتبادل ، اي المصاحب للخواء والقلق والهم ، ياعزيزتي منذ ايام وانا الرجل الذي تكسرت آماله على مذبح الحب ، اعيش الحب مجددا مع فتاة مدهشة تمثل لي العالم كله ، واكتشف معها بعد كل سنين الألم والعذاب ، انني مازلت قادرا على الوقوع في الحب من جديد ، ليست لدي القدرة على التحكم بعواطفي ، لان قلبي متعلق بك ولا اعرف ماذا افعل؟ " يقرر ديكنز الزواج من كاترين ، وحين يخبر والدها بالامر وبانه مستعد لفعل اي شيء لإرضاء كاترين وكسب ودها ، يقول له الاب: "انك لا تعرف ابنتي جيدا ، انها قادرة بدلالها وعبثها ان تورثك الجنون ، ولهذا انصحك بالزواج من شقيقتها ماري " ، فيكون جواب ديكنز قاطعا :" اسف لن اتزوج سوى كاترين " .
*****
الحب الآثم
في الخامسة والثلاثين من عمره اصبح ديكنز أشهر كاتب عرفته بريطانيا وصار حديث الصحف ، وانجبت له كاترين عشرة ابناء ، لكنها لم تكن سعيدة معه ، فمعظم وقته يقضيه في الكتابة :" كل وقتك مع الورق والقلم ، لست ادري لماذا رضيت بك زوجا؟ " ، وبدا كل منهما يعيش في جزيرة منعزلة ، لم تعد كاترين تهتم بما يكتبه ، واخذت تقضي اوقاتها في سهرات الطبقة الارستقراطية ، في تلك الفترة جاءت اختها ماري لتقيم معهم ، يصفها ديكنز بانها ارق واجمل فتاة شاهدها في حياته ، وكانت هي مغرمة به أيضا ، فاصبحت ترعاه وتراجع مخطوطاته ، ونراه يحبها كانه يحب للمرة الاولى ، ولم يفكر بان هذا الحب محرم او انه يخدش الحياء ، اصبحت ماري مصدر سعادته الحقيقية ، كل الاحاسيس الجميلة التي سطرها في رواياته في تلك الفترة ، كانت بوحي منها ، لكنها تمرض فجاة وسرعان ما تتدهور حالتها الصحية ، لتموت بعد اشهر وقد وصف مشهد مرضها في روايته الشهيرة ديفيد كوبر فيلد :" سيظل يذكر ما عاش حرارة صلواته في تلك الليالي بالمقارنة الى ما اعتاد ان يؤديه من صلوات سريعة لاتكاد تمس صميم القلب .تلك الليلة لم يكف عن الدعاء والتوسل الى خالقه ان ينقذ حياتها ويعيد اليها صحتها ، وبهجة ابتسامتها ولمعة عينيها المليئة بالحنان " . وحين ماتت لم يستطع من فرط حزنه العيش في نفس البيت فقرر السفر الى خارج بريطانيا فقضى اكثر من عام يتجول في اوروبا ، وحين عاد كان قرار الطلاق من كاترين ضرورة لصعوبة العيش بينهما ، وخاضت الصحف في حياته الشخصية وتتفاقم الازمة بينهما بعد مجيء شقيقتها الثانية فرجينيا لتقيم معهم ، حيث لاحظت كاترين اهتمام ديكنز بها فصرخت : حسناً يبدو انك تريد ان تلحق العار بكل بنات هوغارث اني اوافق على فكرة الطلاق اذا اقسمت لي انك لن تتزوج بفرجينيا بعدي. وطلقها لكنه لم يتزوج بعدها . في كتابه كيف نقرأ ولماذا يكتب الناقد هارلود بلوم :" ربما كان ديكنز يحاول رسم المرأة المثالية من خلال بطلاته، لكن عندما التقاها في الحياة الحقيقية كانت أقل من مثالية. ربما كان يحاول رسم الشخصية التي ظن أن جمهوره يريدها. إذا أخذنا بعين الاعتبار عدد النساء الفاتنات اللاتي عرفهن ديكنز.
بعد طلاقه من كاترين، اصيب ديكنز باضطراب عاطفي ونجده يكتب رسالة الى ابنته :" انني اعاني الوحدة والقلق " في تلك الفترة يتعرف على الين تيرنان فتاة في الثامنة عشرة من عمرها ، فيقرر الارتباط بها عاطفيا ، ولانه اصبح من الاثرياء يشتري لها بيتا خاصا ، وتصل عدد رواياته الى خمسة عشر رواية ومئات القصص وعدد من المسرحيات ويحقق شهرة لم يحققها كاتب بريطاني قبله ، لكنه يصاب بالمرض وقد بلغ الثامنة والخمسين من عمره ليتوفى عام 1870 تاركا رسالة حب الى ألين ومعها الف جنيه استرليني والتي كانت تعد انذاك ثروة كبيرة ، وتقرا كاترين اخر رسائل الحب التي كتبها زوجها السابق لمحبوبته الاخيرة :احبك يامن ملكتني كاملا ، يامن معها هربت من الناس ، لنحلق بعيدا جدا " .
 
حين يتوفر الحب نشعر أن وجودنا مبَّرر

 علي حسين

3
بين العاشرة والثانية عشرة من عمرها تخبر أختها انها تعرف الان " معنى الحُب"، كانت في المنتزه عندما لمحت " فتى يمسك حبل الاطفال وهم يلعبون، كانت وجنتاه ورديتين وابتسامته متألقة رقيقة "، وقد كانت تلك صدمة انفطار القلب، لانها استشعرت للمرة الاولى ان شعاعا اتيا من ناحية اخرى يمكن ان يمس القلب مباشرة، بعد شهور تحس اهتماما بابن عمتها جاك وهو يكبرها قليلا، ولنتذكر الاوصاف التي تقدمها الينا سيمون دي بوفوار في " مذكرات فتاة رصينة " ان جاك كان " فتى جميلا جدا، كان عادة يحتقر البنات ولذلك كنت اقدر صداقته، كان يعامل الكبار معاملة الند للند وذات يوم قال لي : سيمون انتِ فتاة ناضجة وسرتني هذه الكلمة اكبر السرور " انذاك اعتقدت انها وقعت في الحب،،

وطوال ثلاثة اعوام اصبح جاك الرجل الاول في حياتها، وتكتب في مذكرات فتاة رصينة انها وضعت مخططا لحياتها المستقبلية، ستتزوج من جاك وتحصل على شهادة الاستاذية : " كنت اتحدث بغموض عن الحب، فانا اعرف الثمن، انا عقلانية جدا، ومتطلبة جدا، وكان جاك بالنسبة لي مطلبا شخصيا "، لكنها تكتشف بعد ثلاثة اعوام من قصة الحب الخيالية ان ابن عمها سيتزوج من امرأة أخرى. :" عندها فقط ايقنت انه ليس بامكان اي شخص ان يكون مسؤولا عني على نحو كامل، لا أحد يعرفني او يحبني تماما، ليس لديّ سوى نفسي فقط "
انها الان في الخامسة عشرة من عمرها، تحلم بشخصيات من الروايات : " بطلة تحس السأم، ويأتي فتى وسيم مندفع لكي ينتزعها من زوجها، لم أكن قط احسست او تأملت او تخيلت مثل هذه البهجات، بقيت مبهورة من كشف الملذات التي لم أكن اعرف كيف أُسميها، وان كانت سوف تفيض بي يوما ما، كانت تلك هي الحرية، وهي المتعة ايضا "، بعد سنوات وفي سن الحادية والعشرين، سوف تعيش على لحظات المتعة هذه، فهي منذ شهور محط إهتمام جان بول سارتر، الطالب المتميز، كانت الأصغر بين طالبات وطلاب جامعة السوربون، تستعد لخوض الامتحان النهائي لنيل شهادة الاستاذية في الفلسفة، كانت منشغلة في الحديث عن فلسفة " ليبتنتز " حين لمحت أن هناك طالباً ينظر اليها باعجاب، ثم يقترب منها ليقول لها : " جمالك به لمعان خاص وصوتك قوي وحديثك متلاحق " بعد سنوات ستقول عنه سيمون دي بوفوار : " انه اكبر انجاز في حياتي "، كان اصغر من تقدم لنيل شهادة الفلسفة، وحين حاصره الاساتذة بالاسئلة سخر منهم وهو يتطلع من النافذة: " استطيع ان اجادل نيتشه واعلمه كيف يمكن للانسان ان يكون حراً باختياره ؟"
بعد ايام قليلة يستحوذ سارتر على سيمون دي بوفوار ويحكم السيطرة على تفكيرها، تكتب لصديقتها الحميمة زازا :" أعرف هذا الشاب منذ ثلاثة عشر يوماً وقد جال في غيابي، وصار يتكهّن بأفعالي فإمتلكني. يحتاج ذهني إلى حضوره وينتابني الانفعال أمام تعاطفه. الشك والاضطراب والنشوة. أريد أن يرغمني على أن أصير شخصاً حقيقياً ويعتريني الخوف".
في البداية كانت اشبه بالمسحورة، لم تصدق انها وقعت في حب الطالب المتفوق، الذي يعد الألمع بين اصدقائه، ولم تكن تميل الى التذمر من سلوكه الغريب، فمنذ بداية علاقتهما بذلت جهدا كبيرا لترى الامور من منظور سارتر، وذلك بسبب شعورها بانها تدين له بكل شيء، وايضا بسبب انها كانت على قناعة بانها تحبه اكثر مما يحبها. كل شيء تآمر لجعلها تسقط في فخ مفهومه للعشق، ونجدها بعد عشرين عاماً تخصص في كتابها " الجنس الآخر "، فصلا يدور حول المرأة التي ترى ان الحب هو الخلاص :" تحاول المرأة العاشقة ان ترى بعينيه، تقرأ الكتب التي يقرأها، تفضل الصور والموسيقى التي يفضلها، تهتم فقط بالمناظر التي تراها معه، بالأفكار التي تنبثق منه، تتبنى صداقاته وعداواته ووجهات نظره، وحين تسأل نفسها تحاول ان تسمع اجاباته.. سعادة المرأة العاشقة القصوى هي ان ينظر اليها عشيقها كجزء منه، وحين يقول " نحن " فهذا يعني انها متحدة ومتماهية معه، تشاركه منزلته وتسود معه على سائر الناس، ولا تتعب ابداً من أن تكرر الى حد الافراط هذه الـ نحن المبهجة ".
*****
اخيراً وقعت في الحُب
منذ البداية وضعا الاتفاق الشهير بينهما، والذي يقضي بان يمارس كل منهما حريته الشخصية بمعزل عن الآخر : " لقد شرح لي سارتر ان ما بيننا هو حب ضروري، وقد يكون من المناسب ان نمر بحب عابر " وقال هو في الكلمات التي تعد سيرة ذاتيه له :" الرجل العظيم عليه ان يحافظ على نفسه حراً ". وتخبرنا سيمون دي بوفوار ان سارتر كان دائم التذكير لها، بألا تتصور انه من الممكن ان يتنازل عن حريته لها، ولكن ماذا عن الغرية سألت سيمون، فيُجيب طالب الفلسفة المتفوق :" لن تخطر على البال ما دمنا سنحكي كل شيء ".
كانت سيمون دي بوفوار المولودة عام 1908، إبنة لعائلة ميسورة الحال، كان والدها حسب تعبيرها في وضع وسط بين الارستقراطية والبرجوازية، اما والدتها فامرأة كاثوليكية متدينة، أعطت لابنتها تربية جادة وصارمة وثقافة دينية وشعوراً حاداً بالواجب، لا يعرف المماطلات والتنازلات، كانت لها شقيقة واحدة، وصديقة واحدة ايضا، في البيت لم تجد حولها سوى الملل، فاشتد احساسها بالوحدة وذات يوم قالت لأمها : " هل يمكن ان تسير الحياة كما تسير الآن، ملل وراءه ملل "، بعد سنوات تقرأ الجملة المثيرة لفيلسوف الوجودية الاول كيركجارد :" علينا ان نعيش حياتنا مهما كانت تعيسة او مفرحة، لانها محسوبة علينا "، منذ تلك اللحظة قررت ان تعيش حياتها، لانها " لن تعيش سواها "، واكتشفت انها تستطيع ايضا ان تصنع حياتها بنفسها، " ان تجرب الحب كما تنسج اي امرأة شالاً من الحرير ".
اخذت سيمون دي بوفوار تحلم : " يا لها من متعة ان يضع احد يده على كتفك، يدا معروفة معهودة، لا تكاد تحس بثقلها، ولا تحس بالوحدة بعد ذلك، ويا لها من جملة رائعة ( مخلوقان متحدان ) ".
وبدأت سيمون تشعر انها تستطيع ان تكتب عن احاسيسها هذه، وتستطيع ان تصبح روائية لها كبرياء، وامرأة ذات سيادة، وامرأة ذات حرية، لان الحب حرية، ولا بد ان نستمتع بمحاسن الحرية هذه.
ولكن كيف.. بالحب وبالحرية معا، ففي الحب لا بد ان ينشأ صراع بين الرجل والمرأة، وتروي لنا سيمون دي بوفوار قصة هذا الصراع في معظم كتبها، بدءاً من روايتها الاولى المدعوة، ومرورا بيوميات فتاة رصينة، والمثقفون وقوة الاشياء والصور الجميلة، وليس انتهاء بالمرأة المجربة.
فالحب الذي تريد ان تبشر به هو اختلاف، ثم افتراق، ثم التقاء، ثم شكوك، والشك عندها يُحيي العشق :" لابد ان يتعذب العاشق وان يشك وان يعود الى محبوبه ليتاكد انه يحبه حقا، وهذا خير من ان نستسلم للوهم بأننا نحب"
وهي تقول على لسان سيمون بطلة رواية يوميات فتاة رصينة :" كنت دائما ما اعطي الحب قيمة رفيعة. وإذ كنت في الثالثة عشرة قرأت في المجلة الاسبوعية " الميلاد " رواية صغيرة بعنوان " نينون روز " وكانت تحكي ان الفتاة نينون تحب اندرية، الذي كان يبدلها نفس الحب، إلا ان ابنة عمها تيرز صارحتها يوما وهي تبكي وشعرها الجميل مسترسل فوق قميصها، بانها كانت تشتعل حباً لأندريه، وضَحت نيون بنفسها، ورفضت ان تمنح يدها لأندريه، الذي اغتاظ فتزوج تيريز، وكوفئت نيون فتزوجت فتى آخر ذا مزايا عظيمه اسمه برنارد، وقد اثارتني هذه القصة، لقد كان من حق بطل رواية ما ان يخطىء في اختيار شريكة او في تقدير عواطفه الشخصية، وقد يمكن لحب حقيقي ان يعقب حباً مزيفا او غير كامنا. ولكن هذا الحب الحقيقي غير قابل لان يستبدل به حبا آخر بمجرد ان يتفتح في قلب ما، وليس ثمة كرم أو كفر بالذات يسمح لي برفض هذا للحب الحقيقي ".

*****
الحُب الوجودي
تطرح الفلسفة الوجودية تفسيرا للحب، وبحسب سارتر، فالحب يمثل تناقضا معروفا.وطبيعة الحب طبيعة متناقضة، لانها ترتبط بالنزاع الأبدي والذي لايمكن حله.ففي سعينا إلى اقامة علاقة متبادلة، إلى فهم الإنسان الآخر، والى مبادلته الحب، نريد من حيث الواقع إخضاع حريته المستقلة وجعله مادة لرغباتنا، ولو اقتصر الامر على مجرد الحيازة الجسدية لما شكل الحب اية مشاكل او نزاعات، ويضرب سارتر مثل برواية مارسيل بروست البحث عن الزمن المفقود فيقول :" ان بطل بروست الذي تسكن محبوبته معه، ويمكنه ان يراها وان يتملكها في اي وقت من الاوقات، وقد تمكن من وضعها في تبعية مادية كاملة له، عليه أن يتحرر من قلقه واضطرابه. غير انه على العكس من ذلك، كما هو معروف، فالهموم تأكله حتى عندما يكون الى جانبها، ولهذا فهو لا يعرف الهدوء والاطمئنان، ما عدا تلك الدقائق التي يراها نائمة ".
يستعرض سورين كيركجارد الاب الروحي للفسفة الوجودية في كتابه " خطوات على طريق الحياة " المراحل المختلفة التي يمر بها الحب، تبدأ بومضة العشق وتنتهي بالحب الأسمى الذي شبهه بالأبدي : " المرأة التي أحببتها واثرت بلا شك على حياتي، لذا فان نشاطي ككاتب يشبه الجبل المشيد على شرفها ومجدها، وسأحمله معي في التاريخ، وانا حزين لا املك سوى رغبة واحدة، ان اسحرها، ولهذا أنصحكم جربوا الحب، فهو مركز الوجود وهو ما يمنح الطبيعة الإنسانية تناغما لا يمحى بالكامل ابداً "، وفي حوار شهير تجريه سيمون دي بوفوار مع سارتر عام 1965 وتنشر ترجمته العربية مجلة الهلال المصرية، تسأل دي بوفوار، سارتر عن كيفية الوصول الى الحب فيجيبها :" لا يمكن الوصول الى الحب عن طريق القوة تماما كما لا يمكن امتلاك الآخر، بحرية دون خرقها.وإرادة السلطة والتملك تؤدي الى الخوف، لا الى الحب، وتسأل بوفوار : والذي يريد ان يكون محبوبا ماذا يفعل ؟
سارتر : من يريد ان يكون محبوبا فهو على العكس لا يرغب ابداً باستعباد الكائن الذي يحبه.
سيمون : وماذا عن الغريزة ؟
سارتر : الحب مع الشهوة الميكانيكية المكربة لا يتوافقان، ان المحب لا يريد امتلاك آلة.إنه يريد امتلاك الحرية تماما، كمن حيث هي حرية.
سيمون : بالرغم من كل شيء، فان النساء يمنحن الكثير من أنفسهن في حالات الحب، لأن معظمهن لا يملكن غيره ليستغرقن فيه.
سارتر : ربما لأنهن، أيضا، اكثر قابلية للتعاطف العميق، الذي يشكل اساس الحب.
ويقول سارتر في الحوار :" أن الحب الذي ننتظره من الآخر، لا يجب ان يطلب اي شيء، فالحب وفاء نقي طاهر من دون مقابل، غير ان هذا مثل هذا الحب بالذات، لايمكن ان يوجد الا على شكل حاجة المحب، واذا ما كان المحب أسير، فهو أسير شيء آخر، الحرية التي من حيث صفتها كحرية، تصر على اغترابها الذاتي".
تلك هي جدلية الحب التي تحافظ على حرية المحب والمحبوب، وبحسب سارتر لا يمكن ابدا في الحب بلوغ المساواة المطلقة، ان التوازن في الحب مستحيل، وهو دائما غير ثابت ولا يمكن تحقيقه".
بعد سنوات تقول سيمون دي بوفوار لكاتب سيرتها فرانسيس جانسون :" لماذا على النساء ان يلعبن ما لسن عليه حقيقة، ان يلعبن، مثلا، دور المعشوقات المحظيات العظيمات، ان يقمن بتلفيق كينوناتهن الشخصية وتزييفها، النساء يقفن على شفير العصاب، اني اشعر بالشفقة على هذا النوع منهن. انهن يثرن أنتباهي اكثر من ربة البيت المتوازنة جيداً والأم، هنالك، بالطبع، نساء يثرن أنتباهي واهتمامي اكثر من الجميع، النساء الصادقات والمستقلات، النساء العاملات والمبتكرات ".
وحين يسألها جانسون : ليست هناك واحدة من شخصياتك النسائية منيعة حيال الحب، انت تحبين العنصر الرومانسي؟
تُجيب وهي تتطلع الى صورة سارتر : " الحب امتياز عظيم، الحب الحقيقي، الذي هو نادر، يثري حياة الرجال والنساء الذين ينخرطون فيه ".
وتسأل سيمون دي بوفوار في روايتها صور جميلة : كيف يكون الحب على هذه الارض؟
فيجيب حبيبها : بالنضال معا ونجد في معظم كتابات سيمون دي بوفوار القداسة والتي تضفيها على الحب، وهي تتفق مع سارتر من ان العاطفة يمكن أن تكون اعظم شيء في الحياة، فسارتر يقول على لسان هيلدا في مسرحية الرحمن والشيطان " - حين تموت، سأتمدد الى جوارك، وسابقى الى الابد، دون ان اشرب او آكل. سوف يتحلل جسدك بين ذراعي، وساحب جثتك.
وسيمون تعلنها صريحة في المثقفون " ليس هناك حب، ما لم نحب في المحبوب كل شيء واي شيء. "
وتقول سيمون دي بوفوار لفرانسيس جانسون، انها تتفق تماما مع سارتر في النظرة الى الحب. ولكنها من وجهة نظر المرأة، تفضل ان يحفظ لها الحب، قدرا من السيادة، فلا يصبح الحب حملاً ثقيلا، او استبداداً من الرجل، وهي لذلك تعترف للرجل بان يكون حامياً وعطوفاً وقوياً، لكن عليه ايضا ان يحفظ للمرأة كرامتها وسيادتها، وهي تعيد على سارتر ما كتبته في يوميات فتاة رصينة : - لا ترفع يدك عن كتفي، ولكن لا تجعل يدك ثقيلة، فاليد الثقيلة ترهق الناس، حتى لو كانوا عشاقا متيمين.
*****
كان سارتر مدللاً في منزل جده فقد حظي بالاهتمام الفائق والحب من الام والجدة، في تلك الاسرة التي تعيش تحت سيطرة جد متزمت ضامر الجسم ملتحي، كان يعامل الجميع بتعالي، لكن الام احاطت ابنها سارتر برعاية تامة واهتمام مبالغ فيه، كانت تروي له في المساء قصة حبها مع والده الذي توفى قبل سنوات، وتعزف له على البيانو مقطوعات رومانسية ويكتب سارتر في الكلمات :" أن كل ما اردت ان اراه، كان ابي وهو يضع يده على كتف امي، كل ما اردته كان سماع صوته يقول لها : احبك ".لكن ما ان بلغ الحادية عشرة من عمرة تفاجئه امه بقرار زواجها، كان ذلك بمثابة كارثة بالنسبة للفتى سارتر، فقد تحطم قلبه.كان الغريب الذي سرق منه امه يدعى جوزيف مانسي، مهندسا يحريا، وقد ظل سارتر يكن له الكراهية إلى يوم وفاته. لكنه يتغلب على مأساته بعد عام، في ذلك اليوم المشرق يلتقي الفتاة ليزيت، تقف مع مجموعة من صديقاتها، كان على دراجته.لم يكن واثقاً من نفسه فراح يدور حول المجموعة، لكنه اخيراً ينتبه الى صوتها وهي تقول له : " هل انتهيت ايها الأحمق ذي العين الحولاء، بنظارتيك وقبعتك الكبيرة " وقد اثار ذلك ضحكات الجميع.
إن ادراكه بانه غير وسيم، كان صدمة بالنسبة اليه، وقد قال لسيمون فيما بعد : " كنت اعاني الكآبة بسبب قبحي، وهذا ما جعلني أتالم، كان علي ان احرر نفسي تماما، لان ذلك ضعف، ينبغي على اي شخص يعرف قوته ان يكون فرحا، وانا ادعو ذلك صحة معنوية، لأنه حين يكون احدهم في صحة جسدية ممتازة، فهو يشعر بالقوة الكافية لثني أعمدة مصابيح الشارع بيد واحدة ".
كانت سيمون تسمع الكثير من القال والقيل عن مغامرات سارتر العاطفية والتي تنتهي بالفشل دائما، وكان البعض يقول عليه انه سكير يعشق المومسات، لكنها كانت مفتونه بشيء آخر، بصوته وهو يتحدث بقاعة الدرس ونراها تكتب في يومياتها :" اللقاء مع سارتر ام مع نفسي ؟ من هو الشخص الاخر الذي مارس علي مثل هذا التاثير العنيف، لم يغمرني هذا اللقاء بالمشاعر، وكأن شيئا حقيقيا حدث لي اخيرا، فجاة لم اعد وحيدة، حتى ذلك الحين كان الرجال الذين تعلقت بهم من فصيلة آخرى غيري، كانوا يتصفون بالسهولة والخفة في الحركة والكلام، اميل الى التفلت والشرود، يجنحون قليلٍ من تفكك، ويتميزون بنوع من الرشاقة المشؤومة، كان من المستحيل التواصل معهم، اما سارتر فقد كان يلبي بالضبط الامنية الخامسة عشرة من عمري، كان هو الكائن الذي وجدت به كل ضروب جنوني، كنت استطيع ان اتقاسم كل شيء دائما معه، عندما تركت قاعة الدرس بعد ان تحدث معي، كنت أعرف اكثر من اي وقت مضى انه لن يخرج من حياتي "

*****
الحوار الاخير
منذ البداية وضع الاثنان سارتر وسيمون الاتفاق الشهير بينهما، والذي يقضي بالحرية في كل شيء بما فيها الحياة العاطفية، من دون الوقوع في فخ الحياة المنزلية، وعندما نقرأكتاب الجنس الآخر لسيمون دي بوفوار نلاحظ انها لم تكن متفائلة على الاطلاق ازاء فرص الحرية التي يمنحها الرجال الى المراة، وتكمن المفارقة التي تطرحها في انه اذا كفاها الحب فعليا، ووفر لها كل ما تتوقعه منه، وعرفت من خلاله الاندماج الكامل مع عاشق يعتمد عليها كما تعتمد عليه، فلن يعود للحب سببا للوجود عند المراة، كما ان العاشق الذي يبدي رغبة في الاستسلام التام لايوفر لها السبب هو ايضا، اي استعادة الطمانيتة التي تبحث عنها، اما الرجل الذي سيكون تحت سيطرتها بالكامل فلن يستطيع بعد الان ان يلطف او يبرر عجزه عن ان يكون معها، وهكذا يكون الحب تراجيديا الضرورة عند المرأة.
رحل سارتر عام 1980، وبعد أشهر نشرت الصحافة الفرنسية المحاورة الاخيرة بين سيمون دي بوفوار وجان بول سارتر، والتي تم تسجيلها قبل وفاة سارتر بوقت قصير، ومن بين الاسئلة التي طرحتها دي بوفوار على سارتر، كان سؤال أزلي متعلق بالحب
دي بوفوار : علام اعتمدت في تفسيرك للحب الدائم بأنه نقيض للحرية ؟
سارتر : بطبيعة الحال لدي اولوية تضع الحرية في المرتبة الاولى وتضع الحب في المرتبة الثانية، لكنني اليوم، اتمنى لو أنني قلبت المعادلة، فالحرية ليست سوى وسيلة توصلنا للحب الدائم. اننا للاسف نستهلك اليوم مفهوم الحب حين نفارنه بالحرية، فنحن لانزال نجهل، كل الجهل ما هو الحب، ان في الحب على نقيض ما في الحرية، شيئا ممزقا، لا اشفاق فيه، وهو كذلك دائما، ان كل استهلاك لمفردة الحب، يعني اننا ندير ظهرنا للمعنى الحقيقي للشيء الجميل ولقيمته الحقيقية، وما قيمته في انه يملأ نفوسنا بالراحة، ويكشف النقاب عن بعض معاني الحياة.
 
.الحب وحده بقوته الجبارة يمكنه مجابهة الزمن
 علي حسين

| 4 |

في يوم حار من شهر تموز عام 1924 ظهر في المنزل الكبير لأسرة ماركيز دي إيجوران ، شاب اسمر في الثالثة والعشرين من العمر نحيف الجسم يبتسم كثيرا ، ويتحدث بلا توقف ، قدّم نفسه للعقيد العجوز بخطاب توصية اعطاه اياه قسيس كان صديقا لذلك العقيد ، لقد كان عامل التلغراف الجديد في آركاتاكا ، وقد اخفى تحت بشرته البشوشة شاب حالم يهوى الشعر الغرامي وعزف الكمان . كان غابرييل إيليخيو ، قد عاش في طفولته وشبابه ظروفاً اقتصادية صعبة ، ومع ذلك استطاع ان يحصل على شهادة الثانوية وان يلتحق بالجامعة لدراسة طب الاسنان ، لكن الفقر أضطره لترك الدراسة ، ليعمل موظفا للبريد يتنقل بين القرى ، وكان آخرها آركاتاكا التي شاهد فيها الآنسة لويسا سانتياجا في منزل العقيد ، ولم يكن لديه ادنى شك بعد تلك النظرة ان هذه الفتاة ستصبح زوجة له .

ففي عام 1925 أفصح لها عن حبه واقترح عليها الزواج في ظل شجرة اللوز بمنزل العقيد ماركيز إيجوران ، واكد لها انها كانت سبب أرقه وسهاده ، واطلق اأمامها واحدة من أقل العبارات رومانسية :" اصغي ياسيتيوريتا ماركيز ، كنت ساهراً طوال الليل افكر في انني بحاجة إلى الزواج ، وأن المرأة التي سكنت فؤادي هي أنت ، ولا أحب اي امرأة اخرى فأخبريني ان كان لديك اية مشاعر روحية تجاهي ، لكن لا تظني انكِ مضطرة الى الموافقة، لأنني على وجه التاكيد لا اموت حباً فيك ، وسأمنحك اربعاً وعشرين ساعة للتفكير في الأمر " . وبعد اكثر من خمسين عاما سيجلس الكولومبي غابريل غارسيا ماركيز ليستعيد مشهد شجرة اللوز ، وهو يكتب الجملة الاولى من روايته الحب في زمن الكوليرا " لا مناص فرائحة اللوز تذكره دوما بمصير الغراميات غير المواتية " .
كانت لوسيا في التاسعة عشرة من عمرها ، مدللة الى حدٍ ما ، ويخبرنا ماركيز في مذكراته " عشت لأروي " بأن والدته لم تكن فائقة الجمال ، لكنها كانت جذابة ، مفعمة بالحيوية ، ويخبرنا ان أسرة جده كانت ترفض كل الخاطبين الغرباء ، ولهذا سرعان ما تم اخبار العقيد عن مناورات موظف التلغراف مع ابنته لوسيا ، فقرر ان يرسلها في رحلة طويلة خارج المدينة عند بعض الأقارب ، لكن خطته مُنيت بالفشل ، فالمحارب القديم الذي خاض معارك عديدة ، لم يحسب حساب عامل التلغراف الذي كان يضع خططا أستراتيجية للفوز بقلب لوسيا ، في رواية " الحب في زمن الكوليرا " ، يروي لنا ماركيز حكاية الرسائل المشفرة التي كان يمررها عمال التلغراف الى لوسيا في كل مكان تصل اليه ، وهكذا كانت خطابات ورسائل العاشق تصل الى لوسيا التي كانت تخفيها في ثنايا الموقد حتى لا تصل اليها نظرات والدتها التي رافقتها في رحلة المنفى ، وكانت الأم قد ادركت ان خطة العقيد ستفشل ، وان البعد لن يستأصل هذا الحب ، بل سيساعد على توهجه وتأججه اكثر فاكثر ، وبالفعل فما ان نزلت الأم وابنتها من السفينة الشراعية التي عادت بهما الى آراكاتاكا ، تنبهت الام الى ان موظف االتلغراف كان اول مَن استقبلهما في الميناء ، وهو يرتدي بدلة جديدة ويحمل بيده باقة ورد حمراء . في عام 1926 يتلقى العقيد ماركيز رسالة من صديقه القسيس بيدرو إسبيخو يطلب منه ان يوافق على زواج ابتنه من عامل التلغراف ، لأن الاثنين مغرمان ببعضهما بعضاً ، وان الزواج من شانه ان يجنب حدوث " مصائب أسوأ " ، واخيرا يرق قلب العقيد فيوافق على الزواج ، ويخبرنا الروائي الشهير ماريو فارغاس يوسا ، نقلا عن صديقه ماركيز ان العقيد أصر على ان يقام حفل الزواج خارج آراكاتاكا ، وهكذا قررا السفر الى مقاطعة ريوهاتشيا ، وفي السفينة التي أقلّت العروسين أعترف عامل التلغراف لعروسته انه ترك وراءه طفلين غير شرعيين ، وانه أغوى قبلها عددا من النساء حتى أُطلق عليه لقب كازانوفا ، لكنه منذ لحظة رؤيتها قرر ان يعيش حياة جديدة ، يتعرف فيها لاول مرة على معنى الحب الحقيقي.
بعد ثمانية عشر شهراً تعود لوسيا الى بيت العقيد ، كانت في الشهر الثامن من حملها الذي كان السبب في ذوبان جليد العلاقة بين معامل التلغراف والعقيد ماركيز ، وفي يوم الاحد السادس عشر من اذار سنة 1927 وعند الساعة التاسعة صباحا ، ولِدَ الابن غابريل غارسيا ماركيز وكان ضعيف البنية واقترحت العمة فرانسيسكا ان يرشوا عليه الشراب وماء التعميد خشية حدوث مضاعفات صحية له ، وأخبر العقيد بولادة ابنته وكان في الكنيسة فترك القداس وعاد مسرعا ، ليحتفل بولادة حفيده ، ولتصبح قضية زواج ابنته من الماضي ، فالحياة ستستمر ، وسيكرس الجد كل طاقاته لحفيده الذي اطلق عليه لقب " نابوليوني الصغير " .
****
انتصار الحب
في عام 1984 يعود غابريل غارسيا ماركيز الى آركاتاكا ، ذلك المكان الذي الهم روايته الاولى عاصفة الاوراق . أنه يريد ان يملأ الفجوات المفقودة في روايته الكبيرة "مئة عام من العزلة "، فأديب نوبل اكتشف انه يعاني من عقدة اوديب التي دفعته لإزاحة أبيه من الاحداث واستبدله بجده العقيد ، كان الاب غابريل اليخيو قد عاد ايضا الى آركاتاكا ، ليصبح نجم القرية بعد ان حصل أبنه على جائزة نوبل ، ونراه ينعم وربما للمرة الاولى بالمجد الذي انعكس عليه لانه والد أشهر اديب في اميركا اللاتينية .
كان ماركيز ينهض يومياً عند الساعة السادسة صباحا ، يقرأ الصحف ويهيء نفسه للتخطيط لكتابة روية جديدة ، وقد قرر ان يترك الآلة الكاتبة ويستخدم الحاسوب للمرة الاولى في حياته ، ولم يكن الحاسوب هو التحول الوحيد في حياته ، لكنه قرر ان يعيد النظر بعلاقته بوالده ، فعلى مدى سنوات طويلة لم يتكلما الا نادراً ، واليوم يعيشان بنفس المكان ، فكان لابد ان يتصالح الابن مع أابيه ، بما يكفي لأن يذهب بين الحين والآخر ليتكلم معه ومع والدته كل على انفراد يسألهما عن شبابهما وقصة الحب التي عاشاها ، والتي كان يسمع بعضاً منها في منزل الجد ، كان الدافع وراء ذلك رواية جديدة ، لكنه يعترف في حواره الموسع " رائحة الجوافة " مع بيلينيو ميندوثا ، بأنه كان يشعر بالذنب تجاه أبيه وكان لابد ان ينظر اليه نظرة اقل قسوة واكثر رأفة .
ورغم ان الامر كان صعبا في بداية الامر ، فالأبن لم ينسَ ان غابريل إليخيو هو الرجل الذي اخذ أمه ، ثم قرر ان يبعده عن جده المحبوب ، وكيف كان يطلق التهديدات ليحافظ على سلطته الابوية ، لكنه بالمقابل استطاع ان يحافظ على اسرة كبيرة تأكل وتلبس وتتلقى تعليما جيدا ، وكان ماركيز قد صرح لإحدى الصحف الكولمبية بعد فوزه بجائزة نوبل انه ليس اكثر من طفل من الاطفال الستة عشر لعامل تلغراف في آراكاتاكا الأمر الذي اثار غضب الاب الذي خرج على الصحافة ليقول ، انه لم يعمل عامل تلغراف الا مدة قصيرة ، وانه الآن طبيبا محترفا وشاعرا وعازف كمان وروائياً ايضاً ، كان عامل التلغراف يشعر بالإهانة لان الاضواء سلطت على ذكرى الجد العقيد ، فيما الاب غابريل اليخيو لم يُذكر قط ، وكان يشعر انه مستبعد عمداً . في أواخر عام 1984 كان ماركيز قد انتهى من كتابة الفصول الثلاثة الاولى من رواية " الحُب في زمن الكوليرا " ، وبدت ملامح الرواية تتضح ، كان يذهب بين الحين والآخر ليتحدث مع أبويه من اجل الحصول على معلومات دقيقة عن الفترة الزمنية التي شهدت قصة حبهما ، وأخذ يكتب دراسة ملخصة عن مفهومه للحب ، ويخبر كاتب سيرته جيرالد مارتن انه تذكر ولعه ايام الشباب بقراءة اعمال شكسبير ، وكيف ان عبارة شكسبير " الحب وحده ، بقوته الجبارة يمكنه مجابهة الزمن " التي جاءت على لسان اوفيليا في هاملت كانت تسحره . كان شكسبير يتحدث عن قوة الحب تلك القوة التي لا تتغلب عليها اية صراعات وجودية . وتحضر لماركيز من خلال مسرحيات شكسبير التي اعاد قراءتها تحولات الحب ، وكيف أن سهم كيوبيد قوي جدا ، ويؤكد ماركيز في لقاء اجراه معه داسو سالديبار ونشر في كتاب رحلة الى الجذور، ان شكسبير وخصوصا في روميو وجوليت لم يكتب قصة حب مجردة ، وانما قدم الحب الذي يسعى للتغلب على الصراع الاجتماعي ، كان شكسبير يريد ان يخضع المجتمع الاقطاعي الى قانون الحب والوفاق الانساني:
الحب – منارة للسفن
تلجأ اليه في العاصفة والضباب
الحب – نجم يزرع الأمل في المحيط
" روميو وجوليت "
ويضيف ماركيز : لو شاهدت نصوص شكسبير التي تعرض صراعات المحبين في مواجهة تسلط المجتمع واستبداده ، يمكن ان تعطيها كلها عنوان واحد " انتصار الحب " .تحت هذا العنوان يحكي لنا شكسبير كيف ان هؤلاء المحبين يحققون في النهاية ما يريدون . انه انتصار الحب وليس استمراريته .وقد بنيت الاعمال الادبية العظيمة حول استحالة الحب وتراجيديته وفراقه ونهاياته المأساوية ، لكن القليل منها يدور حول استمرارية هذا الحب .. كنت دائما افكر في قصة حب على غرار ما كتبه صامؤيل بيكت في " أيتها الايام الجميلة " قصة حب عن عجوزين . في مشهد نرى المرأة تغرق في التراب ، لكنها تقول " كم كانت أياماً جميلة " انها تقول هذه الجملة لانها على يقين ان الحب مازال موجودا ، فالحب هو العنصر الثابت والقوي الذي بنت عليه وجودها في الحياة ، في هذا النص القصير والمكثف يحكي لنا بيكت قصة حب عنيدة في استمراريتها . هكذا قرر ماركيز ان يروي قصة غرام أبويه من خلال حكاية رجل وامرأة أُغرم احدهما بالآخر ، لكنهما لا يستطيعان الزواج فقد بلغا الثمانين من العمر بعد ان شهدا تقلبات الزمن الذي لم يستطع القضاء على استمرارية الحب ، ويقول ماركيز لجيرالد مارتن ان الحب في زمن الكوليرا بالنسبة له مغامرة شيقة ، لأنه استخدم فيها كل وسائل الثقافة الجماهيرية ، وكل ما شاهده في المسلسلات الاجتماعية الميلودرامية وما سمعه من اغتي البوليرو ، فالرواية التي تبدو متأثرة بما كتبه فلوبير وستندال وبلزاك ، تبدأ في جنازة وتنتهي نهاية سعيدة على متن قارب صغير.
بعد ان انتهى ماركيز من كتابة نصف الرواية في اواخر عام 1984 توفى والده غابريل اليخيو غارسيا ، بعد الاحتفال بذكرى ميلاده الثالثة والثمانين ، كان المرض قد داهمه فجأة ، وفي الثالث عشر من كانون الاول 1984 يصل ماركيز للمشاركة في دفن ابيه ، ونراه للمرة الاولى يشعر بفقدان الاب ، بعد ان استطاع في السنوات الاخيرة تجديد العلاقة معه ، لقد اصبح الأقرب اليه من جميع افراد الاسرة ، وفي مراسيم الدفن تخبره امه انه اصبح الان مسؤولا عن العائلة ، ونجده يسألها عن مشاعرها بعد وفاة والده فتجيبه : كان حبي الاول ، وسوف اكون أمينة على حبه دائما .
وعندما يلتقي ماركيز بصديقه داسو سالديبار يخبره بانه يشعر بحالة يُتم وعذاب ، وعندما يسأله عن روايته الجديدة يقول ماركيز: " انها في حالة طفو على السطح ، أعرف ما الجملة الاخيرة التي سأكتبها في الرواية حتى قبل ان اجلس لكتابتها على الورق ، لأنني لا ازال افكر فيها منذ سنتين " ، ويتحدث سالديبار عن ان ماركيز اصبح صاحب اسوأ مزاج هذه الايام ، ربما بسبب انتظار ما سيقوله القراء عن روايته الجديدة التي تتحدث عن الحب والجنس في جو يبعث على الغرابة ، لكنه يحمل الكثير من الجاذبية .
عندما نشرت الحب في زمن الكوليرا عام 1985 كان الإهداء موجّهاً " الى ميرثيديس طبعاً " .

****
المرأة التي أبحث عنها
كانت ميرثيديس هي المرأة التي اختار الارتباط بها منذ سنوات ، وقد شغلت ذهنه منذ ان كانت في التاسعة من عمرها ، أبنة صيدلي شاهدها في حفل راقص للطلاب ، وقرر وقتها ان يتزوجها بعد الانتهاء من دراسته ، وعندما بلغت الثانية عشرة من عمرها حدثها عن رغبته في خطوبتها ، ونجده بعد عشر سنوات يقرر ما اذا كانت ميرثيدس على وعدها له ، لقد ظلت طوال اكثر من عقد من الزمان لا تغادر تفكيره ، والآن ما الذي سيقوله لها بعد ان قرر مغادرة كولومبيا لينأى بنفسه من تهديدات الحكومة التي قد تعمد الى اتخاذ اجراءات ضده بسبب مواقفه العدائية منها ، ولهذا عندما واتته الفرصة للسفر الى اوروبا رحب بها فورا ، لكنه الان يخاف ان تضيع المرأة التي احبها ، مثلما ستضيع منه كولومبيا ، وبالتالي فانه يريد ان يجد شيئا يربطه بالبلاد ، فقد كانت ميرثيديس تنحدر من نفس المدينة التي ولد فيها ، وبالتالي فجذورها هي جذوره ايضاً ، وسيضمن وجود شخص الى جواره يفهمه بشكل جيد ، يخبر كاتب سيرته جيرالد مارتن انه لم يجد فيها مواصفات الجمال الباهرة ، بل وجد انها تمثل خياراً أستراتيجيا واقعيا تماما واتحادا مثاليا ، ويصف احد كتّاب سيرة ماركيز الكولومبي داسو سالديبار ميرثيديس بأنها " امرأة طويلة وجميلة ذات شعر بني يرتخي على كتفيها، وحفيدة أحد المهاجرين المصريين، وهو ما يبدو جلياً في عظامها العريضة وعيونها الواسعة ذات اللون البني. "
هل كانت ميرثيديس اول حب في حياة ماركيز ؟ في مذكراته " عشت لاروي الصادرة عن دار المدى ترجمة صالح علماني " يحدثنا صاحب مئة عام من العزلة عن امرأة اخرى اسمها مارتينا فونسيكا كانت هي حبه الاول ، تعرف عليها عندما كان مراهقا في الخامسة عشرة من عمره ، وكانت هي متزوجة ، طاردها بالرسائال فقررت ان تضع حدا لطيشه خوفا من الفضيحة ، لكنه بعد سنوات عام 1954 يسمع صوتها عبر الهاتف ويقابلها في احدى المقاهي ، ويفاجأ بملامح تقدم السن الواضحة على وجهها وتسأله ان كان لا يزال يشتاق اليها :" عندئذ فقط اخبرتها بالحقيقة وهي انني لم انسها قط ، لكن وداعها كان قاسيا جدا غيَّر من وجودي " .
واخبرت انها كانت تريد ان تطمئن على احواله " ويخبرها بانه كان يشتاق لرؤيتها .
في عام 1958 كان ماركيز يعيش في كاركاس عاصمة فنزويلا ، صحفي لامع روايته ليس للكولونيل من يكاتبه نجحت نجاحا كبيرا حتى ان الصحافة الفرنسية اعتبرتها واحدة من انجح الروايات وشبهتها برائعة همنغواي "الشيخ والبحر" ، كانت ميرثيديس لاتزال تنتظره في كولومبيا ، وفي يوم مشرق قال لصديقه بلينو ميندوثا وهما يجلسان في احدى حانات كاراكاس بعد ان اطال النظر الى ساعته :" تباً ستفوتني الطائرة " فسأله بلينو الى أين سيذهب ؟ فيجيب وهو ينهض ": سأتزوج " . عام 1958 تنتقل ميرثيديس الى عالم زوجها الجديد الذي لا تعرف عنه ، وستمضي سنوات قبل ان تشعر بالاطمئنان الى هذا الرجل الذي يبدو انه منبسط ولكنه كتوم وغامض الى حد بعيد ايضاً .

