عبدالرزاق المصباحي - تمثيل الأسود في رواية "دفنا الماضي".. التابع متكلما

■ تروم هذه القراءة استكناه مظاهر تمثيل الأسود في رواية مغربية رائدة ومؤسسة هي «دفنا الماضي» الطبعة الأولى 1968. وهو مدخل نروم من خلاله تقديم مقترب جديد، لم تنتبه إليه كثير من الدراسات التي أنجزت حول هذا العمل، تزامنا مع قرب حلول الذكرى الأولى لوفاة صاحبها الروائي والصحافي عبدالكريم غلاب (توفي في 14أغسطس/آب 2017). والتمثيل، هنا، بمعنى تصوير الأسود وتأطيره ضمن قوالب نمطية جاهزة، ترضي النسق الثقافي المهيمن والمؤسسات المسيطرة. إن التمثيل الثقافي يعني تصوير الذات والآخر على نحو قد لا يوافق الواقع العيني. ولعل الدراسات الثقافية، خاصة ما بعد الكولونيالية، أكثر التوجهات النقدية التي اهتمت بمفهوم «التمثيل الثقافي»، أي الصور النمطية التي رمى المستعمر بها الشعوب التي استعمرها تعلةً للهيمنة عليها واستنزاف خيراتها، فالتمثيل الثقافي هو وسيلة المستعمر الثقافية لصناعة التجبر المقبول، كما هو بالنسبة إلى فرنسا في علاقتها بالدول الإفريقية التي استعمرتها، أو أمريكا في علاقتها بالسود الذين استعبدتهم. وقد اهتمت الدراسات ما بعد الكولونيالية بالأعمال الإبداعية، الروائية خاصة، التي حاولت الرد على الصور النمطية/ التمثيلات الثقافية التي كرسها المستعمر، بغية تصحيح الصورة، والعدول عنها نحو الحقيقة القائمة. وإن دراسات إدوارد سعيد تعد من أهم الأعمال الفكرية التي جابهت التجبر الكولونيالي، عبر تفكيك بنية الاستشراق وآلياته في صناعة الصور السالبة عن الشرق، «فتمثيل امرئ أو شيء ما بات اليوم محاولة لا تقل تعقيدا وإشكالية عن تشخيص العوارض المرضية، فانطوى على عواقب الوثوق والجزم، وما يكتنفهما من صعوبات واسعة». وما يسم التمثيل، هنا، أنه يصير معادلا لمفهوم الحقيقة، غير مشوب بالشك. وقد أكدت غياتري سبيفاك، وهي باحثة هندية ومن مؤسسات «دراسات التابع»، على أهمية الاعتناء بالتابع عبر تمثيله، والدفاع عنه «فواجب مفكري ما بعد الاستعمار هو تمثيل التابع لأنه لا يستطيع الدفاع عن نفسه، على عكس فوكو الذي يقول إن الأفراد المقهورين يمكنهم الحديث عن أنفسهم»، إننا نستسعف في هذه القراءة هذه الدعوة التي قدمتها سبيفاك عبر محاولة تمثيل التابع الأسود في رواية مغربية مؤسسة، لطالما خضعت للتحليل البنيوي أو الأيديولوجي، محاولين الانتباه إلى العلاقات الثقافية النصية التي تتصارع من خلالها المؤسسة الكولونيالية والمؤسسة الإقطاعية مع تابعين أفراد عزل.
ونفترض أن صورة «الأسود» في رواية «دفنا الماضي» لم تخرج عن الصور النمطية السائدة التي تجعله في منزلة دنيا من طبقات المجتمع، بما يجعل تحقيره والحد من حريته واستغلال النساء السوداوات جنسيا أمرا مقبولا، ومتناغما مع واقع اجتماعي يعترف بالعبودية بناء على معيار اللون، ويقنن تجارتها. ونفترض أيضا أن وجود «الأسود» في وضع التابع المحروم من حريته ومن حقوقه، لا يعني عدم قدرته على التعبير عن نفسه، ونيل قسط من حريته، عبر المخاتلة التي تستثمر التمثيلات السائدة. لذا فمناط هذه القراءة استجلاء مظاهر تمثيل الأسود في رواية «دفنا الماضي» وسبله، أي الإنسان الأســـود، للتخلص من ربقة العبودية والمراقبة التي تصادر حياته، ثم محاولة استكناه تسرب التمثــــيل الثقافي المعيب إلى رواية «دفنا الماضي».
المؤسسة الكولونيالية والمؤسسة الإقطاعية المحلية
إننا نتحدث عن مفهوم «التابع» في هذه القراءة ضمن سياق المؤسسة الثقافية المحلية المغربية التي تجعل الأسود في منزلة دنيا في البناء الاجتماعي، وفي سياق المؤسسة الكولونيالية التي استغلت هذا البناء الاجتماعي والتمثيل الثقافي لصالحها. ومنذ الفصل الافتتاحي للرواية يظهر تورط المستعمر الفرنسي في تكريس نسق العبودية، عبر تجارة «الرقيق»، وإذ كان هذا الفصل لا يفصح صراحة عن هذا التورط، فإنه يلمح إليه عبر سرد قصة الطفلة «جوهرة» التي اختطفها رجل أشقر من قريتها. ولأن الخطاب الكولونيالي موارب ومخادع، ويلون السلوك الأرعن، والاستغلال البشع بالعبارات البراقة، ويغالط بالقيم السامية، كما شأن توظيف مصطلح «الحماية» بدل «الاستعمار»، فإنه كان يظهر الاعتناء الشديد بهذه الطفلة، ويمنع الأغراب من الاقتراب منها، ويغذق عليها الابتسامة في كل حديث معها، وحتى وهو يبيعها إلى النخاس «ابن كيران» في فاس، فإنه يوصي بها خيرا. وأي خير يرتجى من الاختطاف ومصادرة الحياة، وتشييء الإنسان؟ وعلى خلاف ذلك الفرنسي الأشقر، يُوصم النخاس «ابن بنكيران» بالغلظة والجفاء، ويكفي أن يطلق صوته ليخيف «الإماء». ولكن سواء تعلق الأمر بالبسمة المخادعة للفرنسي الممثل، هنا، للسلطة الكولونيالية، وصرامة وغلظة النخاس «ابن كيران» ممثل النسق الاجتماعي والثقافي المحلي الذي ينتصر لطبقة اجتماعية معينة، فإن ذلك لن يدثر اتفاقهما في الصدور عن النسق الثقافي نفسه، الذي من مصلحته أن يحافظ على تجارة الرقيق، وعلى الحفاظ على البناء الاجتماعي القائم. فالإمبريالية تعقد اتفاقا صريحا وضمنيا مع الإقطاعية المحلية التي يمثلها النخاس «ابن كيران»، والحاج «محمد التهامي» الذي سيشتري الطفلة جوهرة، بغية التوافق على مصالحهما.
إذن، فالخطاب الكولونيالي يتوافق مع الطبقتين البورجوازية والإقطاعية المحلية، وينتظمان في مؤسسات معينة، لإخضاع الطبقات التي لا تستطيع الدفاع عن نفسها، وصناعة «التابع»، ومنعه من التعبير عن تطلعاته وأفكاره. وكان مطلق حلم «الإماء» في دار النخاس ابن كيران، ألا يرجعهن سادتهن بعد شرائهن، وألا يقعن في يد سيدة لا ترحم، وأن يتمتعن بقدر يسير من الحرية. وإذا كان الخطاب الإمبريالي/الكولونيالي يرفع وعد نشر قيم الحرية، مستثمرا تفوقه الاقتصادي والحضاري، لإخضاع الشعوب المستعمرة، ويستسعف مصطلح «الحماية» ليدثر أطماعه. فإن المؤسسة البورجوازية والإقطاعية المحلية، تستغل الخطاب الديني للحفاظ على الامتيازات نفسها، وهكذا فإن الاستغلال الجنسي للخادمة السوداء «ياسمين» من قبل الحاج محمد التهامي، اعتبره حقا، يمنحه له «ملك اليمين»، ولا يخالف العرف والقيم، وهو في ذلك ينطق بما تسمح به المؤسسة، وتخلق لها المبررات المقدسة، على الرغم من أن سلوكه يوقع الظلم الأكبر، والمؤسسة البورجوازية في جوهرها تعرف أن توظيف هذا الخطاب له مفعول السحر على «التابع»، ويصيبه بالعمى الثقافي، ويسهم في منعه من «التكلم». وتوظف هذه المؤسسة أيضا أدوات الإمبريالية نفسها، فوالد الحاج محمد التهامي أخذ أراضي شاسعة عبر إغراق الفلاحين الفقــــراء بالديون، التي يعرف أنهم غير قادرين على دفعها، فتكون أرضهم المقابل الأكيد، ويصيروا هم خداما وعبيدا عنده، و أبناؤهم خداما عند ابنه من بعده.
تجدد المؤسسة النسقية المحلية أدواتها وخطابها، وتنقلهما إلى الأجيال اللاحقة، وإذا كان الأب محمد التهامي ممثلا لهذه المؤسسة وسادنها، فإنه نقل كثيرا من ذلك إلى ابنه عبدالغني، الذي انتحى مسار والده، يقلده في صوته، وفي مناداة أهل القصر وحتى أمه بغير اسمها، أي بضمير (أنت) و(هي)، والآخرين ب(هم)، و(أنتم). وهي صيغ لغوية ذات بعد ثقافي غايته ممارسة الإلغاء والقسر، وإظهار السلطة، فهو الطائر المحكي والآخرون الصدى، إن شئنا استعارة قول المتنبي الدال على هذه الفحولة الهادرة. ومثلما كان الحاج محمد التهامي صورة لوالده، فإن عبدالغني صورته الحية، فهو يقلد والده «في الزي والحركة والاهتمامات». ويمارس سلطته على فضاء القصر، بما فيه أمه، وأخوته: عبدالرحمن، عائشة، ومحمود. إنها السلطة الأبوية، التي تنقل عبر العرف إلى الأخ الأكبر، الذي هو صورة مصغرة للأب. لكن الأمر في جوهره هو إعادة النظام البطريركي (الأبوي) الذي تشترك فيها مؤسسات الهيمنة، وهي في سياقنا: المؤسسة الكولونيالية والمؤسسة البورجوازية/الإقطاعية المحلية.
وإذا كانت العلاقات بين القوى الفاعلة في الرواية خاضعة لأشراط المؤسستين اللتين تحددان أفعالها الإجرائية، وتحد طموحاتها بما يوافق الخطوط التي ترسمها مسبقا، فإن الرواية في مجمل حبكتها تنتصر لهذا النسق الثقافي المعيب، الذي تحدده المؤسستان، ودليل ذلك أن «محمود» ابن الخادمة ياسمين، الذي عانى من القهر الاجتماعي، بسبب لونه ولون أمه، وظلت عبارة (ابن الخادم) تلاحقه في القصر من قبل سيدته، أي القصر، «خديجة»، وفي المسجد من قبل الفقيه الجبلي، وفي المدرسة من قبل الأستاذ الفرنسي نفسه، بما يؤكد توافق المؤسستين الثقافيتين في تكريس الصورة النمطية عن الأسود. وفضلا عن هذه الصورة النمطية التي تتفق فيها غالبية الشخوص، فإن السارد اختار أن تكون شخصية محمود متعلقة، حد التماهي، بالمؤسسة الكولونيالية، ومنفذة لسياستها، عبر مزاولة مهنة «القضاء»، ورميها بالشر والعمى الذي يجعلها تغلب الانتقام، على التعقل، وتحكم على الوطنيين بأقسى الأحكام، على عكس شخصيات مثل «الحاج محمد التهامي» وابنه «عبدالغني» اللذين صورهما في حال «ازدواج وجداني»، أي الشعور المركب اتجاه الاستعمار والنفور منه، وعلى عكس شخصية «عبدالرحمن» الذي يناهض الاستعمار الفرنسي، ويناضل لإخراجه من المغرب.
لقد كرست الرواية مواصفات الشر، والغرابة، وغياب العقل عند الأسود، على عكس الأب وأخيه عبدالغني، اللذين كانت صورتهما، وحتى في حال التعلق بمصالح أخف في الشر. وأما النهاية التي اختارها السارد العليم لمحمود فكانت أشد إيلاما وأكثر مأساوية.
وإذن، فالتابع الأسود خاضع لتجبر المؤسستين، الكولونيالية والبورجوازية/الإقطاعية المحلية، اللتين تمنعانه من الكلام، وتسمحان له بهامش حرية قليل، كأن تكون هناك مناسبة الاحتفال بليلة كناوة، التي يخرج فيها الإماء من قصر السيد، ويستمتعن بتلك الموسيقى، لكن هذه الحرية نفسها، تظل خاضعة لمؤسسة السلطة التي تخترع مبررا ماورائيا لا يخلو بدوره من تنميط، حينما تسمح بتلك الفسحة إكراما للجن، الذي يسكن العبد/الأمة الأسود، دون الأبيض. ومهما يكن من أمر تلك التبريرات، فإنها جزء من نظام سلطوي يمثل الأسود بصور نمطية، حتى يقصيه من أي دور فاعل في الحياة العامة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى