هناك نمت بين أحضان باريس بصورة خاصة فلسفة الوجودية التي استفحل أمرها بشكل يدعو إلى الغرابة والدهشة لا باعتبار الوجودية كفلسفة، ولكن باعتبار الأشخاص وجوديين. وإذا ما عالجنا هذه الوجودية القائمة اليوم بشيء من الصدق وجدنا أن هناك نوعاً جديداً من التهتك والتفسخ الناتج عن وجهة نظر مغلوطة أدت بها إلى مفهوم مغلوط.
وإذا تساءلنا عن سر هذه الفلسفة وجدناه في (الحرية الفردية كما تدعوها أو تدعو إلى تفسيرها الوجودية).
والحرية الفردية في منطوق هذا المذهب سر الفلسفة الوجودية ولكن أية حرية فردية تزعمها هذه الفلسفة العدمية؟
الحقيقة هي أن ليس هناك غير الحرية الفردية الجنسية؛ الحرية التي تقضي بأن يكون الفرد الوجودي وليد اللحظة التي يعيش فيها، وليست هذه اللحظة إلا أن يفرغ فيها كل رغباته وأهوائه وقواه الجنسية على الشكل التي تبشر به الوجودية. ومعنى ذلك أن الوجودي هذا والوجودية تلك لهما مطلق الحرية في تمثيل وجوديتهما كما يرغبان على مرأى ومسمع من الناس. ومن ميزات هذه الحرية أن الوجودي له ملء الحرية في كيفية القيام بأعماله. فمثلا يشعر أن هذا الإنسان ليس من حقه أن يعيش فما عليه إلا أن يقتله لمجرد اعتقاده ذلك دون أن يلتفت إلى القيم والنظم الاجتماعية والشعور بالمسؤولية. فإذا قلت له إنك مسؤول عن ارتكابك هذا الجرم اكتفى بأن - يعلن لك مبرراً ارتكابه الجرم. . إنه وجودي. . من حقه أن يقرر المصير الذي يعتقده والذي تقره الوجودية هذا بغض النظر عن المقومات التي ترتكز عليها الحياة.
(. . وأغرب ما في باريس اليوم هؤلاء الوجوديون. إنك تقابلهم في كل مكان، وحينما يقع بصرك على أحدهم تجد نفسك قائلة على الفور: الوجودية. وكل شبان باريس اليوم وشاباتها يجرون وراء هذا المذهب ويمعنون في التطرف فيه. وكيفما كان رأي (جان بول سارتر) عميد هذا المذهب في تفسير الناس لمذهبه فالذي لا شك فيه أن الوجودية الآن في فرنسا تمثل انحلال الأخلاق والاستهتار بكل ما تحويه كلمة الاستهتار من معان.
وتروي باريس الأعاجيب عما يحدث في حفلات الوجودية وهي (أعاجيب) لا يمكن أن تروى لا في الشرق فحسب بل حتى في مواخير (مونمرتر) التي تتأذى برغم فجورها المشهور لما يحدث في حفلات الوجوديين.
ومفهوم مثل هذا يدعو إلى الخروج على القواعد الفلسفية الصحيحة التي ترتكز عليها القواعد العامة لهذه الفلسفات. ولا يمكن أن تعمر هذه الفلسفة في ظل النظام الذي تسير عليه الحركات والنظم الشعبية في العالم نحو خلق حياة مطمئنة تعيش بظلها الشعوب وتنضوي تحت منارها قوى الطبقات الشعبية العاملة. ومفهوم الحرية الشعبية ليس كمفهوم الحرية الفردية التي تبشر بها الوجودية القائمة على أساس الإشباع الجنسي. وإشباع حيواني مثل هذا قد يجر وراءه البشرية إلى أسوأ المصاير وأحطها قيمة وخلقا. ولعل الوجودية هذه فلسفة تدور حول حورها القاضي بدعوى الانطلاق الذاتي لتلك الغرائز لكي تعمل على الهدم لا البناء، ودعوة مثل هذه قد يكون عمرها أقصر مما قامت عليه أعمار الفلسفات والمذاهب المختلفة الأخرى. ولعل عميد المذهب (جون بول سارتر) سيزيد في استنكاره للوجودية القائمة الآن في فرنسا بالرغم من اعتباره ما يحدث شيئاً لا تقره الوجودية ولا تدعو إليه. والواقع يؤيد أن (جون بول سارتر) هو الوجودية الباريسية بنفسها، ولا غرابة إذا كان الوجوديون لم يفهموا معنى وجودية عميدهم. كما أن عميدهم تجاهل وجوديته ووجوديتهم أيضاً.
أما بقاء هذه الفلسفة قائمة فذلك لا يعني أنها ستعيش، ولا يمكن لها العيش إلا في وسط مثل باريس وأمثالها من المدن الأوربية الخليعة.
هناك فلسفات أخرى تجري وراء استقصاء الحقائق والغوص إلى أغوارها إلا أنها فلسفات لا تخلو من الدوران حول نفسها. . وليست هذه الفلسفات المضطربة إلا نتيجة لشخصيات مضطربة تتخبط في فهم وتقدير الأمور كما أنها تزيد حوار هذه الفلسفات غموضاً وإبهاما. والكل آخذ في طريقه لبلوغ النتائج التي تمخضت عنها الحياة. الحياة التي لابد من أن تلد حياة أخرى وعالماً آخر. وطبيعي أن الحياة سائرة خطوة نحو التقدم لتعقبها خطوة أخرى نحو بلوغ العقل الإنساني أقصى مداه وأبعد ما يهدف إليه.
فما دامت الحياة قد بدأت بالتقدم فسوف تنتهي لا محالة بتقدم يكفل لها ما تصبو إليه بعد أن تحيل العناصر الضارة عناصر صالحة تستخدمها البشرية لبلوغ أمانيها.
فحقيقة مثل هذه تدعو العقل البشري لأن يعمل ويعمل جاهداً حتى اللحظة التي يسوده فيها الركود والهدوء. . ومن ثمة تعقبه عقلية أخرى آخذة بما أنتجه هذا العقل ليكون بداية فلسفة جديدة. تعمل على إظهارها عقليات أخرى، وهكذا تقارب النهاية البداية.
ولابد من يوم تكون فيه الحياة فلسفة غامضة من الصعب فهمها والإحاطة بكل مداخلها ومخارجها. وعلى هذا النحو تجتر البداية النهاية ويعود العالم وهو سائر نحو التقدم - ليقارب النهاية التي ستبدأ فيها البداية.
شاكر السكري
11 - 12 - 1950
وإذا تساءلنا عن سر هذه الفلسفة وجدناه في (الحرية الفردية كما تدعوها أو تدعو إلى تفسيرها الوجودية).
والحرية الفردية في منطوق هذا المذهب سر الفلسفة الوجودية ولكن أية حرية فردية تزعمها هذه الفلسفة العدمية؟
الحقيقة هي أن ليس هناك غير الحرية الفردية الجنسية؛ الحرية التي تقضي بأن يكون الفرد الوجودي وليد اللحظة التي يعيش فيها، وليست هذه اللحظة إلا أن يفرغ فيها كل رغباته وأهوائه وقواه الجنسية على الشكل التي تبشر به الوجودية. ومعنى ذلك أن الوجودي هذا والوجودية تلك لهما مطلق الحرية في تمثيل وجوديتهما كما يرغبان على مرأى ومسمع من الناس. ومن ميزات هذه الحرية أن الوجودي له ملء الحرية في كيفية القيام بأعماله. فمثلا يشعر أن هذا الإنسان ليس من حقه أن يعيش فما عليه إلا أن يقتله لمجرد اعتقاده ذلك دون أن يلتفت إلى القيم والنظم الاجتماعية والشعور بالمسؤولية. فإذا قلت له إنك مسؤول عن ارتكابك هذا الجرم اكتفى بأن - يعلن لك مبرراً ارتكابه الجرم. . إنه وجودي. . من حقه أن يقرر المصير الذي يعتقده والذي تقره الوجودية هذا بغض النظر عن المقومات التي ترتكز عليها الحياة.
(. . وأغرب ما في باريس اليوم هؤلاء الوجوديون. إنك تقابلهم في كل مكان، وحينما يقع بصرك على أحدهم تجد نفسك قائلة على الفور: الوجودية. وكل شبان باريس اليوم وشاباتها يجرون وراء هذا المذهب ويمعنون في التطرف فيه. وكيفما كان رأي (جان بول سارتر) عميد هذا المذهب في تفسير الناس لمذهبه فالذي لا شك فيه أن الوجودية الآن في فرنسا تمثل انحلال الأخلاق والاستهتار بكل ما تحويه كلمة الاستهتار من معان.
وتروي باريس الأعاجيب عما يحدث في حفلات الوجودية وهي (أعاجيب) لا يمكن أن تروى لا في الشرق فحسب بل حتى في مواخير (مونمرتر) التي تتأذى برغم فجورها المشهور لما يحدث في حفلات الوجوديين.
ومفهوم مثل هذا يدعو إلى الخروج على القواعد الفلسفية الصحيحة التي ترتكز عليها القواعد العامة لهذه الفلسفات. ولا يمكن أن تعمر هذه الفلسفة في ظل النظام الذي تسير عليه الحركات والنظم الشعبية في العالم نحو خلق حياة مطمئنة تعيش بظلها الشعوب وتنضوي تحت منارها قوى الطبقات الشعبية العاملة. ومفهوم الحرية الشعبية ليس كمفهوم الحرية الفردية التي تبشر بها الوجودية القائمة على أساس الإشباع الجنسي. وإشباع حيواني مثل هذا قد يجر وراءه البشرية إلى أسوأ المصاير وأحطها قيمة وخلقا. ولعل الوجودية هذه فلسفة تدور حول حورها القاضي بدعوى الانطلاق الذاتي لتلك الغرائز لكي تعمل على الهدم لا البناء، ودعوة مثل هذه قد يكون عمرها أقصر مما قامت عليه أعمار الفلسفات والمذاهب المختلفة الأخرى. ولعل عميد المذهب (جون بول سارتر) سيزيد في استنكاره للوجودية القائمة الآن في فرنسا بالرغم من اعتباره ما يحدث شيئاً لا تقره الوجودية ولا تدعو إليه. والواقع يؤيد أن (جون بول سارتر) هو الوجودية الباريسية بنفسها، ولا غرابة إذا كان الوجوديون لم يفهموا معنى وجودية عميدهم. كما أن عميدهم تجاهل وجوديته ووجوديتهم أيضاً.
أما بقاء هذه الفلسفة قائمة فذلك لا يعني أنها ستعيش، ولا يمكن لها العيش إلا في وسط مثل باريس وأمثالها من المدن الأوربية الخليعة.
هناك فلسفات أخرى تجري وراء استقصاء الحقائق والغوص إلى أغوارها إلا أنها فلسفات لا تخلو من الدوران حول نفسها. . وليست هذه الفلسفات المضطربة إلا نتيجة لشخصيات مضطربة تتخبط في فهم وتقدير الأمور كما أنها تزيد حوار هذه الفلسفات غموضاً وإبهاما. والكل آخذ في طريقه لبلوغ النتائج التي تمخضت عنها الحياة. الحياة التي لابد من أن تلد حياة أخرى وعالماً آخر. وطبيعي أن الحياة سائرة خطوة نحو التقدم لتعقبها خطوة أخرى نحو بلوغ العقل الإنساني أقصى مداه وأبعد ما يهدف إليه.
فما دامت الحياة قد بدأت بالتقدم فسوف تنتهي لا محالة بتقدم يكفل لها ما تصبو إليه بعد أن تحيل العناصر الضارة عناصر صالحة تستخدمها البشرية لبلوغ أمانيها.
فحقيقة مثل هذه تدعو العقل البشري لأن يعمل ويعمل جاهداً حتى اللحظة التي يسوده فيها الركود والهدوء. . ومن ثمة تعقبه عقلية أخرى آخذة بما أنتجه هذا العقل ليكون بداية فلسفة جديدة. تعمل على إظهارها عقليات أخرى، وهكذا تقارب النهاية البداية.
ولابد من يوم تكون فيه الحياة فلسفة غامضة من الصعب فهمها والإحاطة بكل مداخلها ومخارجها. وعلى هذا النحو تجتر البداية النهاية ويعود العالم وهو سائر نحو التقدم - ليقارب النهاية التي ستبدأ فيها البداية.
شاكر السكري
11 - 12 - 1950