****
حب والحرية والشيخوخة
تدور أحداث رواية " الحب في زمن الكوليرا في مدينة كاربيه بين سبعينيات القرن التاسع عشر وثلاثينيات القرن العشرين ، انها تدور عن الحب والزواج والحرية والشباب والشيخوخة : الطبيب خوفينال اورينو المنتمي الى الطبقة العليا ، ويقابله موظف الشحن فلورنتينو اريثا المفتقر الى الجاذبية وثالثهم الحسناء فيرمينا ، التي هي مزيج من امه لوسيا وزوجته ميرثيديس ، تبدأ احداث الرواية في يوم احد في ثلاثينيات القرن الماضي ، حيث يلقى خوفينال اورينو مصرعه وهو قي العقد الثامن من عمره عندما يسقط عن سلم ارتقاه في محاولة لانقاذ ببغاء الاسرة ، وفي جنازة اورينو يحاول فلورينتيو محبوب فيرمنا السابق ان يذكي ذكريات مضى عليها عشرات السنين عندما كانا مراهقين ، حيث سيظهر وسط المعزين وكانت مساعداته الكثيرة لا تقدر بثمن في ساعة الشؤم التي يمر بها البيت، ولكن كان ثمة أمران يثيران الشكوك في 'عازب متمادٍ في عزوبيته، لقد انفق مالا كثيرا وحيلا واسعة وتصميما شديدا كي لا تظهر آثار السنوات الست والسبعين التي أتمها وكان مقتنعا في عزلة روحه بأنه أحب بصمت أكثر بكثير من أي كان في العالم. وعندما رأته فيرمينا داثا في آخر أيام عزاء زوجها، كانت المرة الأولى التي تراه فيها، ولكن قبل أن تتمكن من شكره لهذه الزيارة، وضع قبعته فوق موضوع القلب وقال لها بصوت مرتعش ووقور.. لقد انتظرت هذه الفرصة لأكثر من نصف قرن، لأكرر لك مرة أخرى قسم وفائي الأبدي وحبي الدائم'. كان فلورينتينو شاباً بريئاً حين تعرف إلى فيرمينا داثا ، كانت تعيش مع عمتها وأبيها الذين قدموا للعيش هنا هرباً من انتشار مرض الكوليرا، اشتروا لأنفسهم بيت البشارة ورمموه. وكان ذلك مؤشراً على أنهم في بحبوحة من العيش. كانت الابنة فيرمينا تدرس في مدرسة ظهور العذراء المقدسة، وأحبها فلورينتينو منذ رآها وله من العمر ثماني عشرة سنة. وكان يكبرها بأربع سنوات. رسم لها في مخيلته صورة مثالية. وسرعان ما وجد هذا الحب صداه بتبادل المشاعر، والأحلام. قالت لها عمتها في إشارة لفلورينتينو الذي يجلس في الحديقة ليراهما تمران:
"لا يمكن إلا أن يكون مريضاً بداء الحب.. ولا بد من العيش طويلاً لمعرفة الطبيعة الحقيقية للرجل" . وصدقت العمة قبل أن تكون هي واسطة لنقل رسائله، فضلاً عن أماكن سرية يخبئان فيها رسائلهما التي استمرت لأربع سنوات، ليجداها أحيانا مبللة بماء المطر. كان فلورينتينو يرسل لها أبيات شعر محفورة برأس دبوس على وريقات زهرة كاميليا. وما إن عرف والد فيرمينا بقصة حب ابنته وبمساعدة عمتها لها حتى ثار وطرد أخته وأجبرها على الإبحار بعيداً، ثم حاول إغراء ابنته بكل أنواع التملـّـق، وحاول إفهامها أن الحب في سنها ما هو إلا سراب، وطلب منها أن تعيد الرسائل. وأمام رفض فيرمينا لطلب والدها، أجبرها على رحلة النسيان بعيداً عن هذا المكان، كانت رحلة مجنونة استمرت أحد عشر يوماً ثم مكثا بعيداً طويلاً وحين عادا إلى بيتهما كانت فيرمينا مريضة، وشكوا في أنها تعاني من الكوليرا.
كان على الدكتور خوفينال أوربينو العازب والعائد من باريس أن يعالج فيرمينا. وسرعان ما سقط دون مقاومة أمام مفاتن فيرمينا رغم أنه يكبرها بعشر سنوات. وسرعان ما تقدم لخطبتها، والدها وجد فرصة مثالية بالدكتور خوفينال. كان فلورينتينو مقتنعاً في عزلة روحه بأنه قد أحب بصمت أكثر بكثير من أي كان في هذا العالم، وجئت لأكرر لك مرة أخرى قسم وفائي الأبدي.
لم ييأس فلورينتينو فبدأ بإرسال الرسالة تلو الأخرى، حتى باتت طقساً يومياً، وكان مستعداً لإخضاع صبره لتجربة أكبر، إلى أن يجد دليلاً قاطعاً على أنه يضيع وقته بهذا الأسلوب، حتى بلغت رسائله مئة واثنتين وثلاثين رسالة من دون أن يتلقى أي رد، وانتظر فعلاً دون الإحساس بالقلق الذي كان يسببه له الانتظار في شبابه.. انتظر بعناد شيخ صلب.
وهكذا وجدا نفسيهما بعد نصف قرن من الانتظار، عجوزين يترصدهما الموت، لا يجمعهما سوى ذكرى ماضٍ غابر. واقتنع فلورينتينو بأن فيرمينا ما زالت على شراستها التي كانت عليها في شبابها، لكنها تعلمت أن تكون شرسة برقة، فها هو يقتحم عليها بيتها من دون موعد، مسبباً لها صدمة، وطالباً منها موعداً ليشربا الشاي معاً. وجه فلورينتينو دعوة رسمية لفيرمينا لتقوم برحلة استجمام عبر النهر، وبعد انطلاق السفينة عزفت الفرقة الموسيقية مقطوعة شعبية دارجة، واستمرت الفرقة في العزف حتى منتصف الليل، بقى القلبان وحدهما في الشرفة المظلمة يعيشان إيقاع أنفاس السفينة، مدّ فلورينتينو يده الباردة في الظلام وبحث عن اليد الأخرى. ولكي يظلا أطول فترة ممكنة اقترح فلورينتينو أن يرفعوا على السفينة علم حملها وباء الكوليرا، لتبحر في النهر جيئة وذهاباً، فقد عاشا معاً ما يكفي، ليعرفا أن الحُب هو أن نحب في أي وقت وفي أي مكان، وأن الحُب يكون أكثر زخماً كلما كان أقرب إلى الموت.

****
فشل اللصوص
فرغ ماركيز من روايته وانهاها بعبارة " مدى الحياة " وارسلها الى ناشرة ليقرأها وتسلمت سكرتيرته كارمن بالسليس نسخة من الرواية وقالت انها امضت يومين تبكي فوق المخطوطة. وفي خريف عام 1985 سافر الى برشلونة، نزل في فندق الاميرة صوفيا، وفي ذلك الوقت اقتحم لصوص غرفته، وهذا ما كان يخشاه، لم يسرق منه حاجيات لكنه اخبر الصحافة انه لم يكن يتصور ان اللصوص كانوا يريدون الاستيلاء على مخطوطة الحب في زمن الكوليرا التي كانت ثلاث اقراص معلقة في رقبته.
في الخامس من كانون الاول 1985 صدرت الحب في زمن الكوليرا فاثارت دهشة القراء والنقاد في جميع انحاء العالم ، لانها قدمت اليهم ماركيز من طراز جديد ، رجل يكتب عن الحب والسلطة وتغدو الروابة الاكثر شعبية بين القراء، ويضعها النقاد بمصاف الاعمال الكبرى التي صدرت في القرن التاسع عشر الى جانب انا كارنينا وكبرياء وهوى, والأحمر والاسود ومدام بوفاري ومرتفعات وذرينغ .
 
الحب الضائع.. بين اليأس والرفض والغضب والجنون
 علي حسين

| 5 |

صعد التل متجاوزا الكنيسة وجلس في حقل القمح الاصفر، تذكر ما قاله له صديقه غوغان قبل أسابيع :" اذا كان السم موجوداً، فان الترياق موجود ". أمسك بفرشاته واخذ يرسم الطيور التي كانت تحلق فوق رأسه، ساعات متواصلة من العمل، وحين تبين له انه فرغ من اللوحة كتب في احد الزوايا " غربان فوق حقل قمح " ثم حمل المسند واللوحة ليعود الى البيت، هناك القى بجسده على السرير، كان يشعر ان هذه هي أيامه الاخيرة بالحياة، فهو منذ ايام مسكون بفكرة الموت، كان فينسنت فان كوخ في السابعة والثلاثين، وقد كشف اخيرا ان الأمل بالشفاء من امراض الوسواس فقيرة جدا، وانه بحاجة الى ان يرسم لوحته الاخيرة، نظر الى الحذاء المركون الى جانب السرير، رفعه عن الارض ووضعه برفق فوق كرسيه تأمله لحظة وبدأ يرسمه في حرارة وانفعال كما يفعل مع الاشخاص الذين يحبهم، أنتهى الرسم وضع الى جوار الحذاء ورقة كتب عليها :" أنا أضع قلبي وروحي في عملي هذا، وربما سأفقد عقلي بسبب ذلك "، ولم يكن يدري ان هذا الحذاء العتيق سيثير سجالاً فلسفياً، ففي العام 1936، شاهد الفيلسوف الألماني "مارتن هيدجر" اللوحة في معرض بأمستردام.


فيقرر ان يكتب عنها دراسة مطولة بعنوان " اصل العمل الفني " حيت نجده يطرح سؤال عن معنى الفن وما حقيقته، ونجد هيدجر يتوصل الى نظرية تقول ان العمل الفني هو اصل الفنان وحقيقته :" "أننا نستخدم الأشياء في حياتنا اليومية، ونستطيع أن نعرف الغرض من استخدامها، لكنّ جوهرها يظلّ مخفيّا أو مغيّبا عنّا، وهذا الجوهر هو ما يكشف عنه الفنّ"، عندما نظر هايدجر إلى حذاء فان كوخ، توصّل إلى استنتاج مؤدّاه أنه يخصّ امرأة كان لها تأثير على حياة الرسام. ولهذا يؤكد هيدجر ان فان كوخ عندما رسم الحذاء، كان يرسم بورتريها رمزيا لمعاناته مع النساء، ويكتب سيجموند فرويد في تحليله لشخصية فان كوخ من ان الرسام:" كان سيعيش اكثر لو نجح في الحب، أن فشله في العثور على رفقة انثوية ساهم في انهياره ".
حدثت اولى حالات الانهيار عندما رفضته عام 1874 الفتاة الجميلة اورسولا لوير أبنة صاحبة المنزل الذي كان يقيم فيه في لندن، فبعد أخفائه لمشاعره طوال شهور اقامته في المنزل، انفجر ذات صباحا معلناً حبه للسيدة الشابة قائلا : أمس فكرت حين اويت إلى سريري في اسم يصلح لك. لقد دعوتك ملاك.
ضحكت من قلبها صائحة : ملاك ينبغي ان اذهب وأروي ذلك لامي
نظر اليها فنست، انه نادرا ما اهتم بامرأة من قبل، لقد نشأ في بيت متزمت، ولم يحب فتاة من قبل،ولم يكن اعجابه بارسولا مجرد نزوة او شهوة، فهو يحب للمرة الاولى.
نظرت اليه بعينين متعجبتين وقالت : ماذا بك أصبحت، لا افهمك هذه الايام.
فقال لها وهو يرتجف : ما اردت ان اقوله اليك، انني.. اعني
تراجعت اورسولا خطوة الى الوراء : ما الذي تحاول ان تقوله لي على وجه التحديد.
احس من خلال صوتها انها خائفة، حاول ان يطمئنها قال :" انني احاول اخبرك يا أرسولا شيئا تعرفينه مقدما وذلك انني احبك من كل قلبي، ولن اكون سعيدا الا اذا اصبحت زوجتي "
زوجتك صرخت بصوت عال :" كيف يكون هذا وهو مستحيل "
نظر اليها وهو يرتعش وقال :" آخشى الآن انني انا الذي لا..
فقاطعته :" انه لأمر غريب ان لاتعرف انني مخطوبة منذ عام.
مر على الاعتراف اسبوعين وذات صباح نزل الى غرفة الاستقبال كانت اورسولا وأمها جالستين تتبادلان النظرات
قالت الأم وهي تراه يتجه الى باب الخروج :" نحن نرى من الأفضل ان تسكن في مكان آخر.
واستدار لينظر الى اورسولا التي اخفضت وجهها الى الارض، فيما الام تكمل حديثها :" لقد كتب الينا خطيب ابنتي قائلا انه يريدك خارج البيت، وانني أرى انه من الخير كل الخير لو أنك لم تأت الى هنا على الاطلاق.
خرج من البيت ليكتب رسالة الى اخيه ماثيو :" ينبغي ان اعثر على امراة تحبني أو ساتجمد واتحول الى حجر ".
بدت له هذه التجربة الفاشلة رمزا لمأساة حياته يكتب في احدى رسائله :" امد يدي الى السعادة لأحيا كما يحيا الاخرون، لكني اجد الابواب موصدة في وجهي ".
لم يخمد حبه العنيف لاورسولا، فاخذ يعاني من نوبات عصبية متفرقة ومنهكة، كانت كل منها تصيبه بالتشوش وعدم القدرة على التعبير عن نفسه بشكل مترابط لأيام أو حتى لأسابيع، وبدا اليأس يلازمه، فاصبح خشن الطباع، لايحب صحبة الناس، يسيء الظن بهم ويضيق بصحبتهم، فقرر في صيف عام 1847 مغادرة لندن والعودة الى عائلته في امستردام.

****
صاحب الوجه القبيح
استوحى فان كوخ من اورسولا الصورة الأكمل لأمرأة استوحى منها وجوه معظم نسائه اللواتي احبهن فيما بعد، بعد رفض اورسولا له عاش حياة مضطربة، اعتقد فيها ان عدم وسامته كانت سببا في ابتعاد النساء عنه، وقد كتب في احدى رسائله : " في كل صباح، عندما أنظر إلى المرآة أقول لنفسي، أيها الوجه المكرر، يا وجه فينسان القبيح، لماذا لا تتجدد؟ أبصق في المرآة وأخرج، واليوم قمت بتشكيل وجهي من جديد، لا كما أرادته الطبيعة، بل كما أريده أن يكون: عينان ذئبيتان بلا قرار. وجه أخضر ولحية كألسنة النار. كانت الأذن في اللوحة ناشزة لا حاجة بي إليها. أمسكت الريشة، أقصد موس الحلاقة وأزلتها.. يظهر أن الأمر اختلط علي، بين رأسي خارج اللوحة وداخلها، حسناً ماذا سأفعل بتلك الكتلة اللحمية؟ "
كان فان كوخ المولود عام 1853 في قرية صغيرة من قرى أمستردام لاب قسيس مارس منذ الصغر العديد من المهن، اشتغل بائعا في احدى المكتبات، ومدرس لغات مقابل الأكل والمآوى، وحارس مدرسة ابتدائية، كان والده يريد ان يهيئه لمهنة القسيس، لكنه قاسى من دراسة اللاهوت، فقرر ان يجرب حظه في الرسم :" لقد قررت أن أتخذ من الرسم حرفة لي " وكان الأب ينظر الى ما يفعله ابنه باستخفاف، كان يشاهده وهو يكرر رسم امراة نفسها اكثر من مرة، فقال له معاتبا : لماذا لاتتحول الى عمل تتمكن من اجادته
-لن اتحول الى عمل آخر يا ابي لقد قررت مصيري
* ولكني اراك تعيد الرسم الواحد عشر مرات، ويبدو لي لو انك كنت على قدر من الموهبة لتمكنت من رسم ما تريد من اول مرة
- ان الطبيعة تبدأ بمقاومة الفنان يابي، ولكن هذه المقاومة يجب ان لاتثنيني عن عزمي، بل العكس يجب ان تشحذ همتي حتى اتفوق على الصعاب
* لا يابني ان الفنان الفاشل عليه ان يكف عن المضي في طريقه، ولا يضيع وقته سدى
-ولكنني أجد سعادة اكبر في ان احول الرسم الفاشل الى رسم ناجح
ان الرسم يريحني من الهموم ويضيء حتى ليل الظلمة.
بعدها ايقن الاب ان ابنه اتجه اهتمامه للفن، فقد كان يرسم طوال عشر ساعات في اليوم على مدى تسعة اشهر، في بيتهم الريفي بحثا عن سلوى جديدة، لكن لم يكن يدري ان الاقدار تخبيء له حكاية حب جديدة.كانت الحبيبة هذه المرة احدى بنات خاله اسمها كاي سترايكر، جذابة الى درجة كبيرة ذات شعر اشقر وعينين زرقاوتين واسعتين، تفيض قسمات وجهها بمسحة من الحزن، جاءت الى بيت عمتها مع ابنها الصغير لتستريح بعض الوقت بعد وفاة زوجها، ما ان راها حتى اخبرها بانه سيرسمها :
- ان رامبرانت لو كان موجوداً لقرر ان يرسمك فورا
- وهل رامبرانت كان يهوى رسم النساء الدميمات.
- بل يرسم النساء الجميلات اللاتي فيهن مسحة من الحزن يصهر ارواحهن.
وذات يوم شكا لامه صد كاي له، كان في ذهنه يرسم لها صورة المرأة التي احبها في اورسولا، لقد فكر ان كل ما يريده كان حباً تمتلئ به حياته الموحشة :" الحب زحمة وسط العزلة " عندئذ قال لكاي :" حين رأيتك فقدت توازني ".
اجابت بحدة : لا اريد ان تكون حياتي رهنا لهوى آخر "
- لكن صاعقة الحب اكثر حيوية وعنفا قال لها ثم أضاف : سوف نبدأ حياة جديدة بعيدا عن هنا تحت سماء اكثر زرقة
* كلا، فانا جربت الحب مرة واحدة وكاد ان يقتلني وسواء كنت سارتبط برجل اخر، ام سأموت هكذا، فانني لا افكر فيك زوجاً
كانت هذه الكلمات اشبه بضربة قاضية وجهتها الى رجل مذهول.
واخيرا قررت كاي ان تهرب من امطارداته لها، فعادت الى بيت ابيها في امستردام، لكنه ظل يلاحقها بخطاباته الملتهبة :" ما معنى ان يفكر انسان بشخص اخر، معنى هذا ان لاينساه، اذ لاحياة ممكنة مع النسيان ثمة اشياء كثيرة تعيد صورتك الي والتفكير فيك، لايفيد شيئا اخر غير ان اراك.انا ببساطة لااستطيع العيش دون ان افكر فيك".
ويقرر أخيرا ان يذهب في اثرها ويستقبله خاله القس ستريكر بجفاء :
- والآن يافنست انك تسبب الكثير من المتاعب لابنتي
* دعني اراها ولو لمرة واحدة
- انها لاتريد ان تكلمك
* اصغ الي أرجوك انني احبها بجنون، لاتكن بالغ القسوة علي، انا أعرف انني لم اوفق في حياتي، لكن دعها ان تمنحني فرصة واحدة، سأنجح حتما، فرصة واحدة فقط هذا كل ما اطلبه
- يالك من ضعيف قال له الخال
* عندئذ قفز فان كوخ ومد ذراعه الى الشمعدان المشتعل على المنضدة وبسط يده على اللهب المتقد وقال للخال : سأريك كيف انني لست ضعيفا، هذه يدي لن ارفعها عن اللهب حتى أرى كاي
- ما العمل قال له الخال الى متى سيدوم هذا البؤس ؟
يكتب ايرفنج ستون في كتابه الممتع عن حياة فان كوخ :" لم يكن يعتريه شك انه طوال السنوات السبع التي اعقبت فقده اورسولا يعيش في وحدة لاتطاق، بل انه طوال حياته لم يسمع أمراة تقول له كلمة ملاطفة واحدة او تنظر اليه بعينين غائمتين بالعاطفة الرقيقة، لا أمراة احبته يوما، ولم تكن حياته حياة، وانما موت، ولم يكن حاله سيئا عندما احب اورسولا، فانذاك كان مراهقا، أما الآن فان حبه لكاي يريد به ان يسد جوعا الى العاطفة "

****
الحب على طريقة بلزاك
كان فان كوخ انذاك يقرا بلزاك واغرم بروايت الكبيرة " الاب غوريو، وسحرته عبارة في الرواية تقول :" ينبغي لك، لكي تصبح رجلا ان تحب امراة ". قال له والده يوماً ان :" الخطأ كله هو خطأ هذه الكتب الفرنسية التي تقراها، وعندها تواظب على مصاحبة المجانين، فكيف لانسان ان ينتظر منك تصرف الابن العاقل "
- وهل تسمي فكتور هيجو وبلزاك مجانين قال فان كوخ
* ان كتبهم مليئة بالشر، وهي التي دمرتك
كان فان كوخ يضع رواية الاب غوريو بالقرب من رأسه وقال يوما لابيه :" هناك طريقة واحدة لاقناعك وحسبك ان تقرأ صفحات قليلة وسوف تعرف الحقيقة
قال الاب وهو يصرخ غضبا : لست في حاجة الى قراءته، لقد كان لي اخ عظيم، ابتلى بقراءة الكتب الفرنسية، فقادته الى الجنون.
لم يكن فان كوخ مغرماً بجمال كاي فقط، وانما بوجودها وخصائصها، بمشيتها، وهو الآن يريدها وقد احس ان حب كاي سيجعل منه شخصاً مختلفاً، ولهذا لم يتوقف عن كتابة الرسائل العاطفية لها حتى بعد ان طرده ابيها، وفي نفس الوقت يكتب رسائل شبه يومية الى شقيقه ثيو، موضع سره، الذي كتب اليه يحاول ان يهدئه :" انها مسالة ميؤوس منها تماما يا فنيست، ان العم ستريكر يقول انه حتى على افتراض ان كاي تحبك، فهو لن يوافق على الزواج ما لم يكن دخلك السنوي ألف فرنك، وانت تعلم ان هذا الأمر مستحيل الآن"
ويكتب الى ماثيو يرجوه ان يقرأ ما كتبه بلزاك في الاب غوريو وكيف ان الحب سينتصر في النهاية.
كان بلزاك وهو يكتب الاب غوريو يعيش قصة حب عنيفة، ظن فيها بلزاك انه انتصر اخيرً، بعد سلسلة من قصص الحب الفاشلة، وابتهج لذلك وطلب من محبوبته إيفلين هانسكا ان يتزوجا، لكنها كانت لاتحب ان يجبرها احد على شيء.كتبت اليه انها عزمت على السفر، وانه ستتزوجه حالما تعود، لكنها فضلت عليه رساما مغمورا وفي رسالة كتبتها له قالت انها لاتريد ان تجعل منه انسان شقي بسبب ارتباطه بها.
في رواية بلزاك الأب غوريو نلتقي للمرة الاولى بشخصيية فورترين الشاب الذي يتمتع بذهن صاف وارادة قوية وحيوية، انه مرح وكريم وقوي البنية واثق من نفسه، كان يسحر النساء من اول نظرة، ويخبرنا الناقد هارولد بلوم في مقالته كيف نقرأ بلزاك ؟، ان فورترين هو الصورة المتخيلة لبلزاك الذي كان يطارد النساء ويحاول الايقاع بهن، وهي الشخصية نفسها التي سحرت فان كوخ فكتب الى اخيه ماثيو :" انا مجنون حباً، لا لانني اسحر النساء مثل ابطال بلزاك، بل لانني اريد ان اجعل من صورتي صورتين، صورة احمق في نظر نفسي، وساحر في نظر الاخرين ".

****
لقاء عاصف مع غوغان
في العام 1888 يلتقي في احد مقاهي باريس بالرسام " بول غوغان " ليرتبطا بصداقة ويعيشا سويا في مرسم غوغان، كان مرسما رثاً على احد الاأسطح ولم يكن به من الاثاث سوى سرير نحاسي ومنضدة ومقعد وحامل لوحات
وقال غوغان لفان كوخ :" انني اقتنع بالقليل من المادة تكفي لارضاء مطالب جسدي، اما روحي فلا يقيدها قيد "، واخرج من تحت السرير عدداً من لوحاته ليعرضها امام فان كوخ الذي وقف مشدوها يتطلع اليها وقد تملكته الحيرة، فقد رأى خليطاً من المناظر الغارقة في ضياء الشمس االمتوهجة واشجار وحيوانات ورجال لايمكن ان يخلقهم سوى رسام عبقري وتمم فان كوخ : " انك ياغوغان تكره الموجودات من كل قلبك"
ومضى فان كوخ في صحبة غوغان يرسم في اندفاع وفي خلال العشرين اسبوعاً رسم ما يزيد على مئتي لوحة وعرض بعض لوحاته في محال اللوحات الى جانب اعمال مونيه، لكنها لم تستهوي عشاق الفن التشكيلي
وذات يوم قال لاخيه ثيو :" انني لست رسام مدينة بل رسام طبيعة واريد ان اعود الى الحقول اود ان اجد شمسا ملتهبة تحرق كل ما فيّ سوى الرغبة في الحب " وفي صباح احد الايام وجد ثيو خطابا صغيرا على المنضدة يقول فيه :" عزيزي ثيو لقد رحلت الى آرال وساكتب اليك بمجرد وصولي الى هناك..اخوك الذي لاينسى فضائلك فينست "
****
الحب يطارده
في كل مكان
بعد أاشهر من اقامته في آارال، ارسل الى غوغان للاقامه معه في بيته، كان الرسام الفرنسي قد خرج من السجن محطماً مريضا مفلسا، وصل غوغان الى آرال عام 1888، وهيأ فان كوخ لصديقه اسباب الراحة، ولكن ما ان حل غوغان حتى بدات المناوشات الحامية بينهما، في البداية كانت تدور حول الفن، وكان غوغان ينتقد اعمال فان كوخ ويحاول ان يقلل من قيمتها، ثم راحت هذه المناقشات تدور حول النساء، في تلك السنة كان فان كوخ قد تعرف على راشيل في احد الملاهي، والتي كانت السبب في ان يستيقظ غوغان في الثالث والعشرين من كانون الاول عام 1888، ليجد فان كوخ يحمل سكينا، كانت المشادات تكثر فيما بينهما لكن لم يتوقع ان يصل الامر الى استخدام السلاح، وعندما كان غوغان يتهيا لصد ضربة فان كوخ، تحول مسار السكين ليقطع بها فان كوخ شحمة اذنه اليمنى، كان الاثنان قد دخلا قبل يوم في نقاش حاد حول راشيل، وهل هي تحب فان كوخ حقا، ولم يكن امامه سوى ان يقطع اذنه ليقدمها هدية لها، والتي ما ان راتها حتى فقدت وعيها.
يعد حادثة شحمة الأذن المروعة تم إدخال فنسنت فان كوخ لمصحة عقلية في ولاية سان ريمي. وخلال اقامته في المصح، أنتج كمية كبيرة من اللوحات من ضمنها لوحته الشهيرة “ " ليلة مضيئة بالنجوم".
في السابع والعشرين من تموز عام 1890، خرج فينسنت فان كوخ إلى حقلٍ للقمح، خلف بيت ريفي ضخم، في قرية أوفير شيرواز الفرنسية الواقعة شمال باريس، وهناك؛ أطلق النار على صدره، وذلك بعد 18 شهراً من معاناته من اضطرابات نفسية وعقلية، كان ينتابه شعورٌ متزايد بالوحدة والقلق، وبات على قناعة بأن حياته ليست سوى فشل. ذات يوم، نجح في الحصول على مسدس صغير الحجم، يعود إلى صاحب المنزل الذي كان يقيم فيه. وكان هذا هو المسدس الذي أخذه معه حينما توجه إلى الحقول، غير أنه لم يكن سوى مسدس جيبٍ صغير الحجم للغاية، ذي قوة نيرانية محدودة، ولذا فعندما ضغط فان كوخ على الزناد، انطلقت رصاصة سرعان ما ارتدت إثر اصطدامها بأحد ضلوعه دون أن تخترق قلبه. رغم ذلك، فقد فان جوخ الوعي وانهار على الأرض.
وعندما حل المساء، عاد أدراجه وبحث عن المسدس ثانية للإجهاز على نفسه، وبعدما فشل في العثور عليه، عاد مترنحاً إلى الملهى يبحث عن راشيل، هناك تم استدعاء طبيب لفحصه، كما استُدعيّ شقيقه ثيو، الذي الذي وصل في اليوم التالي.
كان ثيو يتوقع إن شقيقه سيسترد قواه. لكن في النهاية لم يتسن له فعل شيء، ليموت فان كوخ متاثرا بجراحه.
ويكتب شقيقه ثيو تفاصيل اللحظات الأخيرة في عمر شقيقه قائلا: "ظللت إلى جواره حتى انتهى كل شيء. كان من بين أخر ما قاله " هذه هي النهاية التي اردت ان امضي اليها".
 
.من أين تأتي شرارة الحب الملتهبة؟
 علي حسين

| 6 |

كان على فراش موته في بيته الريفي قرب باريس في الرابع من ايلول عام 1883.، بين غياب وصحو، حين تذكر ما قاله له ذات يوم ليف تولستوي: " هل عشت حياة تعيسة ام سعيدة؟". لا تناقض بين التعاسة والسعادة بالنسبة اليه، لكن ايفان تورغنيف تـــساءل في تلك اللحـــظة القصوى ما إذا كان في حياته إنسان سعيد. الآن هو يشرف على الموت ويقول إنه كان سعيداً جداً.
يتذكر انه قبل ثلاث سنوات نزل ضيفا على تولستوي، وبينما كان يجلس لتناول طعام العشاء معه، سأله تولستوي: لِمَ لم تكتب شيئا منذ زمن طويل، في تلك اللحظة أدار تورغنيف وجهه وهو يقول: " حسناً سأخبرك، انا ما صرفت بالي إلى كتابة شي، إلا وكانت حمى الحب تهزني!، كانت لي قصة غرام منذ أيام، هل تصدق اني وجدتها مملة " فصاح تولستوي:" وآه ليتني كنت كذلك ".


تذكر انه في شبابه كتب مسرحية " شهر في الريف " وفيها نجد البطل بيلياف وهو شاب يتخيل الحب سعادة عظيمة فيجيبه راكيتين وهو رجل في الثلاثين
راكيتين: أدام الله عليك هذا الاعتقاد السار، انني أومن يا ألكس نيكولاتيش بان الحب بكل انواعه، سعيد كان او غير سعيد، هو مصيبة كبرى، إذا استسلمت له استسلاماً تاماً..انتظر قليلا ستعرف اي كراهية مشتعلة تكمن تحت أشد الغرام! ستذكرني عندما تحن الى السلام، أشد ما يكون السلام ركودا وتفاهة، كما يحن الرجل المريض إلى الصحة، عندما تحسد كل رجل حر خالي القلب ".
لكنه بعد هذه المسرحية بثلاثة أعوام، قادته قدماه الى دار الاوبرا الإيطالية في باريس، ليشاهد مسرحية غادة الكاميليا، في صحبة صديقه الأديب الفرنسي الشهير " الفونس دوديه "، كان قد قرأ منذ سنوات رواية دوماس الابن " غادة الكاميليا "، وقد التقى المؤلف يوما في بيت غوستاف فلوبير، فحدثه عن بطلة روايته الفتاة مرغريت غوتييه، التي كانت تأمل أن يعطيها الحب طهراً تتوق إليه. وكانت في منامها تتخيل أن الحب يدوم إلى الأبد، لكنها لم تتصور انها ستضحي في النهاية بنفسها وبحبها من أجل سعادة وسمعة ومستقبل محبوبها الشاب الغني "آرمان".
أعاد تورغنيف في ذهنه أحداث رواية دوماس الشهيرة، قبل ان تفتح ستارة المسرح، ثم بدأت الموسيقى تعزف وما هي لحظات حتى ظهرت على المسرح بولين فياردو، كانت في الثلاثين من عمرها، فتاة خارقة الجمال، قلما يستطيع رواد المسرح مقاومة فتنتها الساحرة، كان وجهها جذاباً، أما عيناها فتلمعان بنظرات لاسعة كالسياط.
سيكتب تورغنيف عن تلك الليلة في يومياته: "رأيت بولين على المسرح لأول مرة، أجمل وأروع امرأة في الوجود، أحسب أنني لن أنظر إلى أي امرأة بعدها".
ظل تورغنيف محتلاً مقعده الأمامي في دار الأوبرا، حتى بعد ان اطفأت انوار المسرح وغادر المتفرجون، كان ماخوذاً، انتبه الفونس دوديه لصديقه الروسي، فوجده صامتا وكأنه مسحور: كنا نجلس في قاعة الاوبرا وكان صوت مغنية الاوبرا بولين يتردد في اجواء المسرح ووجدتني التفت الى تورجنيف فأجده ساهما فقلت له
- وانت ياتورغنيف ماذا تقول عن هذه الاوبرا؟
• انا لا أفكر في موضوع غادة الكاميليا..ان احداث الرواية تترأى لي من بعيد ملفوفة بظلال بولين وهي تسحر كل من نظر اليها.
وحين طلب منه الفونس ان يذهبا للسلام على بولين والإشادة بادائها، رفض الاقتراب منها، وقرر ان يعود الى غرفته في الفندق ليكتب السطور الاولى من روايته " الحب الاول ":
" هناك على بُعد خطوات من موقفي، عند منفسح بين شجيرات توت أخضر، كانت تقف فتاة سامقة القدّ، رشيقة اللفتة، في فستان وردي مخطط، ومنديل أبيض على رأسها... وكنت أنظر إليها من جانب، وأراها تنطوي على قدر من الجلال والحنوّ والجاذبية، وعلى شيء من السلطان والسخرية، أكاد فيه أصرخ من الإعجاب والرضى، كنت على استعداد لأنْ أُعطيها العالم.. انزلق سلاحي على العشب، وأنا ذاهل عن كل شيء، سوى النظر إلى هذا القوام الأهيف، وهذا الخصر الهضيم، وهذا العنق المستقيم، وهاتين الذراعين الجميلتين، وهذا الشعر الأشقر، تطل ذوائبه من ثنيات منديلها الأبيض، وهاتين العينين الذكيتين الناعستين، تظلهما رموشها الوطف، وهذا الخد الأسيل تحت تلك الرموش الطويلة.. أيها الشاب. ارتفع صوتٌ على قُربي. أَمِن المباح أن تُحملق على هذا النحو في فتيات لم تتعرف إليهن؟ فانتفضت بالمفاجأة، ولم أحر جوابًا. كان ثمة رجل ذو شعر أسود قصير، يقف قريبًا مني وراء السياج، ويرمقني بنظرة ساخرة، وتلفتت الفتاة في اللحظة ذاتها نحوي، فرأيت العينين الرماديتين الكبيرتين في وجهها الطلق الممراح، وترتعش قسمات هذا الوجه فجأة بالضحك، فتتلألأ أسنانها البيضاء، ويرف حاجباها. فاحمررتُ وأخذت سلاحي من الأرض، وانطلقت إلى غرفتي، تصخب ورائي ضحكات كثيرة، ولكنها بريئة من السوء. ارتميت على السرير مُخفيًا وجهي بكفيَّ، وقلبي في صدري، وشعور بالخجل والمرح في آن يملأ نفسي، وانفعالاتٌ ما عهدتُ مثلها من قبل تضطرب في أعماقي. "
بعد أيام زاره صديقه الفونس دوديه ليخبره انهم سيزورون الممثلة بولين:– دع عنك ياعزيزي هذا الحياء مادمت معجب بها كل هذا الاعجاب، لماذا لا تذهب اليها وتبدي لها أعجابك؟
قال تورغنيف مترددا: يا عزيزي الفونس لقد خُلقت شديد الخجل، ولا أستطيع ان أقدِم على مثل هذه الخطوة.
– هل تحب أن ادعوها لبيتي لتتعرف عليها جيدا؟
• كيف قال تورغنيف بحيرة؟
– أقيم حفلاً على شرفها أدعو إليه عددا من الفنانين والكُتاب.
• كيف أتمكن في حفل كهذا أن أظهر لها مدى اعجابي؟
– هي قرأت لك بعض القصص، وقالت انها أثرت فيها كثيراً.
كانت بولين متزوجة من مدير دار الاوبرا، وكانت تحب زوجها وتحترمه، ولهذا أدرك تورغنيف منذ البداية ان حبه لهذه الفاتنة سيبقى عقيماً، لا أمل فيه، لكنه أصر ان يمضي في حبه لها حتى، وإن لم يخرج هذا العشق عن حدود العاطفة البريئة.
قرر تورغنيف ان تكون باريس موطنه، مادامت هي موطن محبوبته بولين، فانتهى به الأمر ان اشترى بيتا قريبا من منزل اسرة فيباردو ليتمكن من تتبع خطى محبوبته.
بعد اسابيع يلتقي تورغنيف ببولين وجهاً لوجه فتفاجئه بالقول: قرأت بعض قصصك، إن عاطفتك فيما كتبت عاطفة نبيلة بدون شك، لكن اتمنى أن يداعبك الأمل في ان أصبح واحدة من ابطال قصصك. إنني سيدة متزوجة، وفوق كل شيء فأنا أحب زوجي.
وبعد يومين ارسلت له بيد الفونس دوديه، رسالة ترجوه فيها ان يقبل دعوتها للعشاء في بيتها، وكانت الدعوة مختومة باسم زوجها لويس فياردو.وبعد العشاء قالت له بولين وهي تقدم له النبيذ: بعد أن قرأت قصتك الاخيرة " المغنيان " أعتقد أنك صرت كاتبي المفضل، لاسيما أنني عكفت على قراءة معظم قصصك، ثم نظرت اليه وهي تلاحظ احمرار وجهه واضافت:" لكن عليك ان لاتفرح كثيرا، فهذا لا يعني أنني أحبك يا عزيزي تورغنيف
• من غير المجدي أن أقول لك إني أحبك أكثر من نفسي
– لماذا لا تعتبرني صديقة لك؟
• ماذا افعل بروح الفنان التي تجدك أهم امرأة مرّت في حياته.
– أنت يا عزيزي تورغنيف شديد العاطفة.

****
الحب في وقت لا تتوقعه
بعد هذا اللقاء يجلس تورغنيف ليكمل روايته الحب الاول يكتب:" كانت بكل وضوح حالة حب من النظرة الاولى، فهاهي تسبح نحو القادم الجديد تلاطفه، تدفعها مشاعر رقيقة ".
سيقدح زناد الحب في وقت لاتتوقعه، هكذا قال له صديقه غوستاف فلوبير الذي يصف بولين بانها كانت تبدو مثل تمثال من الخزف الصيني وقد احتفظ وجهها الفاتن بنظرة العذراء المروعة كانت بولين تهز مشاعر الرجال بصراحتها وباندفاعاتها وبذوقها وبقوة شخصيتها، وفوق ذلك بسحرها وهي تمثل على المسرح.
يكتب غي دي موباسان:" ثلاثين عاما من الحب كانت تربط تورغنيف بالسيدة فيادرو الممثلة العظيمة، وقد عاش تورغنيف العازب سنين طويلة في خدمة هذه السيدة حتى انه قرر في الخامس من تشرين الاول عام 1874 ان يشتري قصرا كبيرا يجعل الطابق الارضي سكناً لعائلة فيادور التي ارتبط معها برباط لم ينته حتى اللحظة الاخيرة من حياته ".
يصف موبسان تورغنيف بانه طويل القامة، ضخم الرأس، منتفخ الشفتين، يرتدي أفخر الثياب ويتوكأ على عصا، واذا نظرت في وجهه المهيب بلحيته ونظارته وقبعته المستديرة، حسبته قاضياً، لكنه كان لا يرى إلا في احدى المسارح، لايجلس الا في الصفوف الامامية، طوال الوقت عيناه تترصد حركة الممثلين على المسرح، لايكف عن القلق حتى تظهر بولين على المسرح.. ولد العام 1818 في منطقة الاورال وسط روسيا. وقد درس في جامعات موسكو وسان بطرسبورغ. وبدأ حياته الأدبية بنشر الأشعار في العام 1838، ثم توجه ليكمل دراسته في برلين، قد فقد ابوه عندما كان في السادسة عشرة من العمر، وكان أبوه شخصا أنيقا لكنه مسلوب الإرادة امام النساء، أما والدته فقد كانت امرأة ثرية لكنها مزاجية، وكان تورغنيف أحب إخوته إلى أمه، ولكنه كان متأرجحاً بين الحقيقة والخيال، ووظل متعثراً في حياته الواقعية طوال عمره بالرغم انه نال نجاحا في الأجواء الرومانسية.

