نحن الآن أمام شاعرين قذف بهما إلى غياهب السجن، ورسفا في القيود والأصفاد قدرا من الزمان، فلجأ كلاهما إلى القريض يبثه وجده، ويطارحه أساه!
والسجن رهيب موحش، ترتعد له الفرائص، وتقشعر منه الأبدان، وكما يفزع الأسد المكبل في قفصه الحديدي، فكذال يفزع الشجاع الصنديد حين يهاجمه الظلام في بقعة لا يراوحها الهراء، وأفزع منه الشاعر المرهف، ذو العاطفة المشبوبة، والوجدان المضطرم، فهو من إحساسه في عذاب أي عذاب وانظر إلى الطائر الغريد يخطف من أيكته الملتفة، ويحبس في الأسلاك المتشابكة، مقصوص الجناح، ثم ابعث عليه الحسرات
ولن نفكر اليوم في سجوننا المستحدثة بالقرن العشرين، فمهما بولغ في إيحاشها وتضييقها، فهي نظيفة محترمة تدرج فيها الشمس، ويمر بها النسيم، وليست كالسجون العباسية التي حبس بها الشاعران اللهيفان، إذ كانت نقمة من نقم الله، فهي لا تحتوي على منافذ - ومقاعد، ولكنها في الغالب سراديب متوغلة ممتدة في أعماق الأرض، يوضع فيها الأحياء كما يدفن الموتى في اللحود، وهي على ظلامها الدامس، حافلة بما يخيف من الأفاعي والهوام، وقد لا يجد السجين من المكان فير ما يسمح له بالجلوس وحده والويل له إن وقف أو سار! بل قد يمكث السجين طيلة نهاره فلا يجيئه السجان غير دقيقة واحدة، يقذف له بفتات الطعام وآسن الشراب، وهو مع ذلك يتلهف على لقائه، إذ هو رسول الأحياء إلى الأموات
وقد قدر لعلي بن الجهم أن يكون نزيل السجون مدة طويلة فانقلب إلى الظلام الموحش، بعد أن نادم المتوكل في قصر الخلافة أمدا طويلا، ونهل من النعيم والمسرة ما لا يقدر بثمن، وجلس على بساط السمر يحتسي الكؤوس ويعابث القيان، وتلك حياة أشبه بالأحلام
لقد كان بن الجهم خبيث اللسان، فاحش الهجاء، وقد تعددت وشايته إلى الخليفة بأصحابه حتى تيقن افتراءه ودسه فعاقبه بالسجن ليرتدع، ونزعه من أفواه البهجة ومطارف النعيم، ونظر الشاعر فإذا ألسنة السوء تلوك حديثه في كل مكان، فتزيد عليه ما يكابد من الغصص والأشجان. وقد استعطف المتوكل بقصائد باكية، فما نالت من قلبه المعرض أي منال، حتى توهم أن السجن قد أصبح مقره الدائم، أبد الحياة. هذا وأقوال الشامتين الساخرين تصل إليه في معتقلة فتمزق نياط قلبه وتخرق مسامعه فماذا يصنع لإسكات هؤلاء وقد صد عنه الخليفة أعنف صدود وأقساه؟ موقف محزن حقا وحالة تبعث الزحمة والإشفاق وقد رأى ابن الجهم أن يظهر ارتياحه لمحبسه، وقبوله إياه، في شعر يبعث به إلى الشامتين الساخرين ليقصروا ألسنتهم عنه، فنظم هذه القصيدة التي نعرض لها الآن، ذرا للرماد في الآماق، وتجلدا على نوائب الأيام
