وظيفة الشعر المرسل والشعر الغنائي - الشعر العربي غنائي كله - الأقصوصة القصيرة المنظومة أو ال محاولة التخلص من القافية العربية - تحكم القافية العربية في تفكير شعرائنا - القافية المطردة هي التي حرمتنا من الملاحم والقصص المنظومة - لماذا جدد الأندلسيون - هل مضى زمن الملحمة والدرامة المنظومة.
يجب أن نعرف وظيفة الشعر المرسل قبل أن نقرأه، ويجب أن نعرف أن هذا الضرب من الشعر لا قافية له، لا يمكن أن يستعمل فيما يستعمل فيه الشعر الغنائي الذي لا يمكن أن يستغني عن القافية، لأن القافية هي نصف موسيقاه
والشعر المرسل الذي ابتكره الإيطاليون واقتبسه عنهم شعراء الدول الأوربية، وفي مقدمتهم الشعراء الإنجليز، إنما يستعمل في نظم الملاحم الطوال، والقصص الشعرية، والأبداعية منها على وجه الخصوص، كما يستعمل في الدرامة المنظومة
أما الشعر الغنائي، فيستعمل في القصائد والمقطوعات والموشحات، وذلك لأنها أحوج إلى الجمال الشكلي، والكمال الموسيقي من الملحمة ومن الدرامة ومن القصة الإبداعية وذلك لأنها أيضاً، أو لأن القصيدة أو المقطوعة أو الموشحة منها، عبارة عن خلجات سائبة، يجمع الشاعر أشتاتها لتتم له منها وحدة القصيدة آخر الأمر. فالشاعر الذي يناجي ليلاه، أو يشكو بلواه، أو يبرح به الوجد في خلوته، أو يقدس لله في وحدته، أو يرثي للإنسانية الدامية، ويرى الشمس تبزغ فتغني لها روحه، ويهتف بجمالها لسانه. . . ويرى الزهرة تفتر عن ثغرها الأقحواني فيذكر ثغر معذبته، فيجلس هنيهة ليقول بيتاً أو بيتين، وينظم مقطوعة أو مقطوعتين، وكأنما يذرف عبرة أو عبرتين. . . هذا الشاعر العابر لا بد له أن يتأنى. . . إنه في حاجة ماسة إلى الفن الكامل. إنه لا يستطيع أن يتخلى عن وتر واحد من أوتار قيثاره الخمسة، إنه بحاجة شديدة إلى فتحات نايه الست. . . إنه لن يقدر عن الاستغناء عن مفتاح واحد من مفاتحه السبعة. . . إنه ينبغي أن يقف عند آخر كل بيت، لأن كل بيت إنما يحمل معنى مستقلاً بموسيقاه وإن لم يستقل كل الاستقلال بمعناه. . . إن شعره هو غناء قلبه وترجمان عواطفه، وألحان روحه، وهو إذا رثى أو مدح أو وعظ أ وصف، فهو يتغنى بفضائل المرثي وأفضال الممدوح، ويحبب في الخير ويبغض في الشر، ويردد أصداء الحديقة أو القصر، أو الجبل أو البحر، في نفسه
وكل الشعر العربي شعر غنائي لأن الشعراء العرب لم ينظموا ملحمة ولا قصة ولا درامة. والشعر القصصي الموجود عندنا هو نوع من أنواع ال أو القصة القصيرة الغنائية المنظومة، ونحوها بعض قصائد امرئ القيس والنابغة (في المتجردة مثلاً) والفرزدق (في الذئب وبعض القيان) وقصائد عمر بن ربيعة في غوانيه، وبعض وقائع أبي نواس في غيده وغلمانه، وما تفيض به يتيمة الدهر من حكايات الفضوليين والمخنثين ومن إليهم. . . ويلحق بهذا الضرب ضروب القصص بعض المدائح النبوية التي تعرضت بالشرح إلى معجزات النبي، ولعلها هي التي أوحت في العصر الحديث إلى حافظ وعبد الحليم المصري ومحمود المانسترلي بمنظوماتهم في عمر وأبي بكر وعثمان
