كلما دخلت دار احد معارفي من العوائل المنحدرة من عالمنا العربي ـ الاسلامي اجد الـتـلـفـزيون مفـتوحا والصور تـتوالى وتـتغـير بينما نحن نتحدث ونأكل، ومن حين لآخر تـلقي عـيوننا نظرة على شاشة التـلفـزيون بشـكل لا إرادي وبلا مبالاة، فـتـخـتـلـط الصور بالأحاديث والاكل. وهكذا ان بعض أقاربي تعـودواعلىعـدم الاصغاء، او سـماع فـقـرة هنا وكلمة من هناك.
ما الذي يغـري في هـذه الصور؟ ولماذ نترك الـتـلفـزيون مفـتوحا طوال اليوم؟ هل هو البحث عن المعـرفة وبهدف التعـلم؟ هل الهـدف هو سماع آخر الاخبار؟ هل هو عـطـش للصور بعـد قـرون من الكراهـية لها؟ هل هو اغـراء النورالآتي من الشـاشـة؟ ام انه رمز للتـطور او الثـراء بعـدما كـنا محرومين منه؟
تهـت في البحث عن السـبب، لأن موضوع الصورة واسـع ومعـقـد. فهي تـقع في جوهرها على الحياد، ولكنها تـُجذب باسـتمرار لهذه الجهة او تلك، فهناك صور لها مفعول كالعـسـل واخرى كالسـم، ومن الصعب ادراك ذلك بسهـولة في اول وهلة، ومن الصعب التمـيـيـز بينها. لابد من التـذوق، فهنالك صـور نافعة وأخرى ضارة لها تأثـيـر سـلبي ورديء على المـشـاهد.
ورحت أسأل نفسي: ماهي الصورة ؟ ومن اين أتت ؟ ماذا وجد رجال الآ ثـار من اقــدم الصور التي أبدعها الإنسان؟ وكيـف تطورت هذه الصـور؟ و كـيـف تـنـظر الأديان السـماوية للـصورة؟
وهل ان تأثـير الصور تـغـيـر في ما نـشاهده من اتـساع لاســتعـمال الصور في العالم؟ الصورة عند الاسلام لم تكن محبـبة بـينما اليوم في ارض الاسلام يبدو العكس هو الصحيح.
في بداية القرن العـشـرين لم يكن الكثـير من الرجال يقـبل على عـمل صورة لجواز السفر بــيـنما الآن تكون الصور مباحة ومقـبولة، بل ولحد التـخمة.
*
اتذكر عـندما كنـت صغـيرا في الخمـسـيـنـيـات بـمديـنة النجف لم نكن نعرف الصور، كـنا في مدينة بعـيدة عن المنتـوجات الصناعـية ولا تصل الينا المطبوعات المصورة، والتي لم تكن منـتـشـرة في ذلك الوقت كما في عصرنا الحالي. كانت النجف في صغري تــشــبه كل المدن القــديمة، قبل معرفة الصور.
اكتـــشــفت الصور بشـكل حقيــقي في بغداد وأخيرا في باريـس. وها أنا اليوم أعـوم في بحر من الصور، كمن يــســبح ضد تيار الموجات العنـــيــفة، اريد التــخلـص من الــتــأثــيــر الســحري للصــور.
الصورة اليـوم هي ظاهـرة العـصر. نراها بكل مكان ونـستـخدمها في الحياة اليـوميـة. ولكن لابد من التـساؤل امام دورها المهم في عصرنا الحالي. فما هي ايجابيـاتها وما هي ســـلبـياتها ؟ وهل ان الانـسان اهم من الصورة ام الصورة اهم منه؟
من اهم الصور في عـصرنا انتـشـارا هي صور الـتـلفـزيون بلا شـك، حيث تـنـــقـل لنا اخبار العالم، تــنــقـلنا الى قـلب الحدث، تعرفـنا على الشـخصـيات الســـياســية، ولكن بنفــس الوقــت تجــبرنا على تجرّع ما لا نــريد رؤيته.
ومن جانب آخر ان الادمان الجماهـيري على صور الـتــلـفزيون، يلغي الاحاديث العائلية المطولة والقصص والحكايات التي كانت سائدة قـبل زمن التـلفـزيون. وهذا احد الادوار السـلبية للتـلفزيون.
وقبل التــلفـزيون كان للصورة الفوتوغرافـية سـلـبـياتها ايضا، قرأت مرة مقالا يقول: ان شـخصا يطرق باب دار بهدف الدعاية فـتـفـتح صاحبة البــيت الباب. فـيـقول لها الرجل بأعجاب: ان طفـلك جمـيل جدا. فـتجيـب السيدة: آه انه اجمل بكــثـير في الصورة، وتركض لتـبحث عن الصورة كـبرهان على ذلك. وهكذا نجد في هذه الحكاية ان الصورة تأخذ قيـمة اكـثر مما تـسـتحق عند بعـض الناس، لأنه و بالتأكيد يـبـقـى الـطـفـل اجـمـل بـكثـير من الـصـورة.
في الســنـين الاخـيرة، و بـشـكل عام تــتـفـرج العوائل العربية – الاسـلامية بكــثرة على التـلفـزيون مبهورة بالصور. ولكن لماذا كل هذا الادمان على الصور؟ فــقـبل ظاهرة التــلفــزيون لم نكن نعرف الصورالا ما ندر.
هل انها نتـيـجة لرغـبات مكبوتة عـميـقة مضت عليها قرون عـديدة. وهاهي اليوم تصعد وتعـود بسـرعة وخلال بضـع سـنوات؟
ندع التـلفـزيون مفـتوحا وكأن الحديث مـســتمر، بـيـنما الحقــيـقة هي، ان هنالك شــخصا خلف الشـاشــة هو الذي يتحدث وحده سواء نرضى بما يقول او لا نرضى. ولكن أين تكمن رغـبـتـنا؟ هل في مشاهدة الشـخص المتحدث؟ ام في التمتع بســيول الصور المنهــمرة من هذا الجهاز الصغــير؟
دخلت مرة دار احد معارفي فـنهـض لاســتـقـبالي مرحبا، وبعد المـصافحة ركض يفـتح التــلفـزيون وهو يعــتـذر لكونه مغــلقا، ولم اجرؤ القول له انني اتــيت لرؤيـته لا لرؤية التـلفـزيون. بيـنما في المجتـمعات الاوربية فالعكـس هو الصحيح، أنهم يغلـقـون التــلفزيون عند مجيء زائر لهم.
هل ان التـلفـزيون علامة من علامات الثراء ودليل على التـطور؟ ام انه دين جديد؟ نسجدأمامه بخـشوع كل مـساء.
هل انه المعـبد الجديد، ولشـعوب كــثـيرة على الارض!
صورالتلفزيون جذابة متحركة وملونة على غاية في الاتـقـان. ولكـنها هنا تخدم الدعاية والاعلان والرأسمال التجاري، وهناك صور اخرى تخدم رجال السياسة.قليل يعكس الفنون.
في مجـتمعـاتـنـا الاسـلامية القـديمة كانت صور الكـتب هي الأهم. ولكن الكـتب في الزمن الماضي كانت محصورة بيـد جمهور مثـقـف قــلـيل العـدد، وعامة الناس آنذاك لم يشاهدوا تلك الصور.
كانت هنالك ظاهـرة مؤقـتة للصور الشــعـبية المطـبوعة. استـمـرت حوالي النصف قرن وأخــتـفـت منذ ســنوات قــليلة. وموضوعاتها كانت تعكـس المخـيلة الـشعــبـية منها: سـيرة بني هلال وصور مـقـتـل الحسـين كذلك صورة البراق الذي كان يُرسـم على شـكـل حصان و برأس فـتـاة. اتـذكر انني اشـتريت عددا مخــتـلفا من هذه الصـورة في القاهرة في الثــمانـينيات. ومما كان يطـبع في مصر آنذاك، كانت رؤوس الفـتـيات دائما تمـثـل الممـثـلة المـصرية الأكثـر شـهرة في زمن طبع الصورة.
تباع سـابقا ً هذه الصور في بعـض الدكاكـين، او في سـاحات شـعـبـية، كما شـاهـدت ذلك في المغـرب والجزائر في السـبعـيـنـياتمن القرن العشرين، حيـث يتجـمع الناس حول الراوي يسـمعون الحـكايات، وعـندما تـنـتهي الحكاية، يـبـيع لهم تلك الصور التي تحـتل مكانها على جدران بيوتهم .
ولكن هل يمكن مقارنة تلك الصور بصور التـلفزيون الحالية؟ ان الصور القديمة على بســاطتها وســذاجتها كانت تــنمّي من مخـيلة الجمهور. فالكــل أي كل المــشاهـدين يحــفـظـون القصـص الطويلة عن ظهـر قـلـب، والصورة الصغـيرة تكون كملخص مرئي لكل قـصة. الجمهـورفي ذلك الوقت هو الذي ينسج فـلم القصـة في مخـيلـتـه امام الصورة المطبوعة. بـيـنما صور اليـوم الفوتوغرافية الكاملة والمتحركة، الوفـيرة المعلومات لا تـترك مجالا واسعا لمخيلة المـشاهد بأمكانية التدخل والتأمل. صحيح ان الصورة التـلفـزيونـية يمـكـنها ان تكون وســيلة تطور ثـقــافي، وهي قادرة على ذلك، بـشـرط ان ننــظر اليـها بوعي وأن نحاول اخــتـيار الصور الجـيدة منها، لأن مجرد النظر لأي صور كانت، وبكـمـيات كـثــيرة، سـيؤدي في النــتـيـجة إلى خنـق مخـيلة المــشـاهد، والحد من التطور الثـقافي.
حتما ان الصورة يمكن ان تـكون وســـيلة ثـقــافـية. ولكن عن أي صورة نتـكلم؟
إن النقـد الذي اوجهه هو للصور التي في النهاية لاتــدفـعـنا للتأمل والتــفـكـير. النقــد لتـلك الصور التي تـنهـك الإنسان ولا تــرفعـه إلى الالتــقاء باحساساته وبعالمه الداخلي. بينما ان الصور الجيدة والجميلة تضع الانسان بأحسن حال. ان المتعة الآتـية من الجمال تـتحول الى طاقة ايجابـية نحو الارتـقاء، بـيــنما الصور الرديـئة تـزج الانسـان في مـتاهات الحزن والتخـلف.
يرى العلماء بأن الانــسان الذي يــشابهــنا يعود الى حوالي 300 الف ســنة. وأقــدم صور معروفة عـملها البـشـر تعود إلى ما قبل حوالي 30 الف سـنة، في كهوف بجنوب اوربا. رسـوم حيوانات وعلامات متعـددة تعـكــس الحياة اليـومية للانسـان القــديم. رسـمها الانســان من الطيــن الملون بالدم أوســخام الدخان على الجدران الصخرية للكهوف.
صور يرى الباحثــون انها عمــلت بدوافع فـطرية، وكان هــدف الانـسان منها اعطاء الثــقة لنــفــسه بنـفــسه. وليــطمـئن ذاته بالسـيطرة والانتصار على الحـيوان والطـبــيعة.
تدريجــيا تطورت هذه الصور حتى الحضارات القـديـمة: الســومرية، المصرية القديمة، البابلــية، والاشــورية. فأخذت الصور تعــكـس الاعتــقاد الديـني او تســجل مراحل تاريـخــية. وكل من كان يملك الحكم سـوف يفرض افكاره: كمــسـلة نرام ســن المحــفوظة في متــحف اللوفـر بباريــس. حيــث نرى الملك الاكـدي يقـود الى شــمال العراق حملة عـسكرية يعـتــقـد المؤرخون انها للســيطرة على منابع القار والنفط. نراه منـتـصرا وأعداؤه يتــساقــطون.
وفي مصر القــديـمة انتــجت الحضارة الفرعونيـة صورا من كل الأنـواع، ربما تكون اجمل ماخلق البــشـر من الانتــاج الفنــي. عـملت التــماثــيل والصور بمواضيــع عـديدة وكانت على غاية من الاتــقـان الفــني. و اسـتــخـد مت لـتـزيـين المعــابد والقــصور والمقـــابر.
في المعــابد الدينــية المصرية كانت الآلهة انذاك اكــثـرها من الحيـوانات يرســمها وينحتها مـخـتــصون بهذا العمل. فأمـتلات المـعابد بالاشـكال العملاقة الخارقة. ارادوا في ذلك الوقت اســتـمالة كل ما يرهب الانـسـان أو السيطرة عليه. وكان كل حــيوان يمتلك قـدرات خصــوبة او قوة اسـتــعانوا بها في عمل فني عبر الصور.
كل هذه الاعمال الفــنـية كان ينــظراليــها بقدســية انذاك. وكانت العلاقة معـها تخـتــلف تماما ً عن علاقــتـنا اليوم بها، فـنـحن ننــظر لها اليوم كأعمال فــنية ونســميـها تماثــيل. بـينـما انــسان ذلك الزمن ينظر اليها بخـشـوع وهلع وكانت تعرف كآلهة.
الهـدف من هذه الاعمال الفــنية في ذلك الزمن هو ممارسة تأثـــير اخلاقــي على المتعــبدين. يتـوجه اليها الجمـهور الشـــعبي بالدعاء لتحــقيـق مطالبه.
اوكانت بهدف سـياسي لتأكيد طاعة الشـعـب لســيده الحاكم.
وهكذا ان ما نســميها اليوم تماثــيل ترقـد في المتاحف. كان اكثرها في عهد مضى آلهة للناس. وكان هؤلاء البشــر يؤمنون بشــكل قاطع بأنها تقرر مســتـقـبلهم وتؤثـر عـليه. يتضرعون اليـها في حالات الأزمات والمرض آملـين منها المـسـاعدة. وبالتأكيد أن جزءً كبيراً من أبطال هذه الاعمال الـفـنية لعب دورا سـياسـيا. فـمن يتـجول في اروقة هذه المعابد والقصور يرى صور رجال الحكم وانـتصاراتهم على الاعداء. كصور الفرعون رمســيـس الثاني منـتصرا على جدران معابد مصر القديمة. وفيما بعد يكرر الاشـوريون نفس المواضيع. وعندهم كانت الجداريات تمثــل غزوات سرجون الثـاني وانتصاراته. فالمنحوتات الضخمة ترهب كل من يدخل المعالم المعمارية.
هنالك فـتـرة قصـيرة حدثـت فيـها تسـاؤلات في تاريخ الفـن المصري القـديـم. فـعـند وصول اخـناتـون الى الحكم في القرن الرابع عـشـر قـبل الميلاد. اهتـم كـثيـرا بالشـكل الفـني. قـبل اخناتـون كان النحاتـون يغـيـرون من صـور البـشـر والحيوانات ويعـطـونها صفات لايملكونها. وخصوصا كل ما يتـعلق بالآلهة. كانت مظاهرهم محورة وغـير طبـيعـية. وبحجوم عملاقـة وخارقة للعـادة.
ولكن عند مجيء اخـناتون طلب من الفـنـانيـن ان تكون الصور مطابـقة للاشكال الطبيــعيـة. أي عمل ماهو مرئي وليــس ماهو متــخيل. وهكذا غــّير قواعد الجمال في مصر القـديمة.
اما بالنـســبة الى الآلهة فـمــنع اخــناتون تعــددها وابقى على إله واحد فــقط
وهو آتون الذي طلب ان يكون شــكله على شــكل قرص الشــمـس والاشــعة المنبعـثة منه.
سـجل زمن هبوط الحضارة المصرية تراجع الفن المصري وأرتـقــاء الحضارة اليـونانــية. رفـض الاغــريـق فكــرة المصريــين في عبادة الحـيوانات، ووجدوا انها لا تصلح الا للنــذور، او الاحتــياجات اليــومية للبــشر. وقرروا ان تكون صور الآلهة على شــكل صور البــشـر ولكن بجـمالياتومظاهر خارقة للعادة.
عندما كان يُطلبُ من احد النحاتيــن في ذلك الوقت عمل آلهة أنثى، يطلب النحات ان يأتوه بأجمل شـــابات المديـنة. ليخـتار من كل واحدة الجزء الأكــثر تــناسـقا، وبالتالي يـجمع كل ذلك في تمــثال واحد. وهذا ما سمي من قبل نقاد الفن بالجمال المثــالي أي الجمال الذي لا مثــيل له من حـيث الروعة والقـياســـات الـســليـمة على الارض. ونرى هذا مجسدا في تمــثال فيــنوس بمتـحف اللوفر بباريــس. او ما اكــتــشـف في قاع البحر في اليـونان لتمــثال من البرونز يعتــقد انه كان يمــثــل شـيخ الآلهة زوس حيث الجــسم يــشابه جــسم شــاب رياضي والرأس يمثــل شــيخ يعبر عن النضوج والحكمة والـتأمل.
ان هذه الطريقة في عمل الفــن دفعـت الفــيلسـوف افلاطون على الثورة والرفض لهذه التــقاليد، اذ يقول:
ان هذا الفن لا يمكنه الوصول الى الحقــيقة ، بل على العكـس انه يتيه الانــسان عن طريق الحقيــقة
ويرى افلاطون، ان الصور كلما كانت فاتــنة ومغـرية بشكل مصطنع فانها ســتـلعب دورا ســيئا في المجتمع. ولا يعني هذا رفض افلاطون للجمال بل على العكس انه يعـتبر الجمال هو الطريق الحقيقي للوصول الى الحقيقة .
عندما حكم على الفيـلسـوف ســقـراط بالـموت، تـسـائل افلاطون:
ماذا يجب عـمله لكي لا يكرر البـشــر نفــس الجريمة في الحكم بالموت على رجل مثــقـف كســقراط. ولم يجد الا جواباً واحداً: التــربـية وتثقيف البشر.
وكان يرى ان المديــنة يجــب ان تحكم من قــبل الفلاســفة، وتخـيل ذلك في كــتابة الجمهورية حيث يتعـلم الناس في هذه المدينة الفاضلة، الشــعـر والفــلســفة، الموســيقى والعـلوم، ويتعلم الانســان ما يخــفى خلف المـظاهرالمرئية. ويعـطي مثلا ً لذلك:
سُجن رجال منذ ولا د تـهم في كهــف مظـلم، ولا يرون شـيـئا ً سوى ظلال تماثــيل متـحركة، يرفعـها اشـخـاص على رؤسـهم. وبســبب وجود جدار يفصل بين السـجناء والاشـخاص الذين يحملون التـماثـيل، كان السـجناء يرون الظلال فــقط ولا يرون حاملي التماثـيل. وهكذا كان السجناء متأكــدين من ان هذه الظلال الســوداء المتحركة هي الحقــيقــة.
وفي احد الايام يهــرب احد الســجناء خارجا من الكهــف فـيرى النور، ويكــتـــشـف ان الظلال التي كان يراها في الكهـف ما هي الا صورللتماثيل، وأن حقــيـقة المشهد موجودة في الخارج. وعندما اعاده الحراس للــسـجن، اخذ يقــص ما رآه للــسـجناء الآخرين، ولكن لم يجـد احداً يســمعه.
يريد افلاطون القول في هذا المــثال ان الفــكرة تخـتـفي خلف الظلال.
وأن الانــسان لايحب ان يقـبــل بأكتــشـاف حقــيــقة تخــتـلف عن معــتـقـــداته الاعـتيــادية.
ولو نطبق افكار افلاطون اليوم على اكــثرالصور التي نراها يوميا، ونحاول التــفكير بما هو خلف الصور التي نـشاهدها في الافلام والتــلفزيون. لنجده محقا فيما يقول، فأن نرى فلما من بضعة دقـائق، نعرف ان المخرج طلب من مصورية عمل الكــثير من الصور. ولعدة ساعات، وأختار فيما بعد ما يناســبه لعدة دقائق بعملية المونتاج، ورمي الباقي. وهكذا تكون الحقيـــقة حقيــقة المخرج. ولو يأتي مخرج آخر لكان عمل شــيئا آخر من نفــس الصور الأولى. ويكون بذلك قد اعطى حقــيقة ثانية.
ويمكن ان نأخذ الموضوع بشـكل آخر. شـركة تجارية تسعى لتصريف منـتوج لها فـتـدفـع مبالغ باهـظة لمخرج سينما من اجل عـمل فـلم دعاية لدقـيـقة واحدة. فيـصورمخرج الفلـم الكــثـيـر من الصور لعائلة جمــيلة في بــيت جــميل واطفال بملابس جمـيلة، يلعبون في حديــقة جــميلة كالجنة، ويســتهلكون ذلك المنتــوج اللذيذ أو الجميل. يلـتـقط المخرج اجمل الصور لعمل فلم في دقيقة واحدة. ويعرضه كفلم دعاية. في اليوم التالي ترتــفع المبـيعات لذلك المنـتوج. رغم وجود شركات اخرى تـنــتج منــتوج افـضل وأقــل سـعـرا. وهكذا يمكن ان نقول ان الفكرة خلف صور الدعاية الجميلة هي الربح المادي. قبل ان تكون بحثـا عن حقيقة الجودة للمنتوج.
ان الصور هي وسائل تعــود لمن يســتخدمها وبالاتجاه الذي يبغـيه. وبـعـدد اختــلاف افكارالتــيارات البـشــرية تــتعـدد اتجاهات الصور. وعموما ان الاقـتصاد والمال هو اليوم الموجه الاكبر للصور. بينما في السـابق كانت السـياسـة والاقـطاعـيون وبعض الاديان.
المـشـاهدون هم انفـسهم في كل زمن، الطبـقات الشـعـبـية العريضة المراد التأثـيرعلـيها. ولحد اليوم يبقى المـشاهدون للتـلفـزيون بكـثـرة هم الطبقات الشـعـبـية.
ويعطي فريد الدين عطار في القرن الثالث عشر قصة الفراشات والشـمعة للتأكيد بأن صورة الشـمعة هي ليـسـت حقـيقة النور :
اجتـمعـت بعض الفراشـات في احدى الليالي، وتساءلن عن ماهـية الشــمعة والنور؟
كما نتـساءل نحن اليوم عن ماهـية الصور في هذا المقال.
فـذهـبت إحدى الفراشات لرؤية شـمعة قريـبة، ورجعت تصف على قـدر فهـمــها مارأت.
ولكن الفراشـة الحكـيمة التي ترأسـت الجلـسـة قالت لها: يا عـزيزتي انك لم تحظي بمعرفة حقـيـقة النور.
فطارت فراشـة اخرى الى نحو النور وطافـت حول الشـمعة ولامـس جناحاها اللهب، ثم رجعت تـقص للاخريات بعـض الاسـرار عما رأت وما تحسـست. ولكن الفراشـة الحكـيمة قالت لها: ان وصفـك يبـقى ناقـصا وغير مقنعا.
فـنهضت فراشـة ثالـثة، ثملة ونشـوانة من حبها للنور، ذهـبت وارتمت على لهب الشــمعة فاحتـرقـت وأصبحت حمراء اللون كالـنار تماما.
وعندما رأت الفـراشــة الحكيــمة ان الشـمعة قـد غـيرت لون الفـراشـة، قالت ان هذه الفراشـة قد توصلت إلى ما تريد معرفـته.
اما في الاديان الســماوية فأن الصورة مـنذ الـبداية مرفوضة عند اليـهود. ان الوصية الــثانـية تمنعها: لاتعـمل ابدا ً صور منحوتة... ونقرأ ايضا في ســفر التكوين:
موسى: اريد ان ارى صورتك
فيجيبه الأله: لا تســتطــيع ان تراني وتبــقى حيا.
بيـنما لعـبت الصورة دورا مهما في العالم المـسـيحي: ان الاله خلق الانسـان على صورته... مما دفع بعـض الفــنانيــن لتــصويرالاله في شكل بشــري ولكن بأعــطائه هــيـبة اكبر. وأهم مثال على هذا تصوير الإله في سـقــف معـبد سـكســـتـيـن داخل الفاتــيكان بروما. من قبل الفــنان ميكائيل أنجلو في القرن الســادس عــشر. ونرى الاله يمد اصبعه الى آدم كي يلامـس اصبعه وبذلك يمنحه الحياة.
ولكن هذا لم يرق لبعــض المــسـيـحــيـين وأســتـغـربوا من اســتطاعة وقدرة الفــنان الإنـسـان تــخيل شكل خالـقه. كانوا يقولون في ذلك كيف يستــطيع الطين ان يخلق شكل صانع الفخار. وأمتد النزاع الى الطبــقات السـياسـية العلـيا حول استخدام الدين للصور. وانتـصر مؤيدوا الصور تارة، والمعارضـون لها تارة أخرى.
الامبراطورية الرومانية منعـت استعمال الصور مابيــن سنة 235 و 476 ميلادية . ويقول الفـيلسـوف زنون في القرن الثالث:
ان الإله هو الوعي الكوني وانه موجود بكل مكان ولا يقــبل تمــثالا ولا معبدا، المكان الحقــيقي له في الســماء المأهولة بالنجوم.
المـشــكلة التي كانت تـثــير الكـثــيرين في ذلك الزمن هو ماهــية الصور والتـماثـيـل. هل انها مجرد احجار وأصباغ تــشـيرالى الآلهة فـقـط، ام انها تـقدس لانها تمــثـل الآلهة؟
الجمهور الشــعـبي البــسيــط يخلط بــين مادة الصـور وبــين الآلهة نفــسها. في كل الازمان يريد الجمهور العريض صورا تـجعل الآلهة مرئية ومعروفة. فكان يعـبد الاصنام التي هي مجرد احجار ويطلب مسـاعدتها في كل نكــباته.
في حوالى عام 600 ميلادية ، امر ســـرنوس اســقـف مدينة مرســـيـليا بجــنوب فرنــسا بتحــطيم كل الصور والتــماثـــيل الديــنـية في مرسيـــليا. وكان البابا في ذلك الوقت يســمى كريكوار الكبــير . أحتــج على ما فعله سرنوس وكــتب اليه معاتبا، بأن الصور هي موجهة للأميــين الذين لا يعرفون القراءة، لغرض تعلــيمهم بقـصص الـكـتاب المـقدس. مكافأة الجنة وعذاب النارمثلا.
لم يكن يقــبل سـرنوس رؤية الناس وهم يقــبـلــّون هذه التــماثــيل معـتــقـدين انها تملك القـدســيــة بيــنما هي في الحقيقة احجار منحوتة لا اكــثر.
في زمن ســرنوس كان العرب في الصحراء قبل الاسلام يعـملون نفــس ما يعمله سكان مرســيليا. كانت الــقبائـل العربــية تــتجه الى مكة لعــبادة آلهـتها وهي تـنـــشـد الشـعر ...
واللات والعـزى
ومناة الـثـالـثـة الاخرى
فانهـن الغـرانيـق العلى
وان شـفاعـتهــن لترتجى
يـقول المؤرخون انه كان في الكعبة وحواليها 360 تمثـال وصورة تعـبدها القـبائل العربية .
ولكن مع مجيء الاسلام رفعـت هذه التماثــيل والصور. وعندما طـُـــلب من الفـنـان المــسلم فيـما بعد عمـل ديكور للمعالم الديــنية، لم يسـتــطع تصويرالأ له لأن الإسلام لم يحدد شـكلا يشخص الله وفي القـرأن نقـرأ الله نور السـمواة والارض فأكـتـفى الفـنان المـسـلم بخط اسم الجلالة وآيات من القرآن. وحاول المهـنيــون فيما بعد عمل هالات من النور آتـية من المواد التي عمل الخط علــيها. كما نرى هذا في الســيراميك حيث تغــلف مادة الزجاج الطابوق الملون. وكـذلك بأسـتعمال تدرجات لونـية تجسـيدا للايـحاء بالنـور.
وبشـكل عام ومنذ قـرون لم يـمـنع الاسـلام الصور. انما ظلت غـير محبـبة ومكروهة. أختــفـت الصور تماما من المعالم المعمارية الكبرى داخل المديـنة. بـيـنما أسـتعـملت في الكـتب كأداة توضـيح بأهداف ثــقافـية وتربوية. اما في ديكور المعالم المعمارية فــقد اسـتـعـمل الخط العربي بشــكل واســع واصبح كبـيرا جدا، على عكـس الحضارات الاخرى والتي نادرا ما اعـطت الخط حـجما معــماريا.
واســتعـملت ايضا العلامات التــجريدية، فأصــبح الديكور الاســلامي ديكورا تأمليا يعــطي المــشاهد مجالا واســعا للتــدخل وتـفـــســير الأشــياء المرسـومة ومن هذه العلامات: صورالا وراد والغــصون ولكـنها ليـســت مرسومة بشــكل طــبــيعـي كما تراها العين في الحدائق، وأنما يعاد رسمها على خلفـية هـياكل هـندســية، الهـدف منها الايحاء بحديــقة الجــنة. كما عملت زخارف هندسـية مكونة من خطوط مــسـتــقيــمة تـتــشـابك فيما بـيـنها وتــتـكـسر فـتــكـّون بألتــقائها اشكــال نجوم، بهــدف الرمز إلى الكواكب، ولعكـس صورة قبة السـماء.
كل نجمة وحـسـب عدد اذنابها تعــكـس شـكل مربع ســحري فيه ارقام وحــسابات رياضية تمثــل الكواكب الســماوية. وان كان الجمـهور لا يســتطيع ترجمة كل هذه الرموز. ولا يســتـطيع قراء ة النصوص المخطوطة. الا انها كانت تـفــتح المجال واسـعــا ً امام تخــيلاته. امام صور تجريدية غاية في الاناقـة والجمال قام بعـملها كبار الفــنانــين.
حتما ان هـنالك علاقـة بين اختـيار التجريد في الفـن الاسـلامي والصحراء. لأن الاسـلام ولد في الصحراء. ولأن من يسـكن الصحراء يعرف ان الصور هي في المخيلة كالشعر مثلا، ولاننا في مجال الفـن فلابد من القول ان الفـن ليــس هـدفا ً بذاته ، انما هو طريق لتحرير اللاوعي. ان ما يكـتــنزه اللاوعي البـشـري يمكن ان يكوّن الثروة الوحيدة التي لا تـخضع لســيطرة العـقـل الواعي. وهي امكانية مهمة لمعرفة اللغز البشـري.
لم يهدأ النـقـاش حول الصور في العالم المــسـيحي. ومن وقـت لآخر تعـود المعاداة للصور. فـبعد مجيء الاسـلام بقرن واحد يذكر لنا المؤرخون عودة الرفض للصور عند العالم المسيحي. وتحطـيم الامبراطور البــيزنطي ليون الثالث عام 730 لتمـــثال المـســيح بمدخل القصر الامبراطوري في عاصمة الامبراطورية البـيـزنطـية اسطـنـبول الحالية. ادت هذه الحادثـة الى نـشــوب حرب اهـلـية، ومن ثم خلافات في الرأي اســتـمرت حتى عام 843 حيث رجعـت الصور ولكن على شـرط ان لا تملك ظلا، بمعنى آخر تـشـابه ما نسـميه اليوم برسوم الكارتون. والمقصود بذلك ان الفنان يجب ان لا يعمل رسوما مشابهة لما هو في الطـبيعة. ولا يجب ان يوازي الخالق في صنعه. ونرى هذا النوع من الصور المسطحة لازال لحد اليوم في آثار المعالم البيزنطية.
بلا شك ان العالم المـسـيحي تأثـرأيضا في ذلك الوقت بمواقــف بعض الفـقهاء المـسـلميـن، فـنحن الآن في بدايات ولادة الـفن الاسـلامي. وعندما وردت التـساؤلات عند فـناني الاسـلام ماذا ســنـرسم على الجدران. كان رد الفـقهاء قاطعا: لا تماثـيل ولا صور فأننا لا نريد تكرارعبادة الاوثـان.
اعود للعالم المـسيحي فـفي هذه الفـترة أي في القرن الثامن الميلادي ولد تـيار أراد ان يمنع الايقـونات و يلغي الصور من المعالم المعمارية كما في الاسلام. وتيار آخر على العكس كان يرى في ذلك نوع من الهـويةالفـنية للعالم المـسيحي بعبادة الايقـونات. وبالتالي كانوا يرون ان هذا هو ما يفــرق بين المـســيحيــين والمسلمين .
دافع عن الصور في العالم المـســيحي وأيد اسـتعـمالها شــخصية معروفة اســمه: جان داماسن والذي كان معروفا في الاسـلام تحت اسـم منصور لانه كان يعمل مســتــشارا ً للخليــفة الاموي في دمشق عام 730 ميلادية. كان يقول ان فكـرة اســتعـمال الصور هو ما يميز المـســيحـيـن عن الاسـلام، وكان يرى ان الصورة تـمثــل تطوراً للمحـســوس نحو المعــقول. بل انه ذهب الى ابعد من ذلك في المبالغة بالدفاع عن الصور الدينــية فـقال ان تمـــثالا يصور المــسـيح لم تعد مادته مجرد حجر انما الحجر اكتـسـب قدســية لانه جسد دور تمثــيل المسـيح.
ويمكن القول ان النـقاش حول الصور لم يتـوقـف ابدا ً في العالم المــسـيحي، ولكن المعارضة للصور ضعـفـت تدريجـيا. وان التــيار المـشـجع للصور حقـق نجاحات هائلة فيما بعد في الفن التــشـكيلي. وخصوصا في فـترة عـصر النهـضة الاوربـية حوالي القـرن السـادس عــشـر. اذ اغـنـى ما عمله الفـنانون الاوربيـون الانسـانية جمعاء بتـراث جمالي ساعد على تـنــمية الذوق البــشـري وتطور الانسان في اكتــشـافاته للطبــيعة.
وقد جرب الفـنان الاوربي طرق تـقــنية مـتعـددة في العمل التــشـكيلي. كالفريــسك وهو التصـوير بالالوان على نوع من الجص الرطب. والموزائـيك وهي الصور المعمولة من قطـع الحجر الملون. وفي مجال التـماثـيــل فأن اكثـر النحاتـين كانوا في نفــس الوقت معـمارييـن فـخلفـوا لنا معالم مدهــشة، اذ تحولت البــنايات الى مايــشـابه الاعمال النحتــية العــملاقة.
اما في العالم الاسـلامي ورغم عدم التــشـجـيع للصور فأن العـديد من الفــنانــيـين الكبار أثروا التراث الانـسـاني ببحوثهـم الفــنية بصور الكــتب. فرسـموا نتـاجات مـشـاعـرهم الحســية الرهــيفة، وتمــيزوا بقدرات عالية على الملاحظة والرؤية للطبــيعة، واسـتــلهامهم منها مناظرهم. وعلى سبــيل المثـال الفــنان يحيي الواسـطي في بغداد ورسـومه التي تعــكس اجواء الحياة في العراق في القرن الثالث عــشـر، عـبر اخــتـزال للاشـكال، وتوزيع ذكي للكتــل في الفـضاء. و اســتعماله منظور البعد الواحد على السطح التــشــكيلي. ان أي مشـاهد درب عــينيه على التأمل في الصور يثـمن بدهــشـة قـدرات هذا الـفـنان. فـنكاد نتـعرف على هؤلاء البــشـر وعلى حياتهم وملابسـهم من خلال تلك اللوحات.
وبهـزاد الفنان الايراني ترك لنا صور مؤرخة في نهاية القرن الخامس عـشر لمواضـيع من الحياة الواقـعـيـة. كصورة لعمـال البناء في قصر الخورنق حيث نرى حوالي عـشـرين عاملا يتـوزعون على العمل كل حـسـب دوره. ألوان بلون التـراب والطابـوق. انـسـيابية الأشـكال في الرسـمم. ديـناميكــية الاشــخاص. تكوين عام متــين حيــث يدخل الفـنان كل الاشــخاص في دوامة متحركة. فـتــدب الحـياة في الرسم عندما نتأمله، رغم القرون العديــدة التي تـفـصــلنا عن تاريخ رسـمه.
في صورة اخرى لنفــس الفــنان تخـيل فيها الخليــفة المأمون في الحمام. وهنا تـبدو عبقــرية الـفـنان في اعادة تركـيب اجزاء الحمام كما يريده هو في الرســم. فيخــتـلط الخارج بالداخل ونرى كل الصالات. المأمون ومـساعديه. عمال الحمام يؤدون ادوارهم. ولكن لم ينـس بهزاد انه فنان وانه يعمل قطعة فــنية، فـيـسطـّـح المنـظور عبر بعض الاشكــال وعبر تـقـنــية عبقـرية يجعـلنا فيها نشــعر بالأبعاد والعـمق. وعلاوة على المهارة العالية والدقة في التصوير والمعرفة الكاملة لمواد الالوان. فأن ما يــبهرنا عنده هوالــتكوين المعماري الذي يوحي بالاتساع والعلو.
ولكن عبــقرية الفــنانيـن المـسـلمـين تحولت بشــكل واسع وفي اكثــر المدن الى مجال الخط والزخرفة. وليس في الكـتب فـحسب بل انهم ساهموا بشكل واسع مع المعماريين في رسم اشكال البــنايات وزخارفها.
