قصة قصيرة كاميلو خوسيه سيلا - أبله القرية.. ت: فوزي محيدلي

كان اسم أبله القرية «بلاس». بلاس هيريرو مارتينيز. قبل موت بيرجيلوندو، أبله القرية السابق الذي نسي أن اسمه الحقيقي كان هيرمينجيلو، كان بلاس بالأحرى صبياً مغفلاً يسرق ثمار الإجاص، واستُخدم كضحية لضربات الجميع المجانية ولطباعهم السيئة. كان صبياً شاحب اللون، طويل الساقان، متوحداً ورعديداً. لم تستطع القرية إعطاء تفويض لأكثر من أبله واحد. كانت اصغر من ان تتكيف مع أكثر من واحد، وبلاس هيرومارتينيز، الذي كان مدركاً لذلك تميز باحترام كبير للتقليد، فاكتفى بالتجوال حول بساتين الفاكهة وحقول الخضار سارقاً ما يستطيعه من دون أن يدنو أكثر من اللازم. وكان لا بد له أن ينتظر صابراً أن يصار إلى

تشييع بيرجيلوندو الطاعن في السن داخل صندوق، خشبي فيما قدماه إلى الأمام والكهنة يسيرون وراء النعش. التقاليد هي التقاليد ويجب احترامها. كان ثمة قول رائج في البلدة مفاده أن التقاليد أهم من الملك وليس أقل أهمية من القانون. وبلاس هيريرو مارتينيز الذي فهم الحياة بالسليقة وبالدقة نفسها لكلب صيد مدرب يتبع رائحة طريدة، أدرك أن زمانه لم يأتِ بعد وأذعن بكل شجاعة أدبية على اللجوء إلى الانتظار. مع ان العكس قد يبدو صحيحاً، في هذه الحياة ثمة دائماً أوان لكل شيء.
كان لبلاس هيريرو مارتينيز رأس صغير أصلع ومستدق، إلى صدر ضيق، وساقين نحيلتين إلى نمش في الوجه وأسنان ناتئة. كان أحول العينين ويسيل لعابه. شكَّل الفتى نوعاً واضحاً للأبله، مع انطباق كل ميزة بدقة. بالنظر إليه بعناية، كما يفترض بالشخص أن يفعل، أدى بل لعب بلاس دور الأبله حتى حدود الكمال. كان دون مواربة أبله وليس من النوع الذي لا يمكن تشخيص حاله من دون طبيب.
كان طيب الطبع ورقيقاً، ودائماً ما يبتسم كعجل مريض حين يكون قد تلقى ضربة حجر، وهذا يحدث غالباً، سيما أنه لا ينطبق بالتمام على القرويين ما يمكن تسميته الأشخاص الحساسين. إزاء تلقيه ضربة حجر يعمد بلاس هيريرتو مارتينيز صاحب الوجه الصغير الأقرب لوجه ابن مقرض بتحريك أذنيه ـ إحدى مواهبه ـ ومن ثم العناية بجرحه الأخير النازف ما يشبه سائل حبر زهري، مبتسماً رغم ذلك بطريقة يصعب وصفها فيما هو يعتني بالجرح: يبدو كأنه يلتمس من معذبيه عدم رميه بحجر آخر على الجرح الذي تسبب به الحجر الأول.
في زمان الأبله بيرجيلوندو، وبالتحديد أيام الآحاد، التي كانت الأيام التي شعر فيها بلاس أنه يمتلك بعض الحق للسير في شوارع المدينة، كان أبله قريتنا يجلس بعد القداس عند باب مقهى لويز وينتظر الساعتين أو الثلاث التي يحتاجها الزبائن لإنهاء المشروب الفاتح للشهية ومن ثم يقصدون المنزل لتناول الغداء. حين كان مقهى لويز يفرغ تماماً، أو يكاد، من الرواد، تعلو البسمة وجه بلاس وينزلق تحت الطاولات لالتقاط أعقاب السجاير. أحياناً كانت غلته جيدة جداً. قبل سنتين على سبيل المثال كانت ثمة حفلة بهيجة جداً وقد تمكن بلاس من ملء علبته بحوالي 75 عقب سيجارة. بدا كأن فخر بلاس هيريرو وفرحه يتمثلان في هذه العلبة العميقة، الجميلة، الصفراء التي رُسمت عليها صَدَفة فضلاً عن كتابة بعض الكلمات بالإنكليزية.
