قرأت ما كتبه أدبيان فاضلان عن القصة القصيرة بالعدديين 812، 815 من الرسالة الغراء بمناسبة المباراة التي أجرتها إحداها المجلات الأسبوعية، وقد عن لي أن أعلق على ما جاء في مقاليهما بما يلي:
تختلف القصة القصيرة عن القصة الطويلة لا في (الكم) وحده بل في (الكيف) أيضا. وقصر الأقصوصة يجب أن يكون إيجابيا لا سلبيا، وذلك يعني أن العاطفة التي تحفز كاتب الأقصوصة إلى كتابتها هي العاطفة التي يمكن التعبير عنها تعبيراً كاملاً يفي بشروط الفن في حدود قصرها، ولإيجاز هنا لا يمكن أن يكون إرادياً واختياراً بل هو تلقائي محض. أما اصطناعه اصطناعاً لغاية يهدف أليها الكاتب فذلك ما يخرج بالأقصوصة عن جوهرها ومقومات كيانها، ومن هنا قيل إن أول شروط كتابة الأقصوصة الجيدة هو ضرورة تلك الكناية أي نضج العاطفة وتبلورها أولا في نفس الكاتب ثم شعوره بالحاجة إلى التعبير عن تلك العاطفة في أقصوصة لا في قصة أو مقالة أو قصيدة.
وهكذا نستطيع أن نقول أن الأقصوصة ولدت يوم قامت الحاجة إلى التعبير عن لون معين من الإحساس بطريقة خاصة لم تحققها الصيغ الأدبية التي كانت موجودة حتى ذلك الحين. وليس هناك إذا (حيز محدود) أو (اقتضاب ملموس) أو (حد كبير من حرية الكتاب).
الخاصية التي تتميز بها الأقصوصة هي وحدة المحور التي تدور حوله، أي أنها تنصب على فكرة واحدة أو عاطفة واحدة فقط؛ فالكاتب يرتب حوادثها ويختار شخصياتها ويحلل نفسياتهم ويضع على ألسنتهم الحوار بحيث يؤدي كل هذا إلى جلاء حقيقة واحدة لتكن (حب الترف يؤدي إلى التهلكة) مثلا ولا يجوز أن يضمنها ما يرمى إلى جلاء فكرة أو عاطفة أخرى.
وترتبط هذه الخاصية بخاصية أخرى هي الإيجاز وهو مالا يتوفر على وجه سوى إلا للكاتب الفطن، الخبير بالنفوس وأغوارها المتمكن من اللغة وأساليبها فمثل هذا الكاتب وحده يستطيع أن يختار الخطوط الرئيسية لشخصيات أقاصيصه دون أن يزحمها بالتافه من الأوصاف والوقائع، كما يستطيع أن يعبر عما بنفسه تعبيرا دقيقا، قويا، مؤدبا ف عدد ممكن من الألفاظ.
تحتفل الحياة حولنا بمئات الموضوعات التي تصلح مادة للأقصوصة؛ ولكن الكاتب لا يفطن إليها إلا وهو في مرتبة خاصة من حرارة الإحساس ونضج الشعور. والأقصوصة جيدة هي التي تشعر بعد قرأتها بأننا قد زدنا شيئا، ولا يتحتم أن تضيف القصة إلى معلوماتنا وخبرتنا شيئاً جديداً، بل يكفيها أن تزيدنا إحساساً وشعوراً بما كنا نعرفه قبلا ولا نحفل به كثيراً. وقد قال دوهاميل (. . . إن ما في المألوف من روائية لا يلبث أن يربنا كيف يصبح العادي خارقاً والحادث اليومي شاذاً، المهم هو أن ندرك ما نراه كل يوم دون أن نلتقي إليه بالا، ومنه يتكون نسيج حيانا اليومية العجيبة لو تأملنا. ونحن بذلك نضيف إلى معرفتنا بالإنسان وتصورنا غليه أشياء جوهرية).