ولسنا نعرف في تاريخ الأدب العربي أن أحداً من الشعراء العرب حاول التخلص من القافية أو حاول كتابة الشعر المرسل، على أننا نعتبر الرجز والموشحات والنظم من قافية الألف اللينة محاولة قديمة للتحرر على نطاق ضيق من أسر القوافي، وأقول أسر القوافي، وأنا أعني ما أقول وأقصده لأن هذه القوافي العربية الصارمة هي السبب المباشر في قصر قصائدنا وقصور شعرائنا على السواء، وهي السبب المباشر أيضاً في حرمان الشعر العربي من الملحمة الطويلة ومن القصة المنظومة ومن الدرامة المنظومة ومن الروائع القصصية بجميع أنواعها. . . لقد آن أن نعترف بأن فحول الشعراء العرب كانوا يضطرون، تحت أسر هذه القوافي، إلى استعمال ألفاظ حوشية مهجورة مغربة ما دامت داخلة في باب القافية التي ينظمون منها. ومن المؤلم أن نقرر أن هذه الألفاظ الحوشية المهجورة المغربة كانت تتعاون مع الألفاظ السهلة المستعملة المتداولة في التحكم أحياناً في سير القصيدة وفي رسم الطريق للمعاني. . . وأنا موقن أن الشاعر المطبوع والشاعر غير المطبوع مستويان في الخضوع لأسر القافية وتحكمها في جميع ما يريد كل منهما أن يقول، حتى في المقطوعات القصيرة، وحتى في الموشحات التي تتنوع القوافي في مقطوعاتها
وأذكر بهذه المناسبة ما يلاحظه بعض نقاد الآداب الأجانب على الشعر العربي من البطء الشديد في أداء المعاني التي تضطرب بها نفس الشاعر. ولا جدال في أن القافية وحدها هي سبب هذا البطء لتحكمها في تفكير الشاعر تحكماً سخيفاً مضنياً ينتهي إلى إجهاد قريحته وتجشيمها ما لا تطيق، وتكون النتيجة المحتومة التي لا مفر منها واحدة من اثنتين: فإما أن تعطينا هذه القريحة المجهدة المتعبة شعراً مجهداً متعباً، وإما أن يؤدي هذا الإجهاد إلى موت القريحة نفسها وانصرافها عن هذا الشعر المضني السخيف الذي لا خير فيه إلا تلك الموسيقى الكاملة وإلا الطنين والرنين
لذلك نرجح أن نظم الرجز والموشحات والنظم من قافية الألف اللينة كان محاولة للتخلص من ربقة القافية المتشاكلة المملة التي تتحكم في معظم الأحوال في كل ما يريد أن يقوله الشاعر وفي كل ما يفكر فيه، وفي كل ما يزخر فيه خاطره من خوالج، تلك القافية التي لا شبيه لها إلا في الشعر العربي
ولذلك أيضاً نجزم بأن القافية المتشاكلة المملة هذه، كانت السبب في حرمان الأدب العربي أو الشعر العربي على وجه التحديد من الملحمة والقصة الطويلة المنظومة، ثم من الدرامة وذلك لأن أثرها في توجيه تفكير الشاعر يكون أقصى من المنظومات الطويلة التي تحتاج إلى المرونة والتدفق ورقة التسلسل وعدم الإرهاق بالاطراد السمج الذي يقتضي حشد خمسمائة أو تسعمائة أو ألف لفظة متفقة الوزن وموحدة الحرف الأخير لمنظومة تتألف من مثل هذا العدد من الأبيات
لقد تعاظم هذا الحظر الشعراء الأندلسيين، كما تعاظمهم كذلك أن تظل ثقافتهم الشعرية ذليلة لعروض الشعر المشرقي؛ وتعاظمهم أيضاً أن يسمعوا إلى هذه المنظومات الرقيقة المشرقة التي يهتف بها شعراء الأسبان في غرناطة وقشتالة وطليطلة وغيرها من أمهات المدن الإسبانية، وأن يظلوا هم عاكفين على قوافي المهلهل والسليك والطرماح ومن إليهم من شعراء الجزيرة العربية منذ جاهليتها الأولى، فداروا مع الزمان الذي استدار، وقلدوا الأغاريد الجديدة التي سمعوا، فأمدوا الشعر العربي بتلك الموشحات الرائعة التي كانت خطوة بارعة في سبيل التخلص من القافية المطردة التي ما زال شعراؤنا أو معظمهم ينتصرون لها ولا يرون التخلص من أصفادها مع الأسف الشديد
قرأت في أحد كتب المستشرقين أن أدباءنا القدامى، أي أدباء العرب، الذين لم يستطيعوا أن يقرضوا الشعر اكتفوا بأن يسجعوا النثر، وعلل الكاتب هذه الظاهرة بتحكم سلطان القافية في الشعر العربي، واستهوائها لنفوس العرب والأمم المستعربة على السواء، وعلل بهذا ظهور السجع في كلام العرب القديم.