****
الآباء والبنون
حين كتب تورغنيف " الحب الأول" كان في الثانية والأربعين من عمره كما كان في قمة غرامه للممثلة بولين، وايضا في قمة مجده الادبي، فقد كان أول كاتب روسي كبير يعرف المجد في الغرب خلال حياته.
والحب الاول تروى من خلال بطلها الشاب فلاديمير بتروفتش مسترجعاً شريط حياته: " كنت وقتها في السادسة عشرة وقد حدث ذلك في صيف 1833، كنت اعيش مع أبوي وقد استاجرا منزلاً ريفيا لقضاء الصيف، وكنت استعد لدخول الجامعة ولكنني لم اكن أعمل كثيرا، ولم اكن استعجل شيئا، ولم يتدخل أحد في حريتي "، ويروي لنا الفتى بتروفيش قصة غرامه للفاتنة زينايدي.:" وهذه الفتاة الحسناء كانت في ذلك الحين أجمل بنات المنطقة... وكانت مدركة كم تملك من جمال وفتنة. لذلك راحت تجمع من حولها المعجبين والعشاق، تذلّهم، رافعة اياهم خافضة اياهم على هواها، ومن دون ان يرف لها جفن. فهي، في نهاية الأمر، لعوب ماكرة... هوايتها ان يجتمع المعجبون في دارها يبثون لها أشواقهم وحبّهم، ثم تسخر هي منهم بجعلهم يقترفون الحماقات المضحكة ما يسري عنها. و بتروفتش الشاب لا يكون استثناء بالنسبة اليها. فهو ما إن يقع في هواها، حتى ينضم الى فرقة المتحلقين من حولها صاغراً راضياً " وإن كان تورغنيف يؤكد لنا ان حب هذا الشاب صادق، على عكس حب الآخرين الذي هو مزيج من الاشتهاء والإعجاب والرغبة في الامتلاك.
وفي مشهد من أشد مناظر تورغنيف اثارة للعطف نقرأ: " واخيراً سالتني زينايدا: تحبني كثيرا؟ أليس كذلك
فام أجب، وهل كانت ثمة حاجة إلى جواب
فرددت وهي تنظر إليَ كما كانت تنظر من قبل أجل ومضت تقول " نفس العينين وغرقت في التفكير، وأخفت وجهها بين يديها وهمست: كل شيء صار كريهاً إلى نفسي. ليتني ذهبت إلى آخر الدنيا، قبل ان يحدث ذلك، انني لا أستطيع احتماله، لا استطيع التغلب عليه، رباه اني تعيسة، رباه كم انا تعيسة و تطلب منه ان يقرأ لها شعرا، وضغطت زينايدا على يدي، فالتقت عيناي وعيناها، وأحمر وجهها قليلا، رأيت حمرة الخجل في وجهها، فشعرت ببرودة الفزع، لقد جربت الغيرة من قبل، لكن فكرة انها تحب شخصا آخر لم تخطر على بالي إلا تلك اللحظة، رباه إنها تحب".
وكان الحب هذه المرة من حيث لم يكن ليتوقع أبداً: من لدن أبيه. فالأب رجل وسيم ذو شخصية استثنائية، كما يصفه تورغنيف لا يمكن أي امرأة ان تقاوم إغواءه. وإذ تلتقي زينايدي بوالد بتروفيش تقع على الفور في غرامه، وتكتشف انه لا يمكن ان يكون مثل الآخرين ألعوبة بين يديها. وسرعان ما يكتشف الابن بتروفيش العلاقة التي تجمع بين أبيه ومحبوبته، ويعرف ان الاثنان قد هاما ببعضهما:" بدأت أراقب وأصخت السمع كان والدي يصر على أمر ما وزينايدا تمانعه، لكأني أرى وجهها حزينا، جادا، جميلا، عليه سيماء لايمكن وصفها من التفاني، والأسى، والحب، ونوع من القنوط، وكانت تنطق بكلمات أحادية المقاطع، دون أن ترفع عينيها، إلا انها كانت تبتسم في خضوع، ولكن دون ان تستجيب. بتلك البسمة وحدها كنت استطيع ان اعرف زينايدا القديمة، وهز ابي كتفيه، وأحكم وضع قبعته على رأسه، " بعد هذا المشهد يقع القتى بتروفيش صريع المرض واليأس، فقد اكتشف الحقيقة المؤلمة، ويعود الى البيت وقد خيّل اليه انه ميت لا محالة لفرط ما به من جنون الحب وألم الخيبة.
لكن سرعان ما تمضي الايام، ويشفى بتروفيش من مرض الحب، ويعود ليلتقي بأصحابه. ونكتشف معه ان حكاية " الحب الأول" قد مضت بأقل قدر ممكن من الخسائر، ولكن بالنسبة اليه لا بالنسبة الى العاشقين. ذلك انه إذ تنتهي حكاية بتروفيش على تلك الشاكلة، يكون مصير الأب وزينايدا مأسوياً، إذ سرعان ما يقضي الأب صريع مرض مميت، تاركاً لابنه رسالة ينصحه فيها بألا يقع في الغرام أبداً. ويصف لنا تورغنيف مشهد اللقاء الاخير أما زينايدا التي كانت في تلك الأثناء قد تزوجت، فإنها بدورها تموت وهي تضع طفلها الأول... وهكذا فقط تنتهي الحكاية، بهذا الشكل المأسوي.
****
ماذا قال تولستوي؟
عندما حمل تورغنيف مسودات " الحب الاول " الى تولستوي ليقرأها، قال له بعد ايام:" ليس ثمة قصة اكثر امتلاء بالعواطف منها " ويضيف تولستوي انها رواية حب تكشف عن الطبيعة البشرية وغرائزها لقد بكيت وانا أقرأ السطور الاخيرة: " اذكر انني بعد ايام من سماعي نبأ موت زينايدا، دفعني شعور غريب لايقاوم إلى عيادة عجوز مسكينة مشرفة على الموت، كانت تعيش في البناية التي نسكن فيها..كانت تقاسي من احتضارها مر العذاب. لقد تصرمت حياتها جميعا في صراع شديد من اجل القوت، فما رأت قبسا من السعادة، ولا تذوقت قطرة من عسل الحظ، وأذكر انني شعرت انذاك، عند فراش العجوز المحتضرة، بالجزع من اجل زينايدا، وتمنيت ان أصلي لها، ولابي، ولنفسي ".
ويخبره تولستوي انه وجد في الرواية تحليل لشخصية المرأة واستحضار لرائحتها وملمسها وحضورها، وكونها هي إياها، وبرغم رأي تولستوي في الحب الاول إلا انها اعتبرت أكثر روايات تورغنيف سوداوية. إذ فيها نرى الحب في جانبه الأكثر مأسوية، يصوره الكاتب بصفته مرضاً لا أكثر، وفوضى تضرب البشر بطرق مختلفة، وعليهم تفاديها بأي حال من الأحوال. وذلك ما تقوله على أي حال رسالة الوالد الى الى ابنه بتروفيش، وهي رسالة من الواضح ان تورغنيف شديد التعاطف معها.:" اقول لك ايها الشاب، انك طليق لا تبالي بشيء، فكأنك تملك كنوز الدنيا، بل حتى الاحزان تزدهيك وتليق بوجهك، انك تقول وانت واثق بنفسك معتد بها: انظروا إلي فأنا فقط من يعيش، على حين تمضي أيامك ثم تتلاشى، فلا أثر ولا ثمر ويختفي كل مافيك كما الشمع في وهج الشمس، وكما الثلج "
وتورغنيف في الحب الاول يدرس مثل طبيب نفسي مرض الحب بتفاصيله السيكولوجية. وهذا ما خفف من شأن الصراع بين الحب والرفض، وهو صراع تركه تورغنيف في عهدة روايته الاخرى " ليزا " التي تروي لنا قصة الفتاة الجميلة " ليزا " وهي تعيش بانتظار العاشق الذي يملأ حياتها، وحين يبدأ الرجال يظهرون في حياتها، واحد بعد الآخر، نجدها تتعلق بلشاب انساروف صاحب الوجه الشاحب والكلمات القليلة الحاسمة والكبرياء تختلط بالحزن والاسى، لقد احبته، ويوما بعد آخر كانت حرارة الحب ترتفع وتزداد حتى ملأت حياتها واصبح كل شيء فيها ملكا لهذا الشاب لكنه يطلب منها ان تتركه وتجد رجلا مناسبا: " ياحبيبتي انا رجل فقير جدا ولا املك شيئا وصحتي منهارة، ومستقبلي مهدد، لانني مصمم ان اشارك في الثورة،فماذا يمكنني ان أقدم اليك، انني لن اتنازل عن واجبي تجاه بلدي، ولن اتردد في القاء نفسي في نار المعركة الحاسمة من اجل الحرية.لكنها تقرر ان لاتتركه واتفقا على السفر معا وتركت ليزا اسرتها، لقد اختارت حبها واندفعت الى مصيرها المجهول مع الحبيب الثائر، لكن المرض يتغلب عليه ويموت بالسل، فتقرر ليزا مواصلة مسيرته وتكتب رسالة الى اهلها انها لن تعود، وانها ستواصل عمل " أنساروف " الى النهاية، فهذه هي الطريقة الوحيدة لكي يعيش حبها الى الأبد.
****
اللحظات الأخيرة
عاش تورغنيف معظم حياته صديقاً لعائلة فيادرو، ولم يفارق المراة التي احبها، وقال لغوستاف فلوبير:" لو خيرت بين ان آمرين ان اصبح اعظم عبقري في العالم، شرط ان احرم من رؤية بولين، او ان اصبح بوابا امام بيتها في بقعة نائية من اطراف العالم، لأثرت ان اكون بوابا على ان اكون عبقريا "
وكتب مرة لبولين: " في استطاعتي ان اؤكد لك ان العاطفة التي اشعر بها نحوك، عاطفة لم يعرفها العالم الى الان، ولم يشعر احد بمثلها " وكان المقربون منه يسخرون من حبه الصامت وكان هو يسخر من الذين لايعوفون معنى الحب الصادق:" الاتفهمون ان للحب مقراً في النفوس، ومقراً آخر في الجسد، وحين يلتقيا لايستطيع احد ان يفرق بينهما ".، وبسبب هذا الحب الافلاطوني، أمتنع تورغنيف عن الزواج قائلا لاخيه الاصغر انه يؤثر على الزواج والابناء والعائلة حبه الروحي واخلاصه لمدام فياردو".
وعندما اوشك على الموت، قال لاحد المقربين منه:" ان الموت يريد ان يسطو على كل شيء جميل في حياتي، انه يريد ان ياخذني من بولين "
وفي لحظات احتظاره الاخيرة دخلت عليه بولين الى الغرفة، فنظر اليها نظرة اخيرة ورفع راسه وارتسمت على فمه ابتسامة الرضا والارتياح وتمتم قائلاً ": هذه ملكتي تلقي النظرة الاخيرة على احد رعاياها، ما اكثر الخير الذي صنعتِه في هذا العالم "، احتضنته بولين ولم يستطع احد ان يقنعها بان تتركه لانها لم تكن تصدق ان الرجل الذي اخلص لها طوال اربعين عاما، وكان مثل ظلها، سيرحل ويتركها وحيدة، وما ان ذهبت الى البيت حتى دخلت غرفتها ولم تخرج منها ابدا، ورفضت لقاء اي شخص حتى زوجها، وبعد اشهر تم نقلها ألى المستشفى حيث اكتشف الاطباء ان وفاتها كانت بسبب تناولها نوعا من السم البطيء.
 
صباح الخير أيها الحب، حتى ولو كنت وهماً
 علي حسين

| 7 |

في صيف عام 1953 أخبرت عائلتها انها تريد السفر الى باريس ، فالحياة في الريف تشعرها بالضجر ، كانت قد فشلت في امتحان البكلوريا ، قالت لها امها ان قراءة الشعر والرواية ستجعل منك فتاة بلهاء ، كتبت ذات يوم في دفترها المدرسي :" انا لا انتمي الى هذا العالم المتزمت بالمرة ، لا احب ان اكون ابنة عائلة غنية ، لكنني أتوق بشدة الى زمن أستطيع فيه ان اجرؤ على العيش في وفاق مع نفسي ومع مشاعري وبالتالي مع الحياة " .

اعترافات روسو
كانت قد قرأت مثل هذه العبارة في اعترافات جان جاك روسو التي حذرها والدها التاجر الكبير من الاستمرار في مطالعة مثل هذه الترهات التي لاتليق بفتاة لم تتجاوز السابعة عشر من عمرها ، كان الاب قد لاحظ منذ مدة ان ابنته قد تغيرت كثيرا في الايام الاخيرة ، تبدو مشتتة الذهن دائما ، تغلق عليها باب غرفتها كثيرا وهي تقول :" انني بحاجة للوحدة " ، انه الغرام هذا ما قاله الاب الذي قرر ان يحقق رغبة ابنته ويأخذها الى باريس ، فقد كان يأمل ان تمضي اوقاتا ممتعة في صالات الرقص ، وتذهب بصحبته الى المسارح ، او تلتقي بصديقاتها .
في باريس التي وصلتها فرانسو ساغان يوم السابع من حزيران عام 1953 ذهبت مباشرة الى شارع المكتبات ، كانت متلهفة لشراء مؤلفات ستندال واندريه جيد والبحث عن رواية مارسيل بروست ، في رف من رفوف احدى المكتبات عثرت على ديوان الشاعر الفرنسي بول إيلوار ، كانت قد قرأت له من قبل قصائد قليلة ، اختطفت الديوان وبدأت تقلب صفحات لتقرأ بصوت عال :
" وداعا ايها الحزن
صباح الخير ايها الحزن
اتركني ايها الحزن
عد اليَّ ايها الحزن
أنت مكتوب في ثنايا احلامي
أنت مكتوب في عيني الذي احب
أنت لست البؤس الاخير "
كان بول إيلوار المولود عام 1895 ، والذي رحل عن العالم في نهاية عام 1952 ، عاش أشهر اسطورة حب في القرن العشرين مع حبيبته الروسية غالا ، التي أهداها معظم قصائده، وأعترف لها برسالة بانه ما كان ليكتب ما كتب لولاها: " أنتِ التي أمليتِ عليّ كل قصائدي" . ، وقصة الحب الشهيرة هذه قد بدأت عندما تعرف شاب اسمه " بول اوجين غريندال " سيعرف فيما بعد بـ " بول إيلوار " الى فتاة هي " ديميتريفنا دياكونوفا " والتي ستحمل اسم غالا ، كان اللقاء الاول في مصح للامراض الصدرية في مدينة كلافاديل الفرنسية عام 1912 حيث كانا يتعالجان من اصابة بالسل ، غالا فتاة جميلة في السابعة عشر من عمرها و إيلوار لم يتجاوز الثامنة عشر ، بعد شفائها من المرض عادت الى روسيا ، ويذهب إيلوار الى جبهة القتال ، وقبل ان تنتهي الحرب يلتقيان ثانية ليقررا الزواج ، وتكتب غالا الى شقيقتها : لقد وجدت الرجل الذي من طينتي " ، وسيظل إيلوار يناديها بزوجتي مدى الدهر ، كتب من وحيها معظم قصائده وعاش في دوامتها ، ولم يقتصر تأثيرها على شخصه بل طال معظم انتاجه الشعري ، ويعترف لصديقه اراغون من انه لايعتد بكل النقد ما لم يكن من غالا . يكتب لها :" ان اراك ، ان ألمسك ، ان أتاملك ، أن أمدحك ، ان اقبلك ، ان اتحدث إليك .أن احبك وحدك ، وفي كل النساء ، لا أرى غيرك ، ياصغيرتي غالا أحبك بلا حد . لا أؤمن بالحياة ، لا أؤمن إلا بك .هذا العالم لا استطيع ان ادخله إلا برفقتك " .
كان إيلوار مخلصاً لغالا، يعشقها حد الجنون . لكن غالا كانت امرأة غريبة الاطوار ، تحب إيلوار وتعشقه، لكن خيالاتها أكبر، واستمر حبهما حتى اخر لحظة في حياة إيلوار ، وقد يبدو غريباً في هذه العلاقة أن نرى غالا ترتبط بعلاقة مع شخص آخر هو الرسام سالفادور دالي الذي ما ان رآها في السهرة ، حتى توقف عن الكلام ، يكتب دالي في مذكراته : " كل شيء ابتدأ من الباب ، في أحد الأيام دخلت الغرفة وكان الباب مفتوحاً ورأيتها تفجر الحب في داخلي، ومنذ تلك اللحظة قررت أن تكون هذه المرأة لوحدي " . وسيظهر هذا الحب في العديد من لوحاته إلى درجة أنه كان يوقع على بعض لوحاته باسمه واسم غالا معاً.
وحين تقرر غالا الانفصال من إيلوار والالتحاق بسلفادور دالي تكتب الى إيلوار : يازوجي مدى الدهر ، حتى وان خف حبك لي ، فانك ستبقى معي الى الابد " .
وفي عام 1952 وقبل وفاته باشهر يكتب إيلوار اشهر قصائده ويهديها الى غالا :
أحبّك
لأجل كل النساء اللواتي لم أعرفهن أحبك
لأجل كل الأزمنة التي لم أعشها أحبك
لأجل رائحة البحر الواسع ومذاق الخبز الساخن
لأجل الثلج الذي يذوب لأجل الزهور الأولى
لأجل الحيوانات الطاهرة التي لا يفزعها الإنسان
أحبك لأجل الحب
لأجل كل النساء اللواتي لم أحبهن قط أحبك
من يجسدني..إن لم تكوني أنت لا أرى نفسي إلا قليلا
بدونك لا أرى شيئا في امتداد الصحراء المقفرة
مابين الأمس واليوم
حيث كل الموتى الذين تخطيتهم يرقدون فوق التبن
لم أقو على ثقب جدار مرآتي
يتحتم عليّ حفظ مفردات الحياة كلمة إثر كلمة
مثلما يلفنا النسيان
لأجل حكمتك التي لا أتحلى بها أحبك
لأجل الصحة
ضد كل ما هو وهم أحبك
لأجل هذا القلب الخالد الذي لا أملكه
تخالين أنك الشك وأنت لست سوى اليقين
أنت الشمس الكبيرة التي تشرق في الرأس
حين أكون واثقاً من نفسي.

****
صباح الخير أيها الحزن
أحضرت آلتها الكاتبة، وقررت ان تكتب شيئا شبيها بقصيدة إيلوار "صباح الخير ايها الحزن" وسألت نفسها ماذا تكتب؟، شعر ، انها لاتجيد كتابة القصيدة، وقد اخبرتها المعلمة ذات يوم ان لغتها ركيكة ، لكنها قررت كتابة الجملة الاولى : "هذا الشعور المجهول حيث الملل والنعومة فيه تسيطران عليّ، أتراجع عن تسميته، عن إعطائه الإسم الجميل والقاسي ألا وهو الحزن. انه شعور متكامل وأناني الى درجة أنه يشعرني بالخجل، غير أن الحزن يبدو لي مشرفاً. لم أكن أعرفه هو، لكنني عرفت الملل والأسف وبكمية أقل الندم. اليوم، شيء ما تماماً مثل حرير ناعم ومزعج ينطوي عليّ ويجعلني أنفصل عن الآخرين " .
في الاخير اقنعت نفسها انها تستطيع كتابة رواية ، عن الفتاة المدللة ، التي كانت تستيقظ آخر النهار ، تشعر الآن بان هناك اشياء في حياتها يجب ان يعرفها الناس ، اغلقت الآلة الكاتبة ، وبدأت تكتب بقلم رفيع على احد دفاترها المدرسية ، تكتب كل ما كانت تخاف ان تبوح به . تجاربها البسيطة في الحياة ، معاناتها مع اب يُغير العشيقات كل شهر ، عن الأم التي تهمل ابنائها ، الكتابة ستكون بصيغة " الانا " البطلة فتاة مراهقة اسمها سيسيل سيأخذها والدها الى باريس :" لم اجرب الكثير ، هو سيريني باريس ، والترف والحياة بجوانبها الضعيفة والجميلة معا " ارادت الفتاة فرانسو ساغان ان تكشف مخزونها للناس :" لقد ادركت ان حياة الناس تشكل احدى الوسائل الضرورية التي توفر امكانية تحقيق الذات ، لقد تذوقت المتعة بزج نفسي بين الحشود ، اشرب واجلس مع انسان ، استرق النظر اليه ، وآخذ بيديه خارجة من هذا الحشد البشري ، لقد وجدت المتعة ، في طعم القبلة ".
ستدور احداث الرواية في مقاطعة سانت تروبيز ، حيث استأجر والدة الفتاة سيسيل قصراً كبيرا ليقضي فيه عطلة الصيف مع صديقته " الزا " ، انها رفيقة مريحة وجذابة ومتحررة ، كما اصطحب معه ابنته سيسيل التي تخبرنا انها :" في ذلك الصيف، كنت قد بلغت السابعة عشرة وكنت في غاية السعادة. أما "الآخرون" فكانوا أبي و"الزا"، عشيقته. عليّ أن أشرح وبسرعة هذا الوضع لأنه قد يبدو على شيء من الخطأ للوهلة الأولى. كان والدي في الأربعين، وكان قد ترمّل قبل خمسة عشر عاماً. كان رجلاً شاباً، مليئاً بالحيوية، وبالاحتمالات، ولدى خروجي من المدرسة الداخلية، قبل عامين، لم يكن بإمكاني عدم تفهّم أنه يعيش مع امرأة. لكنني تقبّلت وبصعوبة كبرى فكرة أنه يغيّر عشيقته كل ستة أشهر! لكن سرعان ما تأقلمت مع جاذبيته ومع حياته الجديدة والسهلة. كان رجلاً خفيفاً، صادقاً في أعماله، دائم الفضولية وسريع العطب ويروق كثيراً النساء " .
في تلك الاثناء تتعرف سيسيل على الشاب سيريل ، وهذه المرة الاولى التي تجد من يهتم بها ، لانها كانت تجد الرجال عنيفين ومزهويين بقوتهم ، لكن سيريل شخص مختلف ، لقد أثار اعجابها .ولأن الأب عاشق للنساء فقد قرر ان يستضيف مصممة الازياء آنا لارسن ، وهي امرأة مختلفة بثقافتها وأناقتها عن النساء اللواتي اعتادت عليهن سيسيل فنراها تبدي اعجاباً شديداً بآن، وسرعان ما تستحوذ " آن " على سيسيل وتقرر ان تجد لها عملا، فهي لم تنجح في امتحان البكالوريا في ذلك العام. و"آن" تنظر بعين ناقدة إلى مغامرات سيسيل مع سيريل، وهو طالب يقضي عطلته في تلك المنطقة. الاب يبدأ بالتخلي رويدا رويدا عن ألزا ويصبح متعلقا بـ"آن". وقرر أن يتزوج منها ، ولذلك تتخوف سيسيل من فقدان حريتها لأن حضور هذه المرأة الذكية والهادئة سيزعزع وجودها الى جانلب ابيها . لذلك بدأت تعمل، بسبب غيرتها على دفع صديقها سيريل إلى أن يخوض مغامرة غرامية مع ألزا لإثارة مشاعر أبيها. وهذا ما سبب استفزازا كبيرا له بحيث لم يعد يتحمل هذا الاستفزاز. وينزعج كثيرا من مغامرة ألزا مع شاب مراهق أكبر من ابنتها قليلا، حيث سرعان ما يعود إلى أحضان حبيبته القديمة. تفاجئهما " آن "عن طريق الصدفة. فتقرر الانتحار لتلقى حتفها في حادث سير. سيسيل وأبوها يعودان إلى حياتهما العادية الهادئة لكن الفتاة المراهقة تكتشف مشاعر جديدة وهي: الحزن. تقول في الرواية "عندما أكون وحيدة في سريري، في الفجر، مع الصوت الوحيد لصخب السيارات في باريس، تخونني ذكرياتي، ويعود الصيف ومعه جميع ذكرياتي. آن... آن ! أقوم بتكرار هذا الاسم بصوت منخفض مع نفسي في ظلام الليل. شيء ما يصعد في أعماقي وأنا استقبل هذا الاسم مغمضة العينين: صباح الخير.. أيها الحزن". وعلى الغلاف الأخير للرواية كتب الناشر التعليق التالي" كان في صيف 1954. سمعنا لأول مرة الصوت الجاف والسريع لهذه "الطفلة الصغيرة الساحرة". التي ستحدث فضيحة.
كل ذلك من نسيج خيال فتاة لم تمر بتجارب حياتية من قبل ، فتاة اسمها فرانسوا كواريه ، عام 1935. وكان والدها مهندسا يدير شركة للكهرباء.أمّا والدتها فقد كانت امرأة مرحة، عاشقة للحياة، ومقبلة على ملذّاتها بلا تحفّظ. لذا لم تكن تهتمّ بالشؤون المنزلية وبتربية أطفالها.
عندما انتهت من الرواية بعد أسبوعين تعرضها على صديقتها فلورنس ابنة الكاتب المعروف اندريه مالرو ، وكانت في قرارة نفسها تجد ان ما كتبته رديء جدا ، لكن الصديقة وجدت الرواية ممتهة فتقنعها بان يذهبا الى احدى دور النشر ، لتجد الفتاة الصغيرة الذي استغرب من وجود فتاة مراهقة امامها تقول انها كتبت رواية عن الحب ، شرع بالقراءة على امل لن ينتهي منها سريعا ، لكنه ما ان اكمل الجزء الاول حتى صرخ " انها قنبلة " ، لكوعندما سمع والدها بذلك طلب منها ان لا تضع اسم العائلة على غلاف الرواية " فقررت ان تستعير اسم احدى شخصيات مارسيل بروست الدوقة ساغان ، فكتبت على الغلاف صباح الخير ايها الحزن تاليف فرانسو ساغان
بعد شهر من صدور الرواية حققت مبيعات مذهلة ، ، إذ بيعت مليون نسخة فقط في الولايات المتحدة ، وقد فتح ذلك الابواب لشهرتها التي لم تأفل ابداً. لكنها ملت من هذا النصر حيث قالت: " لقد أصبح عندي الكثير من تلك النجاحات الصغيرة ذات الوقع الأبدي" . ان البنت الصغيرة التي اختارت اسماً مستعاراً، و قد ربحت الرهانت اخيرا .لتصبح الكاتبة الفرنسية الاكثر مبيعاً خلال نصف قرن، ظلت خلاله ترسم الحياة المشاعرية لبرجوازية عاطلة ، تبحث عن المشاعر الدافئة وعن الحب الذي ضاع وسط هموم الحياة اليومية.

****
حياة عاطفية مضطربة
تعترف فراسوا ساغان بانها عاشت حياة عاطفية مضطربة وهي تقول في حوار صحفي : ''الحب.. مثل المال لابد من صرفه''، والحب المفرط للحياة تسبب لها في خيبات عاطفية كثيرة خرجت منها متألمة مجروحة.. مهزومة ومع ذلك فهي لم تستسلم وأصرت على التأكيد بانها تعلمت ''ان تركب الفشل. لتسير فوقه في اتجاه السعادة'' مؤكدة: ''انها عاشت الحياة اكثر مما كتبتها'' مضيفة ''أن العذاب والألم والشقاء لا تعلمنا شيئاً.. ولذلك ارتميت في أحضان الحب .. حتى ولو كان وهماً''.
كانت اول تجاربها في الحب حين ارتبطت بالناشر غاي شولار الذي كان يكبرها سنّا، غير أنه كان يتمتع بجاذبيّة تفتن النساء. معه كانت تتعامل كما لو أنه والدها. ثم لم تلبث أن انفصلت عنه لتتزوج من النحّات الأميركي جون غرواي الذي سرعان ما توفي بسبب المرض . ورغم حياتها المضطربة والمتقلبّة ظلت فرانسوا ساغان تكتب بحماس عن نموذج الحب الذي تنتظره :" الحب ياتي كما ياتي اللص ، ياتي على حين غفلة ، دون ان يكون له اي اثر في حياتنا اليومية التي لايجري عليها أي تعديل " وتقول لكاتبة سيرتها :" حين نحب تتجاذبنا الكثير من المشاعر والاحاسيس المتناقضة والمختلفة ، هذه المشاعر التي تتغلغل هي الحب المعروف للناس ، حب يحاول الواحد من خلاله ان يستولي على الآخر ، الحب المعروف للناس يتكون من الغيرة ، ومن الرغبة في التملك ، هذا الحب كالحرب تماما يخلق ضحيته ، واحد يحب وآخر يتألم".
وتضيف ساغان :" اما الحب الذي ادعو اليه فهو رقة تجعلك تقبل الآخر ، رقة هي الثقة ـ لا الاستسلام ، وعندما سالت من اين جاءت بفكرة الحب هذه، قالت من احلام يقظتي ، من حنيني ، من خيالاتي ، انا ادرك ان الوصول الى الحب شيء مستحيل ، فالحب المطلق لامكان له في هذه الحياة ، فنحن حين نحب نبدأ بالتساؤل : ماذا حدث لنا ، ولماذا ؟ وحين نقترب ممن نحب نتساءل ايضا اين هو ومن يكون ؟
وعندما تجاوزت سنّ الأربعين بدأت فرانسو ساغان تتعب من الحياة المضطربة والعاصفة التي كانت تعيشها، وأصبحت تنفر من السّهرات ومن النوادي الليليّة. وكانت تقول لأصدقائها بأنها تفضّل " العودة الى حياة الروايات الرومانسية ، الحياة البسيطة المليئة بالحب .
وفي السنوات الأخيرة من حياتها ازدادت متاعبها الصحية والنفسيّة. والذين زاروها وجدوا أنفسهم أمام امرأة محطّمة تسير الهوينى وتصر على الحديث عن الحب المفقود ، واتفقت مع ناشر ان تعطيه كتاب عن فلسفة الحب كما تفهمها ، وعندما يهبط الليل كانت تواصل الكلام من دون أن تشعل الضوء. وظلت على هذه الحالة إلى أن توفيت في الرابع والعشرين من أيلول 2004 تاركة وراءها ديونا بلغت مليون يورو ، ومخطوطة كتاب بعنوان " احاديث عن الحب الذي لم اعشه " .
 
هناك يا عزيزتي ما هو أفضل من الموت.. أن نموت حباً!!
 علي حسين

| 8 |

في آذار عام 1918 رست سفينة حربية في ميناء بوردو الفرنسي، كان على متنها خليط من الجنود، تطوّع معظمهم للقتال الى جانب فرنسا في حربها ضد المانيا، كانوا من جنسيات مختلفة، بريطانيون واميركان واستراليون والبعض جاء من كندا، وبين هؤلاء الجنود كان هناك فتى لم يتجاوز الثامنة عشرة من عمره، قال للضابط وهو يسأله لماذا تطوعت للقتال: أريد ان أمارس اللعب ضد الفريق الالماني الخصم.

كان قد تطوّع للعمل سائق سيارة إسعاف، أمضى ليلته الاولى في الميناء الفرنسي ليجد نفسه في اليوم التالي بالقرب من خنادق المعركة، ولم يمض سوى ثلاثة ايام في عمله حتى انفجرت بالقرب منه قذيفة قتلت وجرحت العديد من الجنود، كان نصيبه منها عشرات الشظايا التي استقرت في ظهره وساقه اليسرى، وقد أصر وهو مصاب ان يحمل احد الجنود الجرحى، مما أدى الى اصابته بوابل من الرصاص استقرت احداها في ركبته.
في المستشفى الذي نقل اليه سائق الاسعاف ارنست ميلر همنغواي أصبح محط اعجاب الجميع، فهذا الفتى الاشقر الوسيم كان دائم الانشغال بالقراءة والكتابة، لم تفارقه رواية قلب الظلام لجوزيف كونراد، هذه الرواية بالنسبة اليه تلخص هدفه من الحياة:" الاخلاص المدقق لحقيقة احاسيسنا العاطفية ".
ذات يوم اقتربت منه ممرضة شابة سمراء مشرقة الوجه، تعلق بها معظم المرضى، لكنها أغرمت بالفتى الاميركي الأشقر
* ألا تكف عن القراءة ايها الفتى ؟ قالت له وهي تبتسم
- أحب القراءة، هذه العادة أخذتها عن امي التي كانت تحمل معها الكتاب أنما ذهبت، وانا ايضا أدس الكتب في جيبي لأقرأ في أي مكان او أي وقت، وأطمح لأن اصبح كاتبا.. ولكن يبدو أنني لن اتمكن من ذلك.. بالأمس كتبت مجموعة من الاوراق مشروع لقصة طويلة اتمنى ان تطلعي عليها.
مد يده الى تحت الوسادة، ثم أخرج رزمة من الورق، وبدا قلقاً كأنما يمر بإمتحان، قال للممرضة الجميلة أنييس فون كوروسكي: أريدك ان تقرأي شيئا، قد يكون مملاً، لقد قرأها أحد الجنود المرضى وقال لي إن شعر جلده انتصب من فرط الأثارة، وآمل ألا يكون الحمق قد بلغ بي حداً اتصور ان كلام هذا الجندي يدل على انني كتبت شيئا جيدا لأن أحداً قد أعجِب بها.
تناولت منه الاوراق وذهبت الى غرفتها اضاءت المصباح، قلّبت الاوراق كان العنوان مكتوباً بالحبر الازرق " حب في الحرب " ، كانت حشرات البعوض تتطاير على المصباح وأصوات انين الجرحى تترامى الى سمعها، ولكنها شعرت وهي تقرأ الصفحات الاولى انها تعيش على مقربة من جبهات القتال، وان بطل هذه الحكاية يشبه كثيرا الفتى الوسيم صاحب هذه الاوراق ، فالملازم هنري شاب اميركي يقود سيارة اسعاف ، وهذه الصفحات المكتوبة بخط دقيق تحكي عن علاقة الحب التي تربطه بالفتاة كاثرين باركلي التي تعمل ممرضة في مستشفى الصليب الأحمر. وتبدأ بينهما علاقة رومانسية.
تتوقف أنييس عن القراءة، قالت لنفسها: هل يعقل ان هذا الاميركي قد احبني فعلا،؟، انها تشاهد ملامحها في شخصية بطلة الرواية كاثرين، تنتبه الى صوت يناديها، تترك الأوراق على المكتب تذهب باتجاه الصوت، كان ارنسست مايزال مستيقظا اقتربت منه وهي تقول: يبدو انك خالي الفكر.. الموت يطاردنا في كل لحظة وانت تكتب قصصاً عن الحب
يضحك بصوت عال وهو يقول: "لم تسلبني الحرب سعادتي، لقناعتي أن الحياة نفسها تراجيديا ونهايتها واحدة. لكني ادراك أن بإمكان الإنسان اختلاق شيء ما، والإبداع بما يكفي من المصداقية، كفيل بجعلك سعيداً لدى قراءته، لأعيش سعادة لم أعرف مثلها من قبل. وإزاؤها تغيب معاني التفاصيل".
* أتعرف.. إذا لم نضحك في هذه الأيام الدموية.. سنموت كمداً بدلاً من أن نموت برصاص الألمان..
- هناك يا عزيزتي ما هو أفضل من الموت!!.. أن نموت حباً!!..
* ألم أقُل لك أنك خالي القلب يافتى.
منذ أن دخل المستشفى كانت أنييس كورفيسكي ، تهتم به بشكل خاص ويكتب في احدى رسائله لشقيقته الصغرى : أحبها.. وأظنها ستكون حبي الأول والأخير.. سأتزوجها إذا قبلت ذلك.. ولماذا لا تقبل.. وهي معي كل الوقت ؟!.. بل هي كثيراً ما تقضي جزءاً من الليل على مقعدٍ بجوار فراشي!! "
كان عليه ان يجري عملية جراحية ثانية من اجل اخراج ما تبقى من شظايا القنبلة التي اخترقت جسده، ولهذا كان يشعر بالاسى لانه لايستطيع الخروج مع أنييس وكتب ثانية الى شقيقته: سأفاتحها بالامر فأنا لا استطيع العيش من دونها.
وذات صباح يفاجئها بالسؤال: هل تقبلين ان تتزوجيني
- * سأتزوجك عندما تنتهي الحرب يا فتى. ولكن يجب أن تعرف انني أكبرمنك بتسع سنوات.
- بل أنتِ أجمل وأصغر فتاة شاهدتها في حياتي يا آغي هكذا كان يناديها .

****
حب وحرب
ما الذي جرى بينهما، لمعرفة الأمر علينا ان نقرأ رواية وداعا للسلاح تلك الرواية التي تعد واحدة من اجمل روايات الحب:
* خبرني هل أحببت في يوم من الايام.
- لا
وسرنا خطوات داخل الحديقة وجلسنا على احد المقاعد وقلت لها
-ان شعرك جميل
* وهل اعجبك
- كثيرا
* لقد كنت على وشك قصة
- ما أظنك تفعلين.. اني أحبك فلا تبعدي عني
* سأظل الى جانبك
ونظرت اليها وكنت أشعر انني لن أحب أحداً غيرها "
انتبه الى أنييس وهي تحدثه: يجب عليك يافتى أن تعطي فارق السن اهتماماً أكبر فأنا في الثامنة والعشرين وأنت في التاسعة عشرة
- سنتزوج حتى لو كان الفرق بين عمرينا مئة عام.
•لكني لست المرأة الكاملة التي تحلم بها.
على ان هذا للحب واجه مشكلة كبيرة فد نُقلت أنييس فجأةً إلى مستشفى فلورنسا، حيث انتشر وباء التيفوئيد، ومن هناك كتبت اليه: ستتلقى مني الرسائل اكثر مما تستطيع الاجابة عنها ايها الفتى الوسيم، انت بعيد جدا ، كل الحنان أرسله مضاعفا اليك مرتين..حبيبتك الى الابد "
وذات يوم يتلقى منها رسالة جديدة تطلب منه ان لايدع احد غيرها يقرا روايته التي يواصل الكتابة فيها .
كان همنغواي قد تفرغ للكتابة : " أنني اعيش خلال كتابتي لهذه الرواية أسعد أوقات حياتي، أعيش في الكتاب وأصنع أحداثه كل يوم. أحاول ان أشكل الناس والأشياء التي حدثت. في كل يوم أقرأ ما كتبت منذ البداية وحتى اللحظة التي يتوجب عليّ متابعة الكتابة. لكني في حالة معنوية غير جيدة، بسبب غيابك ولا أعرف ما الذي سيحدث لاحقاً".
ظل يكتب إليها كل يوم رسالة.، دون أن ينتظر رداًمنها، المهم أن يكتب لها بصفةٍ مستمرة.، ويبدأ كل رسائله بهذه الكلمات: يا صغيرتي الجميلة. يا حبي الأول والاخير.
لكن فجاة توقفت رسائل آنييس !!.. ويكتب الى شقيقته: " سأبحث عنها في كل مكان وساتزوجها.. لا أصدق ما سمعت عن أنها سافرت إلى لندن.. لماذا؟!.. هل حقا ستتزوج من شخص آخر ؟! "..
أرسل رسالة اخرى الى زميلتها زيلدا قال فيها : إنها لم تحب احداً غيري، ارجوك ان تخبريني ، لماذا اختفت فجأةً ولم تخبر أحداً عن مكانها؟!!.
وذات نهار يتلقى رسالة من أنييس :" ليلة سعيدة ياصغيري، كم اريد ان اعرف احوالك هذه الايام، الا انني اشعر انك في حالة جيدة، الى اللقاء ايها العزيز.. الخبيثة آنييس،" لم يدم فرحه طويلا برسالة الحب هذه، فبعد ايام تصله منها برقية تخبره فيها بانها:" لست المخلوقة الكاملة التي تتخيلها، لقد كنت دائما ما أنا عليه الآن، على ان الاحساس بذلك بدأ ينجلي، انني اشعر بانني خبيثة جدا هذا المساء ".
ولم يعرف الفتى ارنست ان أنييس ستتزوج من ثري ايطالي، وتكشف له في رسالة مؤرخة في اذار عام 1919 عن حقيقة مشاعرها تجاهه، فهي تحبه، بل تعشقه، لكنها تخاف عليه، ففرق العمر بينهما لايسمح له بالزواج منها، وهي تريد له ان يرتبط بفتاة صغيرة .
وعرف عن طريق صديقتها زيلدا ان أنييس عيش في ميلانو فيقرر السفر اليها وهناك يلتقي بأمها التي تترجاه ان يتركها وشأنها: " بحق السماء.. دعها في سلام يا عزيزي.، إنها متزوجة من فتىً طيباً ، يحبها حباً كبيراً
- من هو؟!
* - دوقٌ إيطالي اسمه دومينيكو كراتشيوللو
استقبله الدوق بحفاوة، وبادره بالقول:
* إنها لم تخف عني شيئاً عن علاقتكما السابقة ايها الشاب الطيب.. وصدقني إذا قلت لك إنني مثلها شديد الإعجاب بشخصيتك!!.. ولكن لي رجاءٌ عندك.. دع حبنا في سلام.. وأتمنى أن تعدني بذلك!..
- هل تسمح لي بمقابلتها؟!..
* بالطبع.. أنت ضيفي وغداً سأقيم حفلاً على شرفك.. وإنه ليُشرّفني حقاً أن أستقبل في بيتي كاتباً موهوبا .
كان حفلاً رائعاً.. همنغواي مع أنييس في قاعة الموسيقى بالقصر.. بينما كان الدوق مع أصدقائه في حديقة القصر..
فجأةً دوى طلقٌ ناري!!.. توقفت على إثره فرقة الموسيقى عن العزف وبعد أن سادت الفوضى في الحفل.. شاهدوا همنغواي مقبلاً يعدو من الباب المؤدي إلى الحديقة، وهو يصرخ:
- لماذا؟!.. لماذا؟!.. ؟!.
وجدوا في رأس أنييس رصاصةً قتلتها.. ولم يجدوا المسدس!.. ومن الغريب أن الزوج خوفا من الفضيحة استطاع بنفوذه أن يوقف التحقيق الذي بدأته الشرطة الايطالية
وتم تشييع أنييس وبعد الجنازة.. عاد أرنست همنغواي إلى نيويورك

****
البحث عن حب قديم
بعد ثماني سنوات من اللقاء الاول بأنييس سوف يعيد همنغواي كتابة روايته " حب في الحرب " هذه المرة سيقرر ان يغير العنوان، كان في نيته ان يسميها وداعا للحب، لكنه وجد العنوان ساذجا،، قال لصديقه سكوت فيتزجرالد:" لدي أوراق مهمة لرواية عن الحرب والحب، وفي رأسي تدور افكار وصور وحكايات عن الحياة التي عشتها بين الخنادق ووسط الموتى وعلى سرير المرض " كان قد بلغ الثامنة والعشرين من عمره، حقق نجاحا في عمله الصحفي، و نشر العديد من القصص القصيرة عن تجربته في الحرب وكتب مقالا يقول فيه:" ان أية تجربة يمر بها الانسان في الحرب، لاتعادل تجربة واحدة مع امرأة جميلة"
كان عليه ان يعيد ترتيب الاوراق التي كتبها، وسيبقى عليه البحث عن منزل رخيص يقضي فيها لياليه، كان يعاني من عادة سيئة هي الإفلاس. فكان يطلب من صاحبة المنزل،، ان تصبر عليه حتى يتسلم مبلغ التحقيق الصحفي الذي أرسلته الى إحدى الصحف.
في تلك الايام كان قد تزوج من هادلي ردسون، وكانت ايضا تكبرة بسبع سنوات، وقد شعر انه مشدود اليها، امراة طويلة القامة، ملامح وجهها دقيقة جدا، كانت عندما ترى أرنست تشعر بالخجل وتصمت، حدثها عن قصة حبه الاول، كانت سعيدة عندما يرونهما الناس معا، طويلي القامة، جميلين ، يكتشفان كل منهما الآخر ليتحابا، لكن قصة الحب هذه لم تجعل النسيان يطوي حكاية أنييس.
في باريس التي غادر اليها كان يعمل كثيرا، يستيقظ في الصباح، يغلي زجاجان الرضاعة لطفله المولود حديثا، ثم يجلس على منضدة الطعام ليواصل الكتابة في " وداعا للسلاح " هذا هو الاسم الذي سيضعه على غلاف الرواية.
كان يعزّي نفسه بالنجاح، لايريد ان يتنازل عن احلامه او يتخلى عنها، هل من الكثير عليه أن يرى كتبه تتصدر واجهات المكتبات، انه يتأمل كثيرا، صحيح ان الكتابة أمر شاق، وهذه الرواية الثانية له، بعد الشمس تشرق ايضا، التي قال عنها المحرر الادبي للواشنطن بوست انها أسوأ رواية قرأها خلال سنوات طويلة. لكنه تعلم الدرس من جيميس جويس ان لا يأخذ اراء النقاد على محمل الجد.
صفحات الرواية تتضخم يوما بعد آخر، بدأت ملامح الحب تتضح فيها، يريد ان يرسم صورة رائعة لأول امرأة في حياته، صحيح انه تعلق بعدد من الفتيات في مراهقته، لكنه سرعان ما كان يبتعد عنهن بسبب اصرار امه على ان تعامله كفتاة، فقد كانت تسرح شعره مثل تسريحة الفتيات الصغيرات، ويتذكر انه في طفولته فرضت عليه ان يرتدي ملابس البنات
كان في الرابعة من عمره حين تمرد على قرار امه، كانت الام تبذل ما في وسعها لنقل افكارها عن الحياة الى ابنائها الصغار، كانت امه امرأة قوية شديدة التدين، ذات يوم ترسل له رسالة: "ان لم تثب الى رشدك وتكف عن مغامراتك السيئة وبحثك عن الملذات واستغلال وجهك الوسيم لاغواء الفتيات البريئات وإهمال واجبك نحو الله، لن يكون في انتظارك سوى الافلاس". كانت هذه الرسالة كافية لان يتخذ موقفا عدائيا، لانها تريد انه تصيغه على طريقتها الخاصة.
تذكر الورقة التي ارسلتها اليه والدته انت فاشل ، وهو يرسل وداعا للسلاح الى الناشر، في أحد الايام يصله طرد بريدي من نيويورك يعلمه أصحاب دار النشر التي طبعت روايته وداعا للسلاح، ان القراء تدافعوا بالمئات للحصول نسخة منها
يتذكر ان روايته الاولى لم تلق النجاح المطلوب، وعليه ان يسدد ثمن الخسارة للناشر، لكن بعد نجاح وداعا للسلاح وضعت على قائمة الكتب المفضلة فبيع منها عام 1930 اكثر من 25 ألف نسخة، أخذ يؤمن بان الانتصار سيكون حليفه، قال لصديقه سكوت فيتزجرالد:" ليتني أتمكن من كتابة رواية كل شهر، هناك افكار وصور وحكايات تعشعش في رأسي " بعدها باعوام يتذكر حركاته الصبيانية هذه فيقول لهوتشنر: لم اكن أعرف انذاك كيف تكتب الرواية الجيدة، كنت استعجل النجاح، لذا لازلت أعتقد ان ما كتبته في بداية حياتي عبارة عن كومة من الاوراق السيئة ".
عاد الى البيت بضحكات السكارى قال لزوجته: انتهى زمن التشرد.

****
الرصاصة الأخيرة
تزوج بعد هادلي ثلاث زيجات، وبولين، ومارثا جلهورن، وماري لويز. لكنه اضافة الى ذلك عرف بصداقاته الكثيرة مع نساء من ميول واهتمامات وأعمار مختلفة، ويرى كتاب سيرته أن عشقه لوجود النساء حواليه، كان بسبب خسارته لأنييس، التي لم يستطع الزواج بها، ونجد الناقد أنتوني برجس في كتابه عن همنغواي يتساءل:" "لماذا كان يحتاج إلى وجود كل هذا العدد من النساء في حياته؟ لم يجد بيرجس الجواب الى في الرسائل التي نشرتها الممثلة الشهيرة مارلين ديتريش والتي كان همنغواي يرسلها اليها كل يوم حيث يكتب في مقدمة الرسالة صغيرتي ثم يواصل وفي احدى الرسائل يخبرها بان ان أفضل شيء في الحياة هو فرص كسب معارك الحب ولكن الانسان المسكين يترك كل هذه المتعة ونجده يهتم ؟ بالصحة، والعمل ، والأكل والشرب، الاستمتاع بلذة الحب، ليس عندي شيء من هذا، لاشيء منه ". كان يشعر انه السبب في النهاية الماساوية لأنييس، وذات صباح تسلّل بهدوء من فراشه، لبس رداءه القصير تناول البندقية وفجّر دماغه. تذكر والدته التي كانت تخشى عليه من النساء. عندما هرعت زوجته ماري وهي تسمع صوت اطلاق الرصاص وجته نائما على مائدة الطعام والى جواره و ورقة مكتوبة بخط جميل: " لم أعد أحتمل.. إنها تلاحقني ليل نهار.. في عينيها الجميلتين نظرة عتابٍ مروعة!!.. لم تكن خائفةً مني!!.. كم كنت نذلاً!!.. لم أكن أقصد يا أنيس!!.. أنتِ تعرفين أنني لم أكن أقصد ان تنتهي حياتك بهذا الشكل المروع.
 