ومضت الأيام وخرج الشاعر من السجن، وبقيت قصيدته عزاء يندى على الرزوئين بالسجون بعد ذاك، فكانت الأنشودة التي يترنم بها هؤلاء المعذبون في ظلماتهم القائمة. . ثم رمى الدهر بعاصم بن محمد الكاتب العباسي إلى السجن فرأى من أهواله ما أقض المضجع، وأضرم الشجون، وقد كان يحفظ قصيدة ابن الجهم فرددها في نفسه، مرات ومرات، وأيقن أنها لا يمكن أن تعبر عن عواطف السجناء بحال، فهي وإن حفلت بأساليب العزاء والاستسلام، تجافي الواقع الصريح أعنف مجافاة، فاندفع ينقضها بقصيدة تضع الحق في نصابه أمام الناس. وها نحن أولاء نوازن بين القصيدتين لنرى أي الشاعرين أصاب حظا من التوفيق والإبداع
لقد كان ابن الجهم يعتقد أنه مقبل على أكاذيب فاضحة، فهو يدافع عن قضية خاسرة لا تجد الناصر المعين، ومن ذا يحبذ السجون من العقلاء؟ لذلك نجده يقمع عواطفه فلا يسمح لها بالظهور في مطلع قصيدته، ويستهدي بعقله الناصح فيهديه إلى غرائب التشبيه وفي التشبيه مجال فسيح للتلفيق والتنميق، حيث ينسى القارئ عادة ما بين المشبه والمشبه به من فروق، ويلهيه وجه الشبه الواضح عما هناك من أبعاد، وإذ ذاك يجد الشاعر الفرصة مواتية لما يريد أن يقنع به الناس
إن الخيال الزافر بالتشبيه ليحلق بابن الجهم في أجوائه البديعة فيرى السيف الصارم يغمد في جرابه بعد التجريد، ويلمح الليث الواثب يربض في غيله الأشب فلا يتردد في الآفاق كما تتردد صغار الوحوش، ويشاهد البدر المتألق يحتجب وراء الظلام فترة محدودة ثم يضيء واضح القسمات! كما يعلم أن النار المضطرمة تكمن في الحجر حتى يقدحها الزناد، والرمح القاتل تتناوله الأكف بالتثقيف وتلهبه النار حتى يستقيم، فإذا ما حجبه السجن بعد ذلك عن العيون، فله في السيف والليث والبدر والرمح والنار عزاء أي عزاء وأي عيب على الرجل إذا كان كالليث الصائل، والنار المضطرمة، والسيف البتار!
هذا منطق عجيب، وأعجب منه أن يقنع الشاعر بوجاهته وسلامته فأخذ بتلابيبه ليقول:
قالوا حبست فقلت ليس بضائري ... حبسي وأي مهند لا يغمد
أو ما رأيت الليث يألف غيله ... كبرا وأوباش السباع تردد
والبدر يدركه الظلام فتنجلي ... أيامه وكأنها تتجدد
والنار في أحجارها مخبوءة ... لا تصطلي أن لم تثرها الأزند
والزاغبية لا يقيم كعوبها ... إلا الثقاف وجذوة تتوقد
فهل رأيتم ما فعل التشبيه؟ لقد كاد أن يجعل السجن أملا باسما بحلم به العيون في غفلات الرقاد، ولكنه لن يمحو الواقع الأليم، فالسجن حميم لا يطاق!
إن عاصماً الكاتب ليقرأ الأبيات ثم يقرنها بما يكابده في السجن من ويلات، فيرى أن كلام ابن الجهم يحتاج إلى تصحيح صريح، ولن يكون هذا إلا من شاعر قادر يدحض الحجة ويقيم الدليل؟ فمن يكون ذاك؟
لقد اعتمد ابن الجهم على التشبيه، فليأته عاصم منه، لينازله بسلاحه في حلبة البيان، وهنا يطهر الحق للعيان
وسيقف القارئ على المناحة الصاخبة التي تولول في أعماق عاصم حين يجده يصرخ في مطلع القصيدة بقوله:
قالوا حبست فقلت خطب أنكد ... أنحى علي به الزمان المرصد
لو كنت كالسيف المهند لم يكن ... وقت الكريهة والشدائد يغمد
لو كنت كالليث الهصور لما رعت ... في الذئاب وجذوتي تتوقد
تمضي الليالي لا أذوق لرقدة ... طعما وكيف يذوق من لا يرقد
في طبق، فيه النهار مشاكل ... لليل والظلمات فيه سرمد
فإلى متى هذا الشقاء مؤكد ... وإلى متى هذا البلاء مجدد
ولك أن تقرأ هذه الأبيات مرة ثانية، فستجدها تخاطب الشعور وتتجه إلى الإحساس، فتلتاع لها العاطفة، وسر ذلك ما تزخر به من الصدق والإخلاص
لقد كان الخيال الذي حلق به أبن الجهم ضعيف المنة، قصير الجناح، فالسير الحبيس ليس كالسيف أو الليث في شيء، وإلا فكيف يغمد السيف لدى الكريهة النائبة، وما خلق إلا ليمزق الأشلاء، ويسفح الدماء؟ وكيف يغضي الليث عما ينوشه من الثعالب والذئاب، وهي التي ترهب سلطانه الجبار؟ هذا ما فطن إليه عاصم، فاندفع ينقض أبيات صاحبه، ومعه الحق في دعواه ولكن لم يستطرد الشاعر فينقض التشبه بالبدر والنار، كما نقض التشبه بالسيف والليث؟ وذلك حتم أكيد عليه، لأن الشاعر الناقض فير الشاعر المعارض، فإذا قنعنا من المعارض بالتصوير الكلي، فلن نري من الناقض بغير الاستقصاء والثبات، ومثل من يعارض في شعر نقوله كمن يبني قصرا جوار قصرك، فهو لا يتقيد بأسلوبك ونظامك في البناء، وما عليه إلا أن يحدث بناء تشرأب أليه الأعناق، أما الشاعر الناقض فلا يبني بيتا جوار بيت، ولكنه يهجم في صرح مشيد، فعليه ألا يترك بعض المقاصر شاخصة للأبصار!
وقد صور عاصم ظلام السجن أو تشابه ليله بنهاره، وتأفف من غياهبه السرمدية، وشقائه المؤكد، وهو كلام لن تجد نظيره عند صاحبه، لأن الأول ثائر ناقم يذيع الفضائح والهنات، والثاني قانع راض يلتمس المحامد في كل مجال
ثم ماذا بعد ذاك؟
لقد لجأ ابن الجهم إلى الأسلوب الخطابي في تدليله، ولا عليه، فهو شاعر يستحث العاطفة ويخاطب الشعور، وقد وجد السجين يلزم حبسه كما يلزم الكريم بيته، ويزوره الناس في غياهبه دون أن يزور أحدا في رحابه، شأن العظماء المترفعين، فلم لا تحمد السجون على هذا التكريم العجيب!! ذلك رأي يعلنه ابن الجهم إذ يقول:
والحبس ما لم تغشه لدنية ... شنعاء، نعم المنزل المتردد
بيت يجدد للكريم كرامة ... ويزار فيه ولا يزور، ويحمد
وهذا كلام مردود لا يقره عاصم، وقد شهد في محبسه كل مذلة وهوان، ومتى استراح السجين لزواره، وهم ما بين شامت يبدي التوجع، ويضمر السرور، وصديق يذري الدموع، ويرسل الزفرات، وهذا كذاك، يوقد الشجى في الضلوع، بزورته! وقد عرف عاصم ذلك فاندفع يقول:
ما الحبس إلا بيت كل مهانة ... ومذلة ومكاره لا تنفد
إن زارني فيه العدو فشامت ... يبدي التوجع تارة ويفند
أو زارني فيه المحب فموجع ... يذري الدموع بزفرة تتردد
وواضح أن ابن الجهم يعترف بهذه الأبيات في أطواء نفسه، ولكنه يلفق الأدلة الوهمية كبتا للشامتين، ونحن نرفع شاعريته حين نعلم أنه يتصيد المحامد للقفر الموحش، وذلك مسلك وعر تتعثر فيه القرائح الجياد، أما صاحبه فيعف ما يرى في القفر الجديب من قسوة وجفاف، فهو يسير مع التيار، ولا يقف في وجهه متحديا العقبات والصعاب!
وقد تعجب لعلي حين ينسى موقفه الدفاعي، وتطغي عاطفته على عقله، فيرجو الفرج القريب، ويأمل الرخاء بعد الشدة:
فلكل حال معقب ولربما ... أجلى لك المكروه عما تحمد
قد تعجب لذلك منه وتأباه، إذ أن المستريح في محبسه لا يحب أن يفوه بما يشير إلى الضجر والسخط، ولكن الحق ظافر غالب، وقد عجز الشاعر أن يتنكر لعواطفه إلى آخر الشوط، فعمد إلى إرضائها والترويح عنها، وهو بذلك يلتقي مع صاحبه عاصم في مأساة واحدة، وخطب مشترك، فلا مجال للمناقضة بعد ذلك، وقد ذهبا معا يتوسلان ويعتذران، عسى أن يصيبهما حظ من الصفح والغفران
ولقد كان ابن الجهم بليغا في اعتذاره، متفوقا على صاحبه، فهو يدعو إلى النصفة والسداد، ويود لو اجتمع في مجلس واحد مع خصومه أمام الخليفة ليدحض الحق الباطل، إذ ليس من العدالة أن يتحكم الشاهد في الغائب فيوفر عليه الصدور، وينهشه ما استطاع، اسمعه يقول:
أبلغ أمير المؤمنين ودونه ... خوف العدا ومهامه لا تنفد
إن الذين رموا إليك بباطل ... أعداء نعمتك التي لا تجحد
شهدوا، وغبنا عنهمو فتحكموا ... فينا، وليس كغائب من يشهد
لو يجمع الخصماء عندك مجلس ... نوما، لبان لك الطريق الأرشد
والشمس لولا أنها محجوبة ... عن ناظريك لما أضاء الفرقد
والبيت الأخير ممتاز رائع، وهو فوق إقناعه السديد يدل على ما يعتقده الشاعر في نفسه من سمو وسموق، ونحن نستطرف قوله:
شهدوا، وغبنا عنهمو فتحكموا ... فينا، وليس كغائب من يشهد
إذ ينبئ عن الظلم الفادح الذي لحق الشاعر بابتعاده عن مقارعة الوشاة، وقد ذيل البيت بحكمة صادقة تضمن له البقاء
أما عاصم فقد نهج نهجه في الزلفى، وراح يتحدث لسيده معتذرا معاتبا، ويحوم إلى أفكار صاحبه إذ يقول عن وليه
فذبت حشاشة مهجتي بنوافل ... من سيبه وصنائع لا تجحد
عشرون حولا عشت تحت جناحه ... عيش الملوك وحاجتي تتزيد
فخلا العدو بموضعي في قلبه ... فحشاه جمرا ناره تتوقد
فاغفر لعبدك ذنبه متطاولا ... فالحقد منك سجية لا تعهد
وهذه أبيات لا تقرن بالأبيات الأولى فهي خالية من القوة والتأثير، وإن رافقتها في بعض المعاني فضلا عن الغرض العام. ولست أستطيب كلمة الحقد في البيت الأخير، فهي أبعد ما يكون عن المقام، إذ لا يليق أن يوصف بها إنسان يعتذر إليه ويتزلف عنده، هذا إلى القوافي المستكرهة التي ألصقت إلصاقا بالأبيات!
ولن نختم الحديث عن المقطوعتين قبل أن نجمل الموازنة بينهما في أسطر محدودة. فنقرر أن أسلوبهما سلس رقيق، وأن عليا رغم وعورة مسلكه، وتحديه لشعوره وعواطفه، قد هدى عاصما إلى ما نظمه من المعاني، وفتح عليه بما لم يكن يخطر له على بال، كما ارتفع عنه حين سارا معا في الاعتذار والعتاب فجاء بما لم يتطاول إليه عاصم، وإن كنا نأخذ على الشاعرين معا ضيق الأفق، وعصر النفس، وسذاجة التفكير، رغم اتساع المجال، وفي ذلك بلاغ
محمد رجب البيومي
16 - 07 - 1951
الرسالة 941
والسجن رهيب موحش، ترتعد له الفرائص، وتقشعر منه الأبدان، وكما يفزع الأسد المكبل في قفصه الحديدي، فكذال يفزع الشجاع الصنديد حين يهاجمه الظلام في بقعة لا يراوحها الهراء، وأفزع منه الشاعر المرهف، ذو العاطفة المشبوبة، والوجدان المضطرم، فهو من إحساسه في عذاب أي عذاب وانظر إلى الطائر الغريد يخطف من أيكته الملتفة، ويحبس في الأسلاك المتشابكة، مقصوص الجناح، ثم ابعث عليه الحسرات
ولن نفكر اليوم في سجوننا المستحدثة بالقرن العشرين، فمهما بولغ في إيحاشها وتضييقها، فهي نظيفة محترمة تدرج فيها الشمس، ويمر بها النسيم، وليست كالسجون العباسية التي حبس بها الشاعران اللهيفان، إذ كانت نقمة من نقم الله، فهي لا تحتوي على منافذ - ومقاعد، ولكنها في الغالب سراديب متوغلة ممتدة في أعماق الأرض، يوضع فيها الأحياء كما يدفن الموتى في اللحود، وهي على ظلامها الدامس، حافلة بما يخيف من الأفاعي والهوام، وقد لا يجد السجين من المكان فير ما يسمح له بالجلوس وحده والويل له إن وقف أو سار! بل قد يمكث السجين طيلة نهاره فلا يجيئه السجان غير دقيقة واحدة، يقذف له بفتات الطعام وآسن الشراب، وهو مع ذلك يتلهف على لقائه، إذ هو رسول الأحياء إلى الأموات
وقد قدر لعلي بن الجهم أن يكون نزيل السجون مدة طويلة فانقلب إلى الظلام الموحش، بعد أن نادم المتوكل في قصر الخلافة أمدا طويلا، ونهل من النعيم والمسرة ما لا يقدر بثمن، وجلس على بساط السمر يحتسي الكؤوس ويعابث القيان، وتلك حياة أشبه بالأحلام
لقد كان بن الجهم خبيث اللسان، فاحش الهجاء، وقد تعددت وشايته إلى الخليفة بأصحابه حتى تيقن افتراءه ودسه فعاقبه بالسجن ليرتدع، ونزعه من أفواه البهجة ومطارف النعيم، ونظر الشاعر فإذا ألسنة السوء تلوك حديثه في كل مكان، فتزيد عليه ما يكابد من الغصص والأشجان. وقد استعطف المتوكل بقصائد باكية، فما نالت من قلبه المعرض أي منال، حتى توهم أن السجن قد أصبح مقره الدائم، أبد الحياة. هذا وأقوال الشامتين الساخرين تصل إليه في معتقلة فتمزق نياط قلبه وتخرق مسامعه فماذا يصنع لإسكات هؤلاء وقد صد عنه الخليفة أعنف صدود وأقساه؟ موقف محزن حقا وحالة تبعث الزحمة والإشفاق وقد رأى ابن الجهم أن يظهر ارتياحه لمحبسه، وقبوله إياه، في شعر يبعث به إلى الشامتين الساخرين ليقصروا ألسنتهم عنه، فنظم هذه القصيدة التي نعرض لها الآن، ذرا للرماد في الآماق، وتجلدا على نوائب الأيام
ومضت الأيام وخرج الشاعر من السجن، وبقيت قصيدته عزاء يندى على الرزوئين بالسجون بعد ذاك، فكانت الأنشودة التي يترنم بها هؤلاء المعذبون في ظلماتهم القائمة. . ثم رمى الدهر بعاصم بن محمد الكاتب العباسي إلى السجن فرأى من أهواله ما أقض المضجع، وأضرم الشجون، وقد كان يحفظ قصيدة ابن الجهم فرددها في نفسه، مرات ومرات، وأيقن أنها لا يمكن أن تعبر عن عواطف السجناء بحال، فهي وإن حفلت بأساليب العزاء والاستسلام، تجافي الواقع الصريح أعنف مجافاة، فاندفع ينقضها بقصيدة تضع الحق في نصابه أمام الناس. وها نحن أولاء نوازن بين القصيدتين لنرى أي الشاعرين أصاب حظا من التوفيق والإبداع
لقد كان ابن الجهم يعتقد أنه مقبل على أكاذيب فاضحة، فهو يدافع عن قضية خاسرة لا تجد الناصر المعين، ومن ذا يحبذ السجون من العقلاء؟ لذلك نجده يقمع عواطفه فلا يسمح لها بالظهور في مطلع قصيدته، ويستهدي بعقله الناصح فيهديه إلى غرائب التشبيه وفي التشبيه مجال فسيح للتلفيق والتنميق، حيث ينسى القارئ عادة ما بين المشبه والمشبه به من فروق، ويلهيه وجه الشبه الواضح عما هناك من أبعاد، وإذ ذاك يجد الشاعر الفرصة مواتية لما يريد أن يقنع به الناس
إن الخيال الزافر بالتشبيه ليحلق بابن الجهم في أجوائه البديعة فيرى السيف الصارم يغمد في جرابه بعد التجريد، ويلمح الليث الواثب يربض في غيله الأشب فلا يتردد في الآفاق كما تتردد صغار الوحوش، ويشاهد البدر المتألق يحتجب وراء الظلام فترة محدودة ثم يضيء واضح القسمات! كما يعلم أن النار المضطرمة تكمن في الحجر حتى يقدحها الزناد، والرمح القاتل تتناوله الأكف بالتثقيف وتلهبه النار حتى يستقيم، فإذا ما حجبه السجن بعد ذلك عن العيون، فله في السيف والليث والبدر والرمح والنار عزاء أي عزاء وأي عيب على الرجل إذا كان كالليث الصائل، والنار المضطرمة، والسيف البتار!
هذا منطق عجيب، وأعجب منه أن يقنع الشاعر بوجاهته وسلامته فأخذ بتلابيبه ليقول:
قالوا حبست فقلت ليس بضائري ... حبسي وأي مهند لا يغمد
أو ما رأيت الليث يألف غيله ... كبرا وأوباش السباع تردد
والبدر يدركه الظلام فتنجلي ... أيامه وكأنها تتجدد
والنار في أحجارها مخبوءة ... لا تصطلي أن لم تثرها الأزند
والزاغبية لا يقيم كعوبها ... إلا الثقاف وجذوة تتوقد
فهل رأيتم ما فعل التشبيه؟ لقد كاد أن يجعل السجن أملا باسما بحلم به العيون في غفلات الرقاد، ولكنه لن يمحو الواقع الأليم، فالسجن حميم لا يطاق!
إن عاصماً الكاتب ليقرأ الأبيات ثم يقرنها بما يكابده في السجن من ويلات، فيرى أن كلام ابن الجهم يحتاج إلى تصحيح صريح، ولن يكون هذا إلا من شاعر قادر يدحض الحجة ويقيم الدليل؟ فمن يكون ذاك؟
لقد اعتمد ابن الجهم على التشبيه، فليأته عاصم منه، لينازله بسلاحه في حلبة البيان، وهنا يطهر الحق للعيان
وسيقف القارئ على المناحة الصاخبة التي تولول في أعماق عاصم حين يجده يصرخ في مطلع القصيدة بقوله:
قالوا حبست فقلت خطب أنكد ... أنحى علي به الزمان المرصد
لو كنت كالسيف المهند لم يكن ... وقت الكريهة والشدائد يغمد
لو كنت كالليث الهصور لما رعت ... في الذئاب وجذوتي تتوقد
تمضي الليالي لا أذوق لرقدة ... طعما وكيف يذوق من لا يرقد
في طبق، فيه النهار مشاكل ... لليل والظلمات فيه سرمد
فإلى متى هذا الشقاء مؤكد ... وإلى متى هذا البلاء مجدد
ولك أن تقرأ هذه الأبيات مرة ثانية، فستجدها تخاطب الشعور وتتجه إلى الإحساس، فتلتاع لها العاطفة، وسر ذلك ما تزخر به من الصدق والإخلاص
لقد كان الخيال الذي حلق به أبن الجهم ضعيف المنة، قصير الجناح، فالسير الحبيس ليس كالسيف أو الليث في شيء، وإلا فكيف يغمد السيف لدى الكريهة النائبة، وما خلق إلا ليمزق الأشلاء، ويسفح الدماء؟ وكيف يغضي الليث عما ينوشه من الثعالب والذئاب، وهي التي ترهب سلطانه الجبار؟ هذا ما فطن إليه عاصم، فاندفع ينقض أبيات صاحبه، ومعه الحق في دعواه ولكن لم يستطرد الشاعر فينقض التشبه بالبدر والنار، كما نقض التشبه بالسيف والليث؟ وذلك حتم أكيد عليه، لأن الشاعر الناقض فير الشاعر المعارض، فإذا قنعنا من المعارض بالتصوير الكلي، فلن نري من الناقض بغير الاستقصاء والثبات، ومثل من يعارض في شعر نقوله كمن يبني قصرا جوار قصرك، فهو لا يتقيد بأسلوبك ونظامك في البناء، وما عليه إلا أن يحدث بناء تشرأب أليه الأعناق، أما الشاعر الناقض فلا يبني بيتا جوار بيت، ولكنه يهجم في صرح مشيد، فعليه ألا يترك بعض المقاصر شاخصة للأبصار!
وقد صور عاصم ظلام السجن أو تشابه ليله بنهاره، وتأفف من غياهبه السرمدية، وشقائه المؤكد، وهو كلام لن تجد نظيره عند صاحبه، لأن الأول ثائر ناقم يذيع الفضائح والهنات، والثاني قانع راض يلتمس المحامد في كل مجال
ثم ماذا بعد ذاك؟
لقد لجأ ابن الجهم إلى الأسلوب الخطابي في تدليله، ولا عليه، فهو شاعر يستحث العاطفة ويخاطب الشعور، وقد وجد السجين يلزم حبسه كما يلزم الكريم بيته، ويزوره الناس في غياهبه دون أن يزور أحدا في رحابه، شأن العظماء المترفعين، فلم لا تحمد السجون على هذا التكريم العجيب!! ذلك رأي يعلنه ابن الجهم إذ يقول:
والحبس ما لم تغشه لدنية ... شنعاء، نعم المنزل المتردد
بيت يجدد للكريم كرامة ... ويزار فيه ولا يزور، ويحمد
وهذا كلام مردود لا يقره عاصم، وقد شهد في محبسه كل مذلة وهوان، ومتى استراح السجين لزواره، وهم ما بين شامت يبدي التوجع، ويضمر السرور، وصديق يذري الدموع، ويرسل الزفرات، وهذا كذاك، يوقد الشجى في الضلوع، بزورته! وقد عرف عاصم ذلك فاندفع يقول:
ما الحبس إلا بيت كل مهانة ... ومذلة ومكاره لا تنفد
إن زارني فيه العدو فشامت ... يبدي التوجع تارة ويفند
أو زارني فيه المحب فموجع ... يذري الدموع بزفرة تتردد
وواضح أن ابن الجهم يعترف بهذه الأبيات في أطواء نفسه، ولكنه يلفق الأدلة الوهمية كبتا للشامتين، ونحن نرفع شاعريته حين نعلم أنه يتصيد المحامد للقفر الموحش، وذلك مسلك وعر تتعثر فيه القرائح الجياد، أما صاحبه فيعف ما يرى في القفر الجديب من قسوة وجفاف، فهو يسير مع التيار، ولا يقف في وجهه متحديا العقبات والصعاب!
وقد تعجب لعلي حين ينسى موقفه الدفاعي، وتطغي عاطفته على عقله، فيرجو الفرج القريب، ويأمل الرخاء بعد الشدة:
فلكل حال معقب ولربما ... أجلى لك المكروه عما تحمد
قد تعجب لذلك منه وتأباه، إذ أن المستريح في محبسه لا يحب أن يفوه بما يشير إلى الضجر والسخط، ولكن الحق ظافر غالب، وقد عجز الشاعر أن يتنكر لعواطفه إلى آخر الشوط، فعمد إلى إرضائها والترويح عنها، وهو بذلك يلتقي مع صاحبه عاصم في مأساة واحدة، وخطب مشترك، فلا مجال للمناقضة بعد ذلك، وقد ذهبا معا يتوسلان ويعتذران، عسى أن يصيبهما حظ من الصفح والغفران
ولقد كان ابن الجهم بليغا في اعتذاره، متفوقا على صاحبه، فهو يدعو إلى النصفة والسداد، ويود لو اجتمع في مجلس واحد مع خصومه أمام الخليفة ليدحض الحق الباطل، إذ ليس من العدالة أن يتحكم الشاهد في الغائب فيوفر عليه الصدور، وينهشه ما استطاع، اسمعه يقول:
أبلغ أمير المؤمنين ودونه ... خوف العدا ومهامه لا تنفد
إن الذين رموا إليك بباطل ... أعداء نعمتك التي لا تجحد
شهدوا، وغبنا عنهمو فتحكموا ... فينا، وليس كغائب من يشهد
لو يجمع الخصماء عندك مجلس ... نوما، لبان لك الطريق الأرشد
والشمس لولا أنها محجوبة ... عن ناظريك لما أضاء الفرقد
والبيت الأخير ممتاز رائع، وهو فوق إقناعه السديد يدل على ما يعتقده الشاعر في نفسه من سمو وسموق، ونحن نستطرف قوله:
شهدوا، وغبنا عنهمو فتحكموا ... فينا، وليس كغائب من يشهد
إذ ينبئ عن الظلم الفادح الذي لحق الشاعر بابتعاده عن مقارعة الوشاة، وقد ذيل البيت بحكمة صادقة تضمن له البقاء
أما عاصم فقد نهج نهجه في الزلفى، وراح يتحدث لسيده معتذرا معاتبا، ويحوم إلى أفكار صاحبه إذ يقول عن وليه
فذبت حشاشة مهجتي بنوافل ... من سيبه وصنائع لا تجحد
عشرون حولا عشت تحت جناحه ... عيش الملوك وحاجتي تتزيد
فخلا العدو بموضعي في قلبه ... فحشاه جمرا ناره تتوقد
فاغفر لعبدك ذنبه متطاولا ... فالحقد منك سجية لا تعهد
وهذه أبيات لا تقرن بالأبيات الأولى فهي خالية من القوة والتأثير، وإن رافقتها في بعض المعاني فضلا عن الغرض العام. ولست أستطيب كلمة الحقد في البيت الأخير، فهي أبعد ما يكون عن المقام، إذ لا يليق أن يوصف بها إنسان يعتذر إليه ويتزلف عنده، هذا إلى القوافي المستكرهة التي ألصقت إلصاقا بالأبيات!
ولن نختم الحديث عن المقطوعتين قبل أن نجمل الموازنة بينهما في أسطر محدودة. فنقرر أن أسلوبهما سلس رقيق، وأن عليا رغم وعورة مسلكه، وتحديه لشعوره وعواطفه، قد هدى عاصما إلى ما نظمه من المعاني، وفتح عليه بما لم يكن يخطر له على بال، كما ارتفع عنه حين سارا معا في الاعتذار والعتاب فجاء بما لم يتطاول إليه عاصم، وإن كنا نأخذ على الشاعرين معا ضيق الأفق، وعصر النفس، وسذاجة التفكير، رغم اتساع المجال، وفي ذلك بلاغ
محمد رجب البيومي
16 - 07 - 1951
الرسالة 941