ملاحظاتنا حول هذا الكتاب ستشمل المنهجية والمحتوى. وقبل التطرق لهذين المحورين نود أن نعرض لما سماه الجابري ب "أزمة القيم" التي تمثل همزة الوصل بين "السياسي"، الذي تناوله في الكتاب السابق، و"الأخلاقي" موضوع هذا الكتاب، وهي إشكاليته الأساس. يقول الجابري:
"نحن مضطرون إذن إلى الرجوع إلى القضية التي طرحناها في خاتمة الفصل الذي جعلنا عنوانه "في البدء كانت أزمة القيم"؛ هذه الأزمة التي تطورت سياسيا، كما رأينا، إلى محاكمة للنوايا بتوظيف أسئلة إرهابية حول مرتكب الكبيرة، والإيمان والكفر، والفرق بين الكافر والفاسق، والقضاء والقدر، والمسؤولية والجزاء الخ! نحن مضطرون إذن إلى استحضار ما انتهى إليه النقاش حول أزمة القيم هذه مع واصل بن عطاء الذي نوهنا بمحاولته الإفلات من منطق "إما...وإما" – الذي وظف في تلك الأسئلة الإرهابية – والدعوة إلى منطق ثلاثي القيم يقول ب "المنزلة بين المنزلتين" بين الإيمان والكفر، ويثبت الخطأ في حق جميع الذين شاركوا في "الفتنة الكبرى" ومنهم صحابة كبار، ولكن "لا على التعيين".
لقد نوهنا فعلا بهذا الحل الخلاق الذي ابتكره واصل. ومع ذلك نبهنا إلى أن هذا الحل إذا كان يحرر الفكر من منطق (إما...وإما) وما يركب عليه من أسئلة إرهابية، فاتحا المجال للنقاش النظري والاجتهاد الفكري للبحث عن طريق لتجاوز الأزمة، فإنه لا يحل المشكلة سياسيا. والحال أنها، في ظاهرها وباطنها، مشكلة سياسية أصلا. لقد كان موقف واصل معقولا كمخرج نظري، ولكنه لم يكن مطلوبا ولا معقولا كمخرج سياسي !
لقد كان المطلوب من وجهة نظر الأمويين هو إيجاد وسيلة أخرى، "حل فكري آخر" صالح للتوظيف السياسي لفائدتهم: حل يتجاوز أزمة القيم التي تطورت إلى أزمة سياسية خانقة عمقها تمزق المجتمع والدولة، في أواخر عهدهم. إن الحل المطلوب كان ذلك الذي يكرس قيما جديدة تخدم وحدة المجتمع والدولة وتؤكد على ضرورة الطاعة. وهي قيم كانت جاهزة في الموروث الفارسي. وأكثر من ذلك كانت ملائمة لطبيعة الأزمة وحاجة الدولة لأنها تربط بين وحدة الدين والمُلك وتجعل طاعة الدولة من طاعة الله.
لم يكن الأمر يتطلب، إذن، سوى تبنيها والترويج لها باسم الإسلام! وهذا ما تم بالفعل في العصر الأموي ذاته. فليكن بيان ما حصل بداية لنا جديدة." (ص 125-126)
هذا النص يضعنا، من جهة، أمام ردين réductions: رد "الأخلاقي" إلى "السياسي"، ورد إشكالية التاريخ العربي الإسلامي إلى أزمة مر عليها أربعة عشر قرنا ! ومن جهة أخرى، وبما أن الجابري يريد أن يجعل "الماضي معاصرا لنا"، فإنه فرض على الوقائع والنظريات إسقاطات أيديولوجلة مشوبة بمغالطة زمانية anachronisme، وزاوية نظر ضيقة ومتعسفة تتمثل في تَلَقُّط "أخلاق الطاعة" في الموروث الأخلاقي، سقط بسببه البحث في تأويلات مغشوشة كل هدفها إنقاذ مسلمة متهافتة. ويكفي لأي قارئ أن يعود للمراجع الأصلية ليكتشف ما جنته الإشكالية الجابرية من تشويه على النصوص وعلى تاريخ الفكر الأخلاقي العربي الإسلامي، وهو ما سنفعله هنا.
المنهجية
لدينا أربعة ملاحظات حول المنهجية تتعلق: 1- بمضمون المصطلحات المستعملة، وهي أساسا "الطاعة"، "العقل" و"المصلحة". 2- بالاسقاطات الأيديولوجية. 3- بتضارب المناهج من كتاب لآخر. 4- وبدقة المصطلحات المستعملة في المنهجية الإجرائية.
أولا: مضمون المصطلحات. لقد استعمل الجابري في هذا الكتاب مصطلحات "الطاعة" و"العقل" و"المصلحة"، وقد اكتشفنا أن استعماله لها يشوبه كثير من اللبس، بحيث أنها تكاد تقول عكس مدلولها المتداول. حتى أن القارئ قد يشعر بأنه تعرض لما لا نتردد في تسميته بأنه عملية خداع. وسنتطرق لكل مصطلح في حينه.
ثانيا:الاسقاطات الأديولوجية. وتعطينا الخاتمة التي عنوانها " لم يدفنوا بعد أباهم أردشير !" ، "رأس الخيط" الأيديولوجي الذي يوجه العمل بمجمله.
يقول الجابري في الفقرتين الأخيرتين من هذه الخاتمة: "وبعد، فقد انطلقنا في بناء هذه الدراسة من بداية فرضت نفسها علينا لأنها البداية التي مازالت حية في وضعنا الراهن، أعني التي تقف بنا عندها عملية الرجوع القهقرى من لحظتنا الراهنة. [...] ذلك أننا لو رجعنا [...] مع التاريخ إلى الوراء نبحث عن بداية لما عبرنا عنه أعلاه ب "غياب نظام واحد للقيم" [في الموروث العربي الإسلامي]، لما توقفت بنا عملية "الرجوع" إلى أن نصل إلى تلك الحقبة من الزمن التي نسميها ب "الفتنة الكبرى" ! الفتنة التي اندلعت بالثورة على عثمان و "انتهت" بانتصار معاوية في حرب صفين. إنها الفتنة التي يجمع المؤرخون أنه كان من نتائجها "انقلاب الخلافة إلى ملك عضوض" !
ومع أن "الخلافة الراشدة" – التي لم تدم إلا نحوا من ثلاثين سنة – قد بقيت تتحدد في ضمير المسلمين، على مر العصور، بكونها "الحكم المبني على الشورى"، فإن "الملك العضوض" – الذي بلغ من العمر 1380 سنة – لم يسبق أن عُرِّف التعريف الذي يعطيه مضمونا يبقى حيا في ضمير الأجيال المتعاقبة. والسبب في نظرنا لا يرجع إلى قصور في الفكر ولا إلى خوف من "العض"؛ فقد عرفت هذه الثمانون والثلاثمائة والألف سنة عباقرة في الفكر لا يخافون في الصدع بالحق لومة لائم، ومع ذلك لم يصفوا ولم يحللوا مضمون "الملك العضوض" ولم يكشفوا أصوله (غير ابن رشد عبر اختصاره لجمهورية أفلاطون). إن السبب في نظرنا هو مبدأ "طاعة السلطان من طاعة الله" و "الدين والملك توأمان" قد هيمن هيمنة شبه مطلقة على الساحة الفكرية في الثقافة العربية. والذين لم يأخذوا هذا المبدأ على أنه يعبر عن حقيقة ما يقرره الدين قبلوه كضرورة تدفع محظور "الفتنة". والحق أن الضمير الديني في الإسلام، الذي هو أصلا متحرر من وزر "الخطيئة الأصلية" (خطيئة آدم)، قد حمَّل نفسه وزرا آخر هو وزر "الفتنة الكبرى". إن الرغبة في "اتقاء الفتنة" قد بررت على الدوام قبول العيش باستكانة، تحت الحكم الذي أصله فتنة ! فكانت النتيجة قيام الحكم في الإسلام، وعلى الدوام إلى الآن، على "وحدانية التسلط". فكانت مدينتنا إلى اليوم "مدينة الجبارين".
لم ينهض العرب والمسلمون بعد، ولا إيران ولا غيرهما من بلاد الإسلام، النهضة المطلوبة. والسبب عندي أنهم لم يدفنوا بعد في أنفسهم "أباهم": أردشير ! "
هذه الخاتمة تُجْمل كل ما نعتقد أنه العيوب المنهجية للكتاب. فهي خلاصة للمسلمة الأيديولوجية التي وجهت قراءة الجابري. وهي أيديولوجية من حيث أنها تنطلق من حكم قيمة ثقفاني culturaliste على الوضع السياسي الراهن في العالم العربي لتجد له أسباب في التاريخ القديم، واستمرارية معه. هذا زيادة على كل الأطروحات التي انتقدها طرابيشي، والتي سيكتشها القارئ في الملخصات.
وكما قلنا بصدد "العقل السياسي العربي"، إن العيب المنهجي الأول للجابري هو غياب المقارنة بشقيها الفكري والميداني. فلو أنه قارن العقل الأخلاقي العربي (المختزل في العقل السياسي) بالعقول الأخرى لما خرج بخلاصته القاطعة، وكأن باقي الإنسانية كان ينعم بالديموقراطية منذ "1380 سنة". ولو أنه قام بمقارنة – ولو على مستوى الموسوعات – بين النظام السياسي العربي الإسلامي وغيره من الأنظمة السياسية، لأدرك أن كل الأنظمة السياسية التي كانت سائدة إلى حدود الأزمنة الحديثة التي شهدت تسارعا في وتيرة "الخروج من الدين" sortie de la religion – حسب تعبير مارسيل غوشي Marcel Gauchet – عرفت ظاهرة الاندماج بين الدين والسياسة، أي أن: "طاعة السلطان من طاعة الله" و "الدين والملك توأمان"، كان شاملا في كل المجتمعات، بما فيهم اليونان والرومان. ولهذا فإن كثيرا من الأمثلة التي ساقها على أنها تشهد على "أخلاق الطاعة" المستوردة من عند الفرس، ليست إلا ظواهر عادية في مجتمعات تتميز فيه العلاقة بالسلطان بكثير من مظاهر التعظيم والتبجيل.
وكذلك الأمر فيما يتعلق بظاهرة الخوف من الفنتة الذي جعل منه الجابري سبب "وحدانية التسلط". فلو أن الجابري تمعن في نظرية طوماس هوبس (1588-1679) لأدرك أن نظرية العقد الاجتماعي عنده تهدف قبل كل شيء إلى وضع حد ل "حرب الجميع ضد الجميع" ( Bellum omnium contra omnes) - أي وضع حد للفتنة بتعبير آخر- عن طريق تنازل كل الناس عن حقوقهم الطبيعية لصالح الحاكم souverain الممثل للدولة. ولهذا يعد هوبز منظرا للملكية المطلقة.
والأمثلة كثيرة في هذا الموضوع، لإن الخوف من الفتنة - التي هي قبل كل شيء حرب أهلية يكاد لا يوجد مجتمع لم يكتو بنارها - شعور كوني وليس وقفا على المسلمين.
وعندما يقول الجابري: "إنها الفتنة التي يجمع المؤرخون أنه كان من نتائجها "انقلاب الخلافة إلى ملك عضوض !"، فهل يعني بذلك أن الخلافة كان بوسعها أن تبقى على صورتها المُؤمثلة (إذ لا يجب أن ننسى أن ثلاثة من الخلفاء الراشدين الأربعة ماتوا قتلا !) لولا الانقلاب الأموي؟ إنها فرضية ساذجة لأنها تفترض أنه كان بوسع مسلمي ذلك العصر خلق نظام سياسي مختلف جذريا عما هو معروف عندهم أو عند جيرانهم، أي أنهم كانوا قادرين على القطيعة الجذرية مع الأفق الفكري والسياسي لعصرهم.
ولنتصور، في إطار تمرين في السياسة الخيالية (أو الخيال السياسي)، بعض السيناريوهات البديلة.
أولها أن المسلمين حافظوا على النظام الجمهوري الحضري république urbaine الذي كان سائدا في مكة والمدينة قبل الإسلام، والذي أثر في طريقة اختيار الخلفاء الراشدين. وهذا يعني أن النظام الإسلامي المُؤمثل هو في الواقع نظام "جاهلي" ! والسؤال هو: هل كان يمكن لهذا النظام الذي كان سائدا في كثير من المدن القديمة (وليس في اليونان فقط) أن يصمد في إطار دولة واسعة الأطراف ومتعددة الأجناس والديانات؟
ثانيها، لنتصور أنهم اتفقوا على تولية فاطمة لأنها بنت الرسول، أو انهم بايعوا الحسن أو الحسين لأنهما حفيداه، وفي كلتا الحالتين تبقى الخلافة في أسرة الرسول المباشرة، الأمر الذي يسبغ شرعية دينية وسياسية لا نزاع فيها. ولربما أن الخلافة كانت ستبقى في هذه الأسرة إلى اليوم، كما هو شأن الإمبراطورية اليابانية. لكن، وحتى في هذا السيناريو، فإن العوامل التي أدت إلى انقسام الدولة الإسلامية كانت ستفعل لا محالة فعلها؛ وهي نفسها العوامل التي حولت الخلفاء العباسيين إلى لعبة في يد حاشيتهم. كل ما هنالك هو أن "الملك العضوض" كان س"يعض" باسم شرعية شكلية عابرة للعصور.
أما السيناريو الثالث فيتمثل في انتصار علي بن ابي طالب على معاوية. وهنا أيضا لا ضامن يمنع قيام "الملك العضوض"، خاصة إذا علمنا أن الحِلم والاعتدال ليسا مما عرف من طبع علي.
هذا فيما يتعلق بدور "الفتنة الكبرى" و"الملك العضوض".
أما فيما يتعلق بمصدر هذا "الملك"، فإن الجابري يرى أنه "لا يرجع إلى قصور في الفكر" بل إلى عجز عن تحليل مضمون "الملك العضوض" والكشف عن أصوله المستوردة من عند الفرس (مثلها مثل الصوفية و"أخلاق الفناء")، وبذلك سقط في ضرب من المثالية التي تجعل الأفكار تخلق الظواهر من عدم. ومقابل هذه الفكرة، أنه لولا الطابور الخامس الفارسي – برجاله وأيديولوجيته – لما عرف المسلمون "الملك العضوض". وقد تعمدنا قلب المعادلة ليظهر جليا تهافت هذه الأطروحة. ويزيدها تهافتا توسيع السؤال إلى الحضارات المعروفة: فمن أين استقت الكنفوشيوسية أخلاق الطاعة؟ والفاشية والنازية والستالينية والماوية...؟ والأديولوجيات الأربع الأخيرة، أيديولوجيات حديثة، ومع ذلك ربما أن تاريخ الإنسانية لم يشهد أنظمة نفت إنسانية الإنسان كما فعلته.
أما آخر ملاحظة لدينا على هذه الخاتمة فيتعلق ب "غياب نظام واحد للقيم" في الثقافة العربية الإسلامية. والجابري لا يوضح لنا مكمن العطب في تعدد القيم، في حين أن وحدة نظام القيم قد يعني أن الأمر يتعلق بعشيرة منغلقة على نفسها، أو أن الجدلية الاجتماعية متباطئة أو متوقفة، أو أن المجتمع يرزح تحت سلطة شمولية فرضت عليه وحدة القيم؛ وهو ما يسميه الجابري ب "الحكم العضوض".
ثالثا: تضارب المناهج. يتناول الجابري، من جديد، "العقل" العربي؛ لكنه في "العقل السياسي العربي" يتطرق إليه ك "لاشعور" مستقل عن تجلياته، فهو يقرر – كما رأينا ذلك - أن " العقل" السياسي شيء وتاريخ الأفكار والحركات السياسية شيء آخر". بينما نراه يقلب منهجيته في "العقل الأخلاقي العربي"، ليصير "العقل" الأخلاقي هو مجمل ما ألف فيه !
وقد أدرك الجابري هذا الانقلاب وعلله قائلا: "ومع أن النظر في "السياسة والأخلاق" ينتمي إلى ما يسميه الفلاسفة ب "العقل العملي"، أو "العلم المدني" حسب تعبير القدماء، باعتبارهما (السياسة والأخلاق) حقلا معرفيا واحدا ينتمي إلى مجال الإرادة وليس إلى مجال العقل، مما يجعل موضوعنا من طبيعة واحدة، ويسمح بالتالي باستعمال نفس المنهج وبتوظيف نفس الجهاز المفاهيمي فيهما معا، فإن اختلاف مفهوم "العقل السياسي" عن معنى "السياسة" عندما تقرن بالأخلاق، يجعل توظيف نفس الجهاز المفاهيمي الذي تعاملنا به في الجزء الثالث [العقل السياسي العربي] غير ممكن ولا مجد، فيما نحن بصدده هنا. ذلك أن "العقل السياسي" موضوعه السياسة كما وقعت وتقع بالفعل. ومن هنا انحصر البحث في محدداتها وتجلياتها. أما "السياسة" كجزء من "العلم المدني" (والأخلاق جزؤه الأول عند القدماء)، فالمقصود بها: "السياسة" كما ينبغي أن تكون."
"في "العقل السياسي" كان الموضوع هو السياسة كما مارسها الحاكم فعلا بقطع النظر عن إرادته ونواياه، فكانت الكلمة للحكم الموضوعي. أما هنا فالسياسة فرع من "علم الأخلاق" أو تتويج له. وبالتالي فالموضوع هو: كيف كان العرب (وبالأخص المفكرون) يرون أن تمارس السياسة لتحقق الهدف الأخلاقي الإنساني المطلوب منها، وهو السعادة والخير للجميع؟ الكلمة هنا ، إذن، لحكم القيمة."(ص 20)
إن هذا التوضيح لا يزيد الأمور إلا غموضا. فهو من ناحية أولى يرد الأخلاق إلى السياسة، إلى درجة أن القارئ قد يتساءل هل أنه يقرأ "العقل الأخلاقي العربي"، أم أنه يقرأ "العقل السياسي العربي" !؟ ورغم التداخل الحاصل بين الأخلاق والسياسة، فإن المنهجية تقتضي الفصل بينهما. وهو من ناحية ثانية يغير مفهوم "العقل" الذي من المفروض ان يبقى ثابتا بصفته الخلفية (أو القاعدة) البنيوية التي تتحكم في عمل العقل وتضع له منطقه وحدوده، كما سنرى ذلك في الفقرة التالية. فإذا سلمنا بوجود عقل عربي (أو يوناني أو صيني...)، فهذا العقل له خصوصيته التي نُعاينها في كل ما ينتجه، مهما كان مجال هذا الانتاج. ولهذا فإن استعمال مفهوم "العقل" يحيل إلى المثالية أو إلى الجبرية الثقافية؛ وعيبه في الحالتين أنه يهمل كل الظواهر والعوامل الموضوعية التي تخلخل منطقه، أو أنه لا يعطيها وزنها النوعي، أو أنه يخطئ في تحليلها، أو أنه لا يراها أصلا.
رابعا: المنهجية الإجرائية. يقول الجابري:"أما عن المنهج فيمكن القول باختصار: إنه نفس المنهج الذي اتبعناه في الأجزاء السابقة، وكنا قد حددنا خطواته الثلاث في كتابنا "نحن والتراث": التحليل التاريخي، المعالجة البنيوية، الطرح الإيديولوجي. والتعديل الذي سنقوم به هنا لا يخص هذه الخطوات نفسها بل فقط طريقة ممارستها. ذلك أننا سنمارس هذه الخطوات بصورة تركيبية. ومعنى هذا أننا لن نفصل "التكوين" عن "البنية"، كما فعلنا في "العقل النظري"، ولا "المحددات" عن "التجليات"، كما فعلنا في "العقل السياسي"، بل سنسلك مسلكا أقرب إلى مسلكنا في "تكوين العقل العربي". [...]
و "الواقع أن "التحليل التكويني" والتحليل البنيوي ستتم ممارستهما هنا في آن واحد. ذلك لأننا سنتناول كل نظام من خلال ما ندعوه هنا ب "القيمة المركزية". والنظر إلى نظام ما من خلال ما يشكل فيه "القيمة المركزية" يعني التعامل مع هذه [النظم] كبنية. وإذن فالمنظور الذي ننطلق منه سيكون بنيويا. أما جانب "التكوين" فستتم معالجته من خلال النظر في "أصول وفصول" هذا النظام أو ذلك، ثم علاقة التاثير والتداخل بين النظم نفسها." (ص 23)
ويزيد الجابري قائلا: أن "الثقافة العربية قد عرفت عدة نظم من القيم وليس نظاما واحدا". [...] "وإذن ف "العقل الأخلاقي العربي" هو "عقل" متعدد في تكوينه ولكنه واحد في بنيته. هو متعدد في تكوينه لأن الثقافة العربية الإسلامية كانت وما تزال مسرحا تلتقي فيه عدة موروثات ثقافية: فمنذ عصر التدوين، الذي تلا عصر "الفتوحات" مباشرة، برز الموروث الفارسي، والموروث اليوناني، والموروث الصوفي، علاوة على الموروث العربي "الخالص" والموروث الإسلامي "الخالص"، كمكونات رئيسية وأساسية في الثقافة العربية. وبما أن كل واحد من هذه الموروثات الخمس كان امتدادا لثقافات مكتملة وراسخة، فقد كان لا بد من أن يحمل معه، بصورة أو بأخرى، نظام القيم الخاص بالثقافة التي يمثلها. ومن هنا يمكن التمييز – مبدئيا على الأقل – بين خمس نظم للقيم، في الثقافة العربية الإسلامية، سنعرض لها بعد قليل." (ص 22)
"وبطبيعة الحال كان لا بد لهذه النظم – وهي تتزاحم على مسرح الثقافة العربية – من ان يحصل بينها احتكاك وتداخل وتلاقح ومنافسة وصراع الخ، وبالتالي كان لا بد من بروز هيمنة هذا النظام من القيم، الخاص بهذا الموروث أو ذلك، في هذا العصر او ذلك، فينتج عن ذلك ما نسميه هنا ب "المحصلة" التي تبرز كممثل للثقافة العربية "الواحدة" وبالتالي ك "عقل أخلاقي عربي". والحق أن الأمر يتعلق هنا ب "محصلة" اعتبارية فقط virtuelle ! أما في الواقع المعيش فالتنافس والصراع بين نظم القيم لا يكاد يهدأ حتى يستيقظ، في جميع المجتمعات، خاصة منها تلك التي شيدت لنفسها إمبراطوريات؛ ومن هنا القلق شبه الدائم الذي تعاني منه هذه المجتمعات. والمجتمع العربي كان طوال تاريخه المديد – وما زال إلى اليوم – مجتمعا قلقا، على مستوى القيم على الأقل." (ص 22)
إن الجابري يقول انه سينطلق من منظور بنيوي دون ان يقدم توضيحا حول مضمون البنيوية التي سيخضع لها موضوع بحثه. وكما هو معلوم، فالبنيوية ليست قانونا أو قاعدة علمية مجمع عليها، إلا أن لديها بعض القواعد المشتركة. وهذا ما ركز عليه جان بياجيه في بداية الخلاصة التي ألفها تحت عنوان "البنيوية" Le structuralisme، حيث نبه إلى صعوبة تحديد البنيوية، بسبب صعوبة إيجاد قاسم مشترك للأشكال المختلفة التي لبستها ؛ ولكنه، وبعد هذا التنبيه، أجمل خصائص البنية في ثلاث، وهي: 1) الشمولية totalité la، وتعني أن البنية مكونة من عناصر تخضع للقوانين التي تميز النسق، وهذه القوانين تمنح للكل خصائص متميزة عن خصائص العناصر . وهو ما يعني أن الجماعة لها خصائصها المتميزة عن خصائص أعضائها. 2) التحويلات les transformations، وتعني أن القوانين الداخلية للبنية هي في الوقت نفسه مُبَنيِنة ومبنيَنة ( أي أن قوانين البنية تحول العناصر الدخيلة حتى تتلائم مع بنية البنية) . 3) الانضباط l’autoréglage ، أي أن البنيات تضبط نفسها بنفسها وهو ما يضمن استمراريتها مع بعض الانغلاق على الذات .
وهذه الخصائص لا نجدها في الانزال الاجرائي للبنيوية من قبل الجابري. وهو ما اعترف به عندما قال أن "الأمر يتعلق بمحصلة اعتبارية فقط"، وهذا يعني أنه عجز عن إيجاد ما يُوحِّد نظم القيم التي قام بجردها، رغم أن هذه القيم "حصل بينها احتكاك وتداخل وتلاقح ومنافسة وصراع الخ". وهكذا يسقط مفهوم "العقل" – الذي وظفه - لأنه لم يقم بالوظيفة المنتظرة منه الكفيلة بإعطاء المبدأ المُبَنين. وفي حال ما اعتبرنا أن "أخلاق الطاعة" الدخيلة هي التي هيمنت بالفعل عبر التاريخ، كما تؤكده أطروحة الجابري، فهذا يعني أن "الطاعة" هي التي تُبَنين العقل العربي "الواحد في بنيته". وهنا تعترضنا معضلة تتمثل في أن المسألة تطرح احتمالين: الإحتمال الأول يقتضي أن كل نظم الأخلاق التي شهدها تاريخ الفكر العربي الإسلامي تشوبها "أخلاق الطاعة"، فتصير بذلك أخلاق سعادة/طاعة، أخلاق مروءة/طاعة، أخلاق مصلحة/طاعة، الخ؛ وأما الاحتمال الثاني فيقتضي أن العقل العربي الإسلامي تخلى عن الأخلاق التي هي من صميمه، أي أنه تخلى عن "اخلاق المروءة" العربية و"أخلاق المصلحة الإسلامية الخالصة"، وهو بذلك لم يعد عقلا عربيا إسلاميا !
ولو أن الجابري اعتمد المنهج البنيوي حقا، لما اختتم القسم الأول قائلا: "ومن هنا بات من الضروري طرح مسألة تواجد هذه الموروثات الثقافية في الساحة العربية: أسبابها وكيفيات حضورها وأنواع الصراع والاحتكاك والتداخل التي عرفتها. والسؤال الأول الذي فرض نفسه علينا في هذا الإطار هو الذي يخص "أسباب الحضور" ! ذلك لأن حضور نظام قيم خاص بثقافة معينة داخل ثقافة أخرى لها نظام قيم خاص بها، حضورا يتجاوز بكثير المستوى الطبيعي العادي لتداخل الثقافات، كما هو الشأن بالنسبة لحضور الموروث الفارسي في الثقافة العربية، ظاهرة فريدة لا يمكن أن تفسر إلا ب "الغزو الثقافي" الذي يصاحب أو يتبع الغزو العسكري والسياسي، والذي قد يتطور إلى تلك الظاهرة المعروفة "تقليد المغلوب للغالب"، أو بنوع من "الاستيراد" الذي تكون وراءه حاجة ماسة تعاني منها الثقافة المستوردة. وبما أن العرب كانوا هم الطرف الغالب فقد اكتست عملية الاستيراد هذا شكل "تقليد الغالب للمغلوب". (ص 124-125)
فالمنهجية البنيوية لا تسمح بهذا النوع من الخلاصات، لأن توريد عناصر خارجية من قبل بنية ما، لا يتم إلا إذا كانت هذه العناصر الدخيلة لا تتعارض مع قوانين البنية ؛ وأن هذه القوانين قادرة على دمجها، ولو بصورة جدلية، أي بمعنى وحدة الأضداد. وفي كثير من الأحيان لا يفعل العنصر الدخيل إلا الكشف عن مكافئ له كان موجودا بالقوة في الثقافة المتلقية، وقد يكون هو الدافع إلى توريده. وهذا ما يفسر ظاهرة استيراد الأيديولوجيات والنظريات الفكرية، والتي ليست مجرد استيلاب فكري أو غزو ثقافي؛ ففي آخر المطاف، يبقى الإنسان هو الإنسان.
المحتوى
سنكتفي في هذه المقدمة بجس (sondage ) في المراجع التي استشهد بها الجابري، في انتظار بحث يراجع الكتاب بكامله، مثل ما فعله طرابيشي، وهو عمل ليس بالهين. وقد وقع اختيارنا على ثلاثة مفكرين يمثلون ثلاث نُظُم أخلاقية: ابن المقفع كممثل ل"أخلاق الطاعة"؛ مسكويه كممثل ل"النزعة التلفيقية"؛ والعز بن عبد السلام كممثل ل"أخلاق المصلحة الإسلامية".
وهذا الاختيار لم يكن اعتباطيا. ف"كليلة ودمنة" كتاب متداول جدا، ولا يخلو كتاب مطالعة مدرسي من مقتطفات منه. أما مسكويه فهو موضوع بحث مشهور لمحمد أركون جعل منه أحد ممثلي الإنسية العربية في القرن الرابع. وسنذكر سبب اختيار العز بن عبد السلام عندما يأتي دوره.
ابن المقفع و"اخلاق الطاعة"
يقول الجابري في أول جملة من الفصل السابع الذي عنوانه "التشريع للدولة الكسروية في الإسلام": "معروف في التاريخ الإسلامي أن ابن المقفع كان أكبر ناشر ومروج للقيم الكسروية وإيديولوجيا الطاعة، في الساحة الثقافية العربية الإسلامية" (ص 171).
ولاختبار مدى صحة هذا الحكم راجعنا أهم مؤلفات ابن المقفع باحثين عن "أخلاق الطاعة" المزعومة لديه. وقد مكنتنا هذه المراجعة من التعرف على ما هو أهم لفهم إشكاليته، ألا وهو تحديد الموقع الذي كان يتكلم منه، والجمهور الذي كان يخاطبه، وطبيعة الأخلاق التي كان يروجها.
في "كليلة ودمنة" وجدنا جملة، يخاطب فيها دبشليم الفيلسوف بيدبا، تلخص بشكل ما إشكالية الكتاب وما تحمله من تناقض ظاهري. يقول دبشليم: "وقد أحببت أن تضع لي كتابا بليغا تستفرغ فيه عقلك، يكون ظاهره سياسة العامة وتأديبها على طاعة المَلك، وباطنه أخلاق الملوك وسياستها للرعية، فيسقط بذلك عني وعنهم كثير مما نحتاج إليه في معاناة المُلك. وأريد أن يُبقي لي هذا الكتاب ذكرا على غابر الدهور."
وقد انتبه الجابري نفسه لهذا "التناقض" (ص 173-174)، لكن هذا لم يدفعه إلى مراجعة أطروحته. في حين أن الجملة السابقة الذكر تلمح إلى أن الطاعة نتيجة لطبيعة السياسة العامة للرعية ولأخلاق الملك. وكأن لسان حالها يقول: إذا كنت تريد، أيها الملك، أن تطيعك الرعية فعليك أن تكون أهلا لذلك. وهو ما يقلب المعادلة رأسا على عقب.
لكن الجابري يرى خلاف هذا. ففي معرض تعليقه على الشاهد السابق الذكر يقول: "من هذين النصين [لأنه أورد نصا آخر] نتبين بسهولة موضوعات الكتاب: 1) "سياسة العامة وتأديبها"، وذلك هو معنى الطاعة. 2) "أخلاق الملوك وسياسة الرعية". 3) "رياضة عقول الخاصة"، وهذا هو موضوع "صحبة السلطان" أو "أدب الكاتب" بصورة خاصة. 4) "سياسة الإنسان نفسه وأهله وخاصته". وذلك هي أبواب "الأدب" أو الأخلاق، في الموروث الفارسي المنحدر إلى الثقافة العربية." (ص 175-176)
الجابري يفهم "سياسة العامة وتأديبها" بمعنى "الترويض". كما أنه يخمن: "أن مصطلح "الأدب"، بالمعنى الذي شاع به في العصر الأموي، أي بوصفه "تقويم السلوك"، إنما يجد أصله وفصله في الموروث الفارسي، وأن الهدف منه هو تحقيق "الطاعة"، وبالتالي يكون معنى "الأدب"، عاريا من كل أدب هو: التطويع." (ص 176)
وهذا التأويل مصدره رد الأخلاق إلى السياسة – الذي نبهنا له سابقا - والذي كان من نتائجه عدم التمييز بين ما يخضع في النصوص لمنطق الأخلاق وما يخضع لمنطق السياسة. وقد ساهم في هذا الخلط كون ابن المقفع – وغيره - يمزج بينهما. والفرق بين الأخلاق والسياسة، هو أن الأخلاق تخاطب الضمير والإرادة، أما السياسة فإنها تحيل إلى الدولة. فإذا قلنا "أخلاق الطاعة" – مع التركيز على "أخلاق" - فهذا يعني أن الطاعة فعل يصدر تلقائيا عن ضمير الشخص، كطاعة الوالدين التي تعني البر بهما؛ أو حتى طاعة أولياء الأمر، التي قد تكون طاعة إرادية صادرة عن احترام للشرعية.
إن الطاعة بصفتها "تطويعا" ليست مقولة أخلاقية بل مقولة نفسية لأنها تقوم على الخوف، الذي هو أحد روافع السياسة. وهي ليست في حاجة لأن تستورد، ففي كل المجتمعات نجد طاعة مفروضة بالقوة؛ وطاعة طوعية، قد تكون من قبيل العبودية الطوعية، حسب تعبير بوسيي Bossuet.
وإذا كان مفهوم "الطاعة" هو "التطويع"، فإن المسألة تخرج من مجال الأخلاق وسجلها لتدخل في مجال السياسة وسجلها، لأنها تخرج من مجال الإرادة إلى مجال الإكراه. وهذه الإزاحة من مجال الأخلاق لا بد منها، لأن "أخلاق الطاعة/التطويع" طباق (اجتماع للفظين متضادين) يجعل المفهوم يسقط بفعل تناقضه الداخلي . وعندما تتحول الطاعة إلى تطويع، تتحول بدورها مقولة "أخلاق الطاعة من الموروث الفارسي" إلى "التطويع من الموروث الفارسي" ! والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل الثقافة الفارسية، والدولة الممثلة لها، هي وحدها - دون باقي الثقافات والدول في الماضي أو الحاضر- التي تفرض الطاعة على رعاياها؟ وإذا عكسنا القضية يصير السؤال: هل بدون الفرس كانت ستنتفي سياسة التطويع؟ وعبثية هذا السؤال برهان على عبثية الأطروحة.
إن للدولة منطقا مختلفا عن منطق الأشخاص. فالدولة عليها أن تقاوم عوامل التفكك الخارجية والداخلية، ووسيلتها إلى ذلك تخضع لمنطق الدولة la raison d’État ، وهوغير منطق الأخلاق.
ولنفهم ابن المقفع، يجب أن نفهم كيف يتداخل لديه منطق الأخلاق بمنطق السياسة. وتكفينا لهذا الفهم الأسباب القريبة التي تقدمها لنا سوسيولوجيا الفئة التي ينتمي إليها، إذ أننا لسنا في حاجة إلى أسباب ثقفانية بعيدة لذلك. فابن المقفع ينتمي إلى النخبة البيروقراطية، وهذه النخبة – كمثيلتها في العصر الحاضر – يتنازعها شعوران متناقضان إزاء الدولة: فهي تخدمها وتخدم نفسها في الوقت نفسه، حتى أنها تعتقد أنها الدولة؛ ولكنها تخاف على مواقعها من مزاجية الرؤساء وتقلب السياسات . وهذا ما يفسر اجتماع المتناقضات في كتابات ابن المقفع، والنزعة الانتهازية التي تشوب بعض مواقفه. فهو يخدم السلطان ويحذر منه في الوقت نفسه. وبعض كتاباته تشبه السير الذاتية Curriculum vitae التي يرفقها بطلباتهم المترشحون لوظيفة ما في عصرنا الحاضر. فهو يعرض خبرته في سوق البيروقراطية.
وقد خص آدم ميتز في كتابه الموسوعي "الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري" عددا من الفصول للنخبة الحاكمة . ورغم أن زمن الكتاب هو القرن الرابع، إلا أنه من الممكن تعميم ما ورد فيه عن الإدارة والنخبة على القرون السابقة واللاحقة لأن البنية السياسية والاجتماعية لم تتغير بشكل جدري. وفي معرض حديثه عن الإدارة استوقفتنا هذه الفقرة: "وعلى حين أننا لا نجد بين قواد الجيش إلا أسماء قوم من الموالي فإن وظائف الدواوين كانت وقفا على الأحرار، "وكان الفرس هم شحنة دواوين الخلافة... فمنهم البرامكة، وآل ذي الرياستين، وإلى يومنا هذا منهم المادرائيون والفريابيون . ولما كانت الصبغة الغالبة على عمال الدواوين هي الصبغة الاقتصادية المالية، فقد كان لا بد للواحد منهم من أن تتوفر لديه بعض خصال التاجر، وكان الفارسي أمهر تاجر في المملكة الإسلامية."
إن هذا الشاهد يعطينا قرينة مهمة لتحديد خصائص هذه النخبة، ويتعلق الأمر ب "خصال التاجر"، وهوما يحيلنا إلى خصائص البورجوازية. ومع كل الحذر المنهجي من السقوط في المغالطات التاريخية anachronisme، فإننا نجد عند ابن المقفع خصائص ما يسمى بالأخلاق البوجوازية. وما يميز البورجوازي عن الارستقراطي هو كونه وصل بعمله وذكائه وليس بنسبه، ولهذا فإنه يميل في اخلاقه إلى كل ما هو عملي. وبما أنه من النخبة الحضرية، فإنه يريد التميز عن العامة بسلوكه وهيأته، رافعا هذه الرغبة في التميز إلى مرتبة الأخلاق. وهذا ما نجده أيضا في أخلاق ابن المقفع.
وإذا دمجنا بين وظيفة ابن المقفع والنخبة الاجتماعية التي ينتمي إليها، يمكننا القول أنه ينتمي إلى البورجوازية البيروقراطية التي وصلت إلى المكانة التي تتبوؤها بفضل خصالها الفردية، وليس لأنها تنتمي للأرستوقراطية الحاكمة. وهي تشبه من حيث خصائصها البورجوازية الغربية في علاقتها بالأرستوقراطية، قبل العصور الحديثة. وكما أن البوجوازية كانت تطمح إلى مشاركة الأرستقراطية في السلطة، دون أن تطيح بها بالضرورة، فإن مقابلتها في الدولة الإسلامية كان لديها الطموح نفسه.
إن أول ما يجده القارئ في كليلة ودمنة هو التحذير من صحبة الحاكم، الذي يرد في نصوص ابن المقفع باسم السلطان أو الملك أو الوالي. ورمزيا، يتقمص هذا الحاكم صورة الأسد أو الفيل أو الثور... وهذا التحذير معبر عنه بصريح العبارة وليس بالتلميح فحسب: "قال كليلة: أما إن قلت هذا أو قلت هذا فإني أخاف عليك من السلطان، فإن صحبته خطرة، وأحذرك من الذي أردته لِعظم خطره عندك. وقد قالت العلماء: إن ثلاثة لا يجترئ عليهن إلا أهوج ولا يسلم منهن إلا قليل، وهي صحبة السلطان، وائتمان النساء على الأسرار، وشرب السم للتجربة" .
وشتان بين القول بطاعة السلطان والقول بالحذر منه.
والقوي في الحكايات، أسدا كان أو فيلا أو ثورا... كثيرا ما تنطلي عليه حيلة من هو أضعف للإيقاع به، والقوي في هذه الحالات موضوع سخرية - لأنه استدرج للإيقاع به - وليس موضوع طاعة. فنحن في هذه الحكايات أبعد ما نكون عن القوي المُطاع، ولا حتى عن الصورة التي يريد الملوك أن يظهروا بها. والحكمة في هذه الحكايات أن الضعيف يمكن أن ينتقم من القوي بحيلته، فهي رسالة تحذير موجهة للحاكم. وهو ما تعبر عنه حكاية "مثل القنبرة والفيل" ، أو حكاية "الأرنب والأسد" . والرسالة التي تريد إيصالها هذه الحكايات للحاكم مفادها: إياك أن تستغل ضعفي لتتجاوز حدودك، فالضعيف أيضا يمتلك كثيرا من الوسائل للنيل من القوي.
وقد ختم ابن المقفع الكتاب على لسان الفيلسوف قائلا: "وقد جمعت لك في هذا الكتاب شمل بيان الأمور وشرحت لك جواب ما سألتني عنه منها، تزلفا إلى رضاك وابتغاء لطاعتك، فابلغتك في ذلك غاية نصحي واجتهدت فيه برأيي ونظري ومبلغ فطنتي. والله تعالى يقضي حقي بحسن النية منك في إِعمال فكرك وعقلك فيما وضعت لك من النصيحة والموعظة. مع أنه ليس المنصوح بأولى بالنصيحة من الناصح، ولا الآمر بالخير بأسعد من المطيع له فيه. فافهم ذلك أيها الملك، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم" .
إن قول الفيلسوف أنه يتزلف رضا الملك ابتغاء لطاعته مجرد كلام بروتوكولي، ولا يعني بأن الكتاب يدعو إلى "أخلاق الطاعة"، على عكس مضمونه. وبعض الملوك – خاصة أولئك الذين لا يقبلون من رعاياهم إلا الطاعة العمياء - لا يحبون النصيحة أصلا، عملا بمبدأ "من تَجرَّأ لك تجرأ عليك".
أما في "الأدب الكبير" و"الأدب الصغير" فقد وجدنا الأخلاق النخبوية التي تحدثنا عنها. ورغم أن الأسلوب انتقل من الحكايات إلى المقالة والشذرات، فإن المناخ العام لم يتغير إذ بقى مشوبا بالحذر. وهذه الأخلاق النخبوية تظهر على حين فجأة ضمن سرد لأخلاق اعتدال ومروءة وتواضع... مثل فلتة اللسان التي تعبر عن حقيقة ما يختلج في خبايا النفس. بحيث أن فقرة من الأخلاق النخبوية تمحي ما سبقها وتبعها من أخلاق إنسية. ولهذا تبدو هذه الأخلاق الإنسية كأناقة سلوك تزيد من أناقة المظهر. فالأخلاق عند ابن المقفع هي مسألة مظهر وتظاهر في مسرح النخبة؛ مثلها مثل الحقيقة التي ليست لها قيمة في ذاتها، بل في "الموضع" الذي تقال فيه، وإجماع الناس عليها. فمعيار الحقيقة بهذا المعنى قيمتها الاجتماعية قبل قيمتها المنطقية ، إذ يقول ابن المقفع:
"أخزن عقلك وكلامك إلا عند إصابة الموضع، فإنه ليس في كل حين يحسن الصواب؛ وإنما تمام إصابة الرأي والقول، بإصابة الموضع؛ فإن أخطأك ذلك، أدخلت المحنة على عملك حتى تأتي به - إن أتيت به - في غير موضعه وهو لا بهاء ولا طلاوة له."
وفي موضع آخر يقول: "وعلى العاقل أن يجبن عن الرأي الذي لا يجد عليه موافقا وإن ظن أنه على يقين."
وكما أن للحقيقة موضعها، فللأخلاق موضعها:
"الناس طبقتان متباينتان، وعلى العاقلِ أن يجعل الناسَ طبقتينِ متباينتينِ، ويلبس لهم لباسينِ مختلفينِ؛ فطبقةٌ من العامة يلبسُ لهم لباسَ انقباضٍ وإنجاز وتحفظٍ في كل كلمةٍ وخطوةٍ؛ وطبقةٌ من الخاصة يخلعُ عندهم لباسَ ويلبسُ لباس الآنسة واللطف والبذلة والمفاوضة. ولا يدخل في هذه الطبقة إلا واحداً من الألف، وكلهم ذو فضلٍ في الرأي، وثقةٍ في المودة، وأمانةٍ في السر، ووفاءٍ بالإخاء."
وهذه النخبوية تعبر عنها أيضا في كليلة ودمنة حكاية: "مثل الغراب الذي أراد أن يدرج كالحجلة". ويوضح ابن المقفع مقصود الحكاية قائلا: "والولاة أيها الملك وأرباب الأمر أولى بالانتباه إلى هذا الشأن ومنع حدوثه بين الناس لأن فيه مضرة لهم بما يُجَرِّئ الأنفس على منازعتهم في منازلهم ويغريها بمقاومتهم في أحكامهم لِما فيه من إِطماع السفلة في مراتب اهل الطبقة العالية، ومزاحمة اللئيم للكريم، والجاهل للعالم، والخامل للنسيب، والدنيئ للشريف، إلى غير ذلك مما يفضي إلى تشوش العالم وفساد الأمور واختلاط الطبقات وضياع المراتب والأقدار. والأمور في ذلك تجري على مثال واحد ينتهي إلى الأمر الخطير الجسيم من مزاحمة الملك على ملكه ومضادته فيه."
ونخبة النخبة عند ابن المقفع هي فئة العلماء، إذ يقول:
"أحق الناسِ بالسلطان أهل المعرفة، وأحقهم بالتدبير العُلماءُ، وأحقهم بالفضل أعودهم على الناس بفضله، وأحقهم بالعلمِ أحسنهم تأديباً، وأحقهم بالغنى أهل الجود، وأقربهم إلى االله أنفذهم في الحق علماً وأكملهم به عملاً، وأحكمهم أبعدهم من الشك في االله تعالى، وأصوبهم رجاءً أوثقهم باالله، وأشدهم انتفاعاً بعلمه أبعدهم من الأذى، وأرضاهم في الناسِ أفشاهم معروفاً، وأقواهم أحسنهم معونةً، وأشجعهم أشدهم على الشيطان، وأفلحهم بحجةٍ أغلبهم للشهوة والحرصِ، وآخذهم بالرأي أتركهم للهوى، وأحقهم بالمودة أشدهم لنفسهِ حباً، وأجودهم أصوبهم بالعطية موضعاً، وأطولهم راحةً أحسنهم للأمورِ احتمالاً، وأقلهم دهشاً أرحبهم ذراعاً، وأوسعهم غنى أقنعهم بما أبعدهم من الإفراط، وأظهرهم جمالاً أظهرهم حصافة، وآمنهم في الناس آكلهم ناباً وخلباً، وأثبتهم شهادةً عليهم أنطقهم عنهم، وأعدلهم فيهم أدومهم مسالمةً لهم، وأحقهم بالنعمِ أشكرهم لما أوتي منها... "
وفي موقع آخر يقول: "أحق الناس بالسلطان أهل المعرفة وأحقهم بالتدبير العلماء...."
هذا الاستشهاد يبين لنا أن المثقف، مثل ابن المقفع، هو الأهل بالسلطان؛ وهذا يدل على أننا أبعد ما نكون عن "أخلاق الطاعة" وأقرب ما نكون إلى المطالبة بالندية. والعالم عند ابن المقفع لا يتميز بالعلم فحسب، بل بحسن السلوك أيضا. وهكذا يتميز عن العامة بشكل مزدوج: بالعلم وبالسلوك.
والنخبة التي يخاطبها ابن المقفع تشمل الحكام وحاشيتهم. ولهذا فإن خطابه يشتمل على خطاب عام موجه لكل النخبة، وإلى خطابات فرعية، بعضها للحكام وبعضها الآخر للحاشية.
وعندما يتعلق الأمر بنصيحة الحكام كان ذلك من موقع الندية، بل من موقع التعالي بصفته مثقفا يعلم ما لا يعلمه الحاكم، ولهذا فإنه يرخص لنفسه أن يضعه موضع التلميذ. ونصيحته تشمل ما يجب أن يتصف به الحاكم من خصال، وطريقة تدبير الشأن العام؛ وأهم من كل هذا، كيف يجب له أن يظهر في أعين الناس، إذ يقول: "جماع ما يحتاج إليه الوالي رأيان: رأي يقوي سلطانه ورأي يزينه في الناس، ورأي القوة أحقهما بالبدائة وأولاهما بالأثرة، ورأس التزيين أحضرهما حلاوة وأكثرهما أعوانا مع أن القوة من الزينة والزينة من القوة لكن الأمر ينسب إلى أعظمه."
فابن المقفع يعطي للاتصال la communication أهمية كبرى، وهو يحيلنا بذلك إلى خبراء الاتصال المعاصرين. فلا يترك مجالا من مجالات السلوك إلا ويقول فيه ما يليق بالحاكم وما لا يليق، من زاوية مفعوله على الحاشية والرعية.
وعندما يخاطب الحاشية فإنه يعطيها دروسا في سيكولوجيا الحكام وطريقة التعامل معهم، و يكثر من النصائح في هذا الميدان. وبعض هذه النصائح يدخل فيما نسميه اليوم بالبروتوكول. إذ يقول: "لا تكون صحبتك للملوك إلا بعد رياضة منك لنفسك على طاعتهم في المكروه عندك، وموافقتهم فيما خالفك، وتقدير الأمور على ميلهم دون ميلك وعلى أن لا تكتمهم سرك ولا تستطلع ما كتموه، وتخفي ما اطلعوك عليه من الناس كلهم حتى تحمي نفسك الحديث به، وعلى الاجتهاد في رضاهم والتلطف لحاجاتهم والتثبيت لحجتهم والتصديق لمقالتهم والتزيين لرأيهم وعلى قلة الاستقباح لما فعلوا إذا أساؤوا، وترك الاستحسان لما فعلوا إذا أحسنوا، وكثرة النشر لمحاسنهم، وحسن الستر لمساويهم والمقاربة لمن قاربوا وإن كان بعيدا والمباعدة لمن باعدوا..."
ولو كانت الطاعة هي الخصلة المرغوبة في حاشية الحاكم بغض النظر عن أي اعتبار آخر، لما قال: "إن ابليت بصحبة وال لا يريد صلاح رعية فاعلم أنك قد خيرت بين خلتين ليس بينهما خيار: إما ميلك مع الوالي على الرعية وهذا هلاك الدين، وإما الميل إلى الرعية على الوالي وهذا هلاك الدنيا ولا حيلة لك إلا بالموت أو الهرب، واعلم أنه لا ينبغي لك وإن كان الوالي غير مرضي السيرة إذا علقت حبالك بحبله إلا المحافظة عليه إلى أن تجد إلى الفراق الجميل سبيلا..." .
والحاصل من النصين السابقين أن هناك حدودا لمحاباة الحكام، لأن تصرف بعض الحكام قد يكون وبالا على الجميع، وما أشبه اليوم بالبارحة.
أما "رسالة الصحابة" (وهي نص قصير) فيمكن اعتبارها تقريرا لخبير يقترح فيه وسائل للرفع من فعالية الإدارة، بما فيها الجيش. ويشبه ابن المقفع فيها الموظفين أو الخبراء المعاصرين الذين توكلهم الدولة، أو يوكلون أنفسهم كخبراء مستقلين، لانجاز تقارير للرفع من نجاعة مرفق من مرافق الدولة. وكما أننا لا نحكم اليوم على وظيفة هؤلاء إلا بمعيار الكفاءة، وجب أن نحكم على نظيرهم السابق بالمعيار نفسه.
نجد في هذا الكتاب دعوة إلى:
- فرض الانضباط في الجيش: "وأما ما يحتاجون فيه إلى التأديب من ذلك تقويم أيديهم ورأيهم وكلامهم فإن في ذلك القوم أخلاطا من رأس مفرط غال وتابع متحير شاك. ومن كان إنما يصول على الناس بقوم لا يعرف منهم الموافقة في الرأي والقول والسيرة... فهو كراكب الأسد الذي يوجل من رآه والراكب أشد وجلا."
- الفصل بين الدين والأمور الدنيوية التي للحاكم التدبير فيها حسب ما تقتضيه الظروف: "ثم جعل ما سوى ذلك [الأمور الدينية] من الأمر والتدبير إلى الرأي وجعل الرأي إلى ولاة الأمر وليس للناس في ذلك الأمر شيء إلا الإشارة عند المشورة والإجابة عند الدعوة والنصيحة بظهر الغيب."
- تحديد أجور للجيش ودفعها في وقتها المحدد وتكليف ديوان بذلك .
- الفصل بين وظيفتي الجيش وجباية الخراج .
- الاستعانة بالكفاءات الموجودة في العراق وألا يهمش بلدا بكامله بسبب فساد ولاته السابقين .
- توحيد الأحكام .
- اختيار الحاشية .
- تنظيم عملية التسيير والانتاج في الأراضي الفلاحية ...
هذا ما قرأناه في "رسالة الصحابة"، وهوعكس ما قرأه الجابري الذي يقول: "يمكن أن يقال إن ابن المقفع إنما كان ينقل ويترجم [التراث الفارسي] وأنه ليس من المؤكد أنه كان يتبنى نفس الآراء في طاعة السلطان، خصوصا وأنه كان مغضوبا عليه وقد قتله المنصور العباسي. غير أن هذا الرأي يكذبه دفاع ابن المقفع عن "طاعة السلطان" بقوة في "رسالة الصحابة" وهي تقرير رفعه إلى المنصور يشرح فيه الوضع في الدولة ويقترح عليه اقتراحات كلها تخدم النزوع الاستبدادي للمنصور." (ص 177)
والحقيقة أننا لم نصادف في الرسالة على ما يدل على أنها "نقل وترجمة"، فهي نص ظرفي محض. كما أننا لا نفهم كيف يمكن أن يكون فرض الانضباط على الجيش ودفع أجور الجنود في مواقيت محددة، والفصل بين وظيفتي الجيش والجباية، و توحيد الأحكام الخ، خدمة لنزوع استبدادي، إلا إذا اعتبرنا الفوضى وسوء التدبير شرطا لانتفاء الاستبداد. أما "طاعة السلطان" في الرسالة فليست إلا ديباجة بروتوكولية.
وإذا كان ابن المقفع يعبر عن شيء، فإنه يعبر عن ذهنية. ذهنية "خدام الدولة" – كما نسميهم اليوم - أي فئة الموظفين الذين يتماهون مع الدولة لأنهم أعضاؤها التي تتحرك بواسطتها. وطاعتهم تعني الانضباط الذي بدونه تنهار الدولة. والمعروف عن الموظفين الكبار، وهم في غالبيتهم من الخبراء، انهم لا يحبون أن يرأسهم من هو أقل كفاءة منهم، خاصة وأنهم مكلفون بالملفات التقنية التي قد لا يفقه فيها بعض الوزراء أو الرؤساء شيئا. ولهذا يشعرون بان لهم شرعية تقنية تفوق الشرعية السياسية (هذا إن وجدت). والندية التي كان يخاطب بها ابن المقفع الحاكم تدل على أنه كان يتوق إلى قيام حكم الجدارة méritocratie.
لقد انطلق الجابري من الأطروحة/المسلمة التي تعتبر ابن المقفع ممثلا ل"أخلاق الطاعة"، وبما أنه لم يجد في ما كتبه ابن المقفع ما يؤكد أطروحة، فإنه حاول في خاتمة الفصل تعليل هذا الغياب، قائلا: ولا يملك المرء وهو يقرأ ما سجل من سيرة ابن المقفع، الذي كان غنيا كريما يعيش عيشة الارستقراطية الفارسية، إلا أن يرى فيه صاحب مشروع حضاري قوامه إلباس الدولة العباسية الناشئة لباس الدولة الساسانية. وهذا واضح من جميع كتبه، فهي تدور جميعها حول "السلطان" أي ما نسميه اليوم "الدولة"، علما بأن الدولة كما عرفها ابن المقفع، أي كما تتمثل في النموذج الساساني، كانت دولة فرد لا دولة "مدينة" أو مجتمع."
"على أن مما يثير الانتباه حقا أن نصوص ابن المقفع تخلو تماما من أية عناصر إسلامية أو عربية. فلا ذكر لآية قرآنية ولا لحديث ولا لقولة صحابي أو لشيء عربي، في الجاهلية أو الإسلام... ! وهذا السكوت المطبق والمتعمد عن المرجعيات العربية الإسلامية يوازيه ويعضده السكوت عن المرجعيات الفارسية ! إنه لا يذكر لا أردشير ولا أنوشروان ولا بزرجمهر ولا يشير إلى أية مرجعية فارسية ولو حتى من قبيل "قال حكيم فارسي...". وهذا سكوت غير بريء ! إن السكوت عن المرجعيات عن المرجعيات الفارسية لا يمكن أن يفسر إلا بكونه كان من أجل السكوت عن المرجعيات العربية والإسلامية." (ص 195)
فالجابري يرى ان جُرم ابن المقفع - ونقول جُرم لأن "سكوته غير بريء" – يكمن في لجوئه للتقية لتمرير مشروعه الذي يفصل بين شؤون الدين وشؤون الحياة، "ذلك ان الله جعل قوام الناس وصلاح معاشهم ومعادهم في خلتين: الدين والعقل. الدين شرع لأمور العبادة وبعض أمور المعاش وترك الباقي وهو كثير لا يحصى ل"العقل". ولو أن الدين شرع للناس كل شيء "لكانوا قد كلفوا غير وسعهم... ولحارت عقولهم وألبابهم التي امتن الله بها عليهم ولكانت لغوا لا يحتاجون إليها في شيء". لكن، أي "عقل" هذا [يتساءل الجابري] الذي يقتسم التشريع مع الدين بل يختص بالقسم الأكبر منه؟ إنه عقل "الإمام". ولكن الإمام عند ابن المقفع ليس كإمام الشيعة المختص بعلم النبوة، كلا. إن الإمام عند ابن المقفع هو "كسرى"، في ثوب "أبي جعفر المنصور"، المخاطب في "رسالة الصحابة". (ص 196)
أليس ما رأى فيه الجابري دعوة إلى إعطاء "الإمام" حصة الأسد في التشريع، ليس في الواقع إلا دعوة لفصل الدين عن الدنيا، أي دعوة لاستقلال السياسة عن الدين، أي لضرب من العَلمانية قبل أوانها؟ فليس من "إمام" عند ابن المقفع غير الدولة ذاتها.
لقد كان ابن المقفع ينظر للأخلاق والدولة نظرة ستتضح أكثر مع منظري السياسة في العصور الحديثة، مثل مكيافيل وهيجل وغيرهما . فالدولة هي أداة العقلنة في المجتمع والتاريخ، ودورها يتمثل في فرض الإصلاحات من فوق وفق منطقها وليس منطق الأخلاق الفردية. وحتى لو أن ابن المقفع اتخذ من الدولة الساسانية نموذجا، فهو ليس النموذج الذي اعتقده الجابري، بل نموذج الحنكة الإدارية التي كانت معروفة بها.
مسكويه كممثل ل"النزعة التلفيقية"
تطرق الجابري لمسكويه في الفصل الخامس عشر الذي عنوانه: "النزعة التلفيقية: مقابسات من السعادة.. والاستبداد !" و جل مقاله مخصص لكتاب "تهذيب الأخلاق" من زاوية "موقعه على مسرح التنافس بين أنصار الموروث الفارسي وأنصار الموروث اليوناني." (ص 406)
يقول الجابري أن مسكويه كمعاصره العامري - الذي تطرق له من قبل – ينتمي إلى جماعة "المقابسات" وينطبق عليه ما ينطبق عليهم (ص 406). وبعد عرضه لمرجعيات الكتاب وأغلبها يوناني ( أفلاطون، أرسطو، جالينوس...) بوساطة هلنستية، مع قليل من المصادر العربية؛ يقول: "هذا الخليط من الآراء والمرجعيات صاغه مسكويه صياغة فريدة: مظهر علمي أرسطي. ومضمون متنوع يتناقض كثير منه مع الروح الأرسطية. إنها ظاهرة "المقابسات" تفرض نفسها هنا حتى على من أريد منه أن يكون خاضعا لمنهج علمي . أما نظام القيم الذي يحكمه فذلك ما سنكشف عنه في حينه." (ص 407)
فما هو نظام القيم الذي يحكم ظاهرة "المقابسات"؟ الجواب على هذا السؤال نجده في خاتمة الفصل، إذ يقول الجابري: "إذا كان لنا أن نخلص إلى نتيجة ما عامة من هذا الفصل الذي خصصناه لأبي الحسن العامري وأبي علي مسكويه، وهما من مدرسة واحدة، مدرسة "المقابسات"، أمكن القول إن ما أذاعاه في الساحة الثقافية العربية، من أخلاق وقيم، انطلاقا من الجمع بين الموروث الفارسي ونظيره الموروث اليوناني ينطوي على مفارقة خطيرة:
ذلك ان نظام القيم في الموروث اليوناني إذ يجعل "السعادة" قيمة مركزية له، سعادة الفرد وسعادة الجماعة/المدينة، يربط هذه السعادة – ربط معلول بعلة – بالمعرفة الشاملة – بقدر ما يستطيع الإنسان، المعرفة بوصفها العنصر المقوم للكمال الإنساني الذي يعني تحرر العقل من كل تبعية أو قيد والارتفاع إلى أقرب مستوى من الكمال الإلهي. بعبارة قصيرة: القيمة المركزية في نظام القيم اليوناني هو الكمال الإنساني ، الذي يعني ابتعاد الفرد البشري أكثر ما يمكن عن جنسه: الحيوان. وبما أن ما يميز الإنسان عن الحيوان هو العقل فإن الكمال الإنساني هو كمال العقل. والعقل ينمو بالمعرفة، وإذن فالكمال الإنساني يكون بتحصيل الفرد البشري أكبر قدر يستطيع من المعرفة بنفسه وبالمجتمع وبالكون وبالله. والهدف من الأخلاق والسياسة معا هو تمكين الإنسان من ذلك.
أما نظام القيم في الموروث الفارسي – على الأقل كما راج في الثقافة العربية – فالقيمة المركزية فيه هو نموذج أردشير. الحاكم الذي يؤسس حكمه على الدين وينصب نفسه حارسا له، فيضمن لنفسه الطاعة. ومع أن الإسلاميين قد فهموا (أو أرادوا أن يفهموا منه) أنه يحرس الدين ويطبقه فإن الواقع الاجتماعي السياسي في الإسلام، كما هو في مخيال المسلمين، لم يشهد مثل هذه النموذج، إلا في الخلفاء الأربعة وعمر بن عبد العزيز، وبالتالي فالنموذج المطبق في الأغلب الأعم هو الحارس لحكمه من الدين أي من الشعب. وفي جميع الأحوال فالقيمة المركزية هي الاستبداد.
والمفارقة الخطيرة التي نريد إبرازها هنا هي أن الجمع الذي قام به كل من العامري ومسكويه، بين الموروث اليوناني والموروث الفارسي، يترتب عنه حتما الجمع بين القيمتين المركزيتين فيهما: السعادة والاستبداد. والأدبيات الأخلاقية السياسية في الإسلام التي تغرف من الموروث اليوناني ، بما في ذلك "مدينة الفارابي" كما رأينا، تلغي "السعادة" بالمعنى الذي شرحناه أعلاه، إما بتأجيلها إلى الحياة الأخرى وإما بربطها في هذه الدنيا في بنموذج أردشير، الحاكم المستبد الحارس للدين مظهرا، والحارس لحكمه من الدين (أي الشعب) واقعيا.
بعبارة أخرى، وسواء تعلق الأمر بخطاب فلسفي ميتافيزيقي كما عند الفارابي أو بخطاب أخلاقي تطبيقي واعظ، كما عند العامري ومسكويه، فالمفارقة قائمة، وتتمثل في تبني "أخلاق السعادة" على صعيد الخطاب، والوقوع تحت هيمنة الكسروية على صعيد النموذج المهيمن على العقل العارض لذلك الخطاب." (ص 419 -420)
وهنا نعود إلى صلب المقال لنعرض قرائن الجابري التي يدعم بها هذا الاتهام. يقول الجابري: "ولكن مسكويه لا يلبث أن يترك أرسطو ل "يقتبس" هذه المرة من الفلسفة الدينية الهرمسية الفيضية التي كان طريقه إليها نصوص أو رجال "إخوان الصفاء" من جماعة "المقابسات" – ربما !"
ثم يثبت اقتباسا من نص نفضل نقله كاملا حتى يتضح للقارئ سياقه وإشكاليته، والفقرة المسودة والمؤطرة بقوسين هي استشهاد الجابري. قال مسكويه:
"تنقسم الفلسفة إلى قسمين: الجزء النظري والجزء العملي، فإذا أكمل الإنسان الجزء العملي والجزء النظري فقد سعد السعادة التامة. أما كماله الأول بإحدى قوتيه ، أعني العالمة، وهي التي يشتاق بها إلى العلوم، فهو أن يصبر في العلم بحيث يصدق نظره وتصح بصيرته وتستقيم رويته، فلا يغلط في إعتقاد ولا يشك في حقيقة، وينتهي في العلم بأمور الموجودات على الترتيب إلى العلم الإلهي الذي هو آخر مرتبة العلوم، ويثق به ويسكن إليه ويطمئن قلبه، وتذهب حيرته وينجلي له المطلوب الأخير حتى يتحد به، وهذا الكمال قد بينا الطريق إليه وأوضحنا سبله في كتب أخرى. وأما الكمال الثاني الذي يكون بالقوة الأخرى، أعني القوة "العاملة"، فهو الذي نقصده في كتابنا هذا، وهو الكمال الخلقي ومبدؤه من ترتيب قواه وأفعاله الخاصة بها، حتى لا تتغالب وحتى تتسالم هذه القوى فيه، وتصدر أفعاله كلها بحسب قوته المميزة منتظمة مرتبة كما ينبغي، وينتهي إلي التدبير المدني الذي يرتب الأفعال والقوى بين الناس، حتى تنتظم ذلك الإنتظام ويسعدوا سعادة مشتركة كما كان ذلك في الشخص الواحد. فإذا الكمال الأول النظري منزلته منزلة الصورة، والكمال الثاني العملي منزلته منزلة العادة [المادة] ، وليس يتم أحدهما إلا بالآخر لأن العلم مبدأ والعمل تمام، والمبدأ بلا تمام يكون ضائعا والـتمام بلا مبدأ يكون مستحيلا، وهذا الكمال هو الذي سميناه غرضا.
وذلك أن الغرض والكمال بالذات هما شيء واحد، وإنما يختلفان بالإضافة، فإذا نظر إليه وهو بعد في النفس ولم يخرج إلي الفعل فهو غرض، فإذا خرج إلي الفعل وتم فهو كمال. وكذلك الحال في كل شيء، لأن البيت إذا كان متصورا للباني وكان عالما بأجزائه وتركيبه وسائر أحواله كان غرضا. فإذا أخرجه إلى الفعل وتممه كان كمالا. (فقد صح من جميع ما قدمناه أن الإنسان يصير إلى كماله. ويصدر عنه فعله الخاص به إذا علم الموجودات كلها، أي يعلم كلياتها وحدودها التي هي ذواتها لا أعراضها، وخواصها التي تصيرها بلا نهاية. فإنك إذا علمت كليات الموجودات فقد علمت جزئياتها بنحو ما، لان الجزئيات لا تخرج عن كلياتها. فإذا كملت هذا الكمال فتممه بالفعل المنظوم ورتب القوى والملكات التي فيك ترتيبا علميا ،كما سبق علمك به. فإذا انتهيت إلى هذه الرتب فقد صرت عالما وحدك، واستحققت أن تسمى عالما صغيرا لأن صور الموجودات كلها قد حصلت في ذاتك، فصرت أنت هي بنحو ما. ثم نظمتها بأفعالك على نحو استطاعتك فصرت فيها خليفة لمولاك خالق الكل جلت عظمته، فلم تخطئ فيها ولم تخرج عن نظامه الأول الحكمى فتصير حينئذ عالما تاما. والتام من الموجودات هو الدائم الوجود، والدائم الوجود هو الباقي بقاء سرمديا. فلا يفوتك حينئذ شيء من النعيم المقيم، لأنك بهذا الكمال مستعد لقبول الفيض من المولى دائما أبدا، وقد قربت منه القرب الذي لا يجوز أن يحول بينك وبينه حجاب. وهذه هي الرتبة العليا والسعادة القصوى) . ولولا أن الشخص الواحد من أشخاص الناس يمكنه تحصيل هذه المنزلة في ذاته وتكميل صورته بها وإتمام نقصانه بالترقي إليها، لكان سبيله سبيل أشخاص الحيوانات الأخر. أو كسبيل أشخاص النبات في مصيرها إلى الفناء، والإستحالة التي تلحقها والنقصانات التي لا سبيل إلى تمامها. ولاستحال فيه البقاء الأبدي والنعيم السرمدي والمصير إلى ربه ودخول جنته. ومن لا يتصور هذه الحالة ولا ينتهي إلى علمها من المتوسطين في العلم يقع له شكوك. فيظن أن الإنسان إذا انتقض تركيبه الجسماني بطل وتلاشى، كالحال في الحيوانات الأخر وفي النبات، فحينئذ يستحق إسم الإلحاد ويخرج عن سمة الحكمة وسنة الشريعة." ( تهذيب... ص 273-275)
هذا إذن هو النص الذي يمثل "الفلسفة الدينية الهرمسية الفيضية". أما ما فهمناه نحن من هذا النص فهو أنه بإمكان الإنسان أن يصل إلى العلم الإلهي بواسطة التأمل العقلي. وحتى قوله "لأنك بهذا الكمال مستعد لقبول الفيض من المولى دائما أبدا، وقد قربت منه القرب الذي لا يجوز أن يحول بينك وبينه حجاب. وهذه هي الرتبة العليا والسعادة القصوى"، واستعمال مصطلحات من السجل الصوفي، مثل "الفيض" و "الحجاب"، لا يعني أنه قطع مع الفلسفة وانتقل إلى الصوفية؛ فمسكويه لا يكتفي بالإقرار بالوحي، كما هو شأن جل المؤمنين؛ ولا هو يختزل الطريق، كما يفعل بعض الصوفية؛ بل يرتقي ابتداء من "العلم بأمور الموجودات" درجة درجة. وهو بذلك لا يقطع مع الإشكالية الأساسية في الفلسفة العربية-الإسلامية التي تقول بوحدة الحقيقة وتعدد الطرق للوصول إليها. وما يصل إليه النبي بواسطة الوحي فإن الفيلسوف يمكن أن يصل إليه بواسطة العقل. يقول مسكويه:
"وعلمت أن كل مرتبة منها محتاجة إلى ما قبلها في وجودها، وعلمت أن الإنسان لا يتم له كماله، إلا بعدما يحصل له ما قبله، وأنه إذا صار إنسانا كاملا وبلغ غاية أفقه أشرق نور الأفق الأعلى عليه، وصار حكيما تاما تأتيه الإلهامات فيما يتصرف فيه من المحاولات الحكمية والتأييدات العلوية في التصورات العقلية. وإما نبيا مؤيدا يأتيه الوحي على ضروب المنازل التي تكون له عند الله تعالى ذكره..." (ص 300-301)
وإذا حكمنا على نص مسكويه على ضوء ما سودناه أعلاه في نص الجابري، والقائل: "ذلك ان نظام القيم في الموروث اليوناني إذ يجعل "السعادة" قيمة مركزية له، سعادة الفرد وسعادة الجماعة/المدينة، يربط هذه السعادة – ربط معلول بعلة – بالمعرفة الشاملة – بقدر ما يستطيع الإنسان، المعرفة بوصفها العنصر المقوم للكمال الإنساني الذي يعني تحرر العقل من كل تبعية أو قيد والارتفاع إلى أقرب مستوى من الكمال الإلهي"؛ فإن السؤال الذي يتوارد إلى الذهن هو: ما هو الفارق النوعي بين ما قاله الموروث اليوناني وما قاله مسكويه، وهل هناك فرقا بين الكمال الإلهي اليوناني ومثيله عند مسكويه؟ ولماذا يكون هذا "هرمسيا فيضيا" وليس ذاك؟
وفي موقع آخر يقول الجابري: "غير ان الشيء الذي لا بد أن يثير الانتباه حقا هو كون القيم الكسروية تطل بعنقها من خلال قلمه في وقت لم يكن القارئ يتوقع ذلك ولا كان يشعر أن مسكويه في حاجة إليها. إن هذا لدليل على هيمنة القيم الكسروية على بينية العقل الأخلاقي/السياسي، العربي الإسلامي، في ذلك العصر كما في العصور السابقة وأيضا اللاحقة !" (ص 416). ودليل الجابري على كسروية مسكويه قوله: "ومثال ذلك أن الملك الفاضل ، إذا أمن السرب وبسط العدل وأوسع العمارة وحمى الحريم (...) فقابلته من جهة رعيته إنما تكون بإخلاص الدعاء ونشر المحاسن وجميل الشكر وبذل الطاعة وترك المخافة في السر والعلانية (...). وإذا كان هذا معروفا غير منكر وواجبا غير مجحود في ملوكنا ورؤسائنا فكم بالحري أن يكون لملك الملوك الذي يصل إلينا في كل يوم طرفة عين ضروب إحسانه الفائض على أجسامنا ونفوسنا" (ص 120-121 في مرجع الجابري)
ويعلق الجابري على النص قائلا: "لقد كانت المماثلة بين الله والسلطان التي صادفناها من قبل تقوم تقوم على تشبيه السلطان بالله، أما هنا فنحن أمام تشبيه الله بالسلطان. فمعنى ذلك ان مسكويه يطلب الحجة والبرهان على وجوب الشكر لله على ما أعطى، من وجوب الشكر للسلطان على حسن سيرته ! وكأن الشكر للسلطان هو الأصل، والشكر لله هو الفرع ! وغني عن البيان القول إننا هنا لا نرمي من وراء هذه الملاحظات إلى محاكمة نوايا مسكويه، بل نحن نؤمن أنه انساق مع هذه المماثلة ببراءة وبدون قصد لما رتبناه نحن عليها. غير أن هذه "البراءة" وهذا "اللاقصد" هو ما يهمنا نحن. ذلك أنهما دليل على رسوخ المماثلة بين الله والحاكم في اللاوعي، على كونها ثابتا بنيويا في نظام القيم المهيمن على فكر الرجل بل على الثقافة التي ينتمي إليها ! (ص 417)
وسنعود إلى هذا النص في ختام عرضنا للنظرية السياسية عند مسكويه لما يكتسيه من أهمية في هذا الميدان. أما في السياق الذي نحن بصدده، فإننا نلاحظ أن الجابري غفل عن مماثلة أخرى لدى مسكويه، ألا هي مماثلة الأفعال الفاضلة، أي أفعال الإنسان، بالأفعال الإلهية. فليس السلطان وحده الذي يماثل بالله، بصفة واعية أو لا واعية، إذ يقول:
"وآخر المراتب في الفضيلة أن تكون أفعال الإنسان كلها أفعالا الهية، وهذه الأفعال هي خير محض. والفعل إذا كان خيرا محضا فليس يفعله فاعله من أجل شيء آخر غير الفعل نفسه. وذلك أن الخير المحض هو غاية متوخاة لذاتها أي هو الأمر المطلوب المقصود لذاته. والأمر الذي هو غاية متوخاة لذاتها أي هو الأمر المطلوب المقصود لذاته. والأمر الذي هو غاية في نهاية النفاسة ليس يكون من أجل شيء آخر. فأفعال الإنسان إذا صارت كلها إلهية فهي كلها إنما تصدر عن لبه وذاته الحقيقية، التي هي عقله الإلهي الذي هو ذاته بالحقيقة. وتزول وتتهدر سائر دواعي طباعه البدني بسائر عوارض النفسين البهيميتين، وعوارض التخيل المتولد عنهما، وعن دواعي نفسه الحسية، فلا يبقى له حينئذ إرادة ولا همة خارجتان عن فعله من أجلهما يفعل ما يفعل. لكنه يفعل ما يفعله بلا إرادة ولا همة في سوى الفعل أي لا يكون غرضه في فعله غير ذات الفعل وهذا هو سبيل العقل الإلهي. فهذه الحال هي آخر رتب الفضائل، التي يتقبل فيها الإنسان أفعال المبدأ الأول خالق الكل عز وجل. أعني أن يكون فيما يفعله لا يطلب به حظا ولا مجازاة ولا عوضا ولا زيادة، لكن يكون فعله بعينه هو غرضه، أي ليس يفعل من أجل شيء آخر سوى ذات الفعل. ومعنى ذاته هو أن لا يفعل ما يفعله من أجل شيء غير فعله نفسه، وذاته نفسها هي الفعل الإلهي نفسه، وهكذا يفعل الباري تعالى لذاته لا من أجل شيء آخر خارج عنه. وذلك أن فعل الإنسان في هذه الحال يكون، كما قلنا، خيرا محضا وحكمة محضة. فيبدأ بالفعل لنفس إظهار الفعل فقط لا لغاية أخرى يتوخاها بالفعل. وهكذا فعل الله عز وجل الخاص به، ليس هو على القصد الأول من أجل شيء خارج عن ذاته، أعني ليس ذلك من أجل سياسة الأشياء التي نحن بعضها، لأنه لو كان الأمر كذلك لكانت أفعاله حينئذ إنما كانت وتكون وتتم بمشارفة الأمور التي من خارج ولتدبيرها وتدبير أحوالها وإهتمامه بها. وعلى هذا تكون الأشياء التي من خارج أسبابا وعللا لأفعاله، وهذا شنيع قبيح، تعالى الله عنه علوا كبيرا."(ص 318-319)
ونحن أيضا لن نحاكم مسكويه على نواياه، خاصة إذا كانت هذه "النوايا" لا تستند إلا إلى نص واحد، في حين ان النصوص التي تطرق فيها مسكويه للسياسة عديدة في الكتاب، ويمكن للقارئ أن يكون على ضوئها صورة عن فلسفته السياسية على أساس أقواله لا نواياه.
وقد قمنا من أجل ذلك بجرد بعض النصوص التي يتحدث فيها مسكويه عن السياسة والعلاقة بين الحاكم والرعايا. ولنبدأ بالنص الوحيد الذي يستشهد فيه بملك ساساني:
"والقائم بحفظ هذه السنة وغيرها من وظائف الشرع حتى لا تزول عن أوضاعها هو الإمام وصناعته هي صناعة الملك. والأوائل لا يسمون بالملك إلا من حرس الدين وقام بحفظ مراتبه وأوامره وزواجره. وأما من أعرض عن ذلك فيسمونه متغلبا ولا يؤهلونه لإسم الملك. وذلك أن الدين هو وضع إلهي يسوق الناس باختيارهم إلى السعادة القصوى. والملك هو حارس هذا الوضع الإلهي، حافظ على الناس ما أخذوا به. وقد قال حكيم الفرس وملكهم اردشير: " إن الدين والملك إخوان توأمان لا يتم أحدهما إلا بالآخر، فالدين أس والملك حارس. وكل مالا أس له فمهدوم. وكل مالا حارس له فضائع". ولذلك حكمنا على الحارس الذي نصب للدين أن يتيقظ في موضعه ويحكم صناعته، ولا يباشر أمره بالهوينا، ولا يشتغل بلذة تخصه، ولا يطلب الكرامة والغلبة إلا من وجهها. فإنه متى أغفل شيئا من حدوده، دخل عليه من هنالك الخلل والوهن. وحيئنذ تتبدل أوضاع الدين ويجد الناس رخصة في شهواتهم، ويكثر من يساعدهم على ذلك، فتنقلب هيئة السعادة إلى ضدها، ويحدث بينهم الإختلاف والتباغض، فأداهم ذلك إلى الشتات والفرقة، وبطل الفرض الشريف، وانتقض النظام الذي طلبه صاحب الشرع بالأوضاع الإلهية، فاحتيج حينئذ إلى تجديد الأمر واستئناف التدبير وطلب الإمام الحق والملك العدل" (ص 367).
في هذا النص يميز مسكويه بين "المَلك" و "المُتغلب"، والفرق بينهما أن الأول محدود السلطة بالدين، أما الثاني فلا حدود لسلطته. ووظيفة الدين في هذا النص هي بمثابة الدستور الذي يقنن عمل الملك. والجمع بين الملك والدين في هذا النص يعمل لصالح الحد من الاستبداد، وليس دعما للاستبداد من قبل الدين.
وفي النص التالي يتطرق مسكويه إلى واجبات "مدير المدن"، وهوتعبير عن الحاكم بالمعنى الواسع:
"ولأجل ذلك يجب على مدير المدن أن يسوق كل إنسان نحو سعادته التي تخصه، ثم يقسم عنايته بالناس ونظره لهم بقسمين: أحدهما في تسديد الناس وتقويمهم بالعلوم الفكرية، والأخر في تسديدهم نحو الصناعات والأعمال الحسية. وإذا سددهم نحو السعادة الفكرية بدأ بهم من الغاية الأخيرة على طريق التحليل، ووقف بهم عند القوى التي ذكرناها. وإذا سددهم نحو السعادة العملية، بدأ بهم من عند هذه القوى وانتهى بهم إلى تلك الغايات. ولما كان غرضنا في هذا الكتاب السعادة الخلقية، وأن تصدر عنا الأفعال كلها جميلة، كما رسمنا في صدر الكتاب، وعملناه لمحبي الفلسفة خاصة لا للعوام، وكان النظر يتقدم العمل وجب أن نذكر الخير المطلق والسعادة الإنسانية لتلحظ الغاية الأخيرة، ثم تطلب بالأفعال الإرادية التي ذكرنا جملها في المقالة الأولى. وأرسطوطاليس إنما بدأ كتابه بهذا الموضع وافتتحه بذكر الخير المطلق ليُعرف ويُتشوق. ونحن نذكر ما قاله ونتبعه بما أخذناه أيضا عنه في مواضع أخر، ليجتمع ما فرقه ونضيف إلى ذلك ما أخذناه عن مفسري المتقبلين لحكمته نحو استطاعتنا، والله الموفق المؤيد، فإن الخير بيده وهو حسبنا ونعم الوكيل". (ص 303 -304)
والحاكم في هذا النص بمثابة المربي الذي يعمل على خلق المواطن الصالح، وليس من العسير تصور طبيعة سياسة الحاكم المربي الكفيلة بخلق هذا الصنف من المواطنين، فهي على كل حال أبعد ما تكون عن "التطويع".
وفي النص التالي يتطرق مسكويه إلى صفات الحاكم العادل:
"فالإمام العادل الحاكم بالسوية يبطل هذه الأنواع ويخلف صاحب الشريعة في حفظ المساواة، فهو لا يعطي ذاته من الخيرات أكثر مما يعطي غيره. ولذلك قيل في الخبر أن الخلافة تطهر الإنسان. قال: فأما العامة فإنها تؤهل لمرتبة الإمامة التي هي الخلافة العامة بما ذكرناه، من كان شريفا في حسبه ونسبه، وبعضهم يؤهل لذلك من كان كثير المال. وأما العقلاء فإنهم يؤهلون لذلك من كان حكيما فاضلا، فإن الحكمة والفضيلة هي التي تعطي الرياسات والسيادات الحقيقية، وهي التي رتبت الثاني والأول في مرتبتيهما وفضلتهما على سائر الناس".(ص 344)
من هذا النص يتبين لنا أن الشرعية المثالية للحاكم هي التي تقوم على الحكمة والفضيلة، وليس تلك التي تقوم على الوراثة أو المال (أو التغلب، كما ورد في نص سابق). ويزيد مسكويه على هذه الخصال العقلية والسلوكية خصلة عاطفية؛ فما يربط الحاكم والرعية، وهؤلاء فيما بينهم، ليس علاقة المواطنة القانونية فحسب، بل يجب أن تربطهم علاقة شبه عائلية:
"ويجب أن تكون نسبة الملك إلى رعيته نسبة أبوية ونسبة رعيته إليه نسبة بنوية، ونسبة الرعية بعضهم إلى بعض نسبة أخوية، حتى تكون السياسات محفوظة على شرائطها الصحيحة. وذلك أن مراعاة الملك لرعيته هي مراعاة الأب لأولاده ومعاملته إياهم تلك المعاملة. وقد كنا أشرنا إلى ذلك وسنزيده بيانا إذا صرنا إلى ذكر سياسة الملك في موضع آخر. وعنايته برعيته يجب أن تكون مثل عناية الأب بأولاده شفقة وتحننا وتعهدا وتعطفا خلافة لصاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم، بل لمشرع الشريعة تعالى ذكره في الرأفة والرحمة، وطلب المصالح لهم ودفع المكاره عنهم وحفظ النظام فيهم، وبالجملة في كل ما يجلب الخير ويمنع الشر. فإنه عند ذلك تحبه رعيته محبة الأولاد للأب الشفيق، وتحدث بينهما تلك النسبة. وإنما تختلف هذه المحبات بالتفاضل الذي يكون بعظم المنافع. فيجب أن يكرم الأب كرامة أبوية ويكرم السلطان كرامة سلطانية؛ ويكرم الناس بعضهم بعضا كرامة أخوية. ولكل مرتبة من استئهال خاص بها واستحقاق واجب لها، فإذا لم يحفظ بالعدالة زاد ونقص وعرض لها الفساد، وانقلبت الرياسات وانعكست الأمور، فيعرض لسياسة الملك أن تنتقل إلى سياسة التغلب، ويتبع ذلك أن تنتقل محبة الرعية إلى البغض له، ويعرض لرياسات من دونه مثل ذلك، فتصير محبة الأخيار إلى تباغض الأشرار وتعود الألفة نفارا والتواد نفاقا، ويطلب كل واحد لنفسه ما يظنه خيرا له وإن أضر بغيره، وتبطل الصداقات والخير المشترك بين الناس، ويؤول الأمر إلى الهرج الذي هو ضد النظام الذي رتبه الله لخلقه ورسمه بالشريعة وأوجبه بالحكمة البالغة." (ص 369-370)
ويجب أن نشير أن موقف مسكويه لا تشوبه أية سذاجة، إذ أنه لم يكن غافلا عن حقيقة الملك ونفسية الحكام، كما يبين ذلك في النص التالي:
"وبذلك حكمنا حكما صادقا بأنه تعالى أغنى الأغنياء لأنه لا حاجة به إلى شيء من الأشياء. و[قد] حكمنا أيضا أن الملوك منا هم أشد الناس فقرا لكثرة حاجتهم إلى الأشياء. ولقد صدق أبو بكر الصديق رضي الله عته في خطبته حيث قال: "أشقى الناس في الدنيا والآخرة الملوك." ثم وصفهم فقال: "إن الملك إذا ملك زهده الله فيما في يده ورغبه فيما في يد غيره، وانتقصه شَطر أجله وأشرب قلبه الإشفاق، فهو يحسد على القليل ويتسخط بالكثير، ويسأم الرخاء، وانقطعت عنه لذة البهاء، لا يستعمل العزة [الغيرة] ولا يسكن إلى الثقة، فهو كالدرهم الغش والسراب الخادع، جلد الظاهر حزين الباطن، فإذا وجبت نفسه ونضب عمره ومحي ظله حاسبه فأشد حسابه وأقل عفوه. ألا أن الملوك هم المرحومون. فهذه صفة الملك إذا تمكن من ملكه لا يغادر منه شيئا". ولقد سمعت أعظم من شاهدت من الملوك يستعيد هذا الكلام ثم يستعبر لموافقته ما في قلبه وصدقه عن حاله وصورته. ولعل من يرى ظاهر الملوك من الأسرة والفرش والزينة والأثاث ويشاهدهم في مواكبهم محفوفين محشودين، بين أيديهم الجنائب والمراكب والعبيد والخدم والحجاب والحشم، يروعه ذلك فيظن أنهم مسرورون بما يراه لهم ! لا والذي خلقهم وكفانا شغلهم، إنهم لفي هذه الأحوال ذاهلون عما يراه العبيد[البعيد] لهم، مشغولون بالأفكار التي تعتورهم وتعتريهم فيما قلناه من ضروراتهم. وقد جربنا ذلك في اليسير مما ملكناه، فدلنا على الكثير مما وصفناه. ولعل بعض من يصل إلى الملك أو السلطان فالتذ في مبدء أمره مدة يسيرة جدا، بمقدار ما يتمكن منه وتنفتح عينه فيه. لكنه بعد ذلك يصير جميع ما ملكه كالشيء الطبيعي له، لا يلتذ به ولا يفكر فيه ويمد عينه إلى مالا يملكه. فلو ملك الدنيا بحذافيرها لتمنى دنيا أخرى، أو نزقت همته إلى البقاء الأبدي، والملك الحقيقي، حتى يتبرم بجميع ما وصل إليه وبلغته قدرته. ذلك أن حفظ الدنيا صعب جدا لما في طبيعتها من الإخلال والتلاشي، ولما يضطر الملك إليه من الأمور التي وصفناها والأموال الجمة المصروفة إلى الجند المرتبطين، والخدم المتسومين، والذخائر والكنوز المعدة للآفات والحوادث التي لا يؤمن طروقها. فهذه حال طلاب النعم الخارجة عنا." (ص 399-400)
وحتى ننتهي من موضوع السياسة نود أن نعيد إثبات النص الذي قدمه لنا الجابري كدليل على الأخلاق الكسروية عند مسكويه، وقد أكملنا بين قوسين ما حذفه الجابري لأن هذا الحذف غير بريء :
"ومثال ذلك أن الملك الفاضل ، إذا أمن السرب وبسط العدل وأوسع العمارة وحمى الحريم (وذب عن الحوزة، ومنع من التظالم، ووفر الناس على ما يختارونه من مصالحهم ومعايشتهم، فقد أحسن إلى كل واحد من رعيته إحسانا يخصه في نفسه، وإن كان قد عمهم بالخير، واستحق من كل واحد منهم أن يقابله ضربا من المقابلة، متى قعد عنه كان جائرا إذا كان يأخذ نعمته ولا يعطيه شيئا، لكن مقابلة الملك الفاضل من رعيته) فقابلته من جهة رعيته إنما تكون بإخلاص الدعاء ونشر المحاسن وجميل الشكر وبذل الطاعة وترك المخافة في السر والعلانية (والمحبة الصادقة، والإتمام بسيرته نحو استطاعته والاقتداء به في تدبير منزله وأهله وولده وعشيرته. فإن نسبة الملك على مدينته ورعيته كنسبة صاحب المنزل على منزله وأهله، فمن لم يقابل ذلك الإحسان بهذه الطاعة والمحبة فقد جار وظلم ...). وإذا كان هذا معروفا غير منكر وواجبا غير مجحود في ملوكنا ورؤسائنا فكم بالحري أن يكون لملك الملوك الذي يصل إلينا في كل يوم طرفة عين ضروب إحسانه الفائض على أجسامنا ونفوسنا" (ص 120-121 في مرجع الجابري)
ما يلاحظ، أولا، هو ان الجابري أزاح من شاهده "صاحب المنزل"، أي أنه أزاح الطرف الثالث في المعادلة حتى تصير ثنائية. وهذه المعادلة لا تلغي التراتب القائم بين أطرافها: ففي الأسفل يوجد "صاحب المنزل" - وإن كان هو في الواقع الذي يقدم النموذج الذي قيست على أساسه الأطراف الأخرى، وصورة الملك الفاضل ليست إلا توسيعا لنموذج الأب الفاضل – ثم "الملك الفاضل"، وأخيرا "ملك الملوك" الذي يمتاز عن الطرفين الآخرين بكون "إحسانه الفائض" أوسع من إحسانهم.
وهذا النص، ثانيا، يقوم على قضية شرطية:
- مقدمتها: إذا أمن الملك السرب وبسط العدل وأوسع العمارة وحمى الحريم...
- ونتيجتها: إذن قابلته الرعية بإخلاص الدعاء...وجميل الشكر وبذل الطاعة.
ولسنا في حاجة إلى إرغام النصوص لنستخلص أن ما يوجد في هذا النص – وفي النصوص التي اوردناه أعلاه – هو نظرية للعقد الاجتماعي بكل معنى الكلمة. لكن الجابري لم يكن يبحث إلا عن القذى ولهذا لم يرى اللؤلؤة – بل اللآلئ – التي تلمع في كتاب مسكويه. فالطاعة عند مسكويه لا علاقة لها بالتطويع، بل هي طاعة مشروطة، وهي إقرار بشرعية "الملك الفاضل" لأنه استجاب لما يلزمه به العقد الذي يربطه بالرعية.
لقد أجبرنا الجابري على البدء بما هو أخص، أي بالسياسة؛ في حين ان المنطق كان يقتضي البدء بما هو أعم، أي بالأخلاق؛ ولهذا نختم هذا الجزء بجرد المبادئ الأساسية للأخلاق عند مسكويه، وسنكتفي في الغالب بوضع عناوين متبوعة بنص أو عدة نصوص:
ومع بداية الكتاب يطرح مسكويه إشكالية الأخلاق لديه قائلا:
"قال أحمد بن محمد بن مسكويه غرضنا في هذا الكتاب أن نحصل لأنفسنا خلقا تصدر به عنا الأفعال كلها جميلة وتكون مع ذلك سهلة علينا لا كلفة فيها ولا مشقة ويكون ذلك بصناعة وعلى ترتيب تعليمي والطريق في ذلك أن نعرف أولا نفوسنا ما هي، وأي شيء ولأي شيء أوجدت فينا، أعني كمالها وغايتها وما قواها وملكاتها التي إذا استعملناها على ما ينبغي بلغنا بها هذه الرتبة العلية، وما الأشياء العائقة لنا عنها وما الذي يزكيها فتفلح وما الذي يدسيها فتخيب فإن الله عز من قائل يقول: "ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها"." (ص 234/235)
ويترتب عن هذه الإشكالية منهج (صناعة وترتيب تعليمي)، ومقاصد (السعادة والأنس والمحبة)، ومبادئ (هي أساسا العدل ومشتقاته)، كما ستبينه لنا النصوص التي سنوردها.
أولا: الأخلاق علم وتربية.
الإنسان في نظر مسكويه ليس خيرا بالطبع – كما في الأخلاق الروسوية rousseauisme - ولهذا سمى كتابه "تهذيب الأخلاق وطهارة الأعراق"، يعني الطباع، وهو ما يشرحه قائلا:"وليست تحصل هذه المراتب التي يترقى فيها صاحب السعادة التامة إلا بعد أن يعلم أجزاء الحكمة كلها علما صحيحا ويستوفيها أولا أولا كما رتبناها في كتابنا المسمى ب"ترتيب السعادات". ومن ظن من الناس أنه يصل إليها بغير تلك الطريقة وعلى غير ذلك المنهج فقد ظن باطلا وبعد عن الحق بعدا كثيرا. وليتذكر في هذا الموضع الخطأ العظيم الذي وقع فيه قوم ظنوا أنهم يدركون الفضيلة بتعطيل القوة العالمة وإهمالها وبترك النظر الخاص بالعقل واكتفائهم بأعمال ليست مدنية ولا بحسب ما يقسطه التمييز والعقل. وقد سماهم قوم العاملة والناجية. ولذلك رتبنا هذا الكتاب عقب ذلك الكتاب ليلحظ منهما السعادة الأخيرة المطلوبة بالحكمة البالغة وتتهذب لها النفس وتتهيأ لقبولها غسلا وتنقية من الأمور الطبيعية وشهوات الأبدان. ولذلك سميته أيضا بكتاب "طهارة الأعراق". (ص 320-321)
ثانيا: الإنسانية بدن واحد.
