إعادة المسار:
يَعْبرُ الأديب قصي عسكر عبر خصوصية تمايز تدوير المسار الروائي، وذلك بتحرير جنسه من ثقل المصطلحات التي تعم بعضَ جمعٍ ممن شكلوا هزيمة للرواية العربية، في الربع الأخير من القرن المنصرم، بعد أن شاخت النصوص وشابها النعاس، وظهور قارئ لم يعد يلتفت إلى الجنس السردي كما كان في الخمسينات حتى الثمانيات. فتلك الكتابات اتخذت الانطباعية التقليدية عبر مفاهيم مركزية مشرعة تحركها معايب الوحدة المضطربة في مناظرات الكفاءة، غير المتحدة بحالتها الإنسانية اليومية، التي أصبحت تمثل ثقلا رمزيا بفعل اضطرابات النظم المتخلفة، جراء سوء الخيارات التعليمية بدءا من العائلة، وحتى نسخ عادات وتقاليد الموروثات الظلامية، إشارة إلى ما هو نفسي وجسداني يحدد انعكاس عالم غامض على البطل الراوي، في حال تتطلب منه التعرف على سلوكيات مجتمعات اغرقتها الأتجاهات الدكتاتورية العميلة بالجهل والعبودية، وأمام هذا الانحدار الثقافي في السردية الماورائية في تحديث النص الروائي، ظهر بعض من الروائيين الشباب ومنهم قصي عسكر، ممن أزاحوا الستارة عن الموت السريري الذي أصاب التصويرات الحسيَّة للمسار السردي.
أمّا معالجتنا النقدية في خصوصية مسيرة قصي عسكر نجدها وقد تخلصت من الخطاب المقيد بالاستثناء، والخطاب المرسل إلى صفات الوعي المجتمعي بتأثير مصالحة الواقع الرمزي بالشخوص اليومية الفاعلة، فهو مدرك أن الندب والبكاء عاجزان عن التغيير، ومن أجل هذا تحول إلى مصالحة قواعد فنية تبشر بزمن جديد لا يؤمن بالبطولات الهامشية، فبدا الروائي قصي عسكر يؤمن أن المكتسب الإحداثي يحرر مسيرة التغيير من الشوائب التي أصابها الوهن بماضيها، بواسطة نشر الوعي الزمكاني خاصة من خلال علاقات السيطرة على أليات الفن السردي.
ففي الرواية: "وأقبل الخريف مبكرا هذا العام" التي نحن بصدد تناولها بالمساءلة والكشف عن بنيات الفضاء الاجتماعي الذي يؤكد تنوير الواقعية عند الشعوب المستنيرة "الأوروبين" بالتواجد المكاني لحالات مجددة تتصف بما لزم منه أن يكون النص الروائي مقبولا ومؤثرا بالتلقي السهل، فالقول في العنوان وجدناه وقد أخذ معاينة الزمن "الخريف" الذي وصل مبكرا في العام الذي كتبت فيه الرواية، والمكان متداخل بدءاً بدولة اللجوء، الذي بدا للبطل كما هو عالم غير مألوف ومشوش، حين وطأت خطاه جنائن مقبرة كبيرة تكشف عن البعد الذي يصوره ذلك المكان بالآخرة المقبولة ظاهريا كحالة لابد منها، وبحالة أخرى فالمقبرة تحيط الزائر لها بالخداع، وقلق يحاكي سمات الروح بوحي من مخيلة كاتب يشارك الموتى وجوده الافتراضي بينهم، وتحت هذا العنوان تمفصلت الحكاية واتسعت المعطيات بطرق تفاوت موضوعاتها ما بين العمل بالأجرة الأسبوعية، وبين حيوية إبداعية تشكلت ببناء حسي يوحي إلى أن الرواية بدأت تحاور انتشار تفرعاتها في مخيلة البطل الذاتي، حيث تشيع ظاهرة تحاكي التغيير الاجتماعي كشعور ابتدائي يحركه مدخل الرواية، مبتعدا بها عن الأنساق الجاهزة في أسلوبية الرواية الستينية، خاصة بعد أن وضع عمله بمفتتح شديد الخصوصية، يكرس وجدانيه العلاقة في الجو المحيط به، فتكون هذه العلاقة أشبه بالعمود الفقري لأحداث الرواية.
أتسعت الرواية العربية في القرن المنصرم بالشرح والتفسير خاضعة لسلطان مكنونات "النسق"، سواء أختص ذلك اللون بالروائي السبعيني في حالته المحفوظية، أو بنقاد المرحلة البنيوية، ومنهم الناقد السعودي الغذامي، الذي حاول جاهدا أن يحسن من الحركة النقدية العربية تحت شعار "النقد الثقافي"، لكنه أضاع البنيتين واختصر في:
الأولى: الحركة النقدية الموازية لحالات السياق في زمن القرن المنصرم.
الثانية: الحركة النقدية المثالية اللاحقة المتمثلة بالنقد الثقافي العربي أو النقد الفني عند الأوروبين.
خاصة في إنتاج وعي المفاهيم المترسخة باكاديمية مملة تسوق بعضها لبعض، بعد أن أصبحت تلك الكتابات تشكل خطابا متشابها، وكأن جميع نقاد المرحلة البنيوية يكتبون بقلم واحد، تلك الحاصلة التي عاد إليها نتاج مكرور بنفس الأنساق التي شكلت هوية الناقد الخاصة فيما بعد مرحلة العجز، وطبعا هذا ينطبق على الجنس الروائي في موضوعة "النسق"، في مرحلة: نجيب محفوظ، والتكرلي، وحنه مينه، وآخرين، أمّا الذين تخلصوا من الأتجاه المحفوظي منهم: حيدر حيدر، وسلام عبود، ومحمد خضير، وحنان ترك، وحوراء النداوي، ورجاء الصانع، وقصي عسكر بدءا في رواية "نهر جاسم"، وهذا على وجه المعاينة لا التحديد. وهؤلاء وضعوا للرواية العربية بنية سيكولوجية تمفصل حالات الوعي عند الفرد، الأمر الذي يفضي على نحو ارتباط خصوصيات احساس الروائي بالألفة، مع الدائرة الضيقة التي حددها قصي عسكر في روايته، فكان البناء يلاقح جملة تلبس ثوب جملة أخرى في ترتيبها التلاقحي، حيث وجدته حريصاً على أن تكون الحكاية عنده منضبطة المعاني والدلالات وفق شرط بنيتها، وذلك بالكشف عن حالة الشخصية المركبة بتعدد طرق جمالياتها، من خلال التآلف المعين مع مجازاته المتعددة المحمولة بحتميتها النفسية، من مدلول السياقات العلمية المركزة على الوعي القادر على جهة وضوح المبدأ الثقافي والاجتماعي والسياسي والتأريخي والمؤسساتي من حيث فهم الدلالة بمعيونها، حتى تكون اللغة رابط رصد يعالج إضاءة المستهل النوعي، وهذا يعود بنا إلى مفهوم "المجمل " عند الغزالي حيث يقول: " نلاحظ مختلف مراتب الإفادة وانطلاقا منه تجدد وسائل دفع الإحمال هو نفسه مفهوم مجمل مشترك مثله في ذلك مثل المفهوم المركزي الشرعي الذي هو الإيمان مثلهما في ذلك مثل المفهوم الكلامي المركزي في علم الكلام*"
إذن فالمجمل هو الحالة القصوى لتحديث الاحتمالات المؤولة المستقلة بمفاهيمها والتي تدلنا على أن الروائي قصي الشيخ متمكن من معرفة المراد المطلوب به محاسنة التوليف بالابتداء والانتهاء، ولذلك وجدنا رواياته الأخيرة ومعها رواية "نهر جاسم" أصبحت محط اهتمام الناقد والمترجم، لأن طبيعة المحاكاة في البنية الثقافية تحقق محور السرد حيث حركية الاختصار والجمع والمبادلة والتضاد في طبيعة الحالة النفسية التي اشتغل عليها الروائي باحترافية ممتعة، بحيز الكشف عن مواطن الجمال أو القبح، مما جعل من المفتتح يركز على اتحاد المعنى والزمكان بأيقونة واحدة لأن يكونا مبنيين على أسس ملموسة بالقرب المتاح، وهو ما جعل انتشار أعماله الروائية تتحد من خلال منظورٌ تأويلها، وهو تجديد لحالة المنطق القيمي الفردي كلٍ بطبيعته النفسانية، وبهذا وجدناه يعالج محطاته الفنية الإستيتيقيية أن تستدعي ظاهرتها الجمالية، فيطرحها مهيمنة على القارئ من حيث تحقيق شهوة القراءة، وهكذا يجعل الشق المادي في السرد الروائي معيونا في اهتماماته الواسعة، وللحق فأني أجد أن الدهشة ودلالتها المعنوية تشكل اختبارَ صيغ تحقق أسس موسوعة الأفعال المميزة بالحبكة والدهشة والغرابة الظاهرة الدالة على معنى بجواز جواباته النفسية، وهي بعيدة عن الوصف غير ذي صلة بالحدث، المُحسَن بالمجاز المعيون في ظهوره الموصول إليه بواسطة متعة اختصار التعميم الذي يقدم لنا برهانا يقينا بنوعية المحاكاة الدالة على الاعتبار والذوق.
أعتمد الروائي قصي عسكر في مسيرته الجنوسية على المقاييس المولدة للذكاء، بالاتجاه الذي ينضج سعيه بالكشف عن دور الفرد عبر اختبارات المعرفة النفسية، ليقدم لنا حكاية تندرج في صورتها الحسيّة اكثر الأسئلة جدلاً حول مستوى الذكاء، الذي يحدد مقياس المفهوم الثقافي الأسلوبي للبنية التي يعتمدها الكاتب بالمنحى الذي يحدد ماهية أشكال السلوك الموزع على بشرية الحكاية، من حيث ثقافة التنشئة المختلفة تلك التي تجدد انماط نمو التفاعلات عند كل فرد يصل به السرد إلى مديات طبيعة سلوكية مع مجتمعه، بعد أن يكون الفرد قد حقق المشترك بواسطة طبيعته الخاصة، حتى يكون التواصل مشتركا بالأفق المنظور في مقياس تحولات الذات المجردة، أو أنه يتمرد عبر تباينات يؤمن بأنها عوامل تظل على أنها محلية الطابع مجردة من الثقافة التنويرية للسلوك الذي يجعل من التطور الفردي عاملا انتاجيا للثقافات العامة حتى وإن خضعت لجدل انتاج المجتمع المتخلف، سواء أكان المرء يخضع عبر مفهومه للقواسم المشتركة التي تشتمل التضمينات الفكرية المجتمعية، أم يكون الخضوع بواسطة الاختلاف في المقاييس العاملة على توليد الآليات الممنهجة بسلوكية يحركها علم النفس، وهو ما أجده طاغيا في أسلوبية سيرة هذه الرواية، وهي تحقق الفروق المجتمعية الكيفية في أداء الفرد لفهم بعض الظواهر التربوية والسيكولوجية المنهجية بمقدار تأثيره على الجو المحيط بالفرد، وبهذا يدلنا د. محمد طه بالتوضيح الأكثر دقة في قوله: " يقدم علم النفس المعرفي منذ منتصف السبعينيات اتجاها جديدا في دراسة الذكاء يعتمد على معالجة المعلومات كإطار نظري عام لهذه الدراسة. ويحاول هذا الاتجاه أن يقدم تحليلا تفصيليا تتبعيا خطوة بخطوة للعمليات المعرفية التي يستخدمها الفرد في حل المشكلات أو اكتساب المعارف. أي أن المعرفيين يسعون إلى تفسير السلوك الذكي بالتعرف على العمليات الأولية الخالية من المحتوى فيه. أو بعبارة أخرى هم يسعون إلى معرفة أي نوع من أنواع آلات معالجة المعلومات التي تؤدي للضاهرة التي نعرفها بالتفكير أي وصف الشخص في ضوء مستوى وظيفية أدائه العقلي.*". إذن فالسلوك الشخصي يحدده الوعي العقلي وليس التباري اللساني، الذي يستدعي بالضرورة نقاشا مملا قد يعتبره المتحدث عامل الرفعة، لكن لو فحصنا الحديث اللساني نجده خال من المعرفة وتطوراتها الإبداعية، ولذا فالفرق واضح بين أديب تنوع في الأجناس الأدبية شعرا، وقصصا، ورواية، ونقدا، في حين نجد من أن يهذي كثيرا لا يمتلك في جعبته سوى اللغو الفارغ وهم كثر.
حركية الذكاء:
من المفيد جدا أن يتجه الروائي نحو منطقة الفروق في لعبة الذكاء الداعي إلى مزيد من سبيل تحسين بيئة السرد نحو الظروف التي تؤدي إلى تحديث مستوى العوامل الثقافية وذلك في اعطاء حداثية الصيَّغ التي يطلبها دور البطل في نشاطه الفيزيقي المادي، خاصة إذا كان تنصيص السرد يعمل على التعريض بالقول، من حيث ما يطلبه النسق الذي يحقق مثار الاختلاف في طبيعة الدور على الساحة السردية، فأول ما يفكر به الروائي هو أن يساقي المقاييس بين "المعرفة العفوية / وبين المعرفة اليقينية" كما فصلها ديكارت، وهو اتقان تشكيل الحواس التي تعالج نشاط الوعي وذلك بالصعود التدريجي على سُلَم الشخصبة المطلوب تناولها، من منطقة الوعي المحرض لمتخيل الذكاء النوعي، بالتعريض على انسجام مديات قياس النسبية حسب تسليط العوامل المثارة في الحدث، حتى يُحكم التجديد بالإجماع في طبائع صورة العوامل الوراثية المتاحة عند الفرد، فهذا وشبهُه يبتدئ به الكاتب لتأنيس المودة اليقينية تسهيلاً للقبول المعاين في اسئلة المتلقي، مع اختلاف وعيه بالقدر الذي تعينه ثقافته على فهم طبائع الذكاء المقروءة في النص، سواء أكان في جزئه أو في كله، لأن المحصل الادراكي يوصل الكاتب إلى أن يكون نصه غير معقد بل مفهوماً لدى القارئ، ولهذا يتعين على الكاتب أن يتواصل مع المتلقي بمفهوم التبادل الملموس عبر دقة المفاهيم، لأن الكتاب بمختلف جنسة ما أن يظهر إلى الوجود يكون بلا شك ملك القارئ، لأنه الوحيد الذي يساهم في نجاح هذا الانجاز أو ذاك.
