سنتكلم اليوم عن الغزل السافر ونعني به ما قالته المرأة، لتذيع غرامها على رءوس الأشهاد، فينقله عنها البعيد والقريب، فهي إذن لا تخشى ملامة أو مسبة، بل تقدم جريئة على تحمل ما يهددها في موقفها الجريء.
ونعلن بادئ ذي بدء أننا لن نتعرض إلى غزل الجواري فيما نحن بصدده من الحديث، لأننا نبحث عن النسيب الصادق الذي يضطرم بالعاطفة المشبوبة، ويتأجج باللوعة المشتعلة، وجل ما بأيدينا من غزل هؤلاء لا يهدف لغير الإغواء والتغرير، بل كثيراً ما يهبطن إلى مستوى لا يرضى عنه خلق نبيل، حتى ليجوز لنا أن نشبههن بمن نرى من ساقطات الممثلات، حيث يشغلن الصحف الخليعة بالحديث عن رنين القبلات، وحرارة العناق، وما يقصدن - علم الله - غير العاقبة الذليلة والخداع المريب.
على أنك لا ترى في شعر الجواري مواربة أو كنانة، بل تجد نفسك أمام صراحة فاضحة، ومنطق مكشوف، كأن تقول إحداهن وهو أهون ما يمكننا أن نستشهد به:
إني لأرجو أن نكون معانقي ... فتبينت منى فوق ثدي ناهد
وأراك بين خلاخلي ودمالجي ... وأراك دون مراحلي ومجاسدي
وأنا لا أنكر أن هذا تصوير صادق لما تنشدهالجارية من أمل لذيذ، فهو من هذه الناحية غزل يرتكز على الإحساس والشعور، ولكن أدعو الشاعرة أن تبرز عاطفتها تلك، في سياق فني، يعتمد على التشبيه البارع، والرقة المتسلسلة حتى تطرب قارئها برونق الأسلوب، فينسى قسوة الفكرة ومرارة الهدف، وأصدق مثال لذلك قول حفصة بنت الحاج القرطبية:
أزورك أم تزور فأن قلبي ... إلى ما تشتهي أبداً يميل
فثغري مورد عذب زلال ... وفرع ذؤابتي ظل ظليل
وقد أملت أن تظمأ وتضحى ... إذا وافى إليك بي المق تفضل بالجواب فما جميل ... سكوتك عن بثينة يا جميل
فواضح جداً أن هدف الشاعرة الأولى هو بعينه هدف الشاعرة الثانية، ولكن سياق حفصة جميل فاتن، ولا غرو فهو طراز أندلسي أخذ جماله من عصره، واستمد رقته من أهله فجاء صافياً كمرآة النهر الوديع.
ولا بد أن يعلم القارئ أن التصريح في نسيب المرأة كان في مجموعة أقل من التلميح. وقد قرأت في هذه الأيام أكثر ما روي لحواء من رائق التشبيب فلم أجد التصريح إلا في حالات خاصة تخفف من حدته، وتشفع لقائلته أتم شفاعة، وهي في جملتها لا تخرج عن حالات ثلاث:
فالحالة الأولى - وهي الجديرة بالإشفاق - تكون غالباً عندما تفقد المرأة صوابها الراشد، وفكرها المتيقظ، فتندفع في تيار الحب أعنف اندفاع وأقساه، ولا تعود تفكر في غير الشخصية المسيطرة على منافذ إحساسها، القابضة على زمام فؤادها، وما ظنك بمن ترسل أشعارها الذائبة ناطقة بجنونها الشقي، غير عابئة بما يلقاه بها الأقربون، من صنوف الإيذاء والتعذيب كشقراء بنت الحباب، فقد قاست في غرامها الطائش ما تقشعر لهوله الأبدان، وطالما أنهال عليها والدها بالسياط المحرقة تشوي الإهاب، وتمزق الأعضاء، وهي بعد لا تنسى في جحيمها المشتعل حبيبها يحيى بن حمزة بل تهتف:
أأضرب في يحيى وبيني وبينه ... مهامه لو سارت بها الريح كلت
ألا ليت يحيى يوم عيهم زارنا ... وإن نهلت منا السياط وعلت
وكأني بوالدها وقد رحمها بعض الشيء فبعث إليها صواحبها لائمات عاذلات، راجياً أن يثوب رشادها العازب إلى وكره، فتنسى ما تهذر به للغادي والرائح، ولكن أمل الحباب ينطفئ خابياً حين يجد ابنته تصيح في آذان اللائمات:
سأرعى ليحيى الحب ما هبت الصبا ... وإن قطعوا في ذاك عمداً لسانيا
فقد شف قلبي بعد طول تجلدي ... أحاديث من يحيى تشيب النواصيا
وهناك من المدنفات من لا تفرق بين النافع والضار، فهي إذ تصطلي بجحيم الشوق اللافح، لا تجد من تطلعه على خبيئة سرها غير والدها العنيف؛ مع أن الأب - لو عقلت الفتاة - أول من ينبغي أن يكتم عنه هذا النبأ المزعج، وخاصة إذا كان من قساة البدو، وجفاة الأعراب، كوالد الخنساء التيحانية، تلك التي علقت شاباً من بني خفاجة يدعى جحوشاً، وقاست في حبها العارم ما أقض مضجعها، وشرد نومها، فكتمت أمرها عن صواحبها، وبعثت إلى أبيها التيحان تقول في غير اكتراث:
وإن لنا بالشام لو نستطيعه ... حبيباً لنا (يا تيحان) مصافيا
نعد له الأيام من حب ذكره ... ونحصي له (يا تيحان) اللياليا
فليت المطايا قد رفعنك مصعداً ... تجوب بأيديها الحزون الفيافيا
وإذن فهي لا تكتفي بإزعاج والدها، بل تتمنى أن يقود بنفسه مطاياه مصعداً إلى جنوب الشام ليكون رسولها الأمين إلى جحوش الحبيب، والغرام جنون فاضح، يولد الغرائب، ويأتي بالمتناقضات!!
أما الحالة الثانية: فلها من الظروف والملابسات ما يبررها لدى المنصف الأريب، إذ تكون العاشقة ثيباً مطلقة، فلا تؤاخذ على هيامها مؤاخذة غيرها من العذارى الناهدات، بل يلقي لها الحبل على الغارب، ويسلم إلى كفها الزمام. أضف إلى ذلك ما غرب عنها من خفر الكواعب، فقد ودعته إلى غير رجعة، يوم أن انخرطت في سلك الزوجات، ولديك أم الضحاك المحاربية فقد أمسكت عن الشعر الغزلي، حتى طلقها زوجها، وأحتمل عنها إلى مكان نازح، فهاج بها الشوق واندفعت تقول:
سألت المحبين الذين تحملوا ... تباريح هذا الحب في سالف الدهر
فقلت لهم ما يذهب الحب بعدما ... تبوأ ما بين الجوانح والصدر
فقالوا شفاء الحب حب يزيله ... على الفور أو نأي طويل على الهجر
وما الحب إلا سمع إذن ونظرة ... وحنة قلب عن حديث وعن ذكر
وسيعجب القارئ حين يجدها تكشف نقاب الحياء دفعة واحدة، فتعبر عن الحقيقة المكظومة إذ تنشد:
شفاء الحب تقبيل وضم ... وجر بالبطون على البطون
ورهز تهمل العينان منه ... وأخذ بالمناكب والقرون
وفي رأيي الغيرة أساس كل بلاء، فلولا أن الشاعرة قد تضايقت كثيراً بتطليقها وأقتران زوجها بغيرها، لما رددت هذا القول الجريء. وأن شئت فأنظر إلى ولادة بنت المستكفي وهي كما تعلم، جراءة قول، وتكبر نفس، فقد ضرع أمام جمالها الفاتن الوزيران الأدبيان ابن زيدون وابن عمار، فهزأت بهذا حيناً، وسخرت بذلك أحياناً، ولكن لم تكد ترى أبا الوليد يداعب جارتها (عتبة) حتى دبت عقارب الغيرة إلى قلبها، وعلى وجهها سحابة قاتمة، من الضجر والضيق، فتركت كبرياءها وكتبت إلى عاشقها تقول:
لو كنت تنصف في الهوى ما بيننا ... لم تهو جارتي ولم تتخير
وتركت غصناً مثمراً بجماله ... وجنحت للغصن الذي لم يثمر
ولقد علمت بأنني (بدر) الدجى ... لكن ولعت لشقوتي (بالمشتري)
فكيف إذن نلوم أم الضحاك وقد أبدت ولادة العظيمة ما أبدت من الغيرة والاندفاع. على أن للمحاربية الخاملة في باب النسيب ما يضعها في منزلة ولادة النابهة، وما زلت أردد في إعجاب قولها الرائع:
حديث لو أن اللحم يشوى بحره ... طرياً أتى أصحابه وهو ينضجُ
ونعرج على الحالة الثالثة، وهي كثيراً ما تتكرر أمامنا من حين إلى حين، فقد تكون المرأة عاشقة صبة، فتجاهد نفسها في إخفاء ما تكابده مجاهدة قائلة، ثم تمر الأعوام وراء الأعوام فإذا الشابة العاشقة تصير عجوزاً شوهاء، ذات أولاد وأحفاد، وإذ ذاك لا تبالي بنقد، أو تحفل بتجريح، بل يطيب لها أن تجلس مع العذارى الناهدات، قارئة تأريخ قلبها الحافل بالعجائب والغرائب، دامعة على صباها الغارب، وشبابها المرحوم، ولا عليها في ذلك ما دام الجميع يتهمها بالهتر والتخريف، وما دامت قريبة من القبر، فهي هامة اليوم أو الغد، وأي نقد يوجه إلى شمطاء شهربة، تدب على العصا، وتمشي بها مشي الأسير المكبل كعشرقة البدوية إذ تقول:
جريت مع العشاق في حلبة الهوى ... ففقتهمو سبقاً وجئت على رسلي
فما لبس العشاق من حلل الهوى ... ولا خلعوا إلا الثياب التي أبلى
ولا شربوا كأساً من الحب حلوة ... ولا مُرة إلا شرابهمو فضلي
ومع ما في هذا القول من الصراحة التامة، فأنه إذا قيس بشعر الرجل كان جميل الأثر، طيب الوقع؛ فنحن نرى الإباحيين من فساق الشعراء كامرئ القيس والفرزدق وبشار يطنبون في ذرياتهم الماجنة، إطناباً تنقبض له الصدور، ولو أننا لا نريد أن ننشر هذا اللون من الإفك، لذكرنا على سبيل ما تحمر له الوجوه؛ غير أننا نضع أمام القارئ أبياتاً لابن أبي ربيعة قد تواضع في سردها، فلم يملأها بما عهد عنه من إفك، وهي رغم ذلك من الإباحية في هوة لا ينحط إليها غزل الحرة، مهما فحش ولذع. قال أبو الخطاب:
فتناولتها فمالت كغصن ... حركته ريح عليه فمارا
ثم كانت دون اللحاف لِمشغو ... ف معّنى بها صبوب شعارا
واشتكت شدة الإزار من البه ... ر وألقت عنها لدَّي الخمارا
حبَّذا رجعها إليها يديها ... في يدي درعها تحل الإزار!
وإن شئت أن ترى للمرأة شيئاً من طراز عمر المكشوف فارجع إلى ما هجناه من غزل الجواري في صدر هذا المقال.
هذا وقد تكون الشاعرة مضطرة إلى التصريح بما يعجز عن بيانه اللفظ ويقف دونه الريق، فتأتي بالمعنى الجلي، في تركيب قوى، دون أن يصدمها المسلك الوعر، ويجبها الواقع المرير؛ فقد راود توبة بن الحمير الخفاجي صاحبته ليلى الأخيلية فشاحت عنه، وأرادت أن تفهمه موقفها النبيل، فلم تستعص عليها قافية أو تند عنها عبارة، بل أجابته في قوة أسر وبراعة نسج فهي تقول:
وذي حاجة قلنا له لا تبحْ بها ... فليس إليها ما حييت سبيلُ
لنا صاحب لا ينبغي أن نخونه ... وأنت لأخرى صاحب وحليل
تخالك تهوى غيرها فكأنما ... لها في تظنيها عليك دليلُ
ولعمرى قد بلغت من السمو والروعة شأواً لم يصل إليه معن بن أوس، حين اصطدم كصخرتها العاتية فقد كان في جاهليته يغشى أم مالك خليلته، فأتت كعادتها إليه بعد إسلامه فقال من أبيات:
ولست كعهد الدار يا أم مالِك ... ولكن أحاطت بالرقاب السلاسلُ
وعاد الفتى كالكهل ليس بفاعل ... سوى الحق شيئاً فاستراح العوازل
وشتان ما بين القولين وإن اتحدت الواقعة، واتفق المراد!!
ولليلى هذه مراث جيدة في توبة وكانت تصلها بقليل من الغزل الرائق فتطرب النفوس في موقفها الحزين، وأشهد لقد دلت على أن أبناء حواء كأبناء آدم، متانة تركيب، وجلجلة لفظ وارتفاع مسلك، ويهمنا أن نعرض نسيبها الدامع إذ تقول في معرض الرثاء:
هو المسك بالأرى الضحاكي شبته ... بدرياقة من خمر بيسان قرقف
فيا ألفَ يوم تأتي مسَّلماً ... فألقاك مثل القسور المتطرف
وهناك من العاشقات غير ليلى من أبدعت كثيراً حين نهجت هذا النهج الجذاب، وزادت فعمدت إلى الجناس الجميل إذ تقول:
كان مثل القضيب قداً ولكن ... قده صرف دهره أي قد
أو تقول:
هو الأبيض الريان لو ضربت به ... نواح من الريان زالت هضابها
وهكذا تكون الدموع مسرحاً للتشبيب البهيج!!
ولا نختم هذا الفصل دون أن نلم بنموذج من الغزل الصوفي الذي ترنمت به المرأة فنشرت أمام العيون بروداً قشيبة، عطرة الذيول. وإذا صح ما يقولون من أن الحب الصوفي في مبدئه حب إنساني شب وترعرع حتى وصل إلى نهايته العلوية، فالمرأة أشد قابلية له من الرجل، لما نعلمه من تأثرها العميق، وإحساسها الرقيق. ويكفي أن نستشهد برابعة العدوية رضى الله عنها فهي صاحبة اللواء الخفق بين أخواتها المتصوفات، ولها من النسيب الفاتن جداول صافية تبل الصدى وتنقع الغليل كأن تقول:
أحبك حبين حب الهوى ... وحبٌّ لأنك أهلٌ لِذاكا
فأما الذي هو حب الهوَى ... فشغلي بذكركَ عمن سِواكا
وأما الذي أنتَ أهلٌ لهُ ... فكشفك لي الحجب حتى أراكا
فلا الحمدُ في ذا ولا ذاك لي ... ولكن لك الحمدُ في ذا وذاكا
ورابعة كما ينطق التاريخ قد سبقت الشعراء جميعاً إلى الغزل الإلهي ففتحت بذلك الطريق لابن عربي وابن الفارض والبرعي ومن يجري معهم في ميدان التصوف الوسيع، ولا أدري كيف سكت محللو الشعر القدسي فلم يسجلوا يدها البيضاء!!