"ولما كانت هذه الخيرات الإنسانية وملكاتها التي في النفس كثيرة ولم يكن في طاقة الإنسان الواحد القيام بجميعها، وجب أن يقوم بجميعها جماعة كثيرة منهم. ولذلك وجب أن تكون أشخاص الناس كثيرة، وأن يجتمعوا في زمان واحد على تحصيل هذه السعادات المشتركة، لتكميل كل واحد منهم بمعاونة الباقين له؛ فتكون الخيرات مشتركة والسعادة مفروضة بينهم؛ فيتوزعونها حتى يقوم كل واحد منهم بجزء منها ويتم للجميع، بمعاونة الجميع، الكمال الإنسي وتحصل لهم السعادات الثلاث التي شرحناها في كتاب "الترتيب". ولأجل ذلك وجب أن تكون الناس بحب بعضهم بعضا، لأن كل واحد يرى كماله عند الآخر، ولولا ذلك لما تمت لهذا سعادته، فيكون إذا كل واحد بمنزلة عضو من أعضاء البدن، وقوام الإنسان بتمام أعضاء بدنه." (ص 248)
ثالثا: غاية الأخلاق تحقيق السعادة.
وفي موضوع السعادة، التي هي غاية الأخلاق، يقف مسكويه موقفا وسطا بين الذين يرون السعادة في الأمور الدنيوية فقط، والذين يرجئونها إلى الآخرة، إذ يقول:
"إن الإنسان ذو فضيلة روحانية يناسب بها الأرواح الطيبة التي تسمى ملائكة، وذو فضيلة جسمانية يناسب بها الأنعام، لأنه مركب منهما. فهو بالخير الجسماني الذي يناسب به الأنعام مقيم في هذا العالم السفلي مدة قصيرة ليعمره وينظمه ويرتبه، حتى إذا ظفر بهذه المرتبة على الكمال انتقل إلى العالم العلوي وأقام فيه دائما سرمدا في صحبة الملائكة والأرواح الطيبة. وينبغي أن يفهم من قولنا العالم السفلي والعالم االعلوي، ما ذكرناه فيما تقدم، فإنا قد قلنا هناك أنا لسنا نعني بالعلوي المكان العلى في الحس، ولا بالعالم السفلي المكان الأسفل في الحس، بل كل محسوس فهو أسفل وإن كان محسوسا في المكان الأعلى. وكل معقول فهو أعلى، وإن كان معقولا في المكان الأسفل. وينبغي أن يعلم أنه لا يحتاج في صحة الأرواح الطيبة المستغنية عن الأبدان إلى شيء من السعادات البدنية التي ذكرناها سوى سعادة النفس فقط، أعني المعقولات الأبدية التي هي الحكمة فقط. فإذا ما دام الإنسان إنسانا، فلا تتم له السعادة إلا بتحصيل الحالين جميعا، وليس يحصلان على التمام إلا بالأشياء النافعة في الوصول إلى الحكمة الأبدية. فالسعيد إذا من الناس يكون في إحدى مرتبتين: إما في مرتبة الأشياء الجسمانية، متعلقا بأحوالها السفلى سعيدا بها، وهو مع ذلك يطالع الأمور الشريفة باحثا عنها مشتاقا إليها متحركا نحوها مغتبطا بها. وإما أن يكون في رتبة الأشياء الروحانية متعلقا بأحوالها العليا سعيدا بها، وهو مع ذلك يطالع الأمور البدنية معتبرا بها ناظرا في علامات القدرة الإلهية ودلائل الحكمة البالغة، مقتديا بها ناظما لها مفيضا للخيرات عليها سابقا لها نحو الأفضل، فالأفضل، بحسب قبولها وعلى نحو استطاعتها. وأي امرىء لم يحصل في إحدى هاتين المنزلتين فهو في رتبة الأنعام، بل هو أضل. وإنما صار أضل لأن تلك غير مُعرضة لهذه الخيرات ولا أُعطيت استطاعة تتحرك بها نحو هذه المراتب العالية".(ص 315-316)
رابعا: الأخلاق تقوم على الإرادة والعقل.
"ولما كان الإنسان من بين الموجودات كلها، هو الذي يلتمس له الخلق المحمود والأفعال المرضية وجب أن لا ننظر في هذا الوقت في قواه وملكاته وأفعاله، التي يشارك بها سائر الموجودات، إذ كان ذلك من حق صناعة أخرى وعلم آخر يسمى العلم الطبيعي. وأما أفعاله وقواه وملكاته التي يختص بها من حيث هو إنسان وبها تتم إنسانيته وفضائله، فهي الأمور الإرادية التي بها تتعلق قوة الفكر والتمييز، والنظر فيها يسمى الفلسفة العملية." (ص 245)
خامسا: الفعل الأخلاقي أخلاقي في ذاته.
"قد قلنا فيما سلف أن السعادة تظهر في الأفعال من العدالة والشجاعة والعفة وسائر ما تحت هذه الأنواع التي أحصيناها وحددناها. وهذه الأفعال قد تظهر ممن ليس بسعيد ولا فاضل. وذلك أنه قد يعمل بعض الناس عمل العدول وليس بعادل ويعمل عمل الشجعان وليس بشجاع ويعمل عمل الإعفاء وليس بعفيف..." (ص 333)
"وكذلك حال من عمل عمل العدول وليس بعدل. وذلك أنه إذا عدل في بعض الأمور مراءاة ليصل به إلى كرامة أو مال أو غير ذلك من الشهوات، أو لغرض آخر مما عددناه فيما تقدم، فليس يسمي عادلا، وإنما يعمل عمل العدول للغرض الذي يقصده. وينبغي أن ينسب فعله إلى غرضه، فإنه بحسب هذا يفعل ذلك، كما قلنا وشرحنا. فأما العادل بالحقيقة، فهو الذي يعدل قواه وأفعاله وأحواله كلها حتى لا يزيد بعضها على بعض. ثم يروم ذلك فيما هو خارج عنه من المعاملات والكرامات، ويقصد في جميع ذلك فضيلة العدالة نفسها لا غرضا آخر سواها. وإنما يتم له ذلك إذا كانت له هيئة نفسانية أدبية تصدر عنها أفعاله كلها بحسبها. ولما كانت العدالة وسطا بين أطراف، وهيئة يقتدر بها على رد الزائد والناقص إليها [إليه]، صارت أتم الفضائل وأشبهها بالوحدة. وأعني بذلك أن الوحدة هي التي لها الشرف الأعلى والرتبة القصوى. وكل كثرة لا يضبطها معنى يوحدها فلا قوام لها ولا ثبات. والزيادة والنقصان والكثرة والقلة هي التي تفسد الأشياء إذا لم يكن بينها مناسبة تحفظ عليها الإعتدال بوجه ما. فالإعتدال هو الذي يرد إليها ظل الوحدة ومعناها. وهو الذي يَلبِسها شرف الوحدة ويزيل عنها رذيلة الكثرة والتفاوت والإضطراب الذي لا يحد ولا يضبط بالمساواة التي هي خليفة الوحدة في جميع الكثرات واشتقاق هذا الإسم يدلك على معناه، وذلك أن العدل في الأحمال، والإعتدال في الأثقال، والعدالة في الأفعال، مشتقة من معنى المساواة، والمساواة هي أشرف النسب المذكورة في صناعة الأرتماطيقي، ولذلك لا تنقسم ولا يوجد لها أنواع وإنما هي وحدة في معناها أو ظل للوحدة". (ص 337)
بل يذهب مسكويه أبعد من هذا ليرفع الأفعال الفاضلة إلى مرتبة الأفعال الإلهية:
"وآخر المراتب في الفضيلة أن تكون أفعال الإنسان كلها أفعال الهية، وهذه الأفعال هي خير محض. والفعل إذا كان خيرا محضا فليس يفعله فاعله من أجل شيء آخر غير الفعل نفسه. وذلك أن الخير المحض هو غاية متوخاة لذاتها أي هو الأمر المطلوب المقصود لذاته. والأمر الذي هو غاية متوخاة لذاتها، أي هو الأمر المطلوب المقصود لذاته. والأمر الذي هو غاية في نهاية النفاسة ليس يكون من أجل شيء آخر. فأفعال الإنسان إذا صارت كلها إلاهية، فهي كلها إنما تصدر عن لبه وذاته الحقيقية التي هي عقله الإلهي الذي هو ذاته بالحقيقة. وتزول وتتهدر سائر دواعي طباعه البدني بسائر عوارض النفسين البهيميتين، وعوارض التخيل المتولد عنهما، وعن دواعي نفسه الحسية، فلا يبقى له حينئذ ارادة ولا همة خارجتان عن فعله، من أجلهما يفعل ما يفعل. لكنه يفعل ما يفعله بلا إرادة ولا همة سوى الفعل، أي لا يكون غرضه في فعله غير ذات الفعل، وهذا هو سبيل العقل الإلهي. فهذه الحال هي آخر رتب الفضائل التي يتقبل فيها الإنسان أفعال المبدأ الأول خالق الكل عز وجل. أعني أن يكون فيما يفعله لا يطلب به حظا ولا مجازاة ولا عوضا ولا زيادة، لكن يكون فعله بعينه هو غرضه، أي ليس يفعل من أجل شيء آخر سوى ذات الفعل." (ص 319)
وإذا ترجمنا ما يذهب إليه مسكويه إلى لغة الفلسفة الحديثة، وتحديدا إلى لغة كانط، يمكننا القول أن الفعل الأخلاقي لديه هو الذي يصدر عن "الآمر القطعي" (أو الأمر المطلق) impératif catégorique، أي أن نية الفعل هي التي تدخل ضمن مقولات الأخلاق وليست نتائجه.
ورغم أن مسكويه كان أسيرا للغة الفلسفية لعصره ولتصوراتها العامة، إلا أنه – مثل كانط – أزاح الأخلاق من مجال علم النفس، التي تعد السعادة من مقولاته، والذي يجعل من الأخلاق وسيلة لتحقيق مجموعة من المنافع الحسية أو الاجتماعية، كما يعبر عن ذلك مفهوم السعادة عند أرسطو الذي انطلق منه؛ وألحقها بمجال العقل المحض la raison pure - مثل كانط أيضا – لكن ضمن منظور أن العقل والوحي وجهان لعملة واحدة، ولا بد للمتعاليين أن يتلاقيا.
سادسا: العدالة هي المبدأ الأساس للأخلاق.
يقول مسكويه: "ليست العدالة جزءا من الفضيلة بل هي الفضيلة كلها" (ص 324). و"العدالة"، كما عرفها في النص ما قبل الأخير، تحيل إلى المساواة التي هي "أشرف النسب"؛ ومثلها مثل "الواجب" عند كانط، ليس لديها محتوى معين بل هي صورة قابلة للتعميم. فالعدالة وما يترتب عنها من خصال كالانصاف، والاعتدال، وتجنب الافراط والتفريط... هي المبدأ الذي يجعل الفعل أخلاقيا في ذاته. وهي أيضا الابستيمي épistémè التي تحكم نظرة مسكويه للكون، أتعلق الأمر بالقضايا العلمية من رياضيات وطب، أو بالقضايا الأخلاقية.
وليس من قبيل المصادفة أن ينتقل النص المذكور مباشرة إلى موضوع الرياضيات:
"وذلك أن العدل في الأحمال والإعتدال في الأثقال والعدالة في الأفعال مشتقة من معنى المساواة والمساواة هي أشرف النسب المذكورة في صناعة الموسيقى [الأرتماطيقي] وغيرها . ولذلك لا تنقسم ولا يوجد لها أنواع، وإنما هي وحدة في معناها أو ظل للوحدة. فإذا لم نجد المساواة التي هي المثل بالحقيقة في الكثرة، عدلنا إلى النسب المذكورة التي تنحل إليها وتعود إلى حقيقتها، وذلك أنا حينئذ نضطر إلى ان نقول نسبة هذا إلى هذا، كنسبة هذا إلى هذا. ولذلك لا توجد النسبة إلا بين أربعة أو ثلاثة، يتكرر فيها الوسط فتصير أيضا أربعة. والنسبة الأولى تسمى منفصلة، والثانية تسمى متصلة. ومثال الأولى اب ج د فنقول نسبة (أ) إلى (ب) كنسبة (ج) إلى (د) . ومثال الثانية أن نأخذ الباء مشتركا فنقول نسبة (أ) إلى (ب) كنسبة (ب) إلى (ج) وهذه النسبة توجد بين ثلاثة أشياء. وهي النسبة العددية والنسبة المساحية والنسبة التأليفية. وجميع ذلك مبين مشروح في المختصر الذي عملناه في صناعة الأرتماطيقي[العدد] . وأما سائر النسب فراجعة إليها، ولذلك عظمها الأوائل واستخرجوا بها العلوم الجمة الشريفة. ولما كانت نسبة المساواة عزيزة، لأنها نظيرة الوحدة، عدلنا إلى حفظ هذه النسب الأخر في الأمور الكثيرة التي تلابسها، لأنها عائدة إليها وغير خارجة عنها..." (ص 338-339)
والطب نفسه الذي عرفه مسكويه يقوم على إعادة التوازن بين "الطبائع المتضادة": "والناس مائلون بالطبع الجسداني إلى الشهوات فيكثر اتباعهم وتقل الفضلاء فيهم. وإذا تنبه الواحد بعد الواحد منهم إلى أن هذه اللذات إنما هي لضرورة الجسد، وإن بدنه مركب من الطبائع المتضادة أعني الحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة، وأنه إنما يعالج بالمأكل والمشرب أمراضا تحدث به عند الإنحلال لحفظ تركيبه على حالة واحدة أبدا ما أمكن ذلك فيه. وأن علاج المرض ليس بسعادة تامة، والراحة من الألم ليست بغاية مطلوبة ولا خير محض، وأن السعيد التام هو من لا يعرض له مرض البتة. وعرف مع ذلك أيضا أن الملائكة الأبرار، الذين اصطفاهم الله بقربه، لا تلحقهم هذه الآلام فلا يحتاجون إلى مداواتها بالأكل والشرب". (ص 279 - 278 )
ومقاصد الشريعة نفسها في ضبط المعاملات بين الناس تخضع لسجل العدالة: "والشريعة هي التي ترسم في كل واحد من هذه الأشياء التوسط والإعتدال، لأن الناس هم مدنيون بالطبع، ولا يتم لهم عيش إلا بالتعاون، فيجب أن بعضهم يخدم بعضا، ويأخذ بعضهم من بعض، ويعطي بعضهم بعضا، فهم يطلبون المكافأة المناسبة. فإذا أخذ الإسكاف من النجار عمله وأعطاه عمله فهي المعاوضة إذا كان العملان متساويين، ولكن ليس يمنع مانع أن يكون عمل الواحد خيرا من عمل الآخر، فيكون الدينار هو المقوم والمسوي بينهما. فالدينار هو عدل ومتوسط، إلا انه ساكت؛ والإنسان الناطق هو الذي يستعمله ويقوم به جميع الأمور التي تكون بالمعاملات حتى تجري على إستقامة ونظام ومناسبة صحيحة عادلة. ولذلك يستعان بالحاكم الذي هو عدل ناطق إذا لم يستقم الأمر بين الخصمين بالدينار الذي هو عدل ساكت". (ص 340)
سابعا: الأخلاق تكتمل بالأنس والمحبة.
لقد خص مسكويه قسما من كتابه للعواطف التي يجب أن تجمع الناس بينهم، من "محبة" و"أبوية" و"بنوية" و"أخوة" و"صداقة" و"أنس" و"اتخاذ الدعوات والاجتماع"... لأنه استشعر أن الأخلاق والقوانين والشرائع، مهما كانت فاضلة، لا تكفي لخلق التلاحم في المجتمع. بل يذهب إلى أنه بإمكان المحبة تحقيق العدالة بين الناس:
"وقد ادعى قوم أن نظام الموجودات كلها وصلاح أحوالها معلق بالمحبة وقالوا: إن الإنسان إنما اضطر إلى اقتناء هذه الفضيلة، أعني الهيأة التي تصدر عنها العدالة عند تعاطي المعاملات لملافاته شرف المحبة، ولو كان المتعاملون أحباء لتناصفوا ولم يقع بينهم خلاف، وذلك أن الصديق يحب صديقه ويريد له ما يريد لنفسه، وليس تتم الثقة والتعاضد إلا بين المتحابين، وإذا تعاضدوا وجمعتهم المحبة وصلوا إلى جميع المحبوبات، ولم تتعذر عنهم المطالب ولو كانت وإن كانت صعبة شديدة، وحينئذ ينشئون الآراء الصائبة وتتعاون العقول على استخراج الغوامض من التدابير القويمة، ويتقوون على نيل الخيرات كلها بالتعاضد." (ص 355)
وذهب مسكويه إلى أن المحبة من مقاصد الشريعة:
"وإنما وضع للناس بالشريعة وبالعادة الجميلة إتخاذ الدعوات والإجتماع في المآدب ليحصل لهم هذا الأنس. والشريعة إنما أوجبت على الناس أن يجتمعوا في مساجدهم كل يوم خمس مرات وفضلت صلاة الجماعة على صلاة الآحاد ليحصل لهم هذا الأنس الطبيعي الذي هو فيهم بالقوة حتى يخرج إلى الفعل ثم يتأكد بالإعتقادات الصحيحة التي تجمعهم. وهذا الإجتماع في كل يوم ليس يتعذر على أهل كل محلة وسكة. والدليل على أن غرض صاحب الشريعة ما ذكرناه أنه أوجب على أهل المدينة بأسرهم أن يجتمعوا في كل أسبوع يوما بعينه في مسجد يسعهم ليجتمع أيضا شمل أهل المحال والسكك في كل أسبوع كما اجتمع شمل أهل الدور والمنازل في كل يوم. ثم أوجب أيضا أن يجتمع أهل المدينة مع أهل القرى والرساتيق المتقاربين في كل سنة مرتين في مصلى بارزين مصحرين ليسعهم المكان ويتجدد الأنس بين كافتهم وتشملهم المحبة الناظمة لهم. ثم اوجب بعد ذلك أن يجتمعوا في العمر كله مرة واحدة في الموضع المقدس بمكة ولم يعين من العمر وقت مخصوص ليتسع لهم الزمان وليجتمع أهل المدن المتباعدة كما اجتمع أهل المدينة الواحدة ويصير حالهم في الأنس والمحبة وشمول الخير والسعادة كحال المجتمعين في كل سنة وفي كل اسبوع وفي كل يوم فيجتمعوا بذلك إلى الأنس الطبيعي وإلى الخيرات المشتركة وتتجدد بينهم محبة الشريعة وليكبروا الله على ما هداهم ويغتبطوا بالدين القويم القيم الذي ألفهم على تقوى الله وطاعته". (ص 364-365)
وقال في الصداقة: "وفهم [افهم]من الصديق ههنا أنه آخر هو أنت، سواء كان أخا من نسب أو غريبا أو ولدا أو والدا، ولا يقوم له جميع ما في الأرض مقام صديق يثق به في مُهم يساعده عليه، وسعادة عاجلة أو آجلة تتم له. فطوبى لمن أوتي هذه النعمة العظيمة وهو في خلة السلطان وأعظم طوبى لمن أوتيه من سلطان [وهو خلو من السلطان. وأعظم طوبى لمن أتيه في سلطان]. وذلك أن من باشر أمور الرعية وأراد أن يعرف أحوالهم، وينظر في أمورهم حق النظر، لن يكفيه أذنان ولا عينان ولا قلب واحد، فإن وجد إخوانا ذوي ثقة وجد بهم عيونا وآذانا وقلوبا كأنها بأجمعها له، فقربت عليه أطرافه واطلع من أدنى أمره على أقصاه، ورأى الغائب بصورة الشاهد. فأنى توجد هذه الفضيلة إلا عند الصديق، وكيف يطمع فيها عند غير الرفيق الشفيق." (ص379)
"وأما "محبة الأخيار" بعضهم بعضا فإنها تكون لا للذة خارجة ولا لمنفعة بل للمناسبة الجوهرية بينهما وهي قصد الخير والتماس الفضيلة. فإذا أحب أحدهم للمناسبة الجوهرية بينهما وهي قصد الخير والتماس الفضيلة. فإذا أحب أحدهم الآخر لهذه المناسبة لم تكن بينهم مخالفة ولا منازعة ونصح بعضهم بعضا وتلاقوا بالعدالة والتساوي في إرادة الخير وهذا التساوي في النصيحة وإرادة الخير هو الذي يوحد كثرتهم. ولهذا حد الصديق بأنه آخر هو أنت إلا أنه غيرك بالشخص ولهذا صار عزيز الوجود ولم يوثق بصداقة الأحداث والعوام ومن ليس بحكيم لأن هؤلاء يحبون ويصادقون لأحل اللذة والمنفعة ولا يعرفون الخير بالحقيقة وأغراضهم غير صحيحة، وأما للسلاطين فإنهم يظهرون الصداقة على أنهم متفضلون ومحسنون إلى من يصادقهم فلا يدخلون تحت الحد الذي ذكرناه وفي صداقتهم زيادة ونقصان المساواة عزيزة الوجود عندهم." (ص 368)
ويتبع هذا النص نص في "محبة الوالد" ويليه آخر في "محبة الولد"؛ ثم نص في طبيعة العلاقة العاطفية التي يجب أن تربط الراعي بالرعية:
"ويجب أن تكون نسبة الملك إلى رعيته نسبة أبوية ونسبة رعيته إليه نسبة بنوية، ونسبة الرعية بعضهم إلى بعض نسبة أخوية، حتى تكون السياسات محفوظة على شرائطها الصحيحة. وذلك أن مراعاة الملك لرعيته هي مراعاة الأب لأولاده ومعاملته إياهم تلك المعاملة [...]".( ص 369-370) إلى نهاية النص المذكور أعلاه.
بعد انتهائنا من هذا العرض لأخلاق مسكويه، نعود إلى الحكم الذي أصدره الجابري على هذه الأخلاق، القائل: "والمفارقة الخطيرة التي نريد إبرازها هنا هي أن الجمع الذي قام به كل من العامري ومسكويه، بين الموروث اليوناني والموروث الفارسي، يترتب عنه حتما الجمع بين القيمتين المركزيتين فيهما: السعادة والاستبداد".
وكرد على هذا الاتهام نقول أننا لم نصادف في الكتاب ولو جملة واحدة تبرر الاستبداد، بل وجدنا - كما قلناه سابقا - نظرية في العقد الاجتماعي تؤسس شرعية الحاكم على التزامه بواجباته، وليس على الشرف أو التغلب. وإذا نظرنا إلى "نموذج أردشير، الحاكم المستبد الحارس للدين مظهرا، والحارس لحكمه من الدين (أي الشعب) واقعيا"، من زاوية وظيفة الشريعة عند مسكويه، فإن فرضية الجابري تنهار نهائيا، لأن الشريعة لديه تخضع لمنطق الأخلاق، ومن مقاصدها أن "يحصل الأنس" بين الناس، كما ورد في النص المثبت أعلاه.
وفي خاتمة هذا القسم نود عقد مقارنة موجزة بين مسكويه وابن المقفع، على مستوى المرجعية والمقاصد. وبما أن المرجعية الفكرية في عصرهما كانت إما نقلية وإما عقلية، وبما أن استشهاداتهما من القرآن والحديث قليلة جدا، فهذا يضعهما حتما ضمن المرجعية العقلية. وإن كان موقفهما من الحقيقة مختلف، إذ الحقيقة عند مسكويه لا تخضع لتقلب الأحوال كما عند ابن المقفع الذي يرى أن: "تمام إصابة الرأي والقول بإصابة الموضع" ، وأن "على العاقل أن يجبن عن الرأي الذي لا يجد عليه موافقا وإن ظن أنه على يقين."
وهذا الفرق في النظرة إلى الحقيقة ينعكس على مقاصد الأخلاق لديهما: فقصد مسكويه هو "تطهير الأعراق"، في حين أن قصد ابن المقفع هو تطهير المظاهر وخدمة منطق الدولة. مسكويه يريد تطهيرالباطن ليطهر الظاهر، أما ابن المقفع فيريد تطهير الظاهر ليتميز عن العامة لأغراض انتهازية. أما عندما يقول مسكويه أن كلامه موجه إلى الخاصة، فهذا يعني أن التأسيس النظري الفلسفي للأخلاق ليس في متناول العامة، لكنه لا يميز بين الخاصة والعامة فيما يتعلق بالسلوك الأخلاقي المطلوب.
العز بن عبد السلام و"الأخلاق الإسلامية الخالصة"
وقع اختيارنا على العز بن عبد السلام لأن الجابري جعل منه رائدا لفقه المقاصد وللأخلاق الإسلامية "الخالصة". وخاصة لأنه جعل منه قمة للموروث الثقافي الأخلاقي العربي الإسلامي، من حيث "نقاوة" مرجعيته التي لا يشوبها أي عنصر دخيل، و "نقاوة" الأسس التي أقام عليها أخلاقه، ألا وهي: "العقل"، "المصلحة"، "الاستقلالية عن الدين".
ونبدأ هذا القسم بإثبات ثلاثة نصوص للجابري تلخص نظرته للأخلاق الإسلامية:
"نريد أن نخلص من هذه الإشارة السريعة إلى طبيعة العلاقة بين الفقه والأخلاق إلى النتيجة التالية، وهي أن النص الديني في الحضارة العربية الإسلامية، ولو أنه يغطي من الناحية المبدئية، جميع مظاهر الحياة فإنه ترك مع ذلك للأخلاق مجالها الخاص، الواسع العريض. وهذا الوضع ينتج عنه أن الدين في الإسلام ليس هو أساس الأخلاق. والذين لا يقبلون هذه العادة [كذا]، لكونها تقلق الضمير الديني، يقبلون بدون قلق التصريح بأن الدين في الإسلام ليس وحده أساس الأخلاق، ليس وحده مصدر الحكم الأخلاقي. بل هناك، بالمقابل، إجماع على أن مصدر الحكم الأخلاقي هو العقل. أما مسألة علاقة العقل بالنقل في هذا المجال وكيف يجب أن ترتب فهذا موضوع نقاش واجتهاد؟
والقول بكون العقل هو أساس الأخلاق ينتج عنه بطبيعة الحال استبعاد الجانب النفسي والاجتماعي. ومع أن جميع الذين تناولوا المسائل الأخلاقية في الفكر الإسلامي يعترفون ل "اللذة" بدور ما في السلوك البشري – كما سنبينه في حينه – فإن هناك إجماعا على أن مصدر الرذيلة هو الهوى (هوى النفس، ومنه اللذات والشهوات)، وأن الفضيلة تعتمد تعتمد حكم العقل. أما العرف والعادة فالجميع يعترف بهما كموجهين للسلوك، ولكن الفصل في أخلاقية هذا السلوك (أعني كونه فضيلة أو رذيلة) يرجع أولا وأخيرا ل "العقل". والعقل بهذا الاعتبار لا يتناقض مع الشرع، وإن بدا هناك تناقض ظاهري فإن التأويل يرفعه.
يمكن القول إذن، من الناحية المبدئية على الأقل، إن الأساس الذي يقوم عليه الحكم الأخلاقي في الثقافة العربية الإسلامية "العالمة" هو العقل. هذا من الناحية المبدئية، كما قلنا. ولكن بما أن نظم القيم في الثقافة العربية متعددة ومختلفة، واحيانا متنافسة ومتصارعة، وبما أن العقل في هذه الثقافة تحكمه النظرة المعيارية التي تستمد مقوماتها من نظام القيم الذي تنتمي إليه – وسنرى كل هذا بتفصيل – فمن المنتظر إذن أن تختلف القيمة التي تعطى للعقل من نظام إلى آخر. وفيما يلي عرض موجز ل "وضع" statut الذي يُخص به العقل، بوصفه أساس الآخلاق في كل واحد من الموروثات الخمسة المكونة للثقافة العربية." (ص 103)
وفي موضع آخر يعود الجابري ليؤكد أن العقل هو أساس الأخلاق في الموروث الإسلامي الخالص أيضا، الرأي الذي "يجد ما يؤيده ويؤكده في الأصلين الأولين في الإسلام، وهما القرأن والسنة، دع عنك كون القياس عند غالبية المجتهدين هو نفسه أصل من أصول التشريع في الإسلام. والقياس، كما هو معروف، هو اعتماد العقل في الحكم على ما ليس فيه نص بناء على ما ورد فيه نص." (ص 110)
وفي الفصل الثالث والعشرين: "في الإسلام: المصلحة أساس الأخلاق والسياسة"، يبتدئ الجابري بالقول: "عندما قدمت خطاطة مشروع هذا الكتاب في محاضرة ألقيتها قبل نحو أربع سنوات (عام 1997) لم أكن مستوفيا لجميع المراجع الممكن الحصول عليها: كنت أفتقد إلى أي كتاب من كتب التراث يصح اعتباره بحق ممثلا للموروث الإسلامي "الخالص" في مجال الأخلاق. ومع أنني لم أكن قد درست بعمق وتفصيل المؤلفات التي تحدثت عنها في الفصلين السابقين فإن عملية الاستكشاف التي قمت بها قد ولدت في نفسي قناعة بأن أيا منها لا يمثل تمثيلا حقيقيا ما يمكن وصفه بأنه الأخلاق التي تنسب فعلا إلى الموروث الإسلامي "الخالص"، وإليه وحده، أخذا بعين الاعتبار أن قاعدة هذا الموروث هو القرآن. ذلك لأن مصاحبتي الطويلة للقرآن الكريم، سواء خلال أعمالي السابقة أو خارجها، قد جعلتني اعتبر بكيفية تلقائية أن ما يمكن وصفه بأنه القيمة المركزية في أخلاق القرآن هو "العمل الصالح." (ص 593)
نستخلص من النصوص الثلاثة المثبتة أعلاه عدة أطروحات، بعضها عام، وبعضها يخص الموروث الإسلامي. وليس هناك واحدة من هذه الأطروحات يمكن تمريرها بدون نقاش. وسنرد بالتوالي عليها.
الأطروحات العامة هي:
1- مصدر الحكم الأخلاقي في الموروث العربي الإسلامي هو العقل.
2- "القول بكون العقل هو أساس الأخلاق ينتج عنه بطبيعة الحال استبعاد الجانب النفسي والاجتماعي".
3- احتمال اختلاف القيمة التي تعطى للعقل في نظم القيم السائدة في الموروث العربي الإسلامي.
الأطروحات الخاصة بالموروث الإسلامي هي:
4- أن العقل هو أساس الأخلاق في الموروث الإسلامي الخالص.
5- "أن النص الديني في الحضارة العربية الإسلامية، ولو أنه يغطي من الناحية المبدئية، جميع مظاهر الحياة فإنه ترك مع ذلك للأخلاق مجالها الخاص، الواسع العريض. وهذا الوضع ينتج عنه أن الدين في الإسلام ليس هو أساس الأخلاق".
6- الأخلاق الإسلامية قائمة على المصلحة.
7- التمييز بين موروث إسلامي خالص وموروث إسلامي غير خالص.
الأطروحات العامة
أولا: إن القول بأن مصدر الحكم الأخلاقي في الموروث العربي الإسلامي هو العقل، قد يعني أن ما يميز هذا الموروث عن الموروثات الأخرى هو العقل ! وهذا يعني أن الموروثات الأخرى قد تكون عقلية أو قد لا تكون؛ أو بالأحرى أن بعضها عقلي، وهو عند الجابري الموروث اليوناني، وبعضها غير عقلي، وهو الموروث الغنوصي والصوفي والفارسي. دون أن يفسر لنا الجابري سبب هذا الامتياز. هذا فيما ما يتعلق بالمقارنة الخارجية.
أما إذا طرحنا المسألة على المستوى الداخلي، فإن هذه الأطروحة تعني أن كل الموروث الأخلاقي العربي الإسلامي عقلي، وينتج عن هذه المقدمة العامة أن الأخلاق المبنية على الوحي هي أخلاق عقلية أيضا. وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا تؤكد افتتاحية أول سورة في المصحف على أهمية الإيمان: "الم (1) ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( (5" (سورة البقرة).
أما أول آية نزلت وهي: "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) " (سورة العلق)، فهي تؤكد على أن العلم من عند الله.
و بما أن الغيب والآخرة من الأمور التي يستحيل على الوسائل الاستقرائية للعقل أن تصل فيها إلى معرفة يقينية، فلا يبقى إلا الإيمان كأساس لبناء العقيدة الدينية، بما فيه بعدها الأخلاقي. فالعلم الديني من عند الله. وأهمية الدين لدى المؤمن تكمن في كونه وحي من عند الله وليس لكونه عقلي. وكما قال ترتوليان أومن لأن الأمر غير معقول Credo quia absurdum. ولا ينتقص شيئا من الأخلاق الدينية كونها ليست عقلية. ووضع العقل في الدين – أي دين – محدود بالمسلمات الإيمانية التي تُسيج عمله وتحُدُّه في العَقلنة (أي إيجاد تفسير عقلي للوحي)؛ إذ لا يجوز للعقل الديني أن يعيد النظر في مسلماته، وكل ما هو مسموح له به هو التشييد على أساسها. والقياس في هذا المجال ليس شاهدا على العقل – والحرية التي يستلزمها - بل شاهد على قيوده.
نستنتج من هذا أنه لا يجب إلزام العقل الديني – والأخلاق المرتبطة به – بما لا يلزمه. ولهذا يتوقف كل عقل ديني عندما يبدأ عقل ديني آخر، وهو ما ينعكس على الأخلاق التي قد تختلف من دين لآخر، وهو ما يتنافى مع ما يصبو إليه العقل الخالص من معرفة تقوم على وحدة الحقيقة ووحدة الأخلاق. وقد رد القرآن على هذه المعضلة الدينية/المنطقية في كثير من الآيات، منها:
- "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ" (سورة يونس الآية: 99)
- "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ" (سورة هود الآية: 118
- "وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ" (سورة المائدة الآية: 48)
- "قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ" (سورة الأنعام الآية: 149)
- "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا ۚ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ(91) وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَىٰ مِنْ أُمَّةٍ ۚ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ ۚ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ۚ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93)" (سورة النحل)
فالحل مرجأ إلى يوم القيامة.
ثانيا: "القول بكون العقل هو أساس الأخلاق ينتج عنه بطبيعة الحال استبعاد الجانب النفسي والاجتماعي". ونحن نفهم – وقد نكون مخطئين – هذه الأطروحة على أن مفهوم "العقل" الوارد فيها عقل صوري يستبعد البعد الواقعي في الأخلاق. وإذا كان الأمر كذلك – وتنمنى أن لا نكون مخطئين – فكيف نفهم الأخلاق عند ابن خلدون، الذي كان من الممكن أن يورده الجابري كنموذج للأخلاق الواقعية (النفسية/الاجتماعية).
والحاصل هو أن ابن خلدون يسهل لنا الأمور، لكونه يتطرق بالنقد للفكر السياسي السابق له. ونفضل أن نورد نص ابن خلدون، رغم طوله، ليس لأهميته بالنسبة للمسألة التي نحن بصددها فحسب، بل وبالنسبة لموضوع الأخلاق والسياسة في التراث العربي الإسلامي عموما.
"وهذا الفنّ الّذي لاح لنا النّظر فيه، نجد منه مسائل تجري بالعرض لأهل العلوم في براهين علومهم، وهي من جنس مسائله بالموضوع والطّلب، مثل ما يذكره الحكماء والعلماء في إثبات النّبوّة من أنّ البشر متعاونون في وجودهم، فيحتاجون فيه إلى الحاكم والوازع. ومثل ما يذكر في أصول الفقه في باب إثبات اللّغات، أنّ النّاس محتاجون إلى العبارة عن المقاصد بطبيعة التّعاون والاجتماع وتبيان العبارات أخفّ. ومثل ما يذكره الفقهاء في تعليل الأحكام الشّرعيّة بالمقاصد، في أنّ الزّنا مخلط للأنساب مفسد للنّوع، وأنّ القتل أيضا مفسد للنّوع، وأنّ الظّلم مؤذن بخراب العمران المفضي لفساد النّوع، وغير ذلك من سائر المقاصد الشّرعيّة في الأحكام؛ فإنّها كلّها مبنيّة على المحافظة على العمران، فكان لها النّظر فيما يعرض له، وهو ظاهر من كلامنا هذا في هذه المسائل الممثّلة.
وكذلك أيضا يقع إلينا القليل من مسائله في كلمات متفرّقة لحكماء الخليقة، لكنّهم لم يستوفوه. فمن كلام الموبذان بهرام بن بهرام في حكاية البوم الّتي نقلها المسعوديّ. «أيّها الملك إنّ الملك لا يتمّ عزّه إلّا بالشّريعة، والقيام للَّه بطاعته، والتّصرّف تحت أمره ونهيه، ولا قوام للشّريعة إلّا بالملك، ولا عزّ للملك إلّا بالرّجال، ولا قوام للرّجال إلّا بالمال، ولا سبيل للمال إلّا بالعمارة، ولا سبيل للعمارة إلّا بالعدل، والعدل: الميزان المنصوب بين الخليقة، نصبه الرّبّ وجعل له قيّما وهو المُلك» .
ومن كلام أنوشروان في هذا المعنى بعينه: «الملك بالجند، والجند بالمال، والمال بالخراج، والخراج بالعمارة، والعمارة بالعدل، والعدل بإصلاح العمّال، وإصلاح العُمّال باستقامة الوزراء، ورأس الكلّ بافتقاد الملك حال رعيّته بنفسه، واقتداره على تأديبها حتّى يملكها ولا تملكه."
وفي الكتاب المنسوب لأرسطو في السّياسة - المتداول بين النّاس - جزء صالح منه، إلّا أنّه غير مستوف، ولا معطي حقّه من البراهين، ومختلط بغيره. وقد أشار في ذلك الكتاب إلى هذه الكلمات الّتي نقلناها عن الموبذان وأنوشروان، وجعلها في الدّائرة القريبة الّتي أعظم القول فيها هو قوله: «العالم بستان سياجه الدّولة، الدّولة سلطان تحيا به السّنّة، السّنّة سياسة يسوسها الملك، الملك نظام يعضده الجند، الجند أعوان يكفلهم المال، المال رزق تجمعه الرّعيّة، الرّعيّة عبيد يكنفهم العدل، العدل مألوف وبه قوام العالم، العالم بستان...» ثمّ ترجع إلى أوّل الكلام.
فهذه ثمان كلمات حكميّة سياسيّة، ارتبط بعضها ببعض، وارتدّت أعجازها إلى صدورها، واتّصلت في دائرة لا يتعيّن طرفها، فَخَر بعثوره عليها، وعَظّم من فوائدها.
وأنت إذا تأمّلت كلامنا في فصل الدّول والملك وأعطيته حقّه من التّصفّح والتّفهّم، عثرت في أثنائه على تفسير هذه الكلمات وتفصيل إجمالها، مستوفى بيّنا بأوعب بيان وأوضح دليل وبرهان، أطلعنا الله عليه من غير تعليم أرسطو ولا إفادة موبذان.
وكذلك تجد في كلام ابن المقفّع وما يستطرد في رسائله من ذكر السّياسات، الكثير من مسائل كتابنا هذا غير مبرهنة كما برهنّاه، إنّما يجليها في الذّكر على منحى الخطابة في أسلوب الترسّل وبلاغة الكلام.
وكذلك حوّم القاضي أبو بكر الطّرطوشيّ في كتاب "سراج الملوك" وبوّبه على أبواب تقرب من أبواب كتابنا هذا ومسائله، لكنّه لم يصادف فيه الرّمية، ولا أصاب الشّاكلة، ولا استوفى المسائل، ولا أوضح الأدلّة؛ إنّما يبوّب الباب للمسألة، ثمّ يستكثر من الأحاديث والآثار، وينقل كلمات متفرّقة لحكماء الفرس مثل بزرجمهر والموبذان، وحكماء الهند، والمأثور عن دانيال وهرمس وغيرهم من أكابر الخليقة. ولا يكشف عن التّحقيق قناعا، ولا يرفع البراهين الطّبيعيّة حجابا، إنّما هو نقل وتركيب شبيه بالمواعظ، وكأنّه حوّم على الغرض ولم يصادفه، ولا تحقّق قصده، ولا استوفى مسائله.
ونحن ألهمنا الله إلى ذلك إلهاما، وأعثرنا على علم جعلنا سنَّ بِكره [أي أول مُطَّلع على خفاياه التي لم يسبقه إليها أحد] وجُهينة خبره [في المثل: وعند جهينة الخبر اليقين]، فإن كنت قد استوفيت مسائله، وميّزت عن سائر الصّنائع أنظاره وأنحاءه، فتوفيق من الله وهداية؛ وإن فاتني شيء في إحصائه واشتبهت بغيره، فللنّاظر المحقّق إصلاحه، ولي الفضل لأنّي نهجت له السّبيل وأوضحت له الطّريق، والله يهدي بنوره من يشاء.
ونحن الآن نبيّن، في هذا الكتاب، ما يعرض للبشر في اجتماعهم من أحوال العمران، في الملك والكسب والعلوم والصّنائع، بوجوه برهانيّة يتّضح بها التّحقيق في معارف الخاصّة والعامّة، وتندفع بها الأوهام وترفع الشّكوك."
فهذا ابن خلدون ينتقد الأسلوب الخطابي للأفكار السياسية التي سادت في الثقافة العربية الإسلامية، ويقدم بديله المنهجي الذي هو نفسه المنهج الذي استعمله في مجمل علم العمران؛ وهو منهج لا يستبعد "الجانب النفسي والاجتماعي"، بل يعتمد عليهما بوصفهما من "وجوه البرهان" كما يقول في الفقرة الأخيرة. وكل ما قاله عن "البداوة" و"الحضارة" - وغيرها من المواضيع التي تناولها - مبني على اعتبارات بيئية واقتصادية واجتماعية ونفسية، بمنهج استقرائي وليس استنباطي كما هو الشأن في الفكر التأملي.
ثالثا: احتمال اختلاف القيمة التي تعطى للعقل في نظم القيم السائدة في الموروث العربي الإسلامي. وللجواب على السؤال الذي تتضمنه الأطروحة الأخيرة، يعرض الجابري لقيمة العقل في كل نظام على حدة، ويختم الفصل قائلا: "نخلص من جميع ما تقدم إلى أنه لا ألفاظ اللغة العربية ولا المفاهيم التي شيد عليها الفكر العربي باختلاف اتجاهاته وتياراته، لا أحد منهما كان يفتقد إلى ما يصلح أن يكون أساسا للأخلاق بالمعنى النظري الفلسفي الذي نجده في الفكر اليوناني والفكر الأوروبي. بل إن ترجمة كتاب "الأخلاق النيقوماخية" لأرسطو إلى اللغة العربية، وهو المرجع الأول في الأخلاق الفلسفية، ورواج معظم الآراء التي وردت فيه في الكتابات الأخلاقية العربية، إلى جانب آراء أفلاطون، لدليل على أنه لا اللغة ولا مفهوم "العقل" في الثقافة العربية، ولا غياب أي لفظ عن مجالها التداولي ، لا شيء من ذلك يمكن اعتباره عائقا أمام قيام "علم أخلاق" – بالمعنى اليوناني وبالمفهوم الحديث والمعاصر – في هذه الثقافة. الاعتراف ب "العقل" كأساس للأخلاق في الثقافة العربية قائم بما يشبه الإجماع. هذا أكيد. ولكن يبقى مع ذلك هذا السؤال قائما وبحدة: لماذا لم يظهر فيها "علم للأخلاق" مستقل، على الرغم من كثرة "العلوم العقلية" فيها؟ (ص 122)
ما يستوقفنا في هذه الخلاصة هو تساؤل الجابري عن عدم ظهور علم أخلاق مستقل في الثقافة العربية الإسلامية. والجواب هو أن استقلال العلوم بعضها عن البعض خضع لسيرورة تاريخية طويلة؛ و حتى ولو كان هذا صحيحا فإنه لا يمثل مشكلة في حد ذاته، لأن مسألة الأخلاق مطروحة في كل فكر بشكل صريح أو ضمني، ومهما كانت المجالات التي طرحت فيها (ثقافة عالمة، دين، فن، أسطورة، عادات اجتماعية...). ومن الممكن للباحث أن يستخرجها من كل هذه الأشكال، المُوَثقة منها أو المَعيشة في الواقع الأنتروبولوجي. وتركيز الجابري على الثقافة النظرية "الرسمية" - والتي قد تدعي الحديث باسم العقل - جعله يغفل عن منجم غني للأخلاق، ألا وهو الأدب، والبعض مما يُدعى زندقة، وكل ما هو هامشي. ففيه نجد الأخلاق التي تعارض الأخلاق السائدة – أكانت فلسفة أو علم كلام أو فقه - التي تتحاشى التعرض لأخلاق الغالبية الدينية، خاصة إذا كان وراء هذه الأخلاق سيف السلطان . ويكفي هنا التذكير بما هو متداول من شعر المتنبي والذي جعل كثيرا من الباحثين يقربونه من الفلسفة النتشوية؛ أو ابي نواس و بشار...، من ممثلي الإباحية التي تقوم على فلسفة للحياة وللأخلاق قائمة بذاتها؛ زيادة على كثير من الذين صُنفوا ضمن الزنادة من المفكرين الأحرار.
الأطروحات الخاصة بالموروث الإسلامي
رابعا: أن العقل هو أساس الأخلاق في الموروث الإسلامي الخالص. وقد عبرنا عن اعتراضنا المبدئي على هذه الأطروحة في معرض تعليقنا على الأطروحة العامة الأولى. وسنعود إليها في معرض تعليقنا على الأطروحتين الخامسة والسادسة.
خامسا: "أن النص الديني في الحضارة العربية الإسلامية، ولو أنه يغطي من الناحية المبدئية، جميع مظاهر الحياة فإنه ترك مع ذلك للأخلاق مجالها الخاص، الواسع العريض. وهذا الوضع ينتج عنه أن الدين في الإسلام ليس هو أساس الأخلاق". وأول معضلة يطرحها منطوق هذه الأطروحة هي: إذا كان الإسلام ليس هو أساس الأخلاق، فبأي معنى يمكن الحديث عن أخلاق إسلامية؟ وما الذي يبرر بحث الجابري عن اخلاق إسلامية خالصة؟
سادسا: أن "الأخلاق الإسلامية قائمة على المصلحة". وستناول هذه الأطروحة، مع الأطروحة السابقة لها رغم المعضلة التي تطرحها، في معرض تعليقنا على كتاب العز بن عبد السلام: "قواعد الأحكام في مصالح الأنام"، الذي يعده الجابري نموذجا للموروث الإسلامي الخالص.
يقول الجابري عن العز بن عبد السلام: "المهم أنني اكتشفت أن عالما واحدا على الأقل كان سد الفراغ الذي اشتكيت منه." وأنه "أكثر من أدرك، من علماء الإسلام، منزلة "العمل الصالح" أو "المصالح"، بتعبير الفقهاء، في نظام القيم الذي أقره القرآن. ومن قراءة كتابيه المشار إليهما ، واللذين سيكونان مدار هذا الفصل، يتبين للقارئ بسهولة أنه كان واعيا تمام الوعي بأن المحاولات التي قام بها من سبقوه بهدف تأسيس أخلاق إسلامية قد ضلت كلها السبيل. ولذلك فهو لا يعيرها أي اهتمام، بل ينصرف بتواضع لا مثيل له إلى تقديم البديل الإسلامي الحقيقي، كما سنرى." (ص 595)
ويزيد الجابري منوها بكتاب "قواعد الأحكام في مصالح الأنام" قائلا: "الكتاب كتاب في "الأخلاق" كما يقررها القرأن والحديث. والمنطلق بل الأساس الذي تقوم عليها هذه الأخلاق هو "المصلحة"، وبالتالي فالأمر يتعلق ب "أخلاق المصلحة" كما يفهمها فقه المصالح والمقاصد. وإذا تذكرنا أن للمؤلف كتابا بعنوان "مقاصد الصلاة"، وآخر بعنوان "مقاصد الصوم"، وأن كتابه "شجرة المعارف والأحوال وصالح الأقوال والأعمال" هو أيضا كتاب في الأخلاق مبني على المصالح كما سنرى، أدركنا أن العز بن عبد السلام هو أحد أقطاب مدرسة المقاصد في الفكر الإسلامي، إن لم يكن المؤسس الفعلي لها، فقد عاش قبل الشاطبي بنحو قرن وثلث القرن من الزمان (توفي العز سنة 660 ه وتوفي الشاطبي 790 ه). ومهما يكن وحتى لو افترضنا استقلالية الشاطبي وانتماءه إلى خط ابن حزم-ابن رشد، كما بينا ذلك في مكان آخر، واختلاف ميدان عمله (أصول الفقه) عن ميدان العز بن عبد السلام (الأخلاق)، فلا بد من الاعتراف لهذا الرجل، الذي لم ينل من الشهرة والتقدير ما يستحقه، بتفرده وتميزه وريادته في مجال الكتابة في "الأخلاق الإسلامية"، التي كان أول من شيدها على القيمة المركزية في الموروث الإسلامي "الخالص": العمل الصالح، أو المصلحة بكيفية عامة." (ص 599)
وقد عدنا بدورنا إلى الكتاب المشار إليه، فماذا وجدنا فيه؟ إذ كان من المنتظر أن نجد فيه – حسب ما بشر به الجابري - "عقلا"؛ وأن نجد فيه أن الدين ترك "للأخلاق مجالها الخاص، الواسع العريض"؛ والأهم ان نجد فيه أخلاق "مصلحة"؛ وأكثر من هذا أن نجده خلوا من "أخلاق الطاعة."
والحاصل أنه لم نجد شيئا من كل هذا ! ويكفي للبرهنة على ذلك هذه النصوص التي سنثبتهما كنموذج لمنظور العز بن عبد السلام للأخلاق. ونفضل أن نثبت النصوص بالطول الكفيل بإظهار إشكاليتها وسياقها ومحتواها الكامل، وألا نكتفي باقتباسات قصيرة يمكن ان نقولها ما نريد كما يفعل الجابري.
أولى هذه النصوص تضع الإطار النظري:
"أَمَّا مَصَالِحُ الدَّارَيْنِ وَأَسْبَابُهَا وَمَفَاسِدُهَا فَلَا تُعْرَفُ إلَّا بِالشَّرْعِ، فَإِنْ خَفِيَ مِنْهَا شَيْءٌ طُلِبَ مِنْ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ وَهِيَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ الْمُعْتَبَرُ وَالِاسْتِدْلَالُ الصَّحِيحُ. وَأَمَّا مَصَالِحُ الدُّنْيَا وَأَسْبَابُهَا وَمَفَاسِدُهَا فَمَعْرُوفَةٌ بِالضَّرُورَاتِ وَالتَّجَارِبِ وَالْعَادَاتِ وَالظُّنُونِ الْمُعْتَبَرَاتِ، فَإِنْ خَفِيَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ طُلِبَ مِنْ أَدِلَّتِهِ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْرِفَ الْمُتَنَاسِبَاتِ وَالْمَصَالِحَ وَالْمَفَاسِدَ رَاجِحَهُمَا وَمَرْجُوحَهُمَا فَلْيَعْرِضْ ذَلِكَ عَلَى عَقْلِهِ بِتَقْدِيرِ أَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِهِ ثُمَّ يَبْنِي عَلَيْهِ الْأَحْكَامَ فَلَا يَكَادُ حُكْمٌ مِنْهَا يَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ إلَّا مَا تَعَبَّدَ اللَّهَ بِهِ عِبَادَهُ وَلَمْ يَقِفْهُمْ عَلَى مَصْلَحَتِهِ أَوْ مَفْسَدَتِهِ، وَبِذَلِكَ تُعْرَفُ حُسْنُ الْأَعْمَالِ وَقُبْحُهَا، مَعَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ جَلْبُ مَصَالِحِ الْحَسَنِ، وَلَا دَرْءُ مَفَاسِدِ الْقَبِيحِ، كَمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ خَلْقٌ وَلَا رِزْقٌ وَلَا تَكْلِيفٌ وَلَا إثَابَةٌ وَلَا عُقُوبَةٌ، وَإِنَّمَا يَجْلِبُ مَصَالِحَ الْحَسَنِ وَيَدْرَأُ مَفَاسِدَ الْقَبِيحِ طُولًا مِنْهُ عَلَى عِبَادِهِ وَتَفَضُّلًا، وَلَوْ عُكِسَ الْأَمْرُ لَمْ يَكُنْ قَبِيحًا إذْ لَا حَجْرَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ.(ص 10)
"التَّكَالِيفُ كُلُّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْأَسْبَابِ الْمُعْتَادَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ الْأَسْبَابُ جَالِبَةً لِلْمَصَالِحِ بِأَنْفُسِهَا وَلَا دَارِئَةً لِلْمَفَاسِدِ بِأَنْفُسِهَا، بَلْ الْأَسْبَابُ فِي الْحَقِيقَةِ مَوَاقِيتُ لِلْأَحْكَامِ وَلِمَصَالِحِ الْأَحْكَامِ، وَاَللَّهُ هُوَ الْجَالِبُ لِلْمَصَالِحِ الدَّارِئُ لِلْمَفَاسِدِ، وَلَكِنَّهُ أَجْرَى عَادَتَهُ وَطَرَدَ سُنَّتَهُ بِتَرْتِيبِ بَعْضِ مَخْلُوقَاتِهِ عَلَى بَعْضٍ، لِتَعْرِيفِ الْعِبَادِ عِنْدَ وُجُودِ الْأَسْبَابِ مَا رُتِّبَ عَلَيْهَا مِنْ خَيْرٍ فَيَطْلُبُوهُ عِنْدَ وُقُوعِهَا وَوُجُودِهَا، وَمَا رُتِّبَ عَلَيْهَا مِنْ شَرٍّ فَيَجْتَنِبُوهُ عِنْدَ قِيَامِهَا وَتَحَقُّقِهَا وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ فِي الْعَادَةِ، وَكَثِيرٌ مَنْ يَنْفَكُّ عَنْ ذَلِكَ، فَكَمْ مِنْ مُرَغَّبٍ لَمْ يَرْغَبْ، وَكَمْ مِنْ مُرَهَّبٍ لَمْ يُرْهَبْ، وَكَمْ مِنْ مَزْجُورٍ لَمْ يَزْدَجِرْ، وَكَمْ مِنْ مُذَكَّرٍ لَمْ يَتَذَكَّرْ، وَكَمْ مِنْ مَأْمُورٍ بِالصَّبْرِ لَمْ يَصْطَبِرْ، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَقَطَعَ كُلَّ مُسَبَّبٍ عَنْ سَبَبِهِ، وَخَلَقَ الْمُسَبَّبَاتِ كُلَّهَا مُجَرَّدَةً عَنْ الْأَسْبَابِ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَاءَ لَخَلَقَ الْأَسْبَابَ كُلَّهَا مُجَرَّدَةً عَنْ الْمُسَبَّبَاتِ، لَكِنَّهُ قَرَنَ الْأَسْبَابَ بِالْمُسَبَّبَاتِ فِي مُطَّرِدِ الْعَادَاتِ، لِيُضِلَّ بِذَلِكَ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ". (ص 17-18)
وربما أن القارئ قد لاحظ أن مفهوم السببية الموظف في هذين النصين هو نفسه مفهوم الغزالي، وهو ما تجنب الجابري الإشارة إليه. وعندما نعرف الحكم السلبي للجابري على الغزالي، فإنه لا يسعنا إلا أن نقول أنه يكيل بمكيالين.
"الْمَشْرُوعَاتُ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا مَا ظَهَرَ لَنَا أَنَّهُ جَالِبٌ لِمَصْلَحَةٍ أَوْ دَارِئٌ لِمَفْسَدَةٍ، أَوْ جَالِبٌ دَارِئٌ لِمَفْسَدَةٍ، أَوْ جَالِبٌ دَارِئٌ لِمَصْلَحَةٍ، وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِأَنَّهُ مَعْقُولُ الْمَعْنَى. الضَّرْبُ الثَّانِي: مَا لَمْ يَظْهَرْ لَنَا جَلْبُهُ لِمَصْلَحَةٍ أَوْ دَرْؤُهُ لِمَفْسَدَةٍ، وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِالتَّعَبُّدِ. وَفِي التَّعَبُّدِ مِنْ الطَّوَاعِيَةِ وَالْإِذْعَانِ مِمَّا لَمْ تُعْرَفْ حِكْمَتُهُ وَلَا تُعْرَفُ عِلَّتُهُ مَا لَيْسَ مِمَّا ظَهَرَتْ عِلَّتُهُ وَفُهِمَتْ حِكْمَتُهُ، فَإِنَّ مُلَابِسَهُ قَدْ يَفْعَلُهُ لِأَجْلِ تَحْصِيلِ حِكْمَتِهِ وَفَائِدَتِهِ، وَالْمُتَعَبِّدُ لَا يَفْعَلُ مَا تَعَبَّدَ بِهِ إلَّا إجْلَالًا لِلرَّبِّ وَانْقِيَادًا إلَى طَاعَتِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَتَجَرَّدَ التَّعَبُّدَاتُ عَنْ جَلْبِ الْمَصَالِحِ وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ، ثُمَّ يَقَعَ الثَّوَابُ عَلَيْهَا بِنَاءً عَلَى الطَّاعَةِ وَالْإِذْعَانِ، مِنْ غَيْرِ جَلْبِ مَصْلَحَةٍ غَيْرِ مَصْلَحَةِ الثَّوَابِ، وَدَرْءِ مَفْسَدَةٍ غَيْرُ مَفْسَدَةِ الْعِصْيَانِ، فَيَحْصُلُ مِنْ هَذَا أَنَّ الثَّوَابَ قَدْ يَكُونُ عَلَى مُجَرَّدِ الطَّوَاعِيَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُحَصِّلَ تِلْكَ الطَّوَاعِيَةُ جَلْبَ مَصْلَحَةٍ أَوْ دَرْءَ مَفْسَدَةٍ، سِوَى مَصْلَحَةِ أَجْرِ الطَّوَاعِيَةِ".. (ص 22)
أما النصوص التالية فتعطينا تطبيقا لهذا الإطار النظري:
"الْمَصَالِحُ وَالْمَفَاسِدُ فِي رُتَبٍ مُتَفَاوِتَةٍ، وَعَلَى رُتَبِ الْمَصَالِحِ تَتَرَتَّبُ الْفَضَائِلُ فِي الدُّنْيَا، وَالْأُجُورُ فِي الْعُقْبَى، وَعَلَى رُتَبِ الْمَفَاسِدِ تَتَرَتَّبُ الصَّغَائِرُ وَالْكَبَائِرُ وَعُقُوبَاتُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَقَدْ تَسْتَوِي مَصْلَحَةُ الْفِعْلَيْنِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَيُوجِبُ الرَّبُّ تَحْصِيلَ إحْدَى الْمَصْلَحَتَيْنِ نَظَرًا لِمَنْ أَوْجَبَهَا لَهُ أَوْ عَلَيْهِ، وَيَجْعَلُ أَجْرَهَا أَتَمَّ مِنْ أَجْرِ الَّتِي لَمْ يُوجِبْهَا. فَإِنَّ دِرْهَمَ النَّفْلِ مُسَاوٍ لِدِرْهَمِ الزَّكَاةِ لَكِنَّهُ أَوْجَبَهُ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُوجِبْهُ لَتَقَاعَدَ الْأَغْنِيَاءُ عَنْ بِرِّ الْفُقَرَاءِ فَيَهْلِكُ الْفُقَرَاءُ، وَجَعَلَ الْأَجْرَ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ الْأَجْرِ عَلَى غَيْرِهِ، تَرْغِيبًا فِي الْتِزَامِهِ وَالْقِيَامِ بِهِ، فَإِنَّهُ قَدْ يُؤْجَرُ عَلَى أَحَدِ الْعَمَلَيْنِ الْمُتَمَاثِلَيْنِ مَا لَا يُؤْجَرُ عَلَى نَظِيرِهِ، مَعَ أَنَّهُ لَا تَفَاوُتَ بَيْنَهُمَا إلَّا بِتَحَمُّلِ مَشَقَّةِ الْإِيجَابِ وَوُجُوبِ الْعِقَابِ عَلَى التَّرْكِ وَلِذَلِكَ أَمْثِلَةٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ حَجَّ الْفَرْضِ وَعُمْرَتَهُ مُتَسَاوِيَانِ بِحَجِّ النَّفْلِ وَعُمْرَتِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. الثَّانِي: أَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ مُسَاوٍ لِصَوْمِ شَعْبَانَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، مَعَ أَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ أَفْضَلُ مِنْ صَوْمِ شَعْبَانَ، بَلْ لَوْ وَقَعَ صَوْمُ رَمَضَانَ فِي أَقْصَرِ الْأَيَّامِ وَصَوْمُ غَيْرِهِ فِي أَطْوَلِهَا لَكَانَ صَوْمُ رَمَضَانَ أَفْضَلَ مَعَ خِفَّتِهِ وَقِصَرِهِ مِنْ صَوْمِ سَائِرِ الْأَيَّامِ مَعَ ثِقَلِهَا وَطُولِهَا. الْمِثَالُ الثَّالِثُ: أَنَّ الذِّكْرَ الْوَاجِبَ وَالْمَنْدُوبَ مُتَسَاوِيَانِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَإِنَّ تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ مُمَاثِلَةٌ لِسَائِرِ التَّكْبِيرَاتِ وَهِيَ أَفْضَلُ مِنْهَا بِلَا خِلَافٍ، وَكَذَلِكَ قِرَاءَةُ حَمْدَلَةِ الْفَاتِحَةِ فِي الصَّلَاةِ مُسَاوِيَةٌ لِقِرَاءَتِهَا فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ مَعَ أَنَّهَا أَفْضَلُ مِنْهَا إذَا قُرِئَتْ خَارِجَ الصَّلَاةِ وَكَذَلِكَ الْأَذْكَارُ الَّتِي فِي الْقُرْآنِ إذَا قُصِدَ بِهَا الْقِرَاءَةُ شُرِطَتْ فِيهَا الطَّهَارَةُ عَنْ الْجَنَابَةِ، وَلَوْ قُصِدَ بِهَا الذِّكْرُ كَالْبَسْمَلَةِ عَلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَالْحَمْدَلَةِ عِنْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا، وَالتَّسْبِيحَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْآنِ، لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهَا الطَّهَارَةُ عَنْ الْجَنَابَةِ، مَعَ تَسَاوِي هَذِهِ الْأَذْكَارِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. وَكَذَلِكَ مَا فَرَضَهُ اللَّهُ فِي الزَّكَاةِ قَدْ تُسَاوِي مَصْلَحَتُهُ مَصْلَحَةَ نَظِيرِهِ مِنْ الصَّدَقَاتِ فِي سَدِّ الْخَلَّاتِ وَدَفْعِ الْحَاجَاتِ وَلَهُ أَمْثِلَةٌ: أَحَدُهَا إخْرَاجُ دِرْهَمَيْنِ مُتَسَاوِيَيْنِ أَحَدُهُمَا زَكَاةٌ وَالْآخَرُ صَدَقَةٌ.الثَّانِي: شَاتَانِ مُتَسَاوِيَتَانِ تَصَدَّقَ بِأَحَدِهِمَا وَزَكَّى بِالْأُخْرَى، الثَّالِثُ إخْرَاجُ الْعُشْرِ فِي الزَّكَاةِ مَعَ عُشْرٍ آخَرَ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ، فَالزَّكَاةُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ أَفْضَلُ مِنْ الصَّدَقَةِ مَعَ الْقَطْعِ بِالِاسْتِوَاءِ فِي دَفْعِ الْحَاجَاتِ وَسَدِّ الْخَلَّاتِ، وَقَدْ يَكُونُ النَّفَلُ مِنْ الصَّدَقَاتِ أَكْمَلَ مَصْلَحَةً مِنْ الْفَرْضِ فِي الزَّكَاةِ وَتَكُونُ الزَّكَاةُ أَفْضَلَ. وَلَهُ أَمْثِلَةٌ. أَحَدُهَا: أَنْ يَتَصَدَّقَ بِشَاةٍ نَفِيسَةٍ أَوْ بِغَيْرِ نَفِيسٍ أَوْ حِنْطَةٍ جَيِّدَةٍ وَيُزْكِي بِشَاةٍ خَسِيسَةٍ أَوْ بَعِيرٍ رَذْلٍ أَوْ بِحِنْطَةٍ رَدِيَّةٍ.الثَّانِي: أَنْ يُخْرِجَ بِنْتَ مَخَاضٍ فِي الزَّكَاةِ وَيَتَصَدَّقَ بِحِقَّةِ أَوْ جَذَعَةٍ.الثَّالِثُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِفِضَّةٍ لَيِّنَةٍ حَسَنَةٍ وَيُزْكِيَ بِفِضَّةٍ خَشِنَةٍ رَدِيَّةٍ مِنْ جِنْسِ النِّصَابِ، فَإِنَّ الْجَيِّدَ مِنْ جِنْسِ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ أَكْمَلُ مَصْلَحَةً وَأَتَمُّ فَائِدَةً فِي بَابِ الصَّدَقَاتِ، مَعَ الْقَطْعِ بِأَنَّ أَجْرَهُ دُونَ أَجْرِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الزَّكَاةِ، وَمَدَارُ ذَلِكَ كُلِّهِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ قَالَ: «وَلَنْ يَتَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدٌ بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ» ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مَعْمُولٌ بِهِ إذَا سَاوَى الْفَرْضُ النَّفَلَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي دِرْهَمِ الصَّدَقَةِ وَدِرْهَمِ الزَّكَاةِ، وَفِي حَجِّ الْفَرْضِ وَحَجِّ النَّفْلِ وَفِي صَوْمِ الْفَرْضِ وَصَوْمِ النَّفْلِ، فَإِنَّهُمَا مُتَسَاوِيَانِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، أَمَّا إذَا تَفَاوَتَا بِالْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ مِثْلَ أَنْ يُزَكِّيَ بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ وَيَتَصَدَّقَ بِعَشْرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَزَكَّى بِشَاةٍ وَتَصَدَّقَ بِعَشْرَةِ آلَافِ شَاةٍ، فَيُحْتَمَلُ فِي مِثْلِ هَذَا أَنْ يَكُونَ الْفَرْضُ أَفْضَلَ مِنْ النَّفْلِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى تَفَاوُتِ الْمَصْلَحَتَيْنِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُخَصَّ الْحَدِيثُ بِالْعَمَلَيْنِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ فِي الْمَصْلَحَةِ كَدِرْهَمِ الزَّكَاةِ مَعَ دِرْهَمِ الصَّدَقَةِ، وَشَاةِ الزَّكَاةِ مَعَ شَاةِ الصَّدَقَةِ، وَلَكِنَّ فِيهِ مُخَالَفَةً لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَلَيْسَ بِبَعِيدٍ مِنْ تَفَضُّلِ الرَّبِّ أَنْ يُؤْجَرَ عَلَى أَقَلِّ الْعَمَلَيْنِ الْمُتَجَانِسَيْنِ، أَكْبَرَ مِمَّا يُؤْجَرُ عَلَى أَكْثَرِهِمَا، كَمَا فَضُلَ أَجْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ مَعَ قِلَّةِ عَمَلِهَا عَلَى أَجْرِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مَعَ كَثْرَةِ عَمَلِهِمْ، وَكَمَا فَضُلَ أَجْرُ الْفَرَائِضِ عَلَى مُسَاوِيهَا مِنْ النَّوَافِلِ طُولًا عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَكَمَا أَنَّ قِيَامَ لَيْلَةِ الْقَدْرِ مُوجِبٌ لِغُفْرَانِ الذُّنُوبِ مَعَ مُسَاوَاتِهِ لِقِيَامِ كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ لَيَالِيِ رَمَضَانَ. وَكَذَلِكَ الْعَمَلُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ الْعَمَلِ فِي أَلْفِ شَهْرٍ مَعَ التَّسَاوِي.(ص 29-31)
"فإنْ قِيلَ هَلْ يُحَرِّمُ الرَّبُّ مَا لَا مَفْسَدَةَ فِيهِ؟ قُلْنَا: نَعَمْ، قَدْ يُحَرِّمُ الرَّبُّ مَا لَا مَفْسَدَةَ فِيهِ عُقُوبَةً لِمُخَالَفَتِهِ وَحِرْمَانًا لَهُمْ أَوْ تَعَبُّدًا. أَمَّا تَحْرِيمُ الْحُرُمَاتِ، فَكَمَا حَرَّمَ عَلَى الْيَهُودِ كُلَّ ذِي ظُفْرٍ، وَكَمَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ الثُّرُوبَ مِنْ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، عُقُوبَةً لَهُمْ لَا لِمَفْسَدَةٍ فِي ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ فِيهِ مَفْسَدَةٌ لَمَا أَحَلَّ ذَلِكَ لَنَا مَعَ أَنَّا أَكْرَمُ عَلَيْهِ مِنْهُمْ. وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ} [الأنعام: 146] ، وَبِقَوْلِهِ: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160]. وَأَمَّا تَحْرِيمُ التَّعَبُّدِ فَكَتَحْرِيمِ الصَّيْدِ فِي الْإِحْرَامِ، وَالدَّهْنِ وَالطِّيبِ وَاللِّبَاسِ، فَإِنَّهَا لَمْ تُحَرَّمْ لِصِفَةٍ قَائِمَةٍ بِهَا تَقْتَضِي تَحْرِيمَهَا، بَلْ لِأَمْرٍ خَارِجٍ عَنْ أَوْصَافِهَا، وَصَارَ ذَلِكَ بِمَثَابَةِ أَكْلِ مَالِ الْغَيْرِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُحَرَّمْ لِصِفَةٍ قَائِمَةٍ بِهِ، وَإِنَّمَا حَرُمَ لِأَمْرٍ خَارِجٍ."(ص 42)
"كَذَلِكَ إذَا عَظُمَتْ الْمَفْسَدَةُ، حَرَّمَهَا فِي كُلِّ شَرِيعَةٍ، وَإِنْ تَفَاوَتَتْ رُتَبُ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ فَقَدْ يُقَدِّمُ الشَّرْعُ بَعْضَ الْمَصَالِحِ فِي بَعْضِ الشَّرَائِعِ عَلَى غَيْرِهَا، وَيُخَالِفُ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الشَّرَائِعِ. وكَذَلِكَ الْمَفَاسِدُ، فَالْقِصَاصُ فِي شَرِيعَةِ مُوسَى وَاجِبٌ حَقًّا لِلَّهِ كَمَا فِي حَدِّ السَّرِقَةِ وَالزِّنَا، وَهُوَ عِنْدَنَا حَقٌّ لِلْعَبْدِ مُقْتَرِنٌ بِحَقِّ الرَّبِّ، وَرُجِّحَ فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ عَلَى حَقِّ الرَّبِّ فِي شَرْعِنَا نَظَرًا لِلْجَانِي وَلِوَلِيِّ الدَّمِ. وكذلك حَرُمَ فِي النِّكَاحِ الزِّيَادَةُ عَلَى امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ فِي شَرْعِ عِيسَى نَظَرًا لِلنِّسَاءِ وَكِيلَا يَتَضَرَّرْنَ بِكَثْرَةِ الضَّرَائِرِ وَالْإِمَاءِ، وَأَجَازَهُ مِنْ غَيْرِ حَصْرٍ فِي شَرِيعَةِ مُوسَى لِمَنْ قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ بِالْوَطْءِ وَمُؤَنِ النِّكَاحِ، وَأَجَازَ فِي شَرْعِنَا الزِّيَادَةَ عَلَى وَاحِدَةٍ نَظَرًا لِلرِّجَالِ وَحَرَّمَ الزِّيَادَةَ عَلَى الْأَرْبَعِ نَظَرًا لِلنِّسَاءِ وَرَحْمَةً بِهِنَّ، وَوَطْءُ الْإِمَاءِ مِنْ غَيْرِ حَصْرٍ نَظَرًا لِلرِّجَالِ."(ص44)
بعد عرضنا لهذه النصوص، نعود لما كان من المفترض أن نجد فيها.
أولا: العقل. وسنستعمل هنا تعبيرا جابريا ونقول إن هذه النصوص تعطينا نموذجا ل "العقل المُستَقيل". فهو عقل مستقيل لأنه عقل "تخريجي" كما يقول طرابيشي، أي أنه عقل تابع للوحي كل دوره هو عَقلنة ما أقره الشرع. وحتى عندما يتفق له أن يطابق ما قد يراه العقل الكوني، فإن ذلك ليس إلا أمرا عرضيا، لأن الأصل هو ما أقرته الشريعة.
ثانيا: استقلالية الأخلاق عن الدين. وهي إشكالية هامشية تماما في اهتمام العز بن عبد السلام (حتى لا نقول أنها غير موجودة)، لكون ما لم يرد فيه نص يمكن إلحاقه بالشريعة عن طريق القياس ومقولات الحلال والحرام. فالعقل الديني عقل ثنائي يميز بين ما هو داخله (المؤمن، الحلال...) وما هو خارجه (الكافر، الحرام..).
ثالثا: المصلحة. وهي المصلحة من وجهة النظر الدينية أساسا، وليست المصلحة كما عبر عنها العقل الكوني. ورب معترض يلاحظ أن المؤلف يتحدث أيضا عن المصلحة بمعناها المتداول (أي ما ينفع الناس بدون أية مرجعية دينية)، وهذا صحيح؛ وردنا هو أن هناك حدا أدنى مشتركا بين كل الأخلاق، مهما كانت مرجعيتها، كالبر بالوالدين ومساعدة الفقير والصدق...، ولولا ذلك لسقط الكتاب في اللامعقول الشامل.
رابعا: علاقتها بأخلاق الطاعة. لم يتطرق الكتاب للسياسة إلا من حيث هي وسيلة لتطبيق الشريعة، والنصين التاليين يبينان إشكالية هذه العلاقة:
يقول النص الأول: "إنْ قِيلَ: هَلْ يَتَسَاوَى أَجْرُ الْحَاكِمِ وَالْمُفْتِي الْقَائِمَيْنِ بِوَظَائِفِ الْحُكْمِ وَالْفُتْيَا أَمْ لَا؟ فَالْجَوَابُ إنَّ أَجْرَ الْحَاكِمِ أَعْظَمُ لِأَنَّهُ يُفْتِي وَيُلْزِمُ فَلَهُ أَجْرَانِ: أَحَدُهُمَا: عَلَى فُتْيَاهُ وَالْآخَرُ عَلَى إلْزَامِهِ، هَذَا إذَا اسْتَوَتْ الْوَاقِعَةُ الَّتِي فِيهَا الْفُتْيَا وَالْحُكْمِ، وَتَخْتَلِفُ أُجُورُهُمَا بِاخْتِلَافِ مَا يَجْلِبَانِهِ مِنْ الْمَصَالِحِ وَيَدْرَآنِهِ، مِنْ الْمَفَاسِدِ، وَتَصَدِّي الْحَاكِمِ لِلْحُكْمِ أَفْضَلُ مِنْ تَصَدِّي الْمُفْتِي لِلْفُتْيَا، وَأَجْرُ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ أَفْضَلُ مِنْ أَجْرِ الْمُفْتِي وَالْحَاكِمِ، لِأَنَّ مَا يَجْلِبُهُ مِنْ الْمَصَالِحِ وَيَدْرَأُهُ مِنْ الْمَفَاسِدِ أَتَمُّ وَأَعَمُّ؛ وَكَذَلِكَ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ، إمَامٌ عَادِلٌ» ، فَبَدَأَ بِهِ لِعُلُوِّ مَرْتَبَتِهِ."(ص 142)
من هذا النص يتبين لنا، بصريح العبارة، أن أفضل نظام في نظر العز بن عبد السلام هو الذي "تستوي فيه الواقعة التي فيها الفتيا والحكم". وهذا هو النموذج الأسمى "لأخلاق الطاعة"، أي " وحدة الدين والدولة وطاعة الله والخليفة"، حسب تعريف الجابري نفسه. هل نحتاج ان نقول أن النظام الشمولي هو وحده الذي يحتكر فيه الزعيم "الفتيا" والحكم، مثل هتلر وستالين وماو تسي تونغ...؟
و النص الثاني يتناول شرط العدالة في الإمام: "وأَمَّا الْإِمَامَةُ الْعُظْمَى فَفِي اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ فِيهَا اختِلَافٌ لِغَلَبَةِ الْفُسُوقِ عَلَى الْوُلَاةِ، وَلَوْ شَرَطْنَاهَا لَتَعَطَّلَتْ التَّصَرُّفَاتُ الْمُوَافِقَةُ لِلْحَقِّ فِي تَوْلِيَةِ مَنْ يُوَلُّونَهُ مِنْ الْقُضَاةِ وَالْوُلَاةِ وَالسُّعَاةِ وَأُمَرَاءِ الْغَزَوَاتِ، وَأَخْذِ مَا يَأْخُذُونَهُ وَبَذْلِ مَا يُعْطُونَهُ. وَقَبْضِ الصَّدَقَاتِ وَالْأَمْوَالِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ الْمُنْدَرِجَةِ تَحْتَ وِلَايَتِهِمْ، فَلَمْ تُشْتَرَطْ الْعَدَالَةُ فِي تَصَرُّفَاتِهِمْ الْمُوَافِقَةِ لِلْحَقِّ لِمَا فِي اشْتِرَاطِهَا مِنْ الضَّرَرِ الْعَامِّ، وَفَوَاتُ هَذِهِ الْمَصَالِحِ أَقْبَحُ مِنْ فَوَاتِ عَدَالَةِ السُّلْطَانِ."(ص 79).
وقد قرأنا هذا النص في سياقه مرارا، وكل ما فهمنا منه – ونتمنى الآ نكون مخطئين – هو أن الغاية، التي هي تطبيق الشريعة، تبرر الوسيلة التي قد لا تكون عادلة، أو أن تطبيق الشريعة يمكن أن يوكل لأشخاص غير أخلاقيين. وهذه من خصائص النظريات التي تعطي الأسبقية لمنطق الدولة، أو الأنظمة العَقدية الشمولية. وما يسند فهمنا هذا تعليق العز بن عبد السلام على مسألة عزل خالد بن الوليد من ولاية الجيش في النص التالي:
"فَصْلٌ فِي تَقَيُّدِ الْعَزْلِ بِالْأَصْلَحِ لِلْمُسْلِمِينَ فَالْأَصْلَحِ"
"إذَا أَرَادَ الْإِمَامُ عَزْلَ الْحَاكِمِ فَإِنْ أَرَابَهُ مِنْهُ شَيْءٌ عَزَلَهُ لِمَا فِي إبْقَاءِ الْمُرِيبِ مِنْ الْمَفْسَدَةِ إذْ لَا يَصْلُحُ فِي تَقْرِيرِ الْمُرِيبِ عَلَى وِلَايَةٍ عَامَّةٍ وَلَا خَاصَّةٍ، لِمَا يُخْشَى مِنْ خِيَانَتِهِ فِيهَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ رِيبَةً فَلَهُ أَحْوَالٌ. إحْدَاهُمَا: أَنْ يَعْزِلَهُ بِمَنْ هُوَ دُونَهُ، وَلَا يَجُوزُ عَزْلُهُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْوِيتِ الْمُسْلِمِينَ الْمَصْلَحَةَ الْحَاصِلَةَ مِنْ جِهَةِ فَضْلِهِ عَلَى غَيْرِهِ وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ تَفْوِيتُ الْمَصَالِحِ مِنْ غَيْرِ مُعَارِضٍ. الْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَعْزِلَهُ بِمَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ فَيُنَفَّذُ عَزْلُهُ تَقْدِيمًا لِلْأَصْلَحِ عَلَى الصَّالِحِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَحْصِيلِ الْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ لِلْمُسْلِمِينَ. الْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَعْزِلَهُ بِمَنْ يُسَاوِيهِ؛ فَقَدْ أَجَازَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ التَّخَيُّرِ عِنْدَ تَسَاوِي الْمَصَالِحِ، وَكَمَا يَتَخَيَّرُ بَيْنَهُمَا فِي ابْتِدَاءِ الْوِلَايَةِ، وَقَالَ آخَرُونَ لَا يَجُوزُ لِمَا فِيهِ مِنْ كَسْرِ الْعَزْلِ وَعَارِهِ بِخِلَافِ ابْتِدَاءِ الْوِلَايَةِ. فَإِنْ قِيلَ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ لِمَا فِيهِ مِنْ النَّفْعِ لِلْمُوَلَّى؟ قُلْنَا حِفْظُ الْمَوْجُودِ أَوْلَى مِنْ تَحْصِيلِ الْمَفْقُودِ، وَدَفْعُ الضَّرَرِ أَوْلَى مِنْ جَلْبِ النَّفْعِ، وَهَذَا مَعْرُوفٌ بِالْعَادَةِ، وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا ثُمَّ لَمْ يُجْهَدْ لَهُمْ وَيَنْصَحْ لَمْ يَدْخُلْ الْجَنَّةَ مَعَهُمْ» . وَلَمَّا اُتُّهِمَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بِأَنَّهُ قَتَلَ مَالِكَ بْنَ نُوَيْرَةَ لِيَتَزَوَّجَ بِامْرَأَتِهِ حَتَّى قَالَ الشَّاعِرُ:
وَجَرَّتْ مَنَايَا مَالِكِ بْنِ نُوَيْرَةَ ... عَقِيلَتَهُ الْحَسْنَاءَ أَيَّامَ خَالِدِ
حَرَّضَ عُمَرُ عَلَى أَنْ يَعْزِلَهُ أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ قَتَلَ رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَنَزَى عَلَى امْرَأَتِهِ، فَامْتَنَعَ أَبُو بَكْرٍ مِنْ عَزْلِهِ لِأَنَّهُ كَانَ أَصْلَحَ فِي الْقِيَامِ لِقِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ مِنْ غَيْرِهِ، وَهُوَ أَصْوَبُ مِمَّا رَآهُ عُمَرُ لِأَنَّ تِلْكَ الرِّيبَةَ لَمْ تَكُنْ قَادِحَةً فِي كَوْنِهِ أَقْوَمَ بِالْحَرْبِ مِنْ غَيْرِهِ، فَلَمَّا تَوَلَّى عُمَرُ عَزَلَهُ عَنْ حَرْبِ الشَّامِ، وَوَلَّى أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ، فَوَصَلَ كِتَابُ الْعَزْلِ إلَى أَبِي عُبَيْدَةَ وَالنَّاسُ صُفُوفٌ لِلْقِتَالِ، فَلَمْ يُخْبِرْ خَالِدًا حَتَّى انْقَشَعَتْ الْحَرْبُ لِعِلْمِهِ بِتَقَدُّمِهِ فِي مَكَانِ الْحَرْبِ، وَتَرْتِيبِ الْقِتَالِ، وَلَوْ أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ لَتَشَوَّشَ أَمْرُ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا لَمْ يُخْبِرْهُ لِأَنَّهُ أُذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ، أَوْ رَأَى أَنَّهُ لَا يَنْعَزِلُ حَتَّى يَقِفَ عَلَى الْكِتَابِ."(ص 80-81)
فهذا خالد بن الوليد يرتكب جريمة، ولربما جريمتين: القتل والزنى، وكلاهما تستوجب القتل حسب الشريعة المعمول بها، ولا يرى كاتب النص مانعا من الصفح عنه لأنه قائد عسكري ممتاز ! إلا أن هذا الموقف ليس إلا ترجمة لتراتبية المصلحة عند العز بن عبد السلام، والجهاد أعلى قيمة من المصالح الفردية. وهذا دليل آخر على أن "المصلحة" هنا غير المصلحة في المفهوم المتداول.
هذه إذن هي أفكار ممثل "الأخلاق الإسلامية الخالصة" في مجالي الأخلاق والسياسة. هذه هي آراء المفكر الذي "سد الفراغ الذي اشتكينا منه"، حسب تعبير الجابري، وهي أرقى ما أبدعه العقل الأخلاقي العربي في الرؤية الجابرية.
والحاصل أن الذي يطرح لنا مشكلة ليس العز بن عبد السلام، بل الجابري. فقد بدأنا قراءة " قواعد الأحكام في مصالح الأنام" تحت تأثير الهالة التي أحاط بها الجابري مؤلفه، لكننا لم نجد فيه إلا نموذجا للعقل الفقهي. وإذا كان الأمر كذلك، فما الذي دفع الجابري إلى الانبطاح أمام هذا العقل الفقهي؟
لقد لاحظنا أن كثيرا من المشتغلين بالفلسفة في الثقافة العربية يتحولون إلى متكلمين عندما يتعلق الأمر بالإسلام، وهو ما أشرنا إليه في البحث الذي خصصناه ل"الشخصانية الواقعية" عند محمد عزيز الحبابي . والجابري الذي تلقط كل ما يمكن أن يؤول بأنه "أخلاق طاعة" عند جل المفكرين الذين تناولهم، وكل ما يقلل من أصالة إسهاماتهم، نجده يستعمل كل وسائل التزوير ليجعل من الأخلاق الفقهية أخلاقا عقلانية ومصلحية وعَلمانية (لأن "الدين في الإسلام ليس هو أساس الأخلاق")، وإن كان لم يستعمل هذا المصطلح فإنه استعمل معناه. وليت أن الجابري تحول إلى متكلم، لأن ذلك كان يقتضي منه أن يدافع عن الدين بالمنطق على الأقل؛ أما ما فعله هنا فهو أنه تحول إلى مجرد فقيه تابع.
سابعا: التمييز بين موروث إسلامي خالص وموروث إسلامي غير خالص.
لقد تعرفنا بواسطة الأطروحتين الخامسة والسادسة على الأخلاق الإسلامية "الخالصة"، فما الذي جعل من أخلاق المحاسبي والماوردي والراغب الاصبهاني والغزالي "موروثا إسلاميا غير خالص"؟ وهذه خلاصات الجابري عن كل واحد منهم والتي تلخص مكمن النقص عندهم.
"لقد شيد المحاسبي فعلا بخطاب مرتب منظم عالِم ما أسماه ب "أخلاق الدين"، وهي بالتحديد أخلاق الاستعداد للآخرة، معتمدا على القرآن فعلا، ولكن هل هذه الأخلاق هي وحدها "الأخلاق الإسلامية"؟ هل هي وحدها التي يمكن استخلاصها من القرآن؟ أليس الإسلام دين ودنيا؟ الجواب واضح. أخلاق المحاسبي لا تمثل الإسلام ككل. لقد غطت وملأت كفة "أدب الدين" ولكنها أعرضت إعراضا كليا عن "أدب الدنيا" ! فكيف يمكن الجمع بينهما؟ (ص 560)
"نعم، يؤكد الماوردي على أن الإسلام دين ودنيا وعلى أن المرجع في الأخلاق في الإسلام مرجعان: العقل والشرع، وهما معا حاضران في أدب الدين وأدب الدنيا معا. وهكذا فباستعمال لباقة "الديبلوماسي" وبتوظيف ما أسماه "تحقيق الفقهاء وترقيق الأدباء" (التفريعات الفقهية والتنميقات الأسلوبية)، يوفق الماوردي ويصالح بين الفقه والتصوف ثم بينهما من جهة، وبين "أدب النفس" كما يقدمه الموروث الإسلامي (الحديث بصفة خاصة) و"أدب اللسان" العربي من جهة أخرى، ليجعل من ذلك كله "أدبا" واحدا هو: "أدب الدنيا والدين". أما أن يكون كتاب الماوردي حاملا لمشروع تشييد "أخلاق إسلامية"، فهذا ما سبق أن أبرزناه، وأما أن يكون هذا المشروع يمثل فعلا ما يستحق أن يسمى بهذا الإسم، فذلك ما يصعب الدفاع عنه، والمشاريع التي جاءت بعده كانت تكذبه، أو على الأقل تقدم ما تعتبره البديل الصحيح." (ص 570)
"لقد وعى الراغب الأصبهاني بعمق الحاجة إلى كتاب في "الأخلاق الإسلامية"، يكون بديلا للمؤلفات التي تنتفي إلى الموروثين الفارسي واليوناني. غير ان ما كان ينقصه هو المنهجية التي يتطلبها مثل هذا المشروع. ومثل هذه المنهجية تحتاج إلى معرفة ب "آلة العلوم"، أي ما أطلق عليه الغزالي "معيار العلم" (المنطق). وبالفعل سنجد هذه المنهجية واضحة ناضجة في محاولة الغزالي تحقيق نفس المشروع، مشروع "أخلاق إسلامية". ولكن في اتجاه؟" (ص 582-583)
"وهكذا يمكن القول إن المهمة التي ندب الغزالي نفسه لها في كتابه "إحياء علوم الدين" لم تكن بيان كيفية "المعاملة" (تطهير النفس الخ) بل حمل القارئ على اعتناق راي معين في "التعامل" مع جميع العلوم وأنماط السلوك. وهكذا نقرأ بين ثنايا الكتاب جميع ما قرره من مواقف سلبية في كتبه الأخرى. خصوصا تلك التي ألفها في علم الكلام وفي الرد على الفلاسفة والفرق الأخرى. إن كتاب "إحياء علوم الدين" كتاب في تقرير "الفكر الوحيد" في جميع الميادين التي هي أصلا مجال طبيعي لاختلاف الآراء. إنه إعلان ب "موت الاختلاف" وسد باب الاجتهاد، ليس في الفقه فحسب بل في كل علم ومعرفة. من هذه الناحية يجب النظر إليه كعنصر من أشد العناصر تخديرا في نظام القيم في الثقافة العربية. ومن هذه الزاوية فهو ابعد ما يكون عن الأخلاق الإسلامية الحقيقة،، بل إن مشروعه فيه انحراف عنها على طول الخط، كما سنرى في الفصل التالي." (ص 592)
وبما أن "الفصل التالي" هو المخصص للعز بن عبد السلام، فهذا يعني أن الجابري ينبه قارئه إلى أنه سيجد لديه ما لم يجده عند الغزالي وباقي ممثلي الأخلاق الإسلامية. أي أنه سيجد لديه نقيض "عيوب" الغزالي: حرية اعتناق أي رأي يريده القارئ عوضا عن "حمله على اعتناق رأي معين"؛ والفكر المتعدد عوضا عن "الفكر الوحيد"؛ وإحياء الاختلاف وفتح باب الاجتهاد عوضا عن "موت الاختلاف" و "سد باب الاجتهاد"؛ والالتزام بالأخلاق الإسلامية الحقيقية عوضا عن "الانحراف عنها على طول الخط" !
خاتمة
لقد قلنا في نهاية "الفكر السياسي العربي"، أن الكتاب "بحث غني وقيم، بشرط أن نغير عنوانه حتى يوافق محتواه. فيمكن أن يسمى "نشأة الدولة الإسلامية" مثلا. ومن هذا المنظور يصير تحليل دور المحددات الثلاثة (القبيلة، الغنيمة، العقيدة، وبدون مزدوجين) في محله." وقد كنا ركزنا نقدنا لهذا الكتاب على المنهجية خاصة لأنها أدت إلى تعميمات متعسفة.
أما في نهاية هذا الكتاب، فإنه لا يسعنا إلا أن نقول أن القارئ المتمعن لا يمكنه أن يقبل كثيرا مما ورد فيه، لا على مستوى الإشكاليته، أو المنهجية، أوالمحتوى كما تم عرضه في بعض العينات التي حللناها.
فرد الأخلاقي إلى السياسي جعله ينطلق من إشكالية ضيقة، وهي إشكالية "الفتنة الكبرى" التي رفعها الجابري إلى مستوى الخطيئة الأصلية. وبما أن السياسي لا يستغرق الأخلاقي، وبما أنه أراد تعميم تشخيصه للأزمة السياسية إلى كل الأخلاق، فإنه أخضع تحليله للموروث الأخلاقي إلى قراءة أيديولوجية سافرة. فبما أن الدولة الأموية كانت في أزمة فإنها وجدت الحل في استيراد "أخلاق الطاعة" الفارسية التي هيمنت على الساحة الأخلاقية العربية الإسلامية. ولهذا جند الجابري نفسه للبحث عن "آثار الجريمة" وعن طابورها الخامس في كل ثنايا الموروث الأخلاقي.
و"أخلاق الطاعة" الدخيلة لم تكن الغطاء الأيديولوجي ل "الملك العضوض" فحسب، بل كانت من العوائق التي أخرت ظهور الأخلاق الإسلامية "الخالصة". وكأن المسلمين عاشوا قرونا دون أن يدركوا أخلاق دينهم ! بل أكثر من هذا، كان عليهم انتظار الجابري، في الربع الأخير من القرن العشرين، ليقول لهم من هو الممثل الحق لهذه الأخلاق.
ولفهم إلحاح الجابري على البحث عن أخلاق إسلامية "خالصة"، يجب الرجوع إلى كتبه السابقة التي رد فيها أسباب الانحطاط إلى الغزو الثقافي للغنوصية والهرمسية والصوفية، بصفتها سليلتهما. إلا أنه كان من قبل يهلل للموروث اليوناني العقلاني أيضا، أما في ميدان الأخلاق فإنه يفضل الإسلام "الخالص".
لقد ادعى الجابري أنه كان رائدا في مجال البحث في التراث الأخلاقي العربي الإسلامي، وإذا كان الأمر كذلك، فهذا يعني أن تاريخ هذا الفكر – ولا نقول عقل – ما زال لم يكتب بعد.
"نحن مضطرون إذن إلى الرجوع إلى القضية التي طرحناها في خاتمة الفصل الذي جعلنا عنوانه "في البدء كانت أزمة القيم"؛ هذه الأزمة التي تطورت سياسيا، كما رأينا، إلى محاكمة للنوايا بتوظيف أسئلة إرهابية حول مرتكب الكبيرة، والإيمان والكفر، والفرق بين الكافر والفاسق، والقضاء والقدر، والمسؤولية والجزاء الخ! نحن مضطرون إذن إلى استحضار ما انتهى إليه النقاش حول أزمة القيم هذه مع واصل بن عطاء الذي نوهنا بمحاولته الإفلات من منطق "إما...وإما" – الذي وظف في تلك الأسئلة الإرهابية – والدعوة إلى منطق ثلاثي القيم يقول ب "المنزلة بين المنزلتين" بين الإيمان والكفر، ويثبت الخطأ في حق جميع الذين شاركوا في "الفتنة الكبرى" ومنهم صحابة كبار، ولكن "لا على التعيين".
لقد نوهنا فعلا بهذا الحل الخلاق الذي ابتكره واصل. ومع ذلك نبهنا إلى أن هذا الحل إذا كان يحرر الفكر من منطق (إما...وإما) وما يركب عليه من أسئلة إرهابية، فاتحا المجال للنقاش النظري والاجتهاد الفكري للبحث عن طريق لتجاوز الأزمة، فإنه لا يحل المشكلة سياسيا. والحال أنها، في ظاهرها وباطنها، مشكلة سياسية أصلا. لقد كان موقف واصل معقولا كمخرج نظري، ولكنه لم يكن مطلوبا ولا معقولا كمخرج سياسي !
لقد كان المطلوب من وجهة نظر الأمويين هو إيجاد وسيلة أخرى، "حل فكري آخر" صالح للتوظيف السياسي لفائدتهم: حل يتجاوز أزمة القيم التي تطورت إلى أزمة سياسية خانقة عمقها تمزق المجتمع والدولة، في أواخر عهدهم. إن الحل المطلوب كان ذلك الذي يكرس قيما جديدة تخدم وحدة المجتمع والدولة وتؤكد على ضرورة الطاعة. وهي قيم كانت جاهزة في الموروث الفارسي. وأكثر من ذلك كانت ملائمة لطبيعة الأزمة وحاجة الدولة لأنها تربط بين وحدة الدين والمُلك وتجعل طاعة الدولة من طاعة الله.
لم يكن الأمر يتطلب، إذن، سوى تبنيها والترويج لها باسم الإسلام! وهذا ما تم بالفعل في العصر الأموي ذاته. فليكن بيان ما حصل بداية لنا جديدة." (ص 125-126)
هذا النص يضعنا، من جهة، أمام ردين réductions: رد "الأخلاقي" إلى "السياسي"، ورد إشكالية التاريخ العربي الإسلامي إلى أزمة مر عليها أربعة عشر قرنا ! ومن جهة أخرى، وبما أن الجابري يريد أن يجعل "الماضي معاصرا لنا"، فإنه فرض على الوقائع والنظريات إسقاطات أيديولوجلة مشوبة بمغالطة زمانية anachronisme، وزاوية نظر ضيقة ومتعسفة تتمثل في تَلَقُّط "أخلاق الطاعة" في الموروث الأخلاقي، سقط بسببه البحث في تأويلات مغشوشة كل هدفها إنقاذ مسلمة متهافتة. ويكفي لأي قارئ أن يعود للمراجع الأصلية ليكتشف ما جنته الإشكالية الجابرية من تشويه على النصوص وعلى تاريخ الفكر الأخلاقي العربي الإسلامي، وهو ما سنفعله هنا.
المنهجية
لدينا أربعة ملاحظات حول المنهجية تتعلق: 1- بمضمون المصطلحات المستعملة، وهي أساسا "الطاعة"، "العقل" و"المصلحة". 2- بالاسقاطات الأيديولوجية. 3- بتضارب المناهج من كتاب لآخر. 4- وبدقة المصطلحات المستعملة في المنهجية الإجرائية.
أولا: مضمون المصطلحات. لقد استعمل الجابري في هذا الكتاب مصطلحات "الطاعة" و"العقل" و"المصلحة"، وقد اكتشفنا أن استعماله لها يشوبه كثير من اللبس، بحيث أنها تكاد تقول عكس مدلولها المتداول. حتى أن القارئ قد يشعر بأنه تعرض لما لا نتردد في تسميته بأنه عملية خداع. وسنتطرق لكل مصطلح في حينه.
ثانيا:الاسقاطات الأديولوجية. وتعطينا الخاتمة التي عنوانها " لم يدفنوا بعد أباهم أردشير !" ، "رأس الخيط" الأيديولوجي الذي يوجه العمل بمجمله.
يقول الجابري في الفقرتين الأخيرتين من هذه الخاتمة: "وبعد، فقد انطلقنا في بناء هذه الدراسة من بداية فرضت نفسها علينا لأنها البداية التي مازالت حية في وضعنا الراهن، أعني التي تقف بنا عندها عملية الرجوع القهقرى من لحظتنا الراهنة. [...] ذلك أننا لو رجعنا [...] مع التاريخ إلى الوراء نبحث عن بداية لما عبرنا عنه أعلاه ب "غياب نظام واحد للقيم" [في الموروث العربي الإسلامي]، لما توقفت بنا عملية "الرجوع" إلى أن نصل إلى تلك الحقبة من الزمن التي نسميها ب "الفتنة الكبرى" ! الفتنة التي اندلعت بالثورة على عثمان و "انتهت" بانتصار معاوية في حرب صفين. إنها الفتنة التي يجمع المؤرخون أنه كان من نتائجها "انقلاب الخلافة إلى ملك عضوض" !
ومع أن "الخلافة الراشدة" – التي لم تدم إلا نحوا من ثلاثين سنة – قد بقيت تتحدد في ضمير المسلمين، على مر العصور، بكونها "الحكم المبني على الشورى"، فإن "الملك العضوض" – الذي بلغ من العمر 1380 سنة – لم يسبق أن عُرِّف التعريف الذي يعطيه مضمونا يبقى حيا في ضمير الأجيال المتعاقبة. والسبب في نظرنا لا يرجع إلى قصور في الفكر ولا إلى خوف من "العض"؛ فقد عرفت هذه الثمانون والثلاثمائة والألف سنة عباقرة في الفكر لا يخافون في الصدع بالحق لومة لائم، ومع ذلك لم يصفوا ولم يحللوا مضمون "الملك العضوض" ولم يكشفوا أصوله (غير ابن رشد عبر اختصاره لجمهورية أفلاطون). إن السبب في نظرنا هو مبدأ "طاعة السلطان من طاعة الله" و "الدين والملك توأمان" قد هيمن هيمنة شبه مطلقة على الساحة الفكرية في الثقافة العربية. والذين لم يأخذوا هذا المبدأ على أنه يعبر عن حقيقة ما يقرره الدين قبلوه كضرورة تدفع محظور "الفتنة". والحق أن الضمير الديني في الإسلام، الذي هو أصلا متحرر من وزر "الخطيئة الأصلية" (خطيئة آدم)، قد حمَّل نفسه وزرا آخر هو وزر "الفتنة الكبرى". إن الرغبة في "اتقاء الفتنة" قد بررت على الدوام قبول العيش باستكانة، تحت الحكم الذي أصله فتنة ! فكانت النتيجة قيام الحكم في الإسلام، وعلى الدوام إلى الآن، على "وحدانية التسلط". فكانت مدينتنا إلى اليوم "مدينة الجبارين".
لم ينهض العرب والمسلمون بعد، ولا إيران ولا غيرهما من بلاد الإسلام، النهضة المطلوبة. والسبب عندي أنهم لم يدفنوا بعد في أنفسهم "أباهم": أردشير ! "
هذه الخاتمة تُجْمل كل ما نعتقد أنه العيوب المنهجية للكتاب. فهي خلاصة للمسلمة الأيديولوجية التي وجهت قراءة الجابري. وهي أيديولوجية من حيث أنها تنطلق من حكم قيمة ثقفاني culturaliste على الوضع السياسي الراهن في العالم العربي لتجد له أسباب في التاريخ القديم، واستمرارية معه. هذا زيادة على كل الأطروحات التي انتقدها طرابيشي، والتي سيكتشها القارئ في الملخصات.
وكما قلنا بصدد "العقل السياسي العربي"، إن العيب المنهجي الأول للجابري هو غياب المقارنة بشقيها الفكري والميداني. فلو أنه قارن العقل الأخلاقي العربي (المختزل في العقل السياسي) بالعقول الأخرى لما خرج بخلاصته القاطعة، وكأن باقي الإنسانية كان ينعم بالديموقراطية منذ "1380 سنة". ولو أنه قام بمقارنة – ولو على مستوى الموسوعات – بين النظام السياسي العربي الإسلامي وغيره من الأنظمة السياسية، لأدرك أن كل الأنظمة السياسية التي كانت سائدة إلى حدود الأزمنة الحديثة التي شهدت تسارعا في وتيرة "الخروج من الدين" sortie de la religion – حسب تعبير مارسيل غوشي Marcel Gauchet – عرفت ظاهرة الاندماج بين الدين والسياسة، أي أن: "طاعة السلطان من طاعة الله" و "الدين والملك توأمان"، كان شاملا في كل المجتمعات، بما فيهم اليونان والرومان. ولهذا فإن كثيرا من الأمثلة التي ساقها على أنها تشهد على "أخلاق الطاعة" المستوردة من عند الفرس، ليست إلا ظواهر عادية في مجتمعات تتميز فيه العلاقة بالسلطان بكثير من مظاهر التعظيم والتبجيل.
وكذلك الأمر فيما يتعلق بظاهرة الخوف من الفنتة الذي جعل منه الجابري سبب "وحدانية التسلط". فلو أن الجابري تمعن في نظرية طوماس هوبس (1588-1679) لأدرك أن نظرية العقد الاجتماعي عنده تهدف قبل كل شيء إلى وضع حد ل "حرب الجميع ضد الجميع" ( Bellum omnium contra omnes) - أي وضع حد للفتنة بتعبير آخر- عن طريق تنازل كل الناس عن حقوقهم الطبيعية لصالح الحاكم souverain الممثل للدولة. ولهذا يعد هوبز منظرا للملكية المطلقة.
والأمثلة كثيرة في هذا الموضوع، لإن الخوف من الفتنة - التي هي قبل كل شيء حرب أهلية يكاد لا يوجد مجتمع لم يكتو بنارها - شعور كوني وليس وقفا على المسلمين.
وعندما يقول الجابري: "إنها الفتنة التي يجمع المؤرخون أنه كان من نتائجها "انقلاب الخلافة إلى ملك عضوض !"، فهل يعني بذلك أن الخلافة كان بوسعها أن تبقى على صورتها المُؤمثلة (إذ لا يجب أن ننسى أن ثلاثة من الخلفاء الراشدين الأربعة ماتوا قتلا !) لولا الانقلاب الأموي؟ إنها فرضية ساذجة لأنها تفترض أنه كان بوسع مسلمي ذلك العصر خلق نظام سياسي مختلف جذريا عما هو معروف عندهم أو عند جيرانهم، أي أنهم كانوا قادرين على القطيعة الجذرية مع الأفق الفكري والسياسي لعصرهم.
ولنتصور، في إطار تمرين في السياسة الخيالية (أو الخيال السياسي)، بعض السيناريوهات البديلة.
أولها أن المسلمين حافظوا على النظام الجمهوري الحضري république urbaine الذي كان سائدا في مكة والمدينة قبل الإسلام، والذي أثر في طريقة اختيار الخلفاء الراشدين. وهذا يعني أن النظام الإسلامي المُؤمثل هو في الواقع نظام "جاهلي" ! والسؤال هو: هل كان يمكن لهذا النظام الذي كان سائدا في كثير من المدن القديمة (وليس في اليونان فقط) أن يصمد في إطار دولة واسعة الأطراف ومتعددة الأجناس والديانات؟
ثانيها، لنتصور أنهم اتفقوا على تولية فاطمة لأنها بنت الرسول، أو انهم بايعوا الحسن أو الحسين لأنهما حفيداه، وفي كلتا الحالتين تبقى الخلافة في أسرة الرسول المباشرة، الأمر الذي يسبغ شرعية دينية وسياسية لا نزاع فيها. ولربما أن الخلافة كانت ستبقى في هذه الأسرة إلى اليوم، كما هو شأن الإمبراطورية اليابانية. لكن، وحتى في هذا السيناريو، فإن العوامل التي أدت إلى انقسام الدولة الإسلامية كانت ستفعل لا محالة فعلها؛ وهي نفسها العوامل التي حولت الخلفاء العباسيين إلى لعبة في يد حاشيتهم. كل ما هنالك هو أن "الملك العضوض" كان س"يعض" باسم شرعية شكلية عابرة للعصور.
أما السيناريو الثالث فيتمثل في انتصار علي بن ابي طالب على معاوية. وهنا أيضا لا ضامن يمنع قيام "الملك العضوض"، خاصة إذا علمنا أن الحِلم والاعتدال ليسا مما عرف من طبع علي.
هذا فيما يتعلق بدور "الفتنة الكبرى" و"الملك العضوض".
أما فيما يتعلق بمصدر هذا "الملك"، فإن الجابري يرى أنه "لا يرجع إلى قصور في الفكر" بل إلى عجز عن تحليل مضمون "الملك العضوض" والكشف عن أصوله المستوردة من عند الفرس (مثلها مثل الصوفية و"أخلاق الفناء")، وبذلك سقط في ضرب من المثالية التي تجعل الأفكار تخلق الظواهر من عدم. ومقابل هذه الفكرة، أنه لولا الطابور الخامس الفارسي – برجاله وأيديولوجيته – لما عرف المسلمون "الملك العضوض". وقد تعمدنا قلب المعادلة ليظهر جليا تهافت هذه الأطروحة. ويزيدها تهافتا توسيع السؤال إلى الحضارات المعروفة: فمن أين استقت الكنفوشيوسية أخلاق الطاعة؟ والفاشية والنازية والستالينية والماوية...؟ والأديولوجيات الأربع الأخيرة، أيديولوجيات حديثة، ومع ذلك ربما أن تاريخ الإنسانية لم يشهد أنظمة نفت إنسانية الإنسان كما فعلته.
أما آخر ملاحظة لدينا على هذه الخاتمة فيتعلق ب "غياب نظام واحد للقيم" في الثقافة العربية الإسلامية. والجابري لا يوضح لنا مكمن العطب في تعدد القيم، في حين أن وحدة نظام القيم قد يعني أن الأمر يتعلق بعشيرة منغلقة على نفسها، أو أن الجدلية الاجتماعية متباطئة أو متوقفة، أو أن المجتمع يرزح تحت سلطة شمولية فرضت عليه وحدة القيم؛ وهو ما يسميه الجابري ب "الحكم العضوض".
ثالثا: تضارب المناهج. يتناول الجابري، من جديد، "العقل" العربي؛ لكنه في "العقل السياسي العربي" يتطرق إليه ك "لاشعور" مستقل عن تجلياته، فهو يقرر – كما رأينا ذلك - أن " العقل" السياسي شيء وتاريخ الأفكار والحركات السياسية شيء آخر". بينما نراه يقلب منهجيته في "العقل الأخلاقي العربي"، ليصير "العقل" الأخلاقي هو مجمل ما ألف فيه !
وقد أدرك الجابري هذا الانقلاب وعلله قائلا: "ومع أن النظر في "السياسة والأخلاق" ينتمي إلى ما يسميه الفلاسفة ب "العقل العملي"، أو "العلم المدني" حسب تعبير القدماء، باعتبارهما (السياسة والأخلاق) حقلا معرفيا واحدا ينتمي إلى مجال الإرادة وليس إلى مجال العقل، مما يجعل موضوعنا من طبيعة واحدة، ويسمح بالتالي باستعمال نفس المنهج وبتوظيف نفس الجهاز المفاهيمي فيهما معا، فإن اختلاف مفهوم "العقل السياسي" عن معنى "السياسة" عندما تقرن بالأخلاق، يجعل توظيف نفس الجهاز المفاهيمي الذي تعاملنا به في الجزء الثالث [العقل السياسي العربي] غير ممكن ولا مجد، فيما نحن بصدده هنا. ذلك أن "العقل السياسي" موضوعه السياسة كما وقعت وتقع بالفعل. ومن هنا انحصر البحث في محدداتها وتجلياتها. أما "السياسة" كجزء من "العلم المدني" (والأخلاق جزؤه الأول عند القدماء)، فالمقصود بها: "السياسة" كما ينبغي أن تكون."
"في "العقل السياسي" كان الموضوع هو السياسة كما مارسها الحاكم فعلا بقطع النظر عن إرادته ونواياه، فكانت الكلمة للحكم الموضوعي. أما هنا فالسياسة فرع من "علم الأخلاق" أو تتويج له. وبالتالي فالموضوع هو: كيف كان العرب (وبالأخص المفكرون) يرون أن تمارس السياسة لتحقق الهدف الأخلاقي الإنساني المطلوب منها، وهو السعادة والخير للجميع؟ الكلمة هنا ، إذن، لحكم القيمة."(ص 20)
إن هذا التوضيح لا يزيد الأمور إلا غموضا. فهو من ناحية أولى يرد الأخلاق إلى السياسة، إلى درجة أن القارئ قد يتساءل هل أنه يقرأ "العقل الأخلاقي العربي"، أم أنه يقرأ "العقل السياسي العربي" !؟ ورغم التداخل الحاصل بين الأخلاق والسياسة، فإن المنهجية تقتضي الفصل بينهما. وهو من ناحية ثانية يغير مفهوم "العقل" الذي من المفروض ان يبقى ثابتا بصفته الخلفية (أو القاعدة) البنيوية التي تتحكم في عمل العقل وتضع له منطقه وحدوده، كما سنرى ذلك في الفقرة التالية. فإذا سلمنا بوجود عقل عربي (أو يوناني أو صيني...)، فهذا العقل له خصوصيته التي نُعاينها في كل ما ينتجه، مهما كان مجال هذا الانتاج. ولهذا فإن استعمال مفهوم "العقل" يحيل إلى المثالية أو إلى الجبرية الثقافية؛ وعيبه في الحالتين أنه يهمل كل الظواهر والعوامل الموضوعية التي تخلخل منطقه، أو أنه لا يعطيها وزنها النوعي، أو أنه يخطئ في تحليلها، أو أنه لا يراها أصلا.
رابعا: المنهجية الإجرائية. يقول الجابري:"أما عن المنهج فيمكن القول باختصار: إنه نفس المنهج الذي اتبعناه في الأجزاء السابقة، وكنا قد حددنا خطواته الثلاث في كتابنا "نحن والتراث": التحليل التاريخي، المعالجة البنيوية، الطرح الإيديولوجي. والتعديل الذي سنقوم به هنا لا يخص هذه الخطوات نفسها بل فقط طريقة ممارستها. ذلك أننا سنمارس هذه الخطوات بصورة تركيبية. ومعنى هذا أننا لن نفصل "التكوين" عن "البنية"، كما فعلنا في "العقل النظري"، ولا "المحددات" عن "التجليات"، كما فعلنا في "العقل السياسي"، بل سنسلك مسلكا أقرب إلى مسلكنا في "تكوين العقل العربي". [...]
و "الواقع أن "التحليل التكويني" والتحليل البنيوي ستتم ممارستهما هنا في آن واحد. ذلك لأننا سنتناول كل نظام من خلال ما ندعوه هنا ب "القيمة المركزية". والنظر إلى نظام ما من خلال ما يشكل فيه "القيمة المركزية" يعني التعامل مع هذه [النظم] كبنية. وإذن فالمنظور الذي ننطلق منه سيكون بنيويا. أما جانب "التكوين" فستتم معالجته من خلال النظر في "أصول وفصول" هذا النظام أو ذلك، ثم علاقة التاثير والتداخل بين النظم نفسها." (ص 23)
ويزيد الجابري قائلا: أن "الثقافة العربية قد عرفت عدة نظم من القيم وليس نظاما واحدا". [...] "وإذن ف "العقل الأخلاقي العربي" هو "عقل" متعدد في تكوينه ولكنه واحد في بنيته. هو متعدد في تكوينه لأن الثقافة العربية الإسلامية كانت وما تزال مسرحا تلتقي فيه عدة موروثات ثقافية: فمنذ عصر التدوين، الذي تلا عصر "الفتوحات" مباشرة، برز الموروث الفارسي، والموروث اليوناني، والموروث الصوفي، علاوة على الموروث العربي "الخالص" والموروث الإسلامي "الخالص"، كمكونات رئيسية وأساسية في الثقافة العربية. وبما أن كل واحد من هذه الموروثات الخمس كان امتدادا لثقافات مكتملة وراسخة، فقد كان لا بد من أن يحمل معه، بصورة أو بأخرى، نظام القيم الخاص بالثقافة التي يمثلها. ومن هنا يمكن التمييز – مبدئيا على الأقل – بين خمس نظم للقيم، في الثقافة العربية الإسلامية، سنعرض لها بعد قليل." (ص 22)
"وبطبيعة الحال كان لا بد لهذه النظم – وهي تتزاحم على مسرح الثقافة العربية – من ان يحصل بينها احتكاك وتداخل وتلاقح ومنافسة وصراع الخ، وبالتالي كان لا بد من بروز هيمنة هذا النظام من القيم، الخاص بهذا الموروث أو ذلك، في هذا العصر او ذلك، فينتج عن ذلك ما نسميه هنا ب "المحصلة" التي تبرز كممثل للثقافة العربية "الواحدة" وبالتالي ك "عقل أخلاقي عربي". والحق أن الأمر يتعلق هنا ب "محصلة" اعتبارية فقط virtuelle ! أما في الواقع المعيش فالتنافس والصراع بين نظم القيم لا يكاد يهدأ حتى يستيقظ، في جميع المجتمعات، خاصة منها تلك التي شيدت لنفسها إمبراطوريات؛ ومن هنا القلق شبه الدائم الذي تعاني منه هذه المجتمعات. والمجتمع العربي كان طوال تاريخه المديد – وما زال إلى اليوم – مجتمعا قلقا، على مستوى القيم على الأقل." (ص 22)
إن الجابري يقول انه سينطلق من منظور بنيوي دون ان يقدم توضيحا حول مضمون البنيوية التي سيخضع لها موضوع بحثه. وكما هو معلوم، فالبنيوية ليست قانونا أو قاعدة علمية مجمع عليها، إلا أن لديها بعض القواعد المشتركة. وهذا ما ركز عليه جان بياجيه في بداية الخلاصة التي ألفها تحت عنوان "البنيوية" Le structuralisme، حيث نبه إلى صعوبة تحديد البنيوية، بسبب صعوبة إيجاد قاسم مشترك للأشكال المختلفة التي لبستها ؛ ولكنه، وبعد هذا التنبيه، أجمل خصائص البنية في ثلاث، وهي: 1) الشمولية totalité la، وتعني أن البنية مكونة من عناصر تخضع للقوانين التي تميز النسق، وهذه القوانين تمنح للكل خصائص متميزة عن خصائص العناصر . وهو ما يعني أن الجماعة لها خصائصها المتميزة عن خصائص أعضائها. 2) التحويلات les transformations، وتعني أن القوانين الداخلية للبنية هي في الوقت نفسه مُبَنيِنة ومبنيَنة ( أي أن قوانين البنية تحول العناصر الدخيلة حتى تتلائم مع بنية البنية) . 3) الانضباط l’autoréglage ، أي أن البنيات تضبط نفسها بنفسها وهو ما يضمن استمراريتها مع بعض الانغلاق على الذات .
وهذه الخصائص لا نجدها في الانزال الاجرائي للبنيوية من قبل الجابري. وهو ما اعترف به عندما قال أن "الأمر يتعلق بمحصلة اعتبارية فقط"، وهذا يعني أنه عجز عن إيجاد ما يُوحِّد نظم القيم التي قام بجردها، رغم أن هذه القيم "حصل بينها احتكاك وتداخل وتلاقح ومنافسة وصراع الخ". وهكذا يسقط مفهوم "العقل" – الذي وظفه - لأنه لم يقم بالوظيفة المنتظرة منه الكفيلة بإعطاء المبدأ المُبَنين. وفي حال ما اعتبرنا أن "أخلاق الطاعة" الدخيلة هي التي هيمنت بالفعل عبر التاريخ، كما تؤكده أطروحة الجابري، فهذا يعني أن "الطاعة" هي التي تُبَنين العقل العربي "الواحد في بنيته". وهنا تعترضنا معضلة تتمثل في أن المسألة تطرح احتمالين: الإحتمال الأول يقتضي أن كل نظم الأخلاق التي شهدها تاريخ الفكر العربي الإسلامي تشوبها "أخلاق الطاعة"، فتصير بذلك أخلاق سعادة/طاعة، أخلاق مروءة/طاعة، أخلاق مصلحة/طاعة، الخ؛ وأما الاحتمال الثاني فيقتضي أن العقل العربي الإسلامي تخلى عن الأخلاق التي هي من صميمه، أي أنه تخلى عن "اخلاق المروءة" العربية و"أخلاق المصلحة الإسلامية الخالصة"، وهو بذلك لم يعد عقلا عربيا إسلاميا !
ولو أن الجابري اعتمد المنهج البنيوي حقا، لما اختتم القسم الأول قائلا: "ومن هنا بات من الضروري طرح مسألة تواجد هذه الموروثات الثقافية في الساحة العربية: أسبابها وكيفيات حضورها وأنواع الصراع والاحتكاك والتداخل التي عرفتها. والسؤال الأول الذي فرض نفسه علينا في هذا الإطار هو الذي يخص "أسباب الحضور" ! ذلك لأن حضور نظام قيم خاص بثقافة معينة داخل ثقافة أخرى لها نظام قيم خاص بها، حضورا يتجاوز بكثير المستوى الطبيعي العادي لتداخل الثقافات، كما هو الشأن بالنسبة لحضور الموروث الفارسي في الثقافة العربية، ظاهرة فريدة لا يمكن أن تفسر إلا ب "الغزو الثقافي" الذي يصاحب أو يتبع الغزو العسكري والسياسي، والذي قد يتطور إلى تلك الظاهرة المعروفة "تقليد المغلوب للغالب"، أو بنوع من "الاستيراد" الذي تكون وراءه حاجة ماسة تعاني منها الثقافة المستوردة. وبما أن العرب كانوا هم الطرف الغالب فقد اكتست عملية الاستيراد هذا شكل "تقليد الغالب للمغلوب". (ص 124-125)
فالمنهجية البنيوية لا تسمح بهذا النوع من الخلاصات، لأن توريد عناصر خارجية من قبل بنية ما، لا يتم إلا إذا كانت هذه العناصر الدخيلة لا تتعارض مع قوانين البنية ؛ وأن هذه القوانين قادرة على دمجها، ولو بصورة جدلية، أي بمعنى وحدة الأضداد. وفي كثير من الأحيان لا يفعل العنصر الدخيل إلا الكشف عن مكافئ له كان موجودا بالقوة في الثقافة المتلقية، وقد يكون هو الدافع إلى توريده. وهذا ما يفسر ظاهرة استيراد الأيديولوجيات والنظريات الفكرية، والتي ليست مجرد استيلاب فكري أو غزو ثقافي؛ ففي آخر المطاف، يبقى الإنسان هو الإنسان.
المحتوى
سنكتفي في هذه المقدمة بجس (sondage ) في المراجع التي استشهد بها الجابري، في انتظار بحث يراجع الكتاب بكامله، مثل ما فعله طرابيشي، وهو عمل ليس بالهين. وقد وقع اختيارنا على ثلاثة مفكرين يمثلون ثلاث نُظُم أخلاقية: ابن المقفع كممثل ل"أخلاق الطاعة"؛ مسكويه كممثل ل"النزعة التلفيقية"؛ والعز بن عبد السلام كممثل ل"أخلاق المصلحة الإسلامية".
وهذا الاختيار لم يكن اعتباطيا. ف"كليلة ودمنة" كتاب متداول جدا، ولا يخلو كتاب مطالعة مدرسي من مقتطفات منه. أما مسكويه فهو موضوع بحث مشهور لمحمد أركون جعل منه أحد ممثلي الإنسية العربية في القرن الرابع. وسنذكر سبب اختيار العز بن عبد السلام عندما يأتي دوره.
ابن المقفع و"اخلاق الطاعة"
يقول الجابري في أول جملة من الفصل السابع الذي عنوانه "التشريع للدولة الكسروية في الإسلام": "معروف في التاريخ الإسلامي أن ابن المقفع كان أكبر ناشر ومروج للقيم الكسروية وإيديولوجيا الطاعة، في الساحة الثقافية العربية الإسلامية" (ص 171).
ولاختبار مدى صحة هذا الحكم راجعنا أهم مؤلفات ابن المقفع باحثين عن "أخلاق الطاعة" المزعومة لديه. وقد مكنتنا هذه المراجعة من التعرف على ما هو أهم لفهم إشكاليته، ألا وهو تحديد الموقع الذي كان يتكلم منه، والجمهور الذي كان يخاطبه، وطبيعة الأخلاق التي كان يروجها.
في "كليلة ودمنة" وجدنا جملة، يخاطب فيها دبشليم الفيلسوف بيدبا، تلخص بشكل ما إشكالية الكتاب وما تحمله من تناقض ظاهري. يقول دبشليم: "وقد أحببت أن تضع لي كتابا بليغا تستفرغ فيه عقلك، يكون ظاهره سياسة العامة وتأديبها على طاعة المَلك، وباطنه أخلاق الملوك وسياستها للرعية، فيسقط بذلك عني وعنهم كثير مما نحتاج إليه في معاناة المُلك. وأريد أن يُبقي لي هذا الكتاب ذكرا على غابر الدهور."
وقد انتبه الجابري نفسه لهذا "التناقض" (ص 173-174)، لكن هذا لم يدفعه إلى مراجعة أطروحته. في حين أن الجملة السابقة الذكر تلمح إلى أن الطاعة نتيجة لطبيعة السياسة العامة للرعية ولأخلاق الملك. وكأن لسان حالها يقول: إذا كنت تريد، أيها الملك، أن تطيعك الرعية فعليك أن تكون أهلا لذلك. وهو ما يقلب المعادلة رأسا على عقب.
لكن الجابري يرى خلاف هذا. ففي معرض تعليقه على الشاهد السابق الذكر يقول: "من هذين النصين [لأنه أورد نصا آخر] نتبين بسهولة موضوعات الكتاب: 1) "سياسة العامة وتأديبها"، وذلك هو معنى الطاعة. 2) "أخلاق الملوك وسياسة الرعية". 3) "رياضة عقول الخاصة"، وهذا هو موضوع "صحبة السلطان" أو "أدب الكاتب" بصورة خاصة. 4) "سياسة الإنسان نفسه وأهله وخاصته". وذلك هي أبواب "الأدب" أو الأخلاق، في الموروث الفارسي المنحدر إلى الثقافة العربية." (ص 175-176)
الجابري يفهم "سياسة العامة وتأديبها" بمعنى "الترويض". كما أنه يخمن: "أن مصطلح "الأدب"، بالمعنى الذي شاع به في العصر الأموي، أي بوصفه "تقويم السلوك"، إنما يجد أصله وفصله في الموروث الفارسي، وأن الهدف منه هو تحقيق "الطاعة"، وبالتالي يكون معنى "الأدب"، عاريا من كل أدب هو: التطويع." (ص 176)
وهذا التأويل مصدره رد الأخلاق إلى السياسة – الذي نبهنا له سابقا - والذي كان من نتائجه عدم التمييز بين ما يخضع في النصوص لمنطق الأخلاق وما يخضع لمنطق السياسة. وقد ساهم في هذا الخلط كون ابن المقفع – وغيره - يمزج بينهما. والفرق بين الأخلاق والسياسة، هو أن الأخلاق تخاطب الضمير والإرادة، أما السياسة فإنها تحيل إلى الدولة. فإذا قلنا "أخلاق الطاعة" – مع التركيز على "أخلاق" - فهذا يعني أن الطاعة فعل يصدر تلقائيا عن ضمير الشخص، كطاعة الوالدين التي تعني البر بهما؛ أو حتى طاعة أولياء الأمر، التي قد تكون طاعة إرادية صادرة عن احترام للشرعية.
إن الطاعة بصفتها "تطويعا" ليست مقولة أخلاقية بل مقولة نفسية لأنها تقوم على الخوف، الذي هو أحد روافع السياسة. وهي ليست في حاجة لأن تستورد، ففي كل المجتمعات نجد طاعة مفروضة بالقوة؛ وطاعة طوعية، قد تكون من قبيل العبودية الطوعية، حسب تعبير بوسيي Bossuet.
وإذا كان مفهوم "الطاعة" هو "التطويع"، فإن المسألة تخرج من مجال الأخلاق وسجلها لتدخل في مجال السياسة وسجلها، لأنها تخرج من مجال الإرادة إلى مجال الإكراه. وهذه الإزاحة من مجال الأخلاق لا بد منها، لأن "أخلاق الطاعة/التطويع" طباق (اجتماع للفظين متضادين) يجعل المفهوم يسقط بفعل تناقضه الداخلي . وعندما تتحول الطاعة إلى تطويع، تتحول بدورها مقولة "أخلاق الطاعة من الموروث الفارسي" إلى "التطويع من الموروث الفارسي" ! والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل الثقافة الفارسية، والدولة الممثلة لها، هي وحدها - دون باقي الثقافات والدول في الماضي أو الحاضر- التي تفرض الطاعة على رعاياها؟ وإذا عكسنا القضية يصير السؤال: هل بدون الفرس كانت ستنتفي سياسة التطويع؟ وعبثية هذا السؤال برهان على عبثية الأطروحة.
إن للدولة منطقا مختلفا عن منطق الأشخاص. فالدولة عليها أن تقاوم عوامل التفكك الخارجية والداخلية، ووسيلتها إلى ذلك تخضع لمنطق الدولة la raison d’État ، وهوغير منطق الأخلاق.
ولنفهم ابن المقفع، يجب أن نفهم كيف يتداخل لديه منطق الأخلاق بمنطق السياسة. وتكفينا لهذا الفهم الأسباب القريبة التي تقدمها لنا سوسيولوجيا الفئة التي ينتمي إليها، إذ أننا لسنا في حاجة إلى أسباب ثقفانية بعيدة لذلك. فابن المقفع ينتمي إلى النخبة البيروقراطية، وهذه النخبة – كمثيلتها في العصر الحاضر – يتنازعها شعوران متناقضان إزاء الدولة: فهي تخدمها وتخدم نفسها في الوقت نفسه، حتى أنها تعتقد أنها الدولة؛ ولكنها تخاف على مواقعها من مزاجية الرؤساء وتقلب السياسات . وهذا ما يفسر اجتماع المتناقضات في كتابات ابن المقفع، والنزعة الانتهازية التي تشوب بعض مواقفه. فهو يخدم السلطان ويحذر منه في الوقت نفسه. وبعض كتاباته تشبه السير الذاتية Curriculum vitae التي يرفقها بطلباتهم المترشحون لوظيفة ما في عصرنا الحاضر. فهو يعرض خبرته في سوق البيروقراطية.
وقد خص آدم ميتز في كتابه الموسوعي "الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري" عددا من الفصول للنخبة الحاكمة . ورغم أن زمن الكتاب هو القرن الرابع، إلا أنه من الممكن تعميم ما ورد فيه عن الإدارة والنخبة على القرون السابقة واللاحقة لأن البنية السياسية والاجتماعية لم تتغير بشكل جدري. وفي معرض حديثه عن الإدارة استوقفتنا هذه الفقرة: "وعلى حين أننا لا نجد بين قواد الجيش إلا أسماء قوم من الموالي فإن وظائف الدواوين كانت وقفا على الأحرار، "وكان الفرس هم شحنة دواوين الخلافة... فمنهم البرامكة، وآل ذي الرياستين، وإلى يومنا هذا منهم المادرائيون والفريابيون . ولما كانت الصبغة الغالبة على عمال الدواوين هي الصبغة الاقتصادية المالية، فقد كان لا بد للواحد منهم من أن تتوفر لديه بعض خصال التاجر، وكان الفارسي أمهر تاجر في المملكة الإسلامية."
إن هذا الشاهد يعطينا قرينة مهمة لتحديد خصائص هذه النخبة، ويتعلق الأمر ب "خصال التاجر"، وهوما يحيلنا إلى خصائص البورجوازية. ومع كل الحذر المنهجي من السقوط في المغالطات التاريخية anachronisme، فإننا نجد عند ابن المقفع خصائص ما يسمى بالأخلاق البوجوازية. وما يميز البورجوازي عن الارستقراطي هو كونه وصل بعمله وذكائه وليس بنسبه، ولهذا فإنه يميل في اخلاقه إلى كل ما هو عملي. وبما أنه من النخبة الحضرية، فإنه يريد التميز عن العامة بسلوكه وهيأته، رافعا هذه الرغبة في التميز إلى مرتبة الأخلاق. وهذا ما نجده أيضا في أخلاق ابن المقفع.
وإذا دمجنا بين وظيفة ابن المقفع والنخبة الاجتماعية التي ينتمي إليها، يمكننا القول أنه ينتمي إلى البورجوازية البيروقراطية التي وصلت إلى المكانة التي تتبوؤها بفضل خصالها الفردية، وليس لأنها تنتمي للأرستوقراطية الحاكمة. وهي تشبه من حيث خصائصها البورجوازية الغربية في علاقتها بالأرستوقراطية، قبل العصور الحديثة. وكما أن البوجوازية كانت تطمح إلى مشاركة الأرستقراطية في السلطة، دون أن تطيح بها بالضرورة، فإن مقابلتها في الدولة الإسلامية كان لديها الطموح نفسه.
إن أول ما يجده القارئ في كليلة ودمنة هو التحذير من صحبة الحاكم، الذي يرد في نصوص ابن المقفع باسم السلطان أو الملك أو الوالي. ورمزيا، يتقمص هذا الحاكم صورة الأسد أو الفيل أو الثور... وهذا التحذير معبر عنه بصريح العبارة وليس بالتلميح فحسب: "قال كليلة: أما إن قلت هذا أو قلت هذا فإني أخاف عليك من السلطان، فإن صحبته خطرة، وأحذرك من الذي أردته لِعظم خطره عندك. وقد قالت العلماء: إن ثلاثة لا يجترئ عليهن إلا أهوج ولا يسلم منهن إلا قليل، وهي صحبة السلطان، وائتمان النساء على الأسرار، وشرب السم للتجربة" .
وشتان بين القول بطاعة السلطان والقول بالحذر منه.
والقوي في الحكايات، أسدا كان أو فيلا أو ثورا... كثيرا ما تنطلي عليه حيلة من هو أضعف للإيقاع به، والقوي في هذه الحالات موضوع سخرية - لأنه استدرج للإيقاع به - وليس موضوع طاعة. فنحن في هذه الحكايات أبعد ما نكون عن القوي المُطاع، ولا حتى عن الصورة التي يريد الملوك أن يظهروا بها. والحكمة في هذه الحكايات أن الضعيف يمكن أن ينتقم من القوي بحيلته، فهي رسالة تحذير موجهة للحاكم. وهو ما تعبر عنه حكاية "مثل القنبرة والفيل" ، أو حكاية "الأرنب والأسد" . والرسالة التي تريد إيصالها هذه الحكايات للحاكم مفادها: إياك أن تستغل ضعفي لتتجاوز حدودك، فالضعيف أيضا يمتلك كثيرا من الوسائل للنيل من القوي.
وقد ختم ابن المقفع الكتاب على لسان الفيلسوف قائلا: "وقد جمعت لك في هذا الكتاب شمل بيان الأمور وشرحت لك جواب ما سألتني عنه منها، تزلفا إلى رضاك وابتغاء لطاعتك، فابلغتك في ذلك غاية نصحي واجتهدت فيه برأيي ونظري ومبلغ فطنتي. والله تعالى يقضي حقي بحسن النية منك في إِعمال فكرك وعقلك فيما وضعت لك من النصيحة والموعظة. مع أنه ليس المنصوح بأولى بالنصيحة من الناصح، ولا الآمر بالخير بأسعد من المطيع له فيه. فافهم ذلك أيها الملك، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم" .
إن قول الفيلسوف أنه يتزلف رضا الملك ابتغاء لطاعته مجرد كلام بروتوكولي، ولا يعني بأن الكتاب يدعو إلى "أخلاق الطاعة"، على عكس مضمونه. وبعض الملوك – خاصة أولئك الذين لا يقبلون من رعاياهم إلا الطاعة العمياء - لا يحبون النصيحة أصلا، عملا بمبدأ "من تَجرَّأ لك تجرأ عليك".
أما في "الأدب الكبير" و"الأدب الصغير" فقد وجدنا الأخلاق النخبوية التي تحدثنا عنها. ورغم أن الأسلوب انتقل من الحكايات إلى المقالة والشذرات، فإن المناخ العام لم يتغير إذ بقى مشوبا بالحذر. وهذه الأخلاق النخبوية تظهر على حين فجأة ضمن سرد لأخلاق اعتدال ومروءة وتواضع... مثل فلتة اللسان التي تعبر عن حقيقة ما يختلج في خبايا النفس. بحيث أن فقرة من الأخلاق النخبوية تمحي ما سبقها وتبعها من أخلاق إنسية. ولهذا تبدو هذه الأخلاق الإنسية كأناقة سلوك تزيد من أناقة المظهر. فالأخلاق عند ابن المقفع هي مسألة مظهر وتظاهر في مسرح النخبة؛ مثلها مثل الحقيقة التي ليست لها قيمة في ذاتها، بل في "الموضع" الذي تقال فيه، وإجماع الناس عليها. فمعيار الحقيقة بهذا المعنى قيمتها الاجتماعية قبل قيمتها المنطقية ، إذ يقول ابن المقفع:
"أخزن عقلك وكلامك إلا عند إصابة الموضع، فإنه ليس في كل حين يحسن الصواب؛ وإنما تمام إصابة الرأي والقول، بإصابة الموضع؛ فإن أخطأك ذلك، أدخلت المحنة على عملك حتى تأتي به - إن أتيت به - في غير موضعه وهو لا بهاء ولا طلاوة له."
وفي موضع آخر يقول: "وعلى العاقل أن يجبن عن الرأي الذي لا يجد عليه موافقا وإن ظن أنه على يقين."
وكما أن للحقيقة موضعها، فللأخلاق موضعها:
"الناس طبقتان متباينتان، وعلى العاقلِ أن يجعل الناسَ طبقتينِ متباينتينِ، ويلبس لهم لباسينِ مختلفينِ؛ فطبقةٌ من العامة يلبسُ لهم لباسَ انقباضٍ وإنجاز وتحفظٍ في كل كلمةٍ وخطوةٍ؛ وطبقةٌ من الخاصة يخلعُ عندهم لباسَ ويلبسُ لباس الآنسة واللطف والبذلة والمفاوضة. ولا يدخل في هذه الطبقة إلا واحداً من الألف، وكلهم ذو فضلٍ في الرأي، وثقةٍ في المودة، وأمانةٍ في السر، ووفاءٍ بالإخاء."
وهذه النخبوية تعبر عنها أيضا في كليلة ودمنة حكاية: "مثل الغراب الذي أراد أن يدرج كالحجلة". ويوضح ابن المقفع مقصود الحكاية قائلا: "والولاة أيها الملك وأرباب الأمر أولى بالانتباه إلى هذا الشأن ومنع حدوثه بين الناس لأن فيه مضرة لهم بما يُجَرِّئ الأنفس على منازعتهم في منازلهم ويغريها بمقاومتهم في أحكامهم لِما فيه من إِطماع السفلة في مراتب اهل الطبقة العالية، ومزاحمة اللئيم للكريم، والجاهل للعالم، والخامل للنسيب، والدنيئ للشريف، إلى غير ذلك مما يفضي إلى تشوش العالم وفساد الأمور واختلاط الطبقات وضياع المراتب والأقدار. والأمور في ذلك تجري على مثال واحد ينتهي إلى الأمر الخطير الجسيم من مزاحمة الملك على ملكه ومضادته فيه."
ونخبة النخبة عند ابن المقفع هي فئة العلماء، إذ يقول:
"أحق الناسِ بالسلطان أهل المعرفة، وأحقهم بالتدبير العُلماءُ، وأحقهم بالفضل أعودهم على الناس بفضله، وأحقهم بالعلمِ أحسنهم تأديباً، وأحقهم بالغنى أهل الجود، وأقربهم إلى االله أنفذهم في الحق علماً وأكملهم به عملاً، وأحكمهم أبعدهم من الشك في االله تعالى، وأصوبهم رجاءً أوثقهم باالله، وأشدهم انتفاعاً بعلمه أبعدهم من الأذى، وأرضاهم في الناسِ أفشاهم معروفاً، وأقواهم أحسنهم معونةً، وأشجعهم أشدهم على الشيطان، وأفلحهم بحجةٍ أغلبهم للشهوة والحرصِ، وآخذهم بالرأي أتركهم للهوى، وأحقهم بالمودة أشدهم لنفسهِ حباً، وأجودهم أصوبهم بالعطية موضعاً، وأطولهم راحةً أحسنهم للأمورِ احتمالاً، وأقلهم دهشاً أرحبهم ذراعاً، وأوسعهم غنى أقنعهم بما أبعدهم من الإفراط، وأظهرهم جمالاً أظهرهم حصافة، وآمنهم في الناس آكلهم ناباً وخلباً، وأثبتهم شهادةً عليهم أنطقهم عنهم، وأعدلهم فيهم أدومهم مسالمةً لهم، وأحقهم بالنعمِ أشكرهم لما أوتي منها... "
وفي موقع آخر يقول: "أحق الناس بالسلطان أهل المعرفة وأحقهم بالتدبير العلماء...."
هذا الاستشهاد يبين لنا أن المثقف، مثل ابن المقفع، هو الأهل بالسلطان؛ وهذا يدل على أننا أبعد ما نكون عن "أخلاق الطاعة" وأقرب ما نكون إلى المطالبة بالندية. والعالم عند ابن المقفع لا يتميز بالعلم فحسب، بل بحسن السلوك أيضا. وهكذا يتميز عن العامة بشكل مزدوج: بالعلم وبالسلوك.
والنخبة التي يخاطبها ابن المقفع تشمل الحكام وحاشيتهم. ولهذا فإن خطابه يشتمل على خطاب عام موجه لكل النخبة، وإلى خطابات فرعية، بعضها للحكام وبعضها الآخر للحاشية.
وعندما يتعلق الأمر بنصيحة الحكام كان ذلك من موقع الندية، بل من موقع التعالي بصفته مثقفا يعلم ما لا يعلمه الحاكم، ولهذا فإنه يرخص لنفسه أن يضعه موضع التلميذ. ونصيحته تشمل ما يجب أن يتصف به الحاكم من خصال، وطريقة تدبير الشأن العام؛ وأهم من كل هذا، كيف يجب له أن يظهر في أعين الناس، إذ يقول: "جماع ما يحتاج إليه الوالي رأيان: رأي يقوي سلطانه ورأي يزينه في الناس، ورأي القوة أحقهما بالبدائة وأولاهما بالأثرة، ورأس التزيين أحضرهما حلاوة وأكثرهما أعوانا مع أن القوة من الزينة والزينة من القوة لكن الأمر ينسب إلى أعظمه."
فابن المقفع يعطي للاتصال la communication أهمية كبرى، وهو يحيلنا بذلك إلى خبراء الاتصال المعاصرين. فلا يترك مجالا من مجالات السلوك إلا ويقول فيه ما يليق بالحاكم وما لا يليق، من زاوية مفعوله على الحاشية والرعية.
وعندما يخاطب الحاشية فإنه يعطيها دروسا في سيكولوجيا الحكام وطريقة التعامل معهم، و يكثر من النصائح في هذا الميدان. وبعض هذه النصائح يدخل فيما نسميه اليوم بالبروتوكول. إذ يقول: "لا تكون صحبتك للملوك إلا بعد رياضة منك لنفسك على طاعتهم في المكروه عندك، وموافقتهم فيما خالفك، وتقدير الأمور على ميلهم دون ميلك وعلى أن لا تكتمهم سرك ولا تستطلع ما كتموه، وتخفي ما اطلعوك عليه من الناس كلهم حتى تحمي نفسك الحديث به، وعلى الاجتهاد في رضاهم والتلطف لحاجاتهم والتثبيت لحجتهم والتصديق لمقالتهم والتزيين لرأيهم وعلى قلة الاستقباح لما فعلوا إذا أساؤوا، وترك الاستحسان لما فعلوا إذا أحسنوا، وكثرة النشر لمحاسنهم، وحسن الستر لمساويهم والمقاربة لمن قاربوا وإن كان بعيدا والمباعدة لمن باعدوا..."
ولو كانت الطاعة هي الخصلة المرغوبة في حاشية الحاكم بغض النظر عن أي اعتبار آخر، لما قال: "إن ابليت بصحبة وال لا يريد صلاح رعية فاعلم أنك قد خيرت بين خلتين ليس بينهما خيار: إما ميلك مع الوالي على الرعية وهذا هلاك الدين، وإما الميل إلى الرعية على الوالي وهذا هلاك الدنيا ولا حيلة لك إلا بالموت أو الهرب، واعلم أنه لا ينبغي لك وإن كان الوالي غير مرضي السيرة إذا علقت حبالك بحبله إلا المحافظة عليه إلى أن تجد إلى الفراق الجميل سبيلا..." .
والحاصل من النصين السابقين أن هناك حدودا لمحاباة الحكام، لأن تصرف بعض الحكام قد يكون وبالا على الجميع، وما أشبه اليوم بالبارحة.
أما "رسالة الصحابة" (وهي نص قصير) فيمكن اعتبارها تقريرا لخبير يقترح فيه وسائل للرفع من فعالية الإدارة، بما فيها الجيش. ويشبه ابن المقفع فيها الموظفين أو الخبراء المعاصرين الذين توكلهم الدولة، أو يوكلون أنفسهم كخبراء مستقلين، لانجاز تقارير للرفع من نجاعة مرفق من مرافق الدولة. وكما أننا لا نحكم اليوم على وظيفة هؤلاء إلا بمعيار الكفاءة، وجب أن نحكم على نظيرهم السابق بالمعيار نفسه.
نجد في هذا الكتاب دعوة إلى:
- فرض الانضباط في الجيش: "وأما ما يحتاجون فيه إلى التأديب من ذلك تقويم أيديهم ورأيهم وكلامهم فإن في ذلك القوم أخلاطا من رأس مفرط غال وتابع متحير شاك. ومن كان إنما يصول على الناس بقوم لا يعرف منهم الموافقة في الرأي والقول والسيرة... فهو كراكب الأسد الذي يوجل من رآه والراكب أشد وجلا."
- الفصل بين الدين والأمور الدنيوية التي للحاكم التدبير فيها حسب ما تقتضيه الظروف: "ثم جعل ما سوى ذلك [الأمور الدينية] من الأمر والتدبير إلى الرأي وجعل الرأي إلى ولاة الأمر وليس للناس في ذلك الأمر شيء إلا الإشارة عند المشورة والإجابة عند الدعوة والنصيحة بظهر الغيب."
- تحديد أجور للجيش ودفعها في وقتها المحدد وتكليف ديوان بذلك .
- الفصل بين وظيفتي الجيش وجباية الخراج .
- الاستعانة بالكفاءات الموجودة في العراق وألا يهمش بلدا بكامله بسبب فساد ولاته السابقين .
- توحيد الأحكام .
- اختيار الحاشية .
- تنظيم عملية التسيير والانتاج في الأراضي الفلاحية ...
هذا ما قرأناه في "رسالة الصحابة"، وهوعكس ما قرأه الجابري الذي يقول: "يمكن أن يقال إن ابن المقفع إنما كان ينقل ويترجم [التراث الفارسي] وأنه ليس من المؤكد أنه كان يتبنى نفس الآراء في طاعة السلطان، خصوصا وأنه كان مغضوبا عليه وقد قتله المنصور العباسي. غير أن هذا الرأي يكذبه دفاع ابن المقفع عن "طاعة السلطان" بقوة في "رسالة الصحابة" وهي تقرير رفعه إلى المنصور يشرح فيه الوضع في الدولة ويقترح عليه اقتراحات كلها تخدم النزوع الاستبدادي للمنصور." (ص 177)
والحقيقة أننا لم نصادف في الرسالة على ما يدل على أنها "نقل وترجمة"، فهي نص ظرفي محض. كما أننا لا نفهم كيف يمكن أن يكون فرض الانضباط على الجيش ودفع أجور الجنود في مواقيت محددة، والفصل بين وظيفتي الجيش والجباية، و توحيد الأحكام الخ، خدمة لنزوع استبدادي، إلا إذا اعتبرنا الفوضى وسوء التدبير شرطا لانتفاء الاستبداد. أما "طاعة السلطان" في الرسالة فليست إلا ديباجة بروتوكولية.
وإذا كان ابن المقفع يعبر عن شيء، فإنه يعبر عن ذهنية. ذهنية "خدام الدولة" – كما نسميهم اليوم - أي فئة الموظفين الذين يتماهون مع الدولة لأنهم أعضاؤها التي تتحرك بواسطتها. وطاعتهم تعني الانضباط الذي بدونه تنهار الدولة. والمعروف عن الموظفين الكبار، وهم في غالبيتهم من الخبراء، انهم لا يحبون أن يرأسهم من هو أقل كفاءة منهم، خاصة وأنهم مكلفون بالملفات التقنية التي قد لا يفقه فيها بعض الوزراء أو الرؤساء شيئا. ولهذا يشعرون بان لهم شرعية تقنية تفوق الشرعية السياسية (هذا إن وجدت). والندية التي كان يخاطب بها ابن المقفع الحاكم تدل على أنه كان يتوق إلى قيام حكم الجدارة méritocratie.
لقد انطلق الجابري من الأطروحة/المسلمة التي تعتبر ابن المقفع ممثلا ل"أخلاق الطاعة"، وبما أنه لم يجد في ما كتبه ابن المقفع ما يؤكد أطروحة، فإنه حاول في خاتمة الفصل تعليل هذا الغياب، قائلا: ولا يملك المرء وهو يقرأ ما سجل من سيرة ابن المقفع، الذي كان غنيا كريما يعيش عيشة الارستقراطية الفارسية، إلا أن يرى فيه صاحب مشروع حضاري قوامه إلباس الدولة العباسية الناشئة لباس الدولة الساسانية. وهذا واضح من جميع كتبه، فهي تدور جميعها حول "السلطان" أي ما نسميه اليوم "الدولة"، علما بأن الدولة كما عرفها ابن المقفع، أي كما تتمثل في النموذج الساساني، كانت دولة فرد لا دولة "مدينة" أو مجتمع."
"على أن مما يثير الانتباه حقا أن نصوص ابن المقفع تخلو تماما من أية عناصر إسلامية أو عربية. فلا ذكر لآية قرآنية ولا لحديث ولا لقولة صحابي أو لشيء عربي، في الجاهلية أو الإسلام... ! وهذا السكوت المطبق والمتعمد عن المرجعيات العربية الإسلامية يوازيه ويعضده السكوت عن المرجعيات الفارسية ! إنه لا يذكر لا أردشير ولا أنوشروان ولا بزرجمهر ولا يشير إلى أية مرجعية فارسية ولو حتى من قبيل "قال حكيم فارسي...". وهذا سكوت غير بريء ! إن السكوت عن المرجعيات عن المرجعيات الفارسية لا يمكن أن يفسر إلا بكونه كان من أجل السكوت عن المرجعيات العربية والإسلامية." (ص 195)
فالجابري يرى ان جُرم ابن المقفع - ونقول جُرم لأن "سكوته غير بريء" – يكمن في لجوئه للتقية لتمرير مشروعه الذي يفصل بين شؤون الدين وشؤون الحياة، "ذلك ان الله جعل قوام الناس وصلاح معاشهم ومعادهم في خلتين: الدين والعقل. الدين شرع لأمور العبادة وبعض أمور المعاش وترك الباقي وهو كثير لا يحصى ل"العقل". ولو أن الدين شرع للناس كل شيء "لكانوا قد كلفوا غير وسعهم... ولحارت عقولهم وألبابهم التي امتن الله بها عليهم ولكانت لغوا لا يحتاجون إليها في شيء". لكن، أي "عقل" هذا [يتساءل الجابري] الذي يقتسم التشريع مع الدين بل يختص بالقسم الأكبر منه؟ إنه عقل "الإمام". ولكن الإمام عند ابن المقفع ليس كإمام الشيعة المختص بعلم النبوة، كلا. إن الإمام عند ابن المقفع هو "كسرى"، في ثوب "أبي جعفر المنصور"، المخاطب في "رسالة الصحابة". (ص 196)
أليس ما رأى فيه الجابري دعوة إلى إعطاء "الإمام" حصة الأسد في التشريع، ليس في الواقع إلا دعوة لفصل الدين عن الدنيا، أي دعوة لاستقلال السياسة عن الدين، أي لضرب من العَلمانية قبل أوانها؟ فليس من "إمام" عند ابن المقفع غير الدولة ذاتها.
لقد كان ابن المقفع ينظر للأخلاق والدولة نظرة ستتضح أكثر مع منظري السياسة في العصور الحديثة، مثل مكيافيل وهيجل وغيرهما . فالدولة هي أداة العقلنة في المجتمع والتاريخ، ودورها يتمثل في فرض الإصلاحات من فوق وفق منطقها وليس منطق الأخلاق الفردية. وحتى لو أن ابن المقفع اتخذ من الدولة الساسانية نموذجا، فهو ليس النموذج الذي اعتقده الجابري، بل نموذج الحنكة الإدارية التي كانت معروفة بها.
مسكويه كممثل ل"النزعة التلفيقية"
تطرق الجابري لمسكويه في الفصل الخامس عشر الذي عنوانه: "النزعة التلفيقية: مقابسات من السعادة.. والاستبداد !" و جل مقاله مخصص لكتاب "تهذيب الأخلاق" من زاوية "موقعه على مسرح التنافس بين أنصار الموروث الفارسي وأنصار الموروث اليوناني." (ص 406)
يقول الجابري أن مسكويه كمعاصره العامري - الذي تطرق له من قبل – ينتمي إلى جماعة "المقابسات" وينطبق عليه ما ينطبق عليهم (ص 406). وبعد عرضه لمرجعيات الكتاب وأغلبها يوناني ( أفلاطون، أرسطو، جالينوس...) بوساطة هلنستية، مع قليل من المصادر العربية؛ يقول: "هذا الخليط من الآراء والمرجعيات صاغه مسكويه صياغة فريدة: مظهر علمي أرسطي. ومضمون متنوع يتناقض كثير منه مع الروح الأرسطية. إنها ظاهرة "المقابسات" تفرض نفسها هنا حتى على من أريد منه أن يكون خاضعا لمنهج علمي . أما نظام القيم الذي يحكمه فذلك ما سنكشف عنه في حينه." (ص 407)
فما هو نظام القيم الذي يحكم ظاهرة "المقابسات"؟ الجواب على هذا السؤال نجده في خاتمة الفصل، إذ يقول الجابري: "إذا كان لنا أن نخلص إلى نتيجة ما عامة من هذا الفصل الذي خصصناه لأبي الحسن العامري وأبي علي مسكويه، وهما من مدرسة واحدة، مدرسة "المقابسات"، أمكن القول إن ما أذاعاه في الساحة الثقافية العربية، من أخلاق وقيم، انطلاقا من الجمع بين الموروث الفارسي ونظيره الموروث اليوناني ينطوي على مفارقة خطيرة:
ذلك ان نظام القيم في الموروث اليوناني إذ يجعل "السعادة" قيمة مركزية له، سعادة الفرد وسعادة الجماعة/المدينة، يربط هذه السعادة – ربط معلول بعلة – بالمعرفة الشاملة – بقدر ما يستطيع الإنسان، المعرفة بوصفها العنصر المقوم للكمال الإنساني الذي يعني تحرر العقل من كل تبعية أو قيد والارتفاع إلى أقرب مستوى من الكمال الإلهي. بعبارة قصيرة: القيمة المركزية في نظام القيم اليوناني هو الكمال الإنساني ، الذي يعني ابتعاد الفرد البشري أكثر ما يمكن عن جنسه: الحيوان. وبما أن ما يميز الإنسان عن الحيوان هو العقل فإن الكمال الإنساني هو كمال العقل. والعقل ينمو بالمعرفة، وإذن فالكمال الإنساني يكون بتحصيل الفرد البشري أكبر قدر يستطيع من المعرفة بنفسه وبالمجتمع وبالكون وبالله. والهدف من الأخلاق والسياسة معا هو تمكين الإنسان من ذلك.
أما نظام القيم في الموروث الفارسي – على الأقل كما راج في الثقافة العربية – فالقيمة المركزية فيه هو نموذج أردشير. الحاكم الذي يؤسس حكمه على الدين وينصب نفسه حارسا له، فيضمن لنفسه الطاعة. ومع أن الإسلاميين قد فهموا (أو أرادوا أن يفهموا منه) أنه يحرس الدين ويطبقه فإن الواقع الاجتماعي السياسي في الإسلام، كما هو في مخيال المسلمين، لم يشهد مثل هذه النموذج، إلا في الخلفاء الأربعة وعمر بن عبد العزيز، وبالتالي فالنموذج المطبق في الأغلب الأعم هو الحارس لحكمه من الدين أي من الشعب. وفي جميع الأحوال فالقيمة المركزية هي الاستبداد.
والمفارقة الخطيرة التي نريد إبرازها هنا هي أن الجمع الذي قام به كل من العامري ومسكويه، بين الموروث اليوناني والموروث الفارسي، يترتب عنه حتما الجمع بين القيمتين المركزيتين فيهما: السعادة والاستبداد. والأدبيات الأخلاقية السياسية في الإسلام التي تغرف من الموروث اليوناني ، بما في ذلك "مدينة الفارابي" كما رأينا، تلغي "السعادة" بالمعنى الذي شرحناه أعلاه، إما بتأجيلها إلى الحياة الأخرى وإما بربطها في هذه الدنيا في بنموذج أردشير، الحاكم المستبد الحارس للدين مظهرا، والحارس لحكمه من الدين (أي الشعب) واقعيا.
بعبارة أخرى، وسواء تعلق الأمر بخطاب فلسفي ميتافيزيقي كما عند الفارابي أو بخطاب أخلاقي تطبيقي واعظ، كما عند العامري ومسكويه، فالمفارقة قائمة، وتتمثل في تبني "أخلاق السعادة" على صعيد الخطاب، والوقوع تحت هيمنة الكسروية على صعيد النموذج المهيمن على العقل العارض لذلك الخطاب." (ص 419 -420)
وهنا نعود إلى صلب المقال لنعرض قرائن الجابري التي يدعم بها هذا الاتهام. يقول الجابري: "ولكن مسكويه لا يلبث أن يترك أرسطو ل "يقتبس" هذه المرة من الفلسفة الدينية الهرمسية الفيضية التي كان طريقه إليها نصوص أو رجال "إخوان الصفاء" من جماعة "المقابسات" – ربما !"
ثم يثبت اقتباسا من نص نفضل نقله كاملا حتى يتضح للقارئ سياقه وإشكاليته، والفقرة المسودة والمؤطرة بقوسين هي استشهاد الجابري. قال مسكويه:
"تنقسم الفلسفة إلى قسمين: الجزء النظري والجزء العملي، فإذا أكمل الإنسان الجزء العملي والجزء النظري فقد سعد السعادة التامة. أما كماله الأول بإحدى قوتيه ، أعني العالمة، وهي التي يشتاق بها إلى العلوم، فهو أن يصبر في العلم بحيث يصدق نظره وتصح بصيرته وتستقيم رويته، فلا يغلط في إعتقاد ولا يشك في حقيقة، وينتهي في العلم بأمور الموجودات على الترتيب إلى العلم الإلهي الذي هو آخر مرتبة العلوم، ويثق به ويسكن إليه ويطمئن قلبه، وتذهب حيرته وينجلي له المطلوب الأخير حتى يتحد به، وهذا الكمال قد بينا الطريق إليه وأوضحنا سبله في كتب أخرى. وأما الكمال الثاني الذي يكون بالقوة الأخرى، أعني القوة "العاملة"، فهو الذي نقصده في كتابنا هذا، وهو الكمال الخلقي ومبدؤه من ترتيب قواه وأفعاله الخاصة بها، حتى لا تتغالب وحتى تتسالم هذه القوى فيه، وتصدر أفعاله كلها بحسب قوته المميزة منتظمة مرتبة كما ينبغي، وينتهي إلي التدبير المدني الذي يرتب الأفعال والقوى بين الناس، حتى تنتظم ذلك الإنتظام ويسعدوا سعادة مشتركة كما كان ذلك في الشخص الواحد. فإذا الكمال الأول النظري منزلته منزلة الصورة، والكمال الثاني العملي منزلته منزلة العادة [المادة] ، وليس يتم أحدهما إلا بالآخر لأن العلم مبدأ والعمل تمام، والمبدأ بلا تمام يكون ضائعا والـتمام بلا مبدأ يكون مستحيلا، وهذا الكمال هو الذي سميناه غرضا.
وذلك أن الغرض والكمال بالذات هما شيء واحد، وإنما يختلفان بالإضافة، فإذا نظر إليه وهو بعد في النفس ولم يخرج إلي الفعل فهو غرض، فإذا خرج إلي الفعل وتم فهو كمال. وكذلك الحال في كل شيء، لأن البيت إذا كان متصورا للباني وكان عالما بأجزائه وتركيبه وسائر أحواله كان غرضا. فإذا أخرجه إلى الفعل وتممه كان كمالا. (فقد صح من جميع ما قدمناه أن الإنسان يصير إلى كماله. ويصدر عنه فعله الخاص به إذا علم الموجودات كلها، أي يعلم كلياتها وحدودها التي هي ذواتها لا أعراضها، وخواصها التي تصيرها بلا نهاية. فإنك إذا علمت كليات الموجودات فقد علمت جزئياتها بنحو ما، لان الجزئيات لا تخرج عن كلياتها. فإذا كملت هذا الكمال فتممه بالفعل المنظوم ورتب القوى والملكات التي فيك ترتيبا علميا ،كما سبق علمك به. فإذا انتهيت إلى هذه الرتب فقد صرت عالما وحدك، واستحققت أن تسمى عالما صغيرا لأن صور الموجودات كلها قد حصلت في ذاتك، فصرت أنت هي بنحو ما. ثم نظمتها بأفعالك على نحو استطاعتك فصرت فيها خليفة لمولاك خالق الكل جلت عظمته، فلم تخطئ فيها ولم تخرج عن نظامه الأول الحكمى فتصير حينئذ عالما تاما. والتام من الموجودات هو الدائم الوجود، والدائم الوجود هو الباقي بقاء سرمديا. فلا يفوتك حينئذ شيء من النعيم المقيم، لأنك بهذا الكمال مستعد لقبول الفيض من المولى دائما أبدا، وقد قربت منه القرب الذي لا يجوز أن يحول بينك وبينه حجاب. وهذه هي الرتبة العليا والسعادة القصوى) . ولولا أن الشخص الواحد من أشخاص الناس يمكنه تحصيل هذه المنزلة في ذاته وتكميل صورته بها وإتمام نقصانه بالترقي إليها، لكان سبيله سبيل أشخاص الحيوانات الأخر. أو كسبيل أشخاص النبات في مصيرها إلى الفناء، والإستحالة التي تلحقها والنقصانات التي لا سبيل إلى تمامها. ولاستحال فيه البقاء الأبدي والنعيم السرمدي والمصير إلى ربه ودخول جنته. ومن لا يتصور هذه الحالة ولا ينتهي إلى علمها من المتوسطين في العلم يقع له شكوك. فيظن أن الإنسان إذا انتقض تركيبه الجسماني بطل وتلاشى، كالحال في الحيوانات الأخر وفي النبات، فحينئذ يستحق إسم الإلحاد ويخرج عن سمة الحكمة وسنة الشريعة." ( تهذيب... ص 273-275)
هذا إذن هو النص الذي يمثل "الفلسفة الدينية الهرمسية الفيضية". أما ما فهمناه نحن من هذا النص فهو أنه بإمكان الإنسان أن يصل إلى العلم الإلهي بواسطة التأمل العقلي. وحتى قوله "لأنك بهذا الكمال مستعد لقبول الفيض من المولى دائما أبدا، وقد قربت منه القرب الذي لا يجوز أن يحول بينك وبينه حجاب. وهذه هي الرتبة العليا والسعادة القصوى"، واستعمال مصطلحات من السجل الصوفي، مثل "الفيض" و "الحجاب"، لا يعني أنه قطع مع الفلسفة وانتقل إلى الصوفية؛ فمسكويه لا يكتفي بالإقرار بالوحي، كما هو شأن جل المؤمنين؛ ولا هو يختزل الطريق، كما يفعل بعض الصوفية؛ بل يرتقي ابتداء من "العلم بأمور الموجودات" درجة درجة. وهو بذلك لا يقطع مع الإشكالية الأساسية في الفلسفة العربية-الإسلامية التي تقول بوحدة الحقيقة وتعدد الطرق للوصول إليها. وما يصل إليه النبي بواسطة الوحي فإن الفيلسوف يمكن أن يصل إليه بواسطة العقل. يقول مسكويه:
"وعلمت أن كل مرتبة منها محتاجة إلى ما قبلها في وجودها، وعلمت أن الإنسان لا يتم له كماله، إلا بعدما يحصل له ما قبله، وأنه إذا صار إنسانا كاملا وبلغ غاية أفقه أشرق نور الأفق الأعلى عليه، وصار حكيما تاما تأتيه الإلهامات فيما يتصرف فيه من المحاولات الحكمية والتأييدات العلوية في التصورات العقلية. وإما نبيا مؤيدا يأتيه الوحي على ضروب المنازل التي تكون له عند الله تعالى ذكره..." (ص 300-301)
وإذا حكمنا على نص مسكويه على ضوء ما سودناه أعلاه في نص الجابري، والقائل: "ذلك ان نظام القيم في الموروث اليوناني إذ يجعل "السعادة" قيمة مركزية له، سعادة الفرد وسعادة الجماعة/المدينة، يربط هذه السعادة – ربط معلول بعلة – بالمعرفة الشاملة – بقدر ما يستطيع الإنسان، المعرفة بوصفها العنصر المقوم للكمال الإنساني الذي يعني تحرر العقل من كل تبعية أو قيد والارتفاع إلى أقرب مستوى من الكمال الإلهي"؛ فإن السؤال الذي يتوارد إلى الذهن هو: ما هو الفارق النوعي بين ما قاله الموروث اليوناني وما قاله مسكويه، وهل هناك فرقا بين الكمال الإلهي اليوناني ومثيله عند مسكويه؟ ولماذا يكون هذا "هرمسيا فيضيا" وليس ذاك؟
وفي موقع آخر يقول الجابري: "غير ان الشيء الذي لا بد أن يثير الانتباه حقا هو كون القيم الكسروية تطل بعنقها من خلال قلمه في وقت لم يكن القارئ يتوقع ذلك ولا كان يشعر أن مسكويه في حاجة إليها. إن هذا لدليل على هيمنة القيم الكسروية على بينية العقل الأخلاقي/السياسي، العربي الإسلامي، في ذلك العصر كما في العصور السابقة وأيضا اللاحقة !" (ص 416). ودليل الجابري على كسروية مسكويه قوله: "ومثال ذلك أن الملك الفاضل ، إذا أمن السرب وبسط العدل وأوسع العمارة وحمى الحريم (...) فقابلته من جهة رعيته إنما تكون بإخلاص الدعاء ونشر المحاسن وجميل الشكر وبذل الطاعة وترك المخافة في السر والعلانية (...). وإذا كان هذا معروفا غير منكر وواجبا غير مجحود في ملوكنا ورؤسائنا فكم بالحري أن يكون لملك الملوك الذي يصل إلينا في كل يوم طرفة عين ضروب إحسانه الفائض على أجسامنا ونفوسنا" (ص 120-121 في مرجع الجابري)
ويعلق الجابري على النص قائلا: "لقد كانت المماثلة بين الله والسلطان التي صادفناها من قبل تقوم تقوم على تشبيه السلطان بالله، أما هنا فنحن أمام تشبيه الله بالسلطان. فمعنى ذلك ان مسكويه يطلب الحجة والبرهان على وجوب الشكر لله على ما أعطى، من وجوب الشكر للسلطان على حسن سيرته ! وكأن الشكر للسلطان هو الأصل، والشكر لله هو الفرع ! وغني عن البيان القول إننا هنا لا نرمي من وراء هذه الملاحظات إلى محاكمة نوايا مسكويه، بل نحن نؤمن أنه انساق مع هذه المماثلة ببراءة وبدون قصد لما رتبناه نحن عليها. غير أن هذه "البراءة" وهذا "اللاقصد" هو ما يهمنا نحن. ذلك أنهما دليل على رسوخ المماثلة بين الله والحاكم في اللاوعي، على كونها ثابتا بنيويا في نظام القيم المهيمن على فكر الرجل بل على الثقافة التي ينتمي إليها ! (ص 417)
وسنعود إلى هذا النص في ختام عرضنا للنظرية السياسية عند مسكويه لما يكتسيه من أهمية في هذا الميدان. أما في السياق الذي نحن بصدده، فإننا نلاحظ أن الجابري غفل عن مماثلة أخرى لدى مسكويه، ألا هي مماثلة الأفعال الفاضلة، أي أفعال الإنسان، بالأفعال الإلهية. فليس السلطان وحده الذي يماثل بالله، بصفة واعية أو لا واعية، إذ يقول:
"وآخر المراتب في الفضيلة أن تكون أفعال الإنسان كلها أفعالا الهية، وهذه الأفعال هي خير محض. والفعل إذا كان خيرا محضا فليس يفعله فاعله من أجل شيء آخر غير الفعل نفسه. وذلك أن الخير المحض هو غاية متوخاة لذاتها أي هو الأمر المطلوب المقصود لذاته. والأمر الذي هو غاية متوخاة لذاتها أي هو الأمر المطلوب المقصود لذاته. والأمر الذي هو غاية في نهاية النفاسة ليس يكون من أجل شيء آخر. فأفعال الإنسان إذا صارت كلها إلهية فهي كلها إنما تصدر عن لبه وذاته الحقيقية، التي هي عقله الإلهي الذي هو ذاته بالحقيقة. وتزول وتتهدر سائر دواعي طباعه البدني بسائر عوارض النفسين البهيميتين، وعوارض التخيل المتولد عنهما، وعن دواعي نفسه الحسية، فلا يبقى له حينئذ إرادة ولا همة خارجتان عن فعله من أجلهما يفعل ما يفعل. لكنه يفعل ما يفعله بلا إرادة ولا همة في سوى الفعل أي لا يكون غرضه في فعله غير ذات الفعل وهذا هو سبيل العقل الإلهي. فهذه الحال هي آخر رتب الفضائل، التي يتقبل فيها الإنسان أفعال المبدأ الأول خالق الكل عز وجل. أعني أن يكون فيما يفعله لا يطلب به حظا ولا مجازاة ولا عوضا ولا زيادة، لكن يكون فعله بعينه هو غرضه، أي ليس يفعل من أجل شيء آخر سوى ذات الفعل. ومعنى ذاته هو أن لا يفعل ما يفعله من أجل شيء غير فعله نفسه، وذاته نفسها هي الفعل الإلهي نفسه، وهكذا يفعل الباري تعالى لذاته لا من أجل شيء آخر خارج عنه. وذلك أن فعل الإنسان في هذه الحال يكون، كما قلنا، خيرا محضا وحكمة محضة. فيبدأ بالفعل لنفس إظهار الفعل فقط لا لغاية أخرى يتوخاها بالفعل. وهكذا فعل الله عز وجل الخاص به، ليس هو على القصد الأول من أجل شيء خارج عن ذاته، أعني ليس ذلك من أجل سياسة الأشياء التي نحن بعضها، لأنه لو كان الأمر كذلك لكانت أفعاله حينئذ إنما كانت وتكون وتتم بمشارفة الأمور التي من خارج ولتدبيرها وتدبير أحوالها وإهتمامه بها. وعلى هذا تكون الأشياء التي من خارج أسبابا وعللا لأفعاله، وهذا شنيع قبيح، تعالى الله عنه علوا كبيرا."(ص 318-319)
ونحن أيضا لن نحاكم مسكويه على نواياه، خاصة إذا كانت هذه "النوايا" لا تستند إلا إلى نص واحد، في حين ان النصوص التي تطرق فيها مسكويه للسياسة عديدة في الكتاب، ويمكن للقارئ أن يكون على ضوئها صورة عن فلسفته السياسية على أساس أقواله لا نواياه.
وقد قمنا من أجل ذلك بجرد بعض النصوص التي يتحدث فيها مسكويه عن السياسة والعلاقة بين الحاكم والرعايا. ولنبدأ بالنص الوحيد الذي يستشهد فيه بملك ساساني:
"والقائم بحفظ هذه السنة وغيرها من وظائف الشرع حتى لا تزول عن أوضاعها هو الإمام وصناعته هي صناعة الملك. والأوائل لا يسمون بالملك إلا من حرس الدين وقام بحفظ مراتبه وأوامره وزواجره. وأما من أعرض عن ذلك فيسمونه متغلبا ولا يؤهلونه لإسم الملك. وذلك أن الدين هو وضع إلهي يسوق الناس باختيارهم إلى السعادة القصوى. والملك هو حارس هذا الوضع الإلهي، حافظ على الناس ما أخذوا به. وقد قال حكيم الفرس وملكهم اردشير: " إن الدين والملك إخوان توأمان لا يتم أحدهما إلا بالآخر، فالدين أس والملك حارس. وكل مالا أس له فمهدوم. وكل مالا حارس له فضائع". ولذلك حكمنا على الحارس الذي نصب للدين أن يتيقظ في موضعه ويحكم صناعته، ولا يباشر أمره بالهوينا، ولا يشتغل بلذة تخصه، ولا يطلب الكرامة والغلبة إلا من وجهها. فإنه متى أغفل شيئا من حدوده، دخل عليه من هنالك الخلل والوهن. وحيئنذ تتبدل أوضاع الدين ويجد الناس رخصة في شهواتهم، ويكثر من يساعدهم على ذلك، فتنقلب هيئة السعادة إلى ضدها، ويحدث بينهم الإختلاف والتباغض، فأداهم ذلك إلى الشتات والفرقة، وبطل الفرض الشريف، وانتقض النظام الذي طلبه صاحب الشرع بالأوضاع الإلهية، فاحتيج حينئذ إلى تجديد الأمر واستئناف التدبير وطلب الإمام الحق والملك العدل" (ص 367).
في هذا النص يميز مسكويه بين "المَلك" و "المُتغلب"، والفرق بينهما أن الأول محدود السلطة بالدين، أما الثاني فلا حدود لسلطته. ووظيفة الدين في هذا النص هي بمثابة الدستور الذي يقنن عمل الملك. والجمع بين الملك والدين في هذا النص يعمل لصالح الحد من الاستبداد، وليس دعما للاستبداد من قبل الدين.
وفي النص التالي يتطرق مسكويه إلى واجبات "مدير المدن"، وهوتعبير عن الحاكم بالمعنى الواسع:
"ولأجل ذلك يجب على مدير المدن أن يسوق كل إنسان نحو سعادته التي تخصه، ثم يقسم عنايته بالناس ونظره لهم بقسمين: أحدهما في تسديد الناس وتقويمهم بالعلوم الفكرية، والأخر في تسديدهم نحو الصناعات والأعمال الحسية. وإذا سددهم نحو السعادة الفكرية بدأ بهم من الغاية الأخيرة على طريق التحليل، ووقف بهم عند القوى التي ذكرناها. وإذا سددهم نحو السعادة العملية، بدأ بهم من عند هذه القوى وانتهى بهم إلى تلك الغايات. ولما كان غرضنا في هذا الكتاب السعادة الخلقية، وأن تصدر عنا الأفعال كلها جميلة، كما رسمنا في صدر الكتاب، وعملناه لمحبي الفلسفة خاصة لا للعوام، وكان النظر يتقدم العمل وجب أن نذكر الخير المطلق والسعادة الإنسانية لتلحظ الغاية الأخيرة، ثم تطلب بالأفعال الإرادية التي ذكرنا جملها في المقالة الأولى. وأرسطوطاليس إنما بدأ كتابه بهذا الموضع وافتتحه بذكر الخير المطلق ليُعرف ويُتشوق. ونحن نذكر ما قاله ونتبعه بما أخذناه أيضا عنه في مواضع أخر، ليجتمع ما فرقه ونضيف إلى ذلك ما أخذناه عن مفسري المتقبلين لحكمته نحو استطاعتنا، والله الموفق المؤيد، فإن الخير بيده وهو حسبنا ونعم الوكيل". (ص 303 -304)
والحاكم في هذا النص بمثابة المربي الذي يعمل على خلق المواطن الصالح، وليس من العسير تصور طبيعة سياسة الحاكم المربي الكفيلة بخلق هذا الصنف من المواطنين، فهي على كل حال أبعد ما تكون عن "التطويع".
وفي النص التالي يتطرق مسكويه إلى صفات الحاكم العادل:
"فالإمام العادل الحاكم بالسوية يبطل هذه الأنواع ويخلف صاحب الشريعة في حفظ المساواة، فهو لا يعطي ذاته من الخيرات أكثر مما يعطي غيره. ولذلك قيل في الخبر أن الخلافة تطهر الإنسان. قال: فأما العامة فإنها تؤهل لمرتبة الإمامة التي هي الخلافة العامة بما ذكرناه، من كان شريفا في حسبه ونسبه، وبعضهم يؤهل لذلك من كان كثير المال. وأما العقلاء فإنهم يؤهلون لذلك من كان حكيما فاضلا، فإن الحكمة والفضيلة هي التي تعطي الرياسات والسيادات الحقيقية، وهي التي رتبت الثاني والأول في مرتبتيهما وفضلتهما على سائر الناس".(ص 344)
من هذا النص يتبين لنا أن الشرعية المثالية للحاكم هي التي تقوم على الحكمة والفضيلة، وليس تلك التي تقوم على الوراثة أو المال (أو التغلب، كما ورد في نص سابق). ويزيد مسكويه على هذه الخصال العقلية والسلوكية خصلة عاطفية؛ فما يربط الحاكم والرعية، وهؤلاء فيما بينهم، ليس علاقة المواطنة القانونية فحسب، بل يجب أن تربطهم علاقة شبه عائلية:
"ويجب أن تكون نسبة الملك إلى رعيته نسبة أبوية ونسبة رعيته إليه نسبة بنوية، ونسبة الرعية بعضهم إلى بعض نسبة أخوية، حتى تكون السياسات محفوظة على شرائطها الصحيحة. وذلك أن مراعاة الملك لرعيته هي مراعاة الأب لأولاده ومعاملته إياهم تلك المعاملة. وقد كنا أشرنا إلى ذلك وسنزيده بيانا إذا صرنا إلى ذكر سياسة الملك في موضع آخر. وعنايته برعيته يجب أن تكون مثل عناية الأب بأولاده شفقة وتحننا وتعهدا وتعطفا خلافة لصاحب الشريعة صلى الله عليه وسلم، بل لمشرع الشريعة تعالى ذكره في الرأفة والرحمة، وطلب المصالح لهم ودفع المكاره عنهم وحفظ النظام فيهم، وبالجملة في كل ما يجلب الخير ويمنع الشر. فإنه عند ذلك تحبه رعيته محبة الأولاد للأب الشفيق، وتحدث بينهما تلك النسبة. وإنما تختلف هذه المحبات بالتفاضل الذي يكون بعظم المنافع. فيجب أن يكرم الأب كرامة أبوية ويكرم السلطان كرامة سلطانية؛ ويكرم الناس بعضهم بعضا كرامة أخوية. ولكل مرتبة من استئهال خاص بها واستحقاق واجب لها، فإذا لم يحفظ بالعدالة زاد ونقص وعرض لها الفساد، وانقلبت الرياسات وانعكست الأمور، فيعرض لسياسة الملك أن تنتقل إلى سياسة التغلب، ويتبع ذلك أن تنتقل محبة الرعية إلى البغض له، ويعرض لرياسات من دونه مثل ذلك، فتصير محبة الأخيار إلى تباغض الأشرار وتعود الألفة نفارا والتواد نفاقا، ويطلب كل واحد لنفسه ما يظنه خيرا له وإن أضر بغيره، وتبطل الصداقات والخير المشترك بين الناس، ويؤول الأمر إلى الهرج الذي هو ضد النظام الذي رتبه الله لخلقه ورسمه بالشريعة وأوجبه بالحكمة البالغة." (ص 369-370)
ويجب أن نشير أن موقف مسكويه لا تشوبه أية سذاجة، إذ أنه لم يكن غافلا عن حقيقة الملك ونفسية الحكام، كما يبين ذلك في النص التالي:
"وبذلك حكمنا حكما صادقا بأنه تعالى أغنى الأغنياء لأنه لا حاجة به إلى شيء من الأشياء. و[قد] حكمنا أيضا أن الملوك منا هم أشد الناس فقرا لكثرة حاجتهم إلى الأشياء. ولقد صدق أبو بكر الصديق رضي الله عته في خطبته حيث قال: "أشقى الناس في الدنيا والآخرة الملوك." ثم وصفهم فقال: "إن الملك إذا ملك زهده الله فيما في يده ورغبه فيما في يد غيره، وانتقصه شَطر أجله وأشرب قلبه الإشفاق، فهو يحسد على القليل ويتسخط بالكثير، ويسأم الرخاء، وانقطعت عنه لذة البهاء، لا يستعمل العزة [الغيرة] ولا يسكن إلى الثقة، فهو كالدرهم الغش والسراب الخادع، جلد الظاهر حزين الباطن، فإذا وجبت نفسه ونضب عمره ومحي ظله حاسبه فأشد حسابه وأقل عفوه. ألا أن الملوك هم المرحومون. فهذه صفة الملك إذا تمكن من ملكه لا يغادر منه شيئا". ولقد سمعت أعظم من شاهدت من الملوك يستعيد هذا الكلام ثم يستعبر لموافقته ما في قلبه وصدقه عن حاله وصورته. ولعل من يرى ظاهر الملوك من الأسرة والفرش والزينة والأثاث ويشاهدهم في مواكبهم محفوفين محشودين، بين أيديهم الجنائب والمراكب والعبيد والخدم والحجاب والحشم، يروعه ذلك فيظن أنهم مسرورون بما يراه لهم ! لا والذي خلقهم وكفانا شغلهم، إنهم لفي هذه الأحوال ذاهلون عما يراه العبيد[البعيد] لهم، مشغولون بالأفكار التي تعتورهم وتعتريهم فيما قلناه من ضروراتهم. وقد جربنا ذلك في اليسير مما ملكناه، فدلنا على الكثير مما وصفناه. ولعل بعض من يصل إلى الملك أو السلطان فالتذ في مبدء أمره مدة يسيرة جدا، بمقدار ما يتمكن منه وتنفتح عينه فيه. لكنه بعد ذلك يصير جميع ما ملكه كالشيء الطبيعي له، لا يلتذ به ولا يفكر فيه ويمد عينه إلى مالا يملكه. فلو ملك الدنيا بحذافيرها لتمنى دنيا أخرى، أو نزقت همته إلى البقاء الأبدي، والملك الحقيقي، حتى يتبرم بجميع ما وصل إليه وبلغته قدرته. ذلك أن حفظ الدنيا صعب جدا لما في طبيعتها من الإخلال والتلاشي، ولما يضطر الملك إليه من الأمور التي وصفناها والأموال الجمة المصروفة إلى الجند المرتبطين، والخدم المتسومين، والذخائر والكنوز المعدة للآفات والحوادث التي لا يؤمن طروقها. فهذه حال طلاب النعم الخارجة عنا." (ص 399-400)
وحتى ننتهي من موضوع السياسة نود أن نعيد إثبات النص الذي قدمه لنا الجابري كدليل على الأخلاق الكسروية عند مسكويه، وقد أكملنا بين قوسين ما حذفه الجابري لأن هذا الحذف غير بريء :
"ومثال ذلك أن الملك الفاضل ، إذا أمن السرب وبسط العدل وأوسع العمارة وحمى الحريم (وذب عن الحوزة، ومنع من التظالم، ووفر الناس على ما يختارونه من مصالحهم ومعايشتهم، فقد أحسن إلى كل واحد من رعيته إحسانا يخصه في نفسه، وإن كان قد عمهم بالخير، واستحق من كل واحد منهم أن يقابله ضربا من المقابلة، متى قعد عنه كان جائرا إذا كان يأخذ نعمته ولا يعطيه شيئا، لكن مقابلة الملك الفاضل من رعيته) فقابلته من جهة رعيته إنما تكون بإخلاص الدعاء ونشر المحاسن وجميل الشكر وبذل الطاعة وترك المخافة في السر والعلانية (والمحبة الصادقة، والإتمام بسيرته نحو استطاعته والاقتداء به في تدبير منزله وأهله وولده وعشيرته. فإن نسبة الملك على مدينته ورعيته كنسبة صاحب المنزل على منزله وأهله، فمن لم يقابل ذلك الإحسان بهذه الطاعة والمحبة فقد جار وظلم ...). وإذا كان هذا معروفا غير منكر وواجبا غير مجحود في ملوكنا ورؤسائنا فكم بالحري أن يكون لملك الملوك الذي يصل إلينا في كل يوم طرفة عين ضروب إحسانه الفائض على أجسامنا ونفوسنا" (ص 120-121 في مرجع الجابري)
ما يلاحظ، أولا، هو ان الجابري أزاح من شاهده "صاحب المنزل"، أي أنه أزاح الطرف الثالث في المعادلة حتى تصير ثنائية. وهذه المعادلة لا تلغي التراتب القائم بين أطرافها: ففي الأسفل يوجد "صاحب المنزل" - وإن كان هو في الواقع الذي يقدم النموذج الذي قيست على أساسه الأطراف الأخرى، وصورة الملك الفاضل ليست إلا توسيعا لنموذج الأب الفاضل – ثم "الملك الفاضل"، وأخيرا "ملك الملوك" الذي يمتاز عن الطرفين الآخرين بكون "إحسانه الفائض" أوسع من إحسانهم.
وهذا النص، ثانيا، يقوم على قضية شرطية:
- مقدمتها: إذا أمن الملك السرب وبسط العدل وأوسع العمارة وحمى الحريم...
- ونتيجتها: إذن قابلته الرعية بإخلاص الدعاء...وجميل الشكر وبذل الطاعة.
ولسنا في حاجة إلى إرغام النصوص لنستخلص أن ما يوجد في هذا النص – وفي النصوص التي اوردناه أعلاه – هو نظرية للعقد الاجتماعي بكل معنى الكلمة. لكن الجابري لم يكن يبحث إلا عن القذى ولهذا لم يرى اللؤلؤة – بل اللآلئ – التي تلمع في كتاب مسكويه. فالطاعة عند مسكويه لا علاقة لها بالتطويع، بل هي طاعة مشروطة، وهي إقرار بشرعية "الملك الفاضل" لأنه استجاب لما يلزمه به العقد الذي يربطه بالرعية.
لقد أجبرنا الجابري على البدء بما هو أخص، أي بالسياسة؛ في حين ان المنطق كان يقتضي البدء بما هو أعم، أي بالأخلاق؛ ولهذا نختم هذا الجزء بجرد المبادئ الأساسية للأخلاق عند مسكويه، وسنكتفي في الغالب بوضع عناوين متبوعة بنص أو عدة نصوص:
ومع بداية الكتاب يطرح مسكويه إشكالية الأخلاق لديه قائلا:
"قال أحمد بن محمد بن مسكويه غرضنا في هذا الكتاب أن نحصل لأنفسنا خلقا تصدر به عنا الأفعال كلها جميلة وتكون مع ذلك سهلة علينا لا كلفة فيها ولا مشقة ويكون ذلك بصناعة وعلى ترتيب تعليمي والطريق في ذلك أن نعرف أولا نفوسنا ما هي، وأي شيء ولأي شيء أوجدت فينا، أعني كمالها وغايتها وما قواها وملكاتها التي إذا استعملناها على ما ينبغي بلغنا بها هذه الرتبة العلية، وما الأشياء العائقة لنا عنها وما الذي يزكيها فتفلح وما الذي يدسيها فتخيب فإن الله عز من قائل يقول: "ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها"." (ص 234/235)
ويترتب عن هذه الإشكالية منهج (صناعة وترتيب تعليمي)، ومقاصد (السعادة والأنس والمحبة)، ومبادئ (هي أساسا العدل ومشتقاته)، كما ستبينه لنا النصوص التي سنوردها.
أولا: الأخلاق علم وتربية.
الإنسان في نظر مسكويه ليس خيرا بالطبع – كما في الأخلاق الروسوية rousseauisme - ولهذا سمى كتابه "تهذيب الأخلاق وطهارة الأعراق"، يعني الطباع، وهو ما يشرحه قائلا:"وليست تحصل هذه المراتب التي يترقى فيها صاحب السعادة التامة إلا بعد أن يعلم أجزاء الحكمة كلها علما صحيحا ويستوفيها أولا أولا كما رتبناها في كتابنا المسمى ب"ترتيب السعادات". ومن ظن من الناس أنه يصل إليها بغير تلك الطريقة وعلى غير ذلك المنهج فقد ظن باطلا وبعد عن الحق بعدا كثيرا. وليتذكر في هذا الموضع الخطأ العظيم الذي وقع فيه قوم ظنوا أنهم يدركون الفضيلة بتعطيل القوة العالمة وإهمالها وبترك النظر الخاص بالعقل واكتفائهم بأعمال ليست مدنية ولا بحسب ما يقسطه التمييز والعقل. وقد سماهم قوم العاملة والناجية. ولذلك رتبنا هذا الكتاب عقب ذلك الكتاب ليلحظ منهما السعادة الأخيرة المطلوبة بالحكمة البالغة وتتهذب لها النفس وتتهيأ لقبولها غسلا وتنقية من الأمور الطبيعية وشهوات الأبدان. ولذلك سميته أيضا بكتاب "طهارة الأعراق". (ص 320-321)
ثانيا: الإنسانية بدن واحد.
"ولما كانت هذه الخيرات الإنسانية وملكاتها التي في النفس كثيرة ولم يكن في طاقة الإنسان الواحد القيام بجميعها، وجب أن يقوم بجميعها جماعة كثيرة منهم. ولذلك وجب أن تكون أشخاص الناس كثيرة، وأن يجتمعوا في زمان واحد على تحصيل هذه السعادات المشتركة، لتكميل كل واحد منهم بمعاونة الباقين له؛ فتكون الخيرات مشتركة والسعادة مفروضة بينهم؛ فيتوزعونها حتى يقوم كل واحد منهم بجزء منها ويتم للجميع، بمعاونة الجميع، الكمال الإنسي وتحصل لهم السعادات الثلاث التي شرحناها في كتاب "الترتيب". ولأجل ذلك وجب أن تكون الناس بحب بعضهم بعضا، لأن كل واحد يرى كماله عند الآخر، ولولا ذلك لما تمت لهذا سعادته، فيكون إذا كل واحد بمنزلة عضو من أعضاء البدن، وقوام الإنسان بتمام أعضاء بدنه." (ص 248)
ثالثا: غاية الأخلاق تحقيق السعادة.
وفي موضوع السعادة، التي هي غاية الأخلاق، يقف مسكويه موقفا وسطا بين الذين يرون السعادة في الأمور الدنيوية فقط، والذين يرجئونها إلى الآخرة، إذ يقول:
"إن الإنسان ذو فضيلة روحانية يناسب بها الأرواح الطيبة التي تسمى ملائكة، وذو فضيلة جسمانية يناسب بها الأنعام، لأنه مركب منهما. فهو بالخير الجسماني الذي يناسب به الأنعام مقيم في هذا العالم السفلي مدة قصيرة ليعمره وينظمه ويرتبه، حتى إذا ظفر بهذه المرتبة على الكمال انتقل إلى العالم العلوي وأقام فيه دائما سرمدا في صحبة الملائكة والأرواح الطيبة. وينبغي أن يفهم من قولنا العالم السفلي والعالم االعلوي، ما ذكرناه فيما تقدم، فإنا قد قلنا هناك أنا لسنا نعني بالعلوي المكان العلى في الحس، ولا بالعالم السفلي المكان الأسفل في الحس، بل كل محسوس فهو أسفل وإن كان محسوسا في المكان الأعلى. وكل معقول فهو أعلى، وإن كان معقولا في المكان الأسفل. وينبغي أن يعلم أنه لا يحتاج في صحة الأرواح الطيبة المستغنية عن الأبدان إلى شيء من السعادات البدنية التي ذكرناها سوى سعادة النفس فقط، أعني المعقولات الأبدية التي هي الحكمة فقط. فإذا ما دام الإنسان إنسانا، فلا تتم له السعادة إلا بتحصيل الحالين جميعا، وليس يحصلان على التمام إلا بالأشياء النافعة في الوصول إلى الحكمة الأبدية. فالسعيد إذا من الناس يكون في إحدى مرتبتين: إما في مرتبة الأشياء الجسمانية، متعلقا بأحوالها السفلى سعيدا بها، وهو مع ذلك يطالع الأمور الشريفة باحثا عنها مشتاقا إليها متحركا نحوها مغتبطا بها. وإما أن يكون في رتبة الأشياء الروحانية متعلقا بأحوالها العليا سعيدا بها، وهو مع ذلك يطالع الأمور البدنية معتبرا بها ناظرا في علامات القدرة الإلهية ودلائل الحكمة البالغة، مقتديا بها ناظما لها مفيضا للخيرات عليها سابقا لها نحو الأفضل، فالأفضل، بحسب قبولها وعلى نحو استطاعتها. وأي امرىء لم يحصل في إحدى هاتين المنزلتين فهو في رتبة الأنعام، بل هو أضل. وإنما صار أضل لأن تلك غير مُعرضة لهذه الخيرات ولا أُعطيت استطاعة تتحرك بها نحو هذه المراتب العالية".(ص 315-316)
رابعا: الأخلاق تقوم على الإرادة والعقل.
"ولما كان الإنسان من بين الموجودات كلها، هو الذي يلتمس له الخلق المحمود والأفعال المرضية وجب أن لا ننظر في هذا الوقت في قواه وملكاته وأفعاله، التي يشارك بها سائر الموجودات، إذ كان ذلك من حق صناعة أخرى وعلم آخر يسمى العلم الطبيعي. وأما أفعاله وقواه وملكاته التي يختص بها من حيث هو إنسان وبها تتم إنسانيته وفضائله، فهي الأمور الإرادية التي بها تتعلق قوة الفكر والتمييز، والنظر فيها يسمى الفلسفة العملية." (ص 245)
خامسا: الفعل الأخلاقي أخلاقي في ذاته.
"قد قلنا فيما سلف أن السعادة تظهر في الأفعال من العدالة والشجاعة والعفة وسائر ما تحت هذه الأنواع التي أحصيناها وحددناها. وهذه الأفعال قد تظهر ممن ليس بسعيد ولا فاضل. وذلك أنه قد يعمل بعض الناس عمل العدول وليس بعادل ويعمل عمل الشجعان وليس بشجاع ويعمل عمل الإعفاء وليس بعفيف..." (ص 333)
"وكذلك حال من عمل عمل العدول وليس بعدل. وذلك أنه إذا عدل في بعض الأمور مراءاة ليصل به إلى كرامة أو مال أو غير ذلك من الشهوات، أو لغرض آخر مما عددناه فيما تقدم، فليس يسمي عادلا، وإنما يعمل عمل العدول للغرض الذي يقصده. وينبغي أن ينسب فعله إلى غرضه، فإنه بحسب هذا يفعل ذلك، كما قلنا وشرحنا. فأما العادل بالحقيقة، فهو الذي يعدل قواه وأفعاله وأحواله كلها حتى لا يزيد بعضها على بعض. ثم يروم ذلك فيما هو خارج عنه من المعاملات والكرامات، ويقصد في جميع ذلك فضيلة العدالة نفسها لا غرضا آخر سواها. وإنما يتم له ذلك إذا كانت له هيئة نفسانية أدبية تصدر عنها أفعاله كلها بحسبها. ولما كانت العدالة وسطا بين أطراف، وهيئة يقتدر بها على رد الزائد والناقص إليها [إليه]، صارت أتم الفضائل وأشبهها بالوحدة. وأعني بذلك أن الوحدة هي التي لها الشرف الأعلى والرتبة القصوى. وكل كثرة لا يضبطها معنى يوحدها فلا قوام لها ولا ثبات. والزيادة والنقصان والكثرة والقلة هي التي تفسد الأشياء إذا لم يكن بينها مناسبة تحفظ عليها الإعتدال بوجه ما. فالإعتدال هو الذي يرد إليها ظل الوحدة ومعناها. وهو الذي يَلبِسها شرف الوحدة ويزيل عنها رذيلة الكثرة والتفاوت والإضطراب الذي لا يحد ولا يضبط بالمساواة التي هي خليفة الوحدة في جميع الكثرات واشتقاق هذا الإسم يدلك على معناه، وذلك أن العدل في الأحمال، والإعتدال في الأثقال، والعدالة في الأفعال، مشتقة من معنى المساواة، والمساواة هي أشرف النسب المذكورة في صناعة الأرتماطيقي، ولذلك لا تنقسم ولا يوجد لها أنواع وإنما هي وحدة في معناها أو ظل للوحدة". (ص 337)
بل يذهب مسكويه أبعد من هذا ليرفع الأفعال الفاضلة إلى مرتبة الأفعال الإلهية:
"وآخر المراتب في الفضيلة أن تكون أفعال الإنسان كلها أفعال الهية، وهذه الأفعال هي خير محض. والفعل إذا كان خيرا محضا فليس يفعله فاعله من أجل شيء آخر غير الفعل نفسه. وذلك أن الخير المحض هو غاية متوخاة لذاتها أي هو الأمر المطلوب المقصود لذاته. والأمر الذي هو غاية متوخاة لذاتها، أي هو الأمر المطلوب المقصود لذاته. والأمر الذي هو غاية في نهاية النفاسة ليس يكون من أجل شيء آخر. فأفعال الإنسان إذا صارت كلها إلاهية، فهي كلها إنما تصدر عن لبه وذاته الحقيقية التي هي عقله الإلهي الذي هو ذاته بالحقيقة. وتزول وتتهدر سائر دواعي طباعه البدني بسائر عوارض النفسين البهيميتين، وعوارض التخيل المتولد عنهما، وعن دواعي نفسه الحسية، فلا يبقى له حينئذ ارادة ولا همة خارجتان عن فعله، من أجلهما يفعل ما يفعل. لكنه يفعل ما يفعله بلا إرادة ولا همة سوى الفعل، أي لا يكون غرضه في فعله غير ذات الفعل، وهذا هو سبيل العقل الإلهي. فهذه الحال هي آخر رتب الفضائل التي يتقبل فيها الإنسان أفعال المبدأ الأول خالق الكل عز وجل. أعني أن يكون فيما يفعله لا يطلب به حظا ولا مجازاة ولا عوضا ولا زيادة، لكن يكون فعله بعينه هو غرضه، أي ليس يفعل من أجل شيء آخر سوى ذات الفعل." (ص 319)
وإذا ترجمنا ما يذهب إليه مسكويه إلى لغة الفلسفة الحديثة، وتحديدا إلى لغة كانط، يمكننا القول أن الفعل الأخلاقي لديه هو الذي يصدر عن "الآمر القطعي" (أو الأمر المطلق) impératif catégorique، أي أن نية الفعل هي التي تدخل ضمن مقولات الأخلاق وليست نتائجه.
ورغم أن مسكويه كان أسيرا للغة الفلسفية لعصره ولتصوراتها العامة، إلا أنه – مثل كانط – أزاح الأخلاق من مجال علم النفس، التي تعد السعادة من مقولاته، والذي يجعل من الأخلاق وسيلة لتحقيق مجموعة من المنافع الحسية أو الاجتماعية، كما يعبر عن ذلك مفهوم السعادة عند أرسطو الذي انطلق منه؛ وألحقها بمجال العقل المحض la raison pure - مثل كانط أيضا – لكن ضمن منظور أن العقل والوحي وجهان لعملة واحدة، ولا بد للمتعاليين أن يتلاقيا.
سادسا: العدالة هي المبدأ الأساس للأخلاق.
يقول مسكويه: "ليست العدالة جزءا من الفضيلة بل هي الفضيلة كلها" (ص 324). و"العدالة"، كما عرفها في النص ما قبل الأخير، تحيل إلى المساواة التي هي "أشرف النسب"؛ ومثلها مثل "الواجب" عند كانط، ليس لديها محتوى معين بل هي صورة قابلة للتعميم. فالعدالة وما يترتب عنها من خصال كالانصاف، والاعتدال، وتجنب الافراط والتفريط... هي المبدأ الذي يجعل الفعل أخلاقيا في ذاته. وهي أيضا الابستيمي épistémè التي تحكم نظرة مسكويه للكون، أتعلق الأمر بالقضايا العلمية من رياضيات وطب، أو بالقضايا الأخلاقية.
وليس من قبيل المصادفة أن ينتقل النص المذكور مباشرة إلى موضوع الرياضيات:
"وذلك أن العدل في الأحمال والإعتدال في الأثقال والعدالة في الأفعال مشتقة من معنى المساواة والمساواة هي أشرف النسب المذكورة في صناعة الموسيقى [الأرتماطيقي] وغيرها . ولذلك لا تنقسم ولا يوجد لها أنواع، وإنما هي وحدة في معناها أو ظل للوحدة. فإذا لم نجد المساواة التي هي المثل بالحقيقة في الكثرة، عدلنا إلى النسب المذكورة التي تنحل إليها وتعود إلى حقيقتها، وذلك أنا حينئذ نضطر إلى ان نقول نسبة هذا إلى هذا، كنسبة هذا إلى هذا. ولذلك لا توجد النسبة إلا بين أربعة أو ثلاثة، يتكرر فيها الوسط فتصير أيضا أربعة. والنسبة الأولى تسمى منفصلة، والثانية تسمى متصلة. ومثال الأولى اب ج د فنقول نسبة (أ) إلى (ب) كنسبة (ج) إلى (د) . ومثال الثانية أن نأخذ الباء مشتركا فنقول نسبة (أ) إلى (ب) كنسبة (ب) إلى (ج) وهذه النسبة توجد بين ثلاثة أشياء. وهي النسبة العددية والنسبة المساحية والنسبة التأليفية. وجميع ذلك مبين مشروح في المختصر الذي عملناه في صناعة الأرتماطيقي[العدد] . وأما سائر النسب فراجعة إليها، ولذلك عظمها الأوائل واستخرجوا بها العلوم الجمة الشريفة. ولما كانت نسبة المساواة عزيزة، لأنها نظيرة الوحدة، عدلنا إلى حفظ هذه النسب الأخر في الأمور الكثيرة التي تلابسها، لأنها عائدة إليها وغير خارجة عنها..." (ص 338-339)
والطب نفسه الذي عرفه مسكويه يقوم على إعادة التوازن بين "الطبائع المتضادة": "والناس مائلون بالطبع الجسداني إلى الشهوات فيكثر اتباعهم وتقل الفضلاء فيهم. وإذا تنبه الواحد بعد الواحد منهم إلى أن هذه اللذات إنما هي لضرورة الجسد، وإن بدنه مركب من الطبائع المتضادة أعني الحرارة والبرودة واليبوسة والرطوبة، وأنه إنما يعالج بالمأكل والمشرب أمراضا تحدث به عند الإنحلال لحفظ تركيبه على حالة واحدة أبدا ما أمكن ذلك فيه. وأن علاج المرض ليس بسعادة تامة، والراحة من الألم ليست بغاية مطلوبة ولا خير محض، وأن السعيد التام هو من لا يعرض له مرض البتة. وعرف مع ذلك أيضا أن الملائكة الأبرار، الذين اصطفاهم الله بقربه، لا تلحقهم هذه الآلام فلا يحتاجون إلى مداواتها بالأكل والشرب". (ص 279 - 278 )
ومقاصد الشريعة نفسها في ضبط المعاملات بين الناس تخضع لسجل العدالة: "والشريعة هي التي ترسم في كل واحد من هذه الأشياء التوسط والإعتدال، لأن الناس هم مدنيون بالطبع، ولا يتم لهم عيش إلا بالتعاون، فيجب أن بعضهم يخدم بعضا، ويأخذ بعضهم من بعض، ويعطي بعضهم بعضا، فهم يطلبون المكافأة المناسبة. فإذا أخذ الإسكاف من النجار عمله وأعطاه عمله فهي المعاوضة إذا كان العملان متساويين، ولكن ليس يمنع مانع أن يكون عمل الواحد خيرا من عمل الآخر، فيكون الدينار هو المقوم والمسوي بينهما. فالدينار هو عدل ومتوسط، إلا انه ساكت؛ والإنسان الناطق هو الذي يستعمله ويقوم به جميع الأمور التي تكون بالمعاملات حتى تجري على إستقامة ونظام ومناسبة صحيحة عادلة. ولذلك يستعان بالحاكم الذي هو عدل ناطق إذا لم يستقم الأمر بين الخصمين بالدينار الذي هو عدل ساكت". (ص 340)
سابعا: الأخلاق تكتمل بالأنس والمحبة.
لقد خص مسكويه قسما من كتابه للعواطف التي يجب أن تجمع الناس بينهم، من "محبة" و"أبوية" و"بنوية" و"أخوة" و"صداقة" و"أنس" و"اتخاذ الدعوات والاجتماع"... لأنه استشعر أن الأخلاق والقوانين والشرائع، مهما كانت فاضلة، لا تكفي لخلق التلاحم في المجتمع. بل يذهب إلى أنه بإمكان المحبة تحقيق العدالة بين الناس:
"وقد ادعى قوم أن نظام الموجودات كلها وصلاح أحوالها معلق بالمحبة وقالوا: إن الإنسان إنما اضطر إلى اقتناء هذه الفضيلة، أعني الهيأة التي تصدر عنها العدالة عند تعاطي المعاملات لملافاته شرف المحبة، ولو كان المتعاملون أحباء لتناصفوا ولم يقع بينهم خلاف، وذلك أن الصديق يحب صديقه ويريد له ما يريد لنفسه، وليس تتم الثقة والتعاضد إلا بين المتحابين، وإذا تعاضدوا وجمعتهم المحبة وصلوا إلى جميع المحبوبات، ولم تتعذر عنهم المطالب ولو كانت وإن كانت صعبة شديدة، وحينئذ ينشئون الآراء الصائبة وتتعاون العقول على استخراج الغوامض من التدابير القويمة، ويتقوون على نيل الخيرات كلها بالتعاضد." (ص 355)
وذهب مسكويه إلى أن المحبة من مقاصد الشريعة:
"وإنما وضع للناس بالشريعة وبالعادة الجميلة إتخاذ الدعوات والإجتماع في المآدب ليحصل لهم هذا الأنس. والشريعة إنما أوجبت على الناس أن يجتمعوا في مساجدهم كل يوم خمس مرات وفضلت صلاة الجماعة على صلاة الآحاد ليحصل لهم هذا الأنس الطبيعي الذي هو فيهم بالقوة حتى يخرج إلى الفعل ثم يتأكد بالإعتقادات الصحيحة التي تجمعهم. وهذا الإجتماع في كل يوم ليس يتعذر على أهل كل محلة وسكة. والدليل على أن غرض صاحب الشريعة ما ذكرناه أنه أوجب على أهل المدينة بأسرهم أن يجتمعوا في كل أسبوع يوما بعينه في مسجد يسعهم ليجتمع أيضا شمل أهل المحال والسكك في كل أسبوع كما اجتمع شمل أهل الدور والمنازل في كل يوم. ثم أوجب أيضا أن يجتمع أهل المدينة مع أهل القرى والرساتيق المتقاربين في كل سنة مرتين في مصلى بارزين مصحرين ليسعهم المكان ويتجدد الأنس بين كافتهم وتشملهم المحبة الناظمة لهم. ثم اوجب بعد ذلك أن يجتمعوا في العمر كله مرة واحدة في الموضع المقدس بمكة ولم يعين من العمر وقت مخصوص ليتسع لهم الزمان وليجتمع أهل المدن المتباعدة كما اجتمع أهل المدينة الواحدة ويصير حالهم في الأنس والمحبة وشمول الخير والسعادة كحال المجتمعين في كل سنة وفي كل اسبوع وفي كل يوم فيجتمعوا بذلك إلى الأنس الطبيعي وإلى الخيرات المشتركة وتتجدد بينهم محبة الشريعة وليكبروا الله على ما هداهم ويغتبطوا بالدين القويم القيم الذي ألفهم على تقوى الله وطاعته". (ص 364-365)
وقال في الصداقة: "وفهم [افهم]من الصديق ههنا أنه آخر هو أنت، سواء كان أخا من نسب أو غريبا أو ولدا أو والدا، ولا يقوم له جميع ما في الأرض مقام صديق يثق به في مُهم يساعده عليه، وسعادة عاجلة أو آجلة تتم له. فطوبى لمن أوتي هذه النعمة العظيمة وهو في خلة السلطان وأعظم طوبى لمن أوتيه من سلطان [وهو خلو من السلطان. وأعظم طوبى لمن أتيه في سلطان]. وذلك أن من باشر أمور الرعية وأراد أن يعرف أحوالهم، وينظر في أمورهم حق النظر، لن يكفيه أذنان ولا عينان ولا قلب واحد، فإن وجد إخوانا ذوي ثقة وجد بهم عيونا وآذانا وقلوبا كأنها بأجمعها له، فقربت عليه أطرافه واطلع من أدنى أمره على أقصاه، ورأى الغائب بصورة الشاهد. فأنى توجد هذه الفضيلة إلا عند الصديق، وكيف يطمع فيها عند غير الرفيق الشفيق." (ص379)
"وأما "محبة الأخيار" بعضهم بعضا فإنها تكون لا للذة خارجة ولا لمنفعة بل للمناسبة الجوهرية بينهما وهي قصد الخير والتماس الفضيلة. فإذا أحب أحدهم للمناسبة الجوهرية بينهما وهي قصد الخير والتماس الفضيلة. فإذا أحب أحدهم الآخر لهذه المناسبة لم تكن بينهم مخالفة ولا منازعة ونصح بعضهم بعضا وتلاقوا بالعدالة والتساوي في إرادة الخير وهذا التساوي في النصيحة وإرادة الخير هو الذي يوحد كثرتهم. ولهذا حد الصديق بأنه آخر هو أنت إلا أنه غيرك بالشخص ولهذا صار عزيز الوجود ولم يوثق بصداقة الأحداث والعوام ومن ليس بحكيم لأن هؤلاء يحبون ويصادقون لأحل اللذة والمنفعة ولا يعرفون الخير بالحقيقة وأغراضهم غير صحيحة، وأما للسلاطين فإنهم يظهرون الصداقة على أنهم متفضلون ومحسنون إلى من يصادقهم فلا يدخلون تحت الحد الذي ذكرناه وفي صداقتهم زيادة ونقصان المساواة عزيزة الوجود عندهم." (ص 368)
ويتبع هذا النص نص في "محبة الوالد" ويليه آخر في "محبة الولد"؛ ثم نص في طبيعة العلاقة العاطفية التي يجب أن تربط الراعي بالرعية:
"ويجب أن تكون نسبة الملك إلى رعيته نسبة أبوية ونسبة رعيته إليه نسبة بنوية، ونسبة الرعية بعضهم إلى بعض نسبة أخوية، حتى تكون السياسات محفوظة على شرائطها الصحيحة. وذلك أن مراعاة الملك لرعيته هي مراعاة الأب لأولاده ومعاملته إياهم تلك المعاملة [...]".( ص 369-370) إلى نهاية النص المذكور أعلاه.
بعد انتهائنا من هذا العرض لأخلاق مسكويه، نعود إلى الحكم الذي أصدره الجابري على هذه الأخلاق، القائل: "والمفارقة الخطيرة التي نريد إبرازها هنا هي أن الجمع الذي قام به كل من العامري ومسكويه، بين الموروث اليوناني والموروث الفارسي، يترتب عنه حتما الجمع بين القيمتين المركزيتين فيهما: السعادة والاستبداد".
وكرد على هذا الاتهام نقول أننا لم نصادف في الكتاب ولو جملة واحدة تبرر الاستبداد، بل وجدنا - كما قلناه سابقا - نظرية في العقد الاجتماعي تؤسس شرعية الحاكم على التزامه بواجباته، وليس على الشرف أو التغلب. وإذا نظرنا إلى "نموذج أردشير، الحاكم المستبد الحارس للدين مظهرا، والحارس لحكمه من الدين (أي الشعب) واقعيا"، من زاوية وظيفة الشريعة عند مسكويه، فإن فرضية الجابري تنهار نهائيا، لأن الشريعة لديه تخضع لمنطق الأخلاق، ومن مقاصدها أن "يحصل الأنس" بين الناس، كما ورد في النص المثبت أعلاه.
وفي خاتمة هذا القسم نود عقد مقارنة موجزة بين مسكويه وابن المقفع، على مستوى المرجعية والمقاصد. وبما أن المرجعية الفكرية في عصرهما كانت إما نقلية وإما عقلية، وبما أن استشهاداتهما من القرآن والحديث قليلة جدا، فهذا يضعهما حتما ضمن المرجعية العقلية. وإن كان موقفهما من الحقيقة مختلف، إذ الحقيقة عند مسكويه لا تخضع لتقلب الأحوال كما عند ابن المقفع الذي يرى أن: "تمام إصابة الرأي والقول بإصابة الموضع" ، وأن "على العاقل أن يجبن عن الرأي الذي لا يجد عليه موافقا وإن ظن أنه على يقين."
وهذا الفرق في النظرة إلى الحقيقة ينعكس على مقاصد الأخلاق لديهما: فقصد مسكويه هو "تطهير الأعراق"، في حين أن قصد ابن المقفع هو تطهير المظاهر وخدمة منطق الدولة. مسكويه يريد تطهيرالباطن ليطهر الظاهر، أما ابن المقفع فيريد تطهير الظاهر ليتميز عن العامة لأغراض انتهازية. أما عندما يقول مسكويه أن كلامه موجه إلى الخاصة، فهذا يعني أن التأسيس النظري الفلسفي للأخلاق ليس في متناول العامة، لكنه لا يميز بين الخاصة والعامة فيما يتعلق بالسلوك الأخلاقي المطلوب.
العز بن عبد السلام و"الأخلاق الإسلامية الخالصة"
وقع اختيارنا على العز بن عبد السلام لأن الجابري جعل منه رائدا لفقه المقاصد وللأخلاق الإسلامية "الخالصة". وخاصة لأنه جعل منه قمة للموروث الثقافي الأخلاقي العربي الإسلامي، من حيث "نقاوة" مرجعيته التي لا يشوبها أي عنصر دخيل، و "نقاوة" الأسس التي أقام عليها أخلاقه، ألا وهي: "العقل"، "المصلحة"، "الاستقلالية عن الدين".
ونبدأ هذا القسم بإثبات ثلاثة نصوص للجابري تلخص نظرته للأخلاق الإسلامية:
"نريد أن نخلص من هذه الإشارة السريعة إلى طبيعة العلاقة بين الفقه والأخلاق إلى النتيجة التالية، وهي أن النص الديني في الحضارة العربية الإسلامية، ولو أنه يغطي من الناحية المبدئية، جميع مظاهر الحياة فإنه ترك مع ذلك للأخلاق مجالها الخاص، الواسع العريض. وهذا الوضع ينتج عنه أن الدين في الإسلام ليس هو أساس الأخلاق. والذين لا يقبلون هذه العادة [كذا]، لكونها تقلق الضمير الديني، يقبلون بدون قلق التصريح بأن الدين في الإسلام ليس وحده أساس الأخلاق، ليس وحده مصدر الحكم الأخلاقي. بل هناك، بالمقابل، إجماع على أن مصدر الحكم الأخلاقي هو العقل. أما مسألة علاقة العقل بالنقل في هذا المجال وكيف يجب أن ترتب فهذا موضوع نقاش واجتهاد؟
والقول بكون العقل هو أساس الأخلاق ينتج عنه بطبيعة الحال استبعاد الجانب النفسي والاجتماعي. ومع أن جميع الذين تناولوا المسائل الأخلاقية في الفكر الإسلامي يعترفون ل "اللذة" بدور ما في السلوك البشري – كما سنبينه في حينه – فإن هناك إجماعا على أن مصدر الرذيلة هو الهوى (هوى النفس، ومنه اللذات والشهوات)، وأن الفضيلة تعتمد تعتمد حكم العقل. أما العرف والعادة فالجميع يعترف بهما كموجهين للسلوك، ولكن الفصل في أخلاقية هذا السلوك (أعني كونه فضيلة أو رذيلة) يرجع أولا وأخيرا ل "العقل". والعقل بهذا الاعتبار لا يتناقض مع الشرع، وإن بدا هناك تناقض ظاهري فإن التأويل يرفعه.
يمكن القول إذن، من الناحية المبدئية على الأقل، إن الأساس الذي يقوم عليه الحكم الأخلاقي في الثقافة العربية الإسلامية "العالمة" هو العقل. هذا من الناحية المبدئية، كما قلنا. ولكن بما أن نظم القيم في الثقافة العربية متعددة ومختلفة، واحيانا متنافسة ومتصارعة، وبما أن العقل في هذه الثقافة تحكمه النظرة المعيارية التي تستمد مقوماتها من نظام القيم الذي تنتمي إليه – وسنرى كل هذا بتفصيل – فمن المنتظر إذن أن تختلف القيمة التي تعطى للعقل من نظام إلى آخر. وفيما يلي عرض موجز ل "وضع" statut الذي يُخص به العقل، بوصفه أساس الآخلاق في كل واحد من الموروثات الخمسة المكونة للثقافة العربية." (ص 103)
وفي موضع آخر يعود الجابري ليؤكد أن العقل هو أساس الأخلاق في الموروث الإسلامي الخالص أيضا، الرأي الذي "يجد ما يؤيده ويؤكده في الأصلين الأولين في الإسلام، وهما القرأن والسنة، دع عنك كون القياس عند غالبية المجتهدين هو نفسه أصل من أصول التشريع في الإسلام. والقياس، كما هو معروف، هو اعتماد العقل في الحكم على ما ليس فيه نص بناء على ما ورد فيه نص." (ص 110)
وفي الفصل الثالث والعشرين: "في الإسلام: المصلحة أساس الأخلاق والسياسة"، يبتدئ الجابري بالقول: "عندما قدمت خطاطة مشروع هذا الكتاب في محاضرة ألقيتها قبل نحو أربع سنوات (عام 1997) لم أكن مستوفيا لجميع المراجع الممكن الحصول عليها: كنت أفتقد إلى أي كتاب من كتب التراث يصح اعتباره بحق ممثلا للموروث الإسلامي "الخالص" في مجال الأخلاق. ومع أنني لم أكن قد درست بعمق وتفصيل المؤلفات التي تحدثت عنها في الفصلين السابقين فإن عملية الاستكشاف التي قمت بها قد ولدت في نفسي قناعة بأن أيا منها لا يمثل تمثيلا حقيقيا ما يمكن وصفه بأنه الأخلاق التي تنسب فعلا إلى الموروث الإسلامي "الخالص"، وإليه وحده، أخذا بعين الاعتبار أن قاعدة هذا الموروث هو القرآن. ذلك لأن مصاحبتي الطويلة للقرآن الكريم، سواء خلال أعمالي السابقة أو خارجها، قد جعلتني اعتبر بكيفية تلقائية أن ما يمكن وصفه بأنه القيمة المركزية في أخلاق القرآن هو "العمل الصالح." (ص 593)
نستخلص من النصوص الثلاثة المثبتة أعلاه عدة أطروحات، بعضها عام، وبعضها يخص الموروث الإسلامي. وليس هناك واحدة من هذه الأطروحات يمكن تمريرها بدون نقاش. وسنرد بالتوالي عليها.
الأطروحات العامة هي:
1- مصدر الحكم الأخلاقي في الموروث العربي الإسلامي هو العقل.
2- "القول بكون العقل هو أساس الأخلاق ينتج عنه بطبيعة الحال استبعاد الجانب النفسي والاجتماعي".
3- احتمال اختلاف القيمة التي تعطى للعقل في نظم القيم السائدة في الموروث العربي الإسلامي.
الأطروحات الخاصة بالموروث الإسلامي هي:
4- أن العقل هو أساس الأخلاق في الموروث الإسلامي الخالص.
5- "أن النص الديني في الحضارة العربية الإسلامية، ولو أنه يغطي من الناحية المبدئية، جميع مظاهر الحياة فإنه ترك مع ذلك للأخلاق مجالها الخاص، الواسع العريض. وهذا الوضع ينتج عنه أن الدين في الإسلام ليس هو أساس الأخلاق".
6- الأخلاق الإسلامية قائمة على المصلحة.
7- التمييز بين موروث إسلامي خالص وموروث إسلامي غير خالص.
الأطروحات العامة
أولا: إن القول بأن مصدر الحكم الأخلاقي في الموروث العربي الإسلامي هو العقل، قد يعني أن ما يميز هذا الموروث عن الموروثات الأخرى هو العقل ! وهذا يعني أن الموروثات الأخرى قد تكون عقلية أو قد لا تكون؛ أو بالأحرى أن بعضها عقلي، وهو عند الجابري الموروث اليوناني، وبعضها غير عقلي، وهو الموروث الغنوصي والصوفي والفارسي. دون أن يفسر لنا الجابري سبب هذا الامتياز. هذا فيما ما يتعلق بالمقارنة الخارجية.
أما إذا طرحنا المسألة على المستوى الداخلي، فإن هذه الأطروحة تعني أن كل الموروث الأخلاقي العربي الإسلامي عقلي، وينتج عن هذه المقدمة العامة أن الأخلاق المبنية على الوحي هي أخلاق عقلية أيضا. وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا تؤكد افتتاحية أول سورة في المصحف على أهمية الإيمان: "الم (1) ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَٰئِكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ( (5" (سورة البقرة).
أما أول آية نزلت وهي: "اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) " (سورة العلق)، فهي تؤكد على أن العلم من عند الله.
و بما أن الغيب والآخرة من الأمور التي يستحيل على الوسائل الاستقرائية للعقل أن تصل فيها إلى معرفة يقينية، فلا يبقى إلا الإيمان كأساس لبناء العقيدة الدينية، بما فيه بعدها الأخلاقي. فالعلم الديني من عند الله. وأهمية الدين لدى المؤمن تكمن في كونه وحي من عند الله وليس لكونه عقلي. وكما قال ترتوليان أومن لأن الأمر غير معقول Credo quia absurdum. ولا ينتقص شيئا من الأخلاق الدينية كونها ليست عقلية. ووضع العقل في الدين – أي دين – محدود بالمسلمات الإيمانية التي تُسيج عمله وتحُدُّه في العَقلنة (أي إيجاد تفسير عقلي للوحي)؛ إذ لا يجوز للعقل الديني أن يعيد النظر في مسلماته، وكل ما هو مسموح له به هو التشييد على أساسها. والقياس في هذا المجال ليس شاهدا على العقل – والحرية التي يستلزمها - بل شاهد على قيوده.
نستنتج من هذا أنه لا يجب إلزام العقل الديني – والأخلاق المرتبطة به – بما لا يلزمه. ولهذا يتوقف كل عقل ديني عندما يبدأ عقل ديني آخر، وهو ما ينعكس على الأخلاق التي قد تختلف من دين لآخر، وهو ما يتنافى مع ما يصبو إليه العقل الخالص من معرفة تقوم على وحدة الحقيقة ووحدة الأخلاق. وقد رد القرآن على هذه المعضلة الدينية/المنطقية في كثير من الآيات، منها:
- "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآَمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ" (سورة يونس الآية: 99)
- "وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ" (سورة هود الآية: 118
- "وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ" (سورة المائدة الآية: 48)
- "قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ" (سورة الأنعام الآية: 149)
- "إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا ۚ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ(91) وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَىٰ مِنْ أُمَّةٍ ۚ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ ۚ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَٰكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ۚ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93)" (سورة النحل)
فالحل مرجأ إلى يوم القيامة.
ثانيا: "القول بكون العقل هو أساس الأخلاق ينتج عنه بطبيعة الحال استبعاد الجانب النفسي والاجتماعي". ونحن نفهم – وقد نكون مخطئين – هذه الأطروحة على أن مفهوم "العقل" الوارد فيها عقل صوري يستبعد البعد الواقعي في الأخلاق. وإذا كان الأمر كذلك – وتنمنى أن لا نكون مخطئين – فكيف نفهم الأخلاق عند ابن خلدون، الذي كان من الممكن أن يورده الجابري كنموذج للأخلاق الواقعية (النفسية/الاجتماعية).
والحاصل هو أن ابن خلدون يسهل لنا الأمور، لكونه يتطرق بالنقد للفكر السياسي السابق له. ونفضل أن نورد نص ابن خلدون، رغم طوله، ليس لأهميته بالنسبة للمسألة التي نحن بصددها فحسب، بل وبالنسبة لموضوع الأخلاق والسياسة في التراث العربي الإسلامي عموما.
"وهذا الفنّ الّذي لاح لنا النّظر فيه، نجد منه مسائل تجري بالعرض لأهل العلوم في براهين علومهم، وهي من جنس مسائله بالموضوع والطّلب، مثل ما يذكره الحكماء والعلماء في إثبات النّبوّة من أنّ البشر متعاونون في وجودهم، فيحتاجون فيه إلى الحاكم والوازع. ومثل ما يذكر في أصول الفقه في باب إثبات اللّغات، أنّ النّاس محتاجون إلى العبارة عن المقاصد بطبيعة التّعاون والاجتماع وتبيان العبارات أخفّ. ومثل ما يذكره الفقهاء في تعليل الأحكام الشّرعيّة بالمقاصد، في أنّ الزّنا مخلط للأنساب مفسد للنّوع، وأنّ القتل أيضا مفسد للنّوع، وأنّ الظّلم مؤذن بخراب العمران المفضي لفساد النّوع، وغير ذلك من سائر المقاصد الشّرعيّة في الأحكام؛ فإنّها كلّها مبنيّة على المحافظة على العمران، فكان لها النّظر فيما يعرض له، وهو ظاهر من كلامنا هذا في هذه المسائل الممثّلة.
وكذلك أيضا يقع إلينا القليل من مسائله في كلمات متفرّقة لحكماء الخليقة، لكنّهم لم يستوفوه. فمن كلام الموبذان بهرام بن بهرام في حكاية البوم الّتي نقلها المسعوديّ. «أيّها الملك إنّ الملك لا يتمّ عزّه إلّا بالشّريعة، والقيام للَّه بطاعته، والتّصرّف تحت أمره ونهيه، ولا قوام للشّريعة إلّا بالملك، ولا عزّ للملك إلّا بالرّجال، ولا قوام للرّجال إلّا بالمال، ولا سبيل للمال إلّا بالعمارة، ولا سبيل للعمارة إلّا بالعدل، والعدل: الميزان المنصوب بين الخليقة، نصبه الرّبّ وجعل له قيّما وهو المُلك» .
ومن كلام أنوشروان في هذا المعنى بعينه: «الملك بالجند، والجند بالمال، والمال بالخراج، والخراج بالعمارة، والعمارة بالعدل، والعدل بإصلاح العمّال، وإصلاح العُمّال باستقامة الوزراء، ورأس الكلّ بافتقاد الملك حال رعيّته بنفسه، واقتداره على تأديبها حتّى يملكها ولا تملكه."
وفي الكتاب المنسوب لأرسطو في السّياسة - المتداول بين النّاس - جزء صالح منه، إلّا أنّه غير مستوف، ولا معطي حقّه من البراهين، ومختلط بغيره. وقد أشار في ذلك الكتاب إلى هذه الكلمات الّتي نقلناها عن الموبذان وأنوشروان، وجعلها في الدّائرة القريبة الّتي أعظم القول فيها هو قوله: «العالم بستان سياجه الدّولة، الدّولة سلطان تحيا به السّنّة، السّنّة سياسة يسوسها الملك، الملك نظام يعضده الجند، الجند أعوان يكفلهم المال، المال رزق تجمعه الرّعيّة، الرّعيّة عبيد يكنفهم العدل، العدل مألوف وبه قوام العالم، العالم بستان...» ثمّ ترجع إلى أوّل الكلام.
فهذه ثمان كلمات حكميّة سياسيّة، ارتبط بعضها ببعض، وارتدّت أعجازها إلى صدورها، واتّصلت في دائرة لا يتعيّن طرفها، فَخَر بعثوره عليها، وعَظّم من فوائدها.
وأنت إذا تأمّلت كلامنا في فصل الدّول والملك وأعطيته حقّه من التّصفّح والتّفهّم، عثرت في أثنائه على تفسير هذه الكلمات وتفصيل إجمالها، مستوفى بيّنا بأوعب بيان وأوضح دليل وبرهان، أطلعنا الله عليه من غير تعليم أرسطو ولا إفادة موبذان.
وكذلك تجد في كلام ابن المقفّع وما يستطرد في رسائله من ذكر السّياسات، الكثير من مسائل كتابنا هذا غير مبرهنة كما برهنّاه، إنّما يجليها في الذّكر على منحى الخطابة في أسلوب الترسّل وبلاغة الكلام.
وكذلك حوّم القاضي أبو بكر الطّرطوشيّ في كتاب "سراج الملوك" وبوّبه على أبواب تقرب من أبواب كتابنا هذا ومسائله، لكنّه لم يصادف فيه الرّمية، ولا أصاب الشّاكلة، ولا استوفى المسائل، ولا أوضح الأدلّة؛ إنّما يبوّب الباب للمسألة، ثمّ يستكثر من الأحاديث والآثار، وينقل كلمات متفرّقة لحكماء الفرس مثل بزرجمهر والموبذان، وحكماء الهند، والمأثور عن دانيال وهرمس وغيرهم من أكابر الخليقة. ولا يكشف عن التّحقيق قناعا، ولا يرفع البراهين الطّبيعيّة حجابا، إنّما هو نقل وتركيب شبيه بالمواعظ، وكأنّه حوّم على الغرض ولم يصادفه، ولا تحقّق قصده، ولا استوفى مسائله.
ونحن ألهمنا الله إلى ذلك إلهاما، وأعثرنا على علم جعلنا سنَّ بِكره [أي أول مُطَّلع على خفاياه التي لم يسبقه إليها أحد] وجُهينة خبره [في المثل: وعند جهينة الخبر اليقين]، فإن كنت قد استوفيت مسائله، وميّزت عن سائر الصّنائع أنظاره وأنحاءه، فتوفيق من الله وهداية؛ وإن فاتني شيء في إحصائه واشتبهت بغيره، فللنّاظر المحقّق إصلاحه، ولي الفضل لأنّي نهجت له السّبيل وأوضحت له الطّريق، والله يهدي بنوره من يشاء.
ونحن الآن نبيّن، في هذا الكتاب، ما يعرض للبشر في اجتماعهم من أحوال العمران، في الملك والكسب والعلوم والصّنائع، بوجوه برهانيّة يتّضح بها التّحقيق في معارف الخاصّة والعامّة، وتندفع بها الأوهام وترفع الشّكوك."
فهذا ابن خلدون ينتقد الأسلوب الخطابي للأفكار السياسية التي سادت في الثقافة العربية الإسلامية، ويقدم بديله المنهجي الذي هو نفسه المنهج الذي استعمله في مجمل علم العمران؛ وهو منهج لا يستبعد "الجانب النفسي والاجتماعي"، بل يعتمد عليهما بوصفهما من "وجوه البرهان" كما يقول في الفقرة الأخيرة. وكل ما قاله عن "البداوة" و"الحضارة" - وغيرها من المواضيع التي تناولها - مبني على اعتبارات بيئية واقتصادية واجتماعية ونفسية، بمنهج استقرائي وليس استنباطي كما هو الشأن في الفكر التأملي.
ثالثا: احتمال اختلاف القيمة التي تعطى للعقل في نظم القيم السائدة في الموروث العربي الإسلامي. وللجواب على السؤال الذي تتضمنه الأطروحة الأخيرة، يعرض الجابري لقيمة العقل في كل نظام على حدة، ويختم الفصل قائلا: "نخلص من جميع ما تقدم إلى أنه لا ألفاظ اللغة العربية ولا المفاهيم التي شيد عليها الفكر العربي باختلاف اتجاهاته وتياراته، لا أحد منهما كان يفتقد إلى ما يصلح أن يكون أساسا للأخلاق بالمعنى النظري الفلسفي الذي نجده في الفكر اليوناني والفكر الأوروبي. بل إن ترجمة كتاب "الأخلاق النيقوماخية" لأرسطو إلى اللغة العربية، وهو المرجع الأول في الأخلاق الفلسفية، ورواج معظم الآراء التي وردت فيه في الكتابات الأخلاقية العربية، إلى جانب آراء أفلاطون، لدليل على أنه لا اللغة ولا مفهوم "العقل" في الثقافة العربية، ولا غياب أي لفظ عن مجالها التداولي ، لا شيء من ذلك يمكن اعتباره عائقا أمام قيام "علم أخلاق" – بالمعنى اليوناني وبالمفهوم الحديث والمعاصر – في هذه الثقافة. الاعتراف ب "العقل" كأساس للأخلاق في الثقافة العربية قائم بما يشبه الإجماع. هذا أكيد. ولكن يبقى مع ذلك هذا السؤال قائما وبحدة: لماذا لم يظهر فيها "علم للأخلاق" مستقل، على الرغم من كثرة "العلوم العقلية" فيها؟ (ص 122)
ما يستوقفنا في هذه الخلاصة هو تساؤل الجابري عن عدم ظهور علم أخلاق مستقل في الثقافة العربية الإسلامية. والجواب هو أن استقلال العلوم بعضها عن البعض خضع لسيرورة تاريخية طويلة؛ و حتى ولو كان هذا صحيحا فإنه لا يمثل مشكلة في حد ذاته، لأن مسألة الأخلاق مطروحة في كل فكر بشكل صريح أو ضمني، ومهما كانت المجالات التي طرحت فيها (ثقافة عالمة، دين، فن، أسطورة، عادات اجتماعية...). ومن الممكن للباحث أن يستخرجها من كل هذه الأشكال، المُوَثقة منها أو المَعيشة في الواقع الأنتروبولوجي. وتركيز الجابري على الثقافة النظرية "الرسمية" - والتي قد تدعي الحديث باسم العقل - جعله يغفل عن منجم غني للأخلاق، ألا وهو الأدب، والبعض مما يُدعى زندقة، وكل ما هو هامشي. ففيه نجد الأخلاق التي تعارض الأخلاق السائدة – أكانت فلسفة أو علم كلام أو فقه - التي تتحاشى التعرض لأخلاق الغالبية الدينية، خاصة إذا كان وراء هذه الأخلاق سيف السلطان . ويكفي هنا التذكير بما هو متداول من شعر المتنبي والذي جعل كثيرا من الباحثين يقربونه من الفلسفة النتشوية؛ أو ابي نواس و بشار...، من ممثلي الإباحية التي تقوم على فلسفة للحياة وللأخلاق قائمة بذاتها؛ زيادة على كثير من الذين صُنفوا ضمن الزنادة من المفكرين الأحرار.
الأطروحات الخاصة بالموروث الإسلامي
رابعا: أن العقل هو أساس الأخلاق في الموروث الإسلامي الخالص. وقد عبرنا عن اعتراضنا المبدئي على هذه الأطروحة في معرض تعليقنا على الأطروحة العامة الأولى. وسنعود إليها في معرض تعليقنا على الأطروحتين الخامسة والسادسة.
خامسا: "أن النص الديني في الحضارة العربية الإسلامية، ولو أنه يغطي من الناحية المبدئية، جميع مظاهر الحياة فإنه ترك مع ذلك للأخلاق مجالها الخاص، الواسع العريض. وهذا الوضع ينتج عنه أن الدين في الإسلام ليس هو أساس الأخلاق". وأول معضلة يطرحها منطوق هذه الأطروحة هي: إذا كان الإسلام ليس هو أساس الأخلاق، فبأي معنى يمكن الحديث عن أخلاق إسلامية؟ وما الذي يبرر بحث الجابري عن اخلاق إسلامية خالصة؟
سادسا: أن "الأخلاق الإسلامية قائمة على المصلحة". وستناول هذه الأطروحة، مع الأطروحة السابقة لها رغم المعضلة التي تطرحها، في معرض تعليقنا على كتاب العز بن عبد السلام: "قواعد الأحكام في مصالح الأنام"، الذي يعده الجابري نموذجا للموروث الإسلامي الخالص.
يقول الجابري عن العز بن عبد السلام: "المهم أنني اكتشفت أن عالما واحدا على الأقل كان سد الفراغ الذي اشتكيت منه." وأنه "أكثر من أدرك، من علماء الإسلام، منزلة "العمل الصالح" أو "المصالح"، بتعبير الفقهاء، في نظام القيم الذي أقره القرآن. ومن قراءة كتابيه المشار إليهما ، واللذين سيكونان مدار هذا الفصل، يتبين للقارئ بسهولة أنه كان واعيا تمام الوعي بأن المحاولات التي قام بها من سبقوه بهدف تأسيس أخلاق إسلامية قد ضلت كلها السبيل. ولذلك فهو لا يعيرها أي اهتمام، بل ينصرف بتواضع لا مثيل له إلى تقديم البديل الإسلامي الحقيقي، كما سنرى." (ص 595)
ويزيد الجابري منوها بكتاب "قواعد الأحكام في مصالح الأنام" قائلا: "الكتاب كتاب في "الأخلاق" كما يقررها القرأن والحديث. والمنطلق بل الأساس الذي تقوم عليها هذه الأخلاق هو "المصلحة"، وبالتالي فالأمر يتعلق ب "أخلاق المصلحة" كما يفهمها فقه المصالح والمقاصد. وإذا تذكرنا أن للمؤلف كتابا بعنوان "مقاصد الصلاة"، وآخر بعنوان "مقاصد الصوم"، وأن كتابه "شجرة المعارف والأحوال وصالح الأقوال والأعمال" هو أيضا كتاب في الأخلاق مبني على المصالح كما سنرى، أدركنا أن العز بن عبد السلام هو أحد أقطاب مدرسة المقاصد في الفكر الإسلامي، إن لم يكن المؤسس الفعلي لها، فقد عاش قبل الشاطبي بنحو قرن وثلث القرن من الزمان (توفي العز سنة 660 ه وتوفي الشاطبي 790 ه). ومهما يكن وحتى لو افترضنا استقلالية الشاطبي وانتماءه إلى خط ابن حزم-ابن رشد، كما بينا ذلك في مكان آخر، واختلاف ميدان عمله (أصول الفقه) عن ميدان العز بن عبد السلام (الأخلاق)، فلا بد من الاعتراف لهذا الرجل، الذي لم ينل من الشهرة والتقدير ما يستحقه، بتفرده وتميزه وريادته في مجال الكتابة في "الأخلاق الإسلامية"، التي كان أول من شيدها على القيمة المركزية في الموروث الإسلامي "الخالص": العمل الصالح، أو المصلحة بكيفية عامة." (ص 599)
وقد عدنا بدورنا إلى الكتاب المشار إليه، فماذا وجدنا فيه؟ إذ كان من المنتظر أن نجد فيه – حسب ما بشر به الجابري - "عقلا"؛ وأن نجد فيه أن الدين ترك "للأخلاق مجالها الخاص، الواسع العريض"؛ والأهم ان نجد فيه أخلاق "مصلحة"؛ وأكثر من هذا أن نجده خلوا من "أخلاق الطاعة."
والحاصل أنه لم نجد شيئا من كل هذا ! ويكفي للبرهنة على ذلك هذه النصوص التي سنثبتهما كنموذج لمنظور العز بن عبد السلام للأخلاق. ونفضل أن نثبت النصوص بالطول الكفيل بإظهار إشكاليتها وسياقها ومحتواها الكامل، وألا نكتفي باقتباسات قصيرة يمكن ان نقولها ما نريد كما يفعل الجابري.
أولى هذه النصوص تضع الإطار النظري:
"أَمَّا مَصَالِحُ الدَّارَيْنِ وَأَسْبَابُهَا وَمَفَاسِدُهَا فَلَا تُعْرَفُ إلَّا بِالشَّرْعِ، فَإِنْ خَفِيَ مِنْهَا شَيْءٌ طُلِبَ مِنْ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ وَهِيَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ الْمُعْتَبَرُ وَالِاسْتِدْلَالُ الصَّحِيحُ. وَأَمَّا مَصَالِحُ الدُّنْيَا وَأَسْبَابُهَا وَمَفَاسِدُهَا فَمَعْرُوفَةٌ بِالضَّرُورَاتِ وَالتَّجَارِبِ وَالْعَادَاتِ وَالظُّنُونِ الْمُعْتَبَرَاتِ، فَإِنْ خَفِيَ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ طُلِبَ مِنْ أَدِلَّتِهِ، وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْرِفَ الْمُتَنَاسِبَاتِ وَالْمَصَالِحَ وَالْمَفَاسِدَ رَاجِحَهُمَا وَمَرْجُوحَهُمَا فَلْيَعْرِضْ ذَلِكَ عَلَى عَقْلِهِ بِتَقْدِيرِ أَنَّ الشَّرْعَ لَمْ يَرِدْ بِهِ ثُمَّ يَبْنِي عَلَيْهِ الْأَحْكَامَ فَلَا يَكَادُ حُكْمٌ مِنْهَا يَخْرُجُ عَنْ ذَلِكَ إلَّا مَا تَعَبَّدَ اللَّهَ بِهِ عِبَادَهُ وَلَمْ يَقِفْهُمْ عَلَى مَصْلَحَتِهِ أَوْ مَفْسَدَتِهِ، وَبِذَلِكَ تُعْرَفُ حُسْنُ الْأَعْمَالِ وَقُبْحُهَا، مَعَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ جَلْبُ مَصَالِحِ الْحَسَنِ، وَلَا دَرْءُ مَفَاسِدِ الْقَبِيحِ، كَمَا لَا يَجِبُ عَلَيْهِ خَلْقٌ وَلَا رِزْقٌ وَلَا تَكْلِيفٌ وَلَا إثَابَةٌ وَلَا عُقُوبَةٌ، وَإِنَّمَا يَجْلِبُ مَصَالِحَ الْحَسَنِ وَيَدْرَأُ مَفَاسِدَ الْقَبِيحِ طُولًا مِنْهُ عَلَى عِبَادِهِ وَتَفَضُّلًا، وَلَوْ عُكِسَ الْأَمْرُ لَمْ يَكُنْ قَبِيحًا إذْ لَا حَجْرَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ.(ص 10)
"التَّكَالِيفُ كُلُّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْأَسْبَابِ الْمُعْتَادَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَكُونَ الْأَسْبَابُ جَالِبَةً لِلْمَصَالِحِ بِأَنْفُسِهَا وَلَا دَارِئَةً لِلْمَفَاسِدِ بِأَنْفُسِهَا، بَلْ الْأَسْبَابُ فِي الْحَقِيقَةِ مَوَاقِيتُ لِلْأَحْكَامِ وَلِمَصَالِحِ الْأَحْكَامِ، وَاَللَّهُ هُوَ الْجَالِبُ لِلْمَصَالِحِ الدَّارِئُ لِلْمَفَاسِدِ، وَلَكِنَّهُ أَجْرَى عَادَتَهُ وَطَرَدَ سُنَّتَهُ بِتَرْتِيبِ بَعْضِ مَخْلُوقَاتِهِ عَلَى بَعْضٍ، لِتَعْرِيفِ الْعِبَادِ عِنْدَ وُجُودِ الْأَسْبَابِ مَا رُتِّبَ عَلَيْهَا مِنْ خَيْرٍ فَيَطْلُبُوهُ عِنْدَ وُقُوعِهَا وَوُجُودِهَا، وَمَا رُتِّبَ عَلَيْهَا مِنْ شَرٍّ فَيَجْتَنِبُوهُ عِنْدَ قِيَامِهَا وَتَحَقُّقِهَا وَهَذَا هُوَ الْغَالِبُ فِي الْعَادَةِ، وَكَثِيرٌ مَنْ يَنْفَكُّ عَنْ ذَلِكَ، فَكَمْ مِنْ مُرَغَّبٍ لَمْ يَرْغَبْ، وَكَمْ مِنْ مُرَهَّبٍ لَمْ يُرْهَبْ، وَكَمْ مِنْ مَزْجُورٍ لَمْ يَزْدَجِرْ، وَكَمْ مِنْ مُذَكَّرٍ لَمْ يَتَذَكَّرْ، وَكَمْ مِنْ مَأْمُورٍ بِالصَّبْرِ لَمْ يَصْطَبِرْ، وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَقَطَعَ كُلَّ مُسَبَّبٍ عَنْ سَبَبِهِ، وَخَلَقَ الْمُسَبَّبَاتِ كُلَّهَا مُجَرَّدَةً عَنْ الْأَسْبَابِ، وَكَذَلِكَ لَوْ شَاءَ لَخَلَقَ الْأَسْبَابَ كُلَّهَا مُجَرَّدَةً عَنْ الْمُسَبَّبَاتِ، لَكِنَّهُ قَرَنَ الْأَسْبَابَ بِالْمُسَبَّبَاتِ فِي مُطَّرِدِ الْعَادَاتِ، لِيُضِلَّ بِذَلِكَ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ". (ص 17-18)
وربما أن القارئ قد لاحظ أن مفهوم السببية الموظف في هذين النصين هو نفسه مفهوم الغزالي، وهو ما تجنب الجابري الإشارة إليه. وعندما نعرف الحكم السلبي للجابري على الغزالي، فإنه لا يسعنا إلا أن نقول أنه يكيل بمكيالين.
"الْمَشْرُوعَاتُ ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا مَا ظَهَرَ لَنَا أَنَّهُ جَالِبٌ لِمَصْلَحَةٍ أَوْ دَارِئٌ لِمَفْسَدَةٍ، أَوْ جَالِبٌ دَارِئٌ لِمَفْسَدَةٍ، أَوْ جَالِبٌ دَارِئٌ لِمَصْلَحَةٍ، وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِأَنَّهُ مَعْقُولُ الْمَعْنَى. الضَّرْبُ الثَّانِي: مَا لَمْ يَظْهَرْ لَنَا جَلْبُهُ لِمَصْلَحَةٍ أَوْ دَرْؤُهُ لِمَفْسَدَةٍ، وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِالتَّعَبُّدِ. وَفِي التَّعَبُّدِ مِنْ الطَّوَاعِيَةِ وَالْإِذْعَانِ مِمَّا لَمْ تُعْرَفْ حِكْمَتُهُ وَلَا تُعْرَفُ عِلَّتُهُ مَا لَيْسَ مِمَّا ظَهَرَتْ عِلَّتُهُ وَفُهِمَتْ حِكْمَتُهُ، فَإِنَّ مُلَابِسَهُ قَدْ يَفْعَلُهُ لِأَجْلِ تَحْصِيلِ حِكْمَتِهِ وَفَائِدَتِهِ، وَالْمُتَعَبِّدُ لَا يَفْعَلُ مَا تَعَبَّدَ بِهِ إلَّا إجْلَالًا لِلرَّبِّ وَانْقِيَادًا إلَى طَاعَتِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَتَجَرَّدَ التَّعَبُّدَاتُ عَنْ جَلْبِ الْمَصَالِحِ وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ، ثُمَّ يَقَعَ الثَّوَابُ عَلَيْهَا بِنَاءً عَلَى الطَّاعَةِ وَالْإِذْعَانِ، مِنْ غَيْرِ جَلْبِ مَصْلَحَةٍ غَيْرِ مَصْلَحَةِ الثَّوَابِ، وَدَرْءِ مَفْسَدَةٍ غَيْرُ مَفْسَدَةِ الْعِصْيَانِ، فَيَحْصُلُ مِنْ هَذَا أَنَّ الثَّوَابَ قَدْ يَكُونُ عَلَى مُجَرَّدِ الطَّوَاعِيَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تُحَصِّلَ تِلْكَ الطَّوَاعِيَةُ جَلْبَ مَصْلَحَةٍ أَوْ دَرْءَ مَفْسَدَةٍ، سِوَى مَصْلَحَةِ أَجْرِ الطَّوَاعِيَةِ".. (ص 22)
أما النصوص التالية فتعطينا تطبيقا لهذا الإطار النظري:
"الْمَصَالِحُ وَالْمَفَاسِدُ فِي رُتَبٍ مُتَفَاوِتَةٍ، وَعَلَى رُتَبِ الْمَصَالِحِ تَتَرَتَّبُ الْفَضَائِلُ فِي الدُّنْيَا، وَالْأُجُورُ فِي الْعُقْبَى، وَعَلَى رُتَبِ الْمَفَاسِدِ تَتَرَتَّبُ الصَّغَائِرُ وَالْكَبَائِرُ وَعُقُوبَاتُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَقَدْ تَسْتَوِي مَصْلَحَةُ الْفِعْلَيْنِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَيُوجِبُ الرَّبُّ تَحْصِيلَ إحْدَى الْمَصْلَحَتَيْنِ نَظَرًا لِمَنْ أَوْجَبَهَا لَهُ أَوْ عَلَيْهِ، وَيَجْعَلُ أَجْرَهَا أَتَمَّ مِنْ أَجْرِ الَّتِي لَمْ يُوجِبْهَا. فَإِنَّ دِرْهَمَ النَّفْلِ مُسَاوٍ لِدِرْهَمِ الزَّكَاةِ لَكِنَّهُ أَوْجَبَهُ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُوجِبْهُ لَتَقَاعَدَ الْأَغْنِيَاءُ عَنْ بِرِّ الْفُقَرَاءِ فَيَهْلِكُ الْفُقَرَاءُ، وَجَعَلَ الْأَجْرَ عَلَيْهِ أَكْثَرَ مِنْ الْأَجْرِ عَلَى غَيْرِهِ، تَرْغِيبًا فِي الْتِزَامِهِ وَالْقِيَامِ بِهِ، فَإِنَّهُ قَدْ يُؤْجَرُ عَلَى أَحَدِ الْعَمَلَيْنِ الْمُتَمَاثِلَيْنِ مَا لَا يُؤْجَرُ عَلَى نَظِيرِهِ، مَعَ أَنَّهُ لَا تَفَاوُتَ بَيْنَهُمَا إلَّا بِتَحَمُّلِ مَشَقَّةِ الْإِيجَابِ وَوُجُوبِ الْعِقَابِ عَلَى التَّرْكِ وَلِذَلِكَ أَمْثِلَةٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ حَجَّ الْفَرْضِ وَعُمْرَتَهُ مُتَسَاوِيَانِ بِحَجِّ النَّفْلِ وَعُمْرَتِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. الثَّانِي: أَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ مُسَاوٍ لِصَوْمِ شَعْبَانَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، مَعَ أَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ أَفْضَلُ مِنْ صَوْمِ شَعْبَانَ، بَلْ لَوْ وَقَعَ صَوْمُ رَمَضَانَ فِي أَقْصَرِ الْأَيَّامِ وَصَوْمُ غَيْرِهِ فِي أَطْوَلِهَا لَكَانَ صَوْمُ رَمَضَانَ أَفْضَلَ مَعَ خِفَّتِهِ وَقِصَرِهِ مِنْ صَوْمِ سَائِرِ الْأَيَّامِ مَعَ ثِقَلِهَا وَطُولِهَا. الْمِثَالُ الثَّالِثُ: أَنَّ الذِّكْرَ الْوَاجِبَ وَالْمَنْدُوبَ مُتَسَاوِيَانِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَإِنَّ تَكْبِيرَةَ الْإِحْرَامِ مُمَاثِلَةٌ لِسَائِرِ التَّكْبِيرَاتِ وَهِيَ أَفْضَلُ مِنْهَا بِلَا خِلَافٍ، وَكَذَلِكَ قِرَاءَةُ حَمْدَلَةِ الْفَاتِحَةِ فِي الصَّلَاةِ مُسَاوِيَةٌ لِقِرَاءَتِهَا فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ مَعَ أَنَّهَا أَفْضَلُ مِنْهَا إذَا قُرِئَتْ خَارِجَ الصَّلَاةِ وَكَذَلِكَ الْأَذْكَارُ الَّتِي فِي الْقُرْآنِ إذَا قُصِدَ بِهَا الْقِرَاءَةُ شُرِطَتْ فِيهَا الطَّهَارَةُ عَنْ الْجَنَابَةِ، وَلَوْ قُصِدَ بِهَا الذِّكْرُ كَالْبَسْمَلَةِ عَلَى الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، وَالْحَمْدَلَةِ عِنْدَ الْفَرَاغِ مِنْهَا، وَالتَّسْبِيحَاتِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْقُرْآنِ، لَمْ يُشْتَرَطْ فِيهَا الطَّهَارَةُ عَنْ الْجَنَابَةِ، مَعَ تَسَاوِي هَذِهِ الْأَذْكَارِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ. وَكَذَلِكَ مَا فَرَضَهُ اللَّهُ فِي الزَّكَاةِ قَدْ تُسَاوِي مَصْلَحَتُهُ مَصْلَحَةَ نَظِيرِهِ مِنْ الصَّدَقَاتِ فِي سَدِّ الْخَلَّاتِ وَدَفْعِ الْحَاجَاتِ وَلَهُ أَمْثِلَةٌ: أَحَدُهَا إخْرَاجُ دِرْهَمَيْنِ مُتَسَاوِيَيْنِ أَحَدُهُمَا زَكَاةٌ وَالْآخَرُ صَدَقَةٌ.الثَّانِي: شَاتَانِ مُتَسَاوِيَتَانِ تَصَدَّقَ بِأَحَدِهِمَا وَزَكَّى بِالْأُخْرَى، الثَّالِثُ إخْرَاجُ الْعُشْرِ فِي الزَّكَاةِ مَعَ عُشْرٍ آخَرَ مِنْ ذَلِكَ الْجِنْسِ، فَالزَّكَاةُ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ أَفْضَلُ مِنْ الصَّدَقَةِ مَعَ الْقَطْعِ بِالِاسْتِوَاءِ فِي دَفْعِ الْحَاجَاتِ وَسَدِّ الْخَلَّاتِ، وَقَدْ يَكُونُ النَّفَلُ مِنْ الصَّدَقَاتِ أَكْمَلَ مَصْلَحَةً مِنْ الْفَرْضِ فِي الزَّكَاةِ وَتَكُونُ الزَّكَاةُ أَفْضَلَ. وَلَهُ أَمْثِلَةٌ. أَحَدُهَا: أَنْ يَتَصَدَّقَ بِشَاةٍ نَفِيسَةٍ أَوْ بِغَيْرِ نَفِيسٍ أَوْ حِنْطَةٍ جَيِّدَةٍ وَيُزْكِي بِشَاةٍ خَسِيسَةٍ أَوْ بَعِيرٍ رَذْلٍ أَوْ بِحِنْطَةٍ رَدِيَّةٍ.الثَّانِي: أَنْ يُخْرِجَ بِنْتَ مَخَاضٍ فِي الزَّكَاةِ وَيَتَصَدَّقَ بِحِقَّةِ أَوْ جَذَعَةٍ.الثَّالِثُ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِفِضَّةٍ لَيِّنَةٍ حَسَنَةٍ وَيُزْكِيَ بِفِضَّةٍ خَشِنَةٍ رَدِيَّةٍ مِنْ جِنْسِ النِّصَابِ، فَإِنَّ الْجَيِّدَ مِنْ جِنْسِ هَذِهِ الْأَجْنَاسِ أَكْمَلُ مَصْلَحَةً وَأَتَمُّ فَائِدَةً فِي بَابِ الصَّدَقَاتِ، مَعَ الْقَطْعِ بِأَنَّ أَجْرَهُ دُونَ أَجْرِ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الزَّكَاةِ، وَمَدَارُ ذَلِكَ كُلِّهِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنَّهُ قَالَ: «وَلَنْ يَتَقَرَّبَ إلَيَّ عَبْدٌ بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ» ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الْحَدِيثَ مَعْمُولٌ بِهِ إذَا سَاوَى الْفَرْضُ النَّفَلَ كَمَا ذَكَرْنَاهُ فِي دِرْهَمِ الصَّدَقَةِ وَدِرْهَمِ الزَّكَاةِ، وَفِي حَجِّ الْفَرْضِ وَحَجِّ النَّفْلِ وَفِي صَوْمِ الْفَرْضِ وَصَوْمِ النَّفْلِ، فَإِنَّهُمَا مُتَسَاوِيَانِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، أَمَّا إذَا تَفَاوَتَا بِالْقِلَّةِ وَالْكَثْرَةِ مِثْلَ أَنْ يُزَكِّيَ بِخَمْسَةِ دَرَاهِمَ وَيَتَصَدَّقَ بِعَشْرَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ، وَزَكَّى بِشَاةٍ وَتَصَدَّقَ بِعَشْرَةِ آلَافِ شَاةٍ، فَيُحْتَمَلُ فِي مِثْلِ هَذَا أَنْ يَكُونَ الْفَرْضُ أَفْضَلَ مِنْ النَّفْلِ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ إلَى تَفَاوُتِ الْمَصْلَحَتَيْنِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُخَصَّ الْحَدِيثُ بِالْعَمَلَيْنِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ فِي الْمَصْلَحَةِ كَدِرْهَمِ الزَّكَاةِ مَعَ دِرْهَمِ الصَّدَقَةِ، وَشَاةِ الزَّكَاةِ مَعَ شَاةِ الصَّدَقَةِ، وَلَكِنَّ فِيهِ مُخَالَفَةً لِظَاهِرِ الْحَدِيثِ، وَلَيْسَ بِبَعِيدٍ مِنْ تَفَضُّلِ الرَّبِّ أَنْ يُؤْجَرَ عَلَى أَقَلِّ الْعَمَلَيْنِ الْمُتَجَانِسَيْنِ، أَكْبَرَ مِمَّا يُؤْجَرُ عَلَى أَكْثَرِهِمَا، كَمَا فَضُلَ أَجْرُ هَذِهِ الْأُمَّةِ مَعَ قِلَّةِ عَمَلِهَا عَلَى أَجْرِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مَعَ كَثْرَةِ عَمَلِهِمْ، وَكَمَا فَضُلَ أَجْرُ الْفَرَائِضِ عَلَى مُسَاوِيهَا مِنْ النَّوَافِلِ طُولًا عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَكَمَا أَنَّ قِيَامَ لَيْلَةِ الْقَدْرِ مُوجِبٌ لِغُفْرَانِ الذُّنُوبِ مَعَ مُسَاوَاتِهِ لِقِيَامِ كُلِّ لَيْلَةٍ مِنْ لَيَالِيِ رَمَضَانَ. وَكَذَلِكَ الْعَمَلُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ الْعَمَلِ فِي أَلْفِ شَهْرٍ مَعَ التَّسَاوِي.(ص 29-31)
"فإنْ قِيلَ هَلْ يُحَرِّمُ الرَّبُّ مَا لَا مَفْسَدَةَ فِيهِ؟ قُلْنَا: نَعَمْ، قَدْ يُحَرِّمُ الرَّبُّ مَا لَا مَفْسَدَةَ فِيهِ عُقُوبَةً لِمُخَالَفَتِهِ وَحِرْمَانًا لَهُمْ أَوْ تَعَبُّدًا. أَمَّا تَحْرِيمُ الْحُرُمَاتِ، فَكَمَا حَرَّمَ عَلَى الْيَهُودِ كُلَّ ذِي ظُفْرٍ، وَكَمَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ الثُّرُوبَ مِنْ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ، عُقُوبَةً لَهُمْ لَا لِمَفْسَدَةٍ فِي ذَلِكَ، وَلَوْ كَانَ فِيهِ مَفْسَدَةٌ لَمَا أَحَلَّ ذَلِكَ لَنَا مَعَ أَنَّا أَكْرَمُ عَلَيْهِ مِنْهُمْ. وَقَدْ نَصَّ عَلَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ} [الأنعام: 146] ، وَبِقَوْلِهِ: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160]. وَأَمَّا تَحْرِيمُ التَّعَبُّدِ فَكَتَحْرِيمِ الصَّيْدِ فِي الْإِحْرَامِ، وَالدَّهْنِ وَالطِّيبِ وَاللِّبَاسِ، فَإِنَّهَا لَمْ تُحَرَّمْ لِصِفَةٍ قَائِمَةٍ بِهَا تَقْتَضِي تَحْرِيمَهَا، بَلْ لِأَمْرٍ خَارِجٍ عَنْ أَوْصَافِهَا، وَصَارَ ذَلِكَ بِمَثَابَةِ أَكْلِ مَالِ الْغَيْرِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُحَرَّمْ لِصِفَةٍ قَائِمَةٍ بِهِ، وَإِنَّمَا حَرُمَ لِأَمْرٍ خَارِجٍ."(ص 42)
"كَذَلِكَ إذَا عَظُمَتْ الْمَفْسَدَةُ، حَرَّمَهَا فِي كُلِّ شَرِيعَةٍ، وَإِنْ تَفَاوَتَتْ رُتَبُ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ فَقَدْ يُقَدِّمُ الشَّرْعُ بَعْضَ الْمَصَالِحِ فِي بَعْضِ الشَّرَائِعِ عَلَى غَيْرِهَا، وَيُخَالِفُ ذَلِكَ فِي بَعْضِ الشَّرَائِعِ. وكَذَلِكَ الْمَفَاسِدُ، فَالْقِصَاصُ فِي شَرِيعَةِ مُوسَى وَاجِبٌ حَقًّا لِلَّهِ كَمَا فِي حَدِّ السَّرِقَةِ وَالزِّنَا، وَهُوَ عِنْدَنَا حَقٌّ لِلْعَبْدِ مُقْتَرِنٌ بِحَقِّ الرَّبِّ، وَرُجِّحَ فِيهِ حَقُّ الْعَبْدِ عَلَى حَقِّ الرَّبِّ فِي شَرْعِنَا نَظَرًا لِلْجَانِي وَلِوَلِيِّ الدَّمِ. وكذلك حَرُمَ فِي النِّكَاحِ الزِّيَادَةُ عَلَى امْرَأَةٍ وَاحِدَةٍ فِي شَرْعِ عِيسَى نَظَرًا لِلنِّسَاءِ وَكِيلَا يَتَضَرَّرْنَ بِكَثْرَةِ الضَّرَائِرِ وَالْإِمَاءِ، وَأَجَازَهُ مِنْ غَيْرِ حَصْرٍ فِي شَرِيعَةِ مُوسَى لِمَنْ قَدَرَ عَلَى الْقِيَامِ بِالْوَطْءِ وَمُؤَنِ النِّكَاحِ، وَأَجَازَ فِي شَرْعِنَا الزِّيَادَةَ عَلَى وَاحِدَةٍ نَظَرًا لِلرِّجَالِ وَحَرَّمَ الزِّيَادَةَ عَلَى الْأَرْبَعِ نَظَرًا لِلنِّسَاءِ وَرَحْمَةً بِهِنَّ، وَوَطْءُ الْإِمَاءِ مِنْ غَيْرِ حَصْرٍ نَظَرًا لِلرِّجَالِ."(ص44)
بعد عرضنا لهذه النصوص، نعود لما كان من المفترض أن نجد فيها.
أولا: العقل. وسنستعمل هنا تعبيرا جابريا ونقول إن هذه النصوص تعطينا نموذجا ل "العقل المُستَقيل". فهو عقل مستقيل لأنه عقل "تخريجي" كما يقول طرابيشي، أي أنه عقل تابع للوحي كل دوره هو عَقلنة ما أقره الشرع. وحتى عندما يتفق له أن يطابق ما قد يراه العقل الكوني، فإن ذلك ليس إلا أمرا عرضيا، لأن الأصل هو ما أقرته الشريعة.
ثانيا: استقلالية الأخلاق عن الدين. وهي إشكالية هامشية تماما في اهتمام العز بن عبد السلام (حتى لا نقول أنها غير موجودة)، لكون ما لم يرد فيه نص يمكن إلحاقه بالشريعة عن طريق القياس ومقولات الحلال والحرام. فالعقل الديني عقل ثنائي يميز بين ما هو داخله (المؤمن، الحلال...) وما هو خارجه (الكافر، الحرام..).
ثالثا: المصلحة. وهي المصلحة من وجهة النظر الدينية أساسا، وليست المصلحة كما عبر عنها العقل الكوني. ورب معترض يلاحظ أن المؤلف يتحدث أيضا عن المصلحة بمعناها المتداول (أي ما ينفع الناس بدون أية مرجعية دينية)، وهذا صحيح؛ وردنا هو أن هناك حدا أدنى مشتركا بين كل الأخلاق، مهما كانت مرجعيتها، كالبر بالوالدين ومساعدة الفقير والصدق...، ولولا ذلك لسقط الكتاب في اللامعقول الشامل.
رابعا: علاقتها بأخلاق الطاعة. لم يتطرق الكتاب للسياسة إلا من حيث هي وسيلة لتطبيق الشريعة، والنصين التاليين يبينان إشكالية هذه العلاقة:
يقول النص الأول: "إنْ قِيلَ: هَلْ يَتَسَاوَى أَجْرُ الْحَاكِمِ وَالْمُفْتِي الْقَائِمَيْنِ بِوَظَائِفِ الْحُكْمِ وَالْفُتْيَا أَمْ لَا؟ فَالْجَوَابُ إنَّ أَجْرَ الْحَاكِمِ أَعْظَمُ لِأَنَّهُ يُفْتِي وَيُلْزِمُ فَلَهُ أَجْرَانِ: أَحَدُهُمَا: عَلَى فُتْيَاهُ وَالْآخَرُ عَلَى إلْزَامِهِ، هَذَا إذَا اسْتَوَتْ الْوَاقِعَةُ الَّتِي فِيهَا الْفُتْيَا وَالْحُكْمِ، وَتَخْتَلِفُ أُجُورُهُمَا بِاخْتِلَافِ مَا يَجْلِبَانِهِ مِنْ الْمَصَالِحِ وَيَدْرَآنِهِ، مِنْ الْمَفَاسِدِ، وَتَصَدِّي الْحَاكِمِ لِلْحُكْمِ أَفْضَلُ مِنْ تَصَدِّي الْمُفْتِي لِلْفُتْيَا، وَأَجْرُ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ أَفْضَلُ مِنْ أَجْرِ الْمُفْتِي وَالْحَاكِمِ، لِأَنَّ مَا يَجْلِبُهُ مِنْ الْمَصَالِحِ وَيَدْرَأُهُ مِنْ الْمَفَاسِدِ أَتَمُّ وَأَعَمُّ؛ وَكَذَلِكَ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إلَّا ظِلُّهُ، إمَامٌ عَادِلٌ» ، فَبَدَأَ بِهِ لِعُلُوِّ مَرْتَبَتِهِ."(ص 142)
من هذا النص يتبين لنا، بصريح العبارة، أن أفضل نظام في نظر العز بن عبد السلام هو الذي "تستوي فيه الواقعة التي فيها الفتيا والحكم". وهذا هو النموذج الأسمى "لأخلاق الطاعة"، أي " وحدة الدين والدولة وطاعة الله والخليفة"، حسب تعريف الجابري نفسه. هل نحتاج ان نقول أن النظام الشمولي هو وحده الذي يحتكر فيه الزعيم "الفتيا" والحكم، مثل هتلر وستالين وماو تسي تونغ...؟
و النص الثاني يتناول شرط العدالة في الإمام: "وأَمَّا الْإِمَامَةُ الْعُظْمَى فَفِي اشْتِرَاطِ الْعَدَالَةِ فِيهَا اختِلَافٌ لِغَلَبَةِ الْفُسُوقِ عَلَى الْوُلَاةِ، وَلَوْ شَرَطْنَاهَا لَتَعَطَّلَتْ التَّصَرُّفَاتُ الْمُوَافِقَةُ لِلْحَقِّ فِي تَوْلِيَةِ مَنْ يُوَلُّونَهُ مِنْ الْقُضَاةِ وَالْوُلَاةِ وَالسُّعَاةِ وَأُمَرَاءِ الْغَزَوَاتِ، وَأَخْذِ مَا يَأْخُذُونَهُ وَبَذْلِ مَا يُعْطُونَهُ. وَقَبْضِ الصَّدَقَاتِ وَالْأَمْوَالِ الْعَامَّةِ وَالْخَاصَّةِ الْمُنْدَرِجَةِ تَحْتَ وِلَايَتِهِمْ، فَلَمْ تُشْتَرَطْ الْعَدَالَةُ فِي تَصَرُّفَاتِهِمْ الْمُوَافِقَةِ لِلْحَقِّ لِمَا فِي اشْتِرَاطِهَا مِنْ الضَّرَرِ الْعَامِّ، وَفَوَاتُ هَذِهِ الْمَصَالِحِ أَقْبَحُ مِنْ فَوَاتِ عَدَالَةِ السُّلْطَانِ."(ص 79).
وقد قرأنا هذا النص في سياقه مرارا، وكل ما فهمنا منه – ونتمنى الآ نكون مخطئين – هو أن الغاية، التي هي تطبيق الشريعة، تبرر الوسيلة التي قد لا تكون عادلة، أو أن تطبيق الشريعة يمكن أن يوكل لأشخاص غير أخلاقيين. وهذه من خصائص النظريات التي تعطي الأسبقية لمنطق الدولة، أو الأنظمة العَقدية الشمولية. وما يسند فهمنا هذا تعليق العز بن عبد السلام على مسألة عزل خالد بن الوليد من ولاية الجيش في النص التالي:
"فَصْلٌ فِي تَقَيُّدِ الْعَزْلِ بِالْأَصْلَحِ لِلْمُسْلِمِينَ فَالْأَصْلَحِ"
"إذَا أَرَادَ الْإِمَامُ عَزْلَ الْحَاكِمِ فَإِنْ أَرَابَهُ مِنْهُ شَيْءٌ عَزَلَهُ لِمَا فِي إبْقَاءِ الْمُرِيبِ مِنْ الْمَفْسَدَةِ إذْ لَا يَصْلُحُ فِي تَقْرِيرِ الْمُرِيبِ عَلَى وِلَايَةٍ عَامَّةٍ وَلَا خَاصَّةٍ، لِمَا يُخْشَى مِنْ خِيَانَتِهِ فِيهَا، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ رِيبَةً فَلَهُ أَحْوَالٌ. إحْدَاهُمَا: أَنْ يَعْزِلَهُ بِمَنْ هُوَ دُونَهُ، وَلَا يَجُوزُ عَزْلُهُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَفْوِيتِ الْمُسْلِمِينَ الْمَصْلَحَةَ الْحَاصِلَةَ مِنْ جِهَةِ فَضْلِهِ عَلَى غَيْرِهِ وَلَيْسَ لِلْإِمَامِ تَفْوِيتُ الْمَصَالِحِ مِنْ غَيْرِ مُعَارِضٍ. الْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَعْزِلَهُ بِمَنْ هُوَ أَفْضَلُ مِنْهُ فَيُنَفَّذُ عَزْلُهُ تَقْدِيمًا لِلْأَصْلَحِ عَلَى الصَّالِحِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَحْصِيلِ الْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ لِلْمُسْلِمِينَ. الْحَالُ الثَّالِثَةُ: أَنْ يَعْزِلَهُ بِمَنْ يُسَاوِيهِ؛ فَقَدْ أَجَازَ بَعْضُهُمْ ذَلِكَ لِمَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ التَّخَيُّرِ عِنْدَ تَسَاوِي الْمَصَالِحِ، وَكَمَا يَتَخَيَّرُ بَيْنَهُمَا فِي ابْتِدَاءِ الْوِلَايَةِ، وَقَالَ آخَرُونَ لَا يَجُوزُ لِمَا فِيهِ مِنْ كَسْرِ الْعَزْلِ وَعَارِهِ بِخِلَافِ ابْتِدَاءِ الْوِلَايَةِ. فَإِنْ قِيلَ يَنْبَغِي أَنْ يَجُوزَ لِمَا فِيهِ مِنْ النَّفْعِ لِلْمُوَلَّى؟ قُلْنَا حِفْظُ الْمَوْجُودِ أَوْلَى مِنْ تَحْصِيلِ الْمَفْقُودِ، وَدَفْعُ الضَّرَرِ أَوْلَى مِنْ جَلْبِ النَّفْعِ، وَهَذَا مَعْرُوفٌ بِالْعَادَةِ، وَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا ثُمَّ لَمْ يُجْهَدْ لَهُمْ وَيَنْصَحْ لَمْ يَدْخُلْ الْجَنَّةَ مَعَهُمْ» . وَلَمَّا اُتُّهِمَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ بِأَنَّهُ قَتَلَ مَالِكَ بْنَ نُوَيْرَةَ لِيَتَزَوَّجَ بِامْرَأَتِهِ حَتَّى قَالَ الشَّاعِرُ:
وَجَرَّتْ مَنَايَا مَالِكِ بْنِ نُوَيْرَةَ ... عَقِيلَتَهُ الْحَسْنَاءَ أَيَّامَ خَالِدِ
حَرَّضَ عُمَرُ عَلَى أَنْ يَعْزِلَهُ أَبُو بَكْرٍ وَقَالَ قَتَلَ رَجُلًا مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَنَزَى عَلَى امْرَأَتِهِ، فَامْتَنَعَ أَبُو بَكْرٍ مِنْ عَزْلِهِ لِأَنَّهُ كَانَ أَصْلَحَ فِي الْقِيَامِ لِقِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ مِنْ غَيْرِهِ، وَهُوَ أَصْوَبُ مِمَّا رَآهُ عُمَرُ لِأَنَّ تِلْكَ الرِّيبَةَ لَمْ تَكُنْ قَادِحَةً فِي كَوْنِهِ أَقْوَمَ بِالْحَرْبِ مِنْ غَيْرِهِ، فَلَمَّا تَوَلَّى عُمَرُ عَزَلَهُ عَنْ حَرْبِ الشَّامِ، وَوَلَّى أَبَا عُبَيْدَةَ بْنَ الْجَرَّاحِ، فَوَصَلَ كِتَابُ الْعَزْلِ إلَى أَبِي عُبَيْدَةَ وَالنَّاسُ صُفُوفٌ لِلْقِتَالِ، فَلَمْ يُخْبِرْ خَالِدًا حَتَّى انْقَشَعَتْ الْحَرْبُ لِعِلْمِهِ بِتَقَدُّمِهِ فِي مَكَانِ الْحَرْبِ، وَتَرْتِيبِ الْقِتَالِ، وَلَوْ أَخْبَرَهُ بِذَلِكَ لَتَشَوَّشَ أَمْرُ الْمُسْلِمِينَ، وَإِنَّمَا لَمْ يُخْبِرْهُ لِأَنَّهُ أُذِنَ لَهُ فِي ذَلِكَ، أَوْ رَأَى أَنَّهُ لَا يَنْعَزِلُ حَتَّى يَقِفَ عَلَى الْكِتَابِ."(ص 80-81)
فهذا خالد بن الوليد يرتكب جريمة، ولربما جريمتين: القتل والزنى، وكلاهما تستوجب القتل حسب الشريعة المعمول بها، ولا يرى كاتب النص مانعا من الصفح عنه لأنه قائد عسكري ممتاز ! إلا أن هذا الموقف ليس إلا ترجمة لتراتبية المصلحة عند العز بن عبد السلام، والجهاد أعلى قيمة من المصالح الفردية. وهذا دليل آخر على أن "المصلحة" هنا غير المصلحة في المفهوم المتداول.
هذه إذن هي أفكار ممثل "الأخلاق الإسلامية الخالصة" في مجالي الأخلاق والسياسة. هذه هي آراء المفكر الذي "سد الفراغ الذي اشتكينا منه"، حسب تعبير الجابري، وهي أرقى ما أبدعه العقل الأخلاقي العربي في الرؤية الجابرية.
والحاصل أن الذي يطرح لنا مشكلة ليس العز بن عبد السلام، بل الجابري. فقد بدأنا قراءة " قواعد الأحكام في مصالح الأنام" تحت تأثير الهالة التي أحاط بها الجابري مؤلفه، لكننا لم نجد فيه إلا نموذجا للعقل الفقهي. وإذا كان الأمر كذلك، فما الذي دفع الجابري إلى الانبطاح أمام هذا العقل الفقهي؟
لقد لاحظنا أن كثيرا من المشتغلين بالفلسفة في الثقافة العربية يتحولون إلى متكلمين عندما يتعلق الأمر بالإسلام، وهو ما أشرنا إليه في البحث الذي خصصناه ل"الشخصانية الواقعية" عند محمد عزيز الحبابي . والجابري الذي تلقط كل ما يمكن أن يؤول بأنه "أخلاق طاعة" عند جل المفكرين الذين تناولهم، وكل ما يقلل من أصالة إسهاماتهم، نجده يستعمل كل وسائل التزوير ليجعل من الأخلاق الفقهية أخلاقا عقلانية ومصلحية وعَلمانية (لأن "الدين في الإسلام ليس هو أساس الأخلاق")، وإن كان لم يستعمل هذا المصطلح فإنه استعمل معناه. وليت أن الجابري تحول إلى متكلم، لأن ذلك كان يقتضي منه أن يدافع عن الدين بالمنطق على الأقل؛ أما ما فعله هنا فهو أنه تحول إلى مجرد فقيه تابع.
سابعا: التمييز بين موروث إسلامي خالص وموروث إسلامي غير خالص.
لقد تعرفنا بواسطة الأطروحتين الخامسة والسادسة على الأخلاق الإسلامية "الخالصة"، فما الذي جعل من أخلاق المحاسبي والماوردي والراغب الاصبهاني والغزالي "موروثا إسلاميا غير خالص"؟ وهذه خلاصات الجابري عن كل واحد منهم والتي تلخص مكمن النقص عندهم.
"لقد شيد المحاسبي فعلا بخطاب مرتب منظم عالِم ما أسماه ب "أخلاق الدين"، وهي بالتحديد أخلاق الاستعداد للآخرة، معتمدا على القرآن فعلا، ولكن هل هذه الأخلاق هي وحدها "الأخلاق الإسلامية"؟ هل هي وحدها التي يمكن استخلاصها من القرآن؟ أليس الإسلام دين ودنيا؟ الجواب واضح. أخلاق المحاسبي لا تمثل الإسلام ككل. لقد غطت وملأت كفة "أدب الدين" ولكنها أعرضت إعراضا كليا عن "أدب الدنيا" ! فكيف يمكن الجمع بينهما؟ (ص 560)
"نعم، يؤكد الماوردي على أن الإسلام دين ودنيا وعلى أن المرجع في الأخلاق في الإسلام مرجعان: العقل والشرع، وهما معا حاضران في أدب الدين وأدب الدنيا معا. وهكذا فباستعمال لباقة "الديبلوماسي" وبتوظيف ما أسماه "تحقيق الفقهاء وترقيق الأدباء" (التفريعات الفقهية والتنميقات الأسلوبية)، يوفق الماوردي ويصالح بين الفقه والتصوف ثم بينهما من جهة، وبين "أدب النفس" كما يقدمه الموروث الإسلامي (الحديث بصفة خاصة) و"أدب اللسان" العربي من جهة أخرى، ليجعل من ذلك كله "أدبا" واحدا هو: "أدب الدنيا والدين". أما أن يكون كتاب الماوردي حاملا لمشروع تشييد "أخلاق إسلامية"، فهذا ما سبق أن أبرزناه، وأما أن يكون هذا المشروع يمثل فعلا ما يستحق أن يسمى بهذا الإسم، فذلك ما يصعب الدفاع عنه، والمشاريع التي جاءت بعده كانت تكذبه، أو على الأقل تقدم ما تعتبره البديل الصحيح." (ص 570)
"لقد وعى الراغب الأصبهاني بعمق الحاجة إلى كتاب في "الأخلاق الإسلامية"، يكون بديلا للمؤلفات التي تنتفي إلى الموروثين الفارسي واليوناني. غير ان ما كان ينقصه هو المنهجية التي يتطلبها مثل هذا المشروع. ومثل هذه المنهجية تحتاج إلى معرفة ب "آلة العلوم"، أي ما أطلق عليه الغزالي "معيار العلم" (المنطق). وبالفعل سنجد هذه المنهجية واضحة ناضجة في محاولة الغزالي تحقيق نفس المشروع، مشروع "أخلاق إسلامية". ولكن في اتجاه؟" (ص 582-583)
"وهكذا يمكن القول إن المهمة التي ندب الغزالي نفسه لها في كتابه "إحياء علوم الدين" لم تكن بيان كيفية "المعاملة" (تطهير النفس الخ) بل حمل القارئ على اعتناق راي معين في "التعامل" مع جميع العلوم وأنماط السلوك. وهكذا نقرأ بين ثنايا الكتاب جميع ما قرره من مواقف سلبية في كتبه الأخرى. خصوصا تلك التي ألفها في علم الكلام وفي الرد على الفلاسفة والفرق الأخرى. إن كتاب "إحياء علوم الدين" كتاب في تقرير "الفكر الوحيد" في جميع الميادين التي هي أصلا مجال طبيعي لاختلاف الآراء. إنه إعلان ب "موت الاختلاف" وسد باب الاجتهاد، ليس في الفقه فحسب بل في كل علم ومعرفة. من هذه الناحية يجب النظر إليه كعنصر من أشد العناصر تخديرا في نظام القيم في الثقافة العربية. ومن هذه الزاوية فهو ابعد ما يكون عن الأخلاق الإسلامية الحقيقة،، بل إن مشروعه فيه انحراف عنها على طول الخط، كما سنرى في الفصل التالي." (ص 592)
وبما أن "الفصل التالي" هو المخصص للعز بن عبد السلام، فهذا يعني أن الجابري ينبه قارئه إلى أنه سيجد لديه ما لم يجده عند الغزالي وباقي ممثلي الأخلاق الإسلامية. أي أنه سيجد لديه نقيض "عيوب" الغزالي: حرية اعتناق أي رأي يريده القارئ عوضا عن "حمله على اعتناق رأي معين"؛ والفكر المتعدد عوضا عن "الفكر الوحيد"؛ وإحياء الاختلاف وفتح باب الاجتهاد عوضا عن "موت الاختلاف" و "سد باب الاجتهاد"؛ والالتزام بالأخلاق الإسلامية الحقيقية عوضا عن "الانحراف عنها على طول الخط" !
خاتمة
لقد قلنا في نهاية "الفكر السياسي العربي"، أن الكتاب "بحث غني وقيم، بشرط أن نغير عنوانه حتى يوافق محتواه. فيمكن أن يسمى "نشأة الدولة الإسلامية" مثلا. ومن هذا المنظور يصير تحليل دور المحددات الثلاثة (القبيلة، الغنيمة، العقيدة، وبدون مزدوجين) في محله." وقد كنا ركزنا نقدنا لهذا الكتاب على المنهجية خاصة لأنها أدت إلى تعميمات متعسفة.
أما في نهاية هذا الكتاب، فإنه لا يسعنا إلا أن نقول أن القارئ المتمعن لا يمكنه أن يقبل كثيرا مما ورد فيه، لا على مستوى الإشكاليته، أو المنهجية، أوالمحتوى كما تم عرضه في بعض العينات التي حللناها.
فرد الأخلاقي إلى السياسي جعله ينطلق من إشكالية ضيقة، وهي إشكالية "الفتنة الكبرى" التي رفعها الجابري إلى مستوى الخطيئة الأصلية. وبما أن السياسي لا يستغرق الأخلاقي، وبما أنه أراد تعميم تشخيصه للأزمة السياسية إلى كل الأخلاق، فإنه أخضع تحليله للموروث الأخلاقي إلى قراءة أيديولوجية سافرة. فبما أن الدولة الأموية كانت في أزمة فإنها وجدت الحل في استيراد "أخلاق الطاعة" الفارسية التي هيمنت على الساحة الأخلاقية العربية الإسلامية. ولهذا جند الجابري نفسه للبحث عن "آثار الجريمة" وعن طابورها الخامس في كل ثنايا الموروث الأخلاقي.
و"أخلاق الطاعة" الدخيلة لم تكن الغطاء الأيديولوجي ل "الملك العضوض" فحسب، بل كانت من العوائق التي أخرت ظهور الأخلاق الإسلامية "الخالصة". وكأن المسلمين عاشوا قرونا دون أن يدركوا أخلاق دينهم ! بل أكثر من هذا، كان عليهم انتظار الجابري، في الربع الأخير من القرن العشرين، ليقول لهم من هو الممثل الحق لهذه الأخلاق.
ولفهم إلحاح الجابري على البحث عن أخلاق إسلامية "خالصة"، يجب الرجوع إلى كتبه السابقة التي رد فيها أسباب الانحطاط إلى الغزو الثقافي للغنوصية والهرمسية والصوفية، بصفتها سليلتهما. إلا أنه كان من قبل يهلل للموروث اليوناني العقلاني أيضا، أما في ميدان الأخلاق فإنه يفضل الإسلام "الخالص".
لقد ادعى الجابري أنه كان رائدا في مجال البحث في التراث الأخلاقي العربي الإسلامي، وإذا كان الأمر كذلك، فهذا يعني أن تاريخ هذا الفكر – ولا نقول عقل – ما زال لم يكتب بعد.