هذه هي المحاضرة الجلية التي ألقاها سعادة العالم البحاثة الثقة أحمد زكي باشا سكرتير مجلس النظار في نادي موظفي الحكومة بالاسكندرية - وقد أتحف بها سعادته مجلة البان فنشكر لسعادته الشكر كله طرفة غالية ستعيها إن شاء الله أذن صاغية
1
تمهيد
قلبي بأندلس مدله وعقلي بأطلاله موله. وهيامي بأهليه حديث قديم، وغرامي بساكنيه مقعد مقيم. وحنيني إليه يحبب لي فيه الأسى والحنين.
فلا غرو إذا كنت أتصيد الفرص السوانح ولا عجب إذا كنت أتقنص الشوارد والبوارح، لأترنم بذكرى المحبوب. فإن الذكرى بلسم القلوب.
أفليس المصدور يروح نفسه بنفثه؟ وهل يلام المستهام إذا تحين خلسة لبثة؟ فاعذروني على هذا الهوى العذري! فقد خانني شعري ولم يساعدني نثري على أنني أعلل نفسي بأن تستمعوا لهمسي وتعاونوني على إحياء أندلسي فذلك الهوس هوسي قد لازمني في حلمي وفي حسي واستمكن من عقلي واستولى على نفسي فهل أحظى بشارقة يكون بها أنسى قبل أن أدخل في رمسي.
ناشدتكم الله أن تسمحوا لهذه الزفرات أن تتصاعد على مسمع منكم! وأن تبيحوا لهذه العبرات أن تتحدر على مشهد منكم! فلعلي أجد في هذا الأنين راحة مما يجده قلبي الحزين! ولعلي أتوصل لإيصال صورتي إلى أعماق قلوب الحاضرين ولإرسال صداء إلى غاية مداه بين الغائبين! ولعلي ولعلني. ولعلني أرى الكثيرين من أبناء أمتي يشاركونني في صبابتي ولوعتي! فو الله أن الشرك في مثل هذا الغرام ليس فيه شيء من الحرام لا في شرع الهوى ولا في شرع النهي، ولا في شرع الهدى، فكل شرك مذموم: اللهم إلا ما كان فيه تعاون على البر والتقوى. وليت شعري أي تعاون أفضل من وضع الأيدي ومن توازر العقول بالعقول ومن تجاذب الأرواح إلى الأرواح للتناصر على إحياء كلمة الأدب بين العرب حتى يزدان هذا العصر الجديد بما كان للشرق من فخر قديم ومجد تليد.
لعمري إذا ما سرى هذا التيار تيار الكهرباء المنبعث من ذياك الغرام في صدور أبناء العرب الكرام، فلا جرم أن تتوقد في قلوبهم تلك الحمية التي امتلكوها بها نواصي الأيام. ولا ريب في أن يشتعل في نفوسهم ذلك الحماس الذي سادوا به على الناس فالأيام دول ومن سار على الدرب وصل!
كنت آليت على نفسي في هذه السنة أن لا أناجي هذا النادي، وأن لا أحاضر هذا السامر بما أتلقفه من بطون الطوامير وما أهتدي إليه بين دفات الدفاتر مما ينضاف إليه شيء من علمي القاصر وخاطري الكليل الفاتر وكنت أردت أن أحقق في نفسي ما قاله حكماء العجم والعرب. إن كان الكلام من فضة: فالسكوت من ذهب فلزمت الصمت ولازمت البيت: وعكفت على خدمة الدفاتر والطوامير. ولبثت منتظراً انهيال القناطر من الدنانير: ولكن حرفة الأدب لا نسبة ولا نسب بينها وبين الذهب. فلم أحظ بذهب السكوت وانفضت عني فضة الكلام فكان حظي صفقة المغبون.
وكأن الأقمار حكمت علي بفضة الكلام لا غير فأثارني من مكمني. وهزني بشدة عنيفة لمعاودة المحاضرة في هذا النادي.
ذلك أن جريدة النوفيل التي تصدر في الإسكندرية كتبت ذات يوم فصلاً عن المسيو بوانكاريه رئيس الجمهورية الفرنسية أثناء زيارته لعاصمة الأنقليشيين (كما يقول الأندلسيون) أو الأنكتار (كما كان يقول المصريون في أيام الحروب الصليبية) أو الانجليز (كما نقول نحن اليوم) تلك العاصمة التي كان أهل الأندلس يسمونها لوندرس وعلى منوالهم جرى الاسبانيون إلى الآن، وهي لوندرة في اصطلاحنا عن الفرنسيين أو لندن في عرفنا أيضاً عن أبناء جلدتها.
قالت جريدة النوفيل أن المسيو بوانكاريه استقبل عشرين وفداً من طوائف الانجليز ورجالاتهم المعدودين، وكلهم قدّم له خطبة للترحيب بمقدمه إلى بلادهم. فأجاب كل خطبة بعبارة من الشكر تخالف ما أجاب به الأخرى. وهكذا استعمل الرئيس عشرين صيغة مختلفة في الشكر. فدل بذلك على تضلعه من لغته وتبحره في آدابها. وكانت هذه البراعة سبباً لإعجاب الناس بهذا الاقتدار. تلقف الإخباريون هذه النادرة فأطنبوا في مدحها وأعجبوا بالرئيس إعجاباً ما وراءه من مزيد.
رأيت ذلك فأخذتني العصبية لقومي، والحمية للغتي. فأمسكت القلم وكتبت في الحال لجريدة النوفيل فصلاً باللغة الفرنسية تكرمت بنشره في اليوم الثاني. أظهرت في هذا الفصل ما تذكرته من أوجه الشبه بين الوزير ابن زيدون وبين الرئيس بوانكاريه ثم ذكرت ما رواه ابن بسام صاحب الذخيرة في محاسن الجزيرة أي جزيرة الأندلس. قال عن ابن زيدون: فاما سعة ذرعه، وتدفق طبعه؟ وغزارة بيانه، ورقة حاشية لسانه: فالصبح الذي لا ينكر ولا يرد، والرمل الذي لا يحصى ولا يعد. أخبرني من لا أدفع خبره من وزراء اشبيلية، قال: لَعهدي بأبي الوليد قائماً على جنازة بعض حُرَمه والناس يعزونه على اختلاف طبقاتهم، فما سمع يجيب بما أجاب به غيره لسعة ميدانه، وحضور جنانه قال الصلاح الصفدي: وهذا من التوسع في العبارة والقدرة على التفنن في أساليب الكلام. وهو أمر صعب إلى الغاية وأقل ما كان في تلك الجنازة - وهو وزير_ألف رئيس ممن يتعين عليه أن يشكر له، فيحتاج في هذا المقام إلى ألف عبارة مضمونها الشكر. وهذا كثير إلى الغاية، ولا سيما من محزون فقد قطعة من كبده.
ولكنه صوب العقول إذا انبرت ... سحائب منه أعقبت بسحائب
أظهرت للجريدة الفرنسية أن ما صنعه ابن زيدون أكثر بكثير مما فعله الرئيس بوانكاريه، ولا سيما إذا نظرنا إلى الموقفين فإن المثكول بالأولاد، المحروق الفؤاد، يستعصي عليه الكلام، ويحتبس لسانه دون البيان، ولو كان في بلاغة قس وفصاحة سحبان.
ثم ذكرت في تلك الرسالة أن ابن زيدون ممن يستأهل التعريف به في هذه الأيام، وأنني ربما اختلست فرصة من وقتي وتملصت من الأشغال الكثيرة التي تستفرغ جهدي وفكري لتحضير محاضرة أتحف بها أخواني في نادي الموظفين بالإسكندرية. ولكنني لم أختم الرسالة دون الاستطراد إلى ما فعله بعض المشارقة مما ينطوي تحت هذا الباب واخترت ثلاثة شواهد أوردتها لأولي النهي من الإفرنج والجاهلين أو المتجاهلين من المصريين المتفرنجين ليعلموا أن في العربية كنوزاً لمن يطلبها، وذخائر تجعل لها ولأهلها فخراً باقياً. اخترت المثال الأول من العراق، وأشرت إلى الحريري صاحب المقامات وذلك أنه كلما جمع بين الحارث بن همام وبين أبي زيد السروجي واحتاج إلى التفريق بينهما وإلى القول فلما أصبح الصباح تراه يعبر عن هذا المعنى في كل مقامة بعبارة تغاير الأخرى.
والمقامات بيننا تنطق بهذا الشاهد الصادق.
واخترت الشاهد الثاني من مصر. فإن الخطيب ابن نباتة (الذي شرح إحدى رسائل ابن زيدون) أملى مجلدة معناها من أولها إلى آخرها أيها الناس اتقوا الله واحذروه فإنكم إليه ترجعون وهذا أمر بارع معجز والناس يغفلون عن هذه النكتة فيه.
والشاهد الثالث اخترته من لشام وهو الصلاح الصفدي (الذي شرح رسالة أخرى لابن زيدون) فإنه ألف كتاباً كبيراً في تاريخ المشهورين في عصره وسماه أعيان العصر وأعوان النصر وهو يقع في اثني عشر مجلداً: فكلما ذكر وفاة أحد المترجمين استعمل عبارة تخالف الصيغة التي استعملها عند كلامه على وفاة غيره وهلم جراً.
هذه خلاصة الرسالة التي نشرتها في جريدة النوفيل في اليوم التالي لليوم الذ أوردت خبرها عن براعة الرئيس الفرنسي.
فأنتم ترون أن الفضل الأول يرجع إلى هذه الجريدة في محاضرتي الليلة. والفضل الثاني يرجع إلى مؤلفي العرب الذين رجعت إليهم في تلقف هذه الشوارد التي سأقصها عليكم: وهم:
أولاً_ابن بسام صاحب الذخيرة (وقد أحضرنا في دار الكتب الخديوية نسخة منها بخط مغربي نقلناه إلى الخط المشرقي بواسطة العلامة فقيد اللغة والأدب لعهدنا هذا المرحوم الشيخ أحمد بن الأمين الشنقيطي)
ثانياً_قلائد العقيان للفتح بن خاقان الأندلسي.
ثالثاً_المعجب بتلخيص أخبار المغرب لعبد الواحد المراكشي.
رابعاً_البيان المغرب في أخبار المغرب لابن عذارى المراكشي (وترجمته للغة الفرنسية للموسيو فانيان
خامساً_سرح العيون في شرح رسالة ابن زيدون لابن نباتة المصري.
سادساً_تمام المتون من رسالة ابن زيدون التي كتبها لابن جهور وهو لصلاح الدين الصفدي (وتوجد منه نسخة جليلة في الخزانة الزكية).
سابعاً_أعيان العصر وأعوان النصر لصلاح الدين الصفدي أيضاً (وليس لهذا الكتاب أثر في القطر المصري سوى الجزء الأول الموجود بالخزانة الزكية).
ثامناً_مسالك الأبصار لأبن فضل الله العمري.
تاسعاً_تاريخ مسلمي الأندلس للعلامة دوزي الهولاندي في أربعة أجزاء إلى غير ذلك من الكتب والرسائل الأخرى الموجودة بلغات متعددة لا حاجة إلى الإطالة بذكرها:
ومما يحسن ذكره أنني حينما شرعت في هذا المبحث رأيت أن اثنين من أفاضل العلماء المستشرقين قد سبقوني إليه. وذلك أنني كنت أبحث في قوائم الكتب المعروضة للبيع في بعض أسواق ألمانية فرأيت كتابين عن ابن زيدون لم يكن لي بهما علم قط قبل ذلك اليوم.
فأولهما - كتاب صنفه دكتور في العلوم اللاهوتية وهو الاستاذ هَندرك أنجلينس بن ويَّرس الهولندي اقتضر فيه على نقل ما كتبه الفتح بن خاقان عن ابن زيدون ثم ترجمه للغة اللاتينية مع شروح كثيرة وتفاسير عدة وطبعه في مدينة ليدن سنة 1831 (وقد أحضرت هذا الكتاب).
وثانيهما - هو المستشرق بستورن طبع رسالة ابن زيدون إلى ابن جهور وترجمها باللاتينية وصدرها بحياة ابن زيدون وعلق عليها كثيراً من الحواشي والشروح باللاتينية وطبعه سنة 1889 (وقد سبقني غيري إلى اقتنائه ولكنني سأجتهد في الحصول على نسخة منه أضمها إلى الخزانة الزكية).
فأنتم ترون أن رجلاً كابن زيدون يُعنَى به العلماء من العرب وغير العرب على كر الغداة ومر العشي واختلاف المذاهب جدير أن يكون موضوع السمر في هذا النادي.
2
كلمة صغيرة عن الأدب الأندلسي
فتح العرب الأندلس في أواخر المائة الأولى للهجرة، ثم أخذوا ينثالون على تلك البلاد الجميلة من جميع بلاد الإسلام، هنالك راجت سوق الحضارة الإسلامية، واستبحر العمران العربي، ونفقت بضاعة الأدب، وارتفعت رايات العلم، فبلغ القوم شأواً بعيداً، وأبقوا لهم فخراً مجيداً، فكانت لهم تلك الآثار التي تلعب بالعقول، ولا لعب الشمول، وسحروا الألباب، بما أتوا من العجب العجاب، حتى أقر بفضلهم ابن فضل الله العمري مع شدة تعصبه عليهم في كتابه المشهور مسالك الأبصار فقد اعترف بأنهم لطفوا مسالك الأدب، وأفادوا شرف الحضارة محاسن العرب، وقلبوا الأعيان، وسحروا الألباب بالبيان، فجاؤوا بأعجب العجيب، وزادوا بحسن السبك خالص الذهب، وإن كان المشرق قد أنتج من طبقة أهل الأندلس من لا يُحجم به المُفاخر، ولا تحجب به المفاخر. ولكن للأندلسيين لطائف أعلق بالقلوب، وأدخل على النفوس في كل أسلوب. وستسمعون مصداق ذلك مما سأسرده عليكم من نقثات تلك الآيات البينات، التي تدلكم على أن كلام الأندلسيين ذهب بين رقة الهواء وجزالة الصخرة الصماء.
فكان كما قال شاعرهم الأندلسي عبد الجليل بن وهبون المرسي:
رقيق كما غنّت حمامة ايكة ... وجزل كما شق الهواء عقاب
أولية ابن زيدون
كان في جملة القبائل التي ذهبت إلى الأندلس رهط من بني مخزوم توطنوا في جهات قرطبة وما إليها. وناهيك بهذه القبيلة ذات الشرف الصميم، واللسان القويم. فكان بنو زيدون من رجالاتهم المعدودين، خصوصاً في الفقه والأدب. واشتهر منهم ثلاثة حفظ لنا التاريخ أسماءهم وهم:
أولهم_أبو بكر غالب بن زيدون.
ثانيهم_أبو الوليد أحمد بن زيدون (وهو قطب الدائرة في هذه المحاضرة).
ثالثهم_أبو بكر بن زيدون.
كان مولد الأول سنة 304 ومات سنة 405 بعد أن بلغ من العمر مائة سنة. توفي في ضيعة له، ثم نقلوا تابوته إلى قرطبة، فدفن بالربض (أي الضاحية). وهنالك رثاه أبو بكر عبادة الشاعر الأندلس بما يعرفنا بمقامه في قومه:
أي ركن من الرياسة هيضا ... وجموم من المكارم غيضا
حملوه من بلدة نحو أخرى ... كي يوافوا به ثراه الأريضا
مثل حمل السحاب ماء طبيبا ... لتداوي به مكاناً مريضا
وأما ثانيهم فهو واسطة العقد، والذي سيدور عليه كلامنا فيما بعد.
والثالث هو الذي تقلد بعد أبيه (أبي الوليد) وزارة المعتمد بن عباد. وقد انتقم لأبيه من ذي الوزارتين ابن عمار على ما سنراه في آخر الكلام. وكان أبو بكر هذا هو الذي تولى السفارة عن أبن عباد إلى يوسف بن تاشفين صاحب المغرب الأقصى حينما تنمر الاسبانيون مع ملكهم الأذفونش (الفونس السادس) لملوك الطوائف، وخصوصاً لبني عباد في خطب يطول شرحه، ولا يسع المقام تلخيصه.
من هو ابن زيدون
عني خذوا أخباره وتلقفوا ... أشعاره وتتبعوا آثاره
فالحر من أمضى لنيل تراثه ... عزماً وأسهد ليله ونهاره
وبيمن عباس تهيأت النهى ... للعلم واقتنت الورى أسفاره
عباس قد غرس الفخار بأرضكم ... فتعهدوه لتجتنوا آثاره
هو ذو الوزارتين أبو الوليد أحمد بن عبد الله بن أحمد بن غالب ابن زيدون المخزومي الأندلسي. كان مولده بقرطبة في سنة 394 أعني في الوقت الذي سرى فيه الانحلال في جسم الخلافة المروانية بالأندلس بعد أن بلغت من المجد نهاية النهايات، وأدركت من الفخامة مالا تصدق معه الروايات. في ذلك الوقت تحللت عرى الدولة، فانقسم المسلمون على أنفسهم، وتخاذلوا، واستنصروا أعدائهم على بعضهم بعضاً، وسلموا البلاد والقلاع والحصون واحداً تلو الآخر إلى أعدائهم ليمدوهم بالمعونة على إخوانهم. وهكذا حتى أودت تلك الفوادح بذلك الملك الكبير، ثم أتت على القوم بأكملهم فأصبحوا خبراً بعد عين. نتساءل عنهم بقولنا كيف وأين؟ في تلك الأيام استظهروا على شهواتهم بجر ذيولها، وامتروا بطالاتها من أخلاف أباطيلها. حتى انشقت عصاهم، ودارت بدائرة السوء على الجهالة رحاهم.
كان ابتداء الاضمحلال والانحلال من أول يوم جلس فيه المستعين على عرش الخلافة في منتصف ربيع الأول سنة 400.
فقد كانت أيامه كلها كما وصفها ابن حيان الأندلسي شداداً نكرات، صعاباً مشئوومات. كريهات المبدأ والفاتحة، قبيحات المنتهى والخاتمة. ما فقد فيها حيف، ولا فورق خوف. ولا تم سرور، ولا فقد محذور. مع تغير السيرة، وخرق الهيبة، واشتعال الفتنة، واعتلاء العصبية، وظعن الأمن وطول المخافة. دولة كفاها ذماً أنها تمخضت عن الفاقرة الكبرى، وآلت من التي بعدها إلى ما كان أعضل وأدهى. مما طوى بساط الدنيا، وعفارسمها وأهلك أهلها. وإذا أراد الله شيئاً أمضاه.
وكذلك لم يكن في المستكفي أدنى كفاية للخلافة. وإنما أرسله الله على الأمة محنة وبلية. إذ كان منذ عرف منقطعاً إلى البطالة، مجبولاً على الجهالة، عاطلاً عن كل حلية تدل على فضله. عضته الفتنة فأملق، وهان حتى أهانه أهله ولقد رآه أبو حيان مؤرخ الأندلس المشهور أيام الخسف بأهل بيته في الدولة الحمودية، ولم يكن ممن لحقه الاعتقال منهم لركاكته. كان يقصد أهل الفلاحة يومئذ بقرطبة أوان ضمهم لغلاتهم يسألهم من زكاتها. قال وقد أجمع أهل التحصيل أنه لم يجلس في الأمارة منذ تلك الفتنة أسقط منه، ولا أنقص. إذ لم يزل معروفاً بالتخلف والركاكة، مشتهراً بالشرب والبطالة، سقيم السر والعلانية، أسير الشهوة، عامل الخلوة.
ذلك الوقت هو الذي أشار إليه ابن حزم بقوله:
فضيحة لم يقع في الدهر مثلها! أربعة رجال في مسافة ثلاثة أيام في مثلها، يسمى كل واحد منهم بأمير المؤمنين، ويخطب له في زمن واحد: أحدهم خلف الحصري باشبيلية على أنه هشام بن الحكم المؤيد. والثاني محمد بن القاسم بن حمود بالجزيرة الخضراء والثالث محمد بن علي بن حمود بمدينة مالقه والرابع إدريس ابن يحيى بن علي بسبته تلك هي الأيام التي كان العرب والبربر فيها في خصام مستديم، وكان كل من الفريقين منقسماً على نفسه، وكان الجميع في خلاف مع أهل المغرب الأقصى من الجنوب، وفي حروب وخطوب مع بقايا الأمم الاسبانية من الشمال والغرب. في ذلك الوقت العصيب تفرق أهل الأندلس فرقاً، وتغلب في كل جهة منها متغلب. وهم الذين عرفهم التاريخ باسم - ملوك الطوائف_وقد أرادوا أن يفخموا أنفسهم وممالكهم فتقسموا ألقاب الخلافة، كما تناهبوا أشلائها. فكان منهم المعتضد والمأمون والمؤتمن والمستعين والمقتدر والمعتصم والمعتمد والموفق والمتوكل. إلى غير ذلك من الألقاب الخلافية. حتى قال في ذلك أبو علي الحسن بن رشيق بيتين سارا سير الشمس، وبقيا بقاء الدهر. وهما:
مما يزهدني في أرض أندلس ... سماع مقتدر فيها ومعتضد
ألقاب مملكة في غير موضعها ... كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد
فكانت طرطوش وسرقسطة وافراغه ولاردة وقلعة أيوب في يد بني هود. وكانت بلنسية في يد عبد الملك بن عبد العزيز. وكان الثغر، أي ما فوق طليطلة من جهة الشمال في يد بني رزين وكانت طليطلة في يد بني ذي النون. وكانت قرطبة في يد أبناء جهور. وكانت اشبيلية في يد بني عباد. وكانت ملقة والجزيرة الخضراء وغرناطة في يد بني برزال من البربر - وأما المرية فكانت في يد زهير العامري الخادم ثم خيران العامري الخادم. ثم أبن صمادح. وكانت دانية وأعمالها والجزائر الشرقية (الباليار) في يد مجاهد العامري. وكانت بطليوس ويابرة وشنترين والاشبونة في يد بني الأفطس. فلا عجب إذا كثر الوزراء في تلك الأيام، ولاعجب إذا كثر أيضاً ذوو الوزارتين. فالناس على دين ملوكهم. فكان كل من امتلك مائة كيلو متراً مربعاً في مثلها يعد نفسه سلطاناً كبيراً، ويتخذ من الحاشية ما يضارع به أبهة الخلافة - وقد كان عهدهم بها قريباً_فكثر عندهم الوزراء. وكثر بينهم الذين يسمون أنفسهم بذي الوزارتين.
ومن الطبيعي أن الرئاسة إذا انحطت عن جلالتها تبعها المرؤوس في السقوط. فلما تدلت الخلافة في الانحلال، صارت الوزارة أيضاً في درجات الهوان. فإن المستعين الذي ذكرناه قال بعد أن جلس على عرش الخلافة للناس أجمعين: ارتعوا كيف شئتم وارتسموا بما أحببتم من الخطط فتسمى بالوزارة في أيامه مفردة ومثناة أراذل الدائرة، وأخابث النظار. فضلاً عن زعانف الكتاب والخدمة (عن ابن بسام).
وصارت هذه الرتبة تنحط مع انحطاط الدول، حتى نزلت في أواسط القرن الثامن للهجرة إلى الدرجة التي وصفها لنا ابن فضل الله العمري حيث قال:
سألت الشيخ العلامة ركن الدين أبا عبد الله بن القويع عن رتبة الوزير بالمغرب فقال: ليست بطائل، ولا لصاحبها شيء من الأمر. بل هو كالجاويش يخرج قدام السلطان يوم الجمعة: حقيقة دون السمعة
وقد استبد هؤلاء الرؤساء بتدبير ما تقلبوا عليه من الجهات. وانقطعت الدعوة للخلافة. فلم يبق لخليفة هاشمي أو أموي ذكر على منابر الأندلس خلا أيام يسيرة دعى فيها باشبيلية لهشام المؤيد بن الحكم (أو لشخص شبه لهم) حسبما اقتضته الحيلة، واضطر إليه التدبير. ثم انقطع ذلك. فأشبهت حال ملوك الأندلس بعد الفتنة حال ملوك الطوائف من الفرس بعد قتل دارا. وحال قواد الاسكندر بعد وفاته. ولم يزل هؤلاء الرؤساء في اقتتال وتخاذل. ويستعينون بعدوهم جميعاً فيميل تارة إلى هذا وطوراً إلى ذاك حتى اختلت الأحوال إلى أن تولاهم الضعف. فاستنصروا بالمرابطين فانتظم الشمل، وعادت المياه لمجاريها. ولكن إلى أجل معين. ثم عاد الانشقاق والانقسام. فانمحت كلمة الإسلام، وانطفأ ذلك النور، وباد القوم عن آخرهم في سنة 897 للهجرة، بعد أن أقاموا فيها ثمانية قرون. لأن دخولهم كان في سنة 92 للهجرة على يد طارق بن زياد.
رفعت الستار عن هذا المنظر المحزن ليكون لكم ولأمم المشرق تذكرة وعبرة، خصوصاً في الأوقات الحاضرة. والآن أقول لكم أنه على الرغم من توالي الفتن واضطراب الأحوال كانت سوق الأدب رائجة وبضاعته نافقة. فكل أمير وكل وزير وكل كاتب وكل وجيه كان له من الأدب نصيب وافر.
عرفنا من تقسيم الأندلس بين ملوك الطوائف أن بني جهور استبدوا بقرطبة، وأن بني عباد استأثروا باشبيلية.
في المملكة الأولى درج ذو الوزارتين ابن زيدون وتربى وظهر فضله. وفي الثانية قضى بقية أيامه في العز والكرامة. وكانت بها وفاته في محرم سنة 463 على التحقيق الدقيق كما نص عليه معاصره ابن بسام ولا عبرة بالأقوال الأخرى عن وفاته، لأن الذين قالوا بوفاته في سنة 405 خلطوا بينه وبين أبيه غالب بن زيدون. وقد قدمنا الكلام عليه وعلى مولده ووفاته.
اشتغل ابن زيدون بالأدب، وفحص عن نكته، ونقب عن دقائقه، إلى أن برع وبلغ من صناعتي النثر والنظم المبلغ الطائل. حتى قال فيه ابن بسام:
كان أبو الوليد غاية منثور ومنظوم، وخاتمة شعراء مخزوم، أحد من جر الأيام جراً، وفات الأنام طراً، وصرّف السلطان نفعاً وضراً، ووسع البيان نظماً ونثراً. إلى أدب ليس للبحر تدفقه، ولا للبدر تألقه. وشعر ليس للسحر بيانه، ولا للنجوم الزهر اقترانه. وحظ من النثر غريب المباني، شعري الألفاظ والمعاني.
وما عتم أن أصبح في الأندلس متيم ذلك الحي، وعاشق ولاّدة لامى. زاد عل مجنون ليلى، وقيس لبنى، وابن أبي ربيعة صاحب الثريا. تركه هواه أنحف من قلم، وأشهر من نار على علم، وله مع ولادة أخبار ما حكى مثلها ابن أبي عتق، ولا الأصفهاني عن سكان وادي العقيق، ولا الأصمعي عن أهل ذلك الفريق. أندى من نسيم الصباح، وأرق من ريق الغوادي في ثغور الأقاح.
وإذا تصفحنا دواوين الأدب عند الأمم الأخرى لا نجد له شبيهاً سوى تيبولسشاعر الرومان.
وتنقسم حياة ابن زيدون إلى قسمين مهمين في قرطبة في اشبيلية.
أولاً_في قرطبة: برع ابن زيدون في الأدب، حتى كان أبو الوليد في الأندلس شبيهاً ومثيلاً لأبي الوليد في دولة المتوكل العباسي. وقد سماه الناس بحتري الأندلس. ولقد صدقوا. فمن جملة المحفوظ عنه في صباه قوله:
أخذت ثلث الهوى غصباً ولي ثلث ... وللمحبين فيما بينهم ثلث
تالله لو حلف العشاق أنهم ... موتى من الوجد يوم البين ما حنثوا
قوم إذا هجروا من بعد ما وصلوا ... ماتوا فإن عاد من يهوونه بعثوا
ترى المحبين صرعى في عراصهم ... كفتية الكهف ما يدرون مالبثوا
ثم هام بعد ذلك بحب ولاّدة بنت المستكفي الخليفة الأموي بالأندلس. وكانت أديبة، شاعرة، جزلة القول، حسنة الشعر. تناضل الشعراء وتساجل الأدباء. وعمرت عمراً طويلاً ولم تتزوج قط. جاءت على خلاف أبيها في كل أوصافها، فكانت مصداقاً لقوله تعالى يخرج الحيّ من الميت وقد ابتذل حجابها بعد نكبة أبيها وقتله، فصارت تجلس للشعراء والكتاب وتعاشرهم وتحاضرهم، ويتعشقها الكبراء منهم. وكانت على خلق جميل، وأدب غض. وكان لأبن زيدون معها أخبار تطرف القلوب، وتشغف المسامع. لأنه خلع في هواها العذري عذاره. وقد شهد المؤرخون كلهم لها بالعفة والصيانة. ولكن الشعراء في كل واد يهيمون، فكيف لا يهيم بولاّدة أبو الوليد بن زيدون. والمقام لا يتسع لأشعاره فيها وأشعارها إليه، ولكني آتيكم براموز ومثال، واترك الباقي لغير هذا المجال.