وللتواصل في هذا الشأن يجب أن نوضح ما هو معلوم في صناعة الحبكة الروائية من حيث البنية الحقيقية للأفكار التي يجمعها الروائي خاصة في موجودية الأحداث، بواسطة التحولات الذاتية عند الفرد، والانعطافات الحاسمة بين المكان والزمان، ومعطيات تجسيد التأقلم مع الواقع المحيط وإن كان متنقلاً، فالتشكيلات الحسية التي يفترض أن يتعامل معها الروائي بدقة وحذر، لا تكون قطيعة بين الكاتب أو الرائي بينه وبين عائلة الرواية، ومن أجل هذه المعطيات نجد المتلقي يشارك الروائي الوصل الاستثنائي على المستوى الجمالي، بالاحوال التي يجدها مقنعة داخل مجرى السرد الخالي تماما من الأزمات الداخلية للنص العقلاني مثالاً رواية "نهر جاسم". أو اللغة المتمردة بعفويتها في رواية "وليمة لأعشاب البحر" لحيدر حيدر، وطبعا في هذا التكوين الروائي اسميه الناتج المعرفي المؤسس للحرفية المبادئية، وإذا احصينا آراء القراء نجد أن منهم من فهم النص الروائي على أساس أصله، والأصل في هذا المفهوم هو الكاتب ذاته، ومنهم من اعتبر الرواية لا ترتبط ارتباطا مصيريا بنجاح الروائي، لأن متطلبات الذكاء تتحرر في كثير من الأحايين بتأثير الظروف بمستوى التحول المباشر بطبيعة المجتمع، كما عبر عن هذا كارل ماركس في قوله: " مستوى الفرد يحدده المجتمع*". كذلك أشار إلى هذا المفهوم ديكارت بقوله: " إن الإنسان عندما يكون طفلا أو تلميذاً صغيراً فإنه يكون واقعاً تحت تأثير محيطه وأساتذته بشكل كامل، وبالتالي فهو يتلقى القناعات والأفكار بشكل سلبي لأنه منفعل لا فاعل. *" إذن لابد لكل أديب من مدخل يمثله يتواصل به مع المبتكر المختلف ويكون هذا على وجهين:
أولاً: لكل جنس روائي يحتكم بطبيعته إلى الفروق بين الناس بالعلاقات والميول والرغبات، ولذلك يختلف الروائي بحكايته منفتحا بها على مجتمع يرث عاداته وتقاليده وثقافته وتاريخه في ذاته، فيكون واقع الأمر عند الكاتب معاينا بالاتجاه المعرفي للصور الناتجة عن الاختلاف.
ثانياً: الحوار السردي مع الفرد وخصائصه النفسية والتعرف على جوانبها البصرية والمبدئية، وما أتضح في معيونها البائن المتعلق في مقدار المعرفة، وعلم البيان، والقيادة، والخطابة، والتنوير التطوري في معاينة المستوى الروائي.
وما يدخل في هذا التدريج سعة القبول به سواء أكان قارئا أو ناقدا أو محبا لهذا الجنس الأدبي، بمعنى ما يدخل على الكاتب من تخصيص اتصال معرفي ليكون شرطا يحقق المقبولية بما ذكرنا ليكون القارئ متصلاً وغير منقطعً.
التلاقي والاِنصرام:
الكثير من الروائيين العرب يفتقرون إلى الحبكة التي تُفَعل الأداء القياسي في مفهوم أسلوبية التدوير الذكي، بالمستوى الذي يعمل على نشأة الاتجاه النفسي للبطل، من اعتباره الموعز للتنبئية للمفاهيم الأساسية المصممة للذكاء في بعده التخيلي، الذي يولي قدرا كبيرا من الاعتبار، وفقا لمنحى الخصوصية الشخصية وحقيقتها الجوهرية المبتكرة لعلم الاختبار والتكوين القيمي للنص، ولهذا يشير صدق الاختبار "Test Validity " ما هو مصمم لمفهوم تلك الحكاية المأخوذة من مجتمع بعينه، يدلنا الناقد د. وهب رومية إلى أن " المحادثة أو النقاش منح هذه السيرة الرائية فضاء فنيا رحباً نظرا إلى شموليتها واختصار عدد الشخوص، وغزارة أحداثها، واتساع رقعتها المكانية، وامتدادها الزمني، نظرا إلى حضورها في الوجدان الشعبي*" وبالتالي فإن التلاقي في المفاهيم المجتمعية يبعد الانصرام عن طبيعة السرد المحكم بقدرة الذكاء الذي صممته الصيَّغ المعلنة في تحديد سياق العلاقات الكلية بالمتغير الداخلي بواسطة مستوى التأثير للنواحي التطبيقية بدواخل المضمون، ومن ناحية أخرى فالارتباط بما يحققه الروائي الحداثي الشيخ عسكر الذي نحن بصدد تناوله في دراستنا المختصة بالرواية العربية، قد حقق لمثل هكذا مستوى ترقية الترقيم المادي بالعلاقة السببية المؤسسة لتنبؤ كدرجات الاختبار المبتكر في انتاج السلوك العابر للممنوعات والتحذيرات والسلوكيات المطبوعة على أساس حساسية التكوين الوراثي، من أجل إثبات تحديد آلية العلاقات التي تورث الفعل اليومي Mechanism of Action عبر أدوات الكاتب العابرة بمفاهيمه التحديثية، وعلى أساس هذا النحو اشتغل قصي الشيخ محققاً لسرد الرواية العربية الاختلاف الواضح في ظهورهُ المعيون بينه وبين الروائي الآخر. ومن أجل هذا سيقت ذاتية روايته "وأقبل الخريف مبكرا" نحو سلطة الناقد والمترجم والناشر.
ومن أجل هذا يجمعني أسلوبي النقدي الثقافي الخاص الخالص بي معاينة رواية قصي عسكر على أنها تمثلت بالبدائل المختصة بالتحريض على توليد الذكاء الانفعالي النفسي، وذلك في تشخيص الشخصية المركبة المتفاعلة مع احتياجات الحياة اليومية، التي لها تأثير ملموس على إنجاز الاتجاهات السردية التفاؤلية المؤسسة للمهارات الفنية، التي تدفع النص لمؤهلات الابتكار القيمي بتطويع علم الذات التحاوري الهادف إلى تحريك المضامين العاملة لقياس النشاط الفسيولوجي على تدريب المشاعر المهتمة بتأثير براعة النص الفني، الذي تتماهى فاعليته لمأسسة توليف الجمل السردية المختصرة على حركية الاستثارة، أو تماسك العبارة كما لو أننا قلنا كما قال الآمدي: "هو اللفظ الدال على مدلول شائع في جنسه*" وهو علم شائع في أصول الأحكام تناوله ابن مضاء بالشرح المفتوح على نوعيته، كذلك رسخ مفهومه الجرجاني، وابن عساكر، ولهذا فنحن محل اختبار لأبعاد نقدنا عن المديح كما هو معيون عند الكثير من "النقاد"، ولي أن أشير إلى أنَّ الحكم الايجابي لا يعني المديح، والحكم السلبي على النص لا يعني الانتقام لهذا الرجل، أو تلك المرأة، وإن اختلفتُ مع البعض في جواز إجراء حالة الأحكام على النص، تجدني ملبيا لمشروعية الاجابة أو المنقودية.
خاتمة المفتتح:
كما سبق لي وأن قدمت الجليّ من الأفكار النقدية التي تحتكم إلى خصائص تمركز المفاهيم الصوتية المدورة في مضامين الوحدة الأجناسية الأنواعية، التي تسمح موالفة الفنية كمحرك أساسي للكشف عن مميزات ترتيب الوحدات السردية نظرا لاختلاف مركزية الجنس الروائي العربي الإحداثي، بواسطة علم المقصدية التنويرية المدركة لحركية الفعل الطامح باضاءة تحاور وتستدرك موضعة التمثل النوعي الثقافة النقدية التي اختص بها اتجاهي النقدي، خاصة في قيمية الأصول الفنية والحركية التي أشرتُ بها إلى المستنبط المنصوص عليه بين الكاتب وقراءه، مما جعلني أن أكون حذرا وقطعيا من إثبات طريقتي في منطقة العلاقة بيني وبين فحوى حركية النص، مهما أختلف جنسه، نظراً إلى أنَّ الاختبار جار بالاتفاق على جواز معالجة حكم يؤكد ارتباط الرواية بمحيط البيئة المنتجة لطبيعة الأحداث، أي ما تم تسميته باسلوبيتي الفنية النقدية ب الاتفاق المجرب، وعند ذلك نقول إنَّ القياس لا يكون قياسا إذا زحف نحو الضعف ترجُّحه، لأن الترجح كما اسماه القاضي عبدالجبار: "شرط الاقتضاء*" وقصي عسكر عمل بإمعان على تحقيق الابتكار بدلا من النسخ بفحوى تصوير الشيء التابع للأصل مع ضيق المتنوع، وهذا الأثر لم يتم تحقيقه إذا لم يكن الكاتب على بينة من أن فحوى المضمون من الأصل يحقق تجميل الشكل، بمعنى كون أن دلالة المنطوق يعمل على فحوى اختلاف الجنس الأدبي بقيام الملاقحة الثقافية بشكلها الثابت والمتحول، هذا إن لم يكن تابعا لحرية المعاينة الدقيقة للغرض الأصيل، فيكون الفصل ملحوضا بين الشكل والمضمون، حيث يتم عليها رفع الحكم المندفع إلى المستنسخ، لأنه لا يلزم منه معرفة نص بعينه، مما يخل في الغرض إلى حيث الإشكالية الفنية، وبهذا يمتنع معه بقاء حماقة العلاقة المؤثرة في تداعيات القارئ بدلالة قوته أو ضعفه، كما يقول برشت: " جمع الصدق والحقيقة تقنية تحطم الأوهام وتدور متغيرات تحليل الأحداث نفسها، فالبطل الضد يحاول مرات عديدة أن يشكل حياته بطريقة منطقية*" ولأن قصي عسكر حقق للرواية العربية تجديدا مقبولا بحكم توزيع الأدوار على أبطاله، ومنح كل منهم الطموح المستقل بحقيقة على المرء أن يواجه نفسه.
أنني لا اسلم أنَّ رفع أصل القياس على أن قصي عسكر حاكى السرد الروائي بمنطوقه الشعري كما شُرِحَ من قبل الذين تناولوه بنقوداتهم فوجهوا بآرائهم الحكم غير الدقيق المجرد غير المبني على أساس نقدي حكيم، بأن هناك بعض خصائص تعتمد التعريف البصري بدلا من قياس المهارات التقنية والفنية التي تتلاءم مع شخصية الروائي عندما يعجز عن خلق صورة سردية تتفق مع الصورة الشعرية خاصة إذا كان الكاتب يمتلك إبداعية الجنسين أي الشعر والسرد الروائي، فيكون الحكم أن يفصل الكاتب الحالتين الأدبيتين عن بعضهما البعض كلٍ حسب ميولها التنظيمي في بنيتها الداخلية، وبعدها الفني التخيلي الذي يعتمد مداد الجملة وتهذيب تقطيعها حسب ما يقتضيه الحوار أو السرد في ترتيب الحالتين، فإن كانت صورة النص تابعة لدلالة الفحوى، فقيام الأصل حاصل في الامتناع وهذا مما يخل بالغرض من دلالة عضوية الجنس، ولهذا يندفع النقض حتى يلزم انتفاء الأصل من منظومه القائم على أساس فقهه، لأن كلا الحالتين تمثلان الفرع من الجنس الأدبي، وأنَّ الخلاف معيون بحكم الضبط القائم في نسيجه الفني، والجواب على كل هذه التساؤلات يتوضح لنا عندما ندخل عمق حالة الخلاف حين تبلغ حرية الدلالة اللازمة للحكم الواجب توضيحه وتحليله في دراستنا هذه التي تعتني في الإثبات ولزوم انتفاء الملزوم عن ما ورد في دراسة سابقة عن الأديب قصي عسكر، ونحن هنا ندخل الرواية الثالثة في تناولنا لها:
الرواية:
وأقبل الخريفُ مبكراً هذا العام:
إذن هي الرواية السادسة بعد المرحلة الواقعية طبعت في "2011 / شمس للنشر القاهرة" للروائي قصي عسكر. بعد أن تعدد الزمن الإبداعي في مسيرته الروائية على معالجة المواضيع في محضورها المصمم بذكاءٍ يحدد المهارات اللازمة للنجاح في مجتمع غربي يحتاج فيه الروائي إلى مكننة تنمو رويدا رويدا في العقل المبتكر، لمواجهة حضارة مجتمع يبلغ ذروة التطور الإنساني، بينما يأتي الروائي من مجتمع فلاحي قلما نقول فيه مجتمع محافظ من ريف البصرة / التنومة، وفي هذا يجد قصي عسكر نفسه أمام مقاييس يجب أن يدخل إلى نمطها الغربي معتمدا على ثقافته الواسعة في محورها الأنكليزي، باختيار عنوان روايته التي تمكن من بناء أدواته في تراكيبها الداخلية، خاصة في قياس الذكاء المستخرج من النوعية المختلفة في مساحة تعدد كتاباته الأدبية شعرا وقصة ورواية، مع أنَّ الصعوبة في الوصف السائد في أسلوبية السرد الروائي المحتمل تطوره يتسع في المفهومية التي يطرحها الكاتب نفسه، متفاعلا مع الأحداث من حيث بنيتها وتشكيلها ووعيها الدلالي الايضاحي، ليكون الكاتب يكتسب مهارته من الملامح الشكلية للمكان، على حساب المضمون غير الواضح في بداية اللازمة السردية التي شابها الوصف بالمعنى الذي لا يحكم الكم والكلم الممكن بنيته بواسطة الحبكة الذاتية بتقنياته المُحدثة في أعماله، لأن الراوي في هكذا قياس دقيق يحتسب بنية النمط القادر على الدخول إلى المضمون عبر مساقات علومه باجترارية تعمل على حث الوعي المكتسب والمتشابه لاختبارات بينية ضامنة.
لمسة إصبع واحدة قد تحرق العالم:
" إذن أنا أجوس الشوارع النحيفة المنسابة بين القبور وأنت هناك ياسيد يوهان ترقد في فراشك تتطلع إلى السقف أو لعلك تغفو وقد تحملك رجلاك لتخطو نحو الشباك فتلقي عليّ نظرة من علو أو إلى ذلك المكان الذي يرقد وسط حصن متين كدرع سلحفاة صلب.كم مررت بهذه المقبرة أحث خطاي على الرصيف لأمر ما، ولم ألتفت إليها...كان الزمن ومشاغل الحياة ومايدور برأسي يبعدني تماما عنها.. لايهمني اسمها أم في القرن الثامن عشر تم بناؤها أو القرن الذي يليه..يمكن أن أسميها المدينة المقبرة السفينة...السلحفاة المدرعة.أقوى مقبرة في العالم. كيف تدب القوة في عظام نخرة وتتدرع جثث هامدة ذابت في التراب. في زمن الحرب يمكن لأي مغامر أن يضع مادة شديدة الانفجار في جثة فتنطق بعد حين عن دمار وخراب و في زمن غير زمن الحرب الرديء المحمل بالكوارث يمكن أن تحاط الجثث بالنكبات.. الحق تعجبني ابتسامتك،ولثتك الخالية من الأسنان. إنها تذكرني بلثة عبد الله أيام المدرسة الثانويّة، نحكي النكات من أجل أن نضحكه أو نجعله على الأقل يبتسم فيكشف عن صفحة فم سوداء نخرة خالية من الأسنان.. لهذا السبب أطلقنا عليه لقب عبد الله اللوريني تيمنا بالممثلة الشهيرة صوفيا لورين الرقيقة ذات الابتسامة الدافئة..عذرا إذا قلت ذلك عنك في غيابك حين اجتيازي باب هذه المقبرة التي دخلتها قبل جثمانك المفترض.كم مرة مررت بها على الرصيف من دون أن أشعر بوجودها ،وربما جلست على بعد خطوات منها في المقهى المطل على البحيرة أحتسي الشاي وأتطلّع في البجعات والأورز والحمام والغربان، ،وفي بعض الأحيان أذهب إلى المكتبة على الرصيف الآخر فأعيش مع الكتب وأنسى أنها قريبة مني".
