الحكومة مسئولة عما شجر من الشر بين الأدباء. . .
ونحن نلقي تبعة هذا الشر على الحكومة لأنها مقصرة في حق الأدباء، فهي لم تدبر لهم مصيفاً جميلاً في رأس البر أو الإسكندرية كما دبرت لنفسها ذلك المصيف الجميل في بولكلي تختلف إليه كلما شاءت؛ وهي لم تبح لهم حمامات السباحة يغشونها بالمجان لتعينهم على حر القاهرة القائظ الذي ترك أدمغتهم تغلي وعرقهم يسيل؛ وهي لم تفتح لهم خزائنها ينتهبون منها ما يشاءون ويريغون منها ما يريغون؛ وهي لم تبح لهم قطراتها وسياراتها يجيئون بها ويروحون دون أن تكلفهم التنقل السهل الرخي إلا ملأ استمارة سفر لا ترهق جيوبهم ولا يثقل تحريرها على أقلامهم؛ وهي لم تخاطب الدولة الحليفة في شأن تلك الحدائق التي كانت تفرج كروبهم وتشرح صدورهم، وهي لم توزع عليهم الحلوى والمرطبات التي تختص بها نفسها في المواسم والأعياد وهم إليه ناظرون وإلى القليل منها يتلمظون. . .
الحكومة لم تصنع شيئاً من هذا. . . بل هي تؤثر نفسها بكل مناعم الدولة من دون الأدباء، وهي تتركهم لقيظ يوليو وأغسطس يشوي جلودهم ويذيب أعصابهم. . . ثم يتلاعب بأقلامهم فيشرعونها لمحاربة أنفسهم لأنهم لم يفطنوا لما صنعت الحكومة بهم فلم يطالبوها بشيء، ولم يصرخوا في آذانها كما صرخ الموظفون المنسيون، وكما صرخ رجال التعليم الإلزامي والمدرسون المنقولون من مجالس المديريات. . . وهم يخدعون أنفسهم حين تملأهم صاحبة الجلالة الصحافة غروراً وكبرياء، وحين تصور لهم أنهم ملوك، بل قياصرة غير خليق بهم أن يبثوا شكاة أو يظهروا أحداً على بلوى
لهذا خلا الأدباء إلى شياطينهم وفرغوا إلى أنفسهم. . . فهم منقسمون إلى معسكرين. . . معسكر الشباب ومعسكر الشيوخ. ومعسكر الشباب منقسم على نفسه لأن أجناده ثوريون، فإن لم يجدوا ما يثورون عليه ثاروا على أنفسهم، كالنار التي تأكل بعضها، إن لم تجد ما تأك ومعسكر الشيوخ منقسم على نفسه أيضاً، إلا أنه غير ثائر، لأن الغالبية من أجناده تعرف الرزانة وتؤثر النظام، إما للسن المتقدمة التي يتعبها الجلاد ولا تصبر على الوغى، وإما إيثاراً للعافية، واعترافاً بما فطرت عليه من ضعف
والحكومة مع ذاك تنظر إلى كل هذا لاهية ساهية، لا ترى أن تشغل الأدباء المسلطين على أنفسهم برحلة جميلة تدبرها لهم في مواقع العلمين أو بين أطلال ستالينجراد. . . ولا ترى، إن يسعها الترفيه عنهم بالمصيف والمرطبات وحمامات السباحة، أن تجندهم تجنيداً إجبارياً ليدرسوا لها مشكلات الأدب بعد الحرب، بما تشمله تلك المشكلات من مسائل اللغة والتعليم والكتابة والتأليف والزواج والطلاق والهجرة والحد من نشاط المهاجرين إلى مصر من شذاذ الأمم ولصوص البحار
الحكومة تنظر إلى الأدباء ساهية لاهية، لا ترى أن تشغلهم بشيء من جد الحياة أو من لهوها. والأدباء مسلطون على أنفسهم تشغلهم السفاسف، وتنتهب فراغهم الهنات الهينات، كأن هدير المدافع وقصف الطرابيد وأزيز الطائرات لا يصل إلى أسماعهم، وكأن الدنيا التي تجد في أوربا وفي المحيط الهادي تهزل في مصر، وكأننا فرغنا من علاج مشكلاتنا فلم يبق إلا أن نهدم أنفسنا!
فريق من أدباء الشباب برم ساخط ضائق بنفسه وبالدنيا لأن شيوخ الأدباء بارزون في الحياة المصرية وهم غير بارزين، ولأن القراء مقبلون على هؤلاء الشيوخ الأدباء ولا يقبلون على أولئك الشباب، فلا بد لهم إذن من أن يشبوها جذعة عليهم، ولا بد لهم إذن من أن يخلو الدنيا من أولئك الشيوخ الذين بنوا النهضة الأدبية والنهضة الفكرية في مصر وفي غير مصر من الأقطار العربية، ولا بد من أن يخلو لهم وجه الأرض في مصر وفي الشرق العربي يصولون وحدهم فيه ويجولون
ولكي يتم لهم ذلك فليس لهم بد من أن يكيلوا التهم لشيوخ الأدباء. فالعقاد عاجز ولا شأن له بالشعر، وطه حسين له كتب ركيكة محشوة بالأغاليط، والزيات يكتب بأسلوب معقد يعلو على أفهام القراء، وأحمد أمين رجل مصنف لا شأن له بالأدب ولا مذهب له في الكتابة. . . والمازني يلفق مقالاته من التفاهات. . . وعنان يسطو على جهود المؤرخين ويعزوها إلى نفسه، والجارم ينتهب معاني الشعراء وينظمها لنفسه ومع ذاك فهو يسفل بها ولا يعلو، وهيكل مؤرخ عقيم لا يصبر على مرارة التمحيص، ثم هو داعية متحمس، والعلم ينافي الدعاوة وينافي التحمس. . . . . .
هكذا يقول أدباء الشباب، وهكذا يكتبون في صحفهم، ويتحدثون في مجالسهم، ويسمرون في نواديهم. والمدهش حقاً أنهم من كثرة ما يرددون هذا اللغو أخذوا يظنون أنه الحق بل أخذوا يعتقدون أنه الحق
أما الأدباء الشيوخ فيغمزون الشباب دائماً ويلمزونهم دائماً ولكنهم قلما يصرحون بشيء فيما يردون على به تلاميذهم البرمين الثائرين المتسخطين، وهم يلتزمون الصمت ويلوذون به لأن هؤلاء التلاميذ الخصوم لم يعودوا يعرفون التأدب والاحتشام في مخاطبة أساتذتهم أو في مقارعتهم، فهم لا يبالون أن يقولوا إن هؤلاء الشيوخ أصبحوا أصناماً للأدب في مصر يعكف القراء على عبادتهم، وأنهم لا يتركون للشباب من الأدباء متنفساً من الهواء، لا في مصر ولا في الشرق العربي، وأن لا مخرج لهم من هذا الضيق ولا منفذ من هذا الحرج إلا بتحطيم تلك الأصنام الطاغية العاتية. . . ليخلو لهم وجه الأرض فيبيضوا ويصفروا!
وهذا التعبير القاسي هو من أيسر ما يقولون قدحاً في الرجال الذين بنوا لنا نهضتنا الأدبية والفكرية. وهو دليل على أن المعركة بين الشيوخ والشباب قد انحرفت عما كنا نرجو من ورائها من خير
على أن واحداً أو اثنين من شيوخ الأدباء لم يصبروا على أن يبسط الشباب ألسنتهم على هذا النحو. وأحد هذين هو الأستاذ العقاد، فقد كتب في هذه المجلة كما كتب في غيرها يرد على هؤلاء الشباب فرجمهم رجماً موجعاً. . . وأحسب أن الصيف كان يفعل أفاعيله في أعصاب الأستاذ الجليل فانحرف به القيظ عن الجادة، إذ راح يتهم هؤلاء الشباب بأنهم شيوعيون هدامون، وأنهم يحسدون شيوخ الأدباء الذين يغمرون السوق الأدبية بالكتب، والصحف والمجلات المحترمة بالمقالات. . .
وتهمة الشيوعية هنا تهمة باطلة لا أساس لها من الحق، وقد أرسلها الأستاذ إرسالاً لا تثبت فيه ولا روية، وأكبر الظن أنها صائرة إلى ما صارت إليه تهمة الإلحاد القديمة التي سمجت حتى قضت على نفسها القضاء المبرم. ونحن نتمنى أن ألا نتراشق بالتهم، وألا نبتدع فيها تلك الألوان المهلكة التي تنافي ثقافتنا وديننا وتضر نهضتنا وبلادنا. . . وقد قرأت في إحدى مجلات الشباب رداً على الأستاذ العقاد يشبه الهوس، فقد ترك الكاتب الشاب موضوع النقاش وتناول العقاد جملة وتفصيلاً، فنفى عنه أنه كاتب، ونفى عنه أنه مفكر، ونفى عنه أنه مؤلف،. . . ثم ضحك ممن يقولون عنه إنه شاعر! وكل هذا هو الهوس بعينه. . . ولن ينفى كل هذا أن العقاد كاتب كبير جداً ومفكر خصب التفكير جداً، ومؤلف له كتب كثيرة جيدة جداً. ولن ينفى عنه أنه شاعر من أرق شعرائنا خيالاً وأخصبهم معاني وأدقهم تصوراً، وإن لم يحدث في الشعر العربي، على حد ما بينا في مقالنا السابق، ثورة أو حدثاً كثيراً ذا بال
وقرأت في المجلة نفسها إنذارات موجهة إلى طه حسين وأحمد أمين، وهي إنذارات تدل على عدم نضوج الأقلام التي سودتها، فهم ينذرون طه حسين بإظهار القراء على الأغلاط الواردة في كتابه الأيام (الجزء الثاني!) كما ينذرونه بتعقب أغلاطه في كتبه الأخرى، وهذه هي المهاترة التي لا تليق بنا لأننا لن نكسب شيئاً قط إذا هدمنا العقاد وطه حسين وأحمد أمين والزيات والمازني. . . وهذه الطائفة التي أقامت نهضتنا الفكرية والأدبية وعلمتنا وسبقتنا إلى الميدان. . . وقبل أن نحاول هدم هؤلاء جميعاً فواجبنا ألا نكون ولا نضع شيئاً. بل نهدم ولا نبالي ماذا يكون بعد الهدم. . . يجب أن نفكر طويلاً في خطتنا قبل تنفيذها. فكروا أيها الشباب فيمن يخلف العقاد قبل أن تهدموا العقاد، إن استطعتم إلى هدمه سبيلاً. فكروا في كاتب منكم يستطيع أن يتثقف بما تثقف به العقاد ويستطيع أن يكون عصامياً في ثقافاته. . . وفكروا قبل أن تهدموا طه حسين في الرجل الذي يستطيع أن يتزعم نهضة أدبية في أمة بأكملها فيسهر عليها ويشقى في سبيلها ويقامر من أجلها بسعادته وسعادة أهله كما صنع طه حسين. . . ولتكن لطه حسين عيوبه التي تشق المراثر كما تزعمون، ولكن للرجل ماضيه، وله حاضره أيضاً، وأنتم أنفسكم ثمرات ذلك الماضي فلا تتنكروا له، فإن رأيتم فيه اعوجاجاً فقوموه بالحسنى، وأمامكم ميدان البريء فخوضوه أبرياء واشتدوا فيه كما تشتهون
وأما محاولتكم هدم أحمد أمين فصغار لا يليق بكم أيضاً، فقد أصبح أحمد أمين إماماً من أئمة نهضتنا، وأستاذاً من أساتذة الجيل، أعجبكم هذا الكلام أو لم يعجبكم، ثم هو كان إماماً هادئاً متزناً رزيناً، فهل فكرتم في أحد منكم يستطيع أن يصنف ما صنف ويؤلف مثل الذي ألف ويجاهد في سبيل النهضة الفكرية كالذي ناضل وجاهد؟
وأما الزيات الذي تزعمون أنه يبرقش ويزركش، ويتخذ (الكليشيهات) لأسلوبه فعذره أنكم لم تنضجوا بعد، ولم تدركوا من طلاوة البيان العربي ما أدرك. . . ذلك البيان الذي جدد الزيات شبابه وتزعم مدرسته وخلق لها مما كتب وما ترجم التلاميذ والحواريين. وهاهو ذا يكتب آياته في الدفاع عن البلاغة فينشئ لكم ما أنشأ سانت بيف وهازلت وأرنولد وغيرهم من زعماء النقد. على أن هذا الضيق الذي أحرج صدور بعضكم من الزيات ليس من صنعكم، فقد صنعه لكم - وا أسفاه - أحد شيوخ الأدباء، وهذا هو انشقاق الشيوخ على أنفسهم. . . ذلك الانشقاق الذي أفادكم في خصومتكم غير المبصرة، والذي أفاد نهضتنا الفكرية بقدر ما أضرها. وحسبنا هذه الإشارة اليوم!
وأظرف ما في معسكر الشيوخ من فتنة مكبوتة تلك النذر الضاحكة التي يلوكها الدكتور زكي مبارك، والتي لا تجد لها صدى قط على صفحات الجرائد. . . فزكي مبارك تجرئ على المازني جراءة لا حد لها، والمازني لائذ بأذيال الصمت. . . والمازني بهذا الصمت يمكر بزكي مبارك الذي لا ينال منه إلا صمت مناوشيه، ولا يريحه إلا أن يردوا عليه فيرد عليهم حتى يخيل لنا أن المعركة لن تنتهي. . . أما مع العقاد فلست أدري لماذا تقدم زكي مبارك ثم تأخر ثم تقدم ثم تأخر. . . هذاإن دل على شيء فهو إنما يدل على شيء يشبه الإشفاق أو يشبه الخوف، أو يشبه حاله بين الإشفاق والخوف، فقد نادى زكي مبارك مرة بأعلى صوته فقال: أنا أكتب منك يا عقاد، وأنا أشعر منك يا عقاد، ومؤلفاتي لا تسمو إليها مؤلفاتك. . . ثم لم يلبث أن ختم صيحته بكلمات هن إلى الملاينة والاسترضاء. . . ثم عاد في كلمة أخرى فسأل بعض القراء ألا يوقعوا بينه وبين العقاد ليقعدوا هم ويتفرجوا! ولست أدري العلة في جراءة زكي مبارك على المازني وإشفاقه من العقاد على هذا النحو المكشوف؟ أفصح يا دكتور زكي. . . أفصح. . . أفصح ولا تحسبن أحداً قد صدقك حينما رفعت عقيرتك بأنك أشعر شعراء هذا الزمان. . . وإن كنا يسرنا جدّاً أن تكون كذلك. . . يا دكتور زكي: أنت لست أشعر أهل هذا الزمان ولا أكتب أهله. . . بل أنت أجرأ كاتب في الشرق العربي فما علة إشفاقك من العقاد؟
أما انشقاق معسكر أدباء الشباب فقد كان على أحره في الملحمة الأخيرة التي دارت عن القضية التي لم أفهمها إلى اليوم على وجهها، وهي قضية (الأدب المهموس)، فقد نزغ شيطان الجدل بين الأديبين المتحاورين، إذ رمى أحدهما الآخر بما لا يليق أن يرمي به رجل رجلاً أبداً. . . وقد ألفيت تلك الغمزة غير اللائقة في أسلوب مكشوف لا يصعب فهمه على أحد. . . وقد جاء رد الأستاذ الأديب الآخر ردّاً مرناً مضحكاً، فلم يضيق بما رُمى به، بل أجازه، ثم علله تعليله العلمي اللبق الظريف، إلا أنه لم ينس أن يجرح فرماه بالسماجة والصفاقة في معرض الرد عليه بعدم استحباب أن يستشهد الأديب بكلامه من نظم أو نثر. ولو وقف الرد عند هذه الملاحظة لملك الأستاذ الدكتور (. . .) ناصية الحق، إلا أنه برهن على صدق نظريتنا المتعلقة بأعصاب الأدباء في الصيف، فرمى مناظره بالسماجة والصفاقة. . . ونحار نحن في التعليق على ما حدث: أي المتناظرين جار قبل أخيه عن القصد، وأيهما بدأ بالعدوان. . . ولعل الذي سب أخاه في كمال رجولته أظلم، ولعله هو الذي انحرف أولاً فسبب انحراف صاحبه، ثم زاد الطين بلة فسخر من كفايات زميله وهو ما لا يوافقه أحد عليه، وهو أيضاً ما نرجو أن نتعالى في جميع مناقشاتنا عنه. . .
ولا بد من كلمة هنا نوجهها إلى رؤساء تحرير مجلاتنا. . . والكلمة وجاء مخلص نأمل أن يحققوه، ونرجو أن يحققوه سريعاً وقبل أن يتصرم الصيف. وذلك ألا يسمحوا بنشر الفِقر الحارة والساخنة التي ترد في سياق المناظرات والتي تهبط إلى مستوى الشتائم وتخرج عن دائرة الأدب. . . ونحن بالطبع لا نعني بدائرة الأدب دائرة الأخلاق
وبعد. . . فلست أدري لماذا لا يعالج الأدباء شباباً وشيوخاً أعصابهم؟ ولماذا لا يذكرون أن الحكومة تركتهم وشأنهم فلم تتخذ أي أجراء للترفيه عنهم ولم تدبر لهم مصيفاً ولم تبح لهم القطارات والسيارات التي تنقلهم ولو إلى شواطئ المنزلة والبرلس وإدكو ومريوط. . . وإن كان يسر الحكومة أن يشتغل الأدباء بأنفسهم عنها، فلتشغلهم هي عن نفسها بالمفيد المجدي. . . لتجندهم تجنيداً إجبارياً ليبحثوا لها كل ما يهمها البحث فيه من مسائل ما بعد الحرب، وليدرسوا لها مشكلات الأمية وإصلاح البرامج والبطالة ومحاربة الفقر وهبوط الميزانية إلى حالتها الطبيعية في السلم وإصلاح الكتابة العربية. . .
وبعد أيضاً. . . فهذا حديث من لغو الصيف، نرجو ألا نلغو بحديث مثله.
دريني خشبة
مجلة الرسالة - العدد 528
بتاريخ: 16 - 08 - 1943
ونحن نلقي تبعة هذا الشر على الحكومة لأنها مقصرة في حق الأدباء، فهي لم تدبر لهم مصيفاً جميلاً في رأس البر أو الإسكندرية كما دبرت لنفسها ذلك المصيف الجميل في بولكلي تختلف إليه كلما شاءت؛ وهي لم تبح لهم حمامات السباحة يغشونها بالمجان لتعينهم على حر القاهرة القائظ الذي ترك أدمغتهم تغلي وعرقهم يسيل؛ وهي لم تفتح لهم خزائنها ينتهبون منها ما يشاءون ويريغون منها ما يريغون؛ وهي لم تبح لهم قطراتها وسياراتها يجيئون بها ويروحون دون أن تكلفهم التنقل السهل الرخي إلا ملأ استمارة سفر لا ترهق جيوبهم ولا يثقل تحريرها على أقلامهم؛ وهي لم تخاطب الدولة الحليفة في شأن تلك الحدائق التي كانت تفرج كروبهم وتشرح صدورهم، وهي لم توزع عليهم الحلوى والمرطبات التي تختص بها نفسها في المواسم والأعياد وهم إليه ناظرون وإلى القليل منها يتلمظون. . .
الحكومة لم تصنع شيئاً من هذا. . . بل هي تؤثر نفسها بكل مناعم الدولة من دون الأدباء، وهي تتركهم لقيظ يوليو وأغسطس يشوي جلودهم ويذيب أعصابهم. . . ثم يتلاعب بأقلامهم فيشرعونها لمحاربة أنفسهم لأنهم لم يفطنوا لما صنعت الحكومة بهم فلم يطالبوها بشيء، ولم يصرخوا في آذانها كما صرخ الموظفون المنسيون، وكما صرخ رجال التعليم الإلزامي والمدرسون المنقولون من مجالس المديريات. . . وهم يخدعون أنفسهم حين تملأهم صاحبة الجلالة الصحافة غروراً وكبرياء، وحين تصور لهم أنهم ملوك، بل قياصرة غير خليق بهم أن يبثوا شكاة أو يظهروا أحداً على بلوى
لهذا خلا الأدباء إلى شياطينهم وفرغوا إلى أنفسهم. . . فهم منقسمون إلى معسكرين. . . معسكر الشباب ومعسكر الشيوخ. ومعسكر الشباب منقسم على نفسه لأن أجناده ثوريون، فإن لم يجدوا ما يثورون عليه ثاروا على أنفسهم، كالنار التي تأكل بعضها، إن لم تجد ما تأك ومعسكر الشيوخ منقسم على نفسه أيضاً، إلا أنه غير ثائر، لأن الغالبية من أجناده تعرف الرزانة وتؤثر النظام، إما للسن المتقدمة التي يتعبها الجلاد ولا تصبر على الوغى، وإما إيثاراً للعافية، واعترافاً بما فطرت عليه من ضعف
والحكومة مع ذاك تنظر إلى كل هذا لاهية ساهية، لا ترى أن تشغل الأدباء المسلطين على أنفسهم برحلة جميلة تدبرها لهم في مواقع العلمين أو بين أطلال ستالينجراد. . . ولا ترى، إن يسعها الترفيه عنهم بالمصيف والمرطبات وحمامات السباحة، أن تجندهم تجنيداً إجبارياً ليدرسوا لها مشكلات الأدب بعد الحرب، بما تشمله تلك المشكلات من مسائل اللغة والتعليم والكتابة والتأليف والزواج والطلاق والهجرة والحد من نشاط المهاجرين إلى مصر من شذاذ الأمم ولصوص البحار
الحكومة تنظر إلى الأدباء ساهية لاهية، لا ترى أن تشغلهم بشيء من جد الحياة أو من لهوها. والأدباء مسلطون على أنفسهم تشغلهم السفاسف، وتنتهب فراغهم الهنات الهينات، كأن هدير المدافع وقصف الطرابيد وأزيز الطائرات لا يصل إلى أسماعهم، وكأن الدنيا التي تجد في أوربا وفي المحيط الهادي تهزل في مصر، وكأننا فرغنا من علاج مشكلاتنا فلم يبق إلا أن نهدم أنفسنا!
فريق من أدباء الشباب برم ساخط ضائق بنفسه وبالدنيا لأن شيوخ الأدباء بارزون في الحياة المصرية وهم غير بارزين، ولأن القراء مقبلون على هؤلاء الشيوخ الأدباء ولا يقبلون على أولئك الشباب، فلا بد لهم إذن من أن يشبوها جذعة عليهم، ولا بد لهم إذن من أن يخلو الدنيا من أولئك الشيوخ الذين بنوا النهضة الأدبية والنهضة الفكرية في مصر وفي غير مصر من الأقطار العربية، ولا بد من أن يخلو لهم وجه الأرض في مصر وفي الشرق العربي يصولون وحدهم فيه ويجولون
ولكي يتم لهم ذلك فليس لهم بد من أن يكيلوا التهم لشيوخ الأدباء. فالعقاد عاجز ولا شأن له بالشعر، وطه حسين له كتب ركيكة محشوة بالأغاليط، والزيات يكتب بأسلوب معقد يعلو على أفهام القراء، وأحمد أمين رجل مصنف لا شأن له بالأدب ولا مذهب له في الكتابة. . . والمازني يلفق مقالاته من التفاهات. . . وعنان يسطو على جهود المؤرخين ويعزوها إلى نفسه، والجارم ينتهب معاني الشعراء وينظمها لنفسه ومع ذاك فهو يسفل بها ولا يعلو، وهيكل مؤرخ عقيم لا يصبر على مرارة التمحيص، ثم هو داعية متحمس، والعلم ينافي الدعاوة وينافي التحمس. . . . . .
هكذا يقول أدباء الشباب، وهكذا يكتبون في صحفهم، ويتحدثون في مجالسهم، ويسمرون في نواديهم. والمدهش حقاً أنهم من كثرة ما يرددون هذا اللغو أخذوا يظنون أنه الحق بل أخذوا يعتقدون أنه الحق
أما الأدباء الشيوخ فيغمزون الشباب دائماً ويلمزونهم دائماً ولكنهم قلما يصرحون بشيء فيما يردون على به تلاميذهم البرمين الثائرين المتسخطين، وهم يلتزمون الصمت ويلوذون به لأن هؤلاء التلاميذ الخصوم لم يعودوا يعرفون التأدب والاحتشام في مخاطبة أساتذتهم أو في مقارعتهم، فهم لا يبالون أن يقولوا إن هؤلاء الشيوخ أصبحوا أصناماً للأدب في مصر يعكف القراء على عبادتهم، وأنهم لا يتركون للشباب من الأدباء متنفساً من الهواء، لا في مصر ولا في الشرق العربي، وأن لا مخرج لهم من هذا الضيق ولا منفذ من هذا الحرج إلا بتحطيم تلك الأصنام الطاغية العاتية. . . ليخلو لهم وجه الأرض فيبيضوا ويصفروا!
وهذا التعبير القاسي هو من أيسر ما يقولون قدحاً في الرجال الذين بنوا لنا نهضتنا الأدبية والفكرية. وهو دليل على أن المعركة بين الشيوخ والشباب قد انحرفت عما كنا نرجو من ورائها من خير
على أن واحداً أو اثنين من شيوخ الأدباء لم يصبروا على أن يبسط الشباب ألسنتهم على هذا النحو. وأحد هذين هو الأستاذ العقاد، فقد كتب في هذه المجلة كما كتب في غيرها يرد على هؤلاء الشباب فرجمهم رجماً موجعاً. . . وأحسب أن الصيف كان يفعل أفاعيله في أعصاب الأستاذ الجليل فانحرف به القيظ عن الجادة، إذ راح يتهم هؤلاء الشباب بأنهم شيوعيون هدامون، وأنهم يحسدون شيوخ الأدباء الذين يغمرون السوق الأدبية بالكتب، والصحف والمجلات المحترمة بالمقالات. . .