ودّعها ذات يوم فأنشدها مرتجلاً
ودّع الصبر محب ودعك ... ذائعاً من سره ما استودعك
يقرع السن على أن لم يكن ... زاد في تلك الخطى إذ شيعك
يا أخا البدر سناءً وسنا ... حفظ الله زماناً أطلعك
إن يطل بعدك ليلي فلكم ... بت أشكو قصر الليل معك
ثم قال يا نازحاً وضمير القلب مثواه ... أنستك دنياك عبداً أنت دنياه
ألهتك عنه فكاهات تلذ بها ... فليس يجري ببال منك ذكراه
علّ الليالي تبقيني إلى أمل ... الدهر يعلم والأيام معناه
ولما كان مجلس ولاّدة بقرطبة منتدى لأحرار المصر، وفناؤها ملعباً لجياد النظم والنثر. يعشو أهل الأدب إلى ضوء غرتها، ويتهافت أفراد الشعراء والكتاب على حلاوة مسامرتها. وهي مع ذلك محافظة على علو النصاب، وكرم الأنساب، وطهارة الأثواب. ولقد طمع بعضهم في الاستئثار بها دون ابن زيدون. فنازعه على حبها، وزاحمه في ودها، رجل من رجالات عصره. وهو أبو عبد الله البطليوسي. فكتب إليه ابن زيدون يزجره بهذا الرجز:
أيا عبد الإله اسمع ... وخذ بمقالتي أو دع
وأنقص بعدها أو زد ... وطر في أثرها أو قع
ألم تعلم بأن الده ... ر يعطي بعد ما يمنع
فإن قصارك الدها ... يز حيث سواك في المضجع
ومنهم الوزير أبو عامر بن عبدوس الملقب بالفار، وكان ممن أكابر رجالات قرطبة، فاغتاظ ابن زيدون وبعث له بهذه الأبيات:
أثرت هزبر الشرى إذ ربض ... ونبهته إذ هدا فاغتمض
وما زلت تبسط مسترسلاً ... إليه يد البغي لما انقبض
أبا عامر أين ذاك الوفا ... إذ الدهر وسنان والعيش غض
وأين الذي كنت تعتد من ... مصافاتي الواجب المفترض
حذار حذار فإن الكريم ... إذا سيم خسفا أبي فامتعض
وإن سكون الشجاع النهو ... ش ليس بمانعه أن يعض
عمدت لشعري ولم تتئد ... تعارض جوهره بالعرض
أضاقت أساليب هذا القري ... ض أم عفا رسمه فانقرض
لعمري لفوقت سهم النضال ... وأرسلته لو أصبت الغرض
وشمرت للخوض في لجة ... هي البحر ساحلها لم يخض
وغرك من عهد ولادة ... سراب تراآى وبرق ومض هي الماء يأبى على قابض ... ويمنع زبدته من مخض
ونبئتها بعده استحمدت ... يسرى إليك لمعنى غمض
أبا عامر عثرة فاستقل ... اتبرم من ودنا ما انتفض
ولا تعتصم ضلة بالحجاج ... وسلم فرب احتجاج دحض
وحسبي أني أطبت الجنى ... ل يأبه وأبحت النفض
ويهنيك أنك يا سيدي ... غدوت مقارن ذاك النفض
ثم كتب له رسالته المشهورة على لسان ولاّدة، وقد عبث فيها به كما عبث الجاحظ في رسالته التربيع والتدوير بأحمد بن عبد الوهاب الكاتب في بغداد. فاشتهرت رسالة ابن زيدون في المشارق والمغارب. وهي التي شرحها كثير من أدباء المشارقة، كابن نباتة والصفدي. وشرح ابن نباتة قد طبع في مصر مراراً. وهو في غاية الحسن ونهاية الفائدة. وأما شرح الصفدي لهذه الرسالة فلم يصلنا.
على أن ابن عبدوس لم ينثن عن محاولته، حتى تمكن من أيقاع الجفوة بين أبن زيدون وولاّدة واستأثر بها دونه، فاغتاظ ابن زيدون والتجأ إلى قريضه القارص، فلسع الرجل بقوله:
أكرم بولادة ذخر المدخر ... لو فرقت بين بيطار وعطار
قالوا أبو عامر أضحى يلم بها ... قلت الفراشة قد تدنو من النار
عيرتمونا بأن قد صار يخلفنا ... فيمن نحب وما في ذاك من عار
أكل شهي أصبنا من أطايبه ... بعضاً وبعضاً صفحنا عنه للفار
ولقد فاز ابن زيدون بمناه، من إقاء الفار عن حماه، بل أن ولاّدة أخذت تعبث بذلك الوزير، حتى أنها مرت به ذات يوم في تربها وسربها وكان الوزير ابن عبدوس جالساً على باب داره يستنشق الهواء العليل، وكانت أمام داره بركة تجمعت فيها مياه المطر، وانساق إليها شيء من أقذار الدار. كان الوزير جالساً في أبهته وعظمته وقد نشر كميه، ونظر في عطفيه، وحشر أعوانه إليه. فلما قربت منه ولاّدة نادته باسمه فهش إليها وبش، واقترب من البدر، فقالت له وهي تشير إلى البركة: يا ابن عبدوس
أنت الخصيب وهذه مصر ... فتدفقا فكلاكما بحر ثم نفرت كالظبي الشارد وتركته حائراً بائراً، باهتاً صامتاً. لا يحير جواباً، ولا يعي خطأ ولا صواباً. وهذا البيت لأبي نواس تمثلت به ولاّدة ونقلته هذا النقل الحسن من المدح إلى الهجاء.
غير أن هذا الوزير صبر حتى خلا جو قرطبة من ابن زيدون على ما سيأتي. فاستأثر بولاّدة وعاش وعاشت حتى بلغا الثمانين وهما يتراسلان ويرتعان في بساتين الأدب، ورياض العفاف.
لم يبلغ ابن زيدون الخامسة والعشرين من عمره حتى نَبُه ذكره، وعم صيته. اصطنعه أبو الحزم ابن جهور المتغلب على قرطبة ونواحيها وضواحيها ونوه به لأنه رآه فتى الآداب، وعمدة الظرف، والشاعر البديع الوصف. ولما له بقرطبة من الأبوة السنية، والوسامة والدراية، وحلاوة المنظوم والسلاطة، وقوة العارضة، والافتنان في المعرفة. فكانت الكتب تنفذ من إنشائه إلى شرق الأندلس فيقال تأتي اشبيلية كتب هي بالنظم الخطير أشبه منها بالمنثور. ثم ترقى في وظائف الدولة القرطبية حتى صار إليه النظر على أهل الذمة، ثم رآه ابن جهور أهلاً للوزارة فرقاه إليها، بل جعله ذا الوزارتين. فكان منه بمنزلة السمير والوزير، والمشير والسفير. فكم أنفذه إلى ملوك الطوائف لأمور سياسية، ولمخابرات تقتضيها المعاملات والمجاملات التي يوجهها الجوار، أو تدعو إليها علاقاته معهم أو مع ملوك الاسبانيين الذين كانوا يتربصون به وبهم دوائر السوء. فأحسن ابن زيدون التصرف في ذلك، وغلب على قلوب الملوك. حتى كان كل ملك يخطب وده، ويتمنى أن يقيم عنده. ولكنه كان بعد انقضاء مهمته يرجع إلى صاحبه بقرطبة وإلى مجالس أنسه بها، ولهوه بأهلها.