لعل أكثر الأعمال تمثيلا للحداثة عند قصي عسكر هي تلك الروايات التي صبت براهين خصائصها ووظائفها بالأدب الواقعي، معتمدا على الوحدة السردية الثابتة في رصد العناصر المتطابقة مع الحدث اياً كان نوعه، كما يبين لنا المؤرخ ديفيد هيوم كيف يعالج البرهنة: " أن بأمكان المرء تحليل ما لديه من أفكار مركبة وردها إلى الأفكار البسيطة*" وبهذا ممكن أن اسميه السياق التجاوري بمستوى تثبيت الأنساق المكانية والزمانية بالفنية الممكنة، حيث يتم بلوغ تفكيك الحالات المجتمعية بافعالها وغاياتها لإعادة رصها بالتصورات الحياتية التجريبية الأولانية كما يراها كانط، تلك التي تثبت امكانات واقع يكون فيها الحدث الحقيقي يصب في متغيرات الظواهر اليومية، وبهذا يدلنا إلى أنّ الملاحم التي تحدث هزة في التدريبات اللغوية، هي ذاتها التي تستحدث الأفكارالمتفاعلة بطابعها المتقارب، حتى يأخذ السرد سياقا متماسكا ومركبا يسمح لأن يكون عاملاً لربط الأحداث ببعضها بماهية تعبر عن الهدف الحقيقي للحياة، ليكون المتغير الواقعي حالة دمج المباشرة اليومية المتشكلة عن طرق الحواس بين الماضي والحاضر في قول ما يدلنا عليه الكاتب: " إنها تذكرني بلثة عبد الله أيام المدرسة الثانويّة، نحكي النكات من أجل أن نضحكه أو نجعله على الأقل يبتسم فيكشف عن صفحة فم سوداء نخرة خالية من الأسنان.. لهذا السبب أطلقنا عليه لقب عبد الله اللوريني" ومثل هذا الاستسقاء نجده يعلن عن نفسه في الحقائق المصنوعة صنعاً اختبارياً، تلك التي تسمح بإقامة حوارات تجسد الحالات الخاصة، وإن كانت في سياقها الغيبي كالموتى ومقابر ترتبط صورتها بالوصول إلى تحويل الشخصية إلى حوار ذاتي كما نتصوره في مفتتح روايته: " إذن أنا أجوس الشوارع النحيفة المنسابة بين القبور وأنت هناك ياسيد يوهان ترقد في فراشك تتطلع إلى السقف أو لعلك تغفو وقد تحملك رجلاك لتخطو نحو الشباك فتلقي عليّ نظرة من علو أو إلى ذلك المكان الذي يرقد وسط حصن متين كدرع سلحفاة صلب .." فتكون الانساق تتجاوز المسار الطبيعي للأحداث والمعايير الراسخة بالمكان، مع نقل الزمان حيث يكون التأمل الملحمي الوصفي مفتتحا أنموذجيا للرموز المتحولة بفعل الاعتراف بالمختلف المجازي الذي تتمايز صيَّغه تمايزا واضحاً.
قد تكون اسوأ الأمور أجملها:
" لماذا نسيت الإشارة؟ هل أقول أني رأيت "تيرينا" التي انتشلتني من شرودي واقفة عند مدخل محطة "الاستر بورت" فلوحت لها عن بعدٍ، الأمر الذي جعلني أنسى إشارة الوقوف... كنت على وشك أن أجتاز المقبرة التي تجاهلتها طوال هذه المدة. لاأدري..ولا أظن أن سقطتي تدل على علامة شؤم. لاشك أني رأيت غربانا على الأرصفة والمتنزهات المحيطة بالشوارع تلتقط الحب مائلة بنظراتها نحو أي عابر، وعندكم قرأت في السنة الأولى من تعلمي للغة والتاريخ أنكم تحبونها وأنها حكيمة ساعدت آلهتكم يوما ما..رأيت البوم على مشروباتكم الوطنية وإعلاناتكم البوم والغراب.. عدوانا القديمان نحن العرب.. مع ذلك ركبت دراجتي وبحلقت بعيون الغربان. كان أمامي وقت طويل على الموعد المنتظر.. يوميا أفطر في البيت. فنجان قهوة وقليل من الكعك.. اليوم نشوتي بالعمل اقتلعتني من جذوري، فأفطرت في "سكالا" والقيت من زجاجها نظرة طويلة على مدينة الألعاب.. المحلات الراقية.. الملاهي.. مدن اللهو.. القبة السماوية.. معرض الأسماك كل المعالم ذات الرسوم الغالية التي صحبتني إليها المدرسة ومراكز اللجوء سيكون بإمكاني الذهاب إليها..بدأت أتخيلك.. رسمت صورة لك مستوحاة من حفيدتك وعندما حضرت صورتك إلى ذهني نسيت ابتسامة عبد الله صوفيا.قد يكون كبرك والمرض هما اللذان حثا ذهني على أن أبتعد عن السخرية.غير أني سقطت.عثرت وأنا في طريقي لملاقاتها قبل أن آتي"
تبلورت الواقعية الحديثة في الرواية العربية على سياق سار عليه الأوروبيون في القرن التاسع عشر والقرن العشرين أمثال مكسيم غوركي و غابريل و الروائي التركي اورهان باموق، باعتبارها ألحت على البنية الداخلية بحوار يمتع الشكل إلى تكثيف أكثر في الجانب اللغوي، وقصي عسكر واحد من هؤلاء الذين متعوا وحدة النص باسقاط علمه اللغوي عليها وذلك بتنزيل النسبي على الواقعية وحل رموز الصور المغلقة، فاتاح للنص انعكاسا جامعا للإلحاق بالمتغير اليومي، متجاوزا المثالية السردية المنقطعة عن حركة العلم ونبض الواقع، الذي يلح على أن يكشف شيئاً جديداً إلى ما سبق متصلاً بالمشكلات المعاصرة، فقوله المبني على وحدة الاختيار الأسلوبي جاء يساهم في تحقيق ثنائية الحركة والتصرف:
" لاشك أني رأيت غرباناً على الأرصفة والمتنزهات المحيطة بالشوارع تلتقطت البذور، مائلة بنظراتها نحو أي عابر، وفي كتبكم قرأت في السنة الأولى من تعلمي للغة والتاريخ انكم تحبونها كونها حكيمة فقد ساعدت آلهتكم يوما ما "
في هذا الحوار الداخلي للذات الساكنة بوحدتها والتي تعني المعيون من الرمزية المثالية ذات الخصوصية المعقدة، ترد على الافتراض بسياقه الوصفي حيث يُمَكْن للسرد أنْ يحشد القواعد في علم التركيب النظري، الذي يتوافق مع حوار يمكن أن ينحاز به القارئ للكاتب على أساس التلاقي على مساحة واحدة في علم الأسلوب، الذي يبلغ فيه البناء السردي ذروته، بجمل تترابط وظائفها بالاصوات الفنية، في نظام ينفتح على المدلولات التي تشير إلى طبيعة العلاقات، خاصة وأن القيم التعبيرية للأصوات التي اختار لها الكاتب الرمز "الغراب" التاريخي بافعاله وسلوكه، مُذكرا به الآخر الأوروبي بأنكم تحبون الغراب، مع أن الغراب كانت ولادته الأولى في الشرق، وفي زيارة من قبل مستشرقين إلى بلدان الشرق الأوسط نقلوا الغراب معهم كونه طيرا غريبا يحاكي عالمه وعشيرته بلغة فيها شئ من الحذر والتوجيه والارشاد، ولهذا بقي الغراب بذاته النبوية الارسالية في جوهرها على صلة وثيقة بالإنسان، وقصي عسكر على صلة قوية بالحكاية الاسطورية على اختلاف مضامينها خاصة في ترابط النص الروائي لأنه أوسع مساحة عضوية من الشعر والقصة القصيرة، وبهذا وصلت العلاقة بين المؤلف والسرد جزءا لا يتجزأ من التراث الفكري لمعيون لا ينقطع، مادام الطير الأسطوري جزءا يرتبط في بنائه مبنى ومعنى بالحياة البشرية، خاصة في المنهج النفسي الذي عاينه وحققه فرويد صاحب نظرية التحليل النفسي: " هو ، والأنا ، والأنا الأعلى ".
ولأن حاصل الفنية الروائية بهويتها الأصلية التي حققها عسكر تترابط عضويتها البينية بين العربي المثقف الاجئ، وبين مواطني بلد اللجوء، فاعتبر المجمل حامل لشخصية السيدة "تيرينا" التي حذرت البطل أنْ ينتبه إلى إشارة المرور، تلك التي لم يعمل بها في بلده العربي، وهنا يفاجئ بالحضارة المبنية على المحافظة على قواعد نظام العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا رفيعة العلم المتميزة بترتيبها العلمي، وفي هذا السياق اللغوي حيث يصعد النظام النحوي ذروته بالأثر البنائي المركب على ضوء توفر العناصر المحورية التي تورد المستوى الأسلوبي لتجعل من المحتوى الفني قابل للوصول بالأحداث إلى مبتغاها بأكثر حداثة كما هو وارد.
ويستمر الروائي بسرد الحكاية الذاتية المعمول لها أن تكشف لنا عن فحص الجذور المدمجة بركب البطل ومسيرته المعنوية، فيكون السرد بمثابة التمثيل العيني الصوري السائد في دول اللجوء، وكأن قصي عسكر يعاين الوظيفة التقويضية كما فعل الكثير من الروائيين أمثال دستويفسكي، وهوفمان، وإدجار آلان بو، و أميل زولا، تلك الأعمال التي حللها وفككها باختين، ونحن نتابع متعة السرد في هذا المقطع نتذكر الأعمال الروائية العظمى عند قصي عسكر.
لا جرم فبعض الأشياء المخيفة يفضحها عطرها:
" اجتاحتني نشوة ما لحظة فرح أخرى، ما أصعب حيازة عمل في الدول الاسكندنافية للاجئ يحط رحيله على تلك الأرض في عقد الثمانينات، ومع هذا كنت موفقا بأن نصاب عملي أخذ يكتمل، والحق إن الذي شجع تيرينا على الحديث مع خالة أمها ما رأته من اهتمامي بجدها، فلم أتعامل معه وفق نظام الساعات قط، كانت هناك علاقة حميمة تربطني به، فأضل احيانا اتحدث معه ولا أغادر الشقة حال انتهائي من العمل عنده، ولم يكن من واجبي الذهاب معه إلى المقبرة، بدوره كان يوهان يملأ عليَّ فراغاً، أي فراغ، ماذا أفعل في البيت بعد ساعات العمل؟ أقرأ كتابا؟ أشاهد التلفزيون أم أخرج إلى الشارع أتيه في جو ضبابي لا حدود له، الجنس نفسه كرهته وعافت نفسي الذهاب إلى الديسكو ومعاشرة أي فتاة، في أي مكان أذهب إليه أجد منشورا يحذر من تفشي وباء الأيدز الجديد، في مكاتب البلديات والمدارس نماذج من مانعات الاتصال تقدم كهدايا لمن يرغب بممارسة الجنس، فيما كانت الحرب تفتك بالناس في العراق وإيران، وفي أوروبا الوحش المخيف البشع الذي حذرتنا منه مكاتب البلديات ودور السينما."
في نطاق إدارة النص وبما يترتب عليه اختلاف تصنيف الذكاء بين روائي وأخر خاصة في تلازم الجمل الصوتية في المحركات الأساسية للصورة، التي تعاين القدرات الفعلية عند الكاتب بالمقدار النوعي في وسائل قياساته، خاصة إذا جاءت تلك الجمل غير مكررة للمعاني والتفويف والملاقحة المعنوية والصيغ الكلامية، التي تعتني بتطورات القياس اللغوي حيث يؤاخي أساسيات الذكاء بجانبها المعرفي، كما فعل ابن الجوزي بالنظر في استنبات ظاهرة علم النفس في نشوء أسلوبية سردية تعتمد المقاييس التي تعمل عل نشوء الاستمولوجيا بتطورات علم الجمال المحرك للمحسوسات ومدركات العلاقات العقلانية المجتمعية، بوصفها تطبيقاً يستثير ملمس الوعي السيكولوجي بما يحدده العقل من مبادئ وقيم بالمنشد الذي يتماشى مع ضرورة إشباع حاجة الفرد للتمتع بالوجود كعمل البطل مع الناس العجزة، فتكون العلاقة الجمعية تتوزع بين بعدين أو ربما أكثر حسب وعي الكاتب، وهما البعد النفعي، والبعد الرمزي، وكلاهما محاط بالبعد الجمالي، وهذا يتم بحالة تنظيم وضبط السياقات الفكرية التي تحرك المراحل الرؤيوية بجوانبها السياقية، كما فعل سقراط مع جولكون في الكتاب السادس من الجمهورية قوله: "ففي وسعك أن تجد ما يطابق هذه الأقسام الأربعة في الأحوال الذهنية الأربعة الآتية، فالعقل أرفعها، والفهم هو التالي له، والاعتقاد أو الإيمان هو الثالث، والتخيل هو الأخير، وفي وسعك أن ترتب هذه الأحوال بحيث تفرد إلى كل منها درجة من الوضوح واليقين تتناسب مع مقدار الحقيقة التي تملكها موضوعاتها*"، ، وطبعا يعتمد هذا العلم على قدرة الكاتب الذي يعتمد الوضوح المنظور في نسبة الوعي سواء أكان في الوضوح أو الغموض كل حسب تمثيلاته الواقعية كالكائنات العاقلة وغير العاقلة، التي صنعتها يد الطبيعة، أو علاقة الصور القصية المجازية المحاطة بالتراتبية التقنية في قول أفلاطون: أن هذين القسمين من العالم المنظور يتناسبان مع درجة الحقيقة، حيث تكون الصورة بالنسبة إلى الأصل بمنزلة موضوع الظن بالنسبة إلى موضوع المعرفة*".