كل شيء في الوجود يختصر بعنوان واحد هو المرأة
 علي حسين

| 9 |

كانت المرة الاولى التي رآها فيها تجلس بالقرب من شقيقتها زوجة الشاعر الروسي المشاغب مايكوفسكي ، وجدها متكبرة ، لم تعجبه كثيرا ، طريقة لبسها للثوب غريبة ، ما كان ليختار هذه الالوان ، كانت له أفكار عن اناقة المرأة ، كان شعرها متناثرا على كتفيها ، التفت الى صديقه اندريه بريتون ليسأله هل هي شقراء أم شديدة البياض ؟ فهو لم يمعن النظر فيها كثيرا ، نبهه بريتون على انها تتابعه بنظراتها ، فتساءل مع نفسه : لماذا ؟

كانت أقرب الى الطول ، وجهها متورد ، ولو كان اسمها ماري او مادلين لما عاد ففكر فيها في اليوم التالي ، اما إلزا ، ياله من اسم غريب ، هذا هو بعينه ما كان يدفعه للسؤال عنها .
هناك مقطع من قصيدة لبول فاليري ذكرته بالحالة التي هو بها .
" جسدك يلاحقني
آه من يديك المليئتين يا جان
آه من الأفكار التي يعود اليها صمتكِ وصوتكِ
ما أن أتركك، لتصيري جان افكاري "
كان لويس آراغون في الثلاثين من عمره حين التقى إلزا تروليه وهي برفقة شقيقتها ليليا وزوج شقيقتها مايكوفسكي وتصف ألزا اللقاء الاول :" كنا في الحفل الذي أقيم بمناسبة معرض الفنون التزينية ، كان هناك كثير من الناس ، وفيما كنا نتحدث عن اللوحات الفنية مع بعض الاصدقاء ، كان هناك رجلان ينظران إلينا بامعان ، الاول أعرفه اندريه بريتون السريالي الذي يريد تغيير العالم من خلال الاحلام ، والثاني قيل لي فيما بعد انه شاعر وسريالي ايضا ، كان طويل القامة يضحك بإستمرار ، عيونه تراقبنا بلا كلل ، وعندما نظر اليه مايكوفيسكي، تقدم نحونا ليقدم نفسه بصوت مملوء مرحاً : لويس آراغون " الذي قال ذات يوم حيث سئل عن حياته :" حياتي . الجميع أنهم يعرفونها .وذلك مايثير فيّ احيانا عاصفة من الضحك "
في اليوم الثالث من تشرين الأول سنة 1897 ولد لويس آراغون في باريس ، لام تدعى مارغريت توكاس ، وخلال سنوات طويلة أوهموه بان أمه هي أخته ، ولم يخبروه بقصة والده الذي هرب قبل ولادته ، الطفولة كانت لها أكبر الأثر في حياة آراغون الذي وجد نفسه وسط عائلة من النساء أمه وخالاته وقريباته وجميلات الحي من صديقات العائلة ، حيث عرف طعم الحنان الانثوي ، وفي هذا الجو المفع بالانوثة كان يقضي أوقات فراغه بقراءة المسرحيات ، فيما امه تقص عليه الحكايات الشعبية ، وقد طبعت هذه المرحلة الممتلئة بالوجود الانثوي روحه وجعلته لاحقاً يضع للمرأة مكانة خاصة شبهها بالمستقبل الجميل .كان اراغون يشاهد امه التي انصرفت إلى قصص العشق تعيشها بشغف كبير. وقد اورثت ابنها ذلك الشغف بالرومانسية ، وعندما اخبرها ذات يوم انه يحب ابنة الجيران قالت له بكل جدية :" عليك ان تدرك ان الحب ، ليس نزوة موقتة ، انه شرارة تظل مشتعلة فينا طوال الحياة " .
اضافة الى الام كانت هناك خالتاه اللتان شكلّن مع امه عالم طفولته ، ولسوف يكتشف في منزل الحريم هذا صور وروايات سيحبها يوما بعد آخر ، فلدى كل واحدة من هذه النسوة قصة تتفاوت في خيالاتها ، ومن ناحية ثانية فان هذه الاحلام والقصص النسوية الحميمة ستقدم لاآراغون مادة ثرية لاشعاره ورواياته ، وسنجده يهيم عشقا بجارته الفتاة التي جاءت عائلتها من جورجيا لتسكن احد احياء باريس ، حيث جعلته يقرأ في صباه روايات تولستوي ودستويفسكي ، ويذرف الدموع على نهاية آنا كارنينا ، بعد سنوات سيكتب :" كانت آنا كارنينا هي الكتاب الذي كنت أبحث عنه منذ البداية ،او منذ ما قبل البداية ،كان بالنسبة لي التوازن المثالي بين الأدب والحياة ، او بتعبير أصح وحدة واحدة لا يمكن فصلها ، عندما انتهيت من قراءة الرواية في المرة الاولى اكتشفت بانني يمكن ان اصبح كاتبا يغوص في اعماق الناس ، فانا منذ الصغر كانت لدي موهبة الكلام ، وقد اكتشفت انه يمكن تدوين هذا الكلام ليتحول الى حكايات يرويها الخيال " .
في الثانية عشرة من عمره يكتشف باريس من خلال روايات بلزاك : " كانت قراءة كتبه بالنسبة لي ،إشراقة شمس قوية ، ولا أبالغ إذا ما قلت انها حددت مسار حياتي ، وهو اعجاب لن يخمد نحو باريس باعثة الفوضوية والطريق الى صداقات رائعة " .
كانت واحدة من هذه الصداقات لقاءه باندريه بريتون الذي التقاه في كلية الطب ، ثم قررا سوية ترك الجامعة والتوجه صوب الشعر والحياة ، وسيصبح بريتون فيما بعد مكتشف السوريالية ومنظرها الابرز الذي نشر البيان الاول لحركته عام 1924 ، التي تألفت من اراغون وبول ايلور وسلفادور دالي و رينيه ماغريت و وماكس إرنست وأنطونين أرتو ، ، كان أراغون يسعى انذاك الى اكتشاف ذاته ويولي اهتماما بالتجارب الادبية والفنية الحديثة ، وما إنفك يزداد اعجابه بالشاعر رامبو وحياته الغريبة : " ذات صباح حزين قرأت اشراقات رامبو ، فإذا بوجه الحياة الكالح أمامي " وقد ترك لنا اراغون صورة لاتنسى لصديقه بريتون اذ رسم قسماته في واحدة من رواياته الشهيرة " اوريليان " التي ترجمها للعربية صياح الجهيم ، واصفا بريتون بانه العبقري الذي يدير الاحداث :" لقد كنا افضل صديقين في الدنيا ، ويجب لأدراك حقيقة هامة بشكل جيد ، وهي ان الاساسي بيننا لم يكن قط أدبيا وكانت أمور حياتنا تختلط حسب أذواقنا وأفكارنا ، كانت لنا حماستنا ، كما قمنا ببعض الاكتشافات ، لقد كانت حياتنا حياة اكتشافات " .أما بريتون فانه يتحدث عن اراغون في رسائله :" انه ودود الى اقصى الحدود ، يهب ذاته في الصداقة دون تحفظ ، والخطر الوحيد الذي يتعرض أليه هو رومانسيته الزائدة عن الحد " .
هذه الرومانسية التي تحولت الى ثورية ، فيما بعد عندما قرر هو وبريتون الانضمام الى الحزب الشيوعي الفرنسي ، لانه كما كتب بريتون :" إن تغيير العالم ، كما قال ماركس ، وتغيير الحياة كما قال رامبو ، قضيتان ليستا سوى قضية واحدة من وجهة نظرنا " . لكن سرعان ما انسحب بريتون من الحزب الشيوعي ، فيما واصل آراغون طريقه ، وفي تلك الايام التقى للمرة الثانية بإلزا تروليه في بار لاكوبول ، وسيكون لإلزا أقوى تأثير على الشاعر الذي كتب يقول لها :
لقد انتزعت اليأس من جسدي ، كما تنتزع الأشواك
ومنحتني حباً جديدا للغةٍ لها وضوح الظهيرة
وغيّرت قلبي وأعادته إلى صدري .
ولسوف تدور اعماله الشعرية فيما بعد على هذا اللقاء الذي غير حياته :" ان يولد المرء وهو في سن الثلاثين ولادة جديدة ، فهذه هي المعجزة " .
كان اللقاء الثاني مختلفا ، لقد حاول ان يقول لها انه لم يكن ينظر اليها جيدا في المرة السابقة ، خاصة ان إلزا هذه تختلف كثيرا عن تلك التي كانت بصحبة مايكوفسكي ، أحس هذه المرة برعشة خفيفة ، وتمتم بكلمات غير مفهومة ، كان اليوم يوما من ايام تشرين الثاني المشمسة ، ورغبة في ان كسر جو الصمت قالت إلزا :" يبدو انك تراني للمرة الاولى"
- لن اقول لك غير هذا ، نعم انها المرة الاولى
كان وجهها متوردا ، وتلك الضفيرة التي تبرز الوجه ذو الوجنتين البارزتين ، العينان زوقاوتان خلف أهداب سوداء كان الفم مدهشا ، ، والأنف نحيفا ، كان يبدو ان هذه القسمات المجتمعة لاتخص سوى امرأة واحدة اسمها إلزا .
" لقد بدأت حياتي حقا
يوم التقيت بكِ
أنت يامن شقت يداها
الطريق الصعبة أمام جنوني
لقد ولدت حقا من شفتيك
انت يامن تبدأ حياتي بك .

****
عيون إلزا
في المقدمة التي وضعها اراغون لديوانه عيون إلزا يكشف لنا عن إشارات مهمة لحياته قبل ان يلتقي أإلزا :
"لقد اضعّت ، ولست ادري كيف تماما،
سني شبابي".
كاد رفض آراغون للعالم ان يؤدي به الى الموت ، وحسب سيرته الذاتية التي صدرت بعد وفاته ، فانه قبل لقاءه بإلزا بشهور فكر في الانتحار ، ويخبرنا ان إلزا كان يجب ان تكون بجانبه ، لكي يعود الى الحقيقة ، وتكون لديه الشجاعة لمواجهة مضايقات الحياة ، :" إلزا التي جعلت واقعي في هذا الصيف اللامتناهي ، هو قضايا الانسانية "
دخل اراغون الحياة السياسية من باب الحب ، بعد ان خبرته الحياة ، فكانت بالنسبة اليه مشروعا انسانيا متمثلا في مملكة الحب ، فالحب عند آراغون يمثل محرك الحياة النابض ، هذا الحب النابض الذي جربه منذ طفولته المبكرة ، حيث عرف الدفء العاطفي وذاق طعم الحنان الانثوي ، ولهذا نجد المرأة بالنسبة لآراغون هي مصدر الحياة ، اذ بدون وجودها لايمكن تصور الوجود الانساني: " ان في العشق الخالص تكمن فكرة إعادة الخلق والولادة من طرف المعشوق ، وهذا يعني ان العاشق يولد من عشقه الموجه الى معشوقته ، ولايدرك وجوده الخاص إلا عندما يبلغ كعاشق التوحّد المطلق بمعشوقته وتتحقق بينهما فكرة الروح الواحدة ، وبهذا المعنى التعبيري الخالق تتحقق إعادة الخلق " . هذه الفكرة التي استمدها آراغون من قراءته الصوفية والفلسفية ، وخصوصا تأثره في بداية حياته الادبية بفيلسوف الوجودية كيركغارد الذي كان يصر على ان التفرغ للحب هو تفرغ إيماني ، فالحب وحده يعطي الوسائل التي تمكننا من التحقق في الخلود ، : " ان ما يتحقق في الحب ليس معنويا وانما إلهيا " وكما قال نيتشه " كي نحب انسانا لابد ان نحبّه الحب الالهي " ويكتب كيركغارد :" ان ما يجعل العاشق يعتقد انه يلاقي سكينة النفس اذا احال هذه العلاقة الى السمو الالهي الأبدي " .،
انتي الطائر الالهي الذي زعمو ان لاوجود له
ان ارحل اليك ، ما أعمق البحر
لن تعرف الناس غير اسمك
في اليوم الاول لما بين اسنان آدم
وضع الله كلمات كل شيء
ظل اسمك على لسانه ينتظرني
كما ينتظر الشتاء ولادة وردة
وهكذا يحاول اراغون ان يتوصل الى اكتشاف خالقه " أإلزا " ويعترف بقدسيتها كآلهة قادرة على إعادة خلقه من جديد ، كانت إلزا كل شيء في حياة آراغون ، فأجمل القصائد كتبت من اجلها ، واجمل الابتهالات قدمها لروحها :" لقد آن الاوان كي نرجع الاعتبار لقدسية المرأة التي تم تكريسها للرب عهود طويلة " وإلزا المرأة الخالقة اعطت لآراغون ديوان عيون إلزا ومجنون إلزا ، بل ان كل بطلات رواياته التي كتبها بعد علاقته بإلزا يحاولن ان يكن ألزا ذاتها التي يعشقها الشاعر ، يكتب غارودي في دراسته عن آراغون :" ان كل هذه البطلات صرن لاحقا اكثر من مرآة ، حيث حاول اراغون من خلالها تملك الوجه الحقيقي لإلزا تروليه " . ويقول آراغون :" خلال اثنين واربعين عاماً بحثت عن إلزا وها انا ما زلت في طريق البحث عنها ، ان الذي أبحث عنه هو كل شيء ، ان إلزا لم يعرفها احد بشكل صحيح ، لقد كنت ظلها دائما ، وكل اشعاري ورواياتي مقدمات ، ومقدمات لمحاولة معرفة ما لم اعرفه ، وما لم افهمه ، وهي مقدمات ايضا لمعرفة ما بحثت عنه ، وما أبحث عنه الآن " .
" سأفضي اليك بسر عظيم ، أخافك
أخاف من يصحبك مساء عند النوافذ
أخاف الزمن المسرع المبطئ ، أخافك
سأفضي اليك بسر عظيم ، اغلقي الأبواب
الموت أهون من الحب
لذا اتكبد عناء الحياة
ياحبي "

****
ولادة إنسان جديد
كانت ولادة اراغون الجديدة بعد لقاءه بإلزا ، تمثل كما اخبرنا في معظم قصائده ، عودة من بلاد الموتى ، فقد انقذته الزا من يأسه ومنحته الشجاعة ، اذ غيرت قلبه ليعيد ويحيا بين الآخرين ، يناضل معهم ضد الظلم الانساني ، والدناءة الاجتماعية ، حيث يتحول الحب الى كفاح لخدمة الناس
" اذهبوا وقصوا على الجميع ، هذا النوع من الولادة
اذهبوا وحدثوا ، كيف يولد الانسان في منتصف العمر "
انها ولادة انسان جديد هكذا يخبرنا روجيه غاودي ، انسان استعاد طعم الحياة ومذاق الحب ، فقد كتب قبل لقاءه بإلزا انه يزحف نحو الشيخوخة قبل آوانها ، في حين ان إلزا منحته وهو في سن الثلاثين ، شبابا متجددا باستمرار من خلال اتحاده بالحب .
كان آراغون الى جانبها مثل مراهق صغير ،لم يشعر بأي خجل زائف في ان يصف خفقات الحب والغيرة والرغبة التي تستيقظ لمجرد وجود المرأة المحبوبة الى جانبك ، لمجرد ملامسة ثوبها ، لمجرد شم رائحة عطرها التي تذكّره بمذاق الحب الذي يتجدد كل يوم
ألمسك ، ويبدأ كل شيء من جديد
ويستعيد كل شيء ابعاده
وبريقه وعنفوانه
ويستعيد كل شيء قيمته ومعناه
إن ذراعي قوية قوية بما يكفي لتضم ركبتيك
فلا تعتمدي عليّ إذا أردت ان ينتهي هذا العناق
****
بين الحب والموت
منذ عام 1928 وهو العام الذي التقى فيه إلزا وأحبها ، وحتى عام 1982 الذي غادر فيه الحياة اشتهر آراغون باعتباره شاعر الحب الاول في القرن العشرين ، لكنه ايضا شاعر المرأة بامتياز ، فالموضوع الرئيسي في معظم اعماله هو تحديد مكانة المرأة الحقيقية في الحياة ، وقد حاول ان يقدم مفهوماً للادب يصلح لكل الناس ، حيث تقدم المشاعر الانسانية كلها عبر النقاء الذي يمثله الحب ، وكان اراغون يؤكد انه كي نحب جميع الناس ، يجب ان نكون قد احببنا امرأة واحدة ، وتخلصنا من انانيتنا :" المرأة وحدها هي التي تستطيع ان تعطي الحياة معنى " وكان آراغون يردد دائما ان كل شيء فيه يختصر بعنوان واحد هو آلزا
" ياموسيقى حياتي ، ياعطري ، يازوجتي
تملكيني حتى أعماق روحي
كل شيء لك ، اني بكاملي منزلك ولن يبقى مني بعد موتي أبداً الا كيانك
لان رفاتي ستحمل عطر روحك " .
ويخبرنا ارغون باستحالة وجوده من دون إلزا : " عندما تخرجين اصبح شقياً مثل مرآتك " فهو لايرى العالم إلا من خلالها ، ومن هنا جاء اصراره على تسمية ديوانه " عيون إلزا " فمن خلال عيون محبوبته يصبح للعالم وجود حقيقي ، وهو يرى الحقيقة من خلال هاتين العينين :
" لئن اغمضت عينيك لاصبحت عيناي يتيمتين
إني اعيش بك ، ولئن هجرتني
لسقطت وضعّت واختفيت وقتلت نفسي
والعالم ليس ما تراه ألزا فقط ، بل هو ما يتشكل في خيالها ايضا
تحلمين ، وعيناك مفتوحتان واسعا
ما الذي يحدث اذاً وأجهله انا
امامك في الخيال
في مملكتك انت ، بلاد بلا ابواب
وامامي انا بدون جواز سفر "

****
فيلسوف الحب
" سوف يخمد كل ما يتعارض مع الحب " هكذا يكتب آراغون في روايته الشهيرة اجراس بال ، ونجده منذ بداية قصه الحب مع إلزا يكرس لهذا الحب طقوسا خاصة ، حيث يعطي للحب المكانة الاولى في التطور الاخلاقي للانسان ، وبالتالي في مجتمع عادل ، لذلك نراه يعلن انه عندما ستحل عصور الحب على الارض ، سيصل الانسان الى غاية وجوده ، هي السعادة التي يمثلها العاشقان
" ذات يوم يإلزا ، ستصعد اشعاري الى شفاه
لن تبلى بمرض زماننا الغريب
ولسوف يوقظ اطفالا ينبضون بالحياة
اذ يعلمون ان الحب ليس سوى حمى
وان هزيمة العمر الأكيدة ليست حقيقة
وان الحب والحياة سواء حتى النهاية .
كانت تلك نبوءة العاشق الذي ظل حتى اخر يوم في حياته يبشر بعصور إلزا مقتنعا انه بقدر ما يكون اشراق البشريةاكبر ، فلسوف تبرز شلروط الحب الحقيقية .
وفلسفة الحب عند أراغون تمثل في شكلين من اشكال الاخلاص للحب الاول لإلزا ، والثاني لفرنسا وهو يكتب في مقدمة عيون إلزا : " على اولئك الذين يرون في هذا النشيد لإلزا امراً ليس في مكانه والوطن يتعرض للحرب ، فانهم لايعرفون اننا نرى الوطن من خلال عيون المحبوبة ، وهي التي تجعلنا نحس بالعالم ، وتمنحنا معنى المشاعر الانسانية "
ونرى آراغون وهو في جبهة القتال يدافع عن فرنسا ضد الغزو الهتلري ، كيف يراوده طيف إلزا ويساعده على الصمود امام الهلع والرعب ، ليجد عزاءه في الحب الذي يتعلق به ، كي يرفض الموت
" ساصرخ ، ياعيوني التي احب ان تكونين
انت ، انت ياقبرتي
ساصرخ ، اصرخ اعلى من دوي المدافع
من اولئك الذين جرحوا او الذين ماتوا
ساصرخ ، اصرخ ، شفتك هي الكأس التي
شربت فيها الحب المديد ، كما النبيذ الاحمر
وبياض ذراعيك يشدني الى هذا العالم
فلا يمكنني ان اموت ، فذلك الذي يموت ينسى " .
 
سعادة واحدة في هذه الحياة.. هي أن تُحِب وتُحَب
 علي حسين

| 10|

كان في الثانية عشرة من عمره حين أدرك الحب لاول مرة، فقرر ان تكون هديته الاولى الى حبيبته الصغيرة قطعة موسيقية من تاليفه، كان فريدريك شوبان المولود في الاول من آذار عام 1810، يسبق سنه وعصره، لكنه في المقابل كان اكثـر افراد عائلته ميلاً إلى الحب، ولعل النصيب الضئيل من الاهتمام والحنان الذي منحته اياه امه، دفعه الى الارتماء في احضان أخته الكبيرة لودفيكا، التي قالت يوما لابيه :" ارجوك اتركه يعشق كما يريد، انه يبتعد عن تقاليدنا، لانه ليس انسانا عاديا "،

كان دائم البحث عن الحب والحنان وكان قلبه يخفق في عنف حين يرى فتاة جميلة، ولم تكن حكاية غرامه في سن المراهقة إلا بداية طريق طويل، اذ اعجب بعدها بجارتهم التي لم تتجاوز الخامسة عشر من، عمرها فكتب لها رسالة يعلن فيها انها ملأت حياته بهجة، وترك لها الرسالة أمام باب غرفتها، وعاد الى البيت وهو يأمل ان تصبح " اميليا " ابنة الخامسة عشرة وصديقة اخته إيزابيلا، أمل حياته، لكنه سرعان ما اصيب بخيبة امل وتعرض الى نكسة صحية حين عرف بنبأ خطبيتها، ونراه ينصرف الى الموسيقى، يجلس على البيانو الأسود يدرب اصابعه التي ستأخذه فيما بعد الى طريق المجد والعبقرية، وهو يتذكر ان تحت اقدام هذا البيانو الكبير كان يستمع الى امه وهي تعزف، وعندما تستريح كان يستلق الكرسي ليجلس مكانها يعيد نفس المقطوعات التي عزفتها، انذاك لم يتجاوز السادسة من عمره حين اعلن صديق والده " زاروني " ان هذا الطفل الصغير يمتلك موهبة فريدة .
يواجه الجمهور لاول مرة ولم يتجاوز عمره الثماني سنوات حيث يعزف احدى مقطوعات موزارت، ووسط انبهار الجمهور كتب الناقد الفني لصحيفة " وارسو " " ان فريدريك شوبان الطفل عبقرية حقيقية في عالم الموسيقى ..ولو كان قد ولد في فرنسا او المانيا لكان اليوم مشهورا في العالم".
في التاسعة عشرة من عمره تعرف على كونستانس، كانت قد جاءت هي وشقيقتها " جيني " من احدى ضواحي وارسو لتتعلم البيانو على يد فريدريك، وتردد لحظات ايهما يحب، لكن قلبه اختار كونستانيس المرحة، وقد إنشدت هي ايضا الى وجهه الحالم، وعيناه الواسعتان، ووجد شوبان نفسه منجذبا الى صوتها، فقد كانت في الأصل تجيد الغناء الاوبرالي، ويخبر شقيقته الكبرى ان يحب كونستانيس بعنف:"لقد اكتشفت الفتاة المثالية.. ولعله من سوء حظي" وتنصحه شقيقته بان يحاول التركيز على الموسيقى، فيخبرها ان طريق الهروب من الحب اصبح غير ممكنا، لأن وجود كونستانيس في حياته اصبح له معنى فنيا :"لقد كتبت الحاني، وانا أفكر فيها"..
في تلك الايام يقرر شوبان ان يترك بلدته وارسو، بسبب الاضطرابات السياسية، التي حدثت بعد العصيان المسلح الذي قام به عدد من ضباط الجيش البولندي ضد ضد حكم الإمبراطورية الروسية لبلادهم، ويخبر شوبان كونستانيس عن رغبته في السفر الى باريس، لم تستطع الفتاة ان تقاوم دموعها وهي تهديه شريط الحرير الذي كانت تعقد به شعرها وهي تقول له.
- عندما سأتزوج ذات يوم وانجب اولاد سآتي بهم الى هذا المكان، واخبرهم عن الانسان الذي لم أحب احد سواه " .

****
فالس الوداع
في صباح يوم الخامس من تشرين الثاني عام 1830، وقف تلامذة المعهد الموسيقى البولوني ليعزفون لحن الوداع لزميلهم فريدريك وهم يقولون له : فريدريك العزيز لانتسى بولندا، وتذكر اصدقاءك الفخورين بك، والذين ينتظرون ان تحقق المجد لهذه البلاد،"
وصل شوبان الى باريس يحمل موسيقاه، وآماله واحلامه يكتب الموسيقار المجري فرانز ليست الذي كان اول من التقاه في باريس : " كان كاحد امراء عالم مجهول، نظراته حالمة، شفتاه رقيقتان، ابتسامته خجوله لكنها تخفي في طياتها مرارة كبيرة " .
في باريس، المدينة الضاجة اكتشف ان وظيفته الأهم ان يصبح عاشقا كبيرا، لم يكن سوى شخص ضعيف البنية ،. نرجسياً متفاخراً بقدراته الفنية،، اعتبر ان الفوز بامرأة مثل الانتصار في معركة عسكرية . قال يوما للكاتبة جورج صاند "ان النساء مثل المقطوعة الموسيقية، لايريد لها العازف ان تنتهي "، يلتقي بماري دووتسكا، صديقة قديمة لعائلته، إلا ان براها نمت كزهرة تتفجر انوثة طاغية، حاول من خلالها ان ينسى حبه لكونستانيس، ترافقه ماري لزيارة المتاحف ودور الاوبرا ويتفقان على الزواج ويهديها فريدريك ارق الحانه واجملها " فالس الوداع " بعد ان اخبرته انها مضطرة للعودة الى بولندا، يصاب من ورائها بالياس،، يكتب لها رسالة يقول فيها :" كنت وما أزال أحبك، ولكني سأتعذب عذابا كبيرا إذا أنا حاولت نسيان كونستانيس، لقد كنت ومازلت ذا ميول عاطفية عنيفة، إنني على استعداد للقيام بأي شيء من إجل إسعاد المراة التي أحبها "
وتصله اولى رسائلها، التي تخبره فيها باستحالة مواصلة الحب معه، لقد أدركت ان حياتها مختلفة عن حياته، كل منهما يسير في طريق مختلف، بالاضافة الى انه انسان مصاب بامراض عديدة واهمها أمراض الحب القديم .
كان شوبان خجولا في الحياة، جريئا في الحب، تتملكه مشاعر عاطفية عندما يقترب من امراة جميلة، لكنه لايحتفظ طويلا بحبه، فقد كان يعتقد ان هناك حباً كبيراً ينتظره، وقد اعجب بفلسفة النمساوي باروخ سبينوزا عن الحب، فنراه يكتب في يومياته :" انتهيت من قراءة كتاب الاخلاق لسبينوزا، وفيه تعرفت على تفسير جديد للحب، فالحب لذة ناتجة عن سبب خارجي " كان سبينوزا يعتقد ان الحب ينشأ نتيجة انفعال قوي، سرعان ما يتحول الى نوع من انواع الغيرة " فالغيرة ليست شيئا آخر سوى زيادة في انفعالات الحب "، ولهذا يعتقد اسبينوزا ان الحب يولد وينشأ من انفعالات، وهو يقارن الحب بالشبح او الطيف، فالجميع يتحدثون عن الحب، لكن قلة هم من رآه .كان هذا المفهوم للحب يستهوي شوبان، فهو احب اكثر من مرة لكنه لم يرى الحب الحقيقي حتى هذه اللحظة، صحيح ان قصة غرامة لكونستانيس ماتزال تهيمن على حياته، لكنها لم تتحول الى عشق عنيف مثلما كان يتمنى
وينبغي ونحن نتحدث عن مفهوم شوبان للحب ان ندرك حقيقة مهمة وهي ارتباط حياة شوبان الفنية بحكايات غرامه المتعددة، ان ابتسامة امراة جميلة تحرك مواهبه الفنية، كما تحرك احاسيسه العاطفية، فقد كان يقول لفرانز ليست انه يريد ان يواصل العشق حتى يتمكن من الابداع، ولهذا يتعذر ادراك قيمة اعمال شوبان الفنية دون معرفة حياته العاطفية، وهو يعترف في يومياته من ان :" الحب وحده هو الذي يمنحنا السعادة وايضا المزيد من الموسيقى " . ويكتب الى شقيقته :" لست في حاجة إلا لشيء واحد هو الحب، لاشيء يجعلني أرضى عن الوجود سوى احساسي بأن هناك امراة تحبني " .
وكتب مرة لفرانز ليست :" لم احس قط بمثل هذا الانسجام الداخلي الذي أحسه اليوم امام البناء الموسيقي لمعزوفاتي، ان وجود صاند الى جانبي، جعل ألحاني تتفجر برقة في روحي " . هكذا يكشف لنا شوبان من ان لا معنى لحياته من دون الحب، وان هناك حاجة دائمة الى حنان امراة تلهمه، وهو حين ينشد الحب لايبغي من ذلك سوى الراحة النفسية التي تساعده على الابداع والخلق، لتترك موسيقاه اثراً أقوى من أثر قصائد الغزل .

****
اللقاء الأول
عندما شاهدها للمرة الاولى قال لفرانز ليست الذي أخذه ليعرفه على واحدة من اديبات فرنسا المعروفات :" يا لها من أمراة ثقيلة الظل، هذه ال(جورج صاند)، هل هي حقاً أمراة، أنني أشك في ذلك " .
ويبدو ان مظهرها الرجولي وعيناها الشبيهتان بعيني فيلسوف لم ترق، كانت أورورا دويان التي أطلقت على نفسها فيما بعد اسم جورج صاند في السابعة والعشرين من عمرها عندما وصلت باريس، حيث راحت تبحث لنفسها عن مورد مالي تعيش منه، هناك تعرفت على جول صاند وكان يشغل منصب أمين مكتبة، يهتم بالادب وجرب حظه في كتابة الرواية، تزوجته ونشرا معا اول اعمالهما بعنوان " الوردة البيضاء "،
كانت قد جربت الزواج مرتين الاولى وهي في الثامنة عشر من عمرها من فرانسو ديفان الذي كان عضوا بالمحكمة العليا، لكن الزيجة لم تدم طويلا إذ سرعان ما تعرضت للانهيار رغم إنجابهما طفلين، بعدها ارتبطت بستيفان جراندساني أحد نبلاء فرنسا،الذي تركته لتتزوج من جول صاند، في تلك الفترة كانت جورج صاند تتخذ مظهر الرجل في ثيابها وطريقتها في العيش، فارتدت البنطلون، وراحت تدخن السيجار مما أثار الرأي العام ضدها، وقد حاولت ان تقيم علاقة مع فكتور هيجو لكنها فشلت، وارتبطت بعلاقة قصيرة مع بلزاك، كانت صاند تؤمن بأن المرأة التي تتهالك على الرجل لا تفوز به أبدا، لذلك كانت تجعل الرجال هم الذين يتهالكون عليها، من خلال الادب تعرفت على الفريد دي موسيه أحد اشهر كتاب فرنسا انذاك، وسرعان ما وقع في هواها، إلا ان المرض لم يمهله طويلا حيث اصيب بمرض في القلب، فتقرر ان تتركه، لكنها تكتب رواية عن قصة حبهما اسمتها " الصديق الحميم " .
بعدها واصلت الكتابة ليتجاوز عدد كتبها المئة، وقد قالت وهي تعلق على كثرة مؤلفاتها :" ليس في جميع اعمالي سوى موضوع واحد هو القدرة على الحب "، فمعظم كتبها تحمل قوة العاطفة التي كانت تمتلكها والتي ألهمتها هذا العدد الكبير من الاعمال الروائية التي جعلت روائيا بحجم فولتير يدعوها " أستاذتي في الحب " .
كانت جورج صاند عندما تعرف عليها شوبان تكبره بسبعة اعوام، رأت فيه منذ اللقاء الاول شاباً رائع الجمال ونجدها تكتب لفرانز ليست تطلب منه ان يقنع صديقه البولوني لزيارتها ثانية ثم تضيف في الرسالة :" صاحبك هذا برغم ثقته بنفسه، لكنه يبدو شخصا غامضاً، حتى يخيل لمن لايعرفه بأن هذا الشاب الاشقر، أمير منفي، او ملك اعتزل عرشه بعد حادث سياسي خطير".
ولن تمر ايام حتى يجد شوبان نفسه من جديد في مواجهة جورج صاند، هذه المرة كان يجلس امام البيانو ليعزف احدى مقطوعاته، بينما جلست صاند مثل طفلة تحت البيانو تستمع لساعات طويلة لهذا الشاب الذي تتخذ موسيقاه شكل الاهات الذاتية، وتمتلئ بالتساؤلات القلقة، وكانت صاند تفهم هذه النجوى كأنها موجهة اليها دون غيرها من النساء فنراها تكتب بعد اللقاء الثاني :" عندما جلس شوبان الى البيانو، وتحركت أنامله لم اشعر سوى بخطوط غامضة متماوجة تجتمع لتشكل صورة قلقة ضائعة الابعاد، فوجدت نفسي وقد امتلأت بالرنات العذبة، بعدها انطلق بي شوبان، فاذا بي أجد نفسي أعيش في ظلال سماء زرقاء، حيت تتخذ غيوم اللحن الشفافة كل مشاعر الجمال، وتتغير احجامها كما يشاء لها الريح والانسام التي تتجمع ببطء حول القمر لتوقظ فيه اللون وتبعث الحياة ..كنت استمع الى هذه الموسيقى الآلهية ..انها من أحلام شوبان وتصوراته " .
ونجد شوبان يغير رأيه في صاند ويكتشف ان وراء المظهر الرجولي، قلب امرأة، وجسد انثى تجيد فن العشق، خبرت الحب وتدرك قيمته ..وبدون ان يدري يجد نفسه يذهب مرة ثالثة الى بيت صاند ويكتب في يومياته : " زرتها للمرة الثالثة، وحَدقت طويلا في عيني، اثناء عزفي على البيانو لحنا يتشح بالفرح، واحسست ان قلبي يراقص قلبها، ونظرت في عينيها وتساءلت ماذا تقول هاتين العينان السوداوان اذ تحدقان في عيني فتحملان الى اعماق روحي رعشات غريبة محمومة، كانت تتكئ على البيانو وتحرقني بنظراتها اللاهبة، وتغمرني بالنشوة الحمراء، ثم تنظر الى الازهار حولها، قلبي يهتف باسمها انه لها .. تحبني ..اورورا، اي اسم هو هذا، ما أعذبه وما احلى وقعه في أذني " .
وتنظر صاند اليه باعتباره الابن والحبيب الذي دخل الى قلبها وتكتب في دفتر يومياتها :" بتحفظه، وباندفاعي .. لا اطلب سوى ان يحطم " صغيري " قيوده التي مازالت الى الآن تربطه، ومع ذلك اعتقد ان حبنا لايستمر سوى في الظروف التي ولد فيها، حيث ستقودنا الرياح الطيبة احدنا الى الآخر، ونسافر معا الى النجوم ثم نفترق لنعود مرة اخرى لنمشي على الارض، لاننا لا مفر ابناء الحياة، ولان الله لم يأذن لنا ان نكمل هروبنا جنبا الى جنب، في السماء علينا فقط ان نلتقي، في قلب واحد يستطيع ان يحتوي على حبيبن معاً، ستكون هناك أجمل الايام التي نشتعل فيها بنار الحب المقدسة " .
كانت صاند تفكر بصوت عال وهي تكتب عن الرجل الذي وقعت في حبه، فتكتب الروايات التي تروي فيها قصة الحب الجديد هذا، وتخبر بلزاك انها تريد ان تكتب عن حكايات الحب التي عاشها شوبان قبل ان يتعرف عليها، لكنها تخشى من رفضه، كان شوبان في هذه المرحلة قد أخذ يشعر بالهدوء وهو الى جانب صاند، وانعكس هدوئه هذا على اعماله الموسيقية، فيما كانت شخصيات صاند في الروايات تأخذ الكثير من ملامح شوبان، وسامته، شحوبه، وايضا بعض ملامحه النفسية، لكن هذه السعادة لم تدم طويلا فسرعان ما أخذت الامراض تغزو جسد شوبان الذي كان يعاني من نوبات سعال شديدة، ويخبرها الدكتور الذي يعالجه ان هذه النوبات غير مطمئنة، وانه في حاجة الى رعاية شديدة لان الالتهاب الذي اكتشفه في الرئة، قد يفسد صدر الموسيقي الشاب .
قررت جورج صاند ان تتخذ من نفسها ممرضة له، فتحيطه بعناية خاصة، وتمنع الجميع من مضايقته، تشرف على طعامه، وتأخذه في نزهات بين الاشجار ليملأصدره بالهواء النقي، وحاولت ان تشغله عن العزف الذي يرهقه فاحاطته بعدد من الاصدقاء، وكان ابرزهم الرسام ديلاكروا، الذي اصبح أقرب الاصدقاء اليه، يتلازمان ليل نهار، واصبحت جلساتهما تستمر لساعات في حديث عن الرسم والموسيقى .
وفي يوم من الايام يشعر شوبان برغبة شديدة للعزف، كانت صاند تكتب بالقرب منه، بينما نهض ديلاكروا ليحضر الوانه وفرشه، ويستمر شوبان في العزف ليؤلف واحدة من اشهر مقطوعاته " ضوء القمر " ونجد ديلاكروا في نفس الوقت ينتهي من رسم لوحة تجمع صاند بشوبان، كان ذلك عام 1842.

****
النهاية الحزينة
يكتب شوبان في يومياته :" يقولون ان صحتي في تحسن، نوبات السعال والالآم زالت، ولكنني اشعر بالمرارة في اعماقي لان عينا اورورا غائمتان، لايلتمعان الا حين اللهو وامرح، عندها تنقلب كآبة العالم حولي فرحا، آه ياحبيبتي اورورا في سبيلك افعل كل شيء " لكن المرض يشتد على شوبان، وكانت صاند ترى الموت في عينيه فقررت أن توثق جزء حكايتهما في رواية وان حاولت ان تغير في الاسماء والاماكن، الا ان شوبان شعر بان الامر اشبه بالخديعة، فما ان قرا رواية المركيزة حتى كتب لها رسالة عتاب ذيلها بجملة '‏ إلى اللقاء يا صديقتي .‏
فهمت صاند ان شوبان اشتد عليه المرض ولا يريد لها ان تتاثر بموته، وحين حاولت ان تسترضيه وجدته قد سافر الى لندن، حيث فضل ان يصارع الموت هناك، لكنه في اللحظة الاخيرة قرر ان يعود الى باريس ليمت فيها، فهي وطنه الثاني، ولم يكن يتوقع ان صاند ستكون في انتظاره: " لقد جاءت وحدثتني، لكني لا املك القوة للرد، كل شيء يبتعد عني" .
كانت صاند وشقيقته الى جواره تسالان
- ما الذي نستطيع ان نعطيه لك
* السلام لروحي
- عندما انحت صاند لتقبل وجنته اكتشف من خلال عينيها الشبه الكبير مع حبيبته الاولى كونستانيس، وامتلات عينيه بالدموع، ليتوفى شوبان في الخامس عشر من تشرين الاول عام 1849
في يومياتها تكتب صاند «أن النظرة التي كنت القيها على شوبان، ذات نمط أخلاقي، ، فأنا مرتبطة به منذ سنوات والخلاصة هي أنني سعيدة بأن أقول بأنه يتوجب الثناء عليه من دون تحفظ، لأنه لا شيء في حياة الرجل أدنى من المهمة التي أنجزها (الفنان) بشكل واسع. «
وفي واحدة من رسائلها، نقرأ: «أين هو، في هذه الساعة، العزيز فريدريك ؟ الغياب والموت لا يختلفان كثيرا، إذنْ فنحن لم نفترقْ، بل توارى أحدنا فقط عن ناظري الآخر، ولكننا نعرف بأننا سوف نلتقي في أيّ مكان... إذنْ لن أقول أبداً وداعاً بمعنى أن الله يفرق بيننا، ولكن بمعنى أننا نتوادع على هذه الأرض أو على أرض أخرى".
 
عندما لايوجد حب حقيقي، يعيش الناس على السراب
 علي حسين

-11-

في 24 كانون الثاني عام 1889 تسلمت الأنسة فلورا رسالة تحتوى على خمس كلمات من شقيقتها الكبرى: "تعالي فوراً، كاتبك المفضل عندنا ". كانت في العشرين من عمرها، متزوجة من شخص ظنت انها تحبه وتغار عليه، إلا ان أملها خاب فيه بعد ان تركها وصرف اهتمامه لتجارته، وقد علمتها هذه التجربة ان لاتستسلم لكلمات الحب، وان تتفرغ لهوايتها الكتابة، كان كل طموحها ان تصبح كاتبة معروفة، نظمت شعراً، ودونت في دفترها الصغير عدداً من القصص القصيرة، إلا انها لم تحظ بالاهتمام، تقرأ كثيراً، ويسحرها عدد من الكتاب في مقدمتهم الطبيب انطوان تشيخوف، كانت قصصه تثير احاسيسها، فكم ذرفت الدموع على " أيونا " سائق العربة الذي اراد ان يشرك حصانه باحزانه، لأن لا احد غيره يصغي اليه، لقد مات ابنه، وكان وحيدا، مات ولم يهتم به أحد، لماذا، ينبغي ان يروي كيف مرض أبنه، وكيف تعذب، وماذا قال قبل وفاته، وكيف مات، ينبغي ان يصف جنازته وذهابه الى المستشفى ليتسلم ثياب المرحوم، ويسأل أيونا فرسه عندما يرى عينيها البراقتين


– تمضغين؟ حسنا، امضغي، امضغي، ما دمنا لم نكسب حق الشعير، فسنأكل التبن، نعم انا كبرت على السواقة، كان المفترض ان يسوق ابني لا انا، كان حوذياً اصيلاً، لو انه عاش فقط.
ويصمت أيونا بعض الوقت ثم يواصل
- هكذا يا أختي الفرس، لم يعد كوزما أيونيتش موجوداً، رحل عنا، فجأة مات، خسارة، فلنفترض مثلا عندك مهرا، وانت ام لهذا المهر، ولنفترض ان هذا المهر رحل فجأة، أليس مؤسفاً؟
وتمضغ الفرس وتنصت وتزفر على يدي صاحبها، ويندمج أيونا فيحكي لها كل شيء ".
ظلت قلورا تقرأ هذا المقطع لأسابيع وفي كل مرة تنهمر منها الدموع بغزارة. انتبهت الى ان الضيف يسير نحو الغرفة التي تجلس فيها، قال زوج شقيقتها عندما رأه يتقدم نحوهم:" آه انطوان بافلوفيتش، اسمح لي ان أقدم لك الانسة فلورا، انها تحت وصايتي ".
تصف ليديا افيلونا في مذكراتها التي نشرت بعد وفاة تشيخوف اللقاء الاول بينها وبين كاتبها المفضل:" تحرك تشيخوف الى الامام بسرعة وبابتسامته هادئة، أخذ يدي بيده ونظر كلانا في عيني الآخر، وخيل إلي انه دهش بعض الشيء، قد يكون ذلك من الاسم فلورا، لقد دعاني زوج شقيقتي هكذا بسبب تورد خديّ وغزارة شعري الذي كنت أصففه احيانا على شكل ظفيرتين طويلتين، قال زوج شقيقتي: انها تحفظ جميع قصصك عن ظهر قلب، ولاشك انها كتبت اليك رسائل، انها تلتزم الصمت، ولاتريد البوح بها.لاحظت ان عَيني تشيخوف ضاقتا قليلا من طرفيها، وبدأت ابتسامته الساحرة تظهر من بين شفتيه ".
كان تشيخوف قد قدم الى بطرسبورغ لعرض مسرحيته " ايفانوف " وقال لايفانوفا وهو يجلس الى جانبها على مائدة الطعام، انه يشعر ان المسرحية ستفشل، وانه قلق ومتضايق، وأكثر من هذا فهو لايحب جو بطرسبورغ، انه يرغب ان ينتهي كل شيء بأسرع وقت ويرجع الى بيته.
لاحظت انه يطيل النظر الى وجهها، شعرت بالإحراج، فهمس لها وهو يشير الى شعرها: لم اشاهد مثل هذه الظفائر من قبل، قالت له انها تكتب قصصا أيضا، ولديها شيء ما، تريد البوح به، وابتسمت بخجل، تذكر ابتسامة موظفة في صحيفة "الزمان الجديد" التي ينشر فيها قصصه، كان في تلك اللحظة يفكر في رؤيتها ثانية، انه يعترف بأن لديه ضعفا ازاء الفتيات الجميلات، يقول لزملائه ان صديقات اخته ماري يشكلن حوله "باقة من الصبايا الجميلات" وهو يسعد برؤيتهن، والحديث معهن حتى انه فكر بالزواج من احداهن، فتاة من عائلة غنية اسمها دونيا إيفروس، فتنه ذكاؤها وحيويتها، وذات يوم عرض عليها الزواج، وكتب الى شقيقه: "سأقفز من الموقد إلى النار". وبعد خمسة عشر يوما من التفكير، أعاد السؤال امام الفتاة التي كانت مترددة، ونراه بعد اسابيع يكتب رسالة جديدة الى شقيقه: لقد ابتعدت عنها انها متهورة وعنيدة، او بالأحرى هي التي قطعت العلاقة، لن أعود الى الحديث عنها ابدا، ربما كنت على حق عندما قلت بانني لم انضج بعد للزواج " .
أستدار نحو ليديا ليسألها: هل ستحضرين عرض ايفانوف يا آنسة فلورا.
ضحكت وهي تقول له: أود ان أخبرك باني لست شابة، ولا آنسة، تصور أني متزوجة ولدي طفل.
انحنى تشيخوف وحدق في عينيها وقال: عندك ابن حقاً، ما أروع هذا، ثم نهض من المائدة وهو يقول لها: سأتي الى هنا مرة ثانية، وأتمنى ان أراك، هات لي كل ما كتبت، سأقرأه جميعاً بكل عناية، اتفقنا.

