بدا لي أن أكتب عن الرقص، وذلك أملا مني في تقويم الأخلاق، وقد يلوح هذا غريباً، فكيف نقوم الأخلاق بالحديث عن الرقص، ومع ذلك فهذا حق، فالرقص ونقصد به الإيقاعي والتعبيري، لا الرقص الشرقي طبعاً، يورث من يزاوله من رجال ونساء قوة في الجسم تحرر النفس من آفاتها
وقديماً حرص سقراط الشيخ على أن يتعلمه ليقلل من قيح جسمه المنبعج، ويقوي من ضعفه، فقال لأصدقائه وتلاميذه وقد اجتمعوا يوماً بمنزل أحدهم غلام يعلم الرقص: (أتضحكون مني لأني أريد برياضة جسمي أن أتعهد صحتي فأمتنع بأكل هنئ ونوم سليم؟! أتضحكون لأنكم تعتقدون أن شيخاً مثلي لن يصاحب مدرباً رياضياً إلى الخلاء فيعري جسمه أمام الجماهير، بل يقنع بغرفة طعام كهذه التي يكتفي بها هذا الغلام؟! أتضحكون لأني سأتدرب في الشتاء تحت السقف وفي الصيف تحت الظلال إذا اشتدت حرارة الشمس؟! أم تضحكون لأنني رحت ببطن كبير إلى حد ما فأردت أن أرده إلى الحجم معقول!؟)
وفي هذا يقول شاعر الإغريق أنا كريون. (عندما يرقص الشيخ لا ترى فيه عجوزاً غير شعره، وأما روحه فلا تزال فتية)
والرقص كما هو رياضة للجسم رياضة للروح، وذلك لأنه يغذيها بشعورين لهما أثر عظيم في الحياة، وهما الشعور بالمرح ثم الشعور بالجمال. وليس من شك في إن هذين الشعورين من أضعف المشاعر عند الشرقيين، حتى لأحسب أن جانباً كبيراً من ضعف النفوس الذي نشكو منه يرجع إلى الحزن الذي ينزل الخراب بالقلوب، كما أن الإحساس بمعنى الجمال ومعاييره الصادقة يكاد يكون منعدماً. والنفس الحزينة لا تعرف الثقة والتفاؤل. والحس الذي لا يدرك الجمال لا يحجم عن الخسيس من الأمور.
ولو أنك قارنت بين الرقص الشرقي والرقص الغربي لأدركت الفارق بين المشاعر التي يثيرها كل منهما، فالرقص الشرقي رقص تمرد جسمي، حركاته زوايا لا منحنيات، وهو إثارة للغريزة الجنسية فحسب، وإما الرقص الغربي فإيقاع وتعبير، وهو في أصح أوضاعه يستمد إيقاعه من الموسيقى الشائعة في الطبيعة، ففيه عنصر التموج والاستمرار. وليس بخاف أن الحياة كلها تموجات موقعة، فالصوت والضوء والموج والريح والشجر وأوراقه، كلها تموجات أو تهتز موقعة في موجات. والحركة دائرة مستمرة حتى في الجماد حيث ترقص الذرات الكهربائية. والراقص أو الراقصة في أوروبا لا يخترع حركات وإنما يكتشف حركات، يكتشف ما هو كامن في نظام الحياة والوجود، وإن كان لا يقف عند الإحساس إلى الدرس، ويروض نفسه على تشرب موسيقاها بالتدريب الطويل المتصل حتى يجيد فهمهما فتصبح الحركة تعبيراً عن معاني النفس.
لقد أخذنا نعني في الشرق بتثقيف العقول، ولست ادعي أننا قد نجحنا كل النجاح في هذا التثقيف ولكنني أحسبه شيئاً يذكر إذا قارناه في بتثقيف الإحساس. ولقد فطن الناس إلى أن الشيء الرائع في تربية الإغريق القدماء كان عنايتهم بتنمية حاسة الجمال في النفوس عن طريق رياضة الجسم ورياضة الروح، فأفلاطون نفسه قد قصر منهج التربية في جمهوريته على العلوم الرياضية والموسيقى والرياضة البدنية، وبذلك يجمع بين تقويم العقل والإحساس والجسم، ويقيم بين ثلاثتها توازناً هو عماد النفس القوية. ولقد كان الرقص جزءاً هاماً من رياضتهم، وذلك سواء أكان حربياً أم فنياً، ولقد كان المقاتلون لا يسيرون إلى القتال إلا بعد أن يثيروا في نفوسهم الحماسة والنشوة بالرقص الموقع توقيعاً قوياً، حتى لقد قال أفلاطون بلسان سقراط: إن أكثر الناس تبجيلاً للآلهة في حلقات الرقص هم أشجعهم ضراوة على القتال في الميادين)
والإنسانية منذ أقدم عصورها لم تعرف الرقص منفصلاً عن غيره من الفنون. فمنذ الأزل والناس يجمعون بينه وبين الموسيقى والشعر في ثالوث فني يستهوي أفئدتهم. وربما كان الرقص أقدم هذه العناصر وأكثرها انتشاراً، فالحركة لا ريب قد سبقت اللفظ في التعبير. وفي الجسم إيقاع عضوي يتحرك لنغمات الطبيعة، على غير وعي منا، وعند الإغريق القدماء لم يكن الرقص والغناء والموسيقى مجتمعة مقصورة على مواكب النصر أو ولائم المرح، بل كانت تكون العناصر الأساسية في التمثيل المسرحي أيضاً. وهم لم يعرفوا تمثيلاً يقوم على الحوار والحركة لمسرحة فحسب، فكل مسرحياتهم يتخللها الرقص والموسيقى. وإلى جوار الممثلين تجد دائماً فرقة المغنين وعلى رأسهم عازف الناي. ومن كبار مؤلفيهم كسوفوكليس من كان يجيد الرقص والعزف ويشترك فيهما اشتراكاً فعلياً. ولقد كان ذلك من مواضع فخارهم، فتلك فنون كانت تشارك فيها آلهتهم ذاتها، ولكم من مرة رأس الإله هرميس أو الإله أبوللون بأعلى الأولمب وفي محضر كبير الآلهة زوس جوقات تعزف وترقص لتطرب الآلهة. ولقد جعلوا للرقص ربة ترعاهم كما جعلوا للموسيقى والشعر ربات. وليس من شك في أن إقبال الإغريق على الحياة ومحبتهم لها وإمعانهم فيها قد فجر في نفوسهم ينابيع الابتكار والخلق. وليس من شك كذلك في أن عبادتهم للجمال وحرصهم على التناغم والانسجام قد أحيا في نفوسهم معاني البطولة ومثل الأخلاق ومن البين أن أهم صفات العمل الأخلاقي هو جماله المشرق. .
ولقد رأيت العصور الحديثة نهضة رائعة في فن الرقص بفضل (الباليه) الروسية والسويدية، وكان الفنان الكبير جاك دالكروز فضل إثراء فن الإيقاع وتحميله أنواعاً من التعبير الإنساني العميق. وكم طرب الأوربيون لرقص نيجنسكي وكار سافينا وإيزادورا دونكان ولوي فولر وبافلوفا وأرجنتينا. واستهوى الرقص ألباب كبار رجال الفن والأدب. ولقد كانت إيزادورا دونكان تلتهب حماسة لفن النحات الكبير رودان، وكيف كان رودان يعجب برشاقة الحركة وجمالها عند تلك الراقصة الروحية الكبيرة.
ومنذ سنين قليلة كتب الشاعر الفرنسي الشهير بول فاليري حواراً رائعاً عن الرقص، وفيه يقيم توازناً متصلاً بين الحركات الراقص وحركات المفكر الذهنية، ولفهم هذه العلاقة دعنا ننصت إلى فقرة رائعة من مذكرات دونكان: (لقد أنفقت أياماً وليالي كاملة في (الأتيليه) لأبحث عن رقص يستطيع بحركات الجسم أن يعبر عن الروح تعبيراً إلهياً. ولساعات طويلة كنت أقف ساكنة جامعة يدي إلى صدري ووالدتي ذاهلة من موقفي هذا، ولكنني أنهيت بأن اكتشفت الدافع الأساسي لكل حركة، والبؤرة القوية التي تنفذ منها وحدة الأوضاع.
ومدرسة الرقص التقليدية تلقن تلاميذها أن المركز الأساسي للحركة قائم وسط الظهر عند نهاية العمود الفقري من أسفل، ومن هذا المركز تنطلق حركات الأذرع والأرجل والجذع حرة، ولكنها عندئذ لن تكون غير حرية عرائس من الخشب، ولن ينتج عن رقص كهذا غير حركات آلية مصطنعة غير جديرة بالروح، والذي كنت أبحث عنه لم يكن مصدرها هذا النوع من الحركات، بل مصدرها حركات النفس التي تشيع في الجسد وقد امتلأ ضوءاً فتعكس فيه رؤية مشرقة. وبعد أشهر طويلة من الجهد المتصل ركزت فيها اهتمامي في هذه البؤرة الموحدة لاحظت أنني عندما أنصت إلى الموسيقى تنساب إلى أشعة وموجات. تجري في فيض متلاحق نحو منبع الضياء في نفسي حيث تنعكس الرؤية المشرقة. ولم يكن هذا المنبع مرآة نفسي بل مرآة روحي وبفضل إشراق تلك الرؤية كنت أستطيع أن اعبر عن الموجات الموسيقية بحركات راقصة). ولا غرابة في ذلك فقد ولدت ايزادورا الأمريكية الأصل على شواطئ البحار فاعترفت بأن فكرة الرقص لم تأتيها إلا من مشاهدة أمواج البحر، وكان أول رقص لها على إيقاع ذلك الموج. وما من شك في أن للنفوس البشرية إيقاعاً يناغم إيقاع الطبيعة. ولقد قالت تلك الأديبة البارعة (أن الرقص كان موجوداً في نفسها ولكنه نائم فأيقظته)
وما أريد أن أختم هذا المقال دون أن أذكر أحد أساتذتي الفرنسيين وهو لويس سيشان، وقد كان رجلاً جاداً على رقة نفسه، رجلاً حي القلب حي الضمير، وقد تعلقت تعاليمه فبحث عن مؤلفاته، وإذا من بينها كتاب قيم عن الرقص عند الإغريق القدماء، فدهشت لأستاذ في الجامعة يكتب عن الرقص، وكنت لا أزال حديث عهد بالشرق وأحكامه، ولكنني لم أكد أتناول الكتاب حتى وجدته قد صدره في أول صفحة بثلاث كلمات لأفلاطون قالها الفيلسوف عن الشعر، وأبي أستاذنا إلا أن يطلقها على الرقص، وهي قوله (شئ خفيف مجنح مقدس)
الدكتور محمد مندور
المحامي
مجلة الرسالة - العدد 605
بتاريخ: 05 - 02 - 1945
وقديماً حرص سقراط الشيخ على أن يتعلمه ليقلل من قيح جسمه المنبعج، ويقوي من ضعفه، فقال لأصدقائه وتلاميذه وقد اجتمعوا يوماً بمنزل أحدهم غلام يعلم الرقص: (أتضحكون مني لأني أريد برياضة جسمي أن أتعهد صحتي فأمتنع بأكل هنئ ونوم سليم؟! أتضحكون لأنكم تعتقدون أن شيخاً مثلي لن يصاحب مدرباً رياضياً إلى الخلاء فيعري جسمه أمام الجماهير، بل يقنع بغرفة طعام كهذه التي يكتفي بها هذا الغلام؟! أتضحكون لأني سأتدرب في الشتاء تحت السقف وفي الصيف تحت الظلال إذا اشتدت حرارة الشمس؟! أم تضحكون لأنني رحت ببطن كبير إلى حد ما فأردت أن أرده إلى الحجم معقول!؟)
وفي هذا يقول شاعر الإغريق أنا كريون. (عندما يرقص الشيخ لا ترى فيه عجوزاً غير شعره، وأما روحه فلا تزال فتية)
والرقص كما هو رياضة للجسم رياضة للروح، وذلك لأنه يغذيها بشعورين لهما أثر عظيم في الحياة، وهما الشعور بالمرح ثم الشعور بالجمال. وليس من شك في إن هذين الشعورين من أضعف المشاعر عند الشرقيين، حتى لأحسب أن جانباً كبيراً من ضعف النفوس الذي نشكو منه يرجع إلى الحزن الذي ينزل الخراب بالقلوب، كما أن الإحساس بمعنى الجمال ومعاييره الصادقة يكاد يكون منعدماً. والنفس الحزينة لا تعرف الثقة والتفاؤل. والحس الذي لا يدرك الجمال لا يحجم عن الخسيس من الأمور.
ولو أنك قارنت بين الرقص الشرقي والرقص الغربي لأدركت الفارق بين المشاعر التي يثيرها كل منهما، فالرقص الشرقي رقص تمرد جسمي، حركاته زوايا لا منحنيات، وهو إثارة للغريزة الجنسية فحسب، وإما الرقص الغربي فإيقاع وتعبير، وهو في أصح أوضاعه يستمد إيقاعه من الموسيقى الشائعة في الطبيعة، ففيه عنصر التموج والاستمرار. وليس بخاف أن الحياة كلها تموجات موقعة، فالصوت والضوء والموج والريح والشجر وأوراقه، كلها تموجات أو تهتز موقعة في موجات. والحركة دائرة مستمرة حتى في الجماد حيث ترقص الذرات الكهربائية. والراقص أو الراقصة في أوروبا لا يخترع حركات وإنما يكتشف حركات، يكتشف ما هو كامن في نظام الحياة والوجود، وإن كان لا يقف عند الإحساس إلى الدرس، ويروض نفسه على تشرب موسيقاها بالتدريب الطويل المتصل حتى يجيد فهمهما فتصبح الحركة تعبيراً عن معاني النفس.
لقد أخذنا نعني في الشرق بتثقيف العقول، ولست ادعي أننا قد نجحنا كل النجاح في هذا التثقيف ولكنني أحسبه شيئاً يذكر إذا قارناه في بتثقيف الإحساس. ولقد فطن الناس إلى أن الشيء الرائع في تربية الإغريق القدماء كان عنايتهم بتنمية حاسة الجمال في النفوس عن طريق رياضة الجسم ورياضة الروح، فأفلاطون نفسه قد قصر منهج التربية في جمهوريته على العلوم الرياضية والموسيقى والرياضة البدنية، وبذلك يجمع بين تقويم العقل والإحساس والجسم، ويقيم بين ثلاثتها توازناً هو عماد النفس القوية. ولقد كان الرقص جزءاً هاماً من رياضتهم، وذلك سواء أكان حربياً أم فنياً، ولقد كان المقاتلون لا يسيرون إلى القتال إلا بعد أن يثيروا في نفوسهم الحماسة والنشوة بالرقص الموقع توقيعاً قوياً، حتى لقد قال أفلاطون بلسان سقراط: إن أكثر الناس تبجيلاً للآلهة في حلقات الرقص هم أشجعهم ضراوة على القتال في الميادين)
والإنسانية منذ أقدم عصورها لم تعرف الرقص منفصلاً عن غيره من الفنون. فمنذ الأزل والناس يجمعون بينه وبين الموسيقى والشعر في ثالوث فني يستهوي أفئدتهم. وربما كان الرقص أقدم هذه العناصر وأكثرها انتشاراً، فالحركة لا ريب قد سبقت اللفظ في التعبير. وفي الجسم إيقاع عضوي يتحرك لنغمات الطبيعة، على غير وعي منا، وعند الإغريق القدماء لم يكن الرقص والغناء والموسيقى مجتمعة مقصورة على مواكب النصر أو ولائم المرح، بل كانت تكون العناصر الأساسية في التمثيل المسرحي أيضاً. وهم لم يعرفوا تمثيلاً يقوم على الحوار والحركة لمسرحة فحسب، فكل مسرحياتهم يتخللها الرقص والموسيقى. وإلى جوار الممثلين تجد دائماً فرقة المغنين وعلى رأسهم عازف الناي. ومن كبار مؤلفيهم كسوفوكليس من كان يجيد الرقص والعزف ويشترك فيهما اشتراكاً فعلياً. ولقد كان ذلك من مواضع فخارهم، فتلك فنون كانت تشارك فيها آلهتهم ذاتها، ولكم من مرة رأس الإله هرميس أو الإله أبوللون بأعلى الأولمب وفي محضر كبير الآلهة زوس جوقات تعزف وترقص لتطرب الآلهة. ولقد جعلوا للرقص ربة ترعاهم كما جعلوا للموسيقى والشعر ربات. وليس من شك في أن إقبال الإغريق على الحياة ومحبتهم لها وإمعانهم فيها قد فجر في نفوسهم ينابيع الابتكار والخلق. وليس من شك كذلك في أن عبادتهم للجمال وحرصهم على التناغم والانسجام قد أحيا في نفوسهم معاني البطولة ومثل الأخلاق ومن البين أن أهم صفات العمل الأخلاقي هو جماله المشرق. .
ولقد رأيت العصور الحديثة نهضة رائعة في فن الرقص بفضل (الباليه) الروسية والسويدية، وكان الفنان الكبير جاك دالكروز فضل إثراء فن الإيقاع وتحميله أنواعاً من التعبير الإنساني العميق. وكم طرب الأوربيون لرقص نيجنسكي وكار سافينا وإيزادورا دونكان ولوي فولر وبافلوفا وأرجنتينا. واستهوى الرقص ألباب كبار رجال الفن والأدب. ولقد كانت إيزادورا دونكان تلتهب حماسة لفن النحات الكبير رودان، وكيف كان رودان يعجب برشاقة الحركة وجمالها عند تلك الراقصة الروحية الكبيرة.
ومنذ سنين قليلة كتب الشاعر الفرنسي الشهير بول فاليري حواراً رائعاً عن الرقص، وفيه يقيم توازناً متصلاً بين الحركات الراقص وحركات المفكر الذهنية، ولفهم هذه العلاقة دعنا ننصت إلى فقرة رائعة من مذكرات دونكان: (لقد أنفقت أياماً وليالي كاملة في (الأتيليه) لأبحث عن رقص يستطيع بحركات الجسم أن يعبر عن الروح تعبيراً إلهياً. ولساعات طويلة كنت أقف ساكنة جامعة يدي إلى صدري ووالدتي ذاهلة من موقفي هذا، ولكنني أنهيت بأن اكتشفت الدافع الأساسي لكل حركة، والبؤرة القوية التي تنفذ منها وحدة الأوضاع.
ومدرسة الرقص التقليدية تلقن تلاميذها أن المركز الأساسي للحركة قائم وسط الظهر عند نهاية العمود الفقري من أسفل، ومن هذا المركز تنطلق حركات الأذرع والأرجل والجذع حرة، ولكنها عندئذ لن تكون غير حرية عرائس من الخشب، ولن ينتج عن رقص كهذا غير حركات آلية مصطنعة غير جديرة بالروح، والذي كنت أبحث عنه لم يكن مصدرها هذا النوع من الحركات، بل مصدرها حركات النفس التي تشيع في الجسد وقد امتلأ ضوءاً فتعكس فيه رؤية مشرقة. وبعد أشهر طويلة من الجهد المتصل ركزت فيها اهتمامي في هذه البؤرة الموحدة لاحظت أنني عندما أنصت إلى الموسيقى تنساب إلى أشعة وموجات. تجري في فيض متلاحق نحو منبع الضياء في نفسي حيث تنعكس الرؤية المشرقة. ولم يكن هذا المنبع مرآة نفسي بل مرآة روحي وبفضل إشراق تلك الرؤية كنت أستطيع أن اعبر عن الموجات الموسيقية بحركات راقصة). ولا غرابة في ذلك فقد ولدت ايزادورا الأمريكية الأصل على شواطئ البحار فاعترفت بأن فكرة الرقص لم تأتيها إلا من مشاهدة أمواج البحر، وكان أول رقص لها على إيقاع ذلك الموج. وما من شك في أن للنفوس البشرية إيقاعاً يناغم إيقاع الطبيعة. ولقد قالت تلك الأديبة البارعة (أن الرقص كان موجوداً في نفسها ولكنه نائم فأيقظته)
وما أريد أن أختم هذا المقال دون أن أذكر أحد أساتذتي الفرنسيين وهو لويس سيشان، وقد كان رجلاً جاداً على رقة نفسه، رجلاً حي القلب حي الضمير، وقد تعلقت تعاليمه فبحث عن مؤلفاته، وإذا من بينها كتاب قيم عن الرقص عند الإغريق القدماء، فدهشت لأستاذ في الجامعة يكتب عن الرقص، وكنت لا أزال حديث عهد بالشرق وأحكامه، ولكنني لم أكد أتناول الكتاب حتى وجدته قد صدره في أول صفحة بثلاث كلمات لأفلاطون قالها الفيلسوف عن الشعر، وأبي أستاذنا إلا أن يطلقها على الرقص، وهي قوله (شئ خفيف مجنح مقدس)
الدكتور محمد مندور
المحامي
مجلة الرسالة - العدد 605
بتاريخ: 05 - 02 - 1945