تشكلت الصور التي تعاين دائرة اللاجئ العربي في بلدان اللجوء عند قصي عسكر على انها اضطرابات نفسية تبحث عن فرصة عمل تشغل الفرد عن هموم يومه المصاب بالقلق، فقد كان من الطبيعي أن يتطرق الروائي إلى الاهتمام بجعل الذكاء حالة أولية لتحصيل فرص تربطه ربطا ديالكتيكيا لفهم طبائع وتوجهات الفرد الأوروبي لأمكانية التعايش السلمي، فكان البطل يحرك نشاطه الفكري بمسعى يحقق له مكانة مؤثرة في المجتمع الجديد عبر أصدقاء له، من أجل توليد مسلمات ترتبط ربطا ميتافيزيقيا مع ممن حوله في المكان التحولي بحياته مثل تيرينا ويوهان المقرب من البطل والذي أصبح مؤخرا بالسيد العاجز، وهنا نقرأ: " ما أصعب حيازة عمل في الدول الاسكندنافية للاجئ يحط رحيله على تلك الأرض في عقد الثمانينات،" ولأن الزمن حصل ليكون مقررا لحالة تاريخية تؤكد رحيل البطل إلى المكان الآخر، وكما قال أفلاطون: "إلى أن أولئك الذين يشتغلون بالحساب والهندسة يبدأون بتوليد الزوايا والكم والرقم" وهذا ما تحقق عند عسكر في روايته التي نحن بصدد تناولها بالتقطيع الدللالي فيدلنا على أن نبصر منظور حالة النفس إلى تأمل المكان بكل حالاته المجتمعية والاقتصادية والثقافية ونسميها الموجودات المعاصرة التي تآلف معها البطل المعاصر بقوله: "ومع هذا كنت موفقا بأن نصاب عملي أخذ يكتمل، والحق إن الذي شجع تيرينا على الحديث مع خالة أمها ما رأته من اهتمامي بجدها، فلم أتعامل معه وفق نظام الساعات قط، كانت هناك علاقة حميمة تربطني به." وبهذه الفنية تحصل المشاهدة المركبة كعامل ضمني في تطويع الآخر لكي يبقى هو في النور الخاص به فتكون الحقيقة كإحدى المسلمات الذكية في السيطرة على المكان عبر الزمان المتحول. ومع أهمية هذا الجهد التقني نجح الروائي بالانتقال الضروري إلى ما يؤنس القارئ ألا وهو الحب، فنقرأ وهو ينقلنا إلى شهوات رغبات النفس بقوله:
"بعد سنين من الرهبة والخوف التقي امرأة رائعة الجمال، جسد ناعم خصر مذهل ، وكلي احساس ورجفة، وجدتها باردة لا تتحدث كثيراً، غير أن الجد يوهان كان على خطأ، حورية البحر التي انتظرتني لم تكن عذراء، ولم أكن أنا أول رجل في حياتها، لكني كنت أعلل نفسي بحجج شتى، قد تكون فعلتها مرة واحدة لا أكثر، ثم أخذت تنتظر فارسها حتى وجدته، أو ربما تعمدت أن تهتك عذريتها بيدها كي تثبت أنها امرأة مثل بقية النساء"
وهنا ننتقل إلى العلاقة بين الذكاء والعلاقة العاطفية المختلفة، وتحديدا في مبدأ مقارنة القياس الاجتماعي الأول في وطنه الأم، إلى مجتمع موسوم بالرهبة والخوف في دولة اللجوء، أي المكان الثاني وهنا وجد المرأة الجميلة بخصرها المذهل، لكنها غير عذراء، وبالتالي فإنه مع الاختلاف بين المكانين تصعب المقارنة، خاصة وأن البطل ميال للحضارة، لذا فهو متحرر بالمفهوم المعني بوسائل القياس في مفاهيمه المتحضرة الخالية من العقد المجتمعية، ومن أجل هذا وجد نفسه يطبق الاختبارات ليبرر لحالته النفسية معنى حرية الاختلاف، لأنه يراعي حكمة ثقافته بتأثير العوامل النفسية التي يقيسها مختبره الذاتي، فأخذ يجد لها المبررات بواسطة المعاينة التي يحرك حاصل الحكمة لغاية تلاءم طبيعته المجتمعية الأولى، وهو ما يفيد من ملائمة قناعته الشخصية، التي تتطابق مع المعايير والمستوى العقلي الذي يؤمن به، بالمستوى الذي يحدده هو في مفهومه العاملي الثقافي المختلف، لكن هل هو مقتنع بما ذهب إليه من تحليل أو مبرر يعفيها عن معتقداته الصعبة التي تربى عليها، وعلى هذا الأساس فإن البنية في طبيعة الذكاء لم تكن موفقة لأنه قال: " لكني كنت أعلل نفسي بحجج شتى، قد تكون فعلتها مرة واحدة لا أكثر، ثم تنتظر فارسها حتى وجدته، أو ربما تعمدت أن تهتك عذريتها بيدها كي تثبت أنها امرأة مثل بقية النساء" هذا المفهوم هو أحد أهم الأسباب التي حددت جوانب قياس الانتقال التطوري في مستويات ثقافته المختلفة، لكن قد يكون هذا الايمان ايمانا سطحيا لأنه غير مقاس بالدقة، خاصة وأنه لا يعرف جيدا تاريخ تلك المرأة. وهنا نقرأ الحاصلة:
كثيراً من النهايات تأتي بعكس ما نتوقع:
"توقفت عن دلك جسد أنميتا التي لم تصمت عن الصياح، بجملتها المعهودة: كلهكم أشرار، أنا أعرفهم، ونفضت يدي من رغوة الصابون حين دخلت الحمام مديرة الدار لتخبرني أن هناك شخصا على الهاتف يطلبني، توقعت أنها تيرينا لكنه صوت مريته هولم جاءني متهدجا حزينا على غير ما عرفته عنها من مرح ولطف:
- مات السيد يوهان!
– ماذا تقولين؟
- اليوم زارته الممرضة شأنها كل اسبوع فوجدته..
– أين تيرينا؟ - غادرت مكان العمل إلى المشفى
"لم أكن لأصدق الخبر فقد غادرتُ شقته بالأمس وهو بأحسن حال وكأنما الموت ابتعد عنه سنين طويلة، وكانت الأيام تسرع كحصان يصعب كبح جماحه، وأنا أراقب صحة يوهان المتردية ثم فجأة انتفض بصحة لا غبار عليها، الحق أذهلني منظره وهيئته، خدان متوردان، حيوية ونشاد غير معهود حتى إني رفعت بصري إلى الصورة القديمة للطيارين اللاجئين متأولا وجوه أحدهم فيه، ها هو يستعيد شبابه، فلا شك إنه يحقق معجزة الحياة من جديد، لحظتها تذكرت زهوي.. إنك تموت بهذه العجالة أمر بعيد عن الاحتمال ولعل علاقتي الجديدة بحفيدتك منحتك أملاً دفعك خطوة باتجاه الحياة، منذ تلك الليلة التي باتت عندي، واتصلت بك من شقتي صباح اليوم التالي عبر الهاتف والتفاؤل والبسمة لا يفارقان وجهك وكأنك تشكرني من اعماقك، قلتُ أطري على تحسنك المفاجئ."
يعتمد الروائي قصي عسكر على بنية الجملة المتصلة من ذات نفسها، بالجملة التي تسبقها كونها تحقق البنية الواحدة لتمنح المتأمل وضوحا أكثر دقةً، بكونها تشكل انطباعا حسيا بالملاقحة السردية التي تؤكد تفسير المضامين نحو تفويض استدلال المحاسنة النفسية للمعاني حيث تعمل على ترتيب الأشياء بعضها مع بعض، الناتجة عن المتغيرات الطبيعية فرادا وكماً، على أن تكون مفهومة للقارئ، وهذا حاصل حتى في كتاباته القصصية والشعرية، وبكل هذه الحالات نجد قصي عسكر تعامل مع المجتمع الذي يعيش فيه بحرفية النقد الايجابي في علم الاجتماع في قوله: " توقفت عن دلك جسد أنميتا التي لم تصمت عن الصياح، بجملتها المعهودة: كلهكم أشرار، أنا أعرفهم،" في علم الذكاء يقول د. محمد طه "إذا كان لدينا درجة قصوى ونهائية للاختبار فإن هذا لا يساعد كثيرا في حل المشكلة*" وهكذا فإن التحليل العاملي مع مجتمع متمدن ومثقف يتمتع بتحرير ذاتي سيكولوجي مرتفع بحالته الإنسانية، وهنا تحققت مهمة الروائي حين اشار بها إلى الصفات في سمة الفرد التي تدله من خلال ثقافته الخاصة إلى تحليل الأداء العقلي في المفهومية اليومية للإنسان على اختلاف درجته النفسية سواء أكان الفرد مختلفا في مقياس درجته الثقافية المعرفية، أو هو الفرق الكيفي والكمي في الأداء، وهنا يقول سيف الدين أبي الحسن الآمدي حول الشُبَهُ الخاصةُ بالمجمل: "لا فرق بين الخطاب باللفط المجمل الذي لا يعرف له مدلول من غير بيان، وبين الخطاب بلغة يضعها المخاطب مع نفسه من غير بيان، وعند ذلك، فإمَّا أن يقال بحسن المخاطبة بهما، أو بأحداهما دون الآخر، أو لا بواحد منهما، الأول يلزم منه حسن المخاطبة بما وضعه مع نفسه من غير بيان، وهو في غاية الجهالة، والثاني أيضاً ممتنعٌ لعدم الأولوية، والثالث هو المطلوب.*" وقد نجح قصي عسكر بتحرير نصه من العوائق والمربكات في خاصية الظواهر التي تحررت من العقد الدالة على الاكراه والعنف، وقد يدلنا هذا الفهم التشخيصي إلى أن الفرد الأوروبي قادر على تحديد وعيه على اساس مفهوم معالجة القضايا الإنسانية اتجاه الآخر، وفي الوقت ذاته هو قادر على استيعاب الحالات العدوانية المتطرفة عند البعض فتجاهلها لأنه منضبط بحقوق الإنسان وبالمبدأ الديمقراطي.
وفي مقطع الخاتمة نقرأ:
"تلك اللحظة توقفت سيارة أجرة مقابل الباب، هبطت منها مريتا هولم، فهرعت إليها، كانت تلف وجهها بشال أسود خفيف شف عن تأثرها وهي تقول:
النعش في الطريق.
ومشينا باتجاه القبر الفارغ الذي فتح شدقيه لاستقبال جثة جديدة وقارورة رماد، وما هي إلا دقائق معدودة وأجدني واقفاً بين امرأتين متشحتين بالسواد يغطي وجهيهما برقعان أسودان خفيفان، وأمامي الحارس"بنت" والقس الذي راح يرتل ترتيلة تتغير في مقدمتها الأسماء كل يوم ولا تتغير سطورها أبداً:
يوهان ماترلك جئت من التراب وإلى التراب تعود فليتغمدك الرب برحمته، آمين."
أصبح يوهان ماترلك كمن يتقدم إلى الظلمة مغمض الحياة التي غادرها للتو، وكأنه في قرارة نفسه الصامتة محمول على خيط رفيع وحاله يسقط من مرتفع عال، بعد أن غادر الوجود بالشكل الذي هو عليه فراقا مطلقاً وهو يهوي إلى قاع لا قرار له، يخرج من عالم الخلق إلى القطيعة إلا من التراب الذي يحتضنه بصمت، اسماها هايدغر "الذات الراحلة إلى الضياع*" أليست هي الحقيقية المطموسة تحت ركام من الأخطاء، ومصدرها يتمثل في النهاية السرمدية إلى نظام اسمه الذات الإلهية، حيث لا خيار، نعم هي الحقيقة القاهرة كما يتصورها الإنسان، النهاية المطلقة، وهي الختام لعبثية استمرت بتمردها أعوام طويلة، بعد وضعية كانت متعالية بالأحدية الدائرية المكثرة فيها الأوهام والصراعات والكذب والتجني والتآمر والحقد والتباهي الفارغ والجريمة وألف حالة وحالة وكلها لتدمير راحة الإنسان، فالموت ليس معطى بشكل جاهز، بل يأتيك من حيث لا تدري كما وصفه البطل الذاتي في قوله: " السيد يوهان فارق الحياة في الساعة التاسعة مساء قبل أن يتمكن من الاتصال بالإسعاف أو حفيدته، مات جالساً في مكانه المفضل." إذاً هي الاستدارة إلى الهوة نحو مآل من حيث هو هناك، ولكن بعد أن ترك النسبية المدورة وذهب إلى المطلق الصامت ترى في أي مرتبة سيكون؟ وفي هذا يقول باشلار: " لا يمكن تشكيل معرفة علمية صحيحة إلا على أنقاض المعرفة الخاطئة. وهذا أكبر دليل على مدى شراسة الصراع ضد الخطأ من أجل التوصل إلى الحقيقة فالحقيقة تنتزع انتزاعاً من خلال الصراع مع الواقع ولا تقدم لنا هدية على طبق من ذهب*" انتزعت الحقيقة لتكون صفحة طويت بواقعية ارادها الأديب قصي الشيخ أن تكون خميرة أدب التضاد تبنى الإثبات المزدوج بين حقيقة العلاقات الاجتماعية القاهرة من جهة ومن جهة أخرى فهي تراتبية قيمية بتصوراتها، أو أن الواقع أصبح مضاءا بالحدس كما حققه الراوي، مع بلورة أدوات صغيت من أجل قياس الوحدات الفنية بين المقبرة والإنسان، وكل واحد منهما يلتهم الآخر، فلإنسان يحاول جاهدا تجميل المكان حتى يأمن شره، وإلا لماذا يشتري قبره وهو على قيد الحياة وينتظر! ويبقى الواقع هو الحقيقة الكبرى، لأنه يتحرك ضمن رغباته الخاصة به، ونحن البشر نتعامل مع الآخر على أساس وكأننا نمتلكه، نجده هو النصيب الذي لنا حصة عنده، لكن سرعان ما نغادر دون حصة.