(وبعد) فهذه مرآة لامعة تجلو لنا طرائف من الغزل النسوي ونحن حين نزفها إلى القراء والقارئات نتساءل في عجب: أيوجد بين شاعراتنا الآن من لها - ولو في غير الغزل - هذه الديباجة المشرقة، والرقة المتسلسلة؟ أم أن ذلك عهد مضى ولن يعود؟! (الكفر الجديد)
محمد رجب البيومي
مجلة الرسالة - العدد 752
بتاريخ: 01 - 12 - 1947
ونعلن بادئ ذي بدء أننا لن نتعرض إلى غزل الجواري فيما نحن بصدده من الحديث، لأننا نبحث عن النسيب الصادق الذي يضطرم بالعاطفة المشبوبة، ويتأجج باللوعة المشتعلة، وجل ما بأيدينا من غزل هؤلاء لا يهدف لغير الإغواء والتغرير، بل كثيراً ما يهبطن إلى مستوى لا يرضى عنه خلق نبيل، حتى ليجوز لنا أن نشبههن بمن نرى من ساقطات الممثلات، حيث يشغلن الصحف الخليعة بالحديث عن رنين القبلات، وحرارة العناق، وما يقصدن - علم الله - غير العاقبة الذليلة والخداع المريب.
على أنك لا ترى في شعر الجواري مواربة أو كنانة، بل تجد نفسك أمام صراحة فاضحة، ومنطق مكشوف، كأن تقول إحداهن وهو أهون ما يمكننا أن نستشهد به:
إني لأرجو أن نكون معانقي ... فتبينت منى فوق ثدي ناهد
وأراك بين خلاخلي ودمالجي ... وأراك دون مراحلي ومجاسدي
وأنا لا أنكر أن هذا تصوير صادق لما تنشدهالجارية من أمل لذيذ، فهو من هذه الناحية غزل يرتكز على الإحساس والشعور، ولكن أدعو الشاعرة أن تبرز عاطفتها تلك، في سياق فني، يعتمد على التشبيه البارع، والرقة المتسلسلة حتى تطرب قارئها برونق الأسلوب، فينسى قسوة الفكرة ومرارة الهدف، وأصدق مثال لذلك قول حفصة بنت الحاج القرطبية:
أزورك أم تزور فأن قلبي ... إلى ما تشتهي أبداً يميل
فثغري مورد عذب زلال ... وفرع ذؤابتي ظل ظليل
وقد أملت أن تظمأ وتضحى ... إذا وافى إليك بي المق تفضل بالجواب فما جميل ... سكوتك عن بثينة يا جميل
فواضح جداً أن هدف الشاعرة الأولى هو بعينه هدف الشاعرة الثانية، ولكن سياق حفصة جميل فاتن، ولا غرو فهو طراز أندلسي أخذ جماله من عصره، واستمد رقته من أهله فجاء صافياً كمرآة النهر الوديع.
ولا بد أن يعلم القارئ أن التصريح في نسيب المرأة كان في مجموعة أقل من التلميح. وقد قرأت في هذه الأيام أكثر ما روي لحواء من رائق التشبيب فلم أجد التصريح إلا في حالات خاصة تخفف من حدته، وتشفع لقائلته أتم شفاعة، وهي في جملتها لا تخرج عن حالات ثلاث:
فالحالة الأولى - وهي الجديرة بالإشفاق - تكون غالباً عندما تفقد المرأة صوابها الراشد، وفكرها المتيقظ، فتندفع في تيار الحب أعنف اندفاع وأقساه، ولا تعود تفكر في غير الشخصية المسيطرة على منافذ إحساسها، القابضة على زمام فؤادها، وما ظنك بمن ترسل أشعارها الذائبة ناطقة بجنونها الشقي، غير عابئة بما يلقاه بها الأقربون، من صنوف الإيذاء والتعذيب كشقراء بنت الحباب، فقد قاست في غرامها الطائش ما تقشعر لهوله الأبدان، وطالما أنهال عليها والدها بالسياط المحرقة تشوي الإهاب، وتمزق الأعضاء، وهي بعد لا تنسى في جحيمها المشتعل حبيبها يحيى بن حمزة بل تهتف:
أأضرب في يحيى وبيني وبينه ... مهامه لو سارت بها الريح كلت
ألا ليت يحيى يوم عيهم زارنا ... وإن نهلت منا السياط وعلت
وكأني بوالدها وقد رحمها بعض الشيء فبعث إليها صواحبها لائمات عاذلات، راجياً أن يثوب رشادها العازب إلى وكره، فتنسى ما تهذر به للغادي والرائح، ولكن أمل الحباب ينطفئ خابياً حين يجد ابنته تصيح في آذان اللائمات:
سأرعى ليحيى الحب ما هبت الصبا ... وإن قطعوا في ذاك عمداً لسانيا
فقد شف قلبي بعد طول تجلدي ... أحاديث من يحيى تشيب النواصيا
وهناك من المدنفات من لا تفرق بين النافع والضار، فهي إذ تصطلي بجحيم الشوق اللافح، لا تجد من تطلعه على خبيئة سرها غير والدها العنيف؛ مع أن الأب - لو عقلت الفتاة - أول من ينبغي أن يكتم عنه هذا النبأ المزعج، وخاصة إذا كان من قساة البدو، وجفاة الأعراب، كوالد الخنساء التيحانية، تلك التي علقت شاباً من بني خفاجة يدعى جحوشاً، وقاست في حبها العارم ما أقض مضجعها، وشرد نومها، فكتمت أمرها عن صواحبها، وبعثت إلى أبيها التيحان تقول في غير اكتراث:
وإن لنا بالشام لو نستطيعه ... حبيباً لنا (يا تيحان) مصافيا
نعد له الأيام من حب ذكره ... ونحصي له (يا تيحان) اللياليا
فليت المطايا قد رفعنك مصعداً ... تجوب بأيديها الحزون الفيافيا
وإذن فهي لا تكتفي بإزعاج والدها، بل تتمنى أن يقود بنفسه مطاياه مصعداً إلى جنوب الشام ليكون رسولها الأمين إلى جحوش الحبيب، والغرام جنون فاضح، يولد الغرائب، ويأتي بالمتناقضات!!
أما الحالة الثانية: فلها من الظروف والملابسات ما يبررها لدى المنصف الأريب، إذ تكون العاشقة ثيباً مطلقة، فلا تؤاخذ على هيامها مؤاخذة غيرها من العذارى الناهدات، بل يلقي لها الحبل على الغارب، ويسلم إلى كفها الزمام. أضف إلى ذلك ما غرب عنها من خفر الكواعب، فقد ودعته إلى غير رجعة، يوم أن انخرطت في سلك الزوجات، ولديك أم الضحاك المحاربية فقد أمسكت عن الشعر الغزلي، حتى طلقها زوجها، وأحتمل عنها إلى مكان نازح، فهاج بها الشوق واندفعت تقول:
سألت المحبين الذين تحملوا ... تباريح هذا الحب في سالف الدهر
فقلت لهم ما يذهب الحب بعدما ... تبوأ ما بين الجوانح والصدر
فقالوا شفاء الحب حب يزيله ... على الفور أو نأي طويل على الهجر
وما الحب إلا سمع إذن ونظرة ... وحنة قلب عن حديث وعن ذكر
وسيعجب القارئ حين يجدها تكشف نقاب الحياء دفعة واحدة، فتعبر عن الحقيقة المكظومة إذ تنشد:
شفاء الحب تقبيل وضم ... وجر بالبطون على البطون
ورهز تهمل العينان منه ... وأخذ بالمناكب والقرون
وفي رأيي الغيرة أساس كل بلاء، فلولا أن الشاعرة قد تضايقت كثيراً بتطليقها وأقتران زوجها بغيرها، لما رددت هذا القول الجريء. وأن شئت فأنظر إلى ولادة بنت المستكفي وهي كما تعلم، جراءة قول، وتكبر نفس، فقد ضرع أمام جمالها الفاتن الوزيران الأدبيان ابن زيدون وابن عمار، فهزأت بهذا حيناً، وسخرت بذلك أحياناً، ولكن لم تكد ترى أبا الوليد يداعب جارتها (عتبة) حتى دبت عقارب الغيرة إلى قلبها، وعلى وجهها سحابة قاتمة، من الضجر والضيق، فتركت كبرياءها وكتبت إلى عاشقها تقول:
لو كنت تنصف في الهوى ما بيننا ... لم تهو جارتي ولم تتخير
وتركت غصناً مثمراً بجماله ... وجنحت للغصن الذي لم يثمر
ولقد علمت بأنني (بدر) الدجى ... لكن ولعت لشقوتي (بالمشتري)
فكيف إذن نلوم أم الضحاك وقد أبدت ولادة العظيمة ما أبدت من الغيرة والاندفاع. على أن للمحاربية الخاملة في باب النسيب ما يضعها في منزلة ولادة النابهة، وما زلت أردد في إعجاب قولها الرائع:
حديث لو أن اللحم يشوى بحره ... طرياً أتى أصحابه وهو ينضجُ
ونعرج على الحالة الثالثة، وهي كثيراً ما تتكرر أمامنا من حين إلى حين، فقد تكون المرأة عاشقة صبة، فتجاهد نفسها في إخفاء ما تكابده مجاهدة قائلة، ثم تمر الأعوام وراء الأعوام فإذا الشابة العاشقة تصير عجوزاً شوهاء، ذات أولاد وأحفاد، وإذ ذاك لا تبالي بنقد، أو تحفل بتجريح، بل يطيب لها أن تجلس مع العذارى الناهدات، قارئة تأريخ قلبها الحافل بالعجائب والغرائب، دامعة على صباها الغارب، وشبابها المرحوم، ولا عليها في ذلك ما دام الجميع يتهمها بالهتر والتخريف، وما دامت قريبة من القبر، فهي هامة اليوم أو الغد، وأي نقد يوجه إلى شمطاء شهربة، تدب على العصا، وتمشي بها مشي الأسير المكبل كعشرقة البدوية إذ تقول:
جريت مع العشاق في حلبة الهوى ... ففقتهمو سبقاً وجئت على رسلي
فما لبس العشاق من حلل الهوى ... ولا خلعوا إلا الثياب التي أبلى
ولا شربوا كأساً من الحب حلوة ... ولا مُرة إلا شرابهمو فضلي
ومع ما في هذا القول من الصراحة التامة، فأنه إذا قيس بشعر الرجل كان جميل الأثر، طيب الوقع؛ فنحن نرى الإباحيين من فساق الشعراء كامرئ القيس والفرزدق وبشار يطنبون في ذرياتهم الماجنة، إطناباً تنقبض له الصدور، ولو أننا لا نريد أن ننشر هذا اللون من الإفك، لذكرنا على سبيل ما تحمر له الوجوه؛ غير أننا نضع أمام القارئ أبياتاً لابن أبي ربيعة قد تواضع في سردها، فلم يملأها بما عهد عنه من إفك، وهي رغم ذلك من الإباحية في هوة لا ينحط إليها غزل الحرة، مهما فحش ولذع. قال أبو الخطاب:
فتناولتها فمالت كغصن ... حركته ريح عليه فمارا
ثم كانت دون اللحاف لِمشغو ... ف معّنى بها صبوب شعارا
واشتكت شدة الإزار من البه ... ر وألقت عنها لدَّي الخمارا
حبَّذا رجعها إليها يديها ... في يدي درعها تحل الإزار!
وإن شئت أن ترى للمرأة شيئاً من طراز عمر المكشوف فارجع إلى ما هجناه من غزل الجواري في صدر هذا المقال.