****
لا أعرف كيف أفعل هذا؟
يتذكر أنطون بافلوفيتش تشيخوف المولود في كانون الثاني من عام 1860، انه عاش العشرين السنة الاولى من حياته في وحدة قاسية:" لقد عوملت في غير ما شفقة وانا طفل، حتى انني كنت أرى الحنان شيئا غير طبيعي، انني أحب ان أكون محبوبا ومحباً للناس، لكنني لا اعرف كيف افعل هذا ". ولهذا ما ان بلغ الثامنة عشرة من عمره حتى راح يبحث عن صحبة الفتيات، يحاول ان ينخرط في قصة حب جدية مع احداهن، وكانت لايكا الجميلة التي كان يمطرها بوابل من رسائل الحب الملتهبة احداهن:" تعالي الي ايتها الشقراء الجميلة، سنثرثر ونتشاجر ثم نتصالح، قومي ايتها الجميلة لايكا، وغني، إذا كنت عاشقة لأحد لا تنسيني، ولا تسخري على الاقل مني " وقد أدركت لايكا ان احاديث تشيخوف الفاتنة، تخفي دائما نية ألا يتزوج منها، وحتى تستثيره تظاهرت بانها ارتبطت بشاب آخر، إلا ان تشيخوف لم يبد اية غيرة، وتكتب له ذات يوم:" ثمة انسان وحيد في العالم يمكن ان ينقذني من هذا الوضع البائس، لكن هذا الانسان لايهتم بي مطلقاً "، كان تشيخوف في تلك السنة قد استدار نحو أمرأة اخرى صادفها في موسكو، ممثلة شابة ذات صوت ناعم، وفتنة مغرية، هي ايجليا يافوريسكا، وجدها مملوءة بالفتنة، وكان يشعر بانجذاب شديد لها، ولم تلبث علاقتهم ان اصبحت حديث الاوساط الفنية في موسكو، ووعد ان يكتب لها مسرحية خصيصا. كانت من جانبها ترسل اليه رسائل رقيقة تنتهي بهذه الكلمات:" أقبلك وأحبك "
وأدركت لايكا ان منافستها لن تلبث ان تستحوذ على قلب تشيخوف فكتبت رسالة امرأة تشعر بالهجر:" قضت السيدة يافوريسكا السهرة معنا وقالت ان تشيخوف يريد الزواج منها بأي ثمن، وطلبت مساعدتي، ووعدت ان ابذل الممكن من اجل راحتكما المشتركة، أكتب بعض الكلمات تقول اذا ما كنت تحب يافوريسكا، اكتب إلي طبعا، لا اليها. الى اللقاء، ياجلاد روحي، أكتب إلي، أرجوك "
وأعجب تشيخوف بمناورة لايكا، فكتب لها خمسة اسطر داعيا اياها بالسمراء لايكا العزيزة، دون ان يعطيها دليلاً على عواطفه نحو الممثلة.
ما كان يشغل تشيخوف هو هذا العدد الكبير من الصبايا الفاتنات، كان يقول لشقيقه انهن يؤلفن أسطوله، وانه الاميرال قائد الاسطول، ونراه يؤكد في رسائله ان الغريزة الجنسية اساس الحب، وينشر في تلك الفترة مقالا عن الحب في مجلة الرسول الروسي يشرح فيه العلاقة القوية بين شوق الحب والرغبة في العلاقة مع المرأة، لكنه يرفض الفكرة القائلة بان الحب مجرد غريزة، فالحب في رأي تشيخوف ذو طابع فريد بصورة استثنائية، ان الحب هو القوة الوحيدة، القادرة على لجم الأنانية الفطرية، دون ان يحذف السمات الفردية، بل على العكس يؤكدها ويتفهمها، ولهذا فإن مغزى الحب هو تبرير وحماية النزعة الفردية، لانه من خلال الحب، نحن نؤكد الاهمية المطلقة لفرد آخر، والحب هو الغاء كامل للانانية، انه نقل اهتمامنا من الذات الى الآخر، ومن هنا تأتي قوة الحب التي تلغي الأنانية، وتبعث الفرد وتسمو به نحو نوعية روحية جديدة، ويرى تشيخوف ان الحب الجنسي يحافظ على المساواة بين المحب والحبيب، ومع اعترافه بالحب الجنسي، فان تشيخوف يرى ان الجنس اذا كان فقط هو هدف الحب، فانه يقتل كل المشاعر الجميلة.
في هذه المقالة نرى تأثير افكار افلاطون على تشيخوف الذي كان معجبا بالفيلسوف اليوناني، وكثيرا ما خاض نقاش عنه مع تولستوي، فالحب عند افلاطون هو صعود وهبوط، او حسب قوله في محاورة الجمهورية هو افروديت السماوية وأفروديت الارضية، وفي نهاية الامر ينبعث في الحب المبدأ المثالي، المرتبط بصورة " الانثى الخالدة " وهذا بالذات ما يكسب الحب دفقات سعادة غير مألوفة، وهو ايضا ما يفسر آلام الحب المرتبطة برغبة الانسان بالتمسك بصورة الحبيب المثالي.
وقد حاول تشيخوف ان يشرح هذا المبدأ من خلال بطل مسرحيته ايفانوف، فنحن ازاء، مثقف روسي شاب اختل توازنه ذات يوم، ونراه يعاني من شعور دائم بالإخفاق ولهذا هو يرفض ان يجرب أي شيء يبعد عنه ذلك الإخفاق. ان كبرياءه وعزة نفسه هما ما يجعلانه يقبل الإخفاق ويواكبه من دون اي تطلّع حقيقي الى اية مقاومة. فهو الذي كان أول الامر قد بدأ حياته رجلاً ناجحاً وتزوج امرأة حسناء اختطفها خطفاً من اهلها الذين لم يكونوا ليريدوا لابنتهم ان تتزوج من غير طبقتها الاجتماعية، وبدأ يشق طريقه. غير انه سيحدث له ذات لحظة ان يتوقف فجأة ليمعن التفكير في ما اذا كان كل ما فعله او يفعله الآن عبثاً في عبث. وفي الحقيقة ان هذا التساؤل الوجودي ظهر لديه متزامناً مع موت زوجته حيث يرى ايفانوف ان كل ما حوله ليس اكثر من دمار وخراب. وهكذا، على حين غرة ومن دون سابق انذار ايضاً، يتخذ الماضي - لا الحاضر ولا المستقبل - بالنسبة اليه سمات براقة زاهية، وأملاً لا يمكن الوصول اليه. ان الأمل - هذا الذي يمكننا في لغة اليوم ان نسميه العصر الذهبي - صار وراءه لا أمامه. وهو، اذ يبدو في لحظات تجليه وهدوئه، متحدثاً بارعاً ومثقفاً ممتازاً، يحدث ان تغرم به،، الحسناء ساشا... ويخيل اليه للحظة انه يمكن ان يبادلها هذا الحب، كما يمكن الحب ان ينفخ فيه روحاً جديدة وثابتة. لكن الحب، بدلاً من ان ينمي لديه مثل هذا الشعور ويغدو بالنسبة اليه اشبه ببارقة أمل، نراه يرفض هذا كله... في لحظة يبدو الاختيار امامه ممكناً: فموت زوجته ووصوله الى لحظة انعطافية في حياته، وضعه امام اختيارات ممكنة ومفتوحة، اهمها الحب الجديد والانفتاح على الحياة. لكنه يرفض هذا كله، ويختار بدلاً من ذلك ان ينهي حياته في اللحظة نفسها التي يكون فيها قادراً على عكس ذلك: على البدء بحياة جديدة. ان ساشا ظنت أن للحب الجديد الذي سيعيشه ايفانوف قوة تستطيع إنقاذه من الوضع الذي غرق فيه، لكنها لم تدرك ان ايفانوف كان يعيش عقدة الحب المثالي الذي لايستطيع التخلص منه .

****
الحب في مكان آخر
قرر تشيخوف ان تمثل يافوريسكا الحسناء دور ساشا في المسرحية، وكان كمن يعرف ان دربه لن تقوده الى يافوريسكا التي أُغرمت به ورغبت في ان تعبر له، عن حب حقيقي، لكنه مثل بطل مسرحيته ايفانوف يعتقد ان الحب في مكان آخر.
المكان الآخر كان ليديا افيلونا التي مر على لقائهم الاول ثلاث سنوات، ففي كانون الثاني عام 1892 كان مدعوا الى حفل في موسكو، بمناسبة نجاح مسرحيته " اليوبيل "، كان يشعر بالسأم من أحاديث بعض الضيوف، ولكن فجأة شاهد في المرآة وجه ليديا الفاتن، كانت ترفع يدها اليمنى وتزيح خصلة من شعرها الى الخلف، وبينما اخذ ينظر اليها في المرآة تذكر اول لقاء بينهما وسأل نفسه: هل ستتذكرني، هل ستقوم بيننا تلك الصلة الحميمية التي قامت قبل ثلاثة اعوام ؟ وفجأة وجد يده تمتد اليها سحبها بشوق وهو يقول
- ما كنت أتوقع ان أراك
* لكني توقعت ان أراك قالت له.
- هل تعرفين ماذا سنفعل، سنجلس معا مرة اخرى، كما فعلنا من قبل
* لافائدة قالت وهي تبتسم، سيجلسونك انت مع كبار المدعويين
- سنهرب ونجلس في مكان بعيد.
* جميل جدا وسيقولون هرب مع امرأة متزوجة
- ألا يبدو لك اننا حين التقينا منذ ثلاث سنوات، وبالرغم اننا لم نكن نعرف بعضنا البعض، كأن الأمر كما لو اننا وجدنا بعضنا بعد افتراق طويل
* اجابته وهي تنظر اليه اجل.. اجل.
- اجل طبعا، اعرف ان شعوراً كهذا لايمكن ان يكون إلا شعورا متبادلا
* لكني اخاف ان اجرب هذا الشعور، ففي النهاية لا أمل لنا
ثم سألها من غير توقع
- كم عمرك
• ثمانية وعشرون
- وانا في الثانية والثلاثين، وحين تفارقنا كنا أصغر مما نحن الآن بثلاث سنوات..كنا شبابا ً
• زوجي كان يذكرني دائما بانني لم أعد شابة، ويضيف الى عمري بعض السنين، ثم نهضت وهي تقول له: سنلتقي مرة اخرى حتما
- سآتي من أجلك
ما ان وصل تشيخوف الى البيت حتى كتب لها رسالة:" ايتها الفاتنة الغاضبة، أحب كثيراً ان اراك مرة آخرى، كثيرا جدا، حتى ولو كنت غضبى عليَ، فانت تتمنين لي الخير، على كل حال سأكون بعد شهر في موسكو، هل بوسعك ان تكوني رحيمة ونتناول معا عشاء او غداء، سيكون ذلك جميلا حقا، ولن أخذلك، لن يبقيني في البيت خلال الايام الماضية سوى المرض، اشد على يديك، وأبعث بأحر الاحترامات.
كان تشيخوف يندفع باتجاه ليديا، فلأول مرة يبدو له الأمر انها المرأة التي يمكن ان تدفعه دفعا الى التمسك بالحياة، وكتب لشقيقه ميخائيل انه يتمنى ان يجد في قلب ليديا مكاناً خاليا لرجل حزين وبائس، لكنها كانت تعلم انها لاتستطيع ان تمنحه هذا المكان، فهي أمراة متزوجة وام لطفل، وعرف تشيخوف ان هذا الحب يمكن ان يقتله، فقرر ان يبتعد عنه، فقام برحلة طويلة الى جزيرة سخالين في سيبيريا والتي كانت مكانا لتنفيذ الاحكام على المجرمين، وكتب تشيخوف عن ظروف حياته وعن المساجين، لكن طيف ليديا لم يكن يفارقه.
من هناك يكتب لها رسالة: " هل تتذكرين لقاءاتنا الاولى، هل تعلمين انني كنت ولازلت مولها بك، وان الامر جديا، انا احبك، ويخيل الي انه ليس في وسعي ان احب امراة في الدنيا بهذا الشكل، انت جميلة ومثيرة، وفيك طراوة وفتنة تدير الراس، الا انني اعرف انك ستهجرينني في يوم من الايام، ان الحب الذي احبك اياه يجب ان يكون نقياً ومقدساً، وان يدوم طيلة الحياة، كنت اخشى ان المسك، كنت اخاف ان اجرحك. "

****
السيدة صاحبة الكلب
في العام 1897 سيتذكر تشيخوف ليديا من جديد وسيقول على لسان ايفان فوينيتسكي في مسرحيته الشهيرة الخال فانيا
فوينيتسكي : منذ سنوات قابلتها، كانت انذاك في العشرين من عمرها، وكنت في الثلاثين، كان ممكنا ان تصبح زوجتي، نعم كنا استيقظنا الآن معا بسبب العاصفة، هي خائفة من الرعد، وانا اضمها إلى صدري، وأهمس لاتخافي انا هنا، اوه، يالها من افكار مدهشة، ما اروع ذلك، لقد خدعت.
أستروف: انت هنا وحدك، لاسيدات، لن تجد ركنا للنوم، العاصفة ايقضتني ياله من مطر،
فوينيتسكي: عندما لايوجد حب حقيقي، يعيش الناس على السراب، لكنه في النهاية حال افضل من لاشيء.
ويعود تشيخوف إلى حكاية ليديا في قصته الشهيرة " السيدة صاحبة الكلب" أنها قصة تحكي عن لقاء تحول إلى علاقة تحولت إلى هوس. فلماذا حدث هذا؟ الظاهر أن تشيخوف أيضا لا يعرف. ولا هو حتى حاول أن يشرح حياة ليديا ومعاناتها
" كنت في العشرين من عمري عندما تزوجته، وكان الفضول يؤرقني، وكنت اتوق الى شئ نا أفضل، كنت اقول لنفسي هناك حياة اخرى حقا، كنت اريد ان اعيش واعيش "
وفي مكان اخر من القصة يكتب " أحبا هو وآنا سيرجيفنا بعضهما كشخصين قريبين، كأهل، كزوج وزوجة، كصديقين رقيقين، وبدا لهما أن القدر نفسه قد هيأهما الواحد للآخر، ولم يكن مفهوما لماذا هو متزوج وهي متزوجة، وكأنما كانا طائرين مهاجرين، ذكرا وأنثى، أمسكوا بهما وأجبروهما على العيش في قفصين منفردين"
كانت بطلة السيدة صاحبة الكلب ليديا افيلوفا التي جلبت إليه مخطوطة أول قصة قصيرة لها، ووقعت على الفور في غرامه. بعدها ادركت أنه ما من فرصة لها،، وحين نشرت "السيدة صاحبة الكلب"، افترقا، ولم يراها ابداً، فقد عرف الجميع من هي السيدة التي في الرواية القصيرة.
 
الذين يحبون حقاً لايتزوجون
 علي حسين

12

حدث الأمر معي في بداية السبعينيات، كان عبد الرحمن السامرائي " ابو عوف " يتخذ من دكان صغير في بداية سوق السراي مقرا له، أذهب اليه كلما زرت شارع المتنبي ، وكانت العربة التي يستخدمها في عرض الكتب وفي التنقل مصفوف عليها كتب من كل شكل ولون، وانا انبش فيها بحثا عن رواية او كتاب في المسرح، لمحت صورتها على الغلاف ، امراة جميلة تبدو على ملامحها الحيرة، قرأت العنوان " بين القصرين " وقبل ان اعرف اسم المؤلف قلت لابو عوف


• هل هذا كتاب جديد
- قال لي: ألم تقرأ من قبل لنجيب محفوظ
• قلت: أتذكر انني شاهدت له أفلاما
- أجابني هذا الكتاب هو الجزء الاول من ثلاثيته وهي موجودة لدي كاملة.
ناولني الاجزاء الباقية من الكتاب، ومضيت الى أقرب مقهى جلست وفتحت بين القصرين.
كنت أتعرف على نجيب محفوظ اول مرة، لم أعرفه من قبل، عرفت طه حسين والعقاد وشغفت برواية توفيق الحكيم عودة الروح.
أخذت أقلب صفحات بين قصرين ، فوجدت نفسي وانا أسافر في رحلة ممتعة الى شوارع مصر القديمة ، لتنفتح امام عيني مدينة القاهرة بكل سحرها، وشعرت وانا الشاب المراهق بفتنة اكتشاف شيء جديد، أتذكر ان الوقت مضى سريعا، كانت شخصيات الرواية تنطوي ملامحها على ذلك الجمال الأخاذ الذي يراود أحلام فتى مراهق مثلي ، وكانت سطور نجيب محفوظ تؤكد لي ان الحلم يحرر الانسان، وان الحب مرادف للمعرفة.
****
حب من طرف واحد
بدأت علاقته بالمرأة في سن مبكرة، ففي سنوات طفولته التي أمضاها في حي الجمالية، وهو احد احياء القاهرة القديمة، في ذلك الجو عاش اول قصة حب حقيقية في حياته ، ويروي لرجاء النقاش في صفحات من مذكراته انه : " كان على اعتاب مرحلة المراهقة عندما شدته تلك الفتاة، وجه ساحر يطل من شرفة أحد البيوت "، لم يكن يتجاوز الخامسة عشرة من عمره فيما كانت هي تقترب من العشرين، فتاة جميلة من أسرة معروفة، لها وجه اشبه بلوحة " الموناليزا "، ظل حبه لها من بعيد ومن طرف واحد، لم يجرؤ يوماً على محادثتها او الاقتراب منها، او حتى لفت اهتمامها، كان حباً صامتاً، يكتفي صاحبه بمجرد النظر الى هذه اللوحة الجميلة التي تطل عليه بين الحين والآخر :" وعرفت كيف يغيب الانسان وهو حاضر، ويصحو وهو نائم، كيف يفنى في الوحدة وسط الزحام ويصادق الألم ".قصة الحب الاولى هذه سنجد ملامحها واضحة من خلال شخصية كمال عبد الجواد في الثلاثية .
يذهب كمال عبد الجواد الى قصر آل شداد لمقابلة اصدقاء المدرسة ومنهم ابن صاحب القصر حسين، هناك يشاهد عايدة: " كنت وحسين وإسماعيل منهمكين في شتى الاحاديث حين ورد مسامعنا صوت رخيم محّييا، التفت وانا من الذهول في غاية..من تكون القادمة؟ كيف لفتاة ان تقتحم على غرباء مجلسهم؟ ثم سرعان ما انقطعت عن التساؤل، وتناسيت التقاليد جميعا، وجدتني حيال مخلوق لايمكن ان يكون من هذه الارض جاء، بدت وكأنها صديقة الجميع إلّاي، وقف حسين يعارف بيننا: صديقي كمال..أختي عايدة ".
ويرسم لنا نجيب محفوظ لنا ابعاد هذا الحب الذي جاء مباغتاً:" من اول نظرة ياقلبي، ما ارتدت عنها عيناي حتى آمنت بانها زيارة مقيم لازيارة عابر، لحظة خاطفة حاسمة، ولكن في مثلها تخلق الارواح في الأرحام وتزلزل الارض.. رباه لم أعد أنا. قلبي تلاطمه جدران الاضلع، أسرار السحر تنفث معانيها، العقل يتمادى حتى يمس الجنون، اللذة تسطع حتى تعانق الألم، أوتار الوجود والنفس تجود بالنغم المكنون، دمي يصرخ مستغيثا لايدري مم يستغيث، الاعمى يبصر والكسيح يسير والميت يحيا، حلفتك بكل عزيز ان لاتذهبي ابداً، انت يا ألهي في السماء، وهي في الارض، آمنت بأن ما مضى من حياتي كان تمهيدا لبشارة الحب ".
كان نجيب محفوظ قد اهتم بفلسفة الحب منذ كتاباته المبكرة، ونراه في مقال نشر عام 1934 بعنوان " فلسفة الحب " بتشجيع من استاذه سلامة موسى، يتبنى افكار الفيلسوف الفرنسي هنري برجسون عن مقهوم الشعوربالحب، كان عمره انذاك ثلاثة وعشرين عامًا، وفي المقال يحدثنا محفوظ عن الحب الذي هو في نظره مشاعر لايمكن تحديدها، فالحب هو اول الاشياء وآخرها وهو الذي يُسير الأشياء جميعًا:" الحب هو تلك النسمة الحية التي تشيع في جميع الكائنات الحية، نبصرها في تآلف الخلايا وتجاذب الأطيار وتزاوج الإنسان، وقد يكون من الحكمة – إذا رغبنا في أن نزكي إحساسنا به أو نسمو بعواطفنا فيه – أن نقصد جماعة الشعراء نصغي لأناشيدهم، وقد وهبهم الله من طاقة الإحساس بهذه العاطفة وغيرها ما يبلغهم مناهم من تصوير العواطف العميقة؛ حيث يقف العقل حائرًا مترددًا.. فما علاقة الفلسفة بالحب الحق؟ إن أي فلسفة هي وجهة نظر يفسر بها الفيلسوف مختلف الحقائق، ولما كان الحب أحد هذه الحقائق فللفلسفة رأيها عنه، أو قل فللفلسفات المختلفة آراؤها المختلفة عنه، فواجب علينا نحو أنفسنا أن نعرف هذه الآراء. نعم إن الحب عاطفة ولكن المعرفة التامة للعاطفة لا تتطلب فقط إحساسنا بها وإنما يجب أن يضاف إلى ذلك امتحان وتكييف العقل لها حتى تملأ حقيقتها القلب والعقل؛ فيظهر العارف بمتعة الظافر بالنور بعد التخبط في الظلام ويحس إحساس المطمئن بعد التردي في مهاوي القلق والشك ".
ومثلما يؤمن برجسون بأن الحب يوجد قبل وجود موضوعه وبعده، فالفيلسوف الفرنسي يؤكد اننا كثيرا ما نحلم بالحب من غير أن نحس وبموضوع الحب نفسه، فنجد نجيب محفوظ يحاول شرح هذه النظرية في مقالته:" الحب عاطفة مركبة؛ بل هي أعقد العواطف جميعًا ولا عجب فهو محور الوجود الحي والحقيقة أنه لا يوجد إنسان لا يحدوه في عمله حب سواء في طفولته أو شبابه أو كهولته أو شيخوخته، كأن الحب أداة في يد الحياة تسخرنا به لأغراضها. "
ويضيف محفوظ :" لعل نوع الحب الذى يمنحه قلب الشخص يدل أقوى الدلالة على نفسيته وأسلوبها في الحياة ويكشف عن شخصيته وما فيها من قوة أو ضعف، سمو أو انحطاط، فالحب على هذا مفتاح سري نستطيع أن نلج به مغالق النفوس ".

****
الحب سر مغلق
كان نجيب انذاك يمر بمرحلة عشق جديدة هذه المرة كان الموقف معقدا، فقد قابلها بالصدفة ونجده يصف ملامحها في روايته " المرايا ":" كانت بيضاء زرقاء العينين ناعمة الصوت، عندما شاهدتها للمرة الاولى تسلل إلى روحي قلق نشيط غامض تتجاذبه قوى خفية من البهجة والكآبة ".
وفي مكان آخر من الرواية يصف لنا محفوظ مشهد اللقاء الاول:" نظراتنا تتسلل في استحياء فيستحوذ علي أمل خلاب. أمد يدي فأقبض على راحتها فتسحبها بلطف. وبرقة تقول لي:
- لا أحب العبث
وأضيق بحديثها وأقول:
- إنك لاتعرفين الحب.
فتقول بآسى:
- انت الذي لاتعرفه
وتقول معاتبة:
- اثبت لي انك تعرف الحب مثلما أعرفه
يجد نجيب محفوظ نفسه بمواجهة فتاة هادئة الطباع، راجحة العقل، ترى الحب أعمق غورا من مجرد عبث صبياني، لذلك ترفض محاولته برقة المحب الذي يحرص على معشوقه ونجده يصف مشاعره في المرايا:" ويصرفني اليأس فأتعزى بالزهد، أمضي مصمما على النسيان، ولكن ترجعني الاشواق او رسالة عتاب او لقاء غير متوقع، فأجد نفسي مرة اخرى حيال قلب محب وعاطفة طاهرة وارادة لاتلين.
ويكتب نجيب محفوظ في مذكراته التي حررها إبراهيم عبد العزيز بعنوان " انا نجيب محفوظ ":" الحب ان لم ينته بالزواج يخفت ويتوارى ولكنه يطل من الذاكرة بين الحين والآخر، ولقد صوّرت قصتي مع الحب في العديد من رواياتي،، واستطيع ان اقول ان ماكتبته في " قصر الشوق " يمثل جوهر تلك القصة، فحين يصل الانسان الى سن الحب يخيل اليه انه وقع في حب كل جميل يصادفه، حتى يأتي شيء يفهمه ان الحب غير كل ما قلت، أما لماذا اتجه الحب لهذا الشخص بالذات دون شخص آخر فهذا سر مغلق ولايزال سراً مغلقا حتى الآن "
يكتب هنري برجسون في كتابه الطاقة الروحية:" الحب يقوم على اساسين هامين هما: الجاذبية الجنسية، والتوافق الروحي وبدونهما لايقوم حب "
في رواية الطريق لنجيب محفوظ يجد صابر نفسه بين صورتين للحب الاولى مع إلهام التي تمثل صورة للحب النقي الخالي من الشهوات، والثانية مع كريمة التي تُوقظ شهواته وتحاول ان تدله على حقيقة الحب كما تفهمها.
وعلى لسان كمال عبد الجواد الذي يمثل قرين نجيب محفوظ جاءت تلك العبارة:" ووجد في مراقبتها لذة لا تعادلها لذة، وأحس تخديرا ودّ ألا يصحو منه أبدا، ويتدفق الحنان من حناياه ، فتمنى لو يحتويها فى تلك اللحظة بين يديه.

****
سيرة كمال عبد الجواد
شعر نجيب محفوظ أنه أمضى حياته وهو يتجه نحو نقطة يتمكن معها من كتابة رواية عن حياته الشخصية ، فهو الآن في الاربعين من عمره (عام 1951) – ولد نجيب محفوظ في 11 ايلول عام 1911 - ، ومرت سنوات على وفاة والده عبد العزيز إبراهيم،، ويخبر جمال الغيطاني في كتاب "المجالس المحفوظية: "انه فوجئ برد فعله أزاء رحيل الأب الذي كان كتلة لا يمكن اختراقها. لم يبكِ أو يُشلّ، بل خاف وشعر برغبة في الكتابة عن رجل ترك أثراً كبيرا في حياته ". حين بدأ كتابة قصر الشوق كان في الاربعين، وتذكر ان والده كان يعيش أجمل سني حياته في هذه السن. أخذت الرواية عاما كاملا من حياته وانتهت بكتاب يبلغ حجمه ثلاثة أضعاف روايته العادية. رفض الناشر طبعها بسبب كبر حجمها، أكثر من ألف صفحة، احتفظ بها يوسف السباعي في درج مكتبه كان ينوي نشرها في مجلة الاثنين، لكن الثورة قامت عام 1952، فيتم نشرها متسلسلة في مجلة الرسالة الجديدة، وكان نجاحها مشجعا لدار النشر ان تطبعها بعد ان اقترح الناشر تقسيمها الى ثلاثة اجزاء حسب الفترات التاريخية "بين القصرين، قصر الشوق، السكرية"، وإذا تأملنا رؤيته للاسرة والحب فى أصداء السيرة الذاتية التي كتبها في أواخر حياته نستطيع أن نلمس تعلقه وشغفه بالحب حتى لو كان أطياف خيال، فقد كان لهذه العاطفة مفعول السحر في نفسه، وفي نفوس شخصياته، وقد تعلق قلب نجيب محفوظ بالحب ورآه دوماً فرصة العمر حتى لو كان محض خيال، وهذا ما يتردد على لسان كمال عبد الجواد في الثلاثية:" ان في نفسي أشواقاً تحتاج الى عناية وتأمل حتى تنضج ". أشواق يهزّها شغفه بمطالعة كتب المنفلوطي:" هل من العيب ان اكون مثل المنفلوطي يوما، وأصور بدقة مشاعر الحب والعاطفة الجياشة التي تتملك المحبين.
انه يواجه نفسه على صفحات الرواية: ماذا يروم من الحب؟ ثم نراه يجيب من خلال مقال يكتبه:" أن أحبها، ايجوز ان تنبثق في التفس هذه الحياة كلها " ثم نراه يتساءل عن الغاية وراء ربط الحب بالزواج، فهو يعتقد ان أي اتصال بينه وبين محبوبته لابد ان يكون عن طريق العطف الروحي من ناحيتها، والتطلع والهيمان من ناحيته، طريق بالعبادة اشبه، بل هو العبادة نفسها، فاي شأن للزواج في هذا الحب
- الذين يحبون حقاً لايتزوجون
- الذين يحبون ما فوق الحياة لايتزوجون
ورغم ان عايدة في قصر الشوق لم تفصح عن حبها لكمال إلا انه جعل من فكرة الارتباط بها فوق أمانيه وحين اتيحت الفرصة للانفراد بها تسأله:
- الآن دعني أسالك ماوراء ذلك
يجيب في حيرة
- هل وراء الحب شيء
وعادت لتقول
- ان الاعتراف بداية وليست نهاية.اني اتساءل عما تريد
- فأجاب بحيرة ايضا
- أريد.. أريد ان تأذني لي بان أحبك
- أهذا حقا ما تريد، ولكنك ماذا انت فاعل إذا لم آذن لك؟
- فقال وهو يتنهد
- في هذه الحال أُحبك ايضا
- فيم اذن كان الاستأذان.. انت تحيرني ، ويبدو انك تحير نفسك ايضا
- فقال بجزع
- اني حائر؟ ربما، ولكني احبك، ماذا وراء ذلك، يخيل إلي احيانا اني اتطلع إلى أمور تعجز الارض عن حملها، ولكني إذا تأملت قليلا عجزت عن تحديد هدف لي، خبريني انت عن معنى هذا كله، أريد ان تتحدثي وانا استمع، هل عندك ما ينتشلني من حيرتي؟
- قالت باسمة:
- ليس عندي مما تسأل شيء، كان ينبغي ان تكون انت المتحدث وانا المستمعة ألست فيلسوفا؟ ".
بعد عام من نشر الجزء الاول من الثلاثية وبالتحديد عام 1953 يكتب نجيب محفوظ عن مفهوم الحب عند كمال عبد الجواد بطل قصر الشوق
" في الثلاثية نجد كمال عبد الجواد يتساءل :إذا كنا نحب الكمال في المحبوب فكيف يتأتى لنا أن نحب ما هو بعيد كل البعد عن الكمال؟ ويرى أن الخطأ يأتي من أن الحب لم يأخذ مجراه الطبيعي وأنه يأتي مما يضلل عين المحب عن الحب الصادق وليس من الحب نفسه، فإذا صدّقت نفس الحب السامي فالذنب ذنب النفس، ويعزون الفساد إلى النفس البشرية،
إنما العاشق هو الذى يحب المرأة فوق ما تستحق أضعافًا؛ بل هو يحبها أحيانا عن غير استحقاق، أن الحب فردي ذاتي وأن كل فرد يخضع بنوع من الحب ولذلك فطريقة الروائي الذي يريد أن يحكي قصة غرام شخص ما أن يبدأ بسرد تفاصيل حياته الاجتماعية والنفسية لأنه يعلم بداهة أن الحب يلحق بذاته ويتبع طبيعته الخفية."
ويذهب نجيب محفوظ في تفسيره للحب بانه عاطفة معقدة فيها الميل البيولوجي والوهم الذاتي والجاذب الموضوعي والإلهام القدسي والسحر الساذج، ويؤكد في مقالته ان أنواع الحب المختلفة تأتي من تغلب أحد عناصره الكثيرة، فقد يغلب على النفس فيصير الحب جنونًا ".

****
حب من نوع آخر
لم تتوقف محاولات نجيب محفوظ للحب، فيتعرف على اكثر من فتاة، ولكن هذه المرة استطاع ان يقيم حوارا مباشرا مع فتاته وكانت مثله تبحث عن حب من نوع آخر، حب متجرد من الغايات.
ويصف لنا نجيب محفوظ ملامح هذه الفتاة في واحدة من حكايات حارتنا: كانت دقيقة القسمات خفيفة الروح، مليئة بالحيوية والمرح، لكنها جميلة وجسورة بقدر ما هي حريصة ".
ان نظرية الحب عند نجيب محفوظ، وثيقة الصلة بعمله الروائي وبخاصة في الثلاثية والمرايا وعصر الحب، حيث قدم محفوظ وصفا معمقا لعملية الحب، بدءاً بولادته، وانتهاء باعلى قمة تطوره، فالحب بالنسبة لابطال روايات نجيب محفوظ هو مبدأ حياتي رفيع، وهو في المقالات التي كتبها عن مفهومه لفلسفة الحب نراه يميز بين اربعة نماذج من الحب " الحب – الشهوة " " الحب- الشوق " " الحب – الجسدي " " الحب – الزهو " وهذا التقسيم قريب من التصنيف الذي وضعه الفيلسوف الفرنسي هنري برجسون الذي كان نجيب محفوظ معجبا به اشد الاعجاب
غير ان شكل الحب الاسمى عند نجيب محفوظ ليس الحب الجسدي، بل الحب – الشوق، فهذا الحب هو الاسمى، لانه لايتعلق بانفعال الشهوة، ولا بانفعال الغيرة، ولا بالانفعالات الاخرى، فهو حب يحرر الجسد من جميع الغرائز ونرى نجيب محفوظ يدين بالكثير لمقولة برجسون الشهيرة " الحب مجرد الخطوة الاولى نحو الاخلاق، ومن ثم نحو التواصل البشري ".. فنراه يكتب في سيرته الذاتية "انا نجيب محفوظ" ان: " الحب هو تلك النسخة الحية التى تُشيع فى جميع الكائنات الحية تبصرها فى تآلف الخلايا، وتجاذب الأطيار، وتزاوج الإنسان، وقد يكون من الحكمة - إذا رغبنا أن نذكى إحساسنا به أو نسمو بعواطفنا فيه - أن نقصد جماعة الشعراء نصغى لأناشيدهم، وقد وهبهم الله من طاقة الإحساس بهذه العاطفة وغيرها ما يبلغهم مناهم فى تصوير العواطف العميقة، حيث يقف العقل حائرا مترددا ".



* المدى
 
الحب الاول مثل الحصبة، يُخلف اثاراً لاتمحى
 علي حسين

في صباح يوم مشمس من عام 1956 تتغير حياة فتاة في الرابعة عشرة من عمرها إلى الابد، بتأثير نسخة قديمة من كتاب ألف ليلة وليلة، محفوظة في خزانة مقفلة تخص زوج أمها الدبلوماسي. كانت قد اكتشفت طريقة لفتح هذه الخزانة، لتقرأ وبخفية من اهلها مقاطع من هذه الحكايات ، فتغوص معها في عالم ساحر من الخيال، حيث تقودها نساء ذوات بشرة بيضاء لامعة، وعفاريت من الجن في قوارير، ورجال يخوضون المعارك من اجل قبلة، تلك القراءات السرية قد ولدت لديها احساسا بانها ستتمكن في يوم من الايام كتابة رواية عن العشق، شبيهة برواية د. هـ. لورنس "عشيق الليدي شاترلي" التي شاهدت نسخة منها كان يجري تداولها بين طالبات المدرسة.


الحُب الأول
كانت تحلم بالحب، وعاشت تجربتها الاولى مع معجب وحيد، احد اقارب والدتها، شاب في الثامنة عشرة من عمره، مغرم بقراءة الروايات المصورة، وذات يوم تتلقى منه اول قبلة في حياتها: "استمر إحساسي لسنوات بمذاقها الذي له طعم المرطبات".
في ذلك الحين كانت نحيفة وتصف نفسها بانها مثل " لوح خشبي " تقاطيع جسدها غير واضحة المعالم، تمني النفس لو كان لها جسدا شبيها بصورة جينا لولو بريجيدا او صوفيا لورين او جين ما نسفيلد، نساء جميلات يطاردهن الرجال من شارع الى شارع.
تصف الحب الأول في روايتها ابنة الحظ بأنه : " مثل الحصبة، كثيراً ما يُخلّف آثاراً لا تمحى". لكن هذه الآثار التي تتشابك مع حكايات أخرى، لن تمرّ بسهولة. وفي إحدى المناسبات، سألتها احدى القارئات، حول تجاربها الشخصية في الحب، وهل لها علاقة بالروايات التي نشرتها لتجيب: " اعتمد على المخيلة وليس الذاكرة. كنت وما زلت اتمنى ان اعيش حياة أبطالي"
ولدت إيزابيل الليندي عام 1942 في جنوب العالم ، عاشت معظم حياتها في بيت جدها، دار عجيبة كانت فيها جدتها مغرمة بالاشباح، في هذه الدار خالان غريبا الاطوار، أحدهما امضى عدة سنوات في الهند ليرجع يعيش حياة فقير هندي يتكلم السنسكريتية ويتغذى على الخضراوات فقط، والآخر كان مهووسا بالقراءة، وبفضله قرأت روايات تولستوي، وذرفت الدمع على مصير انا كارنينا، وحلمت بهذا المشهد من رواية اميلي يرونتي الشهيرة " مرتفعات وذرينغ " : :" كان هيثكليف راكعا على احدى ركبتيه ليعانقها، فحاول ان ينهض، لكنها امسكت شعره وأبقته في مكانه، فصاح : لاتعذبيني حتى يصير بي الجنون، لكن كاترين كانت تتوق الى الفرار معه إلى ذلك العالم الرائع و ان تكون معه وفيه حقاً ".
وستتذكر هذا المقطع من مرتفعات وذيرنغ لتكتب في روايتها انيس حبيبة روحي :" أدركت أنني كنت أنتظر أيضا هذه اللحظة، منذ قرابة السنة، تشبثت بقميصه بكلتا يدي ورددت له القبلة، بعاطفة كنت أحملها في أعماقي منذ زمن طويل ".
في الحادية عشرة من عمرها انتقلت مع أمها للعيش في بوليفيا، كانت تجد صعوبة للتعايش مع الذكور في المدرسة المختلطة التي كانت تدرس فيها :" كنت امضي طيلة الوقت بأذنين محمرتين وقلب يطفر متقافزا.ففي كل يوم كنت أقع في حب صبي من طرف واحد كانت الفتيات من حولي يسجلن في دفتر صغير ما يتلقيانه من قبلات، مع من ؟ واين، بينما دفتري الصغير ظل ابيض، كنت اتظاهر بان تلك البلاهات لاتستثير اهتمامي،، وكنت ارتدي ملابس الذكور واتسلق الأشجار كي اخفي انني أقرب لأن اكون قزمة، وان مهاراتي في الحياة والحب لاتتعدى مهارات فروج منتوف الريش ".
بعد اربع سنوات من التنقل بين بوليفيا وبيروت والارجنتين، تعود مع اخويها الى تشيلي، لتعيش من جديد في بيت الجد، كانت قد تخطنت الخامسة عشرة باشهر قليلة، تهيء نفسها لان تصبح راهبة، فقد كانت في قرارة نفسها تعتقد انها ستعيش طوال حياتها عزباء، وفجاة تجد امامها شاب يبتسم لها، وكان يروقه مظهرها،، سيصبح هذا الشاب بعد خمس سنوات زوجها ميغيل، الذي كان يطالبها بـ " الدليل على الحب "، وتستعيد إيزابيل الليندي لحظة الزواج هذه في روايتها " من الجزيرة تحت البحر " : أمضى العروسان النهار الوحيد وليلتي الحب في القمرة الضيقة في سفينة روميرو توليدانو الشراعية، في تلك الليلة مارسا الحب على سرير ضيق من الواح خشبية، متأرجحين مع تيارات الدلتا، على الضوء الخافت من خلال ستارة من القطيفة الحمراء، تلامسا في البدء غير واثقين، وحيال امتلاكها بين ذراعيه كان موريس يرتجف وظن انها ستسخر منه
- لاتكن ابله، كيف أسخر منك، ردت عليه وهي تمسح دموع الضحك، إنني اتذكر دروس الحب التي خطر لمدام فيوليت ان تعطيها لطالباتها.
* لاتقولي انها كانت تحدثكم عن ممارسة الحب
- أجل بالطبع، هل تعتقد ان الاغواء يأتي ارتجالا
خلال الساعات القصيرة جدا في ذلك النهار والليلتين اللتين امضاها في السفينة الشراعية معا، منحا نفسيهما سعادة مشتركة، كانا شابين فتيين، وكأنهما متحابين منذ الأزل.
بزع فجر اليوم التالي وكان عليهما ان يرتديا ملابسهما، ويتبادلا القبلات، وان يخرجا لمواجهة العالم".