المراجع:
جعفر كمال
يَعْبرُ الأديب قصي عسكر عبر خصوصية تمايز تدوير المسار الروائي، وذلك بتحرير جنسه من ثقل المصطلحات التي تعم بعضَ جمعٍ ممن شكلوا هزيمة للرواية العربية، في الربع الأخير من القرن المنصرم، بعد أن شاخت النصوص وشابها النعاس، وظهور قارئ لم يعد يلتفت إلى الجنس السردي كما كان في الخمسينات حتى الثمانيات. فتلك الكتابات اتخذت الانطباعية التقليدية عبر مفاهيم مركزية مشرعة تحركها معايب الوحدة المضطربة في مناظرات الكفاءة، غير المتحدة بحالتها الإنسانية اليومية، التي أصبحت تمثل ثقلا رمزيا بفعل اضطرابات النظم المتخلفة، جراء سوء الخيارات التعليمية بدءا من العائلة، وحتى نسخ عادات وتقاليد الموروثات الظلامية، إشارة إلى ما هو نفسي وجسداني يحدد انعكاس عالم غامض على البطل الراوي، في حال تتطلب منه التعرف على سلوكيات مجتمعات اغرقتها الأتجاهات الدكتاتورية العميلة بالجهل والعبودية، وأمام هذا الانحدار الثقافي في السردية الماورائية في تحديث النص الروائي، ظهر بعض من الروائيين الشباب ومنهم قصي عسكر، ممن أزاحوا الستارة عن الموت السريري الذي أصاب التصويرات الحسيَّة للمسار السردي.
أمّا معالجتنا النقدية في خصوصية مسيرة قصي عسكر نجدها وقد تخلصت من الخطاب المقيد بالاستثناء، والخطاب المرسل إلى صفات الوعي المجتمعي بتأثير مصالحة الواقع الرمزي بالشخوص اليومية الفاعلة، فهو مدرك أن الندب والبكاء عاجزان عن التغيير، ومن أجل هذا تحول إلى مصالحة قواعد فنية تبشر بزمن جديد لا يؤمن بالبطولات الهامشية، فبدا الروائي قصي عسكر يؤمن أن المكتسب الإحداثي يحرر مسيرة التغيير من الشوائب التي أصابها الوهن بماضيها، بواسطة نشر الوعي الزمكاني خاصة من خلال علاقات السيطرة على أليات الفن السردي.
ففي الرواية: "وأقبل الخريف مبكرا هذا العام" التي نحن بصدد تناولها بالمساءلة والكشف عن بنيات الفضاء الاجتماعي الذي يؤكد تنوير الواقعية عند الشعوب المستنيرة "الأوروبين" بالتواجد المكاني لحالات مجددة تتصف بما لزم منه أن يكون النص الروائي مقبولا ومؤثرا بالتلقي السهل، فالقول في العنوان وجدناه وقد أخذ معاينة الزمن "الخريف" الذي وصل مبكرا في العام الذي كتبت فيه الرواية، والمكان متداخل بدءاً بدولة اللجوء، الذي بدا للبطل كما هو عالم غير مألوف ومشوش، حين وطأت خطاه جنائن مقبرة كبيرة تكشف عن البعد الذي يصوره ذلك المكان بالآخرة المقبولة ظاهريا كحالة لابد منها، وبحالة أخرى فالمقبرة تحيط الزائر لها بالخداع، وقلق يحاكي سمات الروح بوحي من مخيلة كاتب يشارك الموتى وجوده الافتراضي بينهم، وتحت هذا العنوان تمفصلت الحكاية واتسعت المعطيات بطرق تفاوت موضوعاتها ما بين العمل بالأجرة الأسبوعية، وبين حيوية إبداعية تشكلت ببناء حسي يوحي إلى أن الرواية بدأت تحاور انتشار تفرعاتها في مخيلة البطل الذاتي، حيث تشيع ظاهرة تحاكي التغيير الاجتماعي كشعور ابتدائي يحركه مدخل الرواية، مبتعدا بها عن الأنساق الجاهزة في أسلوبية الرواية الستينية، خاصة بعد أن وضع عمله بمفتتح شديد الخصوصية، يكرس وجدانيه العلاقة في الجو المحيط به، فتكون هذه العلاقة أشبه بالعمود الفقري لأحداث الرواية.
أتسعت الرواية العربية في القرن المنصرم بالشرح والتفسير خاضعة لسلطان مكنونات "النسق"، سواء أختص ذلك اللون بالروائي السبعيني في حالته المحفوظية، أو بنقاد المرحلة البنيوية، ومنهم الناقد السعودي الغذامي، الذي حاول جاهدا أن يحسن من الحركة النقدية العربية تحت شعار "النقد الثقافي"، لكنه أضاع البنيتين واختصر في:
الأولى: الحركة النقدية الموازية لحالات السياق في زمن القرن المنصرم.
الثانية: الحركة النقدية المثالية اللاحقة المتمثلة بالنقد الثقافي العربي أو النقد الفني عند الأوروبين.
خاصة في إنتاج وعي المفاهيم المترسخة باكاديمية مملة تسوق بعضها لبعض، بعد أن أصبحت تلك الكتابات تشكل خطابا متشابها، وكأن جميع نقاد المرحلة البنيوية يكتبون بقلم واحد، تلك الحاصلة التي عاد إليها نتاج مكرور بنفس الأنساق التي شكلت هوية الناقد الخاصة فيما بعد مرحلة العجز، وطبعا هذا ينطبق على الجنس الروائي في موضوعة "النسق"، في مرحلة: نجيب محفوظ، والتكرلي، وحنه مينه، وآخرين، أمّا الذين تخلصوا من الأتجاه المحفوظي منهم: حيدر حيدر، وسلام عبود، ومحمد خضير، وحنان ترك، وحوراء النداوي، ورجاء الصانع، وقصي عسكر بدءا في رواية "نهر جاسم"، وهذا على وجه المعاينة لا التحديد. وهؤلاء وضعوا للرواية العربية بنية سيكولوجية تمفصل حالات الوعي عند الفرد، الأمر الذي يفضي على نحو ارتباط خصوصيات احساس الروائي بالألفة، مع الدائرة الضيقة التي حددها قصي عسكر في روايته، فكان البناء يلاقح جملة تلبس ثوب جملة أخرى في ترتيبها التلاقحي، حيث وجدته حريصاً على أن تكون الحكاية عنده منضبطة المعاني والدلالات وفق شرط بنيتها، وذلك بالكشف عن حالة الشخصية المركبة بتعدد طرق جمالياتها، من خلال التآلف المعين مع مجازاته المتعددة المحمولة بحتميتها النفسية، من مدلول السياقات العلمية المركزة على الوعي القادر على جهة وضوح المبدأ الثقافي والاجتماعي والسياسي والتأريخي والمؤسساتي من حيث فهم الدلالة بمعيونها، حتى تكون اللغة رابط رصد يعالج إضاءة المستهل النوعي، وهذا يعود بنا إلى مفهوم "المجمل " عند الغزالي حيث يقول: " نلاحظ مختلف مراتب الإفادة وانطلاقا منه تجدد وسائل دفع الإحمال هو نفسه مفهوم مجمل مشترك مثله في ذلك مثل المفهوم المركزي الشرعي الذي هو الإيمان مثلهما في ذلك مثل المفهوم الكلامي المركزي في علم الكلام*"
إذن فالمجمل هو الحالة القصوى لتحديث الاحتمالات المؤولة المستقلة بمفاهيمها والتي تدلنا على أن الروائي قصي الشيخ متمكن من معرفة المراد المطلوب به محاسنة التوليف بالابتداء والانتهاء، ولذلك وجدنا رواياته الأخيرة ومعها رواية "نهر جاسم" أصبحت محط اهتمام الناقد والمترجم، لأن طبيعة المحاكاة في البنية الثقافية تحقق محور السرد حيث حركية الاختصار والجمع والمبادلة والتضاد في طبيعة الحالة النفسية التي اشتغل عليها الروائي باحترافية ممتعة، بحيز الكشف عن مواطن الجمال أو القبح، مما جعل من المفتتح يركز على اتحاد المعنى والزمكان بأيقونة واحدة لأن يكونا مبنيين على أسس ملموسة بالقرب المتاح، وهو ما جعل انتشار أعماله الروائية تتحد من خلال منظورٌ تأويلها، وهو تجديد لحالة المنطق القيمي الفردي كلٍ بطبيعته النفسانية، وبهذا وجدناه يعالج محطاته الفنية الإستيتيقيية أن تستدعي ظاهرتها الجمالية، فيطرحها مهيمنة على القارئ من حيث تحقيق شهوة القراءة، وهكذا يجعل الشق المادي في السرد الروائي معيونا في اهتماماته الواسعة، وللحق فأني أجد أن الدهشة ودلالتها المعنوية تشكل اختبارَ صيغ تحقق أسس موسوعة الأفعال المميزة بالحبكة والدهشة والغرابة الظاهرة الدالة على معنى بجواز جواباته النفسية، وهي بعيدة عن الوصف غير ذي صلة بالحدث، المُحسَن بالمجاز المعيون في ظهوره الموصول إليه بواسطة متعة اختصار التعميم الذي يقدم لنا برهانا يقينا بنوعية المحاكاة الدالة على الاعتبار والذوق.
أعتمد الروائي قصي عسكر في مسيرته الجنوسية على المقاييس المولدة للذكاء، بالاتجاه الذي ينضج سعيه بالكشف عن دور الفرد عبر اختبارات المعرفة النفسية، ليقدم لنا حكاية تندرج في صورتها الحسيّة اكثر الأسئلة جدلاً حول مستوى الذكاء، الذي يحدد مقياس المفهوم الثقافي الأسلوبي للبنية التي يعتمدها الكاتب بالمنحى الذي يحدد ماهية أشكال السلوك الموزع على بشرية الحكاية، من حيث ثقافة التنشئة المختلفة تلك التي تجدد انماط نمو التفاعلات عند كل فرد يصل به السرد إلى مديات طبيعة سلوكية مع مجتمعه، بعد أن يكون الفرد قد حقق المشترك بواسطة طبيعته الخاصة، حتى يكون التواصل مشتركا بالأفق المنظور في مقياس تحولات الذات المجردة، أو أنه يتمرد عبر تباينات يؤمن بأنها عوامل تظل على أنها محلية الطابع مجردة من الثقافة التنويرية للسلوك الذي يجعل من التطور الفردي عاملا انتاجيا للثقافات العامة حتى وإن خضعت لجدل انتاج المجتمع المتخلف، سواء أكان المرء يخضع عبر مفهومه للقواسم المشتركة التي تشتمل التضمينات الفكرية المجتمعية، أم يكون الخضوع بواسطة الاختلاف في المقاييس العاملة على توليد الآليات الممنهجة بسلوكية يحركها علم النفس، وهو ما أجده طاغيا في أسلوبية سيرة هذه الرواية، وهي تحقق الفروق المجتمعية الكيفية في أداء الفرد لفهم بعض الظواهر التربوية والسيكولوجية المنهجية بمقدار تأثيره على الجو المحيط بالفرد، وبهذا يدلنا د. محمد طه بالتوضيح الأكثر دقة في قوله: " يقدم علم النفس المعرفي منذ منتصف السبعينيات اتجاها جديدا في دراسة الذكاء يعتمد على معالجة المعلومات كإطار نظري عام لهذه الدراسة. ويحاول هذا الاتجاه أن يقدم تحليلا تفصيليا تتبعيا خطوة بخطوة للعمليات المعرفية التي يستخدمها الفرد في حل المشكلات أو اكتساب المعارف. أي أن المعرفيين يسعون إلى تفسير السلوك الذكي بالتعرف على العمليات الأولية الخالية من المحتوى فيه. أو بعبارة أخرى هم يسعون إلى معرفة أي نوع من أنواع آلات معالجة المعلومات التي تؤدي للضاهرة التي نعرفها بالتفكير أي وصف الشخص في ضوء مستوى وظيفية أدائه العقلي.*". إذن فالسلوك الشخصي يحدده الوعي العقلي وليس التباري اللساني، الذي يستدعي بالضرورة نقاشا مملا قد يعتبره المتحدث عامل الرفعة، لكن لو فحصنا الحديث اللساني نجده خال من المعرفة وتطوراتها الإبداعية، ولذا فالفرق واضح بين أديب تنوع في الأجناس الأدبية شعرا، وقصصا، ورواية، ونقدا، في حين نجد من أن يهذي كثيرا لا يمتلك في جعبته سوى اللغو الفارغ وهم كثر.
حركية الذكاء:
من المفيد جدا أن يتجه الروائي نحو منطقة الفروق في لعبة الذكاء الداعي إلى مزيد من سبيل تحسين بيئة السرد نحو الظروف التي تؤدي إلى تحديث مستوى العوامل الثقافية وذلك في اعطاء حداثية الصيَّغ التي يطلبها دور البطل في نشاطه الفيزيقي المادي، خاصة إذا كان تنصيص السرد يعمل على التعريض بالقول، من حيث ما يطلبه النسق الذي يحقق مثار الاختلاف في طبيعة الدور على الساحة السردية، فأول ما يفكر به الروائي هو أن يساقي المقاييس بين "المعرفة العفوية / وبين المعرفة اليقينية" كما فصلها ديكارت، وهو اتقان تشكيل الحواس التي تعالج نشاط الوعي وذلك بالصعود التدريجي على سُلَم الشخصبة المطلوب تناولها، من منطقة الوعي المحرض لمتخيل الذكاء النوعي، بالتعريض على انسجام مديات قياس النسبية حسب تسليط العوامل المثارة في الحدث، حتى يُحكم التجديد بالإجماع في طبائع صورة العوامل الوراثية المتاحة عند الفرد، فهذا وشبهُه يبتدئ به الكاتب لتأنيس المودة اليقينية تسهيلاً للقبول المعاين في اسئلة المتلقي، مع اختلاف وعيه بالقدر الذي تعينه ثقافته على فهم طبائع الذكاء المقروءة في النص، سواء أكان في جزئه أو في كله، لأن المحصل الادراكي يوصل الكاتب إلى أن يكون نصه غير معقد بل مفهوماً لدى القارئ، ولهذا يتعين على الكاتب أن يتواصل مع المتلقي بمفهوم التبادل الملموس عبر دقة المفاهيم، لأن الكتاب بمختلف جنسة ما أن يظهر إلى الوجود يكون بلا شك ملك القارئ، لأنه الوحيد الذي يساهم في نجاح هذا الانجاز أو ذاك.