ان اسـتــمرارية اسـتــعمال الخطوط والزخارف لقرون عـديدة، ادى الى بحوث كــثـيرة في مجال الشــكل، والمواد عبرسـلــسلة من اجـيال الفنــانين. فبــسطت اكــثر الاشــكال وأختــزلت، بل ان الفــنانين الذيـن عملوا مع المعــماريين والبـنائيــن اخضعوا الاشـكال الفــنــية لحاجات المواد نفــسها. وبذلك تعدد الابداع فأن الخط على الصخر لايــشـابه رسم الحروف بالســيــرامـيك. والكتــابة بالطابوق ألغت من الحروف اســتداراتها وأعـطتها خطوط مســتـقــيمة، ومظاهر هندسـيــة وتكوينات محســوبة ومدروســة. وهذا ما نراه في الخطوط الكثــيرة بمعالم اســيا الوســطى، اذ يتعــادل شكل الحرف والفراغ المحــيط به، ويتركز بحث الــفـنان على جانب تـشــكيــلي الا وهو اجبار الحروف على الاطاعة والدخول في المــساحة المطــلوبة. بينما ان الحفر على الصخر وصلابة المادة ادت الى انعدام الفراغ بين الحروف، فأصبحت الحروف ككــتـل معمارية لها قدرات تعبــيرية كخطوط مسـجد السلطان حسن في القاهرة.
ان هذا الاستعـراض الســريع لعالم الصورة في حبها او كراهيــتها. يدفعـنا ان نبحث عن اجوبة عـقــلانية لها رغم انــنا في مجال الفـن، فأن العلم والفـن هما اخوة يحتاج احدهما الآخر باستمرار.
ان الدراسات العلــمية لدماغ الانســان في عصرنا الحالي تؤكد ان الانسان بحاجة لأســتهلاك الصور أي لابد من رؤية صور. ولكن بنــفــس الوقت ان الانــسان بحاجة لتحرير الصور ايضا. اي لابد ان ينــشـط مخيلــته ليعمل الصور في ذهـنه. وهكـذا ان قلة الصور سـيــؤدي إلى ضرر للانسان وكثــرتها ستضر أيضا. فإذا لا نرى صوراً سـنــشعر بان شـيئاً ما ينــقصنا، وأن نمضي ساعات طوال في رؤية الصور فــسوف نتعب أذهاننا. وهذ هو سـبب هذا الحديث والمقصود هنا هو التـلفــزيون وكـثرة صوره.
هنالك تــقرير عمل في كنـدا يخص الشــباب الصغار، يقول: ان هؤلاء الشباب في عصرنا الحالي اصبحوا شهـود عبر الصور على عــشرات الحالات من القــتـل والاغـتصاب بســبب الافلام والـتلفــزيون. مما لم يكن يعرف ذلك شــباب بعمرهم قبـلانتشار الصور.
ان رؤية التلــفزيون لساعات طويلة يجعل من المســتحيل على الدماغ هضــم آلاف الصور بســهولة، لذلك سـيـــبقى جزء منها غير مهـضوم ومشــوش ينتــظر المجيء والتأثــير على الانــسان في ساعات ضعــفه النفــسي كما الكابوس. فـتـــتـدخل هذه الصور وتـلعب دورا ً في قيادة الانـفعالات. وقد تـقود للعنف والجريمة.
ان الصور الكــثيرة التي نرسلها للدماغ قد تــشغـل الفراغ المتوفر للتخيلات والابداع. وبذلك يحدث العكس تماما لما ينـتــظر البعض من التــلفزيون كجهاز ثــقــافي. ان الصور بلا شــك هي ضرورة للتربية والثــقــافة وتنمـية الاحسـاس ولكن بـشرط تحديد كمياتها، وعبر التــخمـين والحدس او بالاســتـفــسار من الاختـصاصــيـين وقراءة آراء الـنـقاد لتــقدير نوعـيتها وأهمـيتها. فهناك صور تبني وهناك صور تهدم. وهناك فلم سينمائي يجعلنا اكبر، وآخر يحولنا الى اصغر و يحطم اعصابنا.
ذاكرة الانسان تختـلف عما هو في غيره من الاشـياء. فلحبة الأرز مثلاً ذاكرة أيضا. وكما يقول مثـل شعـبي من مدغـشـقر: حبة رز مزروعة، مائة حبة محصودة. وهكذا ان ذاكرة الرز لاتعرف الا تكرار صورتها. بينما ذاكرة الانسان تـتطور وبحاجة مستمرة للتربية والتعليم. لأن ذاكرة الانسان فيها جزء وراثي، وقسم آخر كالصفحة البيضاء، يطلب املاءه.
ان الصورة هي اسرع من الكتابة لإيصال المعلومات للدماغ. ولهذا نطرح هنا الاسـئلة حول دور الصور وعلى الاخص التـلـفزيون.
ومن الطبـيعي ان كل مايـشــبه التــلفـزيون من صور يشــكل نفــس النوعية من العطاء والأخذ، ولكن من الاكيد مثلا ً ان نمضي ساعة لرؤية الانــترنت ســيكون افضـل من ساعة امام التــلفزيون. لأن الانـترنت يعطــينا امكانيات اكبر لأن نتـدخل في اخــتيار الصور ولأن الانــترنت يعــتمد كثــيرا على النص. لذلك ان بين هذين الوســيلـتـين فارق كبــير.
ان الادمان على الصور هو كالادمان على المخدرات. اذ لا يمكن اليوم للبعض أن يتحملوا غياب الـتلــفزيون من دارهم ليوم واحد. وملايـين العوائل تـتـرك التـلــفـزيون يــبث نفــس المواد من الصباح حتى المــساء. يـسـمعون نفـس الاخبار عـشرين مرة. لايمــكنـهم اغلاقه رغم وجود امكانيات عديدة للبــقاء في اتصال مع العالم وســماع الاخبار. ان للصور سلطان عليــنا. نعم هناك صور سحر. بعض الشعــوب القــديمة التي كانت ترى في النذور والدم المنـسـكب صورا توفر الســلام لبعــض الوقت. فهل لازلنا بنفــس المعــتـقــدات. اذ ان التــلفزيون وافلام الرعب وفي نشــرة الاخبار يوميا ً يعطــينا هذه الصور المثــيرة المخــيفة. صور الدم المنسكب، ونادرا وقليلا جدا نرى في التــلفــزيون شــعـرء أو رسـامين، يقودوننا بصورهم الى التأمل والتـفكـير والصفاء، يحاولون معـرفة كـنه الانـسان وجوهره.
وبفـضل التـلفزيون وبعض الافلام ا نرى اليوم مساوئ الإنسان اكثر من خيراته. ولكن ان نضع ما ابدعه الانـسان وما يستمرعليه في العطاء من اشــياء جمـيله الى جانب المــساوئ، سـيكون ذلك عمل تربوي ويدفع المشاهد للتأمل. ان رؤية الحقــيقــة البـشــرية بكاملها يدفعــنا الى التــفكير، بـينما رؤية جانب واحد منها يدفعنا الى التــشاؤم على مصير الانسان. يربط الادباء والفــنانـون الانــسان الحالي بالذاكــرة الجماعية للانســانية. وحدســهم يقود الى رؤى مـسـتــقبـلـية.
سحـر الصورة شيء زائل فان اعجــبـتـنا اليوم صورة، فـسوف لن ننظر إليها غدا بنفـس الاعجاب، ونبحث عن اخرى اكـثر اثـارة منها ونبقـى دائما في عـطـش للصـور. بيـنما الصور المتـخـيلة في الاعمال الفــنية، والعلامات، والخطوط العربية المتـشـابكة اعلى المعالم المعمارية وصور الخيال الشـعري، فأنها على العكـس يمكن ان تكون منابع مستمرة لتخيلا تـنا. فأن كل هذه التـعابــير الفنــية لا تمنح نفــسها من اول وهلة وانما تطلب من المــشـاهد هو نفـسه إكمال العمل الفني. تجبره على التأمل والتـصور، لكي يرى الانســان الأ شــياء بوضوح ولكي يعطي لها التـفــسـيرات الاقـرب الى احــتياجاته النفــسـية. وكل فتــرة من الزمن سوف تــتـغــير التـفــســيرات بحســب حاجة الانــسان الآنـية. ولهذا فان بعــض الاعمال الفـنـية تجعلنا نـشــعـر بالارتياح. بينما ان صور التـلــفـزيون تكونفي أكثر الاحيان منهكة.
الصور الكــثـيرة لا تـسـمح لنا بالرجوع الى عالمنا الداخلي لإيـجاد رؤية سـلــيمة للأشــياء ولهذا قال الشاعر الفرنسي جوبـير اغلق العــيون وســترى. وبنـفــس المعنى قال فريد الدين عطار:
تعلم من الاعـمى ســر النظر.
ان قدر الانسـان على الكرة الارضية، ومنذ القـدم يســير عبر مجموعات متعــددة من البــشــر تـلـتـــقي مرة وتــتـباعد مرة اخرى، تـتــحارب اليوم، وتـنــهك غدا لتحقــق السلام، وعندما تطول فــترة الســلام تعــود من جديد الرغبة بأشــعال الحرب وهكذا. ولا يمكن اعطاء فكرة عن الحياة باختــيارمجموعة واحدة، مجموعة المتحاربين و أعــطائهم الجزء الاكبر من الصور. والتعــتــيم على تــيارآخر.
القسم المبدع من الشـــعراء والادباء والموســـيقــيـــين و الفنانيــــين التـــشكــيليــين. ان هذا التيار يخـلق ماهو غـير معـروف، رغم انه آت من تراث الماضي. ولكنه يتجه نحو المــسـتــقـبل. تيار يوفر للانــسانـية فرص الالــتـقــاء والتــفاهم.
ان التــعـتــيم على المبدعــين ما هو الا خســارة لشـــعوبنا التي هي بحاجة لكل ما ينــشــط مخيــلتــنا نحو التــقدم واللحاق بدول العالم المتطور.
ان الذهن البـشــري هو آخر مكان للحرية. يستـــطيع الانسان ان يفكر بما يحب ويرغب ولا يستــطيع اي شخص مراقـبته، ولكن عندما يكون الذهن ممتــلئا ًبهذه الصور المــشوشة هل سـيــبــقى مكان للتـفــكير الحر؟ بالطبع سيكون الانسان ضحية للافكار السائدة ويفـقد قدرته كإنسان حر في الحكم على الاشـياء.
فما العـمل؟ وكيف سـنـتحرر من ســُـلطان الصورة؟
للصور الفـباء وكتابة خاصة بها، فهنالك من يعرف قراءة الصور وهناك من لايعرف، فـتــخـــتـلط عنده الحقـــيقة ووهم الصورة.
ذكر الكاتب الفرنــسي ميـشــيل تورنيه في روايته القطرة الذهــبية قصة صورة جلــبت المــشاكل لكل من امـتـلكها، حتى يقرر احد مالكـيها في النهاية رميــها في البحر. ثم تدفع الصدفة أن يأتي صياد ويصطاد حوتا ، فيجد هذه الصورة في معـدة الحوت. يضعها في كوخه على الشاطئ ويـبقى تحت سـلطان ونفوذ تلك الصورة لأيام عديدة ولم يعد لداره ويرفض الذهاب للصيد. فـتـــقـلــق عائــلته.
كان ابنه رياض يتــعلم الخط عند خطاط كبــير. فـيخبر رياض معلمه الخطاط بمأساة والده. فـيقـول له الخطاط: ان الصورة ما هي الا مجموعة خطوط متـشابكة ولابد من معرفة قراءتها خذ قـلــمك وســنرسم وجها. خذ صفحة من الرق الشــفاف وخط بقلمك على جهة اليمــين العبارة التالية، فيخط رياض العبارة، بعد ذلك خذ صفحة اخرى لعبارة ثانــية وعلى صفحة ثالــثة عبارة ثالثــة، وعلى صفحة رابعة خط على جهة اليــسار العبارة الرابعة واخيرا على الصفحة الخامــسة خط العبارة الاخـيرة.
الآن ضع يارياض الصفحات الواحدة فوق الاخرى. فأدهش رياض ظهور صورة وجه. بعدها قال الخطاط لرياض: غير الآن من ترتيب الصفحات. فـتــغــير التـعبـــير في كل مرة. فـقــال الخطاط لرياض ان التعبــير يتغــير لأن الصفحة العليا والعبارة المخطوطة عليها تأخذ اكثر اهمية ووضوحا من الصفحة الاخيرة.