****
غرابة العشق
عندما بلغ الأربعين من عمره قرر أن يكتب رواية عشق متفردة ، كان يريد أن يكتب عن حالات المسرة والسعادة التي عاشها، بعدما تجهّم طويلاً في تأمّل مرارات الحياة وعبث الدنيا.. كانت الفكرة أن يسرد جزءا من حكاية عاطفية، يكمل بها ما ابتدأه في روايته "أبناء وعشاق" التي قدم في الجزء الأول منها لمحات من حياته : طفولة أراد لها الأب أن تكون خشنة، فعامل المنجم الذي بالكاد يعرف القراءة والكتابة أراد لابنه الرابع أن يدرك جيدا أن الحياة تحتاج إلى ساعدين قويين،وليس قلب رقيق، فيما الأم التي تنتمي إلى عائلة برجوازية كانت تتمنى أن يصبح أبناؤها رجال دين أو أساتذة في الجامعة، ولأن الكتابة لم تكن مجدية في نظر الأسرة فقد اضطر د.ه. لورنس أن يكتب بطريقة سرية، وذات يوم قرأت أمه فصلا من رواية "الطاووس الأبيض" فتعجبت وقالت له : "ولكن يا ولدي كيف تعرف أن الأمور كانت تسير على هذا النحو ؟ ".
كتب د.ه.لورنس رواية " تهافتت عليها دور النشر وصدرت أكثر من نسخة مزورة عنها نتيجة الطلب المستمر عليها، وكانت هذه الرواية هي " " عشيق الليدي شاترلي "، التي ما تزال تُطبع حتى اليوم.، معظم قرائها في أوروبا من النساء.
أنهى لورنس "عشيق الليدي شاترلي" في لحظة كره للمجتمع البرجوازي، استمر في كتابتها أكثر من عامين بين خريف 1927وصيف 1929 وأمضى عيد الميلاد وحيدا بعد انفصاله عن زوجته. في ذلك الوقت كان يكتب الرسائل إلى عدد من أصدقائه، قال في واحدة منها : "يبدو لي أن الأمر الرئيس بالنسبة للمرأة هو أنها لا يمكن تعريفها بكلمات من قبيل الحب أو الجمال أو الشرف أو الواجب أو الجدارة أو التحرر، فعلى المدى البعيد لا تمثل هذه الكلمات حقيقة المرأة "، وفي أخرى يضيف :"إن ما تحتاج إليه المرأة هو الاكتفاء، على الأقل الاكتفاء الجسدي بقدر ما هي بحاجة إلى الاكتفاء النفسي، الجنس بنفس قدر ما تحتاجه من الروح".
لم يعد لورنس يطمح بكتابة رواية عن حب لم يسعد به، فالأمر تحول إلى ارتياب في العواطف التي تريد طبقة البرجوازيين فرضها على المجتمع.. تدور "عشيق الليدي تشاترلي" حول السير كليفورد تشاترلي، رجل واسع الثراء ألحقت به الحرب عاهة وتركته مشلولاً ومصاباً بعجز جنسي، فانصرف إلى الكتابة والتأليف لتعويض فشله في علاقته الحميمة مع زوجته الليدي تشاترلي، وهي في أوج شبابها وأنوثتها. لم تكد تمضي فترة حتى ضاقت ذرعاً به وأقامت علاقة مع ميلورز، بستاني يعمل لدى زوجها، تحوّلت في ما بعد إلى علاقة روحية على رغم الاختلاف الطبقي الشاسع بين العاشقين، وتُوّجت في ختام الرواية بمولد طفلهما والاستعداد للزواج، حيث نجدها تغادر بيت الزوجية لترتيب حياتها من جديد.
تسترجع ايزابيل الليندي اللحظة الاولى التي تصفحت فيها رواية عشيق الليدي شاترلي، كانت فتاة مراهقة، تنظر الى العشق باعتباره امرا غريبا، ولم تكن ترغب ان يعرف احد بماذا تحلم، لكن صفحات الرواية جعلتها ترسم في خيالها صورة لحبيب يركض باتجاهها فيما المطر يهطل بغزارة.

****
مثل بابلو نيرودا
انطلقت من حياة البلد الذي يقع في جنوب اميركا الىتينية، لتحيط بالوضع البشري مثل مواطنها الشاعر بابلو نيرودا . لا بالشعر الذي حلمت به، بل بالروايات التي تجاوزت العشرين رواية . حاولت فيها التشيلية إيزابيل الليندي (75 عاما ) ان تسجل تاريخ العشق وقصص الغرام. بقيت تكتب سراً وترسل المخطوطات إلى الناشرين لترفض وتعاد إليها. عشرة أعوام تجرب، تكتب وتُرفض لتكتب وترفض إلى أن جلست في الاربعين من عمرها في المطبخ . كتبت من دون خوف هذه المرة، وأحسّت بأنها تقوم بمهمة في عالم حقيقي. حمل اليها البريد خمس نسخ من روايتها الاولى " منزل الارواح "، فشعرت بالرهبة والخوف من ان يفتضح سرها وخبأتها في درج المكتب . كان عليها الانتظار أسبوعاً لتجد الصحف تشيد بروائية جديدة ساحرة، تضع اسمها بين اشهر كتاب اميركا اللاتينية :" كنت في الاربعين حين حاولت ان اكتب سيرة ذاتية مطرزة بالفنتازيا عن عائلتي التي أصبحت رواية " بيت الأرواح. و سوف يكون من الأفضل كثيراً لو إني بدأت الكتابة في سن التاسعة عشرة. لكني لم أستطع. كان عليّ أن أساعد عائلتي. كنت غير جاهزة. وفكرت أني أحتاج إلى خسارة وطني لكي ابدأ بالكتابة لأن رواية "بيت الأرواح" كانت محاولة لبعث الحب الذي خسرته والعائلة التي فقدتها ي تلك اللّيلة، وبدأت كتابة رسالة إلى ذلك الجدّ الأسطوري. كانت رسالة روحية، رغم أنّه لن يقرأها أبداً. كتبت جملتي الأولى وأنا في حالة غيبوبة، وقبل أن أستعيد قدرتي على الإدراك كنت قد كتبت: وصل برّاباس إلى الأسرة عبر البحر. من هو برّاباس وما علاقته برسالة الوداع التي أكتبها لجدّي؟ رغم أنّني لم أعرف لماذا، ولكن وبثقة الجاهل، فقد تابعت الكتابة بلا توقّف ولا راحة، في كل ليلة ودون أن أحسّ بأنّني أبدل مجهوداً كبيراً، كما لو أنّ هناك أصواتاً خفيّة تهمس لي بالقصّة؛ وبانتهاء العام تجمّعت لديّ 500 صفحة فوق طاولة المطبخ. هكذا وُلِدت رواية منزل الأرواح”، فمجيء برّاباس عبر البحر قد غيّر قدر إيزابيل الليندي، ولا شيء عاد كما كان بعد أن كتبت تلك الجملة. هذه الرّواية دفعت بها إلى عالم الأدب وبلا رجعة.
في سن الخامسة والأربعين كانت لديها رغبة غير عادية في إظهار حياتها الخاصة على الملأ. كتبت بلا تحفظ عن الطريقة التي قابلت بها زوجها الثاني : " محام أميركي ذو سحنة إيرلندية بمظهر ارستقراطي وربطة حرير كان يتكلم الاسبانية مثل مكسيكي ولديه وشم على يده اليسرى". كانت قد تطلّقت حديثاً من زوجها " : الذي تحمّلني بصبر وأناة لأزيد من ربع قرن" وبينما كانت تتجول في كاليفورنيا، حدث أن تصادفت مع وليام غوردون، آخر عزاب سان فرانسيسكو، هذا الرّجل أضفى سروراً على حياتها وأوحى لها تأليف روايتها : الخطة اللاّنهائيّة.:" بعد صدور الرواية انتابني الخوف لأنّه لا يحتوي شيئا من الرمزية أو البطولة، كان شهوانياً خالصاً. عندما تعرّفت على وليام كنت أنام وحدي ولوقت طويل، رأيته لأسبوعين أو ثلاثة، فقد سَقطتُ عليه من أعلى مثل إعصار، وقبل أن أصل إليه لأنّه كان متزّوجاً، لم يتبقّ لي إلا الاستيلاء على قصّة حياته لأكتب رواية عن كاليفورنيا".
تتذكر انها أرسلت إليه بالبريد عقداً فصلت فيه مطالبها للتهيؤ للزواج، على الرغم من أنها : " مندهشة تماماً من الطريقة التي كان يعيش بها وكم كانت عائلته تبعث على الفزع " .
تقول عن الضجة التي أثارها أقاربها في تشيلي عن رواية بيت الأرواح " لو خيّرت بين أقاربي وقصة جيدة لاخترت القصة".
رواية بيت الأرواح التي بدأت كتابتها كخطاب تبعثه إلى جدها المحتضر خلال منفاها لتخبره أنها ما زالت تتذكر تاريخ عائلتها ولم تنس أصولها رغم أنها فارقت بلادها رغماً عنها.مات الجد وهي مستمرة في الكتابة ليتحول هذا الخطاب الطويل إلى الرواية التي بدأت مسيرة الكاتبة الأدبية.
في بيت الارواح نقابل سيفيرو رجل في منتصف العمر، غني وناشط سياسي والناشط السياسي زوج نيفيا ووالد بطلة الرواية كلارا.
كلارا الفتاة الصغيرة التي تمتلك قدرات خاصة تجعلها قادرة على قراءة الأفكار ومعرفة المستقبل والكثير من المهارات الأخرى، لها العديد من الإخوة والإخوات، أهمهم أختها الكبرى فائقة الجمال والعذوبة روزا وخطيبها استيبان تروبيا الفتى الفقير الذي بيحث في المناجم عن الذهب من أجل الثراء سريعاً والزواج بخطيبته الجميلة.
بسبب الخصومة السياسية تموت روزا بالشراب المسموم الذي كان يجب تقديمه لوالدها، لتخلف جرحاً عميقاً فى نفوس كل من حولها، بدءاً من والدها الذي اعتزل السياسة وأختها كلارا التي توقفت عن الكلام لإحساسها بالذنب بسبب نبوءتها في ذات يوم الوفاة أن أحد أفراد العائلة سيموت، والأهم خطيبها إستيبان الذي قرر ترك المدينة، وذهب إلى الريف لتنمية مزرعة والده الخربة.
بعد مضي العديد من الأعوام يعود استيبان إلى المدينة مرة أخرى ليقرر الزواج، وبما أنه كان بعيداً لوقت طويل ولا يعرف الكثير من العائلات، يقرر الزواج من آخر بنات عائلة ديل باي التي لم تتزوج بعد الصغيرة كلارا التي نضجت كفتاة جميلة مضربةً عن الكلام.
في اليوم الذي يقرر فيه استيبان أن يذهب إلى العائلة ليخطب ابنتهم تتكلم كلارا للمرة الأولى لتخبرهم أنها ستتزوجه.
يقع استيبان في حب كلارا منذ اللحظة الأولى، ورغم أنه يعلم بقدراتها غير الطبيعية والعالم الخيالي الذي تعيش فيه، إلا أنه يصر على أنه قادر على تحويلها إلى الزوجة المثالية التي يرغب بها، ليتزوجا بعد خطوبة قصيرة ويأخذها إلى مزرعته ليعيشا معاً بعيداً عن العالم،
في بيت الارواح نتتبع مع إيزابيل الليندي مصائر الشخوص، وعلاقات الحب التي تنمو بسرعة.

****
حب في الثانية والسبعين
في الثانية والسبعين من عمرها تصدر روايتها الاخيرة " العشيق الياباني" قصة حب مكتوبة بشكل ملحمي، تروي من خلالها إيزابيل الليندي تاريخ اجيال متعددة، تنقلنا بمتعة من سان فرانسيسكو في وقتنا الحاضر الى بولندا والولايات المتحدة ايام الحرب العالمية الثانية.
في عام 1939 إبان وقوع بولندا تحت الاحتلال النازي، يقرر والدا الشابة الما بيلاسكو ارسالها الى سان فرانسيسكو لتعيش مع خالها وخالتها، وهناك بينما تتجه بقية دول العالم نحو الحرب، تلتقي بالصبي الياباني ايشيمي فوكودا ، ابن هادئ ولطيف لعائلة البستاني فوكودا،ودون ان يلاحظهما احد ممن حولهم تبدأ علاقة حب تزدهر فيما بينهما،في اعقاب الهجوم الياباني على بيرل هاربور يفترقان مرغمين،حيث تعتبر عائلة ايشيمي ، من اعداء اميركا ويتم ترحيلها قسرا الى معسكرات الاعتقال التي تديرها حكومة الولايات المتحدة،وعلى مدى سني حياتهم يلتقي العاشقان " الما وايشيمي" مرات عدة، لكنهما يكونا مضطرين لاخفاء قصة حبهما عن العالم.
بعد مضي عقود من الزمن، وحين تقترب حياة ألما الطويلة والحافلة بالاحداث من نهايتها تلتقي ايرينا بازيلي وهي ممرضة في دار الرعاية الصحية للمسنين في سان فرانسيسكو،مع المرأة العجوز حفيدها سيث،فتنشأ بينهما علاقة صداقة،ويثير اهتمامهما مجموعة الهدايا الغريبة والرسائل التي كانت بحوزة ألما وفيما بعد يكتشفان سر الحب الاستثنائي بينها وبين ايشيمي،والذي لم يبوحا به على مدى سبعين عاما.
تنتقل بنا إيزابيل عبر العشيق الياباني الى ازمان واجيال،وتستكشف قضايا الحب والابعاد والعشق الذي لايتوقف برغم الظروف والمصاعب،،والتأثير الذي لا ندركه للحب على حياتنا ومصيرنا.
تعترف ايزابيل الليندي بانها عند كتابة " العشيق الياباني "، لم تكن تريد ان تنتهي من الكتاب : " لأن الحب طويل الامد والذي يعاش ويعاني جيدا هو اكثر ما يهمني كما انه الاصعب في روايتها، لانه يخلو من التشويق، العاطفة قيمة جدا، وليس مصادفة ان معظم العلاقات الغرامية في كتبي تكون المرأة هي المبادرة، لانني اعتقد ان استدامة الحب تعتمد الى حد كبير على المرأة" .


* المدى
 
الحب مسألة رياضية لم تُحل بعد!!
 علي حسين



| 15 |

كان الفتى محسن في الخامسة عشرة من عمره، عندما دخل عليهم (عم عبده) ليقول وهو يغمز بعينيه مشيراً الى حجرة العمة إن عندها ضيفة، لم يجد وصفاً لجمالها أدق من أن يقبّل أطراف اصابعه.
نهض الجميع مسرعين باتجاه باب الغرفة المغلق، وراحوا يتدافعون على ثقب الباب متضاحكين بصوت خافت، واصيبوا بالصدمة وهم يشاهدون جمالاً لم يروا مثله من قبل، وكان لكل منهم معها بعد ذلك قصة.


كان ذلك عام 1918 حيث تَعوّد محسن – توفيق الحكيم - ان يصعد إلى سطح البيت مع عمته، وذات يوم سمع صوتاً موسيقياً ينادي عمته : " كان نذيرا او بشيرا باعلان الاشتباك في الحب " ولم يكتف الصوت بالتحدث مع عمته وانما حيته، فرد التحية متلعثماً خجلاً ينظر الى الارض، ويحاول ان يداري خجله بالنظر الى الكتاب الذي يحمله بيده، فأخفت الفتاة ابتسامة حقيقية ثم التفتت اليه وسألته :
- هل هذه رواية
• لا إنه ديوان شعر
- هل تحب الشعر
• نعم.. وأنتِ
- أنا في الحقيقة، أفضل الروايات، ومع ذلك أحب بعض القصائد او الازجال التي أغنيها وأنا أعزف على البيانو.
وأسرعت العمة لتقول إن محسناً يمتلك صوتاً جميلاً وهو بارع في الغناء.
ولأن "سنية" فتاة عصرية،ابنة لطبيب معروف، ومادام محسن يغني فلابأس ان تدعوه الى منزلهما، ونراها تقفز بخفة الى البيانو، تمرر اصابعها على مفاتيحه العاجية لتطلق انغاماً كتغريدة العصافير، وتنظر الى الفتى المرتبك، تدعوه الى الغناء، ويتردد وهو يلاحظ نظراتها التي تتابعه، فيرتفع صوته مرتجفاً في بادئ الأمر، ثم يثبت ويستقيم وينطلق في فضاء المكان حالماً في نغم يؤدي احدى مقطوعات عبد الحمولي
"الحب كله أشجان... ياقلب حاذر
الصد والهجران... جزا المخاطر"
واعجبت والدة سنية بعبد الحمولي الصغير، فوافقت ان يعلم ابنتها الغناء، وشعر محسن بان نفسه لاتتسع للسعادة، وعندما يذهب في اليوم التالي الى المدرسة يطلب منه معلم اللغة العربية ان يختار موضوعا في الانشاء، ويبحث عن موضوع جديد، ولأن ذهنه مشغول بفكرة واحدة، نجده يكتب على السبورة كلمة واحدة "الحب".
عام 1970 كان قد بلغ الثالثة والسبعين من عمره حين نشر مقالا بعنوان "ألوان من الحب" كتب فيه:
"إذا كنت تحب امرأة وهي لاتعلم إنك تحبها، فأنتَ لاينقصك إلا الشجاعة، لأن تقول لها إنك تحبها.
وإذا كنت تحب امرأة وهي لاتحبك، فانت تعيس، وعليك أن تكف عن محاولة جذبها إليك
فكل ما ينطق عن الشفتين ولايصل الى المحبوب فهو وهم، والحب ليس وهماً بل هو حقيقة، والطريق اليه يبدأ بالخوف وينتهي بالشجاعة
لكن لا حب بلا خطر، لا حب بلا قلق، بلا خوف، وحين يدخل الاحساس بالخطر، يصبح الحب أكثر عنفاً، وأكثر قسوة. أما إذا كنت تحب امرأة ولايعنيك أن تعرف هي ذلك، ولاتحاول أنتَ أن تقول لها، ثم تجد متعة في هذا الحب، فأنتَ من الملائكة او من القديسين."

****
الحب قصة لا يجب أن تنتهى
توفيق الحكيم ابن السابعة والعشرين يعانق أباه ثم يتقدم باتجاه الباخرة التي ستبحر به الى فرنسا يصعد، الدخان الابيض للباخرة يعلو ويعلو، ضجيج الآلات يزداد صراخاً، هذه أول مرة يركب فيها باخرة، شاهد والده يلوح بيديه، يكتب بعد ذلك في "عصفور من الشرق" : "طالما قاومت وكافحت في سبيل التجرد والتحرر من كل ما يشغلني عن الادب والفن، وها انذا اليوم قد انتصرت، فأنا الآن للفن وحده".
لم تشغله حياة الطبقة الأرستقراطية التي تعيشها عائلته، وإنما شغلته حكاية غرفة الست زنوبة، ومنديل سنيّة الذي تحايل حتى أخذه واحتفظ به في "عودة الروح"، ولم يدخر وسعاً في الابتعاد عن المرأة التي كان يخشى أن يعيش معها قصة حب فاشلة، مثل تلك التي قرأ عنها في روايات شارلز ديكنز. قرر أن يكرس نفسه لدور واحد فقط هو دور الفنان الذي يطرد من عقله كل شيء إلا الفكر والفن والثقافة، ولم يكن يدرك أن باريس ستكشف أمامه ألواناً جديدة من الحب، الفرنسيون الذي استأجر منهم غرفة صغيرة أطلقوا عليه اسم " عصفور من الشرق، كان يرونه شاباً خيالياً، وهذا الخيال جعله يعشق فتاة لم يرها سوى مرة واحدة، تبيع التذاكر في مسرح الاوديون يكتب عنها: "أراها تشرق كل مساء بعينين فيروزتين جميلتين وابتسامة ساحرة"، لكنه حائر لايريد ان يتقدم منها، وحين ينصيحة صديقه اندريه بان يقدم لها باقة من الزهور ويفاتحها بما في نفسه من مشاعر، يرفض ويقول له:
- ياعزيزي اندريه، مازال في رأسي قليل من الإدراك يكفي لإفهامي على الأقل ان مثل هذا الجمال في شباك مفتوح للجمهور، لايمكن ان يبقى جتى الآن في انتظار قدوم هذا الصعلوك الشارد الذي هو أنا.
ويسأل اندريه: كيف عرفت انها تحب شخصا ما
- الفِراسة
ولايمكن لأندريه إلا أن يصرخ به:
• الفراسة.. هذا بابها، وهذه هي جالسة، أكاد أراها من هنا، اقسم انني لم أر مثل هذا في حياتي.
ثم يضيق العصفور بالجلوس في المقهى الذي طال من دون جدوى، ويقرر العمل على طريقته، فيتبع سوزي حتى يعرف الفندق الذي تقيم فيه، ويقرر أن يستأجر غرفة تكون فوق غرفتها بالضبط، ويهدي اليها ببغاء على طريقته ايضا: "وضع في وسط القفص حبلا وأنزله من نافذة غرفته حتى ركز على حاجز نافذة غرفة سوزي، وعندما فتحت النافذة رأت نفسها أمام ببغاء في قفص، رفعت عينيها فرأت محسناً يبتسم لها وسألته عن اسم الببغاء فقال لها اسمه "محسن"، وماكادت تنطق هذا الاسم حتى صاح الببغاء
- أحبك.. أحبك.. أحبك
- فضحكت سوزي وقالت
• عجباً! من لقنه هذه الكلمات
- لا أحد.. "في عينيه نظر" هذا كل ما في الأمر."
في رسالة يوجهها الى صديقه اندريه يكتب توفيق الحكيم :
"إن الحب قصة لا يجب أن تنتهى... إن الحب مسألة رياضية لم تحل... إن جوهر الحب مثل جوهر الوجود لابد أن يكون فيه ذلك الذى يسمونه المجهول أو المطلق، إن حمى الحب عندي هي نوع من حمى المعرفة واستكشاف المجهول والجري وراء المطلق، ماذا يكون حال الوجود لو أن الله قذف في وجوهنا نحن الآدميين بتلك المعرفة أو ذلك المطلق الذي نقضي حياتنا نجري وراءه...؟ لا أستطيع تصور الحياة حينئذ... إنها ولا شك لو بقيت بعد ذلك لصارت شيئا خاليا من كل جمال وفكر وعاطفة... فكل ما نسميه جمالاً وفكراً وشعوراً ليس إلا قبسات النور التي تخرج أثناء جهادنا وكدنا وجرينا خلف المطلق والمجهول)".
نرى محسن الفتى في عودة الروح، الشاب في عصفور من الشرق، ليس سوى توفيق الحكيم نفسه، و في كتاب "زهرة العمر" الذي تضمن مجموعة من الرسائل كتبها بالفرنسية لصديقه اندريه يعترف بهزيمته أمام الحب: "صدقت فراستك، الخيال أضاعني يااندريه، انا شخص شقي وليس الشقاء هو البكاء، وليست السعادة هي الضحك، فانا اضحك طوال النهار لأني لا اريد أن أموت غارقا في دموعي، انا شخص ضائع مهزوم في كل شيء. وقد كان الحب هو آخر ميدان، وخسرت فيه، واذا كنت تسمع من فمي احيانا اناشيد القوة والبطولة، فإعلم اني اصنع ذاك تشجعا لنفسي، كمن يغني في الظلام طردا للفزع.
لقد كان يخطر لي احيانا ان الحب هو العمود الفقري للكون، وان الله لكي يقيم القيامة وينهي الحياة لن يأمر (اسرافيل) بنفخ الصور – كما يقولون عندنا – بل سيأمر (الموت) ليهوى بفأسه على الحب، وبموت الحب على الارض ينتهي العالم".
وفي مقال نشره عام 1962 بعنوان "لمرأة والفن" يكتب توفيق الحكيم: "اني اذ أتكلم عن الفن، لايسعني إلا أن أعترف مرغما إن المرأة هي روح الفن، ولو لم توجد المرأة على هذه الارض، فربما وجد العلم، لكن المحقق انه ما كان يوجد الفن. ذلك أن الالهام الفني نفسه قد خلق على صورة امرأة، وان لكل لون من ألوان الفن عروساً.هي التي تنثر أزهاره على الناس. ما من فنان على هذه الارض أبدع شيئا إلا في ظل امرأة".
ونعود لحكاية محسن ففي عصفور من الشرق حيث عرفت الفتاة سوزي أن اسمه محسن كالببغاء، ونراه في الصباح يفتح عينيه على شبه صوت ملائكي ينادي اسمه.
فيسرع الى النافذة: أتنادينني
فرفعت الفتاة اهدابها الجميلة، في شيء من الدهشة، فارتبك وهو يقول لها
- معذرة، لقد نسيت أن اخبرك انني اشترك مع الببغاء في الاسم
- ورأها تبتسم ورأى جمالها في ذلك الصباح الباكر أنضر من زهر النرجس فتشجع وقال :
- أنا اشترك مع هذا الببغاء في الاسم، ولكن لا أشترك معه في الحظ، ان الفرق بيننا عظيم، انه هو الذي يحظى بعنايتك، فتنادينه وتناجينه، هذا الاحمق الذي لايشعر بمقدار ما يناله من سعادة.. ولهذا لست اطلب شيئا إلا ان اكون مثله بالضبط
• ولكنك لست في قفص
- آه ياسيدتي.. اني في قفص لايراه الناس.

****
المرأة مخلوق غريب
محاط بالأسرار
وقفت امام وكيل النيابة كشاهدة في قضية محاولة قتل زوج شقيقتها المتوفاة، كانت ذات جمال رائع : " غادة في السادسة عشرة، لم تر عيني منذ وجودي في الريف أجمل من وجهها، ولا ارشق قداً، وقفت على عتبة الباب في لباسها الاسود الطويل كأنها دمية من الابنوس، طعمت في موضع الوجه بالعاج"
ويواصل توفيق الحكيم الحديث عن تأثير جمالها عليه في روايته " يوميات نائب في الارياف " :
" رفعت إلي رمشين، ولأول مرة يرتج علي التحقيق، فلم أدر كيف أسألها، ولم يرها كاتب التحقيق، فقد كان موقفها خلف ظهره، فلما لحظ صمتي ظن بي تعبا، فغمس القلم في الدواة وهو يسألها:
- ما أسمك
• ريم
لفظته في صوت هز نفسي كما تهز الوتر أنامل رقيقة، فما شككت في أن صوتي سيتهدج إنْ ألقيت عليها سؤالا آخر فتتريث، وبدت لي دقة الموقف، وايقنت ببطء التحقيق، إذا قدر لي ان أقف كالدائخ بين السؤال والسؤال ".
المرأة مخلوق غريب محاط بالأسرار، هكذا ينظر اليها توفيق الحكيم، وكل جمالها وسحرها في بعدها عنه، فاذا حدث وانفتح أمامه هذا العالم المبهم وزالت هالة الأسرار، خاب امله وانصرف لانه يعتقد ان العلاقة الفاشلة هي وحدها القادرة على ان توقظ روحه وتلهم شياطين فنه وتعيش طويلا في وجدانه وذاكرته، في كتابه " مدرسة الشيطان " نجد توفيق الحكيم يتردد كل يوم على مقهى في جبال الالب، حيث استهوته احدى العاملات، وينصرف عن كل شيء الى مراقبتها والاستمتاع بجمال خطواتها ويقول : " ماذا أعطي انا من اجل لحظة تحادثني فيها هذه الفتاة، نعم هنا كل سعادتي ومتعتي ان أسارع في جلب اهتمامها لحظة وان تقبل على محادثتي ".

*****
أن تعامليني كطفل صغير
العام 1945 ترك توفيق الحكيم الفندق الذي عاش فيه معظم سنوات شبابه، وانتقل ليعيش في شقة مطلة على النيل، يصفها أحمد بهاء الدين بانها كانت تزدحم بالكتب لكنها تخلو من الأثاث والديكورات.
وفي العمارة المجاورة كانت الآنسة "سيادات" الفتاة جميلة الهادئة تراقبه. وترصده بعناية فائقة، وتخطط للحظة الهجوم المرتقب للفوز بقلب عدو المرأة الذي يهاجمها بشراسة وقسوة فوق صفحات الجرائد والمجلات، كانت الآنسة الجميلة تعرف أن معركتها مع جارها الأديب المعروف ليست صعبة فحسب، بل إن النجاح فيها قد يكون مستحيلاً.
لم تتسرع الجارة الحسناء في بدء معركتها، اكتفت في حجرتها تقرأ كل كلمة يكتبها توفيق الحكيم في الصحف... قضت الساعات الطوال في دراسة مسرحياته... وراحت تتأمل أبطال مسرحياته وتعايشهم لحظة بلحظة... كانت على يقين من أن جارها الملقب بعدو المرأة ليس رجلاً مثل آلاف الرجال الذين تشاهدهم في شوارع القاهرة... لابد أن يكون عبقريا صال وجال في عالم المرأة فلم تعجبه منهن واحدة ليتزوجها... ويرتبط بها شريكة لعمره.
كانت واثقة من أن جارها الكاتب ليس مجنونا، كما قال في أحاديثه الصحافية حتى يدخل سجن الزوجية بقدميه، أو يجد المجنونة التي تتزوجه!... ضحكت من أعماقها يوم سمعته يردد هذه الإجابة على لغز عزوبيته وعزوفه عن الزواج.، لقد قرأت له أيضا أنه ترك بيت عائلته ليبتعد عن محاولات أبيه وأمه وضغوطهما عليه ليختار شريكة عمره.
ولم يكن لتوفيق الحكيم صديق من بين كل جيرانه الجدد غير ضابط الجيش، الضيف الوحيد الذي يتردد على شقة الحكيم دون أن يضجر منه، أو يمل حديثه.
ذات يوم قالت شقيقة الضابط لأخيها، إن زياراته للكاتب زادت على حد الضيافة، والواجب يحتم أن يدعوه لزيارته في شقتها، ولو لمرة واحدة.
نظر إلى أخته الحسناء الشابة وقد بدت عليه ملامح الاقتناع، استطردت الآنسة " سيادات " قائلة لأخيها: وسوف تكون فرصة لأتعرف على كاتبي المفضل عن قرب، وأناقشه، وأحاوره.
ضحك الضابط من ثقة شقيقته في نفسها... ظن أن غرورا مفاجئا أصابها... حذرها من الدفاع عن حواء أمامه. ابتسمت الآنسة " سيادات" وسألت أخاها عن سر هجوم الحكيم على المرأة... رد الأخ بسرعة... "هذا موضوع يطول شرحه... ولابد أن أخرج الآن لقضاء بعض مصالحي"
وجاء موعد الزيارة المرتقبة..، ذهب الحكيم بقدميه إلى الكمين الذي نصبته "سيادات" له، لم يلمح الشراك الخداعية عندما دق جرس الباب ليدخل شقة صديقه الضابط الشاب، وحتى خرج منها وقد خسر جولة غير متوقعة.، وانهزم في حرب كان هو فارسها الأول.
وتقول المرأة التي اصبحت زوجة توفيق الحكيم فيما بعد للكاتب مصطفى أمين وهي تصف اللقاء الاول : " لم أتبهرج لتوفيق لأبهره بجمالي.، لم أهتم بالبودرة والأحمر، وإنما تعمدت أن أتبهرج له ثقافيا. وحاولت أن أستعرض أمامه معلوماتي عن كل ما كتب، ويومها ذهل توفيق من اطلاعي الواسع على كتبه ومؤلفاته ومن حفظي لجمل معينة من قصصه ".
ولم يلبث أن أحس الحكيم أنها تراه الرجل الوحيد في العالم، وكانت ترى فيه كل الأساطير التي كتبها في كتبه، وكل الرجال الذين كانوا أبطال قصصه...، وهكذا دخلت على قلب توفيق الحكيم من باب لم تطرقه امرأة أخرى من قبل، وإذا كانوا يقولون إن الحب من أول نظرة فقد كانت حكاية الحكيم تتلخص في جملة هي الحب من أول كلمة.
أدمن توفيق زيارة صديقه ضابط الجيش أحس أن شيئا يتحرك في أعماقه، يحرك مشاعره، ويحركه كالمسحور إلى بيت الجارة الحسناء حاول أن يمنع نفسه، وكان يفشل في كل مرة ويكاد يبكي على عرشه الذي اهتز بشدة أمام الآنسة " سيادات ".
طلبها للزواج ليرضي قلبه، ووضع 15 شرطا قاسيا لتوافق عليها العروس قبل زفافهما... كان يتمنى أن ترفض شرطا واحدا منها ليجد مبررا يقنع به نفسه بالهروب من هذا المأزق العاطفي الخطير، حدد شروطه القاسية والعروس تسمع إليه .
قال لها الشروط وهي: "ألا يعرف أحد أننا تزوجنا لأنني أريد أن يبقى هذا الزواج سرا لا تعرفه إلا أسرتك، وألا ينشر هذا الزواج في الصحف لا تلميحا ولا تصريحا.، وأن أسافر وحدي إلى الخارج دون أن يكون لك الحق في السفر معي، ولا نستقبل ضيوفا في بيتنا سواء من الرجال أو النساء، وألا أصحبك في نزهة أو رحلة... وان يكون مصروف البيت 200 جنيه لا تزيد مليما واحدا، وألا أكون مسؤولا عن مشاكل البيت والخدم، وأن تكون مشاكل كل الأولاد من اختصاصك، وأن تعامليني كطفل صغير لأن الفنان طفل صغير يحتاج إلى الرعاية والاهتمام، وأن يكون بيتنا هادئا بلا ضجيج أو أصوات تزعجني لأتفرغ لكتابه ما أريد، وأن ينام كل منا في حجرة مستقلة ولا تتدخلي في عملي.
وكانت المفاجأة التي لم يتوقعها الكاتب أن الجارة الحسناء وافقت على كل شروطه... أعلنت استسلامها أمام كل طلباته...
وتم زفافها إلى توفيق الحكيم الذي كان يكبرها بعشرين عاما... ومع الوقت ألغت بنفسها كل الشروط التي وضعها الحكيم قبل الزواج... وكان الحكيم في غاية الرضا وهو يتنازل عن شروطه شرطا بعد شرط.
ويكتب توفيق الحكيم بعد شهر من الزواج مقالا في اخبار اليوم يتضمن العبارة التالية: "الحب.. ليس غير الحب هو وحده الذي يستطيع أن يجعل حياتك سعيدة".




* عن جريدة المدى
.
 
.حين تكون نتائج الحب غير متوقعة !
 علي حسين


| 16 |

جلس ليكتب رواية تدور في بلدته التي ولد فيها عام 1783 ، من أب متزمت وعنيف ، وقاسي القلب ، وأم رقيقة القلب بارعة الجمال ، كان جده لأمه استاذا للفلسفة وخالته اليزابيت شديدة الاعتزاز بالشرف على طريقة النبلاء ، فأورثته هذا الاعتزاز او على حد تعبيره :" انها كونت قلبي ، فنقلت اليَّ طريقها في الإحساس ، مما كان سبباً في ارتكابي سلسلة من الحماقات السخيفة ، بدافع من مراعاتي لمقتضيات ذلك الخلق السامي " أما خاله رومان فقد كان دون جوان ، فحاول ان يلقن ابن شقيقته فنون الحب العابث .


بين دون جوان وفرتر
لكن ماري - هنري بيل الذي اتخذ من ستندال اسما ادبيا له ، لانه كان يكره اسمه الحقيقي الذي يذكره بقسوة أبيه الذي كان يضطهده ، نشأ معتنقا فكرة راسخة ظلت ترافقه طوال حياته ، وهي أن الانسانية تتألف من نوعين من البشر :" احدهما خبيث ، لكنه يتحدث دائما عن الفضيلة وهو يمارس أقذر الاشياء ، والآخر ذوي النفوس السمحة الذين تفيض قلوبهم حباً ورحمة للآخرين " ، وبرغم من أن ستندال كان مهووسا بالقوة وكتب مرة إن :" الضعاء في نظري مجانين " ، وفي شخصيات رواياته أمثلة كثيرة تعبر عن هذا العنف ، فهناك التي تقتل حبيبها ، والتي تدس السم لعدوها ، وآخرى تقبل شفتي حبيبها الميت ، لكن صاحب هذه الروايات والمواقف كان انساناً خجولاً ، ما ان يلتقي بامرأة لأول مرة حتى يرتجف في البداية ، ويتصور بانه يقترب من حافة الهاوية ..كان كلما ينظر الى وجهه في المرأة ، يتذمر من الشبه الكبير بينه وبين ابيه ويدمدم : " ياله من وجه كوجه الكلاب " . وجه احمر خشن يفتقر الى الرقّة ، الأنف مكور كبصلة ، العينان على جانب كبير من القبح ، فوقهما حواجب ثقيلة ، ماذا بقى في هذا الوجه من خصلة جميلة - سأل نفسه - وتذّكر إن بطل روايته الجديدة جوليان سوريل ، شاب جميل تعشقه النساء ، إلتفت ناحية الأوراق المتناثرة على المكتب ، كم تمنى ان يصحو يوماً فيجد نفسه وقد تحول الى جوليان آخر ، بلا كرش منتفخ وساقين مفرطتين في القصر ، كان زملاؤه في المدرسة يسمونه "البرج المتنقل"، لكن الكتابة أصبحت شيئاً ثقيلاً ، طقساً بطيئاً يدوم كل يوم من الصباح حتى ساعات الغروب الاولى ، منذ ستة اسابيع لم يكتب سوى صفحات قليلة من هذا العمل المتعب "الاحمر والاسود" ، كان والده يريد منه ان يصبح محامياً ، ولم ينقذه من هذا المصير سوى وفاة والدته . يكتب في مذكراته إن طفولته كانت تعيسة بسبب تزمت والده الذي كان يرفض الاختلاط ، أحب الثورة الفرنسية ، وحين دخل أبوه ذات يوم يحمل خبر اعدام لويس الرابع عشر وهو يصرخ " قتلوه الجبناء " يقول ستندال :" لقد جرفتني موجة من الفرح الطاغي ، لم أحس لها مثيلا في حياتي " .
في حياته التي لم تتجاوز التاسعة والخمسين عاما ، ظل ستندال حائراً في مفهوم العلاقة مع المرأة ونراه يكتب في احدى رسائله :" هل المطلوب من الرجل أن يسلك ازاء المرأة مسلك فرتر بطل غوته ، العاشق الولهان الحزين ، او مسلك دون جوان ، العاشق الذي يتميز بالشجاعة والصراحة والحيوية وخفة الروح " .
يؤكد معظم نقاد الأدب ان شخصية ستندال وأبطال رواياته تجمع بين النموذجين ، فهو في مرات عديدة يجد أن الحب على طريق فرتر يُمكن العاشق من الاستمتاع بالمشاعر الخيالية العذبة ، اما الدون جوان فهو يتمتع بالحب مثل تمتع القائد العسكري بالانتصار في الحرب ، وقد ظل ستندال طيلة حياته يتأرجح بين شخصيتي فرتر ودون جوان ويحلم بامرأة تبادله عاطفة مختلفة عن تلك التي يجدها عند معارفه واقاربه ، لكن حلم الارتباط بالمرأة النموذج لم يتحقق ، فظل ستندال يحب الحب نفسه ، كتب مرة يقول " طالما كان الحب بالنسبة لي أهم شيء ، بل الهدف الوحيد المهم في حياتي " ونجده يخصص كتابا لمشاعره ومفهومه للحب اسماه " في الحب " حيث يشرح فيه نظريته الخاصة والتي تتلخص بان هناك نوعين من الحب ، الحب العاطفي ، والحب الجسماني ، ويؤكد ستندال ان الحب الاول هو وحده الحقيقي وهو يولد ويتطور بشكل تدريجي
1- في البداية يولد الاعجاب
2- ثم يقول العاشق لنفسه :" اية متعة في ان أقبل هذه المرأة وتقبلني " .
3- ثم تبدأ بعد ذلك مرحلة الأمل
4- وبعد الأمل يولد الحب
5- بعدها تبدأ مرحلة " التبلور " وهي المرحلة التي يطلق فيها المحب على محبوبه ألف صفة وصفة من صفات الكمال . في تلك المرحلة يختفي شخص المحبوب الحقيقي تحت طبقة من الصفات الوهمية التي يسبغها عليه الخيال غيابيا ، واثناء هذه المرحلة يخطر ببال المحب شخصية المرأة الحبيبة في كل مناسبة .
6- ثم تأتي مرحلة الشك ، فيسأل المحب نفسه : " ما الذي يثبت لي انها تحبني ؟ وانها ستظل تحبني " ، فاذا استطاعت المرأة ان تقتل بذور الشك في قلب الرجل ، وأمنته على حبها ، نجد هذا الحب يتعرض للسأم والملل .
ويرى ستندال إن الرجل هو الذي يهاجم في الحب ، بينما المرأة تتخذ موقف المدافع ، هو يطلب وهي ترفض ، هو الذي يبدي شجاعة في كل المواقف ، بينما تتحصن المرأة وراء خجلها ، وهذه المقاييس التي يضعها ستندال لعصره ربما لم تجد لها رواجا في العصر الحديث .

****
هل يمكنني أن أكون عاشقاً ؟
جوليان سوريل بطل "الاحمر والاسود" شاب طموح عنيف المشاعر ، ابن لبرجوازي صغير ، تدفعه الظروف الى ان يدخل سلك الرهبنة الذي يتيح له فرصة التأمل ، لا سيما بعد هزيمة جيش الإمبراطور نابليون بطله المثالي خلال جميع مراحل العمل. خلال دراسته وتهيئته ليصبح قساً، يعرض عليه محافظ بلدته السيد راندال تدريس أبنائه. يرى جوليان في هذا العمل فرصته للدخول إلى الطبقة الارستقراطية ، وبلا تردد يعمل على إغواء زوجة راندل ، امرأة لم تعرف الحب من قبل ، وبفضل جهلها كانت تشعر بسعادة في حضور جوليان ، فتركت نفسها تنجذب اليه دون أن تشعر ، حتى اكتشفت الحقيقة ذات يوم فنجدها تسأل نفسها :" هل يمكن هذا الذي أحسه نحوه ..هو الحب ؟ " . وأشعرها هذا الاكتشاف بالقلق وبالسعادة في نفس الوقت ، وتغير في نظرها وجه العالم المحيط بها ، فبعد أن كانت تعيش برتابة ، اكتسى العالم من حولها فجأة بالضياء والسعادة ، أما جوليان فقد تأكد ان هذه العلاقة ستحقق له جزءا من السمو والارتقاء .فالمسألة أكثر منها مسألة حب فيجعل همه ان يكمل السعي نحو هدفه الدخول الى هذا العالم الارستقراطي . ويغمر جوليان شعور غامر بالسعادة ، لا لأنه يحب وإنما لأن عذابا رهيبا قد انتهى ، واعقبه شعور بالانتصار ، انه مازال في مرحلة الحب من أجل الزهو ، أما مدام دي رينال فهي على العكس منه ، وتسأل نفسها حائرة :" ماذا هل يمكن ان أكون عاشقة ؟ ، انا المرأة المتزوجة ؟! إنني لم احس يوما نحو زوجي شيئا من هذا الجنون الأسود الذي يجعلني لا اريد أن أبعِد جوليان عن خاطري ! ..ثم انه فتى يملأ نفسه الاحترام والتوقير لي ..كلا إن هذا إلا محض جنون عارض سوف ينقضي " .
ينجح جوليان في مسعاه ويصبح الاثنان عاشقين، يشيع أعداء المحافظ الأقاويل حول غراميات السيدة رينال مع الشاب جوليان . ولتجنب الفضيحة ينقل الشاب إلى دير بيزانسون. وفي الدير يستطيع جوليان أن يحظى بإعجاب مديره جيرارد الذي يشجعه ويدعمه ليكون كاهناً نظرا لمثابرته وتميزه على أقرانه.
ومع تجاوزه لزملائه في تحصيله يثير حفيظة القساوسة والتلاميذ على حد سواء، وحينما يقدم المدير استقالته نظرا لعزوفه عن مشاركة الكنيسة في المؤامرات السياسية يدرك بأن جوليان سيفقد حمايته، وعليه يرشحه لصديقه الماركيز دومول ليكون سكرتيره الخاص.
وسرعان ما يدرك جوليان بأن منصبه الجديد سيساعده ثانية على دخول أوساط النبلاء الذين كانوا يصرون على تجاهله، وعليه لم يتردد في اغتنام الفرصة الجديدة حينما أظهرت ابنة الماركيز ماتيلدا إعجابها به. وعندما تكاشف ماتيلدا والدها بأنها حامل من جوليان، يرضخ لطلبها بأن يمنح حبيبها لقباً رفيعاً وأن يبارك زواجهما نظرا لحبه الشديد لها.
وما أن يشعر جوليان بأنه كاد يحقق حلمه بالكامل، حتى تصل رسالة من السيدة راندال إلى الماركيز تخبره فيها بأنه شخص انتهازي ودون جوان وضيع ولا هدف له سوى جمع الثروة. وهكذا ينهار حلمه ، مما يثير غضبه ويدفعه إلى التوجه مباشرة إلى بيت رندال ، وبلا تردد يطلق رصاص مسدسه على السيدة راندال التي تنجو باعجوبة ، لكن المحكمة تصدر عليه حكما بالإعدام. وفي المرافعة تصل حبكة القصة إلى ذروتها حيث يكشف ستاندال عن واقع المجتمع الفرنسي في تلك الفترة من خلال خطاب جوليان الذي يبين بأن حكم الإعدام الجائر عليه إنما بهدف اجهاض حلم كل كل فرد في المجتمع من أبناء الطبقة الفقيرة من ان يرتقي في المجتمع .وقبل إعدامه يكتب جوليان رساله الى خطيبته يخبرها فيها بان حلمه كان مجرد طموح زائف جرده من حياته الحقيقية ، ويخبرها بان حبه للسيدة رينال كان صادقاً.

××××
حروف 11 امرأة
هل ذاق ستندال الحب ، هذا السؤال يطرحه معظم الذين قرأوا رواياته ، وهم يتنقلون في صفحات من الحب العنيف الذي يعيش فيه أبطال هذه الروايات .
كانت أول امرأة اثارت اهتمامه ، ممثلة شاهدها على احد المسارح تدعى " مدام كابلي " لكنه كان حبا ساذجا ، ومن طرف واحد ، كان ستندال انذاك في السادسة عشرة من عمره ، يتردد على المسارح بحثاً عن هذه الممثلة ، واذا ذكر اسمها امامه يحمر وجهه ، وتشاء الصدف ان يلتقيها مرة واحدة فأغمي عليه من المفاجأة ..لكنه يلتقي بزميلة لها وهي ممثلة مغمورة تكبره بثلاثة اعوام ، يصاب من ورائها بمرض تناسلي عانى منه حتى آخر يوم في حياته .
بعدها نراه يهيم عشقاً بفتاة تدعى " فكتورين " ، كانت أخت احد اصدقائه ، لكنه لم يلبث أن تركها من اجل عيون امرأة جميلة تكبره بعشرة اعوام اسمها " انجيلا " ، سرعان ما تخلصت منه . في باريس التي وصلها بداية عام 1800 ، كان يبحث عن حب جديد فوجده في " ميلاني لوزان " ويصف لنا في يومياته اللقاء الاول معها :" ذهبت لزيارة ميلاني ، وانا أرتجف ، وكلفتني باشعال النار في المدفأة ، فسرتني هذه المهمة ، الدالة على رفع الكلفة ، وبقينا معا حتى ساعة متأخرة من الليل .كنت سعيداً جداً ، وودت لو احست هي بمثل سعادتي ، كانت رائعة وهي تسرد لي اقاصيصها الطريفة ، وقد جلست قبالتها أحدق في عينيها ، ولابد انها أحست بمدى الانفعال الذي أثارته روحها الرقيقة فيَّ ، أن الفرح الذي ظهر على وجهها يثبت انها تحبني ! اما أنا ، فحسبي أن فمي وحده هو الذي تكلم ، بينما كان قلبي مشغولاً " .
وبعد ايام يصف زيارة اخرى لها : " اني عائد تواً من عند لوزان ، ويخيل إلي اني لم أكن في يوم من الايام سعيدا مثلما كنت اليوم ، وانا ألبس سترتي الأنيقة ورباط رقبتي الفاخر ، وقبعتي الجديدة ، ولساني منطلق لايتلعثم ، لقد سرقت روحي من خلال حديثي ، فأنستها قبح وجهي ، واشتركت اناقة ثيابي في اخفاء ملامحي المنفرة " .
وظفر ستندال بلوزان اخيرا ، وحين سافرت الى مرسيليا عام 1805 لحق بها ، لكن ظروفه المالية اضطرته بعد فترة الى العودة الى باريس ، وهناك يتعرف على مدام رو زوجة صاحب العمل ، حاول ان يفاتحها بحبه ، لكنه خاف من غضب الزوج ، وفي هذه الاثناء يلتقي ثانية بحبه القديم انجيلا ، والتي كانت قد تزوجت ، وقد تذكرته بصعوبة ، بعد ان أخبرها انها كانت تطلق عليه في الماضي لقب " الصيني البائس " ، وحين يعترف لها بحبه تسأل مستغربة : " لماذا لم تصارحني بحبك يومئذ " . وتتوطد العلاقة بينهما ، لكنه يكتشف انها تخدعه ، وقد وصفها في يومياته بانها :" كانت سمراء رائعة ، حادة الشهوات ..وخليلة مثالية ..لكنها تحمل قلب شيطان " .
وعلى إثر انفصاله منها ، يقع في قصة حب جديدة ، هذه المرة فتاة شابة تدعى " ماتيلد " وقد اضافها الى قائمة محبوباته التي بلغن احدى عشر ، واللواتي راح يتسلى في آواخر حياته ، برسم لوحات كبيرة عليها حروف اسمائهن ليعلقها في البيت .
إلا ان من بين هذا العدد من النساء والفتيات ، هناك قلة مَن بادلنه الحب ، اما الباقيات فهو يتحدث عنهن باعتبارهن يحملن عواطف متواضعة ، والواقع ان ستندال كان متواضعا حتى في اختياراته ، فمعظم اللواتي عشقهن كن جميعا متوسطات الجمال ، فقد كان لايولي اهمية لجمال الشكل قدر عنايته بجمال المشاعر فكتب عن ميلاني انها :" ليست جميلة ، لكنها سامية " ووصف اخرى بقوله :" لم اكن اتصور ان مثل هذه المشاعر الجميلة يمكن ان توجد على الأرض " . والواقع ان اولئك النساء اللواتي ملأن حياة المسيو ماري - هنري بيل الملقب بستندال ، هن اللواتي ملأن فيما بعد روايات ستندال وقصصه بحكايات الغرام .

***×
فن الحب
يكتب اريك فروم في كتابه الشهير " فن الحب " ، ان ستندال أراد في كتابه عن الحب ، أنْ نحب من دون أنْ نعرف كيف نحب يجرح مَنْ نحب ، إنه يقدم لنا عاطفة مُربكة إلى أقصى مدى من خلال رواياته التي دائماً ما تطرح الحب جانباً بوصفه شيئاً يحدث لنا بتأثير سلبي ومُصادفة، شيئاً نقع في شباكه، يُصيبنا كسهم، وليس ممارسة بارعة نُنَميها بمهارة دقيقة كأية حرفة تتطلب تفوقاً إنسانياً. لعل فشلنا في الاعتراف بجانب البراعة هذا هو السبب الرئيس في أنَّ الحب يمتزج بالإحباط.
ويضيف فروم ان ستندال يريد أنْ يُبيِّن أنَّ الحب ليس عاطفة يمكن لأي إنسان أنْ ينغمس فيها، بغض النظر عن مستوى النضج لديه ، إنه يريد أنْ يُقنع قراء رواياته بأنَّ كل محاولاته لنيل الحب مصيرها الفشل، إلا إذا حاول بكل حماس أنْ يُطوّر شخصيته كلها، وذلك لكي يُحقق توجّهاً مُثمراً، وأنَّ الإشباع في الحب الفردي لا يمكن بلوغه إلا بالقدرة على الحب بمذلّة حقيقية، وشجاعة، وإيمان وانضباط.
العام 1841 وفي أحد شوارع باريس كان الرجل الضخم الجثة يجر قدميه بصعوبة ، يتذكر تلك الأيام الجميلة حين كان يصوب بصره الى النساء ، أما الآن فالبصر تعبان واليد ضعيفة ، والعينان ترقدان خافتتين ، شفته السفلى ترتعش ، فقد أصيب قبل ايام بنوبة دماغية مؤلمة ، لم تعد باريس كما كانت يوم وصلها وهو شاب صغير ، تغيرت كثيرا ، هاهو الموت يتقرب اليه ، ينقل نظراته المتعبة بين المتنزهين ، يقترب من احدى النساء التي تسأله وهي تبتسم عن مهنته فيجيبها بصوت متقطع : "انا مراقب القلب البشري" ، وما أن يتركها ويسير خطوات حتى ينهار وقد جحظت عيناه وإزرقّ وجهه ، لقد اصابته النوبة من جديد ، يتجمع المارة حوله ، ثم يحملونه الى غرفته في الفندق ، حيث الأوراق تتوزع على المنضدة وعلى احداها كتب : " 12 آذار باريس 1841 لا اجد شيئاً مضحكاً في ان أموت في الشارع ، مادمت لا أفعل ذلك عامدا."
احب ستندال النساء منذ طفولته ، وقد كان يحب ان يتخيل نفسه منقذا لامرأة مجهولة جميلة من الخطر ، وحين وصل باريس كتب لأحد اصدقائه : "ما أبحث عنه امرأة ساحرة وسوف أعبدها مثما أجعلها تعرف أسرار روحي." وعندما تقدمت به السن كان يكتب في أوراق ملونة الأحرف الاولى من اسماء النساء اللواتي احبهن ، لقد كانت النساء شغفه الرئيسي وجوهر حياته .
الصديق الرقيق للنساء ،كما اطلقت عليه سيمون دي بوفوار، لم يكن يؤمن بالغموض النسوي ، وكان يذوق متعة التأمل أمام المرأة ، وهو مسحور بها كما يسحره المنظر الطبيعي او اللوحة الفنية : "من المستحيل فهم رقة النساء وحساسيتهن وحرارتهن من غير أن يصبح الرجل بدوره ذا روح رقيقة وحساسة وملتهبة ، فالعواطف النسائية تخلق عالماً من ظلال الألوان ومتطلبات يكون اكتشافها مثرياً للرجل " .
ان ستندال على الرغم من امتداحه كثيرا كطبيب للنفس البشرية ولعلاقات الحب ، فانه يبدو لنا اليوم اشبه بفيلسوف في بحثه عن الحقيقة الواعية للرغبة وهو يرى ان الغرور والزهو الباطل ، هو محور الحب العاطفي ، وبالواقع اذا وقعت أنتَ قارئ ستندال في الحب ، فكل شيء في حالتك لايعد مرضا بل غرورا وزهوا باطلا ، انه شكاك يؤمن بالحب " تلك هي خلاصة رأي بول فاليري في ستندال .
 
الحب على طريقة الفلسفة الوضعيّة
 علي حسين



17

في 12 أيار عام 1915، كان الطالب القادم من مصر قد تقدم لنيل شهادة في التاريخ والجغرافيا في كلية الآداب جامعة مونبليه، وكانت الفتاة الفرنسية سوزان قد بلغت العشرين من العمر، وبين الساعة السادسة والسابعة صباحاً، حدث ما يشبه المعجزة ، لتكتب سوزان بعد ذلك بستين عاماً، في مذكراتها التي أسمتها معك : " لم يكن ثمة شيء في ذلك اليوم ينبئني بأن مصيري كان يتقرر، ولم يكن بوسع أمي التي كانت بصحبتي أن تتصور أمراً مماثلاً ".


نحن الآن أمام فتاة فرنسية متعلمة ومن طبقة متوسطة، تسعى للحصول على عمل، وكانت أمامها وظيفة قارئة لطالب أجنبي وضع إعلاناً في صحيفة محلية. وبعد سنوات طويلة يقصُّ علينا طه حسين حكاية اللقاء الأول فيقول: "كنت أوّل اجنبي تلتقيه هذه الفتاة، وكانت أول فتاة تزورني، وكان من الطبيعي إذن ألا تجري محادثاتنا مجرى سهلاً" (من حوار مطوّل مع غالي شكري نشر بكتاب ماذا بقى من طه حسين؟).
سوزان من ناحيتها قالت إنها كانت مرتبكة، وفي حوارها الوحيد الذي أجرته مع الصحفية المصرية أمينة السعيد ونشر في مجلة المصور عام 1962 تقول : "كنت على شيء من الحيرة، إذ لم يسبق لي في حياتي أن كلمت أعمى"، ولكنها تكتشف فيما بعد أنه لم يكن اعمى، بل اجنبي فقط وكان بحاجة الى قارئة باللغة الفرنسية، وستقوم هي بالدور المطلوب منها، ونراها بعد أشهر تتجاوز كونها مجرد قارئة، لتتحول الى مرشدة تدله على خفايا الأدب الفرنسي: "كانت صديقتي وأستاذتي وأنا مدين لها أن تعلمت اللاتينية من خلالها ونجحت في نيل إجازة الآدب، وأنا مدين لها أخيراً حين استطعت أن اقرأ افلاطون بلغته الأصلية ".
ذات مرة، كتب طه حسين الى زوجته سوزان يقول: "بدونك اشعر اني اعمى حقاً. أما وأنا معك، فإني اتوصل الى الشعور بكل شيء، واني امتزج بكل الأشياء التي تحيط بي" . وعندما رحل هو عن العالم، كتبت هي تقول: " ذراعي لن تمسك بذراعك أبداً، ويداي تبدوان لي بلا فائدة بشكل محزن".

****
الحب في عصر التطور العلمي
في باريس يتعرف طه حسين الشاب على أعمال الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي أوغست كونت، وكان هذا الفيلسوف الذي ولد عام 1798 وتوفي 1857، قد وضع اثناء حياته كتاباً عن الحب أراد من خلاله التبشير بفلسفة تنطوي على مفهوم جديد للحب والعلاقات بين البشر، كان كونت يؤكد لتلامذته أن مفهومه للحب هو وحده الملائم لعقل البشر في عصر التطور العلمي.
ونجد طه حسين بعد اكثر من عشرين عاماً، ينشر في مجلة الرسالة مقالاً بعنوان "قصة فيلسوف عاشق " يقول فيه: " لم يعرف التاريخ عاشقاً مثل صاحبنا – يقصد كونت - أراد أن يشرك امرأة من النساء في حبه وهيامه، وأن يختصها من هذا الحب والهيام بمثل ما اختص به آلهة الحكمة نفسها ".
عام 1840 كان اوغست كونت يلقي محاضراته في الفلسفة الوضعية، فأثار اهتمامهأحد الطلبة "مكسيمليان ماري" الذي اصبح التلميذ المقرب من مدرس علم الفلك ، وتشاء الصدف أن يلتقي اوغست كونت ذات يوم بالطالب مكسيمليان وشقيقته "كلوتيد" التي ستصبح ملهمته في مجال الفلسفة ، حين رآها كانت في الرابعة والعشرين من عمرها، فيما كان يبلغ الثانية والاربعين من عمره ، مرت بتجربة زواج فاشلة عندما كانت في الخامسة عشر من عمرها ، حين تركها زوجها المقامر وهرب الى جهة مجهولة، التقاها الفيلسوف فوجد فيها صورة للفتاة الحزينة، لكنها لم تجد فيه سوى صورة الانسان الدميم ، قبيح الشكل، وأزعجها صوته الغليظ، وقالت لإخيها :" لم استطع التخلص من فكرة انني بمواجهة انسان منعزل" . ويكتب كونت في دفتر يومياته: "عرفت على الفور انني دخلت مرحلة الخطر"، يكتب عبد الرحمن بدوي في كتابه الممتع عن أوغست كونت: "في تلك اللحظة بدأت واحدة من أعظم قصص الحب في تاريخ الفلسفة، ومنها تأسست فلسفة إثارت الكثير من الجدل".. كان اأوغست كونت قد مر بتجارب مرة مع عدد من النساء، ويخبرنا في دفتر يومياته أن حياته الجنسية لم تنفصل يوماً عن احلامه عن الحب ، تعرّف على أول امرأة في حياته عندما كان في الثامنة عشرة من عمره : "نمت معها من دون حماسة لأنها كانت امرأة قبيحة ". بعد ذلك كانت ثمة امرأة من اقاربه قضى معها اشهر قبل أن يكتشف انها تكره الذين يستخدمون عقولهم، وحين بلغ العشرين من عمره، عاش قصة حب عنيفة مع "جيرمين" احدى زميلاته في الكلية فكتب لها : "احبك إلى درجة الجنون"، لكنها تقابل هذا الجنون بردٍ قاس: "وجدتك بسيطاً، لايمكن أن ترتبط حياتي بك". وحين فشلت قصة حبه ذهب الى احد الحقول : " بكيت كثيراً فقد كنت ثملاً، لكني شعرت بالراحة، فقد تصرفت أخيراً على نحو صائب، لاحب بعد اليوم، الفلسفة هي حبيبتي".
كان كونت يجد الراحة عند زيارة عائلة "كلوتيد" وقد اخذت الفتاة تلقي عليه ببعض ما تكتبه من شعر، ولم يكن هذا الفيلسوف يحب الشعر ويجده مضيعة للعقل، فيحدثها عن الفلسفة الوضعية، وعن مجلداته الخمسة التي نشرت مؤخراً ، وعن دروسه في الفلك، ولانها ارادت ان تجامله ، اخذت تقرأ بعض وؤلفاته ، دون أن تفهم منها شيئاً، لكنها في المقابل بدأت تؤثر بالفيلسوف الوضعي ونراه يكتب : "ما قيمة التفكير العقلي، ومتى كان الرجل رجلاً دون قلبه، ومتى كان الانسان انساناً بالتفكير دون الحب، إن الانسان لايستطيع أن يفكر في كل وقت، لكنه يستطيع أن يحب دائماً " .
يستعرض طه حسين في مقاله عن أوغست كونت والذي نشر عام 1934 المراحل المختلفة التي مر بها حب الفيلسوف للشابة كلوتيد، وقد تمثلت في السعي نحو الحب الأسمى، ويخبرنا طه حسين أن الفيلسوف عندما تعرف على كلوتيد كان يعيش حالة من اليأس، لكنه بدا بعدها ، يبدأ حياة جديدة، حين اربكت هذه الشابة حياته، يكتب في دفتر يومياته: "انا متعطش لهذا النوع من النساء، وسأضع نفسي في خدمتها دوماً".
في كتابه عن الحب يكتب اوغست كونت: "لا ريب في أن الفلسفة الوضعية تكفي لفهم قوانين العالم الموضوعي الفيزيائي. إنها تكفي لتحقيق التقدم والتطور على هذه الأرض. إنها تكفي لاختراع الآلات التكنولوجية التي تريح الإنسان من بذل الجهد العضلي المرهق كما كان يفعل في العصور السابقة. إنها تكفي لتحسين معيشة الإنسان وتطوير علم الطب والقضاء على الأمراض وتحويل حياة الناس إلى جنة.. ولكنها لا تكفي لفهم الوجود وإعطاء معنى للحياة. ولذلك فإن دين البشرية الجديد هو الحب ، وهو وحده الذي يتصدى لهذه المهمة الصعبة ويقدم للإنسان كل العزاء والطمأنينة في هذا العالم " . ويضيف كونت: " على الرغم من تقدم العلم في عصرنا إلا أن الإنسان لا يستطيع أن يستغني عن التمسك بالحب. ولا ينبغي أن يغتر الإنسان كثيراً بنفسه لأنه حقق كل هذا التقدم العلمي والتكنولوجي في عصر الحداثة ، ينبغي عليه أن يتواضع ويعترف بوجود قيم أخرى في الحياة. وهي قيم قائمة على الحب، قائمة على تطهير روح الإنسان من الداخل لكي يتخلص من أنانيته وكرهه للبشر الآخرين" .
****
بدونك أشعر اني أعمى حقا
يكتب طه حسين عن الحب في مقال نشر عام 1945 في مجلة الكاتب :" إنما هو الحب الذي يطمع في كل شيء و يرضى بأقل شيء، بل يرضى بلا شيء، بل هو سعيد كل السعادة ما وثق بأن بيتاً واحداً يحويه مع من يحب و يهوى. هو الحب ما في ذلك من شك، لكن الشك المؤلم المضني إنما يتصل بالقلب "
وتكتب سوزان طه حسن في كتابها الممتع " معك " ، وهي تستذكر أيام اللقاء الاولى بطه حسين :" كنا أمي وأختي وأنا قد أقمنا فى باريس وكنا نلتقي، وكان ثمة غرفة شاغرة في بيتنا، وكان - طه - يبدو مهملاً ضائعاً برغم حضور أخ له لم يكن للأسف معينا، بحيث إن أمي اقترحت عليه المجيء للسكن عندنا، وقبل ولكن بعد كثير من التردد لأنه كان شديد الخجل في حياته اليومية ، لم يقبل إطلاقا أن يتناول وجباته معنا، كان ثمة قارئة تأتيه بانتظام، وكانت هناك سيدة أكبر في العمر تصحبه إلى السور بالجامعة ، لكني شيئا فشيئا أخذت أتدخل في ذلك وأصحبه أنا الأخرى إلى الجامعة من وقت لآخر حتى بت أصحبه غالبا، وكنت أقرأ له عندما يكون وحيداً، كنا نتحدث بكثرة، وكان يحقق تقدما عظيما في اللغة الفرنسية!!
وذات يوم قال لي: اغفري لي، اريد ان تقرأي لي شيئا من أوغست كونت
قلت له : أوغست كونت .. المعذرة لم اسمع بهذا الاسم من قبل .
وكان لابد لي ان ابحث عن كتب هذا الفيلسوف ، ويوم وجدتها امتلأ قلبي بالفرح ، بعد ايام وأنا اقرأ له فصلا كتبه اوغست كونت عن الحب ، سمعته يقول لي المعذرة ، لابد ان أقول لك شيئا ، ثم صمت وبعد دقائق قال : أنا أحبك!!، وصرخت وقد أذهلتني المفاجأة بفظاظة: ولكني لا أحبك!! كنت أعني الحب بين الرجل والمرأة ولا شك ، فقال بحزن: آه إنني أعرف ذلك جيدا وأعرف جيدا أنه مستحيل "
ويخبرها ذات يوم انه معجب بوصية فولتير الشهير من أن على المحب أن يلحّ في حبه حتى يظفر بمن تحب أو تفنى دونه. وتكتب سوزان : " ولكن هل من الممكن أنني كنت محبوبة على هذا النحو، وأننى كنت المقصودة بكل هذا السيل من الحنان والعاطفة وهذا القدر من الحب الذي كان على أن أحمله وحدي؟! "
في كتابه الأيام يكتب طه حسين : " وتسأله الفتاة ذات يوم وقد خلت اليه تقرأ عليه بعض ماكانا يقرآن ، فيريد ان يلتوي بالجواب ، فتلح عليه واذا هو ينبئها مريدا او غير مريد بأمره كله
فتسمع له ثم تأخذ في القراءة حتى اذا أتمتها وهمت ان تنصرف قالت له في رفق
- وإذاً فماذا تريد
- قال الفتى : لا اريد شيئا
- قالت : فاني قد فكرت فيما أنبأتني به وأطلت فيه التفكير ، ولم انته بعد الى شيء ، وقد اوشك الصيف ان ينتهي ، فأصبر حتى اذا كان افتراقنا فستصل بيننا الرسائل .
- ولم يسعد الفتى بشيء قط ، كما سعد بهذا الحديث ، فاخيرا ستكتب اليه وحده". وذات مرة كتب طه حسين الى زوجته سوزان يقول: " بدونك أشعر اني أعمى حقا. اما وانا معك، فإني اتوصل الى الشعور بكل شيء، واني أمتزج بكل الاشياء التي تحيط بي" . وعندما رحل هو عن العالم، كتبت هي تقول بعد رحيله: " ذراعي لن تمسك بذراعك أبداً، ويداي تبدوان لي بلا فائدة بشكل محزن، فأغرق في اليأس، اريد عبر عيني المخضبتين بالدموع، حيث يقاس مدى الحب، وامام الهاوية المظلمة، حيث يتأرجح كل شيء، اريد ان أرى تحت جفنيك اللذين بقيا محلقين، ابتسامتك المتحفظة، ابتسامتك المبهمة، الباسلة، اريد ان أرى من جديد ابتسامتك الرائعة.
كان طه حسين في السادسة والعشرين من عمره ولم يكن كاتبا معروفا عندما قرر ان يتزوج من سوزان وتذكر هي في مذكراتها ، انها: " ذات يوم صرحت برغبتها في الزواج منه فصعقت العائلة وأخذ جميع افرادها يصيحون فيها غاضبين: كيف؟ من أجنبي؟ وأعمى؟ وفوق ذلك كله مسلم؟" ، غير إن الفتاة كانت قد اختارت. وجاءها العون من عم لها كان قسا، فقد قال لها بعد ان تنزه مع طه حسين مدة ساعتين في حقول باريس : "بوسعك ان تنفذي ما عزمت عليه.. لا تخافي، فبصحبة هذا الرجل يستطيع المرء أن يحلق بالحوار ما استطاع الى ذلك سبيلا، انه سيتجاوزك باستمرار" . وفيما بعد سوف تكتشف السيدة سوزان ان عمها كان على حق..فتتم مراسم الزواج في بداية آذار من عام 1917 .
في العام 1922 وبعد مرور خمسة أعوام على الزواج يكتب طه حسين اغنية خاصة لزوجته سوزان، ويقدمها للملحن المعروف انذاك كامل الخلعي الذي يعجب بها ، فيقوم بتلحين كلماتها لتغنيها أشهر مطربات زمانه منيرة المهدية‏,‏
وظهرت الأغنية في أسطوانة سجلتها شركة فونوغراف ومكتوب عليها أنها من كلمات الدكتور طه حسين ، تقول كلماتها:
أنا لولاك ما كنت ملاك‏..‏ غير مسموح أهوى سواك‏..‏ سامحني
بين العشاق أنا مشتاق‏..‏ أبكي وأنوح بالأشواق‏..‏ صدقني
عهدك فين يا نور العين‏..‏ بالمفتوح تهوى اتنين‏..‏ جاوبني
واحد بس يهوي القلب‏..‏ قلبي ينوح له بالحب‏..‏ طاوعني
أنا أهواك مين قساك‏..‏ أنا مجروح غايتي رضاك‏..‏ واصلني
ما أحلاك وقت رضاك‏..‏ لما تلوح ما أبهاك‏..‏ كلمني
كتب لها يقول ذات يوم :" أمنعك من أن تكونى حزينة، وآمرك بالابتسام، لا تقولي شيئاً. الآن، تعالي إلى ذراعي. أحبك حتى نهاية الحساب.. أحبك وأنتظرك، ولا أحيا إلا على هذا الانتظار”. في إحدى الليالي، كانت سوزان نائمة، فأشار طه إليها، وقال لابنته أمينة: هذه المرأة جعلت من أبيك إنسانا آخر.
****
بين الايام واللحظات الاخيرة
في كتاب "الايام" نرى طه حسين ويرانا ، وتخبرنا سوزان في "معك" ان فكرة الكتاب نضجت بعد ان تعرض عميد الادب العربي الى موقف عنيف بسبب صدور كتاب له في الشعر الجاهلي ، وخوفا على حياته سافر الى احدى القرى في باريس. وهناك وفي تسعة أيام بدأ يكتب سيرة الطفل الضرير والتي صدر عام 1926 الجزء الاول منها بعنوان "الايام" ، وفيه نقرا صفحات ناصعة جريئة من نضال الانسان وكفاحة واصراره على خوض المستحيل .
هذا الكتاب هو الرسالة التي وجهها طه حسين لابنته البالغة آنذاك تسعة أعوام : "نعم يا ابنتي لقد عرفت ابيك في هذا الطور من حياته ، واني لأعرف ان في قلبك رقة وليناً ، واني لأخشى لو حدثتك بما عرفت من امر ابيك حينئذ ان يملكك الإشفاق وتأخذك الرأفة فتجهشين بالبكاء". كتب طه حسين الكتاب وهو في السابعة والثلاثين من عمره ، وطبع الكتاب اكثر من خمسين طبعة وما زال يطبع ويجد قارئا جديدا كل يوم ، وهو يقول لغالي شكري : " ليس الغرض من الايام ان اصف حياتي ، وانما كنت اريد ان ادرس حياة المجتمع المصري في ذلك الزمان" وهو يرسم لغالي شكري حدود نظريته الفنية في كتابة السيرة فيقول: "خصلة اخرى حببت إلي نشر هذا الكتاب ، وهي انه يؤرخ حياة الطالب في الازهر وفي الجامعة المصرية ، وهو نوع جديد من الكتابة ، لست ابحث من خلاله عن الاولوية في القيمة وانما اكتفي بهذه الاولوية نفسها مغريا بنشر المعرفة بين الناس ، ولست اتخذ من اولويته فخرا وانما اتخذ منها معذرة ان كان فيه بعض النقص ". في يوم 27 تشرين الاول 1973، أصيب طه حسين بوعكة صحية ، ولما جاء الطبيب لفحصه زالت النوبة وعاد صاحب "الأيام" الى حالته الطبيعية، كانت برقية الأمم المتحدة التي وصلت عصر ذلك اليوم تعلن فوزه بجائزة حقوق الانسان، غير انه لم يسعد كثيرا بتلك البرقية ، وبإشارة من يده تعرفها زوجته جيدا ، علّق على ذلك قائلا: " أية حماقة ، يريدون ان يجعلوا من رجل اعمى قائدا لسفينة ؟ " صبيحة اليوم التالي شرب العميد قليلا من الحليب، ثم لفظ انفاسه. وفيما بعد كتبت زوجته تقول واصفة مشاعرها في تلك اللحظة العصيبة: "جلست قربه، مرهقة متبلدة الذهن وان كنت هادئة هدوءا غريبا ، ما اكثر ما كنت اتخيل هذه اللحظة الصعبة، كنا معا وحيدين، متقاربين بشكل يفوق الوصف. ولم أكن ابكي ـ فقد جاءت الدموع بعد ذلك ـ ولم يكن احد يعرف بعد بالذي حدث، كان الواحد منا مثل الاخر مجهولا ومتوحدا، كما كنا في بداية طريقنا".
وتروي سوزان لحظة الذهاب الى المقبرة بعد وفاة طه حسين ‏:‏ ذهبنا إلى المقبرة‏، ابنتك أمينة وابنك مؤنس وأنا‏..‏ لم أكن قد نمت جيدا‏، لكني حاولت الظهور بمظهر الهادئة‏.‏ إذا بكيت فإنما أبكي غيابك الذي لا دواء له‏،‏ وربما أبكي حياتي التي بت لا أتعرف عليها‏.‏ أرفع عيني وأنظر إلى الجرف المنحدر الأصفر للمقطم‏,‏ كنا نأتي إليه في بعض الأحيان صباحا ونتوقف على حافته‏، لكننا لم نكن نترك السيارة التي كانت تحمينا من شمس حادة حتى في الشتاء‏..‏ أفكر في تلك السعادات الصغيرة التي منحت لنا ونحن ساكنين في السيارة البويك القديمة‏..‏ كانت الأيام عذبة بلا حدود‏..‏ كانت نعمة‏..‏ ويبدو لي الآن أنني أرتكب عملا جائرا إذ أجد أن السماء جميلة وأن الصخرة جميلة وأن أوراق الشجر جميلة‏..‏ إذ أنني لا أملك الحق في ذلك ما دمت لا أستطيع أبدا أن أقول ذلك لك‏ "
وعلى قبره تقرأ قصيدة نزار قباني
يا حبيبي ويا حبيب البيان
ما علينا إذا جلسنا بركن
وفتحنا حقائب الأحزان
وقرأنا أبا العلاء قليلا
وقرأنا رسالة الغفران
آه يا سيدي الذي جعل الليل
نهارا‏..‏ والأرض كالمهرجان
وحدك المبصر الذي كشف النفس
إرم نظارتيك‏..‏ ما أنت أعمى
إنما نحن جوقة العميان
 
وجوه الحب الثلاثون..من دون نساء لا توجد موسيقى
 علي حسين

| 18 |

وانا ابحث في مكتبتي عن احد الكتب ، وقعت عيناي على كتاب صغير الحجم ، بعنوان بيتهوفن لمؤلفه حسن فوزي . ولمن لايعرف صاحب الاسم أقول ، انه كان ظاهرة في الثقافة العربية في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي . وقد اشتهر باسم السندباد المصري ، لانه وضع كتابا عام 1938 بعنوان سندباد عصري ، وبعدها اصدر كتاباً بعنوان سندباد إلي الغرب أهداه إلي صديقه الدكتور طه حسين.

وكتابه عن بتهوفن اصدره عام 1970 بمناسبة مرور مئتي عام على ولادة بيتهوفن ، ويخبرنا انه امضى في تاليفه اكثر من خمسة عشر عاما ، ويذكر مؤرخو سيرة حسين فوزي ان الرجل كان قصير القامة، ذوا صوت خافت وذاكرة يقظة، عين اول عميد لكلية العلوم في مصر ، ورغم حصوله على شهادة الدكتوراه في علوم الاحياء ، كان يعشق الفنون والموسيقى ، حتى انه تفرغ لها واستخدم ثقافته المتنوعة في الادب والتشكيل والموسيقى ليقدمها الى القارئ .
في مقدمته لكتاب بيتهوفن التي بعنوان " لويس ابو الغيط " يكتب حسين فوزي : ( عنوان هذا الفصل لايعدو ان يجيء تعريب لاسم لودفيغ فان بيتهوفن ، ان " فان " هنا تشير الى لقب من ألقاب النبلاء ، اما كلمة " بيتهوفن " فهي مركبة من كلمة " هوفن " وهو الحقل او الحديقة ، و" بيت " هو البنجر ، فيكون معنى اللقب حقل البنجر ، وتعريبه مختزلاً في دعابة " لويس ابو الغيط " )

****
قرار بأن يعيش الطفل
عندما بلغ العاشرة من عمره أفلس والده وأصبح انساناً فظاً عصبي المزاج ، وأمه التي كانت جميلة ذات يوم اكتأبت وانغلقت على نفسها ، كانت الأسرة غارقة في المشاكل ، الام ماريا انجليدا في الثالثة والعشرين من عمرها ، فقدت من قبل طفلين ، ثم وجدت نفسها حاملاً مرة آخرى من زوجها القاسي مدمن الخمر ، نصحتها احدى الممرضات بان تتخلص من الجنين ، فهو حتما سيموت عند ولادته ، وفكرت مع نفسها :" لماذا تريد إنجاب طفل لزوج قاسي ومفلس على الدوام " ، وأخيراً قررت أن تحتفظ بالجنين الذي أبصر النور في السابع عشر من كانون الثاني عام 1770 واطلق عليه اسم لودفيغ ، تيمناً باسم جده لودفيج فان بيتهوفن الذي كان يعمل مديرا لاحدى الفرق الموسيقية في بون وقد تأثر به كثيرا :" جدي الرائع الذي أشبهه كثيراً " ، بعد ذلك انجبت ماريا انجيلدا أربعة اخرين بقيّ منهم اثنان على قيد الحياة ، وبسبب متاعب الحياة عانت من امراض كثيرة لتتوفى بداء السل، وهي في الاربعين من عمرها ، ونجد الابن يصف أمه في احدى رسائله بانها كانت جميلة ذات قوام نحيف وعينين جادتين ، وستظل صورة أمه تلاحقه حتى مع النساء اللواتي تعرف عليهم في شبابه وقد أهدى لها فيما بعد سوناتة ضوء القمر :" انها حمم العاطفة ترتفع من حلق الجسد ، لحظة نحس فيها بان اشارة من امرأة هي كل ما تبقى لنا في الحياة " .كان البحث عن الحب والحنان مرتبطاً عند بيتهوفن بأحاسيس غريبة ، فهو شديد الإعجاب بأمه ، وقد هام وهو في الثالثة عشرة من عمره بفتاة تدعى " انجيليا " يصفها بهذه الكلمات : " كان لها وجهاً شبيها بوجه محبوبته الاولى ماريا – يقصد أمه – " .غير أن هذا الاعجاب لم يكن إلا البداية في طريق طويل من العواطف التي كانت تنتهي بالخسران ، اذ نجده يعود بعد كل تجربة حب فاشلة ، الى الانعزال ، فيما اسماء حبيباته وملهماته يتغير مع الزمن على دقات وقع قلبه ، غير أن نفس الفنان لاتنتقل من تجربة الى تجربة دون ان تحرك طاقته الابداعية ، حتى اننا نكتشف ان ارتباط مواهب بيتهوفن الموسيقية مرتبط بعواطفه وبنظرته الى مايجري حوله من أحداث ، ان أبتسامة امرأة تحرك مواهبه كما تحرك احاسيسه ، فقد كان في حاجة الى أن يعيش الحب حتى يبدع هو يعترف بصراحة الى شقيقه قائلا :" لم أعد في حاجة إلا الى امرأة بجانبي تحفزني حتى تنفجر ألحاني الموسيقية الرقيقة في روحي " ..
في فيينا التي قضى فيها سنوات من عمره ، تقبل عليه نساء الطبقة الارستقراطية اعجابا وتقديرا لموهبته ، لكنه يقع في غرام الواحدة بعد الاخرى ، لايلوي على شيء أكثر من الأمل بحب دائم ، لكن لا خلاص ولا حب ولا أمل ولا زواج ، فقد أحبت الطبقة الارستقراطية بيتهوفن الموسيقي البارع ، وليس بيتهوفن الذي لم يكن يتميزبالوسامة والثروة ، فقد كانت ملامحه وجهه تبدو قاسية ، لأنه حين يجلس إلى البيانو كان يتحدث بلغة جديدة يمتزج فيها الشعر بالانغام ويكتب في رسالة الى موزارت :" كل من يفهمون موسيقاي يرتفعون عن الدناءات التي يعممها البشر " . ، ولعل السر في حياة بتهوفن الغرامية لا علاقة له بامرأة واحدة ، او بقصة حب فاشلة ، وانما بسلوكه نحو النساء ، كان يعتقد نفسه مثل دون جوان ، الباحث عن المرأة المثالية دون جدوى ، والغريب انه لن يلقاها حتى اللحظة الاخيرة من حياته ، فقد كان بيتهوفن برغم هيامه بالنساء ، يكره الزواج ، ويخبرنا كاتب سيرته " ادموند موريس " ان الموسيقار العظيم كان يعتقد ان الزواج يعيق طريقه الى تحقيق الاعمال العظيمة "
كان بتهوفن شديد الحساسية فيما يتعلق بموضوع الجنس ، ومعظم كتاب سيرته يصفونه بالملاك الطاهر في غرامياته فيقول حسين فوزي في كتابه بيتهوفن :" ان العشق كان بالنسبة لبيتهوفن قوة دافعة في حياته ، لكن موسيقاه كانت بمنأى عن الانشغال بالجنس " . والحقيقة ان بيتهوفن لم يكن فارسا من فرسان الغرام ، لكنه كان ينظر الى العلاقة بين الرجل والمرأة كشئ منزّه فيكتب في احدى كراساته :" الاتصال دون موائمة روحية ، عمل بهيمي لايحس الإنسان في اعقابه بإحساس السمو ، وانما يورث الندم " .

****
الحب الأول
أحب بتهوفن في بداية شبابه مغنية اوبرا فكتب اليها يطلب الارتباط بها ولم ترد عليه بحجة انه لايملك المال ولا الوسامة فضلا عن انه نصف مجنون . وكان حظه من النساء يرتبط بالطبقة الارستقراطية ، الكونتيسة تريزافون، وتريزا مالفاي، والكونتيسة جوليا جيتشاري، والكونتيسة أردودي ، وأماليا زيبالد ، وبتينافون آرنم ، ولم تترك له هذه العلاقات العاطفية سوى المرارة والأسى . وعندما اصيب بمرض الصمم اصبحت علاقاته بالنساء أشد صعوبة ، يقول ادموند موريس في ترجمته لحياة بيتهوفن :" لو أن بتهوفن كان مثل كازاناوفا في جاذبيته للنساء ، لافتقر العالم اليوم الى سمفونية البطولة والقداس الاحتفالي والرباعية الرابعة عشرة".
في يومياته يكتب بيتهوفن حول قراره بعدم الزواج:" الخضوع ، الخضوع المطلق لقدرك ، هذا هو وحده القادر على ان يهبك التضحية ، لا يمكنني ان أسير في الطريق نحو العبودية ، ان عليك ان تُخضع كل شيء لإرادتك ، وابق على الدوام ملازما لفكرتك ، لاتحيد عنها " ونجده عام 1812 يكتب لشقيقه :" ما اشد الاختلاف حين اقارن ذلك بحياة غير مدروسة طالما تُثار بخيالي ، آهٍ أيتها الاوضاع المخيفة التي لاتكبت شعوري وهاجسي تجاه الحياة البيتية ، ولكن تنفيذها ياالهي أمر صعب " .
ونعود ليومياته فنجده يكتب عام 1913 :" ربما لن تعود بعد الآن رجلاً ، لا لنفسك فقط بل للاخرين ، فليس هناك بعد الآن من سعادة إلا في ذاتك ، في فنك ، آهٍ ياالهي أعطني القوة لقهر نفسي ، لاينبغي ان يأسرني أي شيء ويقيدني للحياة ، وهكذا فكل شيء له صلة بالنساء سيمضي الى حيث يُدمر ويفنى " .
ان هاجس الحياة البيتية والحب الذي يشير اليه بيتهوفن في رسائله ويومياته كان قوياً جدا ، في تلك الفترة كان قد بلغ الاربعين من عمره وعلى الرغم من سوء صحته ، إلا ان نشاطه وحيويته كانت تشير الى شاب لم يتجاوز الثلاثين ، شهرته كبيرة ، والكثير ينظر اليه بوصفه أعظم المؤلفين الموسيقيين ، أما وضعه المالي فقد تحسن كثيرا ، ذهبت أيام العوز
في عام 1809 كان بيتهوفن قد دُعي الى مدينة كاسل للعمل في القصر الملكي بمرتب سنوي كبير ، وكان على وشك القبول حينما طلب اليه أحد امراء فيينا الامير كينسكي بالبقاء في المدينة مقابل راتب سنوي لم يكن يحلم به وقدره أربعة آلاف فلورين ، هذا الراتب ومعه الايرادت التي تصل اليه من مؤلفاته الموسيقية جعلته يتأمل من جديد بفكرة الزواج ، ويكتب الى شقيقه إن فكرة الزواج هي ما يتوق اليه أكثر من توقه للاتصال والاتحاد بامرأة فريدة لايمكن استبدالها ، ورغم أن الزواج من غير حب كان أمراً مستحيلا لدى بيتهوفن ، إلا أن موقفه من الحب كان رومانتيكياً في جوهره ، فقد كان يرى في كل وجه جميل عقل نبيل ، وفي المجتمع الارستقراطي الذي عاش فيه كان الجمال النسوي من الامور المعتادة ، ولهذا نجده يعيش في اضطراب عاطفي متواصل .كانت قدرته الابداعية في تزايد ، وقد وجد طريقا في الحياة على الرغم من إصابته بالصمم ، ولأول مرة بعد أن أمن وضعه المالي أخذ يشعر بانه قادر على أن يدع عواطفه تسير على هواها وبحريتها ، في تلك الظروف يكتب الى شقيقه :" قبل بضع سنوات انتهت حياتي الهادئة المنعزلة وقد اجتذبت رغم عني الى نشاطات في العالم ، ومع ذلك فانني استطيع ان أكون سعيدا ، بل أسعد الناس لو ان العفريت لم يأخذ مني سمعي ، ولو انني التقي بامرأة تفهم طبيعتي وتقدر عواطفي " .
وفي يومياته التي وجدت بعد موته نجد عددا من الرسائل كان يرسلها آنذاك الى بعض النسوة ، ففي خطاب الى الانسة جوليتا يكتب :" ياملاكي وياروحي ، هذه الكلمات أخطها اليوم وبقلم الرصاص ، هل يمكن لغرامنا ان يكون دون تضحيات ، ودون التخلي عن المطالبة بكل شيء ؟ فهل تستطيعين إلا أن تكوني لي وانا لكِ ، رباه ، تأملي الطبيعة الجميلة ، واهدئي بنفسك الى ما يجب ان يكون – الحب يطالب من حقه بكل شيء مني معك ، ومنك معي ، ولكنك في خفة طبعك مجبولة على النسيان ، مما يضطرني ان أعيش لنفسي ولك معا "
وفي رسالة الى الكونتيسة أردودي يكتب :" تتألمين ياحياتي وقرة عيني ، آه أنتِ معي حيث أكون ، معي ومعك ، وهكذا حتى نستطيع ان نعيش سوياً ، ياللحياة ، بدونك تطاردني هنا وهناك نظرات الناس ، أنني ابكي عندما افكر بانك لن تتلقي اول اخباري يوم السبت ، مهما كان حبك لي ، فان حبي لك أقوى وأشد". ويكتب الى السيدة برونشفيج :" افكاري تتابع وتتسابق اليك ، وانا في سريري أيتها الحبيبة الخالدة ، انا في لهفة لانتظار تحقيق أمانينا ، لا استطيع العيش إلا في اكتمالي بك ، فلا عيش ولا حياة لذا اعتزمت ان اعيش بعيدا حتى يحين الوقت الذي أطير فيه اليك ، وبين ذراعيك فأكون الغريب الذي عاد الى وطنه ، إنني الى جانبك استطيع ان أعرف روحي ، أنتِ ياحياتي ، ياكافة كياني ، لاتنكري ابداً القلب الوفي الذي ينبض بين جنبي".

****
حب يائس
في عام 1809 اعجب بيتهوفن بابنة طبيب تدعى تريزا مالفاتي ، ونراه في تلك الفترة يكثر من القطع الموسيقية العاطفية ، ويطلب من شقيقه ان يجلب له نسخة من شهادة تعميده استعدادا لاغراض الزواج ، وفي رسائل اخرى نكتشف ان بيتهوفن قام بخطوة نحو الأمام في موضوعة الزواج وقرر ان يخطب تريزا ، كانت الفتاة في التاسعة عشرة من عمرها ، وكانت مشهورة بانها من اجمل فتيات فيينا ، لكنه يفاجأ برفض الاب ، بعد ذلك تصله اخبار بان الفتاة ستتزوج فيكتب اليها : " سوف تتزوجين ياعزيزتي ، او ربما تزوجت الآن ولن استطيع ان اراك مرة أخرى ، اتمنى كل السعادة التي يسبغها الزواج على المتزوجين ، ماذا أحدثك عن نفسي ؟ اشفقي على مصيري ، هذا ما اصرخ به كل صباح ، واذا ما استطعت ان ادخر بضع سنوات لنفسي لهذه السراء وتلك الضراء ، فسوف اشكر الله العليم ، لانه سمح لي بلقاءك " .
وقد بدا واضحا ان اية آمال كان يضعها بتهوفن للزواج قد انتهت ، لكن لم يمض سوى عام حتى يلتقي سنة 1811 بألمالي سيباليد التي جاءت من برلين ، وقد وصفت أمالي بان لها صوتاً غنائياً جميلاً ساحراً ويبدو ان بتهوفن قد سحر بها على الفور فيكتب لها رسالة يخبرها فيها :انا هنا بلا معونة وبلا أمل ، وهذا هو السبب الذي يجعلني أكتب اليك ، ياأمالي العزيزة ، فأنا بحاجة الى ضوء القمر يسطع من جديد في حياتي " .

****
الملهمة الأخيرة
وفي العام 1811 يتعرف على سيدة تدعى بتينا امراة فاتنة في الثلاثين من عمرها وهي ام لاربعة ابناء وعازفة محترفة ، ولما كانت نحيفة وشاحبة ورقيقة يداهما المرض بين الحين والاخر فقد ذكرته بوالدته ، لم تتطور علاقة الحب بينهما على الفور ، لكن اهتمام بتهوفن بها حرك مشاعرها تجاهه ، وعندما كان يزورها في قصرها كان يتجاهل كل من في المنزل ويجلس الى البيانو ويتواصل معها " بلغته الخاصة " على حد تعبيرها ن وعندما يفرغ من قول كل شئ ةيفدم البهجة يرحل بهدوء ، وبحلول عام 1811 كانت مفتونة به وكتبت لاخيها تخبره " انه يسير مثل الالهة بين اللشر ، ومقفه النبيل الذي يتخذه ضد العالم الدنيوي ومعاناته من سوء الهضم كانا يثيران غضبه لفترة قصيرة فحسب لان الوجي يعانقه ويقربه من قلبه الدافئ ، استمر بتهوفن يزورها الى ان قررت عائلتها ان تبعدها عنه فسافرت الى باريس فنجده يكتب لها عددا كبيرا من الرسائل :"
"يا ملاكي، يا أناي... لماذا هذا الحُزن اللُجي، بالمنطق، هل لحُبّنا أن يستمر دون تضحيات، دون أن يعطي كلٌ مِنَّ الآخر أقصى ما في وسعه، هل يمكنك تجاهل حقيقة أنك لستِ لي بشكلٍ كامل، حقيقة أنني لستُ لكِ بشكلٍ كامل؟ يا إلهي، انظري حولك في الطبيعة الغنّاء، واستريحي من التفكير فيما يجب فعله ، الحب يتطلب كل شيء، ويجب فعل كل شيء مِن أجله... سنجتمع قريباً بلا أدنى شك؛ اليوم أيضاً لا يسعفني الوقت لأن أقول لكي ما كان يجول بخاطري في الأونة الأخيرة وما يدور في حياتي ، لو كانت قلوبنا دائمًا مُلتحِمة، فإن أفكار كتلك لن تؤرقني أبداً. إن قلبي يصبو شوقاً لأن أخبرك أشياء عِدّة – آه – أحيانًا أشعر أن الكلام يضيقُ بي – كوني سعيدة – كوني دائماً حبيتي، المُخلِصة، لي وحدي، مثلما أنا لك وحدك. وسيسعادنا الرب على تخطي كل شيء، مهما كان ما ينتظرنا، مهما كان قدرنا.
"في كانون الاول عام 1826 اصيب بيتهوفن بالتهاب رئوي لم يمهله طويلا وبعد ايام وجده الطبيب منزعجا وجسده اصفر بالكامل على نحو غير طبيعي ، لقد اصيب بداء الاستسقاء ، وفي اذار من عام 1827 وجدو الى جانب فراشه رسالة الى تيريزا كتب فيها :" حتى وأنا في سريري، أفكاري تأخذني كليا إليكِ، يا محبوبتي الأبدية، أحيانًا أشعر بالفرح، لكن سريعًا ما يتلقفني الأسى – متحيراً – هل سيستجيب القدر لدعائنا؟ لتستمر الحياة عليَّ أن أعيش معك تحت سقف واحد – أو لا أراك أبداً... يا إلهي، لماذا عليَّ أنا أفترق عن أعز إنسانة لي! لقد أضحت حياتي في فيينا بائسة – فحبي لكِ جعلني أسعد وأتعس إنسان على وجه الأرض.."وفي 29 اذار سار موكب طويل وراء جثمان بيتهوفن تراوح الحشود بين ثلاثين الى خمسين الف مشيع ، كان في مقدمتهم الفتاة تيريزا التي اصرت ان ترمي اخر زهرة على جسده قبل ان يوارى التراب


* عن جريدة المدى
 
دون جوان من كل مكان وزمان
 علي حسين

| 19 |

يخبرنا أوفيد في كتابه "فن الهوى" أن كلمة الحب كانت من أولى الكلمات التي عرفها الإنسان، وهي كذلك من أكثـر الكلمات التي تتردد على ألسن الناس، والحب كما شرحه لنا مؤرخوه ثلاثة أنواع، أولها الحب العذري كما يقول العرب، والافلاطوني كما وصلنا من الاغريق، وتعبير العذري نسبة الى قبيلة من العرب اسمها " بني عذرة " كان شبابها وفتيانها يحبون في اخلاص دون أن يفكروا في الزواج من المحبوبة أو معاشرتها وبلغ بهم الحال أنهم إذا احبّوا ماتوا حباً، " وقد قيل يوماً لرجل من بني عذرة: اتعدون موتكم في الحب مزية وهو ضعف البنية، وضيق الرئة ؟ فقال: والله لو رأيتم المحاجر البلج ترشق بالأعين الدعج من فوقها الحواجب الزج والشفاه السمر تفتر عن الثنايا الغر كأنها نظم الدرر، لجعلتموها اللات والعزى ولنبذتم الاسلام وراء ظهوركم "(الحب المثالي عند العرب.. الدكتور يوسف خليف). وقيل لإعرابي ممن الرجل ؟ فقال من قوم إذا أحبّوا ماتوا. فقالت امرأة سمعته: عذري ورب الكعبة، فقيل له مم ذاك ؟ فقال في نسائنا صباحة وفي رجالنا عفة.


بين أفلاطون ومجنون ليلى
أما افلاطون الذي علق الأوربيون نوع من انواع الحب على مشجبه، فهو الذي يخبرنا في محاورته الجمهورية، اننا نحن البشر مجرد صورة أو خيال لعالم آخر، هو العالم المثالي، وما دمنا نحن صورة لهذا العالم الغريب البعيد الخالد، فإن حبنا كذلك حب وهمي وخيالي، لايتحقق إلا في عالم الأرواح ، والنوع الثالث من الحب يمثله العاشق المغامر، فإذا كان المحب الأول يرفض فكرة الاتصال الجسدي، والثاني يمزج بين الروح والجسد، أما الثالث فهو يرفض المثالية في الحب، أنه لايؤمن إلا بالاتصال بمحبوبته، وأي حديث عن الروح والعذرية في نظره حديث فارغ ، لايفكر به إلا العاجزون. وهذا المحب الثالث أطلق عليه في العصر الحديث اسم " دون جوان " ، وهو اسم لرجل حقيقي، عرف أول مرة من خلال رواية اسبانية صدرت في اوائل القرن الخامس عشر، كان مؤلفها شاعراً ، ويحدثنا الدكتور لطفي عبد البديع في كتابه "دون جوان في الأدب الاوربي" عن هذا الفارس الطويل القامة، الأسمر الوجه مع وسامة وجرأة، وقد تدلى سيفه من وسطه، والذي صاغ صورته الاولى كاتب اسمه في غابرييل تيليز لم يدر بخلده حين كتب مسرحية "ماجن اشبيلية"، ونشرها باسم تيرسو دي مونيلا سنة 1630، أنه وضع نواة أسطورة خالدة. فقد أراد أن يقدم حكاية ذات مغزى أخلاقي يدين ظاهرة التغرير بالعذارى المتفشية في عصر إسبانيا الذهبي. فابتكر شخصية دون جوان الماجنة كأمثولة للاتعاظ والاعتبار، وإذا بهذا الماجن الفنان بإغواء النساء ينتشر بسرعة في الوسط الشعبي ثم يبرز في فضاء الأدب ويسطع ليجذب ويفتن عدداً هائلاً من الشعراء والرواة والفلاسفة والمسرحيين والموسيقيين وعلماء النفس والاجتماع.
ودون جوان الذي كان يلاحق جميلات إسبانيا، أخذ يتنقل من بلد الى بلد. فأثار جدلاً صاخباً في باريس حين قدمه موليير، وصار حديث اغلانكليز في النسخة التي كتبها لورد بايرون.
ونعود الى مسرحية " ماجن أشبيلية " التي تنقلنا الى القرن الرابع عشر، لنتعرف على الشاب النبيل والجميل دون جوان الذي يستهتر بالقيم والأخلاق ولا يبالي بشيء غير إغواء النساء. ولتحقيق غايته ، يسافر الى معظم بلدان العالم باحثاً عن عشق جديد .
وبعدما يوقعه الفتاة في غرامه ، يدير لها ظهره غير مكترث بها. وبطيشه هذا يخلق عدداً كبيراً من الحاقدين الذين يريدون قتله. وإذا صادف أحدهم، بارزه وقتله أو أمعن في الهروب.
تغطي المسرحية مغامراته الأخيرة، وتبدأ بإغواء الدوقة ايزابيلا والفلاحة بيسبا في نابولي وبهروبه الى اشبيلية حيث يضع عينيه على الحسناء دونا آنا. ينتحل شخصية صديق ابن عمها الماركيز دي لادونا ويستعير منه رداءه ثم يدخل مقنعاً تحت جنح الليل الى حديقة منزلها. تطلب منه دونا آنا أن ينزع القناع، فيرفض فتصرخ طالبة النجدة. يسرع إليها والدها النبيل والقائد العسكري غونزالو ويبارز دون جوان الذي يقتله ويهرب.
بعد مدّة، يرجع الى اشبــيلية ويمر بساحة الكنيسة، فيستوقفه تمثالان فوق ضريحين، الأول لـ غونزالو والثاني لابنته. يسخر من تمــثال غونزالو ويدعوه هازئاً الى العشاء. ولذهوله يلبي التـــمثال الدعوة ويخبره بأن ساعته قد حانت. ينهار دون جوان ويتوسل المغــــفرة. يجيبه التمثال أن لا غفران للممعن في الضحك على النساء.
تبنى موليير مسرحية تيرسو، لكنه نقلها من اشبيلية الى صقلية وكيّف شخصياتها لتلائم المجتمع الفرنسي. ونتج عن هذا اختلاف بين الدون جوانين. إذ جعله موليير صاحب فلسفة ينتقد الرياء والتظاهر الكاذب بالفضيلة والدين، ويسخر من أولئك المنافقين ويصرح علناً بأنه لا يؤمن بما يؤمنون ولا يتبع الكنيسة التي يتبعون.
والمضحك في تصريحه أنه ينتقد نفسه لأنه منافق كبير! ويكرر موليير هذه المواقف الكوميدية وخاصة في الحوار بين دون جوان وخادمه الخاص سفاتاريل، الذي يقدم لنا صورة عن دون جوان :" دون جوان ياسيدي اعظم انسان تعيس يعيش حملته على طحها الأرض، سفاك، كلب، شيطان، مارق ، لايؤمن بالحياة الأخرى، ولا بالقديسين، لابالرب ولا بالشيطان، ودائماً يتوجه الى الحياة البويهيمية، انت تقول انه تزوج سيدتك، فلتعلم أيضاً انه قد يذهب بعيداً ويتزوج كلبتك وصولاً الى قطتك، انه مزواج على جميع الاتجاهات.. وعندما وصل الأمر عند صديقك الى درجة لايبقى فيها لديه قطرة من ضمير ، يمكنك أن تعتبر أن كل شيء قد انتهى".
ومسرحية موليير التي قدمت عام 1665 اطلق عليها في البداية اسم "الوليمة الحجرية " ولم تعرض في حياة مؤلفها سوى يوم واحد فقط بسبب نقمة رجال الكنيسة عليها، حيث رأوا فيها الشقيقة الكبرى لمسرحية موليير طرطوف التي سخر فيها من رجال الدين المزيفين.

الدون جوان الثائر
شخصية دون جوان تدين بالكثير من شهرتها العالمية الى لورد بايرون الذي طورها وكساها بالسمات الفردية التي تميّزها. فبدت كظاهرة إنسانية معقدة وليست مجرد نمط فاسد لرجل يبحث عن النساء فقط . وشكّلت قصيدته الملحمية "دون جوان" عام 1821، التي تتألف من 17 جزءاً، نقطة تحول في استيعاب هذه الشخصية أدبياً وفنياً وعلمياً .
فقد اختار بايرون أن يقول من خلال "بطله " أشياء كثيرة تتجاوز هذا حكاية الدون جوان ، بل لأنه أيضاً رسم لـ دون جوانه ملامح جديدة تماماً ، أهمها أن دون جوان لم يعد هنا ذلك المغامر زير النساء فاسد الأخلاق، الذي تقول لنا اسطورته انه لم يكن ليتوقف عن اغواء النساء ثم هجرهن بكل صفاقة، بل صار بين يدي بايرون، فتى جذاباً ارستقراطياً، تسعى النساء أنفسهن الى اغوائه، ومذ كان يافعاً، بحيث يصبح هو الضحية، في أكثر الأحيان. وفي هذا الاطار كان" دون جوان" بايرون، نقطة انعطافية في تاريخ فهم هذه الشخصية والتعامل الفني والشعبي معها. بل في الحقيقة وحتى خارج هذا الإطار الرابط بين المسرحية الأصلية والقصيدة البايرونية، يمكننا أن نقول اليوم بسهولة واطمئنان، إن هذه " الملحمة الساخرة" كما دوّنها الشاعر الإنكليزي الكبير، تعتبر نقطة انعطافية في تاريخ الشعر... حتى وإن كان صاحبها لم يعش حتى يراها منشورة بكاملها، أي بأناشيدها الـ16. فهي نشرت في العام 1826، بعدما كانت أجزاء منها نشرت متفرقة خلال حياة بايرون الذي رحل عن عالمنا في العام 1824.
وفي ملحمة بايرون دون جوان، نحن في مواجهة فتى من عائلة نبيلة في اشبيلية، يتيم الأب، يحدث له وهو في السادسة عشرة من عمره، أن تفتن صديقة لأمه بجماله وتغويه، فتغضب الأم حين يتناهى ذلك الى علمها، وترسله ليعيش في الخارج بعيداً من تلك الإغراءات التي أحسّت أنها ستتكاثر من حول الفتى ولا سيما من جانب صديقاتها،غير أن السفينة التي يسافر دون جوان على متنها تغرق، ليجد الفتى نفسه في جزيرة يونانية، تعثر عليه فيها الصبية هايدي الجميلة، وهي ابنة لقرصان يفرض سلطته على تلك الجزيرة ، وتغرم به هايدي ، بل توقعه في غرامها، وحين يعلم الاب بذلك يقرر طرد الفتى فيربطه بالأغلال ويرميه فوق سفينة من سفن القراصنة. وإذ تجن هايدي ثم تموت متأثرة بحزنها، يباع جوان كعبد الى سلطانة من الاتراك هي غولبيار، التي تغرم به بدورها... لكنها لم تكن الوحيدة في قصرها المنيف، إذ انها سرعان ما تفاجئه في خلوة غير متوقعة مع بعض الجواري فتعتقله وتهدد بقتله في ثورة غضبها... لكنه يتمكن من الهرب حيث يلتجئ الى القوات الروسية التي كانت تحاصر القسطنطينية. وهو إذ يشارك في القتال يبلى بلاءً حسناً، ما يجعل القائد يبعث به، مع رسالة، الى سانت بطرسبرغ، حيث ينال حظوة لدى كاترينا الثانية التي لفرط ما تثق به، ترسله في بعثة ديبلوماسية الى البلاط الانكليزي في لندن... وهنا يكمن، بالنسبة الى لورد بايرون على الأقل، بيت القصيد، إذ انه من خلال الحياة التي يعيشها دون جوان في العاصمة الانكليزية، يتمكن الشاعر من رسم صورة شديدة السخرية والمرارة، للحياة الاجتماعية والسياسية في انكلترا، وبخاصة من خلال الصور الشعرية التي يرسمها الراوي، الذي هو، حيناً، الشاعر نفسه، وفي بعض الأحيان نبيل اسباني، وفي أحيان أخرى شخصية رجل انكليزي عاش في اسبانيا ويتقن الاسبانية لنكتشف بعدها ان الشاعر بايرون لم يكتب ملحمته الشعرية دون جوان بو إلا لكي يقدم صورة لما يعانيه المجتمع الارستقراطي الانكليزي من مظاهر كاذبة ، وليخبرنا ان الحب اصبح مجرد نزوة عابرة في مجتمع تضيع فيه القيم.

دون جوان عربي
كان مجنون ليلى عاشقاً، والكثير من مؤرخي الأدب يعتبرونه شاعراً عذرياً، لكن وفي ديوان قيس بن الملوح الذي حققه عبد الستار فراج، نجد أن قيس بن الملوح كان نسخة من دون جوان الاسباني، فحبه تختلط فيه العفة بالرغبة والشهوة ، فنجده يقول وقد ضمَّ ليلى الى صدره :
ضممتك حتى قلت ناري قد اطفئت
فلم تطف نيراني وزاد وقودها
ويقول في بيت آخر
فان كان فيكم بعل ليلى .. فإنني
وذي العرش قد قبلت ليلى ثمانية
والى جانب قيس ابن الملوح ، كان هناك عمرو بن ربيعة، وجميل الذي عشق بثينة وغيرهم، لكن ابرزهم كان كاتباً عربياً ألف كتاباً عن الحب، كان هذا الكاتب وزيراً وفقيهاً في الدين، ومولعاً بدراسة النحو والتفسير والفلسفة.. وأضاف لها أهواء المحبين.
هذا الكاتب الذي عاش قبل اكثر من الف عام اسمه محمد بن حزم الاندلسي، واسم كتابه "طوق الحمامة في الآلفة ولآلاف" اي في الحب والمحبين، ولعله الكتاب الغرامي الوحيد في أدبنا العربي وفيه يصور اشكال الحب واخلاق المحبين وما يكون بينهم من هجر ولقاء ووصال ، وإشارات بالعيون والأيدي وحديث بالحكم والأمثال والأشعار، ونجد ابن حزم يتطرق لموضوعة دون جوان ويصب اللوم على هذا العاشق الكاذب : "أن العاشق المحترف الكذاب ، يحب من أول نظرة، وليس هذا من شأن العاشق الحقيقي، فإن الحب من أول نظرة ليس حباً، لكنه شهوة مغلفة بغلاف الحب ، واني لأطيل العجب في كل من يدعي انه يحب من نظرة واحدة، ولا أكاد أصدقه، ولا اجعل حبه إلا ضرباً من الشهوة ، وما لصق بأحشائي حب قط إلا مع الزمن الطويل، وبعد ملازمة المحبوب لي دهراً، واشتراكي معه في كل جد وهزل .
والعاشق المحترف في نظر ابن حزم هو ذلك الذي يتمكن منه الحب كلما أزداد من محبوبته اقتراباً : "ومن الناس من يقول إن دوام الوصال يقتل الحب ، وهذا قول خاطئ، انما ذلك يكون لأهل الملل ـ بل كلما زاد الانسان وصلاً زاد اتصالاً" . دعني اخبرك أني ما رويت قط من ماء الوصل إلا وازددت ظمأ . ولقد بلغت من التمكن بمن أحب ابعد الغايات" . وكان لابن حزم صديق اسمه عامر بن ابي عامر، وكان دون جوان زمانه، ونجد ابن حزم يصفه في الكتاب :" كان من أهل الأدب والذكاء والنبل والخلق والمنصب وكان حسن الوجه جميل الصورة ، وهو ممن لبس لباس الحب وهو ملول ، كان يرى الفتاة فلا يصبر عليها ، ويحيق بها الغم والهم ما يكاد يقتله حتى يملكها، ولو كان دون ذلك شوك القتاد ، فإذا اصبحت ملكه صارت المحبة كراهية، وصار الأنس بها شروداً والقلق اليها قلقاً منها".
ويضع ابن حزم تعريفاً للحب في كتابه فيقول :
" هناك أنواع من الحب ، فهناك الأم التي تحب ولدها مثلاً أو الرجل الذي يحب أخاه وتلك محبة القرابة ، وهناك محبة الجنس الآخر، ولكن حتى يبلغ لذته، ثم يموت هذا الحب بعد ذلك، وهذه هي الشهوة ، وهناك محبة العشق الذي يتمكن في النفس ويتغلغل فيها، ولايشفى الإنسان منه إلا بالموت" ويضيف في صفحات أخرى : الحب – أعزك الله – أوله هزل وآخره جد، دقت معانيه لجلالتها عن أن توصف، فلا تدرك حقيقتها إلا بالمعاناة، وليس بمنكور في الديانة، ولا محظور في الشريعة".
ثم نجد ابن حزم يتحدث عن المرأة وسحرها : " كم جادلت من العلماء .. إلا أن مجادلة النساء كانت أكثر نفعاً، فلقد شاهدت النساء وعلمت من أسرارهن مالا يكاد يعلمه غيري لأني تربيت في حجورهن، ونشأت بين أيديهن، ولم أعرف غيرهن".
حياة مثقلة بالحزن
ورث لقب لورد عندما كان في العاشرة من عمره ، لكنه عاش طفولة بائسة حزينة ، لم يذق فيها طعم الحب الحقيقي ، ولم يعرف حنان الاهل ، فقد كان والده " جون بايرون " باردا جافا ، هجر عائلته بسبب المشاكل بينه وبين زوجته والتي كانت ام قاسية وعصبية ، عانى الطفل بايرون من عرج واضح في احدى ساقيه ، سبب له حرجا شديداً ، ولكي يعوض هذا العيب تفرغ للقراءة والدراسة ، فاصبح وهو في سن الخامسة عشر مشهورا بين زملائه الطلبة ، فنشر اولى دواوينه وهو طالب وكان بعنوان " ساعات الكسل " الذي حقق نجاحا كبيرا، ويقال ان عشرة الاف نسخه منه نفذت خلال الشهر الاول ، احب وهو في التاسعة من عمره فتاة صغيرة اسمها " ماري داف " ، ورغم انه احب من بعدها الكثير من النساء، إلا انه ظل يقول :" ومع ذلك مازلت أذكر احاديثها الرقيقة وتقاطيعها الجميلة" ، ومنذ ان بلغ الثالثة عشر من عمره اخذ يكتب قصائد الغزل ويتعرف على عالم النساء ، والمتتبع لسيرة بايرون يندهش من كثرة عدد النساء اللواتي اقام علاقات معهن ، او بادلهن الحب ، لكن الحب الوحيد كان مع " آنا ميلينا " التي كتب لها:
"هذا هو حالي
ولن آرى سحرك مرة آخرى ، ففي البقاء عذابي ، وفي قربك حسرة دائمة ، ساكون حكيماً ان رحلت وهربت بعيدا عن الاغراء فلا استطيع ان آرى جنتي ، ولا ارغب العيش فيها من جديد " .
ورغم صخب الحياة التي عاشها بايرون ورغم النساء والمجد والشهرة والحب ، فقد كان حزينا دائما ونجده يكتب في يومياته :" ها انذا اذهب الى الفراش بقلب مثقل بالحزن لاني عشت كل هذه الاعوام من دون فائدة ، ولكني لا اشعر بالاسف على ما فعلت قدر أسفي ، انني ضيعت بعض أيامي دون حياة" . توفي بايرون عن 36 عاماً وكان منفيا في اليونان ، واهتزت اوربا لرحيله ، فقد رأت في حياته كفاحا مع القوى الرجعية ينم عن عزم وبطولة ، وانتشر أثره بين الناس خلال القرن التاسع عشر انتشارا عجيبا واتسمت حركته باسم " البايرونية " وقد تجلت في لوحات ديلاكروا وموسيقى برليوز واشعار هيجو ولامارتين ، واوحت بازياء خاصة لاوربا ، واساليب مستحدثة في التفكير .



* منقول عن صحيفة المدى
 
عدو المرأة الذي جرّب الحُب أربع مرّات

 علي حسين



| 20 |

كانت المرة الاولى التي رآها فيها في بيت خياطة فرنسية ، وجدها جميلة جدا وممتلئة بالانوثة ويصفها لنا في روايته الوحيدة " سارة " بان :" لونها كلون الشهد المصفى ، يأخذ من محاسن الألوان البيضاء والسمراء والحمراء والصفراء في سمة واحدة ، وعيناها نجلاوان تخفيان الأسرار ولاتخفيان النزعات ، فيها قوة الصقر ودعة الحمامة ، وفمها فم الطفل الرضيع ، ولها ذقن كطرفي الكمثري الصغيرة ، واستدارة وجه وبضاضة جسم لاتفترقان عن سمات الطفولة في لمحة الناظر " ويمضي في وصفها فيقول :" إنها حزمة من أعصاب تسمى امرأة ، استغرقتها الانوثة فليس فيها إلا الانوثة ، ولعلها أنثى ونصف أنثى ، ليست غواية الجسم عندها كجوع الحيوان بشبعه العلف ، ولكنها كرعدة الحمى وصهيل الفرس الجموح " وتحولت النظرات في اللقاء الاول الى حوار غزلي قالت فيه


- أنت فضولي
• ليس مع كل الناس
- تحيات وغزل وعما قريب عيناك ووجنتاك وأهواك ولا أنساك ، الى آخر هذا الموال المحفوظ
• ولماذا عما قريب ! الآن
- انت عجول ، وانت جريء أيضاً .
• إن وعدتني أن اجني للصبر ثمرة ، فأنا أصبر من أيوب .
ولم ينته هذا الحوار حتى تخلى عن صبر أيوب ، وتقدم منها وقبلها في وجنتها ، وفوجئ انها لم تغضب بل قالت في صوت خافت :
- لقد آذاني شاربك
لم تكن هذه قصة الحب الاولى في حياة عباس محمود العقاد الذي كان يخرج كل يوم من بيته وقد أحكم طربوشه فوق رأسه يرتدي (جاكتة) غريبة وطويلة جدا ، لم تعرف المكواة ، يمشي محنيا الى الأمام وكان بعض الناس يعرفون فيشيرون إليه ويقولون : العقاد ، لكنه لايأبه للإشارات ولا لكلمات التحية ، ويرى ان المجاملات تأخذ من وقته الكثير ، فهو رجل فكر ، صحيح إنه لم يتخصص في أي شيء ، لكنه يقرأ أي شيء ، لأنه يكتب في كل شيء ومن بين الموضوعات التي أثارت اهتمامه موضوعة المرأة ، فقد أحب العقاد في حياته التي ناهزت 75عاماً – ولد عام 1889 وتوفي عام 1964 – اربع مرات وعبر عن أحاسيسه في تلك التجارب فاصبحت أحاديثه عنها اشبه بنظرية فلسفية متكاملة الأبعاد ، فهو يؤمن بان الحب بالنسبة للرجل رياضة لسد الفراغ وسكن من جهاد " والذي يتأمل ماكتبه العقاد في شعره ومقالاته وكتبه يستطيع أن يحدد تجربتين عاطفيتين ذات ملامح واضحة ، والى جوارهما عدة تجارب تختلف قوة وضعفا .
كانت أولى تجاربه العاطفية مع الاديبة مي زيادة التي رمز لها العقاد في قصته الوحيدة " سارة " وفي شعره بـ " هند " التقى بها المرّة الاولى في صالونها الأدبي الذي كان يعقد كل يوم ثلاثاء ، كان حينها أصغر الزوار سنا لم يتجاوز السابعة والعشرين وكانت مي في الحادية و العشرين، وهناك العديد من الرسائل المتبادلة ما بين العقاد وميّ و التي تؤكد حبه لهذه الأديبة المتميزة .‏ويخبرنا العقاد في روايته سارة انه أحب هند قبل سارة وكان حبه لها كما جاء في احدى مقالاته خالصا للروح والوجدان وكان حبه لسارة مستغرقا شاملا للروح والجسد ، كان المرأتان على طرفي نقيض ، ويصفهما بقوله :" اذا كانت سارة قد خلقت ونبتت في ساحة الطبيعة ، فهند قد خلقت راهبة في دير ، الاولى مشغولة بتنظيم القيود ، وهذه مشغولة بأن تصوغ حولها أكثر مما استطاعت من قيود ثم توشيها بطلاء الذهب وترصعها بفرائد الجواهر " ، لم يرتبط مع هند – مي زيادة – بعهد ، وانما كان يطوف حولها ، المرّة الوحيدة التي اقترب منها كانت قبل أن تسافر ، إلى إيطاليا حيث استطاع ان يلمس يدها ويقبلها . وكان يبث من خلال رسائل لها سطور الشوق والوجد والأمل، ويلتقي بها فتزداد حيرته وتساوره الشكوك شأن كل محب عاشق.
لاسيما حينما يكون سلوكه مع المحبوبة سلوك العقاد نفسه يقف حائرا بينه وبين نفسه لأنه لا يرى من محبوبته ما ينم عن استياء به لا يسمع منها ما يدل على وصول رسالته وإن كان يسمع الجواب باللحن والإيماء دون الإعراب والإفصاح ، فقد كان العقاد وميّ يتناولان من الحب كل ما يتناوله العاشقان على مسرح التمثيل ولا يزيدان. وقد اعترف العقاد بحبه لـ " ميّ " في أكثر من مناسبة وفي أكثر من مجال، فقد سُئل ذات مرة عن الحب في حياته فقال: " لقد أحببت في حياتي مرتين سارة ميّ ، ثم نجحدث عن ميّ قائلا : " كانت مثقفة قوية الحجة... تناقش وتهتم بتحرير المرأة وإعطائها حقوقها السياسية وكان اهتمامها موزعا بين العلم والأنوثة " .
ومع الأيام تقارب القلبان قلب العقاد وقلب ميّ فأخذت تخصه بصدق مشاعرها خلال سطور بعض رسائلها، حيث قالت له ذات مرة: " وقد أتعمد الخطأ لأفوز بسخطك عليّ فأتوب على يدك وامتثل لأمرك... في حضورك سأتحول عنك إلى نفسي لأفكر فيك، وفي غيابك سأتحول عن الآخرين إليك لأفكر فيك " .
ويكتب لها هذه القصيدة التي استقاها من وحي رسالتها :‏
في حماكم كعبة ترمقها ‏
مهج منا وآماق ظماء‏
ويتابع في القصيدة نفسها مؤكداً أن " مي " مازالت حلمه المشتهى :‏
أنت ( يا حسن) وهل أنتِ سوى حلم في يقظة القلب أضاء‏
وترد عليه مي برسالة تصف فيها مشاعرها نحوه مبينة أن هذه المشاعر هي نفسها مشاعر الشاعر وهذه إشارة إلى تبادل الحب بينهما .‏
كما كانت في تصوره معبداً للحب على حين كان هذا الهيكل القديم وهو الهوى معبداً للمجد فلأيهما يسجد العقاد ياترى لها أم له:‏
معبد أنتِ للهوى ‏
وهو للمجد معبد‏
هيكل فيه هيكل ‏
أين يا حسن أسجد‏
ونراه يتلهف لتقبيل الحبيبة ويعتبر ممانعتها له في تقبيل يدها غضباً أو نوعاً من الدلال أو خوفاً من الرقيب :‏
صافحيني ألا مصافحة اليوم ‏
و لا قبلة على الكف عجلى‏
أغضاباً تحمينها أم دلالاً ‏
أم حذار الرقيب تنأين خجلى‏
وكثيرة هي القصائد التي أرسلها لمي خصوصاً عندما كان السفر يفرق بينهما... ولكن جذوة الحب لمي خفتت عند العقاد ويعود السبب في ذلك لتعرفه بسارة التي أعطته كل ما منعته عنه مي زيادة حتى صار مصير هذا الحب إلى الزوال.‏
******
فلسفة المرأة
وبعيداً عن الحب احتلت المرأة عناوين الكثير من كتب ومقالات العقاد, وقد وضّح العقاد رأيه في عمل المرأة معتبراً أن عملها الأساس هو حفاظها على بيتها وأولادها وتربية النشء، فقال ضمن سؤال وجّه إليه - ماذا يحسن أن تستبقي المرأة الشرقية من أخلاقها التقليدية: " يجب أن تظل المرأة الشرقية كما كانت في كل عصر ملكة البيت الحاكمة المحكومة يسكن إليها الرجل من متاعب الحياة ولا يزال عندها - صغيراً كان أو كبيراً- طفلا لاعبا يأوي منها إلى صدر الأمومة الرفيق وأحضانها الناعمة رضيعا ويافعا وفتى وكهلا إلى أن يشيخ ويفنى، ويستدعي ذلك أن تعيش هي في ظله وتعتمد في شؤون العالم الخارجية عليه" . ويرى أنيس منصور إن كل ما كتبه العقاد عن المرأة يدل على انه فهمها بوضوح، كأنه عرف المرأة منذ كان اسمها حواء، إلى أن أصبح مي أو سارة أو هنومة.
*******
العلاقة مع النساء
عام 1910 قرأ شوبنهور للمرة الاولى ، وقد وجدت اراء فيلسوف التشاؤم عن المرأة والزواج صدى في نفس العقاد الشاب ، فهو يشعر انه مثل شوبنهور ما من امرأة اهتمت به ، واذا كان الزواج كما يقول شوبنهور هو " دَّين في الشباب نسدده في سن الكهولة "، فإن العقاد كان حذراً من أن يقع فريسة ذلك الدَّين ، وحسب ما هو معروف عن سيرة حياة شوبنهور ، إن علاقته مع النساء اقتصرت على حكايتين ، ففي العام 1821 يقع في غرام كارولين ميدون وكانت مطربة في التاسعة عشرة من عمرها ، استمرت العلاقة بينهما عشر سنوات متقطعة ، رفض أن يتوج هذه العلاقة بالزواج :"ان تتزوج يعني فعل كل ما يمكن ليصبح كل طرف موضع اشمئزاز الآخر" ، الحكاية الغرامية الثانية كانت مع خادمة تعمل عنده ، لكنه يتركها ذات يوم ويهرب ...ولأنه لم يكن يهتم بما يجري حوله نجده لا يولي اهتماماً للجنس او الرغبة بالنساء ، الجنس "لاتدفعني للضحك" . يقول لأحد مقربيه :" الجنس أعظم بلاء ، فمع ظهور الغريزة الجنسية ، ظهر القلق والسوداوية في الوعي أيضا ، ونبتت في الحياة الهموم والمصاعب ، ذلك لأن أصل الحياة الجديدة يرتبط باشباع أشد ميولنا سطوة وأكثر رغباتنا عنفا ، بتعبير أوضح ان الحياة بكل ما فيها من احتياجات وأعباء وآلام ستبدأ من جديد وستعاش مرة اخرى بسبب هذا الذي يسمى الجنس".
يرى العقاد أن التناقض صفة أصيلة في أي امرأة، فاللذة والألم نقيضان في الكائن الحي عامة، لكن المرأة تجمع بينهما اضطرارًا، فأسعد لحظاتها هي الساعة التي تحقق أنوثتها الخالدة وأمومتها المشتهاة، وهي ساعة الولادة، فهي تفرح لأنها أنجبت ولكنها تكون أشد ساعات الألم والوجع في جسد الأم، الطريح بين الموت والحياة.
يرجع العقاد قدرة حواء على الرياء وضبط الشعور، وإخفاء حبها أو بغضها، إلى أنها تفضل الحب وعدم المفاتحة به والسبق إليه، وهي التي خلقت لتتمنع وهي راغبة، وتخفي البغض لأنها محتاجة إلى المداراة احتياج كل ضعيف إلى مداراة الأقوياء، على حد تعبيره.
قال العقاد الذي وضع نحو 102 كتاب في روايته سارة : " كانت شكوكا مريرة لا تغسل مرارتها كل أنهار الأرض وكل حلاوات الحياة، كانت كأنها جدران سجن مظلم ينطبق رويدا رويدا وما يزال ينطبق وينطبق حتى لا منفس ولا مهرب ولا قرار، وكثيرا ما ينتزع ذلك السجن المظلم طبيعة الهرة اللئيمة في مداعبة الفريسة قبل التهامها فينفرج وينفرج حتى يتسع اتساع الفضاء بين الأرض والسماء ثم ينطبق دفعة واحدة حتى لا يمتد فيه طول ولا عرض ولا مكان للتحول والانحراف" .
ويستمر العقاد في وصف حال الشك التي اعترته خلال حبه لسارة فيبلغ الشأن في رسم الصورة وتصوير ذلك الإحساس حيث قال: " ألم لا نظير له في آلام النفوس والعقول، وحيرة لا تضارعها حيرة في الإحساس والتخمين، وأقرب ما كان يشبه به هذه الحيرة حال الأب المستريب الذي يشك في وليد منسوب إليه هل هو ابنه أم هو ابن غيره، هل هو رمز الحب والعطف والصدق والوفاء، أم هو رمز الخداع والخيانة والاستغفال والاحتقار، هل هو مخدوع في عطفه عليه أم هو مخدوع في نفوره منه؟ وكيف يفصل في هذين الخداعين؟ وكيف يطيق الصبر على واحد منها وكلاهما لا يطاق؟)"
ويمكن القول إن المرأة التي دخلت قلب العقاد في بداية حياته امرأة مجهولة أو أكثر من امرأة مجهولة رآها في أسوان حيث ولد أو في الزقازيق ، حيث تنقل فيهما للعمل وبدأ رحلته في عالم الوظيفة شابا يافعا لم يتجاوز العشرين من عمره. ولهذا نجد لديه فلسفة خاصة في الحب . فالحب عنده فيه " الاعتياد" وفيه شيء من الأنانية حتى لو أقدم صاحبه على التضحية من أجل من يحب، فالأنانية تبدو واضحة لأن المحب لا يتنازل عن محبوبه ولا يقبل أن يكون لشخص آخر. وفي الحب أيضا شيء من الغرور لاعتقاد المحبوب بأن إنسانا آخر يفضله على غيره من الناس واختاره هو فقط ورضى بألا يرتبط بأحد غيره. وبسبب تعمق العقاد في دراسات علم النفس فإنه يشير إلى أن الحب فيه ما يطلق عليه علماء النفس " التناقض الوجداني" أي الحب والشغف والوجه الآخر هو درجة من درجات الضيق "لأن المحب يعاني من الشعور بأنه أسير ومقيد بقيوده وعاجز عن الإفلات من قيوده وقد تعمى الأبصار في الحب كما تعمى في القضاء والقدر وقد يحاول المرء أن يهرب من هذا الحب فيجد نفسه يقترب بدلاً من أن يبتعد، ومن حالات المحبين الإنكار فينكر الإنسان أنه وقع في الحب كما ينكر السكران أنه سكران والأمر يتلخص عند العقاد في أن الحب يملك الإنسان ولا يملكه الإنسان. وفي تحليل العقاد لعاطفة الحب يرى إن فيه عواطف كثيرة وليس عاطفة واحدة، ففيه من حنان الأبوة ومن مودة الصديق ومن خيال الحالم وفيه من الصدق والوهم ومن الأثرة والإيثار ومن حرية الإرادة والاضطرار ومن الغرور والهوان وفيه كل ما يطرأ على النفوس في مختلف الأوقات والأحوال".
وحين سئل العقاد عن تعريف للحب أجاب بأنه من الصعوبة تعريفه تعريفا جامعا مانعا، ولكن يمكن تعريفه عن طريق النفي فالحب ليس هو الغريزة لأن الغريزة لا تعرف الاختيار والحب ليس الشهوة لأن الإنسان قد يشتهي دون أن يحب وقد يحب وتنتهي الشهوة بالقضاء على الحب.
والحب ليس الصداقة لأن الصداقة تكون أقوى ما تكون بين اثنين من جنس واحد، والحب لا يأتي بالاختيار لأن الإنسان قد يحب قبل أن يشعر بأنه يحب ودون أن يفكر في الاختيار والانتقاء.
والحب ليس الرحمة لأن المحب قد يكون قاسيا مع حبيبه عامدا أو غير عامد، وقد يقبل منه العذاب مع الاقتراب ولا يقبل الرحمة مع الفراق.
ويتساءل العقاد كيف يجمع الحب أحيانا بين اثنين لا يخطر على البال أنهما يجتمعان والجواب عنده لأن القلوب أقرب إلى التناسب والتجاوب فإذا تجاوبت القلوب نجد اثنين ينظران إلى الدنيا وإلى الحياة بعين واحدة.
وقد يحدث اختلاف السن لكن ذلك لا يمثل مانعا لحاجة نفس منهما إلى عطف الأبوة وطمأنينة التجربة ويقابلها حاجة النفس الأخرى إلى دفء العاطفة وإلى الرعاية فيقع التبادل في احتياجات اثنين مختلفين ويحد بينهما.
وأخيرا يلخص العقاد فلسفته حين سئل: هل الحب أمنية تشتهيها أم هو حالة تتقيها فأجاب إنه مصيدة فإذا أحببت من لا يحبك فهو أمنية تشتهيها وإذا أحببت من يحبك فهذه هبة سماوية فالحب هبة من الله.
قاصدا بذلك أن القلب الذي لا ينبض بالحب يشبه الصخر الذي لا حياة فيه ولا روح، والقلب الذي لا تحرقه لوعة الحب هو مجرد حجر أملس لا يعرف لغة المشاعر، والتاريخ يؤكد دائما ويؤيد أن الحب لم يفرق يوما بين شاب لاه وشيخ معمم، أو بين قائد عسكري يقود الجيوش وآخر يعيش في أبراج من الخيال والوهم.
ويكتب العقاد " الحب مزرعة ينبت فيها الوهم ومدينة تستوطنها الشكوك " ويؤمن العقاد بان الغيرة وليدة الحب ، وان المرأة اكثر شقاء في غيرتها من الرجل لانها أحوج الى الحب ، واخوف عليه من الفقد والهجران ، ولأنها اميل الى الاستسلام وأسرع الى الادبار ، ولان طبيعة احاسيسها تؤكد فاعلية الغيرة في نفسها ، ويذهب العقاد الى القول بأن المرأة أقل هياما في الحب من الرجل مستنداً في ذلك الى اراء شوبنهور التي كان يعشقه ، والعقاد شديد الحرص على التمييز بين الحب والجنس ، فالحب عنده عالم من المعاني التي تطلق من أسر المادة والحب كل ما يملي للنفس في الشعور بالحرية الموزونة وكل ما يجنبها الشعور بالامتناع والتقييد ، أما الجنس فانه شديد الالتصاق بالجسد والمادة ومن ثمة لايمكن أن تكون الغريزة الجنسية نفسها تستعين بالحب لتفضيل انثى على انثى ، ولايمكن كذلك ان تكون الغريزة الجنسية هي الحب لأن الغريزة واحدة والحب أشكال وألوان ويُعرف الحب بانه اندفاع روح الى روح وخلاصة فلسفته عنه انه قضاء وقدر فهو يرى اننا لانحب حين نختار ، ولانختار حين نحب
******
نهاية الحُب
بعد أن انتهت قصة سارة وفي عام 1940 تعرف العقاد على فتاة سمراء جميلة تدعى "هنومة خليل"، فوقع في حبها، وكان هو في الخمسين من عمره وهي في العشرين، وقد أدرك العقاد من البداية أن هذا الفارق الكبير في العمر لا يتيح لهذا الحب أن يستمر أو يستقر، ومع ذلك فقد عاش في ظل هذا الحب سنوات عديدة ذاق فيها السعادة. لكن ما كان يخشاه العقاد فقد حدث، حين تعرفت هذه الحبيبة إلى النجم السينمائي أحمد سالم، فاختطفها فورا للعمل في السينما وتزوجها بعد ذلك، وسرعان ما أصبحت نجمة مشهورة هي الفنانة مديحة يسري.
كان العقاد يعترض على عمل مديحة، حيث كان يرى أن ذلك يضع نهاية للحب الذي ملأ قلبه، لكنها لم تتراجع عن عملها بالسينما، وسرعان ما أصبح لها جمهورا كبيرا من المحبين والمعجبين، وأدرك العقاد أنه لن يستطيع تحمل هذه العلاقة فقرر أن يقطعها نهائيا، لأنه لو استمر في هذا الحب فلن يكون أكثر من واحد بين عشرات من الذين يلتفون حول النجمة ويقدمون لها الإعجاب والورود.
دخل العقاد في معركة هائلة مع نفسه وعواطفه، فلا هو قادر على أن ينسى حبيبته، ولا قادر على أن يتقبل وضعها الجديد ويرضى أن يكون واحدا من المعجبين، فكتب قصيدة "يوم الظنون" والتي يقول فيها:
وبكيت كالطفل الذليل أنا الذي ما لان في صعب الحوادث مقودي


* عن صحيفة المدى
 
أعلى