وللتواصل في هذا الشأن يجب أن نوضح ما هو معلوم في صناعة الحبكة الروائية من حيث البنية الحقيقية للأفكار التي يجمعها الروائي خاصة في موجودية الأحداث، بواسطة التحولات الذاتية عند الفرد، والانعطافات الحاسمة بين المكان والزمان، ومعطيات تجسيد التأقلم مع الواقع المحيط وإن كان متنقلاً، فالتشكيلات الحسية التي يفترض أن يتعامل معها الروائي بدقة وحذر، لا تكون قطيعة بين الكاتب أو الرائي بينه وبين عائلة الرواية، ومن أجل هذه المعطيات نجد المتلقي يشارك الروائي الوصل الاستثنائي على المستوى الجمالي، بالاحوال التي يجدها مقنعة داخل مجرى السرد الخالي تماما من الأزمات الداخلية للنص العقلاني مثالاً رواية "نهر جاسم". أو اللغة المتمردة بعفويتها في رواية "وليمة لأعشاب البحر" لحيدر حيدر، وطبعا في هذا التكوين الروائي اسميه الناتج المعرفي المؤسس للحرفية المبادئية، وإذا احصينا آراء القراء نجد أن منهم من فهم النص الروائي على أساس أصله، والأصل في هذا المفهوم هو الكاتب ذاته، ومنهم من اعتبر الرواية لا ترتبط ارتباطا مصيريا بنجاح الروائي، لأن متطلبات الذكاء تتحرر في كثير من الأحايين بتأثير الظروف بمستوى التحول المباشر بطبيعة المجتمع، كما عبر عن هذا كارل ماركس في قوله: " مستوى الفرد يحدده المجتمع*". كذلك أشار إلى هذا المفهوم ديكارت بقوله: " إن الإنسان عندما يكون طفلا أو تلميذاً صغيراً فإنه يكون واقعاً تحت تأثير محيطه وأساتذته بشكل كامل، وبالتالي فهو يتلقى القناعات والأفكار بشكل سلبي لأنه منفعل لا فاعل. *" إذن لابد لكل أديب من مدخل يمثله يتواصل به مع المبتكر المختلف ويكون هذا على وجهين:
أولاً: لكل جنس روائي يحتكم بطبيعته إلى الفروق بين الناس بالعلاقات والميول والرغبات، ولذلك يختلف الروائي بحكايته منفتحا بها على مجتمع يرث عاداته وتقاليده وثقافته وتاريخه في ذاته، فيكون واقع الأمر عند الكاتب معاينا بالاتجاه المعرفي للصور الناتجة عن الاختلاف.
ثانياً: الحوار السردي مع الفرد وخصائصه النفسية والتعرف على جوانبها البصرية والمبدئية، وما أتضح في معيونها البائن المتعلق في مقدار المعرفة، وعلم البيان، والقيادة، والخطابة، والتنوير التطوري في معاينة المستوى الروائي.
وما يدخل في هذا التدريج سعة القبول به سواء أكان قارئا أو ناقدا أو محبا لهذا الجنس الأدبي، بمعنى ما يدخل على الكاتب من تخصيص اتصال معرفي ليكون شرطا يحقق المقبولية بما ذكرنا ليكون القارئ متصلاً وغير منقطعً.
التلاقي والاِنصرام:
الكثير من الروائيين العرب يفتقرون إلى الحبكة التي تُفَعل الأداء القياسي في مفهوم أسلوبية التدوير الذكي، بالمستوى الذي يعمل على نشأة الاتجاه النفسي للبطل، من اعتباره الموعز للتنبئية للمفاهيم الأساسية المصممة للذكاء في بعده التخيلي، الذي يولي قدرا كبيرا من الاعتبار، وفقا لمنحى الخصوصية الشخصية وحقيقتها الجوهرية المبتكرة لعلم الاختبار والتكوين القيمي للنص، ولهذا يشير صدق الاختبار "Test Validity " ما هو مصمم لمفهوم تلك الحكاية المأخوذة من مجتمع بعينه، يدلنا الناقد د. وهب رومية إلى أن " المحادثة أو النقاش منح هذه السيرة الرائية فضاء فنيا رحباً نظرا إلى شموليتها واختصار عدد الشخوص، وغزارة أحداثها، واتساع رقعتها المكانية، وامتدادها الزمني، نظرا إلى حضورها في الوجدان الشعبي*" وبالتالي فإن التلاقي في المفاهيم المجتمعية يبعد الانصرام عن طبيعة السرد المحكم بقدرة الذكاء الذي صممته الصيَّغ المعلنة في تحديد سياق العلاقات الكلية بالمتغير الداخلي بواسطة مستوى التأثير للنواحي التطبيقية بدواخل المضمون، ومن ناحية أخرى فالارتباط بما يحققه الروائي الحداثي الشيخ عسكر الذي نحن بصدد تناوله في دراستنا المختصة بالرواية العربية، قد حقق لمثل هكذا مستوى ترقية الترقيم المادي بالعلاقة السببية المؤسسة لتنبؤ كدرجات الاختبار المبتكر في انتاج السلوك العابر للممنوعات والتحذيرات والسلوكيات المطبوعة على أساس حساسية التكوين الوراثي، من أجل إثبات تحديد آلية العلاقات التي تورث الفعل اليومي Mechanism of Action عبر أدوات الكاتب العابرة بمفاهيمه التحديثية، وعلى أساس هذا النحو اشتغل قصي الشيخ محققاً لسرد الرواية العربية الاختلاف الواضح في ظهورهُ المعيون بينه وبين الروائي الآخر. ومن أجل هذا سيقت ذاتية روايته "وأقبل الخريف مبكرا" نحو سلطة الناقد والمترجم والناشر.
ومن أجل هذا يجمعني أسلوبي النقدي الثقافي الخاص الخالص بي معاينة رواية قصي عسكر على أنها تمثلت بالبدائل المختصة بالتحريض على توليد الذكاء الانفعالي النفسي، وذلك في تشخيص الشخصية المركبة المتفاعلة مع احتياجات الحياة اليومية، التي لها تأثير ملموس على إنجاز الاتجاهات السردية التفاؤلية المؤسسة للمهارات الفنية، التي تدفع النص لمؤهلات الابتكار القيمي بتطويع علم الذات التحاوري الهادف إلى تحريك المضامين العاملة لقياس النشاط الفسيولوجي على تدريب المشاعر المهتمة بتأثير براعة النص الفني، الذي تتماهى فاعليته لمأسسة توليف الجمل السردية المختصرة على حركية الاستثارة، أو تماسك العبارة كما لو أننا قلنا كما قال الآمدي: "هو اللفظ الدال على مدلول شائع في جنسه*" وهو علم شائع في أصول الأحكام تناوله ابن مضاء بالشرح المفتوح على نوعيته، كذلك رسخ مفهومه الجرجاني، وابن عساكر، ولهذا فنحن محل اختبار لأبعاد نقدنا عن المديح كما هو معيون عند الكثير من "النقاد"، ولي أن أشير إلى أنَّ الحكم الايجابي لا يعني المديح، والحكم السلبي على النص لا يعني الانتقام لهذا الرجل، أو تلك المرأة، وإن اختلفتُ مع البعض في جواز إجراء حالة الأحكام على النص، تجدني ملبيا لمشروعية الاجابة أو المنقودية.
خاتمة المفتتح:
كما سبق لي وأن قدمت الجليّ من الأفكار النقدية التي تحتكم إلى خصائص تمركز المفاهيم الصوتية المدورة في مضامين الوحدة الأجناسية الأنواعية، التي تسمح موالفة الفنية كمحرك أساسي للكشف عن مميزات ترتيب الوحدات السردية نظرا لاختلاف مركزية الجنس الروائي العربي الإحداثي، بواسطة علم المقصدية التنويرية المدركة لحركية الفعل الطامح باضاءة تحاور وتستدرك موضعة التمثل النوعي الثقافة النقدية التي اختص بها اتجاهي النقدي، خاصة في قيمية الأصول الفنية والحركية التي أشرتُ بها إلى المستنبط المنصوص عليه بين الكاتب وقراءه، مما جعلني أن أكون حذرا وقطعيا من إثبات طريقتي في منطقة العلاقة بيني وبين فحوى حركية النص، مهما أختلف جنسه، نظراً إلى أنَّ الاختبار جار بالاتفاق على جواز معالجة حكم يؤكد ارتباط الرواية بمحيط البيئة المنتجة لطبيعة الأحداث، أي ما تم تسميته باسلوبيتي الفنية النقدية ب الاتفاق المجرب، وعند ذلك نقول إنَّ القياس لا يكون قياسا إذا زحف نحو الضعف ترجُّحه، لأن الترجح كما اسماه القاضي عبدالجبار: "شرط الاقتضاء*" وقصي عسكر عمل بإمعان على تحقيق الابتكار بدلا من النسخ بفحوى تصوير الشيء التابع للأصل مع ضيق المتنوع، وهذا الأثر لم يتم تحقيقه إذا لم يكن الكاتب على بينة من أن فحوى المضمون من الأصل يحقق تجميل الشكل، بمعنى كون أن دلالة المنطوق يعمل على فحوى اختلاف الجنس الأدبي بقيام الملاقحة الثقافية بشكلها الثابت والمتحول، هذا إن لم يكن تابعا لحرية المعاينة الدقيقة للغرض الأصيل، فيكون الفصل ملحوضا بين الشكل والمضمون، حيث يتم عليها رفع الحكم المندفع إلى المستنسخ، لأنه لا يلزم منه معرفة نص بعينه، مما يخل في الغرض إلى حيث الإشكالية الفنية، وبهذا يمتنع معه بقاء حماقة العلاقة المؤثرة في تداعيات القارئ بدلالة قوته أو ضعفه، كما يقول برشت: " جمع الصدق والحقيقة تقنية تحطم الأوهام وتدور متغيرات تحليل الأحداث نفسها، فالبطل الضد يحاول مرات عديدة أن يشكل حياته بطريقة منطقية*" ولأن قصي عسكر حقق للرواية العربية تجديدا مقبولا بحكم توزيع الأدوار على أبطاله، ومنح كل منهم الطموح المستقل بحقيقة على المرء أن يواجه نفسه.
أنني لا اسلم أنَّ رفع أصل القياس على أن قصي عسكر حاكى السرد الروائي بمنطوقه الشعري كما شُرِحَ من قبل الذين تناولوه بنقوداتهم فوجهوا بآرائهم الحكم غير الدقيق المجرد غير المبني على أساس نقدي حكيم، بأن هناك بعض خصائص تعتمد التعريف البصري بدلا من قياس المهارات التقنية والفنية التي تتلاءم مع شخصية الروائي عندما يعجز عن خلق صورة سردية تتفق مع الصورة الشعرية خاصة إذا كان الكاتب يمتلك إبداعية الجنسين أي الشعر والسرد الروائي، فيكون الحكم أن يفصل الكاتب الحالتين الأدبيتين عن بعضهما البعض كلٍ حسب ميولها التنظيمي في بنيتها الداخلية، وبعدها الفني التخيلي الذي يعتمد مداد الجملة وتهذيب تقطيعها حسب ما يقتضيه الحوار أو السرد في ترتيب الحالتين، فإن كانت صورة النص تابعة لدلالة الفحوى، فقيام الأصل حاصل في الامتناع وهذا مما يخل بالغرض من دلالة عضوية الجنس، ولهذا يندفع النقض حتى يلزم انتفاء الأصل من منظومه القائم على أساس فقهه، لأن كلا الحالتين تمثلان الفرع من الجنس الأدبي، وأنَّ الخلاف معيون بحكم الضبط القائم في نسيجه الفني، والجواب على كل هذه التساؤلات يتوضح لنا عندما ندخل عمق حالة الخلاف حين تبلغ حرية الدلالة اللازمة للحكم الواجب توضيحه وتحليله في دراستنا هذه التي تعتني في الإثبات ولزوم انتفاء الملزوم عن ما ورد في دراسة سابقة عن الأديب قصي عسكر، ونحن هنا ندخل الرواية الثالثة في تناولنا لها:
الرواية:
وأقبل الخريفُ مبكراً هذا العام:
إذن هي الرواية السادسة بعد المرحلة الواقعية طبعت في "2011 / شمس للنشر القاهرة" للروائي قصي عسكر. بعد أن تعدد الزمن الإبداعي في مسيرته الروائية على معالجة المواضيع في محضورها المصمم بذكاءٍ يحدد المهارات اللازمة للنجاح في مجتمع غربي يحتاج فيه الروائي إلى مكننة تنمو رويدا رويدا في العقل المبتكر، لمواجهة حضارة مجتمع يبلغ ذروة التطور الإنساني، بينما يأتي الروائي من مجتمع فلاحي قلما نقول فيه مجتمع محافظ من ريف البصرة / التنومة، وفي هذا يجد قصي عسكر نفسه أمام مقاييس يجب أن يدخل إلى نمطها الغربي معتمدا على ثقافته الواسعة في محورها الأنكليزي، باختيار عنوان روايته التي تمكن من بناء أدواته في تراكيبها الداخلية، خاصة في قياس الذكاء المستخرج من النوعية المختلفة في مساحة تعدد كتاباته الأدبية شعرا وقصة ورواية، مع أنَّ الصعوبة في الوصف السائد في أسلوبية السرد الروائي المحتمل تطوره يتسع في المفهومية التي يطرحها الكاتب نفسه، متفاعلا مع الأحداث من حيث بنيتها وتشكيلها ووعيها الدلالي الايضاحي، ليكون الكاتب يكتسب مهارته من الملامح الشكلية للمكان، على حساب المضمون غير الواضح في بداية اللازمة السردية التي شابها الوصف بالمعنى الذي لا يحكم الكم والكلم الممكن بنيته بواسطة الحبكة الذاتية بتقنياته المُحدثة في أعماله، لأن الراوي في هكذا قياس دقيق يحتسب بنية النمط القادر على الدخول إلى المضمون عبر مساقات علومه باجترارية تعمل على حث الوعي المكتسب والمتشابه لاختبارات بينية ضامنة.
لمسة إصبع واحدة قد تحرق العالم:
" إذن أنا أجوس الشوارع النحيفة المنسابة بين القبور وأنت هناك ياسيد يوهان ترقد في فراشك تتطلع إلى السقف أو لعلك تغفو وقد تحملك رجلاك لتخطو نحو الشباك فتلقي عليّ نظرة من علو أو إلى ذلك المكان الذي يرقد وسط حصن متين كدرع سلحفاة صلب.كم مررت بهذه المقبرة أحث خطاي على الرصيف لأمر ما، ولم ألتفت إليها...كان الزمن ومشاغل الحياة ومايدور برأسي يبعدني تماما عنها.. لايهمني اسمها أم في القرن الثامن عشر تم بناؤها أو القرن الذي يليه..يمكن أن أسميها المدينة المقبرة السفينة...السلحفاة المدرعة.أقوى مقبرة في العالم. كيف تدب القوة في عظام نخرة وتتدرع جثث هامدة ذابت في التراب. في زمن الحرب يمكن لأي مغامر أن يضع مادة شديدة الانفجار في جثة فتنطق بعد حين عن دمار وخراب و في زمن غير زمن الحرب الرديء المحمل بالكوارث يمكن أن تحاط الجثث بالنكبات.. الحق تعجبني ابتسامتك،ولثتك الخالية من الأسنان. إنها تذكرني بلثة عبد الله أيام المدرسة الثانويّة، نحكي النكات من أجل أن نضحكه أو نجعله على الأقل يبتسم فيكشف عن صفحة فم سوداء نخرة خالية من الأسنان.. لهذا السبب أطلقنا عليه لقب عبد الله اللوريني تيمنا بالممثلة الشهيرة صوفيا لورين الرقيقة ذات الابتسامة الدافئة..عذرا إذا قلت ذلك عنك في غيابك حين اجتيازي باب هذه المقبرة التي دخلتها قبل جثمانك المفترض.كم مرة مررت بها على الرصيف من دون أن أشعر بوجودها ،وربما جلست على بعد خطوات منها في المقهى المطل على البحيرة أحتسي الشاي وأتطلّع في البجعات والأورز والحمام والغربان، ،وفي بعض الأحيان أذهب إلى المكتبة على الرصيف الآخر فأعيش مع الكتب وأنسى أنها قريبة مني".