والآن خذ يا رياض قـلمك ومحبرتك وأوراق الرق، اركـض لدارك وأنقـذ والدك من الجهـل بقراءة الصورة، علمه قراءة الصور.
حسـن المسعــود ـ باريس 2006
- بموافقة من الكاتب مشكورا
سلطان الصورة بقلم حسن المسعود الخطاط arabic calligraphy, Hassan Massoudy
ما الذي يغـري في هـذه الصور؟ ولماذ نترك الـتـلفـزيون مفـتوحا طوال اليوم؟ هل هو البحث عن المعـرفة وبهدف التعـلم؟ هل الهـدف هو سماع آخر الاخبار؟ هل هو عـطـش للصور بعـد قـرون من الكراهـية لها؟ هل هو اغـراء النورالآتي من الشـاشـة؟ ام انه رمز للتـطور او الثـراء بعـدما كـنا محرومين منه؟
تهـت في البحث عن السـبب، لأن موضوع الصورة واسـع ومعـقـد. فهي تـقع في جوهرها على الحياد، ولكنها تـُجذب باسـتمرار لهذه الجهة او تلك، فهناك صور لها مفعول كالعـسـل واخرى كالسـم، ومن الصعب ادراك ذلك بسهـولة في اول وهلة، ومن الصعب التمـيـيـز بينها. لابد من التـذوق، فهنالك صـور نافعة وأخرى ضارة لها تأثـيـر سـلبي ورديء على المـشـاهد.
ورحت أسأل نفسي: ماهي الصورة ؟ ومن اين أتت ؟ ماذا وجد رجال الآ ثـار من اقــدم الصور التي أبدعها الإنسان؟ وكيـف تطورت هذه الصـور؟ و كـيـف تـنـظر الأديان السـماوية للـصورة؟
وهل ان تأثـير الصور تـغـيـر في ما نـشاهده من اتـساع لاســتعـمال الصور في العالم؟ الصورة عند الاسلام لم تكن محبـبة بـينما اليوم في ارض الاسلام يبدو العكس هو الصحيح.
في بداية القرن العـشـرين لم يكن الكثـير من الرجال يقـبل على عـمل صورة لجواز السفر بــيـنما الآن تكون الصور مباحة ومقـبولة، بل ولحد التـخمة.
*
اتذكر عـندما كنـت صغـيرا في الخمـسـيـنـيـات بـمديـنة النجف لم نكن نعرف الصور، كـنا في مدينة بعـيدة عن المنتـوجات الصناعـية ولا تصل الينا المطبوعات المصورة، والتي لم تكن منـتـشـرة في ذلك الوقت كما في عصرنا الحالي. كانت النجف في صغري تــشــبه كل المدن القــديمة، قبل معرفة الصور.
اكتـــشــفت الصور بشـكل حقيــقي في بغداد وأخيرا في باريـس. وها أنا اليوم أعـوم في بحر من الصور، كمن يــســبح ضد تيار الموجات العنـــيــفة، اريد التــخلـص من الــتــأثــيــر الســحري للصــور.
الصورة اليـوم هي ظاهـرة العـصر. نراها بكل مكان ونـستـخدمها في الحياة اليـوميـة. ولكن لابد من التـساؤل امام دورها المهم في عصرنا الحالي. فما هي ايجابيـاتها وما هي ســـلبـياتها ؟ وهل ان الانـسان اهم من الصورة ام الصورة اهم منه؟
من اهم الصور في عـصرنا انتـشـارا هي صور الـتـلفـزيون بلا شـك، حيث تـنـــقـل لنا اخبار العالم، تــنــقـلنا الى قـلب الحدث، تعرفـنا على الشـخصـيات الســـياســية، ولكن بنفــس الوقــت تجــبرنا على تجرّع ما لا نــريد رؤيته.
ومن جانب آخر ان الادمان الجماهـيري على صور الـتــلـفزيون، يلغي الاحاديث العائلية المطولة والقصص والحكايات التي كانت سائدة قـبل زمن التـلفـزيون. وهذا احد الادوار السـلبية للتـلفزيون.
وقبل التــلفـزيون كان للصورة الفوتوغرافـية سـلـبـياتها ايضا، قرأت مرة مقالا يقول: ان شـخصا يطرق باب دار بهدف الدعاية فـتـفـتح صاحبة البــيت الباب. فـيـقول لها الرجل بأعجاب: ان طفـلك جمـيل جدا. فـتجيـب السيدة: آه انه اجمل بكــثـير في الصورة، وتركض لتـبحث عن الصورة كـبرهان على ذلك. وهكذا نجد في هذه الحكاية ان الصورة تأخذ قيـمة اكـثر مما تـسـتحق عند بعـض الناس، لأنه و بالتأكيد يـبـقـى الـطـفـل اجـمـل بـكثـير من الـصـورة.
في الســنـين الاخـيرة، و بـشـكل عام تــتـفـرج العوائل العربية – الاسـلامية بكــثرة على التـلفـزيون مبهورة بالصور. ولكن لماذا كل هذا الادمان على الصور؟ فــقـبل ظاهرة التــلفــزيون لم نكن نعرف الصورالا ما ندر.
هل انها نتـيـجة لرغـبات مكبوتة عـميـقة مضت عليها قرون عـديدة. وهاهي اليوم تصعد وتعـود بسـرعة وخلال بضـع سـنوات؟
ندع التـلفـزيون مفـتوحا وكأن الحديث مـســتمر، بـيـنما الحقــيـقة هي، ان هنالك شــخصا خلف الشـاشــة هو الذي يتحدث وحده سواء نرضى بما يقول او لا نرضى. ولكن أين تكمن رغـبـتـنا؟ هل في مشاهدة الشـخص المتحدث؟ ام في التمتع بســيول الصور المنهــمرة من هذا الجهاز الصغــير؟
دخلت مرة دار احد معارفي فـنهـض لاســتـقـبالي مرحبا، وبعد المـصافحة ركض يفـتح التــلفـزيون وهو يعــتـذر لكونه مغــلقا، ولم اجرؤ القول له انني اتــيت لرؤيـته لا لرؤية التـلفـزيون. بيـنما في المجتـمعات الاوربية فالعكـس هو الصحيح، أنهم يغلـقـون التــلفزيون عند مجيء زائر لهم.
هل ان التـلفـزيون علامة من علامات الثراء ودليل على التـطور؟ ام انه دين جديد؟ نسجدأمامه بخـشوع كل مـساء.
هل انه المعـبد الجديد، ولشـعوب كــثـيرة على الارض!
صورالتلفزيون جذابة متحركة وملونة على غاية في الاتـقـان. ولكـنها هنا تخدم الدعاية والاعلان والرأسمال التجاري، وهناك صور اخرى تخدم رجال السياسة.قليل يعكس الفنون.
في مجـتمعـاتـنـا الاسـلامية القـديمة كانت صور الكـتب هي الأهم. ولكن الكـتب في الزمن الماضي كانت محصورة بيـد جمهور مثـقـف قــلـيل العـدد، وعامة الناس آنذاك لم يشاهدوا تلك الصور.
كانت هنالك ظاهـرة مؤقـتة للصور الشــعـبية المطـبوعة. استـمـرت حوالي النصف قرن وأخــتـفـت منذ ســنوات قــليلة. وموضوعاتها كانت تعكـس المخـيلة الـشعــبـية منها: سـيرة بني هلال وصور مـقـتـل الحسـين كذلك صورة البراق الذي كان يُرسـم على شـكـل حصان و برأس فـتـاة. اتـذكر انني اشـتريت عددا مخــتـلفا من هذه الصـورة في القاهرة في الثــمانـينيات. ومما كان يطـبع في مصر آنذاك، كانت رؤوس الفـتـيات دائما تمـثـل الممـثـلة المـصرية الأكثـر شـهرة في زمن طبع الصورة.
تباع سـابقا ً هذه الصور في بعـض الدكاكـين، او في سـاحات شـعـبـية، كما شـاهـدت ذلك في المغـرب والجزائر في السـبعـيـنـياتمن القرن العشرين، حيـث يتجـمع الناس حول الراوي يسـمعون الحـكايات، وعـندما تـنـتهي الحكاية، يـبـيع لهم تلك الصور التي تحـتل مكانها على جدران بيوتهم .
ولكن هل يمكن مقارنة تلك الصور بصور التـلفزيون الحالية؟ ان الصور القديمة على بســاطتها وســذاجتها كانت تــنمّي من مخـيلة الجمهور. فالكــل أي كل المــشاهـدين يحــفـظـون القصـص الطويلة عن ظهـر قـلـب، والصورة الصغـيرة تكون كملخص مرئي لكل قـصة. الجمهـورفي ذلك الوقت هو الذي ينسج فـلم القصـة في مخـيلـتـه امام الصورة المطبوعة. بـيـنما صور اليـوم الفوتوغرافية الكاملة والمتحركة، الوفـيرة المعلومات لا تـترك مجالا واسعا لمخيلة المـشاهد بأمكانية التدخل والتأمل. صحيح ان الصورة التـلفـزيونـية يمـكـنها ان تكون وســيلة تطور ثـقــافي، وهي قادرة على ذلك، بـشـرط ان ننــظر اليـها بوعي وأن نحاول اخــتـيار الصور الجـيدة منها، لأن مجرد النظر لأي صور كانت، وبكـمـيات كـثــيرة، سـيؤدي في النــتـيـجة إلى خنـق مخـيلة المــشـاهد، والحد من التطور الثـقافي.
حتما ان الصورة يمكن ان تـكون وســـيلة ثـقــافـية. ولكن عن أي صورة نتـكلم؟
إن النقـد الذي اوجهه هو للصور التي في النهاية لاتــدفـعـنا للتأمل والتــفـكـير. النقــد لتـلك الصور التي تـنهـك الإنسان ولا تــرفعـه إلى الالتــقاء باحساساته وبعالمه الداخلي. بينما ان الصور الجيدة والجميلة تضع الانسان بأحسن حال. ان المتعة الآتـية من الجمال تـتحول الى طاقة ايجابـية نحو الارتـقاء، بـيــنما الصور الرديـئة تـزج الانسـان في مـتاهات الحزن والتخـلف.
يرى العلماء بأن الانــسان الذي يــشابهــنا يعود الى حوالي 300 الف ســنة. وأقــدم صور معروفة عـملها البـشـر تعود إلى ما قبل حوالي 30 الف سـنة، في كهوف بجنوب اوربا. رسـوم حيوانات وعلامات متعـددة تعـكــس الحياة اليـومية للانسـان القــديم. رسـمها الانســان من الطيــن الملون بالدم أوســخام الدخان على الجدران الصخرية للكهوف.
صور يرى الباحثــون انها عمــلت بدوافع فـطرية، وكان هــدف الانـسان منها اعطاء الثــقة لنــفــسه بنـفــسه. وليــطمـئن ذاته بالسـيطرة والانتصار على الحـيوان والطـبــيعة.
تدريجــيا تطورت هذه الصور حتى الحضارات القـديـمة: الســومرية، المصرية القديمة، البابلــية، والاشــورية. فأخذت الصور تعــكـس الاعتــقاد الديـني او تســجل مراحل تاريـخــية. وكل من كان يملك الحكم سـوف يفرض افكاره: كمــسـلة نرام ســن المحــفوظة في متــحف اللوفـر بباريــس. حيــث نرى الملك الاكـدي يقـود الى شــمال العراق حملة عـسكرية يعـتــقـد المؤرخون انها للســيطرة على منابع القار والنفط. نراه منـتـصرا وأعداؤه يتــساقــطون.
وفي مصر القــديـمة انتــجت الحضارة الفرعونيـة صورا من كل الأنـواع، ربما تكون اجمل ماخلق البــشـر من الانتــاج الفنــي. عـملت التــماثــيل والصور بمواضيــع عـديدة وكانت على غاية من الاتــقـان الفــني. و اسـتــخـد مت لـتـزيـين المعــابد والقــصور والمقـــابر.
في المعــابد الدينــية المصرية كانت الآلهة انذاك اكــثـرها من الحيـوانات يرســمها وينحتها مـخـتــصون بهذا العمل. فأمـتلات المـعابد بالاشـكال العملاقة الخارقة. ارادوا في ذلك الوقت اســتـمالة كل ما يرهب الانـسـان أو السيطرة عليه. وكان كل حــيوان يمتلك قـدرات خصــوبة او قوة اسـتــعانوا بها في عمل فني عبر الصور.
كل هذه الاعمال الفــنـية كان ينــظراليــها بقدســية انذاك. وكانت العلاقة معـها تخـتــلف تماما ً عن علاقــتـنا اليوم بها، فـنـحن ننــظر لها اليوم كأعمال فــنية ونســميـها تماثــيل. بـينـما انــسان ذلك الزمن ينظر اليها بخـشـوع وهلع وكانت تعرف كآلهة.
الهـدف من هذه الاعمال الفــنية في ذلك الزمن هو ممارسة تأثـــير اخلاقــي على المتعــبدين. يتـوجه اليها الجمـهور الشـــعبي بالدعاء لتحــقيـق مطالبه.
اوكانت بهدف سـياسي لتأكيد طاعة الشـعـب لســيده الحاكم.
وهكذا ان ما نســميها اليوم تماثــيل ترقـد في المتاحف. كان اكثرها في عهد مضى آلهة للناس. وكان هؤلاء البشــر يؤمنون بشــكل قاطع بأنها تقرر مســتـقـبلهم وتؤثـر عـليه. يتضرعون اليـها في حالات الأزمات والمرض آملـين منها المـسـاعدة. وبالتأكيد أن جزءً كبيراً من أبطال هذه الاعمال الـفـنية لعب دورا سـياسـيا. فـمن يتـجول في اروقة هذه المعابد والقصور يرى صور رجال الحكم وانـتصاراتهم على الاعداء. كصور الفرعون رمســيـس الثاني منـتصرا على جدران معابد مصر القديمة. وفيما بعد يكرر الاشـوريون نفس المواضيع. وعندهم كانت الجداريات تمثــل غزوات سرجون الثـاني وانتصاراته. فالمنحوتات الضخمة ترهب كل من يدخل المعالم المعمارية.
هنالك فـتـرة قصـيرة حدثـت فيـها تسـاؤلات في تاريخ الفـن المصري القـديـم. فـعـند وصول اخـناتـون الى الحكم في القرن الرابع عـشـر قـبل الميلاد. اهتـم كـثيـرا بالشـكل الفـني. قـبل اخناتـون كان النحاتـون يغـيـرون من صـور البـشـر والحيوانات ويعـطـونها صفات لايملكونها. وخصوصا كل ما يتـعلق بالآلهة. كانت مظاهرهم محورة وغـير طبـيعـية. وبحجوم عملاقـة وخارقة للعـادة.
ولكن عند مجيء اخـناتون طلب من الفـنـانيـن ان تكون الصور مطابـقة للاشكال الطبيــعيـة. أي عمل ماهو مرئي وليــس ماهو متــخيل. وهكذا غــّير قواعد الجمال في مصر القـديمة.
اما بالنـســبة الى الآلهة فـمــنع اخــناتون تعــددها وابقى على إله واحد فــقط
وهو آتون الذي طلب ان يكون شــكله على شــكل قرص الشــمـس والاشــعة المنبعـثة منه.
سـجل زمن هبوط الحضارة المصرية تراجع الفن المصري وأرتـقــاء الحضارة اليـونانــية. رفـض الاغــريـق فكــرة المصريــين في عبادة الحـيوانات، ووجدوا انها لا تصلح الا للنــذور، او الاحتــياجات اليــومية للبــشر. وقرروا ان تكون صور الآلهة على شــكل صور البــشـر ولكن بجـمالياتومظاهر خارقة للعادة.
عندما كان يُطلبُ من احد النحاتيــن في ذلك الوقت عمل آلهة أنثى، يطلب النحات ان يأتوه بأجمل شـــابات المديـنة. ليخـتار من كل واحدة الجزء الأكــثر تــناسـقا، وبالتالي يـجمع كل ذلك في تمــثال واحد. وهذا ما سمي من قبل نقاد الفن بالجمال المثــالي أي الجمال الذي لا مثــيل له من حـيث الروعة والقـياســـات الـســليـمة على الارض. ونرى هذا مجسدا في تمــثال فيــنوس بمتـحف اللوفر بباريــس. او ما اكــتــشـف في قاع البحر في اليـونان لتمــثال من البرونز يعتــقد انه كان يمــثــل شـيخ الآلهة زوس حيث الجــسم يــشابه جــسم شــاب رياضي والرأس يمثــل شــيخ يعبر عن النضوج والحكمة والـتأمل.
ان هذه الطريقة في عمل الفــن دفعـت الفــيلسـوف افلاطون على الثورة والرفض لهذه التــقاليد، اذ يقول:
ان هذا الفن لا يمكنه الوصول الى الحقــيقة ، بل على العكـس انه يتيه الانــسان عن طريق الحقيــقة
ويرى افلاطون، ان الصور كلما كانت فاتــنة ومغـرية بشكل مصطنع فانها ســتـلعب دورا ســيئا في المجتمع. ولا يعني هذا رفض افلاطون للجمال بل على العكس انه يعـتبر الجمال هو الطريق الحقيقي للوصول الى الحقيقة .
عندما حكم على الفيـلسـوف ســقـراط بالـموت، تـسـائل افلاطون:
ماذا يجب عـمله لكي لا يكرر البـشــر نفــس الجريمة في الحكم بالموت على رجل مثــقـف كســقراط. ولم يجد الا جواباً واحداً: التــربـية وتثقيف البشر.
وكان يرى ان المديــنة يجــب ان تحكم من قــبل الفلاســفة، وتخـيل ذلك في كــتابة الجمهورية حيث يتعـلم الناس في هذه المدينة الفاضلة، الشــعـر والفــلســفة، الموســيقى والعـلوم، ويتعلم الانســان ما يخــفى خلف المـظاهرالمرئية. ويعـطي مثلا ً لذلك:
سُجن رجال منذ ولا د تـهم في كهــف مظـلم، ولا يرون شـيـئا ً سوى ظلال تماثــيل متـحركة، يرفعـها اشـخـاص على رؤسـهم. وبســبب وجود جدار يفصل بين السـجناء والاشـخاص الذين يحملون التـماثـيل، كان السـجناء يرون الظلال فــقط ولا يرون حاملي التماثـيل. وهكذا كان السجناء متأكــدين من ان هذه الظلال الســوداء المتحركة هي الحقــيقــة.
وفي احد الايام يهــرب احد الســجناء خارجا من الكهــف فـيرى النور، ويكــتـــشـف ان الظلال التي كان يراها في الكهـف ما هي الا صورللتماثيل، وأن حقــيـقة المشهد موجودة في الخارج. وعندما اعاده الحراس للــسـجن، اخذ يقــص ما رآه للــسـجناء الآخرين، ولكن لم يجـد احداً يســمعه.
يريد افلاطون القول في هذا المــثال ان الفــكرة تخـتـفي خلف الظلال.
وأن الانــسان لايحب ان يقـبــل بأكتــشـاف حقــيــقة تخــتـلف عن معــتـقـــداته الاعـتيــادية.
ولو نطبق افكار افلاطون اليوم على اكــثرالصور التي نراها يوميا، ونحاول التــفكير بما هو خلف الصور التي نـشاهدها في الافلام والتــلفزيون. لنجده محقا فيما يقول، فأن نرى فلما من بضعة دقـائق، نعرف ان المخرج طلب من مصورية عمل الكــثير من الصور. ولعدة ساعات، وأختار فيما بعد ما يناســبه لعدة دقائق بعملية المونتاج، ورمي الباقي. وهكذا تكون الحقيـــقة حقيــقة المخرج. ولو يأتي مخرج آخر لكان عمل شــيئا آخر من نفــس الصور الأولى. ويكون بذلك قد اعطى حقــيقة ثانية.
ويمكن ان نأخذ الموضوع بشـكل آخر. شـركة تجارية تسعى لتصريف منـتوج لها فـتـدفـع مبالغ باهـظة لمخرج سينما من اجل عـمل فـلم دعاية لدقـيـقة واحدة. فيـصورمخرج الفلـم الكــثـيـر من الصور لعائلة جمــيلة في بــيت جــميل واطفال بملابس جمـيلة، يلعبون في حديــقة جــميلة كالجنة، ويســتهلكون ذلك المنتــوج اللذيذ أو الجميل. يلـتـقط المخرج اجمل الصور لعمل فلم في دقيقة واحدة. ويعرضه كفلم دعاية. في اليوم التالي ترتــفع المبـيعات لذلك المنـتوج. رغم وجود شركات اخرى تـنــتج منــتوج افـضل وأقــل سـعـرا. وهكذا يمكن ان نقول ان الفكرة خلف صور الدعاية الجميلة هي الربح المادي. قبل ان تكون بحثـا عن حقيقة الجودة للمنتوج.
ان الصور هي وسائل تعــود لمن يســتخدمها وبالاتجاه الذي يبغـيه. وبـعـدد اختــلاف افكارالتــيارات البـشــرية تــتعـدد اتجاهات الصور. وعموما ان الاقـتصاد والمال هو اليوم الموجه الاكبر للصور. بينما في السـابق كانت السـياسـة والاقـطاعـيون وبعض الاديان.
المـشـاهدون هم انفـسهم في كل زمن، الطبـقات الشـعـبـية العريضة المراد التأثـيرعلـيها. ولحد اليوم يبقى المـشاهدون للتـلفـزيون بكـثـرة هم الطبقات الشـعـبـية.
ويعطي فريد الدين عطار في القرن الثالث عشر قصة الفراشات والشـمعة للتأكيد بأن صورة الشـمعة هي ليـسـت حقـيقة النور :
اجتـمعـت بعض الفراشـات في احدى الليالي، وتساءلن عن ماهـية الشــمعة والنور؟
كما نتـساءل نحن اليوم عن ماهـية الصور في هذا المقال.
فـذهـبت إحدى الفراشات لرؤية شـمعة قريـبة، ورجعت تصف على قـدر فهـمــها مارأت.
ولكن الفراشـة الحكـيمة التي ترأسـت الجلـسـة قالت لها: يا عـزيزتي انك لم تحظي بمعرفة حقـيـقة النور.
فطارت فراشـة اخرى الى نحو النور وطافـت حول الشـمعة ولامـس جناحاها اللهب، ثم رجعت تـقص للاخريات بعـض الاسـرار عما رأت وما تحسـست. ولكن الفراشـة الحكـيمة قالت لها: ان وصفـك يبـقى ناقـصا وغير مقنعا.
فـنهضت فراشـة ثالـثة، ثملة ونشـوانة من حبها للنور، ذهـبت وارتمت على لهب الشــمعة فاحتـرقـت وأصبحت حمراء اللون كالـنار تماما.
وعندما رأت الفـراشــة الحكيــمة ان الشـمعة قـد غـيرت لون الفـراشـة، قالت ان هذه الفراشـة قد توصلت إلى ما تريد معرفـته.
اما في الاديان الســماوية فأن الصورة مـنذ الـبداية مرفوضة عند اليـهود. ان الوصية الــثانـية تمنعها: لاتعـمل ابدا ً صور منحوتة... ونقرأ ايضا في ســفر التكوين:
موسى: اريد ان ارى صورتك
فيجيبه الأله: لا تســتطــيع ان تراني وتبــقى حيا.
بيـنما لعـبت الصورة دورا مهما في العالم المـسـيحي: ان الاله خلق الانسـان على صورته... مما دفع بعـض الفــنانيــن لتــصويرالاله في شكل بشــري ولكن بأعــطائه هــيـبة اكبر. وأهم مثال على هذا تصوير الإله في سـقــف معـبد سـكســـتـيـن داخل الفاتــيكان بروما. من قبل الفــنان ميكائيل أنجلو في القرن الســادس عــشر. ونرى الاله يمد اصبعه الى آدم كي يلامـس اصبعه وبذلك يمنحه الحياة.
ولكن هذا لم يرق لبعــض المــسـيـحــيـين وأســتـغـربوا من اســتطاعة وقدرة الفــنان الإنـسـان تــخيل شكل خالـقه. كانوا يقولون في ذلك كيف يستــطيع الطين ان يخلق شكل صانع الفخار. وأمتد النزاع الى الطبــقات السـياسـية العلـيا حول استخدام الدين للصور. وانتـصر مؤيدوا الصور تارة، والمعارضـون لها تارة أخرى.
الامبراطورية الرومانية منعـت استعمال الصور مابيــن سنة 235 و 476 ميلادية . ويقول الفـيلسـوف زنون في القرن الثالث:
ان الإله هو الوعي الكوني وانه موجود بكل مكان ولا يقــبل تمــثالا ولا معبدا، المكان الحقــيقي له في الســماء المأهولة بالنجوم.
المـشــكلة التي كانت تـثــير الكـثــيرين في ذلك الزمن هو ماهــية الصور والتـماثـيـل. هل انها مجرد احجار وأصباغ تــشـيرالى الآلهة فـقـط، ام انها تـقدس لانها تمــثـل الآلهة؟
الجمهور الشــعـبي البــسيــط يخلط بــين مادة الصـور وبــين الآلهة نفــسها. في كل الازمان يريد الجمهور العريض صورا تـجعل الآلهة مرئية ومعروفة. فكان يعـبد الاصنام التي هي مجرد احجار ويطلب مسـاعدتها في كل نكــباته.
في حوالى عام 600 ميلادية ، امر ســـرنوس اســقـف مدينة مرســـيـليا بجــنوب فرنــسا بتحــطيم كل الصور والتــماثـــيل الديــنـية في مرسيـــليا. وكان البابا في ذلك الوقت يســمى كريكوار الكبــير . أحتــج على ما فعله سرنوس وكــتب اليه معاتبا، بأن الصور هي موجهة للأميــين الذين لا يعرفون القراءة، لغرض تعلــيمهم بقـصص الـكـتاب المـقدس. مكافأة الجنة وعذاب النارمثلا.
لم يكن يقــبل سـرنوس رؤية الناس وهم يقــبـلــّون هذه التــماثــيل معـتــقـدين انها تملك القـدســيــة بيــنما هي في الحقيقة احجار منحوتة لا اكــثر.
في زمن ســرنوس كان العرب في الصحراء قبل الاسلام يعـملون نفــس ما يعمله سكان مرســيليا. كانت الــقبائـل العربــية تــتجه الى مكة لعــبادة آلهـتها وهي تـنـــشـد الشـعر ...
واللات والعـزى
ومناة الـثـالـثـة الاخرى
فانهـن الغـرانيـق العلى
وان شـفاعـتهــن لترتجى
يـقول المؤرخون انه كان في الكعبة وحواليها 360 تمثـال وصورة تعـبدها القـبائل العربية .
ولكن مع مجيء الاسلام رفعـت هذه التماثــيل والصور. وعندما طـُـــلب من الفـنـان المــسلم فيـما بعد عمـل ديكور للمعالم الديــنية، لم يسـتــطع تصويرالأ له لأن الإسلام لم يحدد شـكلا يشخص الله وفي القـرأن نقـرأ الله نور السـمواة والارض فأكـتـفى الفـنان المـسـلم بخط اسم الجلالة وآيات من القرآن. وحاول المهـنيــون فيما بعد عمل هالات من النور آتـية من المواد التي عمل الخط علــيها. كما نرى هذا في الســيراميك حيث تغــلف مادة الزجاج الطابوق الملون. وكـذلك بأسـتعمال تدرجات لونـية تجسـيدا للايـحاء بالنـور.
وبشـكل عام ومنذ قـرون لم يـمـنع الاسـلام الصور. انما ظلت غـير محبـبة ومكروهة. أختــفـت الصور تماما من المعالم المعمارية الكبرى داخل المديـنة. بـيـنما أسـتعـملت في الكـتب كأداة توضـيح بأهداف ثــقافـية وتربوية. اما في ديكور المعالم المعمارية فــقد اسـتـعـمل الخط العربي بشــكل واســع واصبح كبـيرا جدا، على عكـس الحضارات الاخرى والتي نادرا ما اعـطت الخط حـجما معــماريا.
واســتعـملت ايضا العلامات التــجريدية، فأصــبح الديكور الاســلامي ديكورا تأمليا يعــطي المــشاهد مجالا واســعا للتــدخل وتـفـــســير الأشــياء المرسـومة ومن هذه العلامات: صورالا وراد والغــصون ولكـنها ليـســت مرسومة بشــكل طــبــيعـي كما تراها العين في الحدائق، وأنما يعاد رسمها على خلفـية هـياكل هـندســية، الهـدف منها الايحاء بحديــقة الجــنة. كما عملت زخارف هندسـية مكونة من خطوط مــسـتــقيــمة تـتــشـابك فيما بـيـنها وتــتـكـسر فـتــكـّون بألتــقائها اشكــال نجوم، بهــدف الرمز إلى الكواكب، ولعكـس صورة قبة السـماء.
كل نجمة وحـسـب عدد اذنابها تعــكـس شـكل مربع ســحري فيه ارقام وحــسابات رياضية تمثــل الكواكب الســماوية. وان كان الجمـهور لا يســتطيع ترجمة كل هذه الرموز. ولا يســتـطيع قراء ة النصوص المخطوطة. الا انها كانت تـفــتح المجال واسـعــا ً امام تخــيلاته. امام صور تجريدية غاية في الاناقـة والجمال قام بعـملها كبار الفــنانــين.
حتما ان هـنالك علاقـة بين اختـيار التجريد في الفـن الاسـلامي والصحراء. لأن الاسـلام ولد في الصحراء. ولأن من يسـكن الصحراء يعرف ان الصور هي في المخيلة كالشعر مثلا، ولاننا في مجال الفـن فلابد من القول ان الفـن ليــس هـدفا ً بذاته ، انما هو طريق لتحرير اللاوعي. ان ما يكـتــنزه اللاوعي البـشـري يمكن ان يكوّن الثروة الوحيدة التي لا تـخضع لســيطرة العـقـل الواعي. وهي امكانية مهمة لمعرفة اللغز البشـري.
لم يهدأ النـقـاش حول الصور في العالم المــسـيحي. ومن وقـت لآخر تعـود المعاداة للصور. فـبعد مجيء الاسـلام بقرن واحد يذكر لنا المؤرخون عودة الرفض للصور عند العالم المسيحي. وتحطـيم الامبراطور البــيزنطي ليون الثالث عام 730 لتمـــثال المـســيح بمدخل القصر الامبراطوري في عاصمة الامبراطورية البـيـزنطـية اسطـنـبول الحالية. ادت هذه الحادثـة الى نـشــوب حرب اهـلـية، ومن ثم خلافات في الرأي اســتـمرت حتى عام 843 حيث رجعـت الصور ولكن على شـرط ان لا تملك ظلا، بمعنى آخر تـشـابه ما نسـميه اليوم برسوم الكارتون. والمقصود بذلك ان الفنان يجب ان لا يعمل رسوما مشابهة لما هو في الطـبيعة. ولا يجب ان يوازي الخالق في صنعه. ونرى هذا النوع من الصور المسطحة لازال لحد اليوم في آثار المعالم البيزنطية.
بلا شك ان العالم المـسـيحي تأثـرأيضا في ذلك الوقت بمواقــف بعض الفـقهاء المـسـلميـن، فـنحن الآن في بدايات ولادة الـفن الاسـلامي. وعندما وردت التـساؤلات عند فـناني الاسـلام ماذا ســنـرسم على الجدران. كان رد الفـقهاء قاطعا: لا تماثـيل ولا صور فأننا لا نريد تكرارعبادة الاوثـان.
اعود للعالم المـسيحي فـفي هذه الفـترة أي في القرن الثامن الميلادي ولد تـيار أراد ان يمنع الايقـونات و يلغي الصور من المعالم المعمارية كما في الاسلام. وتيار آخر على العكس كان يرى في ذلك نوع من الهـويةالفـنية للعالم المـسيحي بعبادة الايقـونات. وبالتالي كانوا يرون ان هذا هو ما يفــرق بين المـســيحيــين والمسلمين .
دافع عن الصور في العالم المـســيحي وأيد اسـتعـمالها شــخصية معروفة اســمه: جان داماسن والذي كان معروفا في الاسـلام تحت اسـم منصور لانه كان يعمل مســتــشارا ً للخليــفة الاموي في دمشق عام 730 ميلادية. كان يقول ان فكـرة اســتعـمال الصور هو ما يميز المـســيحـيـن عن الاسـلام، وكان يرى ان الصورة تـمثــل تطوراً للمحـســوس نحو المعــقول. بل انه ذهب الى ابعد من ذلك في المبالغة بالدفاع عن الصور الدينــية فـقال ان تمـــثالا يصور المــسـيح لم تعد مادته مجرد حجر انما الحجر اكتـسـب قدســية لانه جسد دور تمثــيل المسـيح.
ويمكن القول ان النـقاش حول الصور لم يتـوقـف ابدا ً في العالم المــسـيحي، ولكن المعارضة للصور ضعـفـت تدريجـيا. وان التــيار المـشـجع للصور حقـق نجاحات هائلة فيما بعد في الفن التــشـكيلي. وخصوصا في فـترة عـصر النهـضة الاوربـية حوالي القـرن السـادس عــشـر. اذ اغـنـى ما عمله الفـنانون الاوربيـون الانسـانية جمعاء بتـراث جمالي ساعد على تـنــمية الذوق البــشـري وتطور الانسان في اكتــشـافاته للطبــيعة.
وقد جرب الفـنان الاوربي طرق تـقــنية مـتعـددة في العمل التــشـكيلي. كالفريــسك وهو التصـوير بالالوان على نوع من الجص الرطب. والموزائـيك وهي الصور المعمولة من قطـع الحجر الملون. وفي مجال التـماثـيــل فأن اكثـر النحاتـين كانوا في نفــس الوقت معـمارييـن فـخلفـوا لنا معالم مدهــشة، اذ تحولت البــنايات الى مايــشـابه الاعمال النحتــية العــملاقة.
اما في العالم الاسـلامي ورغم عدم التــشـجـيع للصور فأن العـديد من الفــنانــيـين الكبار أثروا التراث الانـسـاني ببحوثهـم الفــنية بصور الكــتب. فرسـموا نتـاجات مـشـاعـرهم الحســية الرهــيفة، وتمــيزوا بقدرات عالية على الملاحظة والرؤية للطبــيعة، واسـتــلهامهم منها مناظرهم. وعلى سبــيل المثـال الفــنان يحيي الواسـطي في بغداد ورسـومه التي تعــكس اجواء الحياة في العراق في القرن الثالث عــشـر، عـبر اخــتـزال للاشـكال، وتوزيع ذكي للكتــل في الفـضاء. و اســتعماله منظور البعد الواحد على السطح التــشــكيلي. ان أي مشـاهد درب عــينيه على التأمل في الصور يثـمن بدهــشـة قـدرات هذا الـفـنان. فـنكاد نتـعرف على هؤلاء البــشـر وعلى حياتهم وملابسـهم من خلال تلك اللوحات.
وبهـزاد الفنان الايراني ترك لنا صور مؤرخة في نهاية القرن الخامس عـشر لمواضـيع من الحياة الواقـعـيـة. كصورة لعمـال البناء في قصر الخورنق حيث نرى حوالي عـشـرين عاملا يتـوزعون على العمل كل حـسـب دوره. ألوان بلون التـراب والطابـوق. انـسـيابية الأشـكال في الرسـمم. ديـناميكــية الاشــخاص. تكوين عام متــين حيــث يدخل الفـنان كل الاشــخاص في دوامة متحركة. فـتــدب الحـياة في الرسم عندما نتأمله، رغم القرون العديــدة التي تـفـصــلنا عن تاريخ رسـمه.
في صورة اخرى لنفــس الفــنان تخـيل فيها الخليــفة المأمون في الحمام. وهنا تـبدو عبقــرية الـفـنان في اعادة تركـيب اجزاء الحمام كما يريده هو في الرســم. فيخــتـلط الخارج بالداخل ونرى كل الصالات. المأمون ومـساعديه. عمال الحمام يؤدون ادوارهم. ولكن لم ينـس بهزاد انه فنان وانه يعمل قطعة فــنية، فـيـسطـّـح المنـظور عبر بعض الاشكــال وعبر تـقـنــية عبقـرية يجعـلنا فيها نشــعر بالأبعاد والعـمق. وعلاوة على المهارة العالية والدقة في التصوير والمعرفة الكاملة لمواد الالوان. فأن ما يــبهرنا عنده هوالــتكوين المعماري الذي يوحي بالاتساع والعلو.
ولكن عبــقرية الفــنانيـن المـسـلمـين تحولت بشــكل واسع وفي اكثــر المدن الى مجال الخط والزخرفة. وليس في الكـتب فـحسب بل انهم ساهموا بشكل واسع مع المعماريين في رسم اشكال البــنايات وزخارفها.
