منذ عهد قريب كنت أقرأ ذلك الكتيب الصغير الذي كتبه جلبرت موري عن بطل الدرامة اليونانية الأشهر يوريبيدز فلفتت نظري عبارة عجيبة للمؤلف نسب فيها انصراف اليونانيين عن شاعرهم العظيم الخالد وقلة احتفالهم بفنه المسرحي من وجهتيه الشكلية والموضوعية إلى جملة أسباب كان أهمها (وضوحه)، ووصوله بسرعة إلى إفهام النظارة!. . . ثم تكلم موري بهذه المناسبة عن الأمة الإنجليزية، فذكر أن الإنجليز مثل اليونانيين القدماء، يكرهون أن يكون الشاعر واضحاً، ويؤثرون أن يكون في الشعر بعض الغموض، أو كثير من الغموض، الذي يستثير العقل ويحفزه إن كان خادماً، ولا بأس أن يعنيه، بل أن يضيفه أحياناً، أما الشعر العادي - يقصد الواضح السهل الذي لا يجشم القارئ نصباً - فهو أسخف ألوان الشعر في نظر هذه الأمة العجيبة التي أمدت العالم بخير شعرائه المحدثين. . . وافتخر المؤلف بأن الإنجليز قراء مهرة، وانهم سريعو الإدراك. أو: - كما يعبر هو، فالشاعر الذي يكفيهم مؤنة التفكير في شعره بجعله واضحاً، أو بإسرافه في جعله واضحاً هو أسخف الشعراء في نظرهم، لأن شعره هذا السهل المشرق الصافي ينيم أذهانهم ولا يكدها. . . وهم يكرهون ألا تكد أذهانهم بما يقرءون. . . ثم يتظرف موري فيقرر أنه ما على الشاعر إلا أن يغمض في شعره بعض الغموض، أو كل الغموض، ليخدع هؤلاء الإنجليز عن أنفسهم - وربما عن نفسه! - وليفوز بينهم بالمكانة العليا، ومنزلة الشاعر العبقري!
أما عندنا، فنحن نضيق بالشاعر الغامض ونلعنه. . . ويظهر أن في طبيعة أمزجة الشعوب العربية ما يحبب إليها اليسر والمرح، ويزهدها في العناء في التفكير. . . وذلك لأن طبيعة البيئة في أوطان تلك الشعوب سهلة غير معقدة، شأنها في اليونان وفي إنجلترا، حيث اختلاف المناظر وكثرتها وتعقيدها أحياناً يورث اليونانيين والإنجليز مزاجاً أعمق وتفكيراً أهدأ، وأشد غوراً، فلا يضيقون بالغموض في شعر شعرائهم، بل يغرمون به، في حين يضيقون بالشعر السهل الواضح الذي لا مجال فيه لإعمال الفكر، ويعدونه شعراً سخيفاً قليل الخطر منخفض الدرجة.
ولست أعلل ثورة دعبل وابن الأعرابي والآمدي ومن إليهم ممن قدحوا في شعر أبي تمام وعابوه بالغموض، والبعد عن عمود الشعر العربي إلا بطبيعة هذا المزاج المشرق المرح، الذي يستمد كيانه من طبيعة بيئة الشعوب العربية. . . ويتجلى ذلك المزاج في تحمس الآمدي للبحتري، في كتابه (الموازنة بين أبي تمام والبحتري)، وتفضيله شعر البحتري لسهولته ووضوحه وإشراقه، والتواء شعر أبي تمام وتعقده وغموضه، وثورته على طبيعة الفهم العربي الوادع المرح الذي يبغض الالتواء والتعقيد والغموض. وقد رزق الله أبا تمام كثيرين من النقاد العرب الذين هبوا ينافحون عنه ويدافعون عن طريقته، وفي مقدمتهم، أو على رأسهم، أبو بكر محمد بن يحيي الصولي، صاحب كتاب (أخبار أبي تمام) الذي برهن بدفاعه المجيد عن شاعرنا الخالد على أن فينا أمزجة تشبه هذه الأمزجة اليونانية والإنجليزية المولعة بالغموض في الشعر، التي تؤثر الالتواء والتعقيد فالحمد لله، وشكراً لأبي بكر الصولي!
وأكثر المؤرخين على أن أبا تمام ولد في جاسم إحدى قرى دمشق، وأقلهم - وفيهم صاحب الأغاني - على أنه ولد في إحدى قرى منبج.
وأكثر المؤرخين على أنه عربي من قبيلة طيء، وأكثر هو من الفخر بذلك في شعره. . ثم أقلهم على أنه ليس من طيء في الذيل ولا الذؤابة، بل أنه ابن رجل يوناني نصراني أسلم، وكان يدعى (تدوس) أو تيودوس فعدل به أبو تمام إلى أوس، فصار يدعى أبا تمام حبيب بن أوس الطائي، فراراً عن هذه اليونانية التي كانت تكون له شرفاً لو أنها صحيحة، لا عاراً كما أراد أعداؤه أن ينالوا منه، ويقدحوا في نسبه، لأن ذلك يزكي مذهبه في الشعر ويجعل له أصولا وراثية من دماء هؤلاء اليونانيين الذين غضوا من شعر يوريبيدز في عصره لسهولته ووضوحه ويسره
وسافر أبو تمام إلى مصر بعد أن أيفع بالشام، وكان أبوه خماراً، وكان هو حائكا، كما جاء في تاريخه المضطرب. . . وأكبر الظن أنه لذلك لم ينتفع في الشام بعلم ولا أدب، وأن السنوات الخمس التي عاشها في مصر كانت فترة التعليم الجامعي الذي انتفع به أبو تمام، وشدا منه تلك الذخيرة من دروس الجامع الكبير، أو مسجد عمرو بالفسطاط مستعيناً عليها بسقاية الماء. . . ثم شد رحله إلى المشرق بعد أن تمكن من نظم الشعر في مصر تمكناً جعله سيد شعراء عصره عشرين عاماً كاملة بإجماع النقاد. فإذا عرفنا أن أبا تمام لم يتجاوز الأربعين، أو تجاوزها قليلاً ثم مات. . . عرفنا أنه ثقف الشعر في مصر. وحصل جميع علومه في مصر. وأن مصر قد صنعت الجزء الأكبر من أدب أبي تمام وعلمه وشعره. وأنه حينما سافر إلى العراق سافر إليه وقد نضج عقله وقلبه بكل ما كانا يفيضان به من علم وشعر. فإن يكن قد انتفع في بغداد والبصرة والكوفة بعلم أو أدب. فليس يعدو ذلك اطلاع الأديب الذي اشتد عوده والذي لا غنى لثقافته عن مواصلة القراءة. . . والمقارنة بين مدارس الفكر المختلفة. يتقلب من اجلها بين البلاد:
خليفة الخِضْر من يربعْ على وطن ... في بلدة، فظهور العِيس أوطاني
بالشام أهلي. وبغداد الهوى. وأنا ... بالرقمتين. وبالفسطاط إخواني
وما أظن النوى ترضى بما صنعت ... حتى تُشافِه بي أقصى خراسان
خلّفت بالأفق الغربي لي سكنا ... قد كان عيشي به حُلواً بحلوان
فإخوان أبي تمام الذين تركهم وراءه في مصر هم أخدان الصبا وأصدقاء الشباب وشركاؤه في أيام الدرس والتحصيل. . . وطالما تذكرهم أبو تمام بعد ذلك، وسجل ذكره لهم في شعره:
ذو الود مني وذو القربى بمنزلةٍ ... واخوتي أسوة عندي وإخواني
في دهري الأول المذموم أعرفهم ... فالآن أنكرهم في دهريَ الثاني؟
عصابة جاوزت آدابهم أدبي ... فهم وإن فُرّقوا في الأرض جيراني؟
أرواحنا من مكان واحد وغدت ... أبداننا بشام أو خراسان
ورُبّ نائي المغاني روحه أبدا ... لَصُيق روحي ودانٍ ليس بالداني
ولله ما أسعد تلك العصابة من الأصدقاء الأوداء الذين تتجاوز آدابهم، وتتنافس ثقافاتهم، وتسفر بينهم قصائد الشعر ورسائل الأدب. . . وقد ثبت أن أبا تمام قد نظم كثيراً من غرر شعره وهو في مصر، وأنه عندما ذهب إلى العراق وأخذ في إنشاد أشعاره، وقف الناس منها موقف المشدوه الذي يرى فيها شيئاً جديداً لم تتعوده أذنه، ولم يعرفه فيما عرف من أشعار العرب فكان الذي يستطيع فهمها يستحسنها، ويشهد لها بالجدة والجمال، أما الذين كانت تستعصي عليهم، وتضيق بها أخيلتهم، فكانوا يشتدون في إنكارها كما يشتدون في خصومة نظمها، وإن كان بعض الطاعنين على أبي تمام لا يملك أحياناً إلا أن يصفق له. . . وقد كان أبو بكر الصولي لبقاً في سوق أمثلة ذلك. ولهذا فنحن نرى أن أبا تمام قد ذهب إلى العراق حينما ذهب إليه، بفن جديد أنشأه في مصر، وضع فيها أصوله، وقعد قواعده، ووشاه بذوقه المتفرد المفتن الجبار. . . وحسبنا أن نقرأ قصائده الأولى التي أنشدها في العراق لنعلم كيف فجأ الناس بها وبما تضمنته من غرائب هذا الفن الجديد العجيب. . . وليس يصح في الأذهان أن أبا تمام ابتدع ذلك كله بالعراق فجأة، لأن قصائده الأولى هذه تشبه قصائده الأخيرة في كل مشخصاتها ومقوماتها، وربما كان بعض المتقدم منها أجود من بعض المتأخر
ولعل القارئ يسأل: ما بالنا نبدأ في ذلك ونعيد، وماذا نبتغي ما إثبات فضل مصر على أبي تمام؟ والجواب على هذا لا يخلو من أن نشغب على أستاذنا الدكتور طه حسين الذي أنكر هذا الفضل على مصر، وجعل العراق وحده هو الوطن العقلي لأبي تمام، وذلك في محاضرته التي ألقاها عن أبي تمام وضمنها كتابه الفريد المفيد (من أحاديث الشعر والنثر) ونعود فنقول إن السنين العشرين التي تفرد فيها أبو تمام بجوائز الملوك والأمراء، والتي كان فيها جميعاً فارس حلبة الشعر، قد بدأت حينما بدأ أبو تمام حياته في العراق، وهو إذ ذاك في حدود العشرين من عمره أو فيما يقاربها، فأين إذاً نما غراسه الأول إن لم يكن قد نما واشتد وآتى أكله في مصر؟
ونحن لا ننكر أن أساتذة أبي العلاء في الشعر العربي لم يكونوا من المصريين، لأن أحدهما هو أبو نؤاس، والثاني هو مسلم ابن الوليد، وكان أبو تمام يعجب بهما ويسطو على آثارهما، ينتهب منها ما يشاء. فيغمض فيه، ويزيد عليه، ثم يغرب ويغلو في الأغراب، حتى تكون البضاعة له خاصة آخر الأمر: وفي ذلك يقول الصولي في رسالته إلى مزاحم بن فاتك:
(وليس أحد من الشعراء - أعزك الله - يعمل المعاني ويخترعها ويتكئ على نفسه فيها أكثر من أبي تمام؛ ومتى أخذ معنى زاد عليه، ووشحه ببديعه، وتمم معناه، فكان أحق به. . .)
وسئل دعبل - أشد خصوم أبي تمام - عن شعره فقال: ثلث شعره سرقة، وثلثه غث، وثلثه صالح
وأنشد ابن الأعرابي شعراً لأبي تمام فقال: إن كان هذا شعراً فما قالته العرب باطل!
ولأبي العنبس، ولابن مهرويه، كلمات في أبي تمام من هذا القبيل، ولم يكن أحد ينتصف لأبي تمام بمثل ما انتصف له الصولي
فكيف يكون العراق وطن أبي تمام العقلي، وقد كان مذهبه في الشعر غريباً على العراق إلى هذا الحد؟
(يتبع)
دريني خشبة
مجلة الرسالة - العدد 590
بتاريخ: 23 - 10 - 1944
أما عندنا، فنحن نضيق بالشاعر الغامض ونلعنه. . . ويظهر أن في طبيعة أمزجة الشعوب العربية ما يحبب إليها اليسر والمرح، ويزهدها في العناء في التفكير. . . وذلك لأن طبيعة البيئة في أوطان تلك الشعوب سهلة غير معقدة، شأنها في اليونان وفي إنجلترا، حيث اختلاف المناظر وكثرتها وتعقيدها أحياناً يورث اليونانيين والإنجليز مزاجاً أعمق وتفكيراً أهدأ، وأشد غوراً، فلا يضيقون بالغموض في شعر شعرائهم، بل يغرمون به، في حين يضيقون بالشعر السهل الواضح الذي لا مجال فيه لإعمال الفكر، ويعدونه شعراً سخيفاً قليل الخطر منخفض الدرجة.
ولست أعلل ثورة دعبل وابن الأعرابي والآمدي ومن إليهم ممن قدحوا في شعر أبي تمام وعابوه بالغموض، والبعد عن عمود الشعر العربي إلا بطبيعة هذا المزاج المشرق المرح، الذي يستمد كيانه من طبيعة بيئة الشعوب العربية. . . ويتجلى ذلك المزاج في تحمس الآمدي للبحتري، في كتابه (الموازنة بين أبي تمام والبحتري)، وتفضيله شعر البحتري لسهولته ووضوحه وإشراقه، والتواء شعر أبي تمام وتعقده وغموضه، وثورته على طبيعة الفهم العربي الوادع المرح الذي يبغض الالتواء والتعقيد والغموض. وقد رزق الله أبا تمام كثيرين من النقاد العرب الذين هبوا ينافحون عنه ويدافعون عن طريقته، وفي مقدمتهم، أو على رأسهم، أبو بكر محمد بن يحيي الصولي، صاحب كتاب (أخبار أبي تمام) الذي برهن بدفاعه المجيد عن شاعرنا الخالد على أن فينا أمزجة تشبه هذه الأمزجة اليونانية والإنجليزية المولعة بالغموض في الشعر، التي تؤثر الالتواء والتعقيد فالحمد لله، وشكراً لأبي بكر الصولي!
وأكثر المؤرخين على أن أبا تمام ولد في جاسم إحدى قرى دمشق، وأقلهم - وفيهم صاحب الأغاني - على أنه ولد في إحدى قرى منبج.
وأكثر المؤرخين على أنه عربي من قبيلة طيء، وأكثر هو من الفخر بذلك في شعره. . ثم أقلهم على أنه ليس من طيء في الذيل ولا الذؤابة، بل أنه ابن رجل يوناني نصراني أسلم، وكان يدعى (تدوس) أو تيودوس فعدل به أبو تمام إلى أوس، فصار يدعى أبا تمام حبيب بن أوس الطائي، فراراً عن هذه اليونانية التي كانت تكون له شرفاً لو أنها صحيحة، لا عاراً كما أراد أعداؤه أن ينالوا منه، ويقدحوا في نسبه، لأن ذلك يزكي مذهبه في الشعر ويجعل له أصولا وراثية من دماء هؤلاء اليونانيين الذين غضوا من شعر يوريبيدز في عصره لسهولته ووضوحه ويسره
وسافر أبو تمام إلى مصر بعد أن أيفع بالشام، وكان أبوه خماراً، وكان هو حائكا، كما جاء في تاريخه المضطرب. . . وأكبر الظن أنه لذلك لم ينتفع في الشام بعلم ولا أدب، وأن السنوات الخمس التي عاشها في مصر كانت فترة التعليم الجامعي الذي انتفع به أبو تمام، وشدا منه تلك الذخيرة من دروس الجامع الكبير، أو مسجد عمرو بالفسطاط مستعيناً عليها بسقاية الماء. . . ثم شد رحله إلى المشرق بعد أن تمكن من نظم الشعر في مصر تمكناً جعله سيد شعراء عصره عشرين عاماً كاملة بإجماع النقاد. فإذا عرفنا أن أبا تمام لم يتجاوز الأربعين، أو تجاوزها قليلاً ثم مات. . . عرفنا أنه ثقف الشعر في مصر. وحصل جميع علومه في مصر. وأن مصر قد صنعت الجزء الأكبر من أدب أبي تمام وعلمه وشعره. وأنه حينما سافر إلى العراق سافر إليه وقد نضج عقله وقلبه بكل ما كانا يفيضان به من علم وشعر. فإن يكن قد انتفع في بغداد والبصرة والكوفة بعلم أو أدب. فليس يعدو ذلك اطلاع الأديب الذي اشتد عوده والذي لا غنى لثقافته عن مواصلة القراءة. . . والمقارنة بين مدارس الفكر المختلفة. يتقلب من اجلها بين البلاد:
خليفة الخِضْر من يربعْ على وطن ... في بلدة، فظهور العِيس أوطاني
بالشام أهلي. وبغداد الهوى. وأنا ... بالرقمتين. وبالفسطاط إخواني
وما أظن النوى ترضى بما صنعت ... حتى تُشافِه بي أقصى خراسان
خلّفت بالأفق الغربي لي سكنا ... قد كان عيشي به حُلواً بحلوان
فإخوان أبي تمام الذين تركهم وراءه في مصر هم أخدان الصبا وأصدقاء الشباب وشركاؤه في أيام الدرس والتحصيل. . . وطالما تذكرهم أبو تمام بعد ذلك، وسجل ذكره لهم في شعره:
ذو الود مني وذو القربى بمنزلةٍ ... واخوتي أسوة عندي وإخواني
في دهري الأول المذموم أعرفهم ... فالآن أنكرهم في دهريَ الثاني؟
عصابة جاوزت آدابهم أدبي ... فهم وإن فُرّقوا في الأرض جيراني؟
أرواحنا من مكان واحد وغدت ... أبداننا بشام أو خراسان
ورُبّ نائي المغاني روحه أبدا ... لَصُيق روحي ودانٍ ليس بالداني
ولله ما أسعد تلك العصابة من الأصدقاء الأوداء الذين تتجاوز آدابهم، وتتنافس ثقافاتهم، وتسفر بينهم قصائد الشعر ورسائل الأدب. . . وقد ثبت أن أبا تمام قد نظم كثيراً من غرر شعره وهو في مصر، وأنه عندما ذهب إلى العراق وأخذ في إنشاد أشعاره، وقف الناس منها موقف المشدوه الذي يرى فيها شيئاً جديداً لم تتعوده أذنه، ولم يعرفه فيما عرف من أشعار العرب فكان الذي يستطيع فهمها يستحسنها، ويشهد لها بالجدة والجمال، أما الذين كانت تستعصي عليهم، وتضيق بها أخيلتهم، فكانوا يشتدون في إنكارها كما يشتدون في خصومة نظمها، وإن كان بعض الطاعنين على أبي تمام لا يملك أحياناً إلا أن يصفق له. . . وقد كان أبو بكر الصولي لبقاً في سوق أمثلة ذلك. ولهذا فنحن نرى أن أبا تمام قد ذهب إلى العراق حينما ذهب إليه، بفن جديد أنشأه في مصر، وضع فيها أصوله، وقعد قواعده، ووشاه بذوقه المتفرد المفتن الجبار. . . وحسبنا أن نقرأ قصائده الأولى التي أنشدها في العراق لنعلم كيف فجأ الناس بها وبما تضمنته من غرائب هذا الفن الجديد العجيب. . . وليس يصح في الأذهان أن أبا تمام ابتدع ذلك كله بالعراق فجأة، لأن قصائده الأولى هذه تشبه قصائده الأخيرة في كل مشخصاتها ومقوماتها، وربما كان بعض المتقدم منها أجود من بعض المتأخر
ولعل القارئ يسأل: ما بالنا نبدأ في ذلك ونعيد، وماذا نبتغي ما إثبات فضل مصر على أبي تمام؟ والجواب على هذا لا يخلو من أن نشغب على أستاذنا الدكتور طه حسين الذي أنكر هذا الفضل على مصر، وجعل العراق وحده هو الوطن العقلي لأبي تمام، وذلك في محاضرته التي ألقاها عن أبي تمام وضمنها كتابه الفريد المفيد (من أحاديث الشعر والنثر) ونعود فنقول إن السنين العشرين التي تفرد فيها أبو تمام بجوائز الملوك والأمراء، والتي كان فيها جميعاً فارس حلبة الشعر، قد بدأت حينما بدأ أبو تمام حياته في العراق، وهو إذ ذاك في حدود العشرين من عمره أو فيما يقاربها، فأين إذاً نما غراسه الأول إن لم يكن قد نما واشتد وآتى أكله في مصر؟
ونحن لا ننكر أن أساتذة أبي العلاء في الشعر العربي لم يكونوا من المصريين، لأن أحدهما هو أبو نؤاس، والثاني هو مسلم ابن الوليد، وكان أبو تمام يعجب بهما ويسطو على آثارهما، ينتهب منها ما يشاء. فيغمض فيه، ويزيد عليه، ثم يغرب ويغلو في الأغراب، حتى تكون البضاعة له خاصة آخر الأمر: وفي ذلك يقول الصولي في رسالته إلى مزاحم بن فاتك:
(وليس أحد من الشعراء - أعزك الله - يعمل المعاني ويخترعها ويتكئ على نفسه فيها أكثر من أبي تمام؛ ومتى أخذ معنى زاد عليه، ووشحه ببديعه، وتمم معناه، فكان أحق به. . .)
وسئل دعبل - أشد خصوم أبي تمام - عن شعره فقال: ثلث شعره سرقة، وثلثه غث، وثلثه صالح
وأنشد ابن الأعرابي شعراً لأبي تمام فقال: إن كان هذا شعراً فما قالته العرب باطل!
ولأبي العنبس، ولابن مهرويه، كلمات في أبي تمام من هذا القبيل، ولم يكن أحد ينتصف لأبي تمام بمثل ما انتصف له الصولي
فكيف يكون العراق وطن أبي تمام العقلي، وقد كان مذهبه في الشعر غريباً على العراق إلى هذا الحد؟
(يتبع)
دريني خشبة
مجلة الرسالة - العدد 590
بتاريخ: 23 - 10 - 1944