في ذلك الوقت المضطرب بالفتن الداخلية، والخطوب الخارجية كانت الجاسوسية لها أثر في مصالح الدولة، وفي أحوال الأفراد.
نترك أمور الدولة وسياستها جانباً ونقتصر على الدائرة التي ارتضينا لأنفسنا الجولان فيها وهي ميدان الأدب، ونذكر حكاية تدل على الجاسوسية الفردية في تلك الأيام.
كانت قرطبة جارية تتعشق فتى من القرشيين، وكانت لوجدها كاتمة. لكن الخبر وصل إلى الوزير ابن زيدون فلم يعبأ به لأن القوم كلهم كانوا متغلغلين في هذه السبيل. وكانت الجارية تقول الشعر فجاشت نفسها ببيت فذ وامتنع عليها ما تريد وهذا لبيت هو:
يا معطشي عن وصل كنت وارده ... هل منك لي غلة إن صحت واعطشي
فجاءت إلى كبير الوزراء، وأمير الشعراء، وسألته أن يزيد عليه شيئاً وهي تظن أنه لا يعلم بما هي فيه من الغرام، فأمسك القرطاس، واغتنم فرصة الروىّ، وما يعلمه من السر المطوى. فكتب:
كسوتني من ثياب السقم أسبغها ... ظلماً وصيرت من لحف الضنى فرشي
أني بصرف الهوى عن مقلة كحلت ... بالسحر منك وخد بالجمال وشى
لما بدى الصدغ مسوداً بأحمره ... أرى التشاكل بين الروم والحبش
أوفى إلى الخد ثم أنصاع منعطفاً ... كالعقربان انثنى من خوف محترش
لو شئت زرت وسلك الليل منتظم ... والأفق يختال في ثوب من الغبش
جفا إذا التذت الأجفان طيف كرى ... جفنى المنام وصاح الليل يا قرشي
ومن تأمل أحوال الأندلسيين رأى أنهم كانوا يبالغون في التشبه بالشرقيين في كل ما اشتهروا به أو اشتهر من أحوالهم. فمدائنهم وعمائرهم وقصورهم ومنازلهم سموها بما اختاره الشرقيون في بلادهم. كذلك حاكوهم في مجالس أنسهم. وأنا اقتصر على ما يتعلق بابن زيدون وصحبه، وأمهد لذلك بما كان في بغداد.
كان في دار السام الوزير المهلى المشهور، والقاضي التنوخي، وقد بلغا من الكبر سناً عالياً، ولهما ذقون بيضاء تنهال على صدروهما، وكانا يتعاطيان في النهار أمور الدولة بغاية الحشمة والوقار. حتى إذا جن الليل اجتمعا في مجلس العقار، وخلعا العذار، فكانا يشربان في أواني من البلور والنضار، ولا يكتفيان بلذة الشراب، بل يغمسان أذقانهما في الأواني، ثم يرش كل منهما الشراب بتلك الرشاشات الغريبة على صاحبه لتتم لهما لذة السكر حساً ومعنى، باطناً وظاهراً. ويستمران على ذلك طرفاً من الليل. حتى إذا جاء الصباح عادا إلى أشغالهما: الوزير في تدبير الدولة، وقاضي القضاة في النظر في الخصومات والحكم على مقتضى الشرع. واستمرا على هذه الحال في معاقرة المدام، حتى وافاهما الحمام.
فاسمعوا نظير ذلك في قرطبة كان القاضي ابو بكر بن ذكوان من الجلالة بأسمى مكان.
أدركته حرفة الأدب، وله في العلم باع طويل. وكان يتشبه في خلوته مع ابن زيدون بالقاضي التنوخي مع الوزير المهلى. وهنالك ما شئت من دعابات ورقاعات، وما تخيلت من فكاهات ومجانات. حتى إذا أصبحا ذهب ذو الوزارتين إلى شأنه في ديوانه، وبكر أبو بكر إلى مجلس الحكم بمقتضى الحق. ومتى اقترب المساء عادا إلى القصف، وتجاوزا في ميدانهما كل وصف. إلى أن سطا الدهر، على أبي بكر. واتفق أن مرّ لبن زيدون يوماً بقبر ابن ذكوان في لمة من أخوانه، وجماعة من عمار ميدانه، فعطفوا عليه مسلمين، فقال أبو الوليد ابن زيدون مرتجلاً:
انظر الحال كيف تحال ... ولدولة العلياء كيف تدال
من سر لما عاش قل متاعه ... فالعيش نوم والسرور خيال
ولى ابو بكر فراع له الورى ... هول تقاصر دونه الأهوال
يا قبره العطر الرى لا يبعدن ... حلو من الفتيان فيك حلال
ما أنت إلا الجفن أصبح طيه ... نصل عليه من الشباب صقال
ما أقبح الدنيا خلاف مودع ... غنيت به في حسنها تختال
يا منشئ الأمثال منه أوحد ... ضربت به في السودد الأمثال
نقصت حياتك حين فضلك كامل ... هلا استضاف إلى الكمال كمال
من للقضاء يعز في أثنائه ... إيضاح مظلمة لها أشكال
من لليتيم تتابعت أرزاؤه ... هلك الأب الحافي وضلع المال
زرناك لم تأذن كأنك غافل ... ما كان منك بواجب إغفال
أين الحفاوة روضها غض الجنى ... أين الطلافة ماؤها سلسال
هيهات لا عهد كعهدك عائد ... إذ أنت في وجه الزمان جمال
فاذهب ذهاب البدء أعقبه الغنى ... وإلا من وافت بعده الأوجال
حيّ الحيا مثواك وامتدت على ... ضاحي ثراك من النعيم ظلال
وإذا النسيم اعتل فاعتلت به ... ساحاتك الغدوات والآصال
ولئن إذا لك بعد طول صيانة ... قدر فكل مصونة ستذال
ولقد أفاض في مدح ابن جهور وأهل بيته بأمداح تزري بالقلائد ولا تحتملها هذه المحاضرة، فاقتصر على هذه الأبيات:
إن الجهاورة الملوك تبوؤا ... شرفاً جرى معه السماك جنيبا
فإذا دعوت وليدهم لعظمة=لباك رقراق السماح أريبا
هم تعاقبها النجوم وقد تلا=في سؤدد منها العيب عقيبا
ومحاسن تندى دقائق ذكرها=فتكاد توهمك المديح نسيبا
فتى أديب حر يصل هذه المكانة قبل أن يصل إلى الثلاثين من العمر، فكيف لا يكون كما قال المتنبي حرب الزمان والدهر. نعم فقد دبت عقارب الغيرة بينه وبين حاسدي نعمته وسعادته، والمناظرين والأنداد فتألبوا عليه وتآمروا حتى انتهوا بإيقاعه في شراكهم، ونجحوا لدى الأمير ابن جهور فحبسه حبساً طالت مدته فكانت تلك السجون مثاراً لشجونه.
فبعد أن صاغ لبني جهور لا سيما لأبي الحزم قلائد وخرائد، كتب إليه من السجن أشعاراً ورسائل مختارة، فاضت بها نفسه في التنصل والاعتذار والاستشفاع والاستعطاف. ولكن المزاحمين له على مركزه في الدولة، وعلى حب ولاّدة، كانوا دائماً يفوزون. فبقي في السجن مدة تنيف على الخمسمائة يوم.