وتهمة الشيوعية هنا تهمة باطلة لا أساس لها من الحق، وقد أرسلها الأستاذ إرسالاً لا تثبت فيه ولا روية، وأكبر الظن أنها صائرة إلى ما صارت إليه تهمة الإلحاد القديمة التي سمجت حتى قضت على نفسها القضاء المبرم. ونحن نتمنى أن ألا نتراشق بالتهم، وألا نبتدع فيها تلك الألوان المهلكة التي تنافي ثقافتنا وديننا وتضر نهضتنا وبلادنا. . . وقد قرأت في إحدى مجلات الشباب رداً على الأستاذ العقاد يشبه الهوس، فقد ترك الكاتب الشاب موضوع النقاش وتناول العقاد جملة وتفصيلاً، فنفى عنه أنه كاتب، ونفى عنه أنه مفكر، ونفى عنه أنه مؤلف،. . . ثم ضحك ممن يقولون عنه إنه شاعر! وكل هذا هو الهوس بعينه. . . ولن ينفى كل هذا أن العقاد كاتب كبير جداً ومفكر خصب التفكير جداً، ومؤلف له كتب كثيرة جيدة جداً. ولن ينفى عنه أنه شاعر من أرق شعرائنا خيالاً وأخصبهم معاني وأدقهم تصوراً، وإن لم يحدث في الشعر العربي، على حد ما بينا في مقالنا السابق، ثورة أو حدثاً كثيراً ذا بال
وقرأت في المجلة نفسها إنذارات موجهة إلى طه حسين وأحمد أمين، وهي إنذارات تدل على عدم نضوج الأقلام التي سودتها، فهم ينذرون طه حسين بإظهار القراء على الأغلاط الواردة في كتابه الأيام (الجزء الثاني!) كما ينذرونه بتعقب أغلاطه في كتبه الأخرى، وهذه هي المهاترة التي لا تليق بنا لأننا لن نكسب شيئاً قط إذا هدمنا العقاد وطه حسين وأحمد أمين والزيات والمازني. . . وهذه الطائفة التي أقامت نهضتنا الفكرية والأدبية وعلمتنا وسبقتنا إلى الميدان. . . وقبل أن نحاول هدم هؤلاء جميعاً فواجبنا ألا نكون ولا نضع شيئاً. بل نهدم ولا نبالي ماذا يكون بعد الهدم. . . يجب أن نفكر طويلاً في خطتنا قبل تنفيذها. فكروا أيها الشباب فيمن يخلف العقاد قبل أن تهدموا العقاد، إن استطعتم إلى هدمه سبيلاً. فكروا في كاتب منكم يستطيع أن يتثقف بما تثقف به العقاد ويستطيع أن يكون عصامياً في ثقافاته. . . وفكروا قبل أن تهدموا طه حسين في الرجل الذي يستطيع أن يتزعم نهضة أدبية في أمة بأكملها فيسهر عليها ويشقى في سبيلها ويقامر من أجلها بسعادته وسعادة أهله كما صنع طه حسين. . . ولتكن لطه حسين عيوبه التي تشق المراثر كما تزعمون، ولكن للرجل ماضيه، وله حاضره أيضاً، وأنتم أنفسكم ثمرات ذلك الماضي فلا تتنكروا له، فإن رأيتم فيه اعوجاجاً فقوموه بالحسنى، وأمامكم ميدان البريء فخوضوه أبرياء واشتدوا فيه كما تشتهون
وأما محاولتكم هدم أحمد أمين فصغار لا يليق بكم أيضاً، فقد أصبح أحمد أمين إماماً من أئمة نهضتنا، وأستاذاً من أساتذة الجيل، أعجبكم هذا الكلام أو لم يعجبكم، ثم هو كان إماماً هادئاً متزناً رزيناً، فهل فكرتم في أحد منكم يستطيع أن يصنف ما صنف ويؤلف مثل الذي ألف ويجاهد في سبيل النهضة الفكرية كالذي ناضل وجاهد؟
وأما الزيات الذي تزعمون أنه يبرقش ويزركش، ويتخذ (الكليشيهات) لأسلوبه فعذره أنكم لم تنضجوا بعد، ولم تدركوا من طلاوة البيان العربي ما أدرك. . . ذلك البيان الذي جدد الزيات شبابه وتزعم مدرسته وخلق لها مما كتب وما ترجم التلاميذ والحواريين. وهاهو ذا يكتب آياته في الدفاع عن البلاغة فينشئ لكم ما أنشأ سانت بيف وهازلت وأرنولد وغيرهم من زعماء النقد. على أن هذا الضيق الذي أحرج صدور بعضكم من الزيات ليس من صنعكم، فقد صنعه لكم - وا أسفاه - أحد شيوخ الأدباء، وهذا هو انشقاق الشيوخ على أنفسهم. . . ذلك الانشقاق الذي أفادكم في خصومتكم غير المبصرة، والذي أفاد نهضتنا الفكرية بقدر ما أضرها. وحسبنا هذه الإشارة اليوم!
وأظرف ما في معسكر الشيوخ من فتنة مكبوتة تلك النذر الضاحكة التي يلوكها الدكتور زكي مبارك، والتي لا تجد لها صدى قط على صفحات الجرائد. . . فزكي مبارك تجرئ على المازني جراءة لا حد لها، والمازني لائذ بأذيال الصمت. . . والمازني بهذا الصمت يمكر بزكي مبارك الذي لا ينال منه إلا صمت مناوشيه، ولا يريحه إلا أن يردوا عليه فيرد عليهم حتى يخيل لنا أن المعركة لن تنتهي. . . أما مع العقاد فلست أدري لماذا تقدم زكي مبارك ثم تأخر ثم تقدم ثم تأخر. . . هذاإن دل على شيء فهو إنما يدل على شيء يشبه الإشفاق أو يشبه الخوف، أو يشبه حاله بين الإشفاق والخوف، فقد نادى زكي مبارك مرة بأعلى صوته فقال: أنا أكتب منك يا عقاد، وأنا أشعر منك يا عقاد، ومؤلفاتي لا تسمو إليها مؤلفاتك. . . ثم لم يلبث أن ختم صيحته بكلمات هن إلى الملاينة والاسترضاء. . . ثم عاد في كلمة أخرى فسأل بعض القراء ألا يوقعوا بينه وبين العقاد ليقعدوا هم ويتفرجوا! ولست أدري العلة في جراءة زكي مبارك على المازني وإشفاقه من العقاد على هذا النحو المكشوف؟ أفصح يا دكتور زكي. . . أفصح. . . أفصح ولا تحسبن أحداً قد صدقك حينما رفعت عقيرتك بأنك أشعر شعراء هذا الزمان. . . وإن كنا يسرنا جدّاً أن تكون كذلك. . . يا دكتور زكي: أنت لست أشعر أهل هذا الزمان ولا أكتب أهله. . . بل أنت أجرأ كاتب في الشرق العربي فما علة إشفاقك من العقاد؟
أما انشقاق معسكر أدباء الشباب فقد كان على أحره في الملحمة الأخيرة التي دارت عن القضية التي لم أفهمها إلى اليوم على وجهها، وهي قضية (الأدب المهموس)، فقد نزغ شيطان الجدل بين الأديبين المتحاورين، إذ رمى أحدهما الآخر بما لا يليق أن يرمي به رجل رجلاً أبداً. . . وقد ألفيت تلك الغمزة غير اللائقة في أسلوب مكشوف لا يصعب فهمه على أحد. . . وقد جاء رد الأستاذ الأديب الآخر ردّاً مرناً مضحكاً، فلم يضيق بما رُمى به، بل أجازه، ثم علله تعليله العلمي اللبق الظريف، إلا أنه لم ينس أن يجرح فرماه بالسماجة والصفاقة في معرض الرد عليه بعدم استحباب أن يستشهد الأديب بكلامه من نظم أو نثر. ولو وقف الرد عند هذه الملاحظة لملك الأستاذ الدكتور (. . .) ناصية الحق، إلا أنه برهن على صدق نظريتنا المتعلقة بأعصاب الأدباء في الصيف، فرمى مناظره بالسماجة والصفاقة. . . ونحار نحن في التعليق على ما حدث: أي المتناظرين جار قبل أخيه عن القصد، وأيهما بدأ بالعدوان. . . ولعل الذي سب أخاه في كمال رجولته أظلم، ولعله هو الذي انحرف أولاً فسبب انحراف صاحبه، ثم زاد الطين بلة فسخر من كفايات زميله وهو ما لا يوافقه أحد عليه، وهو أيضاً ما نرجو أن نتعالى في جميع مناقشاتنا عنه. . .
ولا بد من كلمة هنا نوجهها إلى رؤساء تحرير مجلاتنا. . . والكلمة وجاء مخلص نأمل أن يحققوه، ونرجو أن يحققوه سريعاً وقبل أن يتصرم الصيف. وذلك ألا يسمحوا بنشر الفِقر الحارة والساخنة التي ترد في سياق المناظرات والتي تهبط إلى مستوى الشتائم وتخرج عن دائرة الأدب. . . ونحن بالطبع لا نعني بدائرة الأدب دائرة الأخلاق
وبعد. . . فلست أدري لماذا لا يعالج الأدباء شباباً وشيوخاً أعصابهم؟ ولماذا لا يذكرون أن الحكومة تركتهم وشأنهم فلم تتخذ أي أجراء للترفيه عنهم ولم تدبر لهم مصيفاً ولم تبح لهم القطارات والسيارات التي تنقلهم ولو إلى شواطئ المنزلة والبرلس وإدكو ومريوط. . . وإن كان يسر الحكومة أن يشتغل الأدباء بأنفسهم عنها، فلتشغلهم هي عن نفسها بالمفيد المجدي. . . لتجندهم تجنيداً إجبارياً ليبحثوا لها كل ما يهمها البحث فيه من مسائل ما بعد الحرب، وليدرسوا لها مشكلات الأمية وإصلاح البرامج والبطالة ومحاربة الفقر وهبوط الميزانية إلى حالتها الطبيعية في السلم وإصلاح الكتابة العربية. . .
وبعد أيضاً. . . فهذا حديث من لغو الصيف، نرجو ألا نلغو بحديث مثله.
دريني خشبة
مجلة الرسالة - العدد 528
بتاريخ: 16 - 08 - 1943