لعل أكثر الأعمال تمثيلا للحداثة عند قصي عسكر هي تلك الروايات التي صبت براهين خصائصها ووظائفها بالأدب الواقعي، معتمدا على الوحدة السردية الثابتة في رصد العناصر المتطابقة مع الحدث اياً كان نوعه، كما يبين لنا المؤرخ ديفيد هيوم كيف يعالج البرهنة: " أن بأمكان المرء تحليل ما لديه من أفكار مركبة وردها إلى الأفكار البسيطة*" وبهذا ممكن أن اسميه السياق التجاوري بمستوى تثبيت الأنساق المكانية والزمانية بالفنية الممكنة، حيث يتم بلوغ تفكيك الحالات المجتمعية بافعالها وغاياتها لإعادة رصها بالتصورات الحياتية التجريبية الأولانية كما يراها كانط، تلك التي تثبت امكانات واقع يكون فيها الحدث الحقيقي يصب في متغيرات الظواهر اليومية، وبهذا يدلنا إلى أنّ الملاحم التي تحدث هزة في التدريبات اللغوية، هي ذاتها التي تستحدث الأفكارالمتفاعلة بطابعها المتقارب، حتى يأخذ السرد سياقا متماسكا ومركبا يسمح لأن يكون عاملاً لربط الأحداث ببعضها بماهية تعبر عن الهدف الحقيقي للحياة، ليكون المتغير الواقعي حالة دمج المباشرة اليومية المتشكلة عن طرق الحواس بين الماضي والحاضر في قول ما يدلنا عليه الكاتب: " إنها تذكرني بلثة عبد الله أيام المدرسة الثانويّة، نحكي النكات من أجل أن نضحكه أو نجعله على الأقل يبتسم فيكشف عن صفحة فم سوداء نخرة خالية من الأسنان.. لهذا السبب أطلقنا عليه لقب عبد الله اللوريني" ومثل هذا الاستسقاء نجده يعلن عن نفسه في الحقائق المصنوعة صنعاً اختبارياً، تلك التي تسمح بإقامة حوارات تجسد الحالات الخاصة، وإن كانت في سياقها الغيبي كالموتى ومقابر ترتبط صورتها بالوصول إلى تحويل الشخصية إلى حوار ذاتي كما نتصوره في مفتتح روايته: " إذن أنا أجوس الشوارع النحيفة المنسابة بين القبور وأنت هناك ياسيد يوهان ترقد في فراشك تتطلع إلى السقف أو لعلك تغفو وقد تحملك رجلاك لتخطو نحو الشباك فتلقي عليّ نظرة من علو أو إلى ذلك المكان الذي يرقد وسط حصن متين كدرع سلحفاة صلب .." فتكون الانساق تتجاوز المسار الطبيعي للأحداث والمعايير الراسخة بالمكان، مع نقل الزمان حيث يكون التأمل الملحمي الوصفي مفتتحا أنموذجيا للرموز المتحولة بفعل الاعتراف بالمختلف المجازي الذي تتمايز صيَّغه تمايزا واضحاً.
قد تكون اسوأ الأمور أجملها:
" لماذا نسيت الإشارة؟ هل أقول أني رأيت "تيرينا" التي انتشلتني من شرودي واقفة عند مدخل محطة "الاستر بورت" فلوحت لها عن بعدٍ، الأمر الذي جعلني أنسى إشارة الوقوف... كنت على وشك أن أجتاز المقبرة التي تجاهلتها طوال هذه المدة. لاأدري..ولا أظن أن سقطتي تدل على علامة شؤم. لاشك أني رأيت غربانا على الأرصفة والمتنزهات المحيطة بالشوارع تلتقط الحب مائلة بنظراتها نحو أي عابر، وعندكم قرأت في السنة الأولى من تعلمي للغة والتاريخ أنكم تحبونها وأنها حكيمة ساعدت آلهتكم يوما ما..رأيت البوم على مشروباتكم الوطنية وإعلاناتكم البوم والغراب.. عدوانا القديمان نحن العرب.. مع ذلك ركبت دراجتي وبحلقت بعيون الغربان. كان أمامي وقت طويل على الموعد المنتظر.. يوميا أفطر في البيت. فنجان قهوة وقليل من الكعك.. اليوم نشوتي بالعمل اقتلعتني من جذوري، فأفطرت في "سكالا" والقيت من زجاجها نظرة طويلة على مدينة الألعاب.. المحلات الراقية.. الملاهي.. مدن اللهو.. القبة السماوية.. معرض الأسماك كل المعالم ذات الرسوم الغالية التي صحبتني إليها المدرسة ومراكز اللجوء سيكون بإمكاني الذهاب إليها..بدأت أتخيلك.. رسمت صورة لك مستوحاة من حفيدتك وعندما حضرت صورتك إلى ذهني نسيت ابتسامة عبد الله صوفيا.قد يكون كبرك والمرض هما اللذان حثا ذهني على أن أبتعد عن السخرية.غير أني سقطت.عثرت وأنا في طريقي لملاقاتها قبل أن آتي"
تبلورت الواقعية الحديثة في الرواية العربية على سياق سار عليه الأوروبيون في القرن التاسع عشر والقرن العشرين أمثال مكسيم غوركي و غابريل و الروائي التركي اورهان باموق، باعتبارها ألحت على البنية الداخلية بحوار يمتع الشكل إلى تكثيف أكثر في الجانب اللغوي، وقصي عسكر واحد من هؤلاء الذين متعوا وحدة النص باسقاط علمه اللغوي عليها وذلك بتنزيل النسبي على الواقعية وحل رموز الصور المغلقة، فاتاح للنص انعكاسا جامعا للإلحاق بالمتغير اليومي، متجاوزا المثالية السردية المنقطعة عن حركة العلم ونبض الواقع، الذي يلح على أن يكشف شيئاً جديداً إلى ما سبق متصلاً بالمشكلات المعاصرة، فقوله المبني على وحدة الاختيار الأسلوبي جاء يساهم في تحقيق ثنائية الحركة والتصرف:
" لاشك أني رأيت غرباناً على الأرصفة والمتنزهات المحيطة بالشوارع تلتقطت البذور، مائلة بنظراتها نحو أي عابر، وفي كتبكم قرأت في السنة الأولى من تعلمي للغة والتاريخ انكم تحبونها كونها حكيمة فقد ساعدت آلهتكم يوما ما "
في هذا الحوار الداخلي للذات الساكنة بوحدتها والتي تعني المعيون من الرمزية المثالية ذات الخصوصية المعقدة، ترد على الافتراض بسياقه الوصفي حيث يُمَكْن للسرد أنْ يحشد القواعد في علم التركيب النظري، الذي يتوافق مع حوار يمكن أن ينحاز به القارئ للكاتب على أساس التلاقي على مساحة واحدة في علم الأسلوب، الذي يبلغ فيه البناء السردي ذروته، بجمل تترابط وظائفها بالاصوات الفنية، في نظام ينفتح على المدلولات التي تشير إلى طبيعة العلاقات، خاصة وأن القيم التعبيرية للأصوات التي اختار لها الكاتب الرمز "الغراب" التاريخي بافعاله وسلوكه، مُذكرا به الآخر الأوروبي بأنكم تحبون الغراب، مع أن الغراب كانت ولادته الأولى في الشرق، وفي زيارة من قبل مستشرقين إلى بلدان الشرق الأوسط نقلوا الغراب معهم كونه طيرا غريبا يحاكي عالمه وعشيرته بلغة فيها شئ من الحذر والتوجيه والارشاد، ولهذا بقي الغراب بذاته النبوية الارسالية في جوهرها على صلة وثيقة بالإنسان، وقصي عسكر على صلة قوية بالحكاية الاسطورية على اختلاف مضامينها خاصة في ترابط النص الروائي لأنه أوسع مساحة عضوية من الشعر والقصة القصيرة، وبهذا وصلت العلاقة بين المؤلف والسرد جزءا لا يتجزأ من التراث الفكري لمعيون لا ينقطع، مادام الطير الأسطوري جزءا يرتبط في بنائه مبنى ومعنى بالحياة البشرية، خاصة في المنهج النفسي الذي عاينه وحققه فرويد صاحب نظرية التحليل النفسي: " هو ، والأنا ، والأنا الأعلى ".
ولأن حاصل الفنية الروائية بهويتها الأصلية التي حققها عسكر تترابط عضويتها البينية بين العربي المثقف الاجئ، وبين مواطني بلد اللجوء، فاعتبر المجمل حامل لشخصية السيدة "تيرينا" التي حذرت البطل أنْ ينتبه إلى إشارة المرور، تلك التي لم يعمل بها في بلده العربي، وهنا يفاجئ بالحضارة المبنية على المحافظة على قواعد نظام العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا رفيعة العلم المتميزة بترتيبها العلمي، وفي هذا السياق اللغوي حيث يصعد النظام النحوي ذروته بالأثر البنائي المركب على ضوء توفر العناصر المحورية التي تورد المستوى الأسلوبي لتجعل من المحتوى الفني قابل للوصول بالأحداث إلى مبتغاها بأكثر حداثة كما هو وارد.
ويستمر الروائي بسرد الحكاية الذاتية المعمول لها أن تكشف لنا عن فحص الجذور المدمجة بركب البطل ومسيرته المعنوية، فيكون السرد بمثابة التمثيل العيني الصوري السائد في دول اللجوء، وكأن قصي عسكر يعاين الوظيفة التقويضية كما فعل الكثير من الروائيين أمثال دستويفسكي، وهوفمان، وإدجار آلان بو، و أميل زولا، تلك الأعمال التي حللها وفككها باختين، ونحن نتابع متعة السرد في هذا المقطع نتذكر الأعمال الروائية العظمى عند قصي عسكر.
لا جرم فبعض الأشياء المخيفة يفضحها عطرها:
" اجتاحتني نشوة ما لحظة فرح أخرى، ما أصعب حيازة عمل في الدول الاسكندنافية للاجئ يحط رحيله على تلك الأرض في عقد الثمانينات، ومع هذا كنت موفقا بأن نصاب عملي أخذ يكتمل، والحق إن الذي شجع تيرينا على الحديث مع خالة أمها ما رأته من اهتمامي بجدها، فلم أتعامل معه وفق نظام الساعات قط، كانت هناك علاقة حميمة تربطني به، فأضل احيانا اتحدث معه ولا أغادر الشقة حال انتهائي من العمل عنده، ولم يكن من واجبي الذهاب معه إلى المقبرة، بدوره كان يوهان يملأ عليَّ فراغاً، أي فراغ، ماذا أفعل في البيت بعد ساعات العمل؟ أقرأ كتابا؟ أشاهد التلفزيون أم أخرج إلى الشارع أتيه في جو ضبابي لا حدود له، الجنس نفسه كرهته وعافت نفسي الذهاب إلى الديسكو ومعاشرة أي فتاة، في أي مكان أذهب إليه أجد منشورا يحذر من تفشي وباء الأيدز الجديد، في مكاتب البلديات والمدارس نماذج من مانعات الاتصال تقدم كهدايا لمن يرغب بممارسة الجنس، فيما كانت الحرب تفتك بالناس في العراق وإيران، وفي أوروبا الوحش المخيف البشع الذي حذرتنا منه مكاتب البلديات ودور السينما."
في نطاق إدارة النص وبما يترتب عليه اختلاف تصنيف الذكاء بين روائي وأخر خاصة في تلازم الجمل الصوتية في المحركات الأساسية للصورة، التي تعاين القدرات الفعلية عند الكاتب بالمقدار النوعي في وسائل قياساته، خاصة إذا جاءت تلك الجمل غير مكررة للمعاني والتفويف والملاقحة المعنوية والصيغ الكلامية، التي تعتني بتطورات القياس اللغوي حيث يؤاخي أساسيات الذكاء بجانبها المعرفي، كما فعل ابن الجوزي بالنظر في استنبات ظاهرة علم النفس في نشوء أسلوبية سردية تعتمد المقاييس التي تعمل عل نشوء الاستمولوجيا بتطورات علم الجمال المحرك للمحسوسات ومدركات العلاقات العقلانية المجتمعية، بوصفها تطبيقاً يستثير ملمس الوعي السيكولوجي بما يحدده العقل من مبادئ وقيم بالمنشد الذي يتماشى مع ضرورة إشباع حاجة الفرد للتمتع بالوجود كعمل البطل مع الناس العجزة، فتكون العلاقة الجمعية تتوزع بين بعدين أو ربما أكثر حسب وعي الكاتب، وهما البعد النفعي، والبعد الرمزي، وكلاهما محاط بالبعد الجمالي، وهذا يتم بحالة تنظيم وضبط السياقات الفكرية التي تحرك المراحل الرؤيوية بجوانبها السياقية، كما فعل سقراط مع جولكون في الكتاب السادس من الجمهورية قوله: "ففي وسعك أن تجد ما يطابق هذه الأقسام الأربعة في الأحوال الذهنية الأربعة الآتية، فالعقل أرفعها، والفهم هو التالي له، والاعتقاد أو الإيمان هو الثالث، والتخيل هو الأخير، وفي وسعك أن ترتب هذه الأحوال بحيث تفرد إلى كل منها درجة من الوضوح واليقين تتناسب مع مقدار الحقيقة التي تملكها موضوعاتها*"، ، وطبعا يعتمد هذا العلم على قدرة الكاتب الذي يعتمد الوضوح المنظور في نسبة الوعي سواء أكان في الوضوح أو الغموض كل حسب تمثيلاته الواقعية كالكائنات العاقلة وغير العاقلة، التي صنعتها يد الطبيعة، أو علاقة الصور القصية المجازية المحاطة بالتراتبية التقنية في قول أفلاطون: أن هذين القسمين من العالم المنظور يتناسبان مع درجة الحقيقة، حيث تكون الصورة بالنسبة إلى الأصل بمنزلة موضوع الظن بالنسبة إلى موضوع المعرفة*".
تشكلت الصور التي تعاين دائرة اللاجئ العربي في بلدان اللجوء عند قصي عسكر على انها اضطرابات نفسية تبحث عن فرصة عمل تشغل الفرد عن هموم يومه المصاب بالقلق، فقد كان من الطبيعي أن يتطرق الروائي إلى الاهتمام بجعل الذكاء حالة أولية لتحصيل فرص تربطه ربطا ديالكتيكيا لفهم طبائع وتوجهات الفرد الأوروبي لأمكانية التعايش السلمي، فكان البطل يحرك نشاطه الفكري بمسعى يحقق له مكانة مؤثرة في المجتمع الجديد عبر أصدقاء له، من أجل توليد مسلمات ترتبط ربطا ميتافيزيقيا مع ممن حوله في المكان التحولي بحياته مثل تيرينا ويوهان المقرب من البطل والذي أصبح مؤخرا بالسيد العاجز، وهنا نقرأ: " ما أصعب حيازة عمل في الدول الاسكندنافية للاجئ يحط رحيله على تلك الأرض في عقد الثمانينات،" ولأن الزمن حصل ليكون مقررا لحالة تاريخية تؤكد رحيل البطل إلى المكان الآخر، وكما قال أفلاطون: "إلى أن أولئك الذين يشتغلون بالحساب والهندسة يبدأون بتوليد الزوايا والكم والرقم" وهذا ما تحقق عند عسكر في روايته التي نحن بصدد تناولها بالتقطيع الدللالي فيدلنا على أن نبصر منظور حالة النفس إلى تأمل المكان بكل حالاته المجتمعية والاقتصادية والثقافية ونسميها الموجودات المعاصرة التي تآلف معها البطل المعاصر بقوله: "ومع هذا كنت موفقا بأن نصاب عملي أخذ يكتمل، والحق إن الذي شجع تيرينا على الحديث مع خالة أمها ما رأته من اهتمامي بجدها، فلم أتعامل معه وفق نظام الساعات قط، كانت هناك علاقة حميمة تربطني به." وبهذه الفنية تحصل المشاهدة المركبة كعامل ضمني في تطويع الآخر لكي يبقى هو في النور الخاص به فتكون الحقيقة كإحدى المسلمات الذكية في السيطرة على المكان عبر الزمان المتحول. ومع أهمية هذا الجهد التقني نجح الروائي بالانتقال الضروري إلى ما يؤنس القارئ ألا وهو الحب، فنقرأ وهو ينقلنا إلى شهوات رغبات النفس بقوله:
"بعد سنين من الرهبة والخوف التقي امرأة رائعة الجمال، جسد ناعم خصر مذهل ، وكلي احساس ورجفة، وجدتها باردة لا تتحدث كثيراً، غير أن الجد يوهان كان على خطأ، حورية البحر التي انتظرتني لم تكن عذراء، ولم أكن أنا أول رجل في حياتها، لكني كنت أعلل نفسي بحجج شتى، قد تكون فعلتها مرة واحدة لا أكثر، ثم أخذت تنتظر فارسها حتى وجدته، أو ربما تعمدت أن تهتك عذريتها بيدها كي تثبت أنها امرأة مثل بقية النساء"
وهنا ننتقل إلى العلاقة بين الذكاء والعلاقة العاطفية المختلفة، وتحديدا في مبدأ مقارنة القياس الاجتماعي الأول في وطنه الأم، إلى مجتمع موسوم بالرهبة والخوف في دولة اللجوء، أي المكان الثاني وهنا وجد المرأة الجميلة بخصرها المذهل، لكنها غير عذراء، وبالتالي فإنه مع الاختلاف بين المكانين تصعب المقارنة، خاصة وأن البطل ميال للحضارة، لذا فهو متحرر بالمفهوم المعني بوسائل القياس في مفاهيمه المتحضرة الخالية من العقد المجتمعية، ومن أجل هذا وجد نفسه يطبق الاختبارات ليبرر لحالته النفسية معنى حرية الاختلاف، لأنه يراعي حكمة ثقافته بتأثير العوامل النفسية التي يقيسها مختبره الذاتي، فأخذ يجد لها المبررات بواسطة المعاينة التي يحرك حاصل الحكمة لغاية تلاءم طبيعته المجتمعية الأولى، وهو ما يفيد من ملائمة قناعته الشخصية، التي تتطابق مع المعايير والمستوى العقلي الذي يؤمن به، بالمستوى الذي يحدده هو في مفهومه العاملي الثقافي المختلف، لكن هل هو مقتنع بما ذهب إليه من تحليل أو مبرر يعفيها عن معتقداته الصعبة التي تربى عليها، وعلى هذا الأساس فإن البنية في طبيعة الذكاء لم تكن موفقة لأنه قال: " لكني كنت أعلل نفسي بحجج شتى، قد تكون فعلتها مرة واحدة لا أكثر، ثم تنتظر فارسها حتى وجدته، أو ربما تعمدت أن تهتك عذريتها بيدها كي تثبت أنها امرأة مثل بقية النساء" هذا المفهوم هو أحد أهم الأسباب التي حددت جوانب قياس الانتقال التطوري في مستويات ثقافته المختلفة، لكن قد يكون هذا الايمان ايمانا سطحيا لأنه غير مقاس بالدقة، خاصة وأنه لا يعرف جيدا تاريخ تلك المرأة. وهنا نقرأ الحاصلة:
كثيراً من النهايات تأتي بعكس ما نتوقع:
"توقفت عن دلك جسد أنميتا التي لم تصمت عن الصياح، بجملتها المعهودة: كلهكم أشرار، أنا أعرفهم، ونفضت يدي من رغوة الصابون حين دخلت الحمام مديرة الدار لتخبرني أن هناك شخصا على الهاتف يطلبني، توقعت أنها تيرينا لكنه صوت مريته هولم جاءني متهدجا حزينا على غير ما عرفته عنها من مرح ولطف:
- مات السيد يوهان!
– ماذا تقولين؟
- اليوم زارته الممرضة شأنها كل اسبوع فوجدته..
– أين تيرينا؟ - غادرت مكان العمل إلى المشفى
"لم أكن لأصدق الخبر فقد غادرتُ شقته بالأمس وهو بأحسن حال وكأنما الموت ابتعد عنه سنين طويلة، وكانت الأيام تسرع كحصان يصعب كبح جماحه، وأنا أراقب صحة يوهان المتردية ثم فجأة انتفض بصحة لا غبار عليها، الحق أذهلني منظره وهيئته، خدان متوردان، حيوية ونشاد غير معهود حتى إني رفعت بصري إلى الصورة القديمة للطيارين اللاجئين متأولا وجوه أحدهم فيه، ها هو يستعيد شبابه، فلا شك إنه يحقق معجزة الحياة من جديد، لحظتها تذكرت زهوي.. إنك تموت بهذه العجالة أمر بعيد عن الاحتمال ولعل علاقتي الجديدة بحفيدتك منحتك أملاً دفعك خطوة باتجاه الحياة، منذ تلك الليلة التي باتت عندي، واتصلت بك من شقتي صباح اليوم التالي عبر الهاتف والتفاؤل والبسمة لا يفارقان وجهك وكأنك تشكرني من اعماقك، قلتُ أطري على تحسنك المفاجئ."
يعتمد الروائي قصي عسكر على بنية الجملة المتصلة من ذات نفسها، بالجملة التي تسبقها كونها تحقق البنية الواحدة لتمنح المتأمل وضوحا أكثر دقةً، بكونها تشكل انطباعا حسيا بالملاقحة السردية التي تؤكد تفسير المضامين نحو تفويض استدلال المحاسنة النفسية للمعاني حيث تعمل على ترتيب الأشياء بعضها مع بعض، الناتجة عن المتغيرات الطبيعية فرادا وكماً، على أن تكون مفهومة للقارئ، وهذا حاصل حتى في كتاباته القصصية والشعرية، وبكل هذه الحالات نجد قصي عسكر تعامل مع المجتمع الذي يعيش فيه بحرفية النقد الايجابي في علم الاجتماع في قوله: " توقفت عن دلك جسد أنميتا التي لم تصمت عن الصياح، بجملتها المعهودة: كلهكم أشرار، أنا أعرفهم،" في علم الذكاء يقول د. محمد طه "إذا كان لدينا درجة قصوى ونهائية للاختبار فإن هذا لا يساعد كثيرا في حل المشكلة*" وهكذا فإن التحليل العاملي مع مجتمع متمدن ومثقف يتمتع بتحرير ذاتي سيكولوجي مرتفع بحالته الإنسانية، وهنا تحققت مهمة الروائي حين اشار بها إلى الصفات في سمة الفرد التي تدله من خلال ثقافته الخاصة إلى تحليل الأداء العقلي في المفهومية اليومية للإنسان على اختلاف درجته النفسية سواء أكان الفرد مختلفا في مقياس درجته الثقافية المعرفية، أو هو الفرق الكيفي والكمي في الأداء، وهنا يقول سيف الدين أبي الحسن الآمدي حول الشُبَهُ الخاصةُ بالمجمل: "لا فرق بين الخطاب باللفط المجمل الذي لا يعرف له مدلول من غير بيان، وبين الخطاب بلغة يضعها المخاطب مع نفسه من غير بيان، وعند ذلك، فإمَّا أن يقال بحسن المخاطبة بهما، أو بأحداهما دون الآخر، أو لا بواحد منهما، الأول يلزم منه حسن المخاطبة بما وضعه مع نفسه من غير بيان، وهو في غاية الجهالة، والثاني أيضاً ممتنعٌ لعدم الأولوية، والثالث هو المطلوب.*" وقد نجح قصي عسكر بتحرير نصه من العوائق والمربكات في خاصية الظواهر التي تحررت من العقد الدالة على الاكراه والعنف، وقد يدلنا هذا الفهم التشخيصي إلى أن الفرد الأوروبي قادر على تحديد وعيه على اساس مفهوم معالجة القضايا الإنسانية اتجاه الآخر، وفي الوقت ذاته هو قادر على استيعاب الحالات العدوانية المتطرفة عند البعض فتجاهلها لأنه منضبط بحقوق الإنسان وبالمبدأ الديمقراطي.
وفي مقطع الخاتمة نقرأ:
"تلك اللحظة توقفت سيارة أجرة مقابل الباب، هبطت منها مريتا هولم، فهرعت إليها، كانت تلف وجهها بشال أسود خفيف شف عن تأثرها وهي تقول:
النعش في الطريق.
ومشينا باتجاه القبر الفارغ الذي فتح شدقيه لاستقبال جثة جديدة وقارورة رماد، وما هي إلا دقائق معدودة وأجدني واقفاً بين امرأتين متشحتين بالسواد يغطي وجهيهما برقعان أسودان خفيفان، وأمامي الحارس"بنت" والقس الذي راح يرتل ترتيلة تتغير في مقدمتها الأسماء كل يوم ولا تتغير سطورها أبداً:
يوهان ماترلك جئت من التراب وإلى التراب تعود فليتغمدك الرب برحمته، آمين."
أصبح يوهان ماترلك كمن يتقدم إلى الظلمة مغمض الحياة التي غادرها للتو، وكأنه في قرارة نفسه الصامتة محمول على خيط رفيع وحاله يسقط من مرتفع عال، بعد أن غادر الوجود بالشكل الذي هو عليه فراقا مطلقاً وهو يهوي إلى قاع لا قرار له، يخرج من عالم الخلق إلى القطيعة إلا من التراب الذي يحتضنه بصمت، اسماها هايدغر "الذات الراحلة إلى الضياع*" أليست هي الحقيقية المطموسة تحت ركام من الأخطاء، ومصدرها يتمثل في النهاية السرمدية إلى نظام اسمه الذات الإلهية، حيث لا خيار، نعم هي الحقيقة القاهرة كما يتصورها الإنسان، النهاية المطلقة، وهي الختام لعبثية استمرت بتمردها أعوام طويلة، بعد وضعية كانت متعالية بالأحدية الدائرية المكثرة فيها الأوهام والصراعات والكذب والتجني والتآمر والحقد والتباهي الفارغ والجريمة وألف حالة وحالة وكلها لتدمير راحة الإنسان، فالموت ليس معطى بشكل جاهز، بل يأتيك من حيث لا تدري كما وصفه البطل الذاتي في قوله: " السيد يوهان فارق الحياة في الساعة التاسعة مساء قبل أن يتمكن من الاتصال بالإسعاف أو حفيدته، مات جالساً في مكانه المفضل." إذاً هي الاستدارة إلى الهوة نحو مآل من حيث هو هناك، ولكن بعد أن ترك النسبية المدورة وذهب إلى المطلق الصامت ترى في أي مرتبة سيكون؟ وفي هذا يقول باشلار: " لا يمكن تشكيل معرفة علمية صحيحة إلا على أنقاض المعرفة الخاطئة. وهذا أكبر دليل على مدى شراسة الصراع ضد الخطأ من أجل التوصل إلى الحقيقة فالحقيقة تنتزع انتزاعاً من خلال الصراع مع الواقع ولا تقدم لنا هدية على طبق من ذهب*" انتزعت الحقيقة لتكون صفحة طويت بواقعية ارادها الأديب قصي الشيخ أن تكون خميرة أدب التضاد تبنى الإثبات المزدوج بين حقيقة العلاقات الاجتماعية القاهرة من جهة ومن جهة أخرى فهي تراتبية قيمية بتصوراتها، أو أن الواقع أصبح مضاءا بالحدس كما حققه الراوي، مع بلورة أدوات صغيت من أجل قياس الوحدات الفنية بين المقبرة والإنسان، وكل واحد منهما يلتهم الآخر، فلإنسان يحاول جاهدا تجميل المكان حتى يأمن شره، وإلا لماذا يشتري قبره وهو على قيد الحياة وينتظر! ويبقى الواقع هو الحقيقة الكبرى، لأنه يتحرك ضمن رغباته الخاصة به، ونحن البشر نتعامل مع الآخر على أساس وكأننا نمتلكه، نجده هو النصيب الذي لنا حصة عنده، لكن سرعان ما نغادر دون حصة.
المراجع:
- اقرأ المجمل عند الغزالي.
- كتاب الذكاء الإنساني للدكتور محمد طه ص 99 .
- كارل ماركس كتاب علم الاجتماع.
- أنظر سيف الدين الآمدي كتاب الشعر والناقد، للناقد اللبناني د. وهب رومية ص139 .
- اقرأ كتاب غاية المرام في أصول الكلام. لسيف الدين الأمدي
- اقرأ كتاب عصور الأدب الألماني تأليف بربارا باومان بالاشتراك مع بريجيتا اوبرله.
- كتاب فلسفة والتر هيوم، تقديم د. محمد محمد مدين.
- اقرأ تحليلات سيغموند فرويد في كتابه: العقل الباطن.
- أنطر سقراط في مؤلفه التأثير الفوري.
- انظر ارستوكليس أفلاطون في كتابه الأفلاطونية الواقعية.
- أنظر في كتاب علم الذكاء د. محمد طه.
- أنظر في كتاب الإحكام في أصول الأحكام لسيف الدين أبي الحسن الآمدي.
- أنظر رينيه ديكارت 31/ 05/ 1596 - 1650 في أهم مؤلف له تأملات في الفلسفة الأولى 1641 .
- للمزيد من الاطلاع على رأي كانغيليم في فلسفة استاذه باشلار نحيل القارئ إلى المرجع التالي لبيير يورديو: مهنة عالم الاجتماع / باريس.
جعفر كمال