كتب لابن جهور تلك الرسالة البديعة التي طبعها أحد المستشرقين في سنة 1889، وهي التي شرحها العلامة صلاح الدين الصفدي. وعندي في الخزانة الزكية نسخة جليلة من هذا الشرح. وختمها بقصيدة فريدة يقول في تضاعيفها:
أيهذا الوزير، ها أنا أشكو! ... والعصا بدء قرعها للحليم!
ما عناء أن يألف السابق المر ... بط في العتق منه والتطهيم
وثواء الحسام في الجفن يثنى ... منه بعد المضاء والتصميم
أقصير مئين خمسٌ من الأ=يام؟ ناهيك من عذاب أليم!
فلم يفد ذلك شيئاً. ومنظوماته في هذا الباب كثيرة جداً، أذكر منها قيدة قصيرة:
إيهٍ، أبا الحزم اهتبل غرة! =ألسنة الشكر عليها فصاح
لا طار لي حظ إلى غاية ... إن لم أكن منك مريش الجناح!
عتباك بعد العتب أمنية، ... مالى على الدهر سواها اقتراح!
لم يثنني عن أمل ما جرى، ... قد يرقع الخرق وتؤسى الجراح ولقد زارته أمه في سجنه، فخانتها دمعتها، فقال يخاطبها من قصيدته اللاّمية التي وجهها إلى ابن جهور مستعطفاً:
ألم يأنِ أن يبكي الغمام على مثلي ... ويطلب ثأري البرق منصلت النصل؟
وهلا أقامت أنجم الليل مأتماً ... لتندب في الآفاق ما ضاع من نبلي؟
فلو أصفتني، وهي أشكال همتي، ... لألقت بأيدي الذل لما رأت ذلي!
ولا افترقت سبع الثريا وغاضها ... بمطلعها ما فرق الدهر من شملي
لعمر الليالي، إن يكن طال عمرها، ... لقد قرطست بالنَبل في مقتبل النُبل!
تحلّت بآدابي وإن مآربي ... لسارحة في عُرص أمنية عطل
أخص لفهمي بالقلى؟ وكأنما ... يبيت لذي الفهم الزمان على دخل!
وأجفى على نظمي لكل قلادة ... مفصلة السمطين بالمنطق الفصل؟
ولو أنني اسطيع كي أرضى العدا ... شريت ببعض العلم حظاً من الجهل
أمقتولة الأجفان، مالكِ والهاً؟ ... ألم تُركِ الأيام نجماً هوى قبلي؟
أقلى بكاءً لست أول حرة ... طوت بالأسى كشحاً على مضض الثكل
وفي أم موسى عبرة إذ رمت به ... إلى اليم في التابوت فاعتبري واسلي
ولله فينا علم غب وحسبنا ... به عند جور الدهر من حكم عدل
وإن أردنا أن نتعرف حالته الروحية، وهو في سجنه، فهذه شذرات من قصيدة وجهها إلى أبي الحزم ابن جهور، يعاتبه فيها على عدم الإصغاء إليه. قال يصف نفسه:
جواد إذا استن الجياد إلى مدى ... تمطر، فاستولى على أمد الخصل
ثوى صافنا في مرابط الهون، يشتكي ... بتصهاله ما ناله من أذى الشكل
وأني لتنهاني نهاي عن التي ... أشار بها الواشي، ويعقلني عقلي!
أأنقض فيك المدح من بعد قوة؟ ... فلا أقتدي إلا بناقضة الغزل!
هي النعل زلت بي فهل أنت مكذب ... لقيل الأعادي؟ أنها زلة الحسل!
ألا أن ظني بين فعليك واقف ... وقوف الهوى بين القطيعة والوصل!
وإلا جنيت الأنس من وحشة النوى ... وهول السرى بين المطية والرحل
وأين جواب منك ترضى به العلا، ... إذا سألتني عنك ألسنة الحفل؟ ومن السجن خاطب صديقه أبا حفص بن برد، وقد حار لم يجد هادياً، وصار رهيناً لا يرجو فادياً، وعلم أن الناس متقلبون، وعلى من انقلب به الدهر منقلبون، لا يدينهم في الشدة إخاء، ولا يثنيهم عن ذي الخطوة زهو ولا انتماء:
ما على ظني باسُ ... يجرح الدهر ويأسو!
ربما أشرف بالمر ... ء على الآمال يأسُ!
ولقد ينجيك أغفا ... لٌن ويرديك احتراس!
والمحاذير سهام، ... والمقادير قياس!
ولكم أجدى قعود، ... ولكم أكدى التماس!
وكذا الحكم إذا ما ... عز ناس، ذل ناسُ
وبنو الأيام أخيا ... ف: سراة وخساس
نلبس الدنيا، ولكن ... متعة ذاك اللباس
يا أبا حفص، وماسا ... واك في فهم إياس!
من سنا رأيك لي في ... غسق الخطب اقتباس
وودادي لك نص ... لم يخالفه القياس!
أنا حيران وللأم ... ر وضوح والتباس
لا يكن عهدك ورداً، ... إن عهدي لك آس!
وأدِر ذكرىَ كاسا، ... ما امتطت كفك كاس
فعسى أن يسمح الده ... ر، فقد طال الشماس
واغتنم صفو الليالي، ... إنما العيش اختلاس
ما ترى في معشر حا ... لوا عن العهد وحاسوا؟
ورأوني سامرياً، ... يُتَّقى منه المساس
أذؤبٌ هامت بلحمي: ... فانتهاب وانتهاس
كلهم يسأل عن حا ... لي وللذئب اعتساس
إن قسا الدهر، فللما ... ء من الصخر انبجاس
ولئن أمسيت محبو ... سا، فللغيث احتباس ويُفَتُّ المسك في التر ... ب: فيوطاً ويداس
وما ألطف وصفه لنفسه ولوشاته في إحدى قصائده الطنانة:
كأن الوشاة، وقد منيت بأفكهم، ... أسباط يعقوب، وكنت الذيبا
هذه الأحوال مضافة إلى نفس كبيرة تتعب في مرادها الأبدان، شيبت رأس ابن زيدون وجعلته هرماً قبل الأوان. فقد رأى الشيب في رأسه وعاضيه، فبكى على نفسه وقال قصيدة أخرى يستعطف بها ابن جهور أيضاً:
لم تطو برد شبابي كبرة وأرى ... برق المشيب اعتلى في عارض الشَّعَر
قبل الثلاثين إذ عهد الصبا كثب ... وللشبيبة غصن غير مهتصر
وفيها يقول بما يعرفنا بأنه عارف قدر نفسه:
أحين رف على الآفاق من أدبي ... غرس له من جناه يانع الثمر؟
وسيلة سبباً أن لا تكن سبباً ... فهو الوداد صفاء غير ما كدر
فدلنا بذلك على أن الشيب ألمَّ برأسه وبلحيتهن قبل أن يصل إلى الثلاثين من عمره. وذلك مصداق لما ذكرناه من أنه بلغ مراتب العلا وهو في سن الفتوة وريعان الصبا. وذكر الصفدي أنه كان يخضب بالسواد. وأنا لست ممن يرى الخضاب للرجال، فإنما هو في رأي خليق برباب الحجال. لأن الطبيعة لا تغالب ولا تقهر، وهل يصلح العطار ما أفسده الدهر. ويعجبني بهذه المناسبة قول تلك العجوز المشرقية:
وصبغت ما صبغ الزمان، فلم يفد ... صبغي. ودانت صبغة الأيام
ولا استجيز رواية البيت الثاني لكم. . . فإذا كان منكم من يعرفه فليهمس به لأخيه الذي بجانبهن وليطلب منه أن يلقيه في أذن صاحبه. وهكذا حتى يدور الدور، فأكون كأنني ألقيته عليكم وما ألقيته. ولكن الذي أسألكم العفو في إيراده، أن ابن زيدون كان كأنه نظر إلينا في هذه الليلة وتفرس أن سيكون من بني مصر رجل يعرف فضله، وينشر ذكره، فأشار بما أفاضته الحكمة الربانية على لسانه إلى هذا العاجز الواقف بين أيديكم يناجيكم في ناديكم. فقد قال في ضمن استعطافه لابن جهور بيتاً هو أشبه بالوحي الذي يفيض على ألسنة الشعراء:
سيُعنى بما ضيعت مني حافظٌ ... ويغلي لما أرخصتَ من خطري مغلِ ولكن ابن جهور أصر على القعود عن إقالته، من كبوته. فلما رأى ابن زيدون أن كل ذلك لم يجده نفعاً قال يخاطبه:
قل للوزير وقد قطعت بمدحه ... عمري، فكان السجن منه ثوابي
لا تخش لائمتي بما قد جئته ... من ذاك فيّ ولا توقَّ عتابي
لم تُخطِ في أمري الصواب موفقاً ... هذا جزاء الشاعر الكذاب
ثم أنه تحيل في الهرب ونجح. فلما خرج من السجنن اختفى بقرطبة وأقام فيها متوارياً. م نظم قصيدة طويلة يخاطب فيها ولاّدة ويستنهض الأديب أبا بكر بن مسلم للشفاعة ويستنزل أبا الحزم بن جهور. وفيها يعرفنا أن مدة حبسه بلغت خمس سنوات. قال:
سنون من الأيم خمس قطعتها ... أسيراًن وأن لم يبد شدٌّ ولا ربط
والقصيدة طويلة جميلة جليلة. ثم أنه ما زال بأبي الوليد بن جهور يستشفع به إلى أبيه أبي الحزم، حتى شفع له وانتشله من نكبته وصيره في صنائعه. ولما ولي الأمر بعد والده نوّه به وقدمه في الذين اصطنع لدولته وجلله كرامة لم تقنعه، زعموا.