حين أنهى بلاس يومها عمله، ركض منقطع الأنفاس للتحدث إلى بيرجيلوندو الذي كان يومها قد غدا هرماً جداً وبالكاد يستطيع التحرك. قال له: «يا بيرجيلوندو، أنظر ما جمعت. هل هذا يرضيك؟».
أجابه بيرجيلوندو بأعلى صوت ممكن: «أجل... أجل...» من ثم حدق بإعجاب بأعقاب السجاير مع ابتسامة مقتضبة قابضاً كيفما اتفق على حوالي نصف دزينة منها لم يلبث أن ناولها إلى بلاس.
«هل قمتُ بالعمل الصحيح؟ هل أنتَ راضٍ؟».
«أجل... أجل...».
أخذ بلاس هيريرو مارتينيز الأعقاب التي جمعها، قام بفردها مخرجاً محتوياتها ثم صنع منها أي شكل من السجاير تأتى له. أحياناً، كانت النتيجة سيجارة ثخينة، لكن في أحيان أخرى تأتي رفيعة جداً بحيث من غير الممكن تقريباً تدخينها، حظ سيئ. دائماً ما كان بلاس يعطي أعقاب السجاير التي يجدها في مقهى لويز إلى بيرجيلوندو لأن بيرجيلوندو كان المالك الشرعي لكل أعقاب السجاير في القرية. بالمحلة، لم تكن سدى تسميته أبله القرية المصنّف. حالما جاء دور بلاس التخلص من أعقاب السجاير ساعة يشاء، لم يكن يسمح لأي قادم جديد أن يغشه. كان من الصعب توقع ذلك! من الناحية المبدئية كان بلاس من النوع المحافظ الذي يولي التقاليد اهتماماً كبيراً، وكان مدركاً حقيقة أن بيرجيلوندو هو الأبله الرسمي للقرية.
مهما يكن، يوم وفاة بيرجيلوندو لم يستطع بلاس كبح شعور عفوي بالحبور وبدأ بالقفز والنطنطة مثل حمل في المرعى، حيث اعتاد الذهاب ليشرب. بعد انقضاء وقت قصير على ذلك أدرك أنه فعل شيئاً غلطاً ومن ثم قصد المقبرة للتكفير والانتحاب فوق رفات بيرجيلوندو، الذي لم يقدم أحد على التكفير فوق قبره، ولا بكى ولا فكر حتى بالانتحاب أو البكاء. على مدار بضعة أسابيع راح يحضر أعقاب السجاير إلى المقبرة.
بعد وضعه جانباً نصف الدزينة خاصته، يقوم بدفن البقية في قبر معلمه. لاحقاً توقف تدريجياً عن فعل ذلك وأخيراً لم يعد يكلف نفسه عناء جمع كل أعقاب السجاير. عمل ببساطة على جمع ما يحتاجه وترك البقية لمن يأتي بعده ويكون بحاجة إليها. نسي أمر بيرجيلوندو ولاحظ حدوث أمر غريب: بدا له الانحناء لالتقاط عقب سيجارة، مع عدم التساؤل ما إذا كان هذا يخصه هو أم لا، شعوراً غريباً.



كاميلو خوسيه سيلا:

روائي وقاص شهير شارك في الحرب الأهلية الإسبانية وانتسب من ثم إلى جامعة مدريد. تركز أعماله السردية على الشخصيات الفقيرة وذات المنبت الوضيع من الذين تتسم حياتهم بالشجاعة، الوحشية والأنانية.
أول عمل مهم لسيلا كان «عائلة باسكال ديوارت»، وتروي قصة رجل أصابت الندوب حياته بسبب قسوة المجتمع وينتهي به الأمر بالإعدام لقتله والدته. وثمة رواية أخرى مميزة له هي «القفير» وتعكس نظرة بانورامية للمجتمع مع تضمنها 116 شخصية.
تعكس قصص وروايات سيلا بوضوح إيمانه بأن على كتّاب الأعمال السردية التعامل بقسوة بل عليهم جلد الخداع، الظلم، النفاق، والامتثال. يتميز أسلوبه السردي بذاك المزيج الخاص من التصوير الغريب وبعد النظر بل التناول السيكولوجي الحديث. لا بد من أن نذكر أنه العام 1989 مُنح كاميلو جائزة نوبل للآداب.



كاميلو خوسيه ثيلا
 
أعلى