ا صورة نمطية تروج لها الميديا عن لاعبي الكرة؛ باعتبارهم مشاهير أو معتوهين، يجمعون المال ولا يقرؤون. مع أن عدداً من اللاعبين تحولوا إلى الكتابة، وأصدروا نصوصاً لا تقل متعة عن مشاهدتهم، وهم يركضون في ملاعب الكرة.
على غرار ألبير كامو، الذي بدأ كحارس مرمى في «راسينغ الجزائر»، قبل أن يُصاب بالسل، يهجر الكرة، يتفرغ للكتابة، ويصل إلى نوبل للأدب 1957. لم ينكر فضل كرة القدم عليه وقال: «كل ما أعرفه من أخلاق ومن واجبات البشر، تعلمته من كرة القدم». ألبير كامو يبدو النموذج، الأكثر شيوعاً، في العلاقة بين الكرة والأدب، ويغطي على حالات أخرى، قلما نلتفت إليها، مثلاً أمبرتو إيكو. الذي لعب الكرة، في صغره، ثم توقف، والسبب ليس في هذه الرياضة بحد ذاتها، التي وصفها ﺑ»اللعب النبيل»، بل في رعونة جماهير الكرة، وصخب المدرجات، لذلك، فقد ظل يُشاهد المباريات، على التلفزيون، معلقاً: «لا أكره كرة القدم، بل أكره مُتابعيها».
بينما يعتبر خورخي فالدانو الحالة الأمثل للاعب كرة ناجح، سيصير كاتباً معروفاً. فقد لعب في منتخب الأرجنتين، الذي فاز بكأس العالم 1986. كان حاضراً يوم ارتقى مارادونا إلى السماء، وسجل هدفه الشهير، ﺑ»يد الله» كما قال، ضد إنكلترا، وسجّل فالدانو هدفاً ضد ألمانيا في المباراة النهائية. عقب الاعتزال، وبعدما أتم تجربة ناجحة أيضاَ في ريال مدريد، تحول إلى كاتب، وكسب مساحة له بين القراء والنقاد، في بلده الأرجنتين. أصدر، أولاً، كتاباً بعنوان «أحلام الكرة»، ثم كتاباً أدبياً آخر، دفعه إلى الواجهة، بعنوان «قصص قصيرة عن كرة القدم»، تضمن قصصاً له، وأخرى لكتاب آخرين، عن عوالم الكرة، قام بتحريرها بنفسه.
في جهة مقابلة، سنجد لاعبين، وُلدوا ليصيروا شعراء، لكنهم ظلوا طريقهم، ووجدوا أنفسهم ـ بالصدفة ـ في ملاعب الكرة. خير مثال على ذلك، البرازيلي غارينشا (1933-1983). هو «آرتير رامبو» الكرة. كل شيء كان يوحي، من البداية، أنه لن ينجح كلاعب. قدمه اليمنى أطول من اليسرى ببضعة سنتيمترات. عانى من عاهة في سنواته الأولى، ولم يلعب أول مباراة رسمية له سوى بعد سن العشرين. لم يكن يُراوغ المدافعين، بل يُرقّصهم. يُعذبهم. صنع برجله ما عجز على فعله بقلمه. كتب قصائد بصرية، مازال الناس يذكرونها، ويعودون إليها، لحد الساعة. الكاتب الفرنسي أوليفيه غوز يُشير في كتابه «في مديح المراوغة»، أن كرة القدم اخترعت لتلعب بتمريرات وأهداف، ثم جاء البرازيليون وأخترعوا المراوغة، وقصد ـ تحديداً ـ غارينشا، الذي أضاف الفرجة التي كانت تفتقدها الكرة. هو أكثر لاعب أسرف في المراوغات، وفي تحطيم تاريخه، وثق في نفسه حد الإدمان، بدون أن يخسر معاركه ضد خصومه، سوى في مرات نادرة. كانت كرة القدم هي لغته، هي نصه المكتمل، حتى إن لم يكتب شيئاً في حياته، فقد كتب بجسده، وترك الآخرين يعلقون عليه، فقد ألهم الكثيرين ليكتبوا عنه، بل إن الشاعر فينيسوس دي مورايس، واحد من عرابي البوسا نوفا، كتب قصيدة في مديح غارينشا: «ملاك بقدمين مقوسين». تماماً مثل آرتير رامبو، لا يمسك غارينشا بشيء سوى ليهجره، يسكن التيه ولا يطمئن للاستقرار. بعدما قاد البرازيل للفوز بكأس العالم عام 1958، دخل على زملائه، في غرف تبديل الملابس، وقد لعب الكحول برأسه وهو يسألهم: «متى نلعب مباريات الإياب؟». بدء من تلك اللحظة، وبعدما بدأ في الصعود وفي اقتناص النجومية من بيلي، دخل غارينشا مرحلة الجنون. والإسراف في الشرب. كما لو أنه مل من الكرة، وراح يبحث عن شيء آخر يلهيه ويلهمه وينسيه وقاحات الطفولة الصعبة التي تمرغ فيها. حين جاء إلى الجزائر عام 1965، في مباراة ودية، وجد أكثر من 60 ألف شخص في استقباله، يطلبون توقيعه، لم يكن أحد يعلم أن «بهجة الشعب» كما لقبه البرازيليون، سيتخلى عن النجومية، كي لا يخسر نفسه. ينصرف إلى حياة بوهيمية، كشعراء لم يتحملوا تكرار العالم والعيش المبتذل، ويفكر في دهس والده، ويقتل حماته. تخلى عن أبنائه الثمانية وزوجته، وارتبط بمغنية الجاز إلزا سواريز، لكن إلزا سرعان ما تهجره، بعدما خفت بريقه. ليدخل في اضطرابات نفسية، ويحاول الانتحار أكثر من مرة. ثم يموت مصاباً بتليف كبدي، من كثرة الشرب. ويُنصب تمثال له في ملعب مراكانا، كما تنصب تماثيل الشعراء في روما أو أثينا.
في الجزائر، أدخل رشيد بوجدرة (1941) كرة القدم إلى الرواية، بقذفة لا يمكن صدها ولا ردها. ولن نُجانب الصواب لو قلنا إنه أول روائي مغاربي ورط الأدب في لعبة الكرة. عام 1981، أصدر رواية «الفائز بالكأس» (التي تُرجمت للعربية بعنوان: ضربة جزاء). ووضع القارئ في مقارنة ذكية، بين تطورات ثورة التحرير في الجزائر وأطوار نهائي كأس فرنسا، بين أنجي وتولوز، في ملعب كولمب، وأمام أكثر من 40 ألف متفرج. الرواية تدور في مدرجات الملعب، حيث يكلف محمد بن صدوق بتصفية الباشاغا علي شكال. الرجلان يجلسان على مقربة من بعضهما بعضاً، الأول على جهة الجماهير، والثاني في المنصة الشرفية، ولا يعرف واحد منهما كيف ستؤول عليه الأمور في نهاية المباراة، بينما الجماهير الأخرى مهتمة بمتابعة ما يجري في الملعب، من غير دراية أن ثورة الجزائر قد انتقلت، من القصبة والأوراس وجرجرة، إلى «عقر دارهم». إذن، جزائريان، الأول مجاهد والثاني عميل، الأول يريد التخلص من الثاني، وفي الملعب جزائريان آخران يلعبان: إبراهيمي وبوشوك (مع نادي تولوز). مع بدء المباراة سجل بوشوك هدفاً لتولوز، وأضاف إبراهيمي آخر في الدقيقة الأخيرة، أطلق الحكم صافرته لتنتهي المباراة بفوز تولوز وبرصاصة تقضي على الباشاغا، ويعتقل بن صدوق، ويتحول بذلك ملعب الكرة إلى ساحة سياسية، ومادة روائية، عرف بوجدرة كيف يستثمرها، ويكتب واحدة من أهم رواياته.
الآن، ونحن نعيش بتوقيت روسيا، وكأس العالم، الذي تُشارك فيه ـ لأول مرة ـ أربع منتخبات عربية، دفعة واحدة، نتساءل: لماذا لا تجد الكرة مكاناً لها في الأدب العربي؟ لماذا لا تتحول أهازيج الجماهير ومراوغات اللاعبين، الذين طالما أفرحوا مواطنيهم، إلى نصوص أدبية؟
القدس العربي
على غرار ألبير كامو، الذي بدأ كحارس مرمى في «راسينغ الجزائر»، قبل أن يُصاب بالسل، يهجر الكرة، يتفرغ للكتابة، ويصل إلى نوبل للأدب 1957. لم ينكر فضل كرة القدم عليه وقال: «كل ما أعرفه من أخلاق ومن واجبات البشر، تعلمته من كرة القدم». ألبير كامو يبدو النموذج، الأكثر شيوعاً، في العلاقة بين الكرة والأدب، ويغطي على حالات أخرى، قلما نلتفت إليها، مثلاً أمبرتو إيكو. الذي لعب الكرة، في صغره، ثم توقف، والسبب ليس في هذه الرياضة بحد ذاتها، التي وصفها ﺑ»اللعب النبيل»، بل في رعونة جماهير الكرة، وصخب المدرجات، لذلك، فقد ظل يُشاهد المباريات، على التلفزيون، معلقاً: «لا أكره كرة القدم، بل أكره مُتابعيها».
بينما يعتبر خورخي فالدانو الحالة الأمثل للاعب كرة ناجح، سيصير كاتباً معروفاً. فقد لعب في منتخب الأرجنتين، الذي فاز بكأس العالم 1986. كان حاضراً يوم ارتقى مارادونا إلى السماء، وسجل هدفه الشهير، ﺑ»يد الله» كما قال، ضد إنكلترا، وسجّل فالدانو هدفاً ضد ألمانيا في المباراة النهائية. عقب الاعتزال، وبعدما أتم تجربة ناجحة أيضاَ في ريال مدريد، تحول إلى كاتب، وكسب مساحة له بين القراء والنقاد، في بلده الأرجنتين. أصدر، أولاً، كتاباً بعنوان «أحلام الكرة»، ثم كتاباً أدبياً آخر، دفعه إلى الواجهة، بعنوان «قصص قصيرة عن كرة القدم»، تضمن قصصاً له، وأخرى لكتاب آخرين، عن عوالم الكرة، قام بتحريرها بنفسه.
في جهة مقابلة، سنجد لاعبين، وُلدوا ليصيروا شعراء، لكنهم ظلوا طريقهم، ووجدوا أنفسهم ـ بالصدفة ـ في ملاعب الكرة. خير مثال على ذلك، البرازيلي غارينشا (1933-1983). هو «آرتير رامبو» الكرة. كل شيء كان يوحي، من البداية، أنه لن ينجح كلاعب. قدمه اليمنى أطول من اليسرى ببضعة سنتيمترات. عانى من عاهة في سنواته الأولى، ولم يلعب أول مباراة رسمية له سوى بعد سن العشرين. لم يكن يُراوغ المدافعين، بل يُرقّصهم. يُعذبهم. صنع برجله ما عجز على فعله بقلمه. كتب قصائد بصرية، مازال الناس يذكرونها، ويعودون إليها، لحد الساعة. الكاتب الفرنسي أوليفيه غوز يُشير في كتابه «في مديح المراوغة»، أن كرة القدم اخترعت لتلعب بتمريرات وأهداف، ثم جاء البرازيليون وأخترعوا المراوغة، وقصد ـ تحديداً ـ غارينشا، الذي أضاف الفرجة التي كانت تفتقدها الكرة. هو أكثر لاعب أسرف في المراوغات، وفي تحطيم تاريخه، وثق في نفسه حد الإدمان، بدون أن يخسر معاركه ضد خصومه، سوى في مرات نادرة. كانت كرة القدم هي لغته، هي نصه المكتمل، حتى إن لم يكتب شيئاً في حياته، فقد كتب بجسده، وترك الآخرين يعلقون عليه، فقد ألهم الكثيرين ليكتبوا عنه، بل إن الشاعر فينيسوس دي مورايس، واحد من عرابي البوسا نوفا، كتب قصيدة في مديح غارينشا: «ملاك بقدمين مقوسين». تماماً مثل آرتير رامبو، لا يمسك غارينشا بشيء سوى ليهجره، يسكن التيه ولا يطمئن للاستقرار. بعدما قاد البرازيل للفوز بكأس العالم عام 1958، دخل على زملائه، في غرف تبديل الملابس، وقد لعب الكحول برأسه وهو يسألهم: «متى نلعب مباريات الإياب؟». بدء من تلك اللحظة، وبعدما بدأ في الصعود وفي اقتناص النجومية من بيلي، دخل غارينشا مرحلة الجنون. والإسراف في الشرب. كما لو أنه مل من الكرة، وراح يبحث عن شيء آخر يلهيه ويلهمه وينسيه وقاحات الطفولة الصعبة التي تمرغ فيها. حين جاء إلى الجزائر عام 1965، في مباراة ودية، وجد أكثر من 60 ألف شخص في استقباله، يطلبون توقيعه، لم يكن أحد يعلم أن «بهجة الشعب» كما لقبه البرازيليون، سيتخلى عن النجومية، كي لا يخسر نفسه. ينصرف إلى حياة بوهيمية، كشعراء لم يتحملوا تكرار العالم والعيش المبتذل، ويفكر في دهس والده، ويقتل حماته. تخلى عن أبنائه الثمانية وزوجته، وارتبط بمغنية الجاز إلزا سواريز، لكن إلزا سرعان ما تهجره، بعدما خفت بريقه. ليدخل في اضطرابات نفسية، ويحاول الانتحار أكثر من مرة. ثم يموت مصاباً بتليف كبدي، من كثرة الشرب. ويُنصب تمثال له في ملعب مراكانا، كما تنصب تماثيل الشعراء في روما أو أثينا.
في الجزائر، أدخل رشيد بوجدرة (1941) كرة القدم إلى الرواية، بقذفة لا يمكن صدها ولا ردها. ولن نُجانب الصواب لو قلنا إنه أول روائي مغاربي ورط الأدب في لعبة الكرة. عام 1981، أصدر رواية «الفائز بالكأس» (التي تُرجمت للعربية بعنوان: ضربة جزاء). ووضع القارئ في مقارنة ذكية، بين تطورات ثورة التحرير في الجزائر وأطوار نهائي كأس فرنسا، بين أنجي وتولوز، في ملعب كولمب، وأمام أكثر من 40 ألف متفرج. الرواية تدور في مدرجات الملعب، حيث يكلف محمد بن صدوق بتصفية الباشاغا علي شكال. الرجلان يجلسان على مقربة من بعضهما بعضاً، الأول على جهة الجماهير، والثاني في المنصة الشرفية، ولا يعرف واحد منهما كيف ستؤول عليه الأمور في نهاية المباراة، بينما الجماهير الأخرى مهتمة بمتابعة ما يجري في الملعب، من غير دراية أن ثورة الجزائر قد انتقلت، من القصبة والأوراس وجرجرة، إلى «عقر دارهم». إذن، جزائريان، الأول مجاهد والثاني عميل، الأول يريد التخلص من الثاني، وفي الملعب جزائريان آخران يلعبان: إبراهيمي وبوشوك (مع نادي تولوز). مع بدء المباراة سجل بوشوك هدفاً لتولوز، وأضاف إبراهيمي آخر في الدقيقة الأخيرة، أطلق الحكم صافرته لتنتهي المباراة بفوز تولوز وبرصاصة تقضي على الباشاغا، ويعتقل بن صدوق، ويتحول بذلك ملعب الكرة إلى ساحة سياسية، ومادة روائية، عرف بوجدرة كيف يستثمرها، ويكتب واحدة من أهم رواياته.
الآن، ونحن نعيش بتوقيت روسيا، وكأس العالم، الذي تُشارك فيه ـ لأول مرة ـ أربع منتخبات عربية، دفعة واحدة، نتساءل: لماذا لا تجد الكرة مكاناً لها في الأدب العربي؟ لماذا لا تتحول أهازيج الجماهير ومراوغات اللاعبين، الذين طالما أفرحوا مواطنيهم، إلى نصوص أدبية؟
القدس العربي