هذا وقد تكون الشاعرة مضطرة إلى التصريح بما يعجز عن بيانه اللفظ ويقف دونه الريق، فتأتي بالمعنى الجلي، في تركيب قوى، دون أن يصدمها المسلك الوعر، ويجبها الواقع المرير؛ فقد راود توبة بن الحمير الخفاجي صاحبته ليلى الأخيلية فشاحت عنه، وأرادت أن تفهمه موقفها النبيل، فلم تستعص عليها قافية أو تند عنها عبارة، بل أجابته في قوة أسر وبراعة نسج فهي تقول:
وذي حاجة قلنا له لا تبحْ بها ... فليس إليها ما حييت سبيلُ
لنا صاحب لا ينبغي أن نخونه ... وأنت لأخرى صاحب وحليل
تخالك تهوى غيرها فكأنما ... لها في تظنيها عليك دليلُ
ولعمرى قد بلغت من السمو والروعة شأواً لم يصل إليه معن بن أوس، حين اصطدم كصخرتها العاتية فقد كان في جاهليته يغشى أم مالك خليلته، فأتت كعادتها إليه بعد إسلامه فقال من أبيات:
ولست كعهد الدار يا أم مالِك ... ولكن أحاطت بالرقاب السلاسلُ
وعاد الفتى كالكهل ليس بفاعل ... سوى الحق شيئاً فاستراح العوازل
وشتان ما بين القولين وإن اتحدت الواقعة، واتفق المراد!!
ولليلى هذه مراث جيدة في توبة وكانت تصلها بقليل من الغزل الرائق فتطرب النفوس في موقفها الحزين، وأشهد لقد دلت على أن أبناء حواء كأبناء آدم، متانة تركيب، وجلجلة لفظ وارتفاع مسلك، ويهمنا أن نعرض نسيبها الدامع إذ تقول في معرض الرثاء:
هو المسك بالأرى الضحاكي شبته ... بدرياقة من خمر بيسان قرقف
فيا ألفَ يوم تأتي مسَّلماً ... فألقاك مثل القسور المتطرف
وهناك من العاشقات غير ليلى من أبدعت كثيراً حين نهجت هذا النهج الجذاب، وزادت فعمدت إلى الجناس الجميل إذ تقول:
كان مثل القضيب قداً ولكن ... قده صرف دهره أي قد
أو تقول:
هو الأبيض الريان لو ضربت به ... نواح من الريان زالت هضابها
وهكذا تكون الدموع مسرحاً للتشبيب البهيج!!
ولا نختم هذا الفصل دون أن نلم بنموذج من الغزل الصوفي الذي ترنمت به المرأة فنشرت أمام العيون بروداً قشيبة، عطرة الذيول. وإذا صح ما يقولون من أن الحب الصوفي في مبدئه حب إنساني شب وترعرع حتى وصل إلى نهايته العلوية، فالمرأة أشد قابلية له من الرجل، لما نعلمه من تأثرها العميق، وإحساسها الرقيق. ويكفي أن نستشهد برابعة العدوية رضى الله عنها فهي صاحبة اللواء الخفق بين أخواتها المتصوفات، ولها من النسيب الفاتن جداول صافية تبل الصدى وتنقع الغليل كأن تقول:
أحبك حبين حب الهوى ... وحبٌّ لأنك أهلٌ لِذاكا
فأما الذي هو حب الهوَى ... فشغلي بذكركَ عمن سِواكا
وأما الذي أنتَ أهلٌ لهُ ... فكشفك لي الحجب حتى أراكا
فلا الحمدُ في ذا ولا ذاك لي ... ولكن لك الحمدُ في ذا وذاكا
ورابعة كما ينطق التاريخ قد سبقت الشعراء جميعاً إلى الغزل الإلهي ففتحت بذلك الطريق لابن عربي وابن الفارض والبرعي ومن يجري معهم في ميدان التصوف الوسيع، ولا أدري كيف سكت محللو الشعر القدسي فلم يسجلوا يدها البيضاء!!
(وبعد) فهذه مرآة لامعة تجلو لنا طرائف من الغزل النسوي ونحن حين نزفها إلى القراء والقارئات نتساءل في عجب: أيوجد بين شاعراتنا الآن من لها - ولو في غير الغزل - هذه الديباجة المشرقة، والرقة المتسلسلة؟ أم أن ذلك عهد مضى ولن يعود؟! (الكفر الجديد)
محمد رجب البيومي
مجلة الرسالة - العدد 752
بتاريخ: 01 - 12 - 1947