فلا غرابة إذا بكى واستبكى حينما مات أبو الوليد بن جهور الذي أذاقه من الحبس والعذاب ألواناً. فقد وجد ابن بسام بخط ابن حيان هذه المرثية البديعة لأبن زيدون في أبي الحزم:
ألم تر أن الشمس قد ضمها القبر، ... وإن قد كفانا فقدها القمرَ البدر؟
وأن الحيا إن كان أقلع صوبه ... فقد فاض للآمال في أثره البحر؟
إساءة دهر أحسن الفعل بعدها، ... وذنب زمان جاء يتبعه العذر
فلا يتمنى الكاشحون، فما دجا ... لنا الليل إلا ريثما طلع الفجر
وإن يك ولى جهور؟ فمحمد ... خليفته العدل الرضا وابنه البر
همام جرى يتلو أباه كما جرى ... معاوية يتلو الذي سنه صخر
فقل للحيارى: قد بدا علم الهدى ... وللطالع المعروف قد قضى الأمر
أبا الحزم قد ضاقت عليك من الأسى ... قلوب ومنها الصبر لو ساعد الصبر
دع الدهر يفجع بالذخائر أهله ... فليس لنفس مذ طواك الردى قدر
مساعيك حلى الزمان مرصع ... وذكرك في أيام أردانها عطر
أمامك من حفظ الإله طليعة ... وحولك من آلائه عسكر مجر وما بك من فقر إلى نصر ناصر، ... كفاك من الله الكلاءة والنصر
ولكننا نعود إلى ولاّدة ونتساءل هل نسي أبو الوليد ولاّدة؟ كلا بل عاد إلى التودد إليها والتقرب منها، وكان يذكرها في قرطبة وغير قرطبة ويراسلها بأشعاره الرائقة الفائقة.
ذهب مرة إلى الزهراء يتأمل في محاسنها فوصفها بقوله:
أني ذكرتك بالزهراء مشتاقا، ... والأفق طلق ووجه الأرض قد راقا
وللنسيم اعتلال في أصائله، ... كأنما رق لي فاعتل إشفاقا
والروض عن مائه الفضيّ مبتسم، ... كما حللتِ عن اللبات أطواقا
يوم كأيام لذات لنا انصرمت ... بتنا لها حين نام الدهر، سراقا
تلهو بما يستميل العين من زهر ... جال الندا فيه حتى مال أعناقا
كأن أعينه، إذ عاينت أرقى، ... بكت لما بي، فجال الدمع رقراقا
ورد تألق في ضاحي منابته، ... فازداد منه الضحى في العين إشراقا
سري بنا فجة نيلوفر عبق ... وسنان نبه منه الصبح أحداقا
كل يهيج لنا ذكرى تشوقنا ... إليك، لم يعد عنها الصدر إن ضاقا
لو كان وَّفي المنا في جمعنا بكم، ... لكان من أكرم الأيام أخلاقا
لا سكن الله قلباً عنّ ذكركم، ... فلم يطر بجناح الشوق خفاقا
لو شاء حملى نسيم الريح حين هفا، ... وافاكم بفتى أضناه مالاقا
كان التجازي بمحض الود من زمن ... ميدان أنس جرينا فيه إطلاقا
فالآن أحمد ما كنا لعهدكم ... سلوتم؟ وبقينا نحن عشاقا
ثم أرسله ابو الوليد بن جهور سفيراً إلى حضرة إدريس الحسني بمالقة، فأطال الثواء هنالك واقترب من إدريس وخف على نفسه وأحضره مجالس أنسه فعتب عليه ابن جهور وصرفه عن السفارة بينه وبين أمراء الأندلس فيما يجري بينهم من التراسل والمداخلة.
2_إلى هنا انقضت أيامه في قرطبة. فلقد خشي أبو الوليد أن يلاقي من الوليد ما لاقاه من الوالد. وحينئذ صحت عزيمته على الهجرة من قرطبة والذهاب إلى المعتضد بن عباد باشبيلية. فلامه بعض اخصائه على ما اعتزمه من التحول عن وطنه وهجرة أهله وخلانه فكتب إليه رسالة ضافية يعتذر فيها لنفسه ويقول من جملتها ما نصه: وكنت أول حبسي قد وُضعت من السجن في موضع قد جرت العادة بوضع مستوري الناس وذوي الهيئات منهم فيه. وفي الشر خيار، وبعضه أهون من بعض. ثم اقتضى نقلي إلى حيث الجناة المفسدون، واللصوص المعتدون. وشكوت ذلك إلى الحاكم الحابس لي. . . فانتفى من الرضا به وأظهر الامتعاض. وتقدم إلى الموكل بالسجن في اختيار مجلس، أباين فيه من لا تليق بي ملابسته، وأنتبذ عمن لا تُرضى لي مجالسته. ثم لم ألبث أن أحضره (أي الموكل بالسجن) مجلس نظره وأمر بتأديبه على امتثاله فيما أمره به وانتهائه إلى ما حده له. واستأنف العهد في التضييق عليّ، زمنع من اعتاد صلتي من الوصول إلي. فأصعدت إلى غرفة في السجن أقنعني بها مع خساستها وامتلأت بالكون فيها على مضاضتها انفرادي من لفيف الأخلاط ومن ضمه السجن من السