في أخبار أبي تمام لأبي بكر الصولي أن أعداء أبي تمام احتجوا فيما احتجوا به على سرقاته بما رواه أحمد بن أبي طاهر أبو الفضل الكاتب قال: دخلت على أبي تمام وهو يعمل شعراً، وبين يديه شعر أبي نؤاس ومسلم، فقلت: ما هذا؟ قال: اللات والعزى، وأنا أعبدهما من دون الله مذ ثلاثين سنة!
وقد دافع الصولي عن أبي تمام فقال: وهذا إن كان حقاً فهو قبيح الظاهر، رديء اللفظ والمعنى، لأنه كلام ماجن مشغوف بالشعر والمعنى انهما شغلاني عن عبادة الله عز وجل
ثم انطلق الصولي ينفي تهمة الكفر عن أبي تمام، وفاته أن المقصود بالرواية هو إكباب أبي تمام على شعر أبي نؤاس ومسلم ينتهب من معانيهما ما يشاء. وقد دافع الصولي عن أبي تمام دفاعاً مجيداً، إلا أنه ليس - في نظري على الأقل - أمجد من اتهام الآمدي له، واستقصائه سرقاته يرجعها واحدة فواحدة إلى أصحابها، هذا وإن اشتط الآمدي وأفرط في ذلك إفراطاً يبدو من ثناياه تجنيه على أبي تمام، وظلمه له أحياناً. . . والذي يعفي الآمدي من سخطنا هو إلمامه الواسع بأشعار العرب، ومقدرته المدهشة في رد السرقات إلى أصولها من أشعار قائليها، وأستاذيته التي تتجلى في إدارة حواره بين صاحب أبي تمام وصاحب البحتري، والفصول القيمة التي أظهر فيها سقطات أبي تمام في الموازين والنحو البيان والبديع، وما إلى ذلك كله من نواحي الضعف في شعره
والذي يدرس أبا تمام في هذين الكتابين الفريدين من كتب النقد العربي، يرى كيف أن الناس - على حد ما ذكره المسعودي في مروج الذهب كانوا فيه طرفي نقيض. . . متعصب له يعطيه أكثر من حقه، ومنحرف عنه معاند له. . أو كما قال أبو الفرح صاحب الأغاني: وفي عصرنا هذا من يتعصب لأبي تمام، فيفرط، حتى يفضله على كل سالف وخالف، وأقوام يتعمدون الرديء من شعره فينشرونه ويطوون محاسنه، ويستعملون القحة والمكابرة في ذلك؛ وعبارة أبي الفرج توحي بما كان يضمره لأبي تمام من إعجاب. وقد ذكرنا في كلمتنا ما كان يقوله دعبل في شعر أبي تمام، من أن ثلثه سرقة، وثلثه عث، وثلثه صالح. وقد روي الصولي بعد هذا الخبر عن دعبل أنه كان يقول: لم يكن أبو تمام شاعراً.
وإنما كان خطيباً، وشعره بالكلام أشبه منه بالشعر
وقد أشرنا إلى خصومة ابن الأعرابي، تلميذ المفضل الضبي والكسائي، لأبي تمام، وقد وعت بطون كتب النقد أعاجيب شتى من أنباء تلك الخصومة تعد من النوادر في أخبار الخصومات الأدبية: فمن ذلك ما ذكره الطوسي قال: وجه بي أبي إلى ابن الأعرابي لأقرأ عليه أشعاراً، وكنت معجباً بأبي تمام. فقرأت عليه من أشعار هذيل، ثم قرأت أرجوزة أبي تمام على أنها لبعض شعراء هذيل:
وعاذل عذلته في عذلهِ ... فظن أني جاهل من جهلهِ
حتى أتمتتها، فقال: اكتب لي هذه، فكتبتها له، ثم قلت: أحسنة هي؟ قال: ما سمعت بأحسن منها! قلت أنها لأبي تمام! فقال: خرق خرق! أي مزق، مزق!
ومع ذاك، فقد كان ابن الأعرابي، هذا الحجة الفاضل، يحفظ كثيراً من شعر خصمه أبي تمام، ويتمثل به، وهو لا يدري أنه له؟
وعلى هذا النحو كان الناس في عبقري الشعر العربي. وعلى هذا النحو، لا يزال الناس في أبي تمام!
والحق الذي لا يماري فيه إلا مكابر، أن أبا تمام كان نادرة زمانه في الشعر العربي، بل أنه لا يزال نادرة هذا الشعر حتى اليوم، فليس في شعراء العربية من استطاع أن يصور كما صور أبو تمام. وليس فيهم من استطاع تلوين صوره كما لونها هذا الشاعر المفتن المبدع، وذلك لا يعارض ما أثبته عليه خصومه من سطوه الكثير على معاني الشعراء، ذلك السطو الذي كان يفتن أبو تمام في إخفاء معالمه وستر مصادره بهذا البهرج الكثير من الصنعة البيانية، وتلك المركبات البديعية التي كانت تأتي زاهرة باهرة أحياناً، وملتوية معقدة لا تكاد تفهم أحياناً أُخرى: وما ظنك بهذا الالتواء الذي يشتد، حتى لا يفهمه عبد الله التوزي - أو التوجي، تلميذ أبي عبيدة والأصمعي، الذب قال فيه المبرد: ما رأيت أحداً أعلم بالشعر من أبي محمد التوزي، كان أعلم من الرياشي والمازني! فقد سئل هذا الرجل عن شعر أبي تمام فقال: فيه ما أستحسنه، وفيه ما لا أعرفه ولم أسمع بمثله، فإما أن يكون هذا الرجل أشعر الناس جميعاً، وأما أن يكون الناس جميعاً أشعر منه! (الصولي ص 245) والعجيب أن يعترف بذلك الصولي نفسه وهو (محامي) أبي تمام وقد ذكرنا كلمته التي أقر فيها بأنه: ليس أحد من الشعراء يعمل المعاني ويخترعها ويتكئ على نفسه فيها أكثر من أبي تمام وأنه متى أخذ المعنى زاد عليه، ووشحه ببديعه، وتمم معناه، فكان أحق به! وقد ذكر الآمدي أن أبا تمام كان يتعالم في شعره ويتفلسف (الموازنة ص 2 - 11) ويصف ممدوحيه بالرمز إلى عقائد بعض الفرق الإسلامية، فيزيد ذلك في غموض شعره ويضاعفه، ويتعسر فهمه على غير من يعرف تلك العقائد، ويلم بهذه الأسرار: فقوله من مدحة في أبي سعيد:
فلو صح قول الجعفرية في الذي ... تنص من الإلهام خلناك ملهما
لا يفهم حتى نعرف أن الجعفرية فرقة من الشيعة تنتسب إلى جعفر بن محمد ويدعون له الإلهام، كما يحدثنا بذلك التبريزي في شرحه لديوان أبي تمام، وكما نعرف ذلك من كتب الملل والنحل مثلاً، ثم قل مثل ذلك فيما يصادفك من أبياته التي تنبئ بإلمامه بالمذاهب والعلوم والفلك والنحو والمنطق مما كان يجيد الرمز به والإشارة إليه، متعمداً مرة، جارياً على سليقته أحياناً. وكله مما لا نرى أنه يدخل في باب الشعر، بل هو، كما ذكرنا في كلامنا عن ثقافة أبي العلاء تعالم من أبي تمام على أهل زمانه المتعالين. أما ثقافة أبي تمام الحقة، فتنحصر في سعة إلمامه بشعر من تقدمه من شعراء الجاهلية والمخضرمين والإسلاميين والأمويين والعباسيين، ودقة فهمه لمعانيهم، وحسن اطلاعه على مذاهبهم. وقد اشتغل فعلاً بالتصنيف الشعري، يؤيد ذلك ما ذكره البديعي في كتابه (هبة الأيام، فيما يتعلق بأبي تمام) من أن له (كتاب الحماسة) الذي دل على غزارة فضله وإتقان معرفته، وحسن اختياره، وكتاب فحول الشعراء جاهليين ومخضرمين وإسلاميين، وكتاب الاختيار من الشعراء. وكان له من المحفوظات ما لا يلحقه فيه غيره، حتى قيل أنه كان يحفظ أربعة عشر ألف أرجوزة للعرب غير المقاطيع والقصائد!). وذكر البديعي كذلك سبب تصنيف أبي تمام ديوان الحماسة، فقال (ص 138): (فانه لما وصل إلى همذان (في رحلته شرقاً)، وكان في زمن الشتاء، والبرد في تلك النواحي شديد، خارج عن حد الوصف، قطع عليه كثرة الثلج طريق مقصده، فأقام بهمذان ينتظر زوال الثلج، وكان نزوله عند رجل عنده خزانة كتب فيها دواوين العرب وغيرها، فتفرغ لها وطالعها واختار منها كتاب الحماسة)). وفي مؤلفات أبي تمام يقول الآمدي: (ص23): (كان أبو تمام مشتهراً بالشعر، مشغوفا به، مشغولا مدة عمره (بتخميره!) ودراسته، وله كتب اختيارات فيه مشهورة معروفة، فمنها الاختيار القبائلي الأكبر، اختيار فيه من كل قصيدة، وقد مر على يدي هذا الاختيار، ثم اختيار آخر لم يورد فيه كبير شيء للشعراء المشهورين، ثم اختيار ثالث تلقط فيه محاسن شعر الجاهلية والإسلام، واخذ من كل قصيدة شيئاً حتى انتهى إلى إبراهيم بن هرمة، وهو اختيار مشهور معروف باختيار شعراء الفحول، ومنها اختيار تلقط فيه أشعاراً من العشرة المقلين والشعراء المغمورين غير المشهورين، وبوبه أبوابا وصدره بما قيل في الشجاعة، وهو أشهر اختياراته وأكثرها في أيدي الناس، ويلقب بالحماسة، ومنها اختيار المقطعات، وهو مبوب على ترتيب الحماسة، إلا أنه يذكر فيه أشعار المشهورين وغيرهم من القدماء والمتأخرين، وصدره بذكر الغزل، وقد قرأت هذا الاختيار وتلقطت منه نتفاً وأبياتا كثيرة، وليس بمشهور شهرة غيره، ومنها اختيار مجرد في أِشعار المحدثين، وهو موجود في أيدي الناس. وهذه الاختيارات تدل على عنايته بالشعر وأنه اشتغل به، وجعله وكده، واقتصر من كل العلوم والآداب عليه، فانه ما شيء كبير من شعر جاهلي ولا إسلامي ولا محدث إلا قرأه واطلع عليه. . .)
وينتقل الآمدي من ذلك إلى قوله: (ولهذا أقول إن الذي خفي من سرقاته أكثر مما قام منها على كثرها، وأنا أذكر ما وقع إلي في كتب الناس من سرقاته، وما استنبطته أنا منها واستخرجته، فإن ظهرت بعد ذلك منها على شيء ألحقته بها إن شاء الله)
ثم يأخذ بعد ذلك في حصر سرقات أبي تمام وردها إلى مصادرها. فإلى أي حد وفق الآمدي في ذلك؟ سنرى
(يتبع)
دريني خشبة
مجلة الرسالة - العدد 592
بتاريخ: 06 - 11 - 1944
وقد دافع الصولي عن أبي تمام فقال: وهذا إن كان حقاً فهو قبيح الظاهر، رديء اللفظ والمعنى، لأنه كلام ماجن مشغوف بالشعر والمعنى انهما شغلاني عن عبادة الله عز وجل
ثم انطلق الصولي ينفي تهمة الكفر عن أبي تمام، وفاته أن المقصود بالرواية هو إكباب أبي تمام على شعر أبي نؤاس ومسلم ينتهب من معانيهما ما يشاء. وقد دافع الصولي عن أبي تمام دفاعاً مجيداً، إلا أنه ليس - في نظري على الأقل - أمجد من اتهام الآمدي له، واستقصائه سرقاته يرجعها واحدة فواحدة إلى أصحابها، هذا وإن اشتط الآمدي وأفرط في ذلك إفراطاً يبدو من ثناياه تجنيه على أبي تمام، وظلمه له أحياناً. . . والذي يعفي الآمدي من سخطنا هو إلمامه الواسع بأشعار العرب، ومقدرته المدهشة في رد السرقات إلى أصولها من أشعار قائليها، وأستاذيته التي تتجلى في إدارة حواره بين صاحب أبي تمام وصاحب البحتري، والفصول القيمة التي أظهر فيها سقطات أبي تمام في الموازين والنحو البيان والبديع، وما إلى ذلك كله من نواحي الضعف في شعره
والذي يدرس أبا تمام في هذين الكتابين الفريدين من كتب النقد العربي، يرى كيف أن الناس - على حد ما ذكره المسعودي في مروج الذهب كانوا فيه طرفي نقيض. . . متعصب له يعطيه أكثر من حقه، ومنحرف عنه معاند له. . أو كما قال أبو الفرح صاحب الأغاني: وفي عصرنا هذا من يتعصب لأبي تمام، فيفرط، حتى يفضله على كل سالف وخالف، وأقوام يتعمدون الرديء من شعره فينشرونه ويطوون محاسنه، ويستعملون القحة والمكابرة في ذلك؛ وعبارة أبي الفرج توحي بما كان يضمره لأبي تمام من إعجاب. وقد ذكرنا في كلمتنا ما كان يقوله دعبل في شعر أبي تمام، من أن ثلثه سرقة، وثلثه عث، وثلثه صالح. وقد روي الصولي بعد هذا الخبر عن دعبل أنه كان يقول: لم يكن أبو تمام شاعراً.
وإنما كان خطيباً، وشعره بالكلام أشبه منه بالشعر
وقد أشرنا إلى خصومة ابن الأعرابي، تلميذ المفضل الضبي والكسائي، لأبي تمام، وقد وعت بطون كتب النقد أعاجيب شتى من أنباء تلك الخصومة تعد من النوادر في أخبار الخصومات الأدبية: فمن ذلك ما ذكره الطوسي قال: وجه بي أبي إلى ابن الأعرابي لأقرأ عليه أشعاراً، وكنت معجباً بأبي تمام. فقرأت عليه من أشعار هذيل، ثم قرأت أرجوزة أبي تمام على أنها لبعض شعراء هذيل:
وعاذل عذلته في عذلهِ ... فظن أني جاهل من جهلهِ
حتى أتمتتها، فقال: اكتب لي هذه، فكتبتها له، ثم قلت: أحسنة هي؟ قال: ما سمعت بأحسن منها! قلت أنها لأبي تمام! فقال: خرق خرق! أي مزق، مزق!
ومع ذاك، فقد كان ابن الأعرابي، هذا الحجة الفاضل، يحفظ كثيراً من شعر خصمه أبي تمام، ويتمثل به، وهو لا يدري أنه له؟
وعلى هذا النحو كان الناس في عبقري الشعر العربي. وعلى هذا النحو، لا يزال الناس في أبي تمام!
والحق الذي لا يماري فيه إلا مكابر، أن أبا تمام كان نادرة زمانه في الشعر العربي، بل أنه لا يزال نادرة هذا الشعر حتى اليوم، فليس في شعراء العربية من استطاع أن يصور كما صور أبو تمام. وليس فيهم من استطاع تلوين صوره كما لونها هذا الشاعر المفتن المبدع، وذلك لا يعارض ما أثبته عليه خصومه من سطوه الكثير على معاني الشعراء، ذلك السطو الذي كان يفتن أبو تمام في إخفاء معالمه وستر مصادره بهذا البهرج الكثير من الصنعة البيانية، وتلك المركبات البديعية التي كانت تأتي زاهرة باهرة أحياناً، وملتوية معقدة لا تكاد تفهم أحياناً أُخرى: وما ظنك بهذا الالتواء الذي يشتد، حتى لا يفهمه عبد الله التوزي - أو التوجي، تلميذ أبي عبيدة والأصمعي، الذب قال فيه المبرد: ما رأيت أحداً أعلم بالشعر من أبي محمد التوزي، كان أعلم من الرياشي والمازني! فقد سئل هذا الرجل عن شعر أبي تمام فقال: فيه ما أستحسنه، وفيه ما لا أعرفه ولم أسمع بمثله، فإما أن يكون هذا الرجل أشعر الناس جميعاً، وأما أن يكون الناس جميعاً أشعر منه! (الصولي ص 245) والعجيب أن يعترف بذلك الصولي نفسه وهو (محامي) أبي تمام وقد ذكرنا كلمته التي أقر فيها بأنه: ليس أحد من الشعراء يعمل المعاني ويخترعها ويتكئ على نفسه فيها أكثر من أبي تمام وأنه متى أخذ المعنى زاد عليه، ووشحه ببديعه، وتمم معناه، فكان أحق به! وقد ذكر الآمدي أن أبا تمام كان يتعالم في شعره ويتفلسف (الموازنة ص 2 - 11) ويصف ممدوحيه بالرمز إلى عقائد بعض الفرق الإسلامية، فيزيد ذلك في غموض شعره ويضاعفه، ويتعسر فهمه على غير من يعرف تلك العقائد، ويلم بهذه الأسرار: فقوله من مدحة في أبي سعيد:
فلو صح قول الجعفرية في الذي ... تنص من الإلهام خلناك ملهما
لا يفهم حتى نعرف أن الجعفرية فرقة من الشيعة تنتسب إلى جعفر بن محمد ويدعون له الإلهام، كما يحدثنا بذلك التبريزي في شرحه لديوان أبي تمام، وكما نعرف ذلك من كتب الملل والنحل مثلاً، ثم قل مثل ذلك فيما يصادفك من أبياته التي تنبئ بإلمامه بالمذاهب والعلوم والفلك والنحو والمنطق مما كان يجيد الرمز به والإشارة إليه، متعمداً مرة، جارياً على سليقته أحياناً. وكله مما لا نرى أنه يدخل في باب الشعر، بل هو، كما ذكرنا في كلامنا عن ثقافة أبي العلاء تعالم من أبي تمام على أهل زمانه المتعالين. أما ثقافة أبي تمام الحقة، فتنحصر في سعة إلمامه بشعر من تقدمه من شعراء الجاهلية والمخضرمين والإسلاميين والأمويين والعباسيين، ودقة فهمه لمعانيهم، وحسن اطلاعه على مذاهبهم. وقد اشتغل فعلاً بالتصنيف الشعري، يؤيد ذلك ما ذكره البديعي في كتابه (هبة الأيام، فيما يتعلق بأبي تمام) من أن له (كتاب الحماسة) الذي دل على غزارة فضله وإتقان معرفته، وحسن اختياره، وكتاب فحول الشعراء جاهليين ومخضرمين وإسلاميين، وكتاب الاختيار من الشعراء. وكان له من المحفوظات ما لا يلحقه فيه غيره، حتى قيل أنه كان يحفظ أربعة عشر ألف أرجوزة للعرب غير المقاطيع والقصائد!). وذكر البديعي كذلك سبب تصنيف أبي تمام ديوان الحماسة، فقال (ص 138): (فانه لما وصل إلى همذان (في رحلته شرقاً)، وكان في زمن الشتاء، والبرد في تلك النواحي شديد، خارج عن حد الوصف، قطع عليه كثرة الثلج طريق مقصده، فأقام بهمذان ينتظر زوال الثلج، وكان نزوله عند رجل عنده خزانة كتب فيها دواوين العرب وغيرها، فتفرغ لها وطالعها واختار منها كتاب الحماسة)). وفي مؤلفات أبي تمام يقول الآمدي: (ص23): (كان أبو تمام مشتهراً بالشعر، مشغوفا به، مشغولا مدة عمره (بتخميره!) ودراسته، وله كتب اختيارات فيه مشهورة معروفة، فمنها الاختيار القبائلي الأكبر، اختيار فيه من كل قصيدة، وقد مر على يدي هذا الاختيار، ثم اختيار آخر لم يورد فيه كبير شيء للشعراء المشهورين، ثم اختيار ثالث تلقط فيه محاسن شعر الجاهلية والإسلام، واخذ من كل قصيدة شيئاً حتى انتهى إلى إبراهيم بن هرمة، وهو اختيار مشهور معروف باختيار شعراء الفحول، ومنها اختيار تلقط فيه أشعاراً من العشرة المقلين والشعراء المغمورين غير المشهورين، وبوبه أبوابا وصدره بما قيل في الشجاعة، وهو أشهر اختياراته وأكثرها في أيدي الناس، ويلقب بالحماسة، ومنها اختيار المقطعات، وهو مبوب على ترتيب الحماسة، إلا أنه يذكر فيه أشعار المشهورين وغيرهم من القدماء والمتأخرين، وصدره بذكر الغزل، وقد قرأت هذا الاختيار وتلقطت منه نتفاً وأبياتا كثيرة، وليس بمشهور شهرة غيره، ومنها اختيار مجرد في أِشعار المحدثين، وهو موجود في أيدي الناس. وهذه الاختيارات تدل على عنايته بالشعر وأنه اشتغل به، وجعله وكده، واقتصر من كل العلوم والآداب عليه، فانه ما شيء كبير من شعر جاهلي ولا إسلامي ولا محدث إلا قرأه واطلع عليه. . .)
وينتقل الآمدي من ذلك إلى قوله: (ولهذا أقول إن الذي خفي من سرقاته أكثر مما قام منها على كثرها، وأنا أذكر ما وقع إلي في كتب الناس من سرقاته، وما استنبطته أنا منها واستخرجته، فإن ظهرت بعد ذلك منها على شيء ألحقته بها إن شاء الله)
ثم يأخذ بعد ذلك في حصر سرقات أبي تمام وردها إلى مصادرها. فإلى أي حد وفق الآمدي في ذلك؟ سنرى
(يتبع)
دريني خشبة
مجلة الرسالة - العدد 592
بتاريخ: 06 - 11 - 1944