فإلى متى يا ترى يظل شعراؤنا عبيداً لهذه القوافي المطردة التي لم تتغير منذ عهد عاد!
وكيف يتفوق الأندلسيون على المصريين والشاميين والعراقيين وعرب المغرب وشعرائنا في المهاجر من حيث الاستجابة للصوت الجديد الغرد الذي كان يغني من حولهم فغنوا كما غنى وأنشدوا كما أنشد وشعروا كما شعر، ثم بزوه بموسيقى العروض العربي ذي الثروة الطائلة من الأنغام والموازين فتأثر هو الآخر بهم كما تأثروا به، وأذاع بتلك الموازين في العالم اللاتيني كله، وتأثر الشعر الغنائي هناك بما يطول ذكره في تاريخ آداب الأمم اللاتينية (أسبانيا وفرنسا وإيطاليا) مما نرجو أن نعرض له في فصل خاص إن شاء الله
فكيف لا يستجيب شعراؤنا اليوم لما يدوي حولهم من موسيقى هذا الوجود؟
إننا نقرأ شكسبير ونعجب به، ونشيد بذكر ملتون ونكب على فردوسه، ونتلو آثار الشعراء الفرنسيين والألمان والإيطاليين والأسبان، التي أنشأت بالشعر المرسل في الملاحم للمسرح، ثم نحن تسحرنا هذه الأشعار بسهولتها وسرعتها وموسيقاها الرائعة التي استغنت عن القافية واستعاضت منها بالنغم الحلو، والديباجة الناعمة المشرقة، والأسلوب الذي لا ينزل ولا يسف، ولا يلتوي ولا يتحذلق، فلماذا يا ترى لا نستجيب في شعرنا لهذه الأصداء الأوربية الرائعة كما استجاب العرب الأندلسيون؟
قد يقول قائل: لقد مضى زمن الملاحم، فما بالأدب العربي وما بالشعر العربي حاجة إليها، أما الدرامة المنظومة فقد فشل التنفيذ في مصر باللغة العربية، فهل يحيا بالشعر؟
قيل هذا الكلام في بعض المجالس التي دار فيها الحديث عن تلك الدعوة لتجديد الأدب العربي والدعوة إلى تجديد الشعر العربي كذلك والذين سمعت هذا الكلام منهم أدباء متصلون بشيوخ الشعراء المصريين الذين عبنا عليهم في غير كلمة جمودهم وعدم ثورتهم على القديم وتمسكهم بأهداب الماضي السحيق الموغل في القدم، لأنه يرتد إلى أكثر من ألفي سنة
منطق عجيب أن دل على شيء فهو إنما يدل على تجاهل لا جهل، وإصرار على الجمود دون محاولة بذل أي جهد نحو التجديد لقد مضى زمن الملاحم. . . هكذا يقول شيوخ الأدباء في مصر. وعلى هذا فقد قضى على اللغة العربية وعلى الأدب العربي، وعلى المتأدبين العرب ألا تكون لهم ملحمة ما، كالإلياذة والأوديسة لهوميروس، والإلياذة لفرجيل، والكوميديا الإلهية لدانتي، والشاهنامة للفردوسي، والفردوسي، المفقود لملتون. . . بل قضى على الأدب العربي، والشعر العربي، وعلى المتأدبين العرب ألا يكون لهم قصص طويل منظوم رائع مثل فينوس وأدونيس والكريس لشكسبير وسوردلو
وباراسلزوس والخاتم والكتاب لروبرت بروننج، وتشيلد هارولد ودون اجوان لبيرون، وأدونيس وثورة الإسلام والملكة ماب لشلي، والقرية المهجورة لجولد سمث، وسهراب ورستم لأرنولد، وملاحم تنيسون الموسيقية البارعة، وأنديميون ولاميا وإيزابيلا. هذه الملاحم أو ال الشعرية الرائعة التي كان يخلق بشعرائنا أن يتعلموا منها كيف يقرضون الشعر، وهي مع هذا من نظم كيتس الشاب الذي لم يعد الثالثة والعشرين!
أما أن زمن الدرامة المنظومة قد مضى، وأن التمثيل باللغة العربية الفصحى قد فشل في مصر، فهو كلام لا يقوله قوم يؤمنون بنهضة أو يوقنون بإصلاح. وسنترك إنجلترا وفرنسا وألمانيا في الرد على هؤلاء اليائسين المتشائمين ونتجه بهم نحو مصر نفسها، فنذكرهم بالفرق الإنجليزية والفرق الفرنسية التي كانت تزورنا منذ عامين لا أكثر لتمثل لنا درامات شكسبير وموليير وغيرهما من مسرحي الإنجليز والفرنسيين. ثم نذكرهم في الوقت الحاضر بكواكب هوليوود ونجومها الذين - واللائى - يزورون مصر الآن للترفيه عن جنود الحلفاء في الشرق الأدنى والأوسط، وقد سمعت منهم - عن طريق الإذاعة - أكثر من خمسين أوبريت وعشرات من المشاهد المختارة من أبدع ما أنشأ شعراء الشعر المرسل
لست أدري لماذا يستمر الإنجليز في تمثيل درامات شكسبير ودريدن وبيترو ما دام أن زمن الدرامة المنظومة قد مضى في نظر شعرائنا الشيوخ الأفاضل؟
على أنه إن كان زمن الدرامة المنظومة قد مضى فماذا صنع شعراؤنا الأفاضل في زمن الدرامة المنثورة؟ لقد دعوناهم إلى مد المسرح والسينما بالدرامات الرفيعة التي نحن أحوج إليها من ألف ألف مقالة أو قصيدة أو مقطوعة مما يكتبون وينظمون، فهل فعلوا. . . هل فكروا؟. . . لقد دعوناهم إلى أن يفكروا للعصر الحديث بعقول حديثة، كما ندعوهم اليوم لكي ينظموا للعصر الحديث على غير طريقة المهلهل منذ ألفين من السنين، فهل استجابوا لصوت العصر الجديد؟ لقد شكونا إليهم عدم مشاركتهم في رفع المستوى المسرحي والسينمائي المصري، هذا المستوى الذي ينحط برواياته وشعبذاته ويجعلنا ضحكة الدنيا وسخرية العالم، فهل نزلوا إلى الميدان؟
ولقد سمعت كذلك من أحد المتصلين بهؤلاء الشيوخ أن الشاعر إنما ينبغي أن يكون غنائياً فحسب، لأن كل نظم غير غنائي هو نظم مصنوع فحسب، وكل نظم مصنوع، ادرامي أو نظم ملاحم أو قصص أو لا يمكن أن يكون صادراً عن روح شاعرة تحسه وتنفعل به. . . وهذه في رأيي نظرة ضيقة أو حجة يراد بها الجدل الفارغ والدفاع الذي لا يستقيم لصاحبه. وإلا فأين تذهب تلك الصور البارعة التي تسلب الشاعر وتسحر القلوب من صور الإلياذة والأوديسة والإلياذة والكوميديا الإلهية والفردوس المفقود. . .؟ ثم أين تذهب أشعار تاسو وأريوستو ودي فيجا وسرفنتس وراسين وكوريني القصصية الرائعة؟. . . أم أين تذهب المشاهد الساحرة المحشودة في هملت والأمير جون وعطيل ومكبث والملك لير وروميو وجولييت وتاجر البندقية وفاوست وتيمورلنك وغيرها وغيرها مما لا يكاد يستقصيه حصر ولا يقع تحت عدد؟
كم كان بودي أن أعرك أذن الشاعر الشيخ الذي أرسل هذا الهراء، ثم أصخ فيها بأعلى أصوات هومر وفرجيل ودانتي وملتون وشكسبير ومارلو والشعراء الطليان والأسبان واليونان والألمان، لكي يعلموا أن الشاعر الذي يغني لنفسه بقصيدة أو مقطوعة من بضعة أبيات أو من عشرين أو ثلاثين بيتاً هو شاعر أناني كسول. . . أما الشاعر الذي يعد آلام الناس من آلامه ومشاعرهم من مشاعره وقضايا قلوبهم هي قضايا قلبه، والدموع التي تنذرف من مآقيهم كأنها تنذرف من مآقيه. . . هذا الشاعر الذي يستجيب لأحزان الناس فيرددها قصة أو ملحمة أو درامة، إنما هو الشاعر الحق الجدير بالبقاء. . . هذا الشاعر. . . هو الذي أبحث عنه بين شعرائنا الشباب، ولن أفقد الأمل في أن أعثر عليه بين شعرائنا الشيوخ.
(يتبع)
دريني خشبة
مجلة الرسالة - العدد 539
بتاريخ: 01 - 11 - 1943
يجب أن نعرف وظيفة الشعر المرسل قبل أن نقرأه، ويجب أن نعرف أن هذا الضرب من الشعر لا قافية له، لا يمكن أن يستعمل فيما يستعمل فيه الشعر الغنائي الذي لا يمكن أن يستغني عن القافية، لأن القافية هي نصف موسيقاه
والشعر المرسل الذي ابتكره الإيطاليون واقتبسه عنهم شعراء الدول الأوربية، وفي مقدمتهم الشعراء الإنجليز، إنما يستعمل في نظم الملاحم الطوال، والقصص الشعرية، والأبداعية منها على وجه الخصوص، كما يستعمل في الدرامة المنظومة
أما الشعر الغنائي، فيستعمل في القصائد والمقطوعات والموشحات، وذلك لأنها أحوج إلى الجمال الشكلي، والكمال الموسيقي من الملحمة ومن الدرامة ومن القصة الإبداعية وذلك لأنها أيضاً، أو لأن القصيدة أو المقطوعة أو الموشحة منها، عبارة عن خلجات سائبة، يجمع الشاعر أشتاتها لتتم له منها وحدة القصيدة آخر الأمر. فالشاعر الذي يناجي ليلاه، أو يشكو بلواه، أو يبرح به الوجد في خلوته، أو يقدس لله في وحدته، أو يرثي للإنسانية الدامية، ويرى الشمس تبزغ فتغني لها روحه، ويهتف بجمالها لسانه. . . ويرى الزهرة تفتر عن ثغرها الأقحواني فيذكر ثغر معذبته، فيجلس هنيهة ليقول بيتاً أو بيتين، وينظم مقطوعة أو مقطوعتين، وكأنما يذرف عبرة أو عبرتين. . . هذا الشاعر العابر لا بد له أن يتأنى. . . إنه في حاجة ماسة إلى الفن الكامل. إنه لا يستطيع أن يتخلى عن وتر واحد من أوتار قيثاره الخمسة، إنه بحاجة شديدة إلى فتحات نايه الست. . . إنه لن يقدر عن الاستغناء عن مفتاح واحد من مفاتحه السبعة. . . إنه ينبغي أن يقف عند آخر كل بيت، لأن كل بيت إنما يحمل معنى مستقلاً بموسيقاه وإن لم يستقل كل الاستقلال بمعناه. . . إن شعره هو غناء قلبه وترجمان عواطفه، وألحان روحه، وهو إذا رثى أو مدح أو وعظ أ وصف، فهو يتغنى بفضائل المرثي وأفضال الممدوح، ويحبب في الخير ويبغض في الشر، ويردد أصداء الحديقة أو القصر، أو الجبل أو البحر، في نفسه
وكل الشعر العربي شعر غنائي لأن الشعراء العرب لم ينظموا ملحمة ولا قصة ولا درامة. والشعر القصصي الموجود عندنا هو نوع من أنواع ال أو القصة القصيرة الغنائية المنظومة، ونحوها بعض قصائد امرئ القيس والنابغة (في المتجردة مثلاً) والفرزدق (في الذئب وبعض القيان) وقصائد عمر بن ربيعة في غوانيه، وبعض وقائع أبي نواس في غيده وغلمانه، وما تفيض به يتيمة الدهر من حكايات الفضوليين والمخنثين ومن إليهم. . . ويلحق بهذا الضرب ضروب القصص بعض المدائح النبوية التي تعرضت بالشرح إلى معجزات النبي، ولعلها هي التي أوحت في العصر الحديث إلى حافظ وعبد الحليم المصري ومحمود المانسترلي بمنظوماتهم في عمر وأبي بكر وعثمان
ولسنا نعرف في تاريخ الأدب العربي أن أحداً من الشعراء العرب حاول التخلص من القافية أو حاول كتابة الشعر المرسل، على أننا نعتبر الرجز والموشحات والنظم من قافية الألف اللينة محاولة قديمة للتحرر على نطاق ضيق من أسر القوافي، وأقول أسر القوافي، وأنا أعني ما أقول وأقصده لأن هذه القوافي العربية الصارمة هي السبب المباشر في قصر قصائدنا وقصور شعرائنا على السواء، وهي السبب المباشر أيضاً في حرمان الشعر العربي من الملحمة الطويلة ومن القصة المنظومة ومن الدرامة المنظومة ومن الروائع القصصية بجميع أنواعها. . . لقد آن أن نعترف بأن فحول الشعراء العرب كانوا يضطرون، تحت أسر هذه القوافي، إلى استعمال ألفاظ حوشية مهجورة مغربة ما دامت داخلة في باب القافية التي ينظمون منها. ومن المؤلم أن نقرر أن هذه الألفاظ الحوشية المهجورة المغربة كانت تتعاون مع الألفاظ السهلة المستعملة المتداولة في التحكم أحياناً في سير القصيدة وفي رسم الطريق للمعاني. . . وأنا موقن أن الشاعر المطبوع والشاعر غير المطبوع مستويان في الخضوع لأسر القافية وتحكمها في جميع ما يريد كل منهما أن يقول، حتى في المقطوعات القصيرة، وحتى في الموشحات التي تتنوع القوافي في مقطوعاتها
وأذكر بهذه المناسبة ما يلاحظه بعض نقاد الآداب الأجانب على الشعر العربي من البطء الشديد في أداء المعاني التي تضطرب بها نفس الشاعر. ولا جدال في أن القافية وحدها هي سبب هذا البطء لتحكمها في تفكير الشاعر تحكماً سخيفاً مضنياً ينتهي إلى إجهاد قريحته وتجشيمها ما لا تطيق، وتكون النتيجة المحتومة التي لا مفر منها واحدة من اثنتين: فإما أن تعطينا هذه القريحة المجهدة المتعبة شعراً مجهداً متعباً، وإما أن يؤدي هذا الإجهاد إلى موت القريحة نفسها وانصرافها عن هذا الشعر المضني السخيف الذي لا خير فيه إلا تلك الموسيقى الكاملة وإلا الطنين والرنين
لذلك نرجح أن نظم الرجز والموشحات والنظم من قافية الألف اللينة كان محاولة للتخلص من ربقة القافية المتشاكلة المملة التي تتحكم في معظم الأحوال في كل ما يريد أن يقوله الشاعر وفي كل ما يفكر فيه، وفي كل ما يزخر فيه خاطره من خوالج، تلك القافية التي لا شبيه لها إلا في الشعر العربي
ولذلك أيضاً نجزم بأن القافية المتشاكلة المملة هذه، كانت السبب في حرمان الأدب العربي أو الشعر العربي على وجه التحديد من الملحمة والقصة الطويلة المنظومة، ثم من الدرامة وذلك لأن أثرها في توجيه تفكير الشاعر يكون أقصى من المنظومات الطويلة التي تحتاج إلى المرونة والتدفق ورقة التسلسل وعدم الإرهاق بالاطراد السمج الذي يقتضي حشد خمسمائة أو تسعمائة أو ألف لفظة متفقة الوزن وموحدة الحرف الأخير لمنظومة تتألف من مثل هذا العدد من الأبيات
لقد تعاظم هذا الحظر الشعراء الأندلسيين، كما تعاظمهم كذلك أن تظل ثقافتهم الشعرية ذليلة لعروض الشعر المشرقي؛ وتعاظمهم أيضاً أن يسمعوا إلى هذه المنظومات الرقيقة المشرقة التي يهتف بها شعراء الأسبان في غرناطة وقشتالة وطليطلة وغيرها من أمهات المدن الإسبانية، وأن يظلوا هم عاكفين على قوافي المهلهل والسليك والطرماح ومن إليهم من شعراء الجزيرة العربية منذ جاهليتها الأولى، فداروا مع الزمان الذي استدار، وقلدوا الأغاريد الجديدة التي سمعوا، فأمدوا الشعر العربي بتلك الموشحات الرائعة التي كانت خطوة بارعة في سبيل التخلص من القافية المطردة التي ما زال شعراؤنا أو معظمهم ينتصرون لها ولا يرون التخلص من أصفادها مع الأسف الشديد
قرأت في أحد كتب المستشرقين أن أدباءنا القدامى، أي أدباء العرب، الذين لم يستطيعوا أن يقرضوا الشعر اكتفوا بأن يسجعوا النثر، وعلل الكاتب هذه الظاهرة بتحكم سلطان القافية في الشعر العربي، واستهوائها لنفوس العرب والأمم المستعربة على السواء، وعلل بهذا ظهور السجع في كلام العرب القديم.
فإلى متى يا ترى يظل شعراؤنا عبيداً لهذه القوافي المطردة التي لم تتغير منذ عهد عاد!
وكيف يتفوق الأندلسيون على المصريين والشاميين والعراقيين وعرب المغرب وشعرائنا في المهاجر من حيث الاستجابة للصوت الجديد الغرد الذي كان يغني من حولهم فغنوا كما غنى وأنشدوا كما أنشد وشعروا كما شعر، ثم بزوه بموسيقى العروض العربي ذي الثروة الطائلة من الأنغام والموازين فتأثر هو الآخر بهم كما تأثروا به، وأذاع بتلك الموازين في العالم اللاتيني كله، وتأثر الشعر الغنائي هناك بما يطول ذكره في تاريخ آداب الأمم اللاتينية (أسبانيا وفرنسا وإيطاليا) مما نرجو أن نعرض له في فصل خاص إن شاء الله
فكيف لا يستجيب شعراؤنا اليوم لما يدوي حولهم من موسيقى هذا الوجود؟
إننا نقرأ شكسبير ونعجب به، ونشيد بذكر ملتون ونكب على فردوسه، ونتلو آثار الشعراء الفرنسيين والألمان والإيطاليين والأسبان، التي أنشأت بالشعر المرسل في الملاحم للمسرح، ثم نحن تسحرنا هذه الأشعار بسهولتها وسرعتها وموسيقاها الرائعة التي استغنت عن القافية واستعاضت منها بالنغم الحلو، والديباجة الناعمة المشرقة، والأسلوب الذي لا ينزل ولا يسف، ولا يلتوي ولا يتحذلق، فلماذا يا ترى لا نستجيب في شعرنا لهذه الأصداء الأوربية الرائعة كما استجاب العرب الأندلسيون؟
قد يقول قائل: لقد مضى زمن الملاحم، فما بالأدب العربي وما بالشعر العربي حاجة إليها، أما الدرامة المنظومة فقد فشل التنفيذ في مصر باللغة العربية، فهل يحيا بالشعر؟
قيل هذا الكلام في بعض المجالس التي دار فيها الحديث عن تلك الدعوة لتجديد الأدب العربي والدعوة إلى تجديد الشعر العربي كذلك والذين سمعت هذا الكلام منهم أدباء متصلون بشيوخ الشعراء المصريين الذين عبنا عليهم في غير كلمة جمودهم وعدم ثورتهم على القديم وتمسكهم بأهداب الماضي السحيق الموغل في القدم، لأنه يرتد إلى أكثر من ألفي سنة
منطق عجيب أن دل على شيء فهو إنما يدل على تجاهل لا جهل، وإصرار على الجمود دون محاولة بذل أي جهد نحو التجديد لقد مضى زمن الملاحم. . . هكذا يقول شيوخ الأدباء في مصر. وعلى هذا فقد قضى على اللغة العربية وعلى الأدب العربي، وعلى المتأدبين العرب ألا تكون لهم ملحمة ما، كالإلياذة والأوديسة لهوميروس، والإلياذة لفرجيل، والكوميديا الإلهية لدانتي، والشاهنامة للفردوسي، والفردوسي، المفقود لملتون. . . بل قضى على الأدب العربي، والشعر العربي، وعلى المتأدبين العرب ألا يكون لهم قصص طويل منظوم رائع مثل فينوس وأدونيس والكريس لشكسبير وسوردلو
وباراسلزوس والخاتم والكتاب لروبرت بروننج، وتشيلد هارولد ودون اجوان لبيرون، وأدونيس وثورة الإسلام والملكة ماب لشلي، والقرية المهجورة لجولد سمث، وسهراب ورستم لأرنولد، وملاحم تنيسون الموسيقية البارعة، وأنديميون ولاميا وإيزابيلا. هذه الملاحم أو ال الشعرية الرائعة التي كان يخلق بشعرائنا أن يتعلموا منها كيف يقرضون الشعر، وهي مع هذا من نظم كيتس الشاب الذي لم يعد الثالثة والعشرين!
أما أن زمن الدرامة المنظومة قد مضى، وأن التمثيل باللغة العربية الفصحى قد فشل في مصر، فهو كلام لا يقوله قوم يؤمنون بنهضة أو يوقنون بإصلاح. وسنترك إنجلترا وفرنسا وألمانيا في الرد على هؤلاء اليائسين المتشائمين ونتجه بهم نحو مصر نفسها، فنذكرهم بالفرق الإنجليزية والفرق الفرنسية التي كانت تزورنا منذ عامين لا أكثر لتمثل لنا درامات شكسبير وموليير وغيرهما من مسرحي الإنجليز والفرنسيين. ثم نذكرهم في الوقت الحاضر بكواكب هوليوود ونجومها الذين - واللائى - يزورون مصر الآن للترفيه عن جنود الحلفاء في الشرق الأدنى والأوسط، وقد سمعت منهم - عن طريق الإذاعة - أكثر من خمسين أوبريت وعشرات من المشاهد المختارة من أبدع ما أنشأ شعراء الشعر المرسل
لست أدري لماذا يستمر الإنجليز في تمثيل درامات شكسبير ودريدن وبيترو ما دام أن زمن الدرامة المنظومة قد مضى في نظر شعرائنا الشيوخ الأفاضل؟
على أنه إن كان زمن الدرامة المنظومة قد مضى فماذا صنع شعراؤنا الأفاضل في زمن الدرامة المنثورة؟ لقد دعوناهم إلى مد المسرح والسينما بالدرامات الرفيعة التي نحن أحوج إليها من ألف ألف مقالة أو قصيدة أو مقطوعة مما يكتبون وينظمون، فهل فعلوا. . . هل فكروا؟. . . لقد دعوناهم إلى أن يفكروا للعصر الحديث بعقول حديثة، كما ندعوهم اليوم لكي ينظموا للعصر الحديث على غير طريقة المهلهل منذ ألفين من السنين، فهل استجابوا لصوت العصر الجديد؟ لقد شكونا إليهم عدم مشاركتهم في رفع المستوى المسرحي والسينمائي المصري، هذا المستوى الذي ينحط برواياته وشعبذاته ويجعلنا ضحكة الدنيا وسخرية العالم، فهل نزلوا إلى الميدان؟
ولقد سمعت كذلك من أحد المتصلين بهؤلاء الشيوخ أن الشاعر إنما ينبغي أن يكون غنائياً فحسب، لأن كل نظم غير غنائي هو نظم مصنوع فحسب، وكل نظم مصنوع، ادرامي أو نظم ملاحم أو قصص أو لا يمكن أن يكون صادراً عن روح شاعرة تحسه وتنفعل به. . . وهذه في رأيي نظرة ضيقة أو حجة يراد بها الجدل الفارغ والدفاع الذي لا يستقيم لصاحبه. وإلا فأين تذهب تلك الصور البارعة التي تسلب الشاعر وتسحر القلوب من صور الإلياذة والأوديسة والإلياذة والكوميديا الإلهية والفردوس المفقود. . .؟ ثم أين تذهب أشعار تاسو وأريوستو ودي فيجا وسرفنتس وراسين وكوريني القصصية الرائعة؟. . . أم أين تذهب المشاهد الساحرة المحشودة في هملت والأمير جون وعطيل ومكبث والملك لير وروميو وجولييت وتاجر البندقية وفاوست وتيمورلنك وغيرها وغيرها مما لا يكاد يستقصيه حصر ولا يقع تحت عدد؟
كم كان بودي أن أعرك أذن الشاعر الشيخ الذي أرسل هذا الهراء، ثم أصخ فيها بأعلى أصوات هومر وفرجيل ودانتي وملتون وشكسبير ومارلو والشعراء الطليان والأسبان واليونان والألمان، لكي يعلموا أن الشاعر الذي يغني لنفسه بقصيدة أو مقطوعة من بضعة أبيات أو من عشرين أو ثلاثين بيتاً هو شاعر أناني كسول. . . أما الشاعر الذي يعد آلام الناس من آلامه ومشاعرهم من مشاعره وقضايا قلوبهم هي قضايا قلبه، والدموع التي تنذرف من مآقيهم كأنها تنذرف من مآقيه. . . هذا الشاعر الذي يستجيب لأحزان الناس فيرددها قصة أو ملحمة أو درامة، إنما هو الشاعر الحق الجدير بالبقاء. . . هذا الشاعر. . . هو الذي أبحث عنه بين شعرائنا الشباب، ولن أفقد الأمل في أن أعثر عليه بين شعرائنا الشيوخ.
(يتبع)
دريني خشبة
مجلة الرسالة - العدد 539
بتاريخ: 01 - 11 - 1943