ان اسـتــمرارية اسـتــعمال الخطوط والزخارف لقرون عـديدة، ادى الى بحوث كــثـيرة في مجال الشــكل، والمواد عبرسـلــسلة من اجـيال الفنــانين. فبــسطت اكــثر الاشــكال وأختــزلت، بل ان الفــنانين الذيـن عملوا مع المعــماريين والبـنائيــن اخضعوا الاشـكال الفــنــية لحاجات المواد نفــسها. وبذلك تعدد الابداع فأن الخط على الصخر لايــشـابه رسم الحروف بالســيــرامـيك. والكتــابة بالطابوق ألغت من الحروف اســتداراتها وأعـطتها خطوط مســتـقــيمة، ومظاهر هندسـيــة وتكوينات محســوبة ومدروســة. وهذا ما نراه في الخطوط الكثــيرة بمعالم اســيا الوســطى، اذ يتعــادل شكل الحرف والفراغ المحــيط به، ويتركز بحث الــفـنان على جانب تـشــكيــلي الا وهو اجبار الحروف على الاطاعة والدخول في المــساحة المطــلوبة. بينما ان الحفر على الصخر وصلابة المادة ادت الى انعدام الفراغ بين الحروف، فأصبحت الحروف ككــتـل معمارية لها قدرات تعبــيرية كخطوط مسـجد السلطان حسن في القاهرة.
ان هذا الاستعـراض الســريع لعالم الصورة في حبها او كراهيــتها. يدفعـنا ان نبحث عن اجوبة عـقــلانية لها رغم انــنا في مجال الفـن، فأن العلم والفـن هما اخوة يحتاج احدهما الآخر باستمرار.
ان الدراسات العلــمية لدماغ الانســان في عصرنا الحالي تؤكد ان الانسان بحاجة لأســتهلاك الصور أي لابد من رؤية صور. ولكن بنــفــس الوقت ان الانــسان بحاجة لتحرير الصور ايضا. اي لابد ان ينــشـط مخيلــته ليعمل الصور في ذهـنه. وهكـذا ان قلة الصور سـيــؤدي إلى ضرر للانسان وكثــرتها ستضر أيضا. فإذا لا نرى صوراً سـنــشعر بان شـيئاً ما ينــقصنا، وأن نمضي ساعات طوال في رؤية الصور فــسوف نتعب أذهاننا. وهذ هو سـبب هذا الحديث والمقصود هنا هو التـلفــزيون وكـثرة صوره.
هنالك تــقرير عمل في كنـدا يخص الشــباب الصغار، يقول: ان هؤلاء الشباب في عصرنا الحالي اصبحوا شهـود عبر الصور على عــشرات الحالات من القــتـل والاغـتصاب بســبب الافلام والـتلفــزيون. مما لم يكن يعرف ذلك شــباب بعمرهم قبـلانتشار الصور.
ان رؤية التلــفزيون لساعات طويلة يجعل من المســتحيل على الدماغ هضــم آلاف الصور بســهولة، لذلك سـيـــبقى جزء منها غير مهـضوم ومشــوش ينتــظر المجيء والتأثــير على الانــسان في ساعات ضعــفه النفــسي كما الكابوس. فـتـــتـدخل هذه الصور وتـلعب دورا ً في قيادة الانـفعالات. وقد تـقود للعنف والجريمة.
ان الصور الكــثيرة التي نرسلها للدماغ قد تــشغـل الفراغ المتوفر للتخيلات والابداع. وبذلك يحدث العكس تماما لما ينـتــظر البعض من التــلفزيون كجهاز ثــقــافي. ان الصور بلا شــك هي ضرورة للتربية والثــقــافة وتنمـية الاحسـاس ولكن بـشرط تحديد كمياتها، وعبر التــخمـين والحدس او بالاســتـفــسار من الاختـصاصــيـين وقراءة آراء الـنـقاد لتــقدير نوعـيتها وأهمـيتها. فهناك صور تبني وهناك صور تهدم. وهناك فلم سينمائي يجعلنا اكبر، وآخر يحولنا الى اصغر و يحطم اعصابنا.
ذاكرة الانسان تختـلف عما هو في غيره من الاشـياء. فلحبة الأرز مثلاً ذاكرة أيضا. وكما يقول مثـل شعـبي من مدغـشـقر: حبة رز مزروعة، مائة حبة محصودة. وهكذا ان ذاكرة الرز لاتعرف الا تكرار صورتها. بينما ذاكرة الانسان تـتطور وبحاجة مستمرة للتربية والتعليم. لأن ذاكرة الانسان فيها جزء وراثي، وقسم آخر كالصفحة البيضاء، يطلب املاءه.
ان الصورة هي اسرع من الكتابة لإيصال المعلومات للدماغ. ولهذا نطرح هنا الاسـئلة حول دور الصور وعلى الاخص التـلـفزيون.
ومن الطبـيعي ان كل مايـشــبه التــلفـزيون من صور يشــكل نفــس النوعية من العطاء والأخذ، ولكن من الاكيد مثلا ً ان نمضي ساعة لرؤية الانــترنت ســيكون افضـل من ساعة امام التــلفزيون. لأن الانـترنت يعطــينا امكانيات اكبر لأن نتـدخل في اخــتيار الصور ولأن الانــترنت يعــتمد كثــيرا على النص. لذلك ان بين هذين الوســيلـتـين فارق كبــير.
ان الادمان على الصور هو كالادمان على المخدرات. اذ لا يمكن اليوم للبعض أن يتحملوا غياب الـتلــفزيون من دارهم ليوم واحد. وملايـين العوائل تـتـرك التـلــفـزيون يــبث نفــس المواد من الصباح حتى المــساء. يـسـمعون نفـس الاخبار عـشرين مرة. لايمــكنـهم اغلاقه رغم وجود امكانيات عديدة للبــقاء في اتصال مع العالم وســماع الاخبار. ان للصور سلطان عليــنا. نعم هناك صور سحر. بعض الشعــوب القــديمة التي كانت ترى في النذور والدم المنـسـكب صورا توفر الســلام لبعــض الوقت. فهل لازلنا بنفــس المعــتـقــدات. اذ ان التــلفزيون وافلام الرعب وفي نشــرة الاخبار يوميا ً يعطــينا هذه الصور المثــيرة المخــيفة. صور الدم المنسكب، ونادرا وقليلا جدا نرى في التــلفــزيون شــعـرء أو رسـامين، يقودوننا بصورهم الى التأمل والتـفكـير والصفاء، يحاولون معـرفة كـنه الانـسان وجوهره.
وبفـضل التـلفزيون وبعض الافلام ا نرى اليوم مساوئ الإنسان اكثر من خيراته. ولكن ان نضع ما ابدعه الانـسان وما يستمرعليه في العطاء من اشــياء جمـيله الى جانب المــساوئ، سـيكون ذلك عمل تربوي ويدفع المشاهد للتأمل. ان رؤية الحقــيقــة البـشــرية بكاملها يدفعــنا الى التــفكير، بـينما رؤية جانب واحد منها يدفعنا الى التــشاؤم على مصير الانسان. يربط الادباء والفــنانـون الانــسان الحالي بالذاكــرة الجماعية للانســانية. وحدســهم يقود الى رؤى مـسـتــقبـلـية.
سحـر الصورة شيء زائل فان اعجــبـتـنا اليوم صورة، فـسوف لن ننظر إليها غدا بنفـس الاعجاب، ونبحث عن اخرى اكـثر اثـارة منها ونبقـى دائما في عـطـش للصـور. بيـنما الصور المتـخـيلة في الاعمال الفــنية، والعلامات، والخطوط العربية المتـشـابكة اعلى المعالم المعمارية وصور الخيال الشـعري، فأنها على العكـس يمكن ان تكون منابع مستمرة لتخيلا تـنا. فأن كل هذه التـعابــير الفنــية لا تمنح نفــسها من اول وهلة وانما تطلب من المــشـاهد هو نفـسه إكمال العمل الفني. تجبره على التأمل والتـصور، لكي يرى الانســان الأ شــياء بوضوح ولكي يعطي لها التـفــسـيرات الاقـرب الى احــتياجاته النفــسـية. وكل فتــرة من الزمن سوف تــتـغــير التـفــســيرات بحســب حاجة الانــسان الآنـية. ولهذا فان بعــض الاعمال الفـنـية تجعلنا نـشــعـر بالارتياح. بينما ان صور التـلــفـزيون تكونفي أكثر الاحيان منهكة.
الصور الكــثـيرة لا تـسـمح لنا بالرجوع الى عالمنا الداخلي لإيـجاد رؤية سـلــيمة للأشــياء ولهذا قال الشاعر الفرنسي جوبـير اغلق العــيون وســترى. وبنـفــس المعنى قال فريد الدين عطار:
تعلم من الاعـمى ســر النظر.
ان قدر الانسـان على الكرة الارضية، ومنذ القـدم يســير عبر مجموعات متعــددة من البــشــر تـلـتـــقي مرة وتــتـباعد مرة اخرى، تـتــحارب اليوم، وتـنــهك غدا لتحقــق السلام، وعندما تطول فــترة الســلام تعــود من جديد الرغبة بأشــعال الحرب وهكذا. ولا يمكن اعطاء فكرة عن الحياة باختــيارمجموعة واحدة، مجموعة المتحاربين و أعــطائهم الجزء الاكبر من الصور. والتعــتــيم على تــيارآخر.
القسم المبدع من الشـــعراء والادباء والموســـيقــيـــين و الفنانيــــين التـــشكــيليــين. ان هذا التيار يخـلق ماهو غـير معـروف، رغم انه آت من تراث الماضي. ولكنه يتجه نحو المــسـتــقـبل. تيار يوفر للانــسانـية فرص الالــتـقــاء والتــفاهم.
ان التــعـتــيم على المبدعــين ما هو الا خســارة لشـــعوبنا التي هي بحاجة لكل ما ينــشــط مخيــلتــنا نحو التــقدم واللحاق بدول العالم المتطور.
ان الذهن البـشــري هو آخر مكان للحرية. يستـــطيع الانسان ان يفكر بما يحب ويرغب ولا يستــطيع اي شخص مراقـبته، ولكن عندما يكون الذهن ممتــلئا ًبهذه الصور المــشوشة هل سـيــبــقى مكان للتـفــكير الحر؟ بالطبع سيكون الانسان ضحية للافكار السائدة ويفـقد قدرته كإنسان حر في الحكم على الاشـياء.
فما العـمل؟ وكيف سـنـتحرر من ســُـلطان الصورة؟
للصور الفـباء وكتابة خاصة بها، فهنالك من يعرف قراءة الصور وهناك من لايعرف، فـتــخـــتـلط عنده الحقـــيقة ووهم الصورة.
ذكر الكاتب الفرنــسي ميـشــيل تورنيه في روايته القطرة الذهــبية قصة صورة جلــبت المــشاكل لكل من امـتـلكها، حتى يقرر احد مالكـيها في النهاية رميــها في البحر. ثم تدفع الصدفة أن يأتي صياد ويصطاد حوتا ، فيجد هذه الصورة في معـدة الحوت. يضعها في كوخه على الشاطئ ويـبقى تحت سـلطان ونفوذ تلك الصورة لأيام عديدة ولم يعد لداره ويرفض الذهاب للصيد. فـتـــقـلــق عائــلته.
كان ابنه رياض يتــعلم الخط عند خطاط كبــير. فـيخبر رياض معلمه الخطاط بمأساة والده. فـيقـول له الخطاط: ان الصورة ما هي الا مجموعة خطوط متـشابكة ولابد من معرفة قراءتها خذ قـلــمك وســنرسم وجها. خذ صفحة من الرق الشــفاف وخط بقلمك على جهة اليمــين العبارة التالية، فيخط رياض العبارة، بعد ذلك خذ صفحة اخرى لعبارة ثانــية وعلى صفحة ثالــثة عبارة ثالثــة، وعلى صفحة رابعة خط على جهة اليــسار العبارة الرابعة واخيرا على الصفحة الخامــسة خط العبارة الاخـيرة.
الآن ضع يارياض الصفحات الواحدة فوق الاخرى. فأدهش رياض ظهور صورة وجه. بعدها قال الخطاط لرياض: غير الآن من ترتيب الصفحات. فـتــغــير التـعبـــير في كل مرة. فـقــال الخطاط لرياض ان التعبــير يتغــير لأن الصفحة العليا والعبارة المخطوطة عليها تأخذ اكثر اهمية ووضوحا من الصفحة الاخيرة.
والآن خذ يا رياض قـلمك ومحبرتك وأوراق الرق، اركـض لدارك وأنقـذ والدك من الجهـل بقراءة الصورة، علمه قراءة الصور.
حسـن المسعــود ـ باريس 2006
- بموافقة من الكاتب مشكورا
سلطان الصورة بقلم حسن المسعود الخطاط arabic calligraphy, Hassan Massoudy