لا يتحتم أداً على كاتب الأقصوصة أن يضمنها (حكاية) تتألف من حوادث متعددة أو معقدة، بل يكفيه أن يبنى الأقصوصة على فكرة مفاجئة، أو بارقة شعور، أو اتجاه جديد في النفس جاء إثر حادث أو تجربة، أو تطور ما طرأ على إحدى العواطف لسبب من الأسباب المستمدة من واقع الحياة أو باطن النفس. أن كل ما تجيش به النفس وتستجيب له يصلح مادة للأقصوصة ولكن لن يكتبها إلا الذي يستطيع أن ينقل إلى نفوسنا ما جاش بنفسه وذلك عن طريق الأداء الفني الموفق.
قد تكون المفاجأة عنصرا من عناصر الأقصوصة أو قد لا تكون، ولكن ما من كاتب أو ناقد يسلم بأن كل أقصوصة يجب أن تقوم على المفاجأة، بل يجب أن نقرر واثقين مطمئنين أن الكاتب الفقير في عواطفه وخياله وخبرته بالنفس والحياة وهو وحده الذي يعمد إلى حشد الحوادث وترتيب المفاجئات لا لشيء إلا لاستثارة نفوس السذج من القراء بطريقة صناعية مفتعلة.
من السذاجة أن يقول قائل إن الأقصوصة ليست ميداناً لعرض صور الحياة المختلفة بما تحفل به من كثرة وعمق وغنى وقنوع؛ والأمثلة على صدق ما نقول كثيرة؛ فالكاتب الكبير (موباسان) يبرز من وراء أقاصيصه عملاقا جبار الفكر جال بذهنه في كل مجال، ودرس كل عاطفة، وحلل كل غريزة، وعرض لكل رأى. وفي أقاصيصه نستطيع أن ندرس النفس البشرية والطبيعية والحياة دراسة شاملة مستوفاة. والقول نفسه ينطبق على تشيكوف أيضاً. والعبرة بشخصية الكاتب؛ فكلما كان صاحب شخصية فذة اتسع ميدان الكتابة أمامه.
وأحب أن أذكر هنا أنه لا يصح أبدا أن يحكم القارئ الشرقي على شخصيتي موباسان وتيشكوف بما نقل من أدبهما إلى العربية فذلك اقل من القليل ولا يكشف أبداً عن كل نواحي شخصيتهما.
يجب أن ننزل على حكم الواقع آسفين مضطرين، ونفرق - دون أن نعترف - بين الأقصوصة الأدبية والأقصوصة الصحفية. فالأقصوصة الأدبية هي التي أجملنا عناصرها قيما سلف، أما الأقصوصة الصحفية فهي التي يضع شروطها ويحتضنها أصحاب ومحرر المجلات الرائجة. وهي أقصوصة تجافي كل عناصر الأدب وخاصيته؛ فمن شروطها ألا تكون عميقة، وان تخلو من التحليل النفساني، وأن تتراكم فيها الحوادث والمفاجئات بعضها فوق بعض، وان تكون بالغة القصر، مشوقة، غير قاتمة أو قابضة، وأن تنتهي بحادث سعيد، وأن تكون سهلة حتى يستطيع قراءتها كل قراء المجلة من البواب والحلاق وبائعة الخردوات إلى الكواء والقصاب وطالب المدرسة الابتدائية. والقاعدة في هذه المجلات هي: (عندنا جمهور يجب أن نرضيه بأي شكل) وقد قال لي كاتب كبير (كبيرة الحجم!) كان يرأس إلى وقت قريب تحرير إحدى المجلات الكبيرة: إن القارئ فريسة يجب إصابتها من أول طلقة. ومؤدى هذا أن الأقصوصة التي يشك المحرر في أن قارئاً من القراء الذين سبق بيانهم قد يعرض عنها أو لا يرتاح لأي سبب يمليه الرأس الأجوف أو الذوق الفاسد، فمصيرها إلى سلة المهملات حتى لو كان كاتبها موباسان أو تشيكوف.
(القاهرة)
نصري عطا الله
مجلة الرسالة/العدد 818/
بتاريخ: 07 - 03 - 1949
تختلف القصة القصيرة عن القصة الطويلة لا في (الكم) وحده بل في (الكيف) أيضا. وقصر الأقصوصة يجب أن يكون إيجابيا لا سلبيا، وذلك يعني أن العاطفة التي تحفز كاتب الأقصوصة إلى كتابتها هي العاطفة التي يمكن التعبير عنها تعبيراً كاملاً يفي بشروط الفن في حدود قصرها، ولإيجاز هنا لا يمكن أن يكون إرادياً واختياراً بل هو تلقائي محض. أما اصطناعه اصطناعاً لغاية يهدف أليها الكاتب فذلك ما يخرج بالأقصوصة عن جوهرها ومقومات كيانها، ومن هنا قيل إن أول شروط كتابة الأقصوصة الجيدة هو ضرورة تلك الكناية أي نضج العاطفة وتبلورها أولا في نفس الكاتب ثم شعوره بالحاجة إلى التعبير عن تلك العاطفة في أقصوصة لا في قصة أو مقالة أو قصيدة.
وهكذا نستطيع أن نقول أن الأقصوصة ولدت يوم قامت الحاجة إلى التعبير عن لون معين من الإحساس بطريقة خاصة لم تحققها الصيغ الأدبية التي كانت موجودة حتى ذلك الحين. وليس هناك إذا (حيز محدود) أو (اقتضاب ملموس) أو (حد كبير من حرية الكتاب).
الخاصية التي تتميز بها الأقصوصة هي وحدة المحور التي تدور حوله، أي أنها تنصب على فكرة واحدة أو عاطفة واحدة فقط؛ فالكاتب يرتب حوادثها ويختار شخصياتها ويحلل نفسياتهم ويضع على ألسنتهم الحوار بحيث يؤدي كل هذا إلى جلاء حقيقة واحدة لتكن (حب الترف يؤدي إلى التهلكة) مثلا ولا يجوز أن يضمنها ما يرمى إلى جلاء فكرة أو عاطفة أخرى.
وترتبط هذه الخاصية بخاصية أخرى هي الإيجاز وهو مالا يتوفر على وجه سوى إلا للكاتب الفطن، الخبير بالنفوس وأغوارها المتمكن من اللغة وأساليبها فمثل هذا الكاتب وحده يستطيع أن يختار الخطوط الرئيسية لشخصيات أقاصيصه دون أن يزحمها بالتافه من الأوصاف والوقائع، كما يستطيع أن يعبر عما بنفسه تعبيرا دقيقا، قويا، مؤدبا ف عدد ممكن من الألفاظ.
تحتفل الحياة حولنا بمئات الموضوعات التي تصلح مادة للأقصوصة؛ ولكن الكاتب لا يفطن إليها إلا وهو في مرتبة خاصة من حرارة الإحساس ونضج الشعور. والأقصوصة جيدة هي التي تشعر بعد قرأتها بأننا قد زدنا شيئا، ولا يتحتم أن تضيف القصة إلى معلوماتنا وخبرتنا شيئاً جديداً، بل يكفيها أن تزيدنا إحساساً وشعوراً بما كنا نعرفه قبلا ولا نحفل به كثيراً. وقد قال دوهاميل (. . . إن ما في المألوف من روائية لا يلبث أن يربنا كيف يصبح العادي خارقاً والحادث اليومي شاذاً، المهم هو أن ندرك ما نراه كل يوم دون أن نلتقي إليه بالا، ومنه يتكون نسيج حيانا اليومية العجيبة لو تأملنا. ونحن بذلك نضيف إلى معرفتنا بالإنسان وتصورنا غليه أشياء جوهرية).
لا يتحتم أداً على كاتب الأقصوصة أن يضمنها (حكاية) تتألف من حوادث متعددة أو معقدة، بل يكفيه أن يبنى الأقصوصة على فكرة مفاجئة، أو بارقة شعور، أو اتجاه جديد في النفس جاء إثر حادث أو تجربة، أو تطور ما طرأ على إحدى العواطف لسبب من الأسباب المستمدة من واقع الحياة أو باطن النفس. أن كل ما تجيش به النفس وتستجيب له يصلح مادة للأقصوصة ولكن لن يكتبها إلا الذي يستطيع أن ينقل إلى نفوسنا ما جاش بنفسه وذلك عن طريق الأداء الفني الموفق.
قد تكون المفاجأة عنصرا من عناصر الأقصوصة أو قد لا تكون، ولكن ما من كاتب أو ناقد يسلم بأن كل أقصوصة يجب أن تقوم على المفاجأة، بل يجب أن نقرر واثقين مطمئنين أن الكاتب الفقير في عواطفه وخياله وخبرته بالنفس والحياة وهو وحده الذي يعمد إلى حشد الحوادث وترتيب المفاجئات لا لشيء إلا لاستثارة نفوس السذج من القراء بطريقة صناعية مفتعلة.
من السذاجة أن يقول قائل إن الأقصوصة ليست ميداناً لعرض صور الحياة المختلفة بما تحفل به من كثرة وعمق وغنى وقنوع؛ والأمثلة على صدق ما نقول كثيرة؛ فالكاتب الكبير (موباسان) يبرز من وراء أقاصيصه عملاقا جبار الفكر جال بذهنه في كل مجال، ودرس كل عاطفة، وحلل كل غريزة، وعرض لكل رأى. وفي أقاصيصه نستطيع أن ندرس النفس البشرية والطبيعية والحياة دراسة شاملة مستوفاة. والقول نفسه ينطبق على تشيكوف أيضاً. والعبرة بشخصية الكاتب؛ فكلما كان صاحب شخصية فذة اتسع ميدان الكتابة أمامه.
وأحب أن أذكر هنا أنه لا يصح أبدا أن يحكم القارئ الشرقي على شخصيتي موباسان وتيشكوف بما نقل من أدبهما إلى العربية فذلك اقل من القليل ولا يكشف أبداً عن كل نواحي شخصيتهما.
يجب أن ننزل على حكم الواقع آسفين مضطرين، ونفرق - دون أن نعترف - بين الأقصوصة الأدبية والأقصوصة الصحفية. فالأقصوصة الأدبية هي التي أجملنا عناصرها قيما سلف، أما الأقصوصة الصحفية فهي التي يضع شروطها ويحتضنها أصحاب ومحرر المجلات الرائجة. وهي أقصوصة تجافي كل عناصر الأدب وخاصيته؛ فمن شروطها ألا تكون عميقة، وان تخلو من التحليل النفساني، وأن تتراكم فيها الحوادث والمفاجئات بعضها فوق بعض، وان تكون بالغة القصر، مشوقة، غير قاتمة أو قابضة، وأن تنتهي بحادث سعيد، وأن تكون سهلة حتى يستطيع قراءتها كل قراء المجلة من البواب والحلاق وبائعة الخردوات إلى الكواء والقصاب وطالب المدرسة الابتدائية. والقاعدة في هذه المجلات هي: (عندنا جمهور يجب أن نرضيه بأي شكل) وقد قال لي كاتب كبير (كبيرة الحجم!) كان يرأس إلى وقت قريب تحرير إحدى المجلات الكبيرة: إن القارئ فريسة يجب إصابتها من أول طلقة. ومؤدى هذا أن الأقصوصة التي يشك المحرر في أن قارئاً من القراء الذين سبق بيانهم قد يعرض عنها أو لا يرتاح لأي سبب يمليه الرأس الأجوف أو الذوق الفاسد، فمصيرها إلى سلة المهملات حتى لو كان كاتبها موباسان أو تشيكوف.
(القاهرة)
نصري عطا الله
مجلة الرسالة/العدد 818/
بتاريخ: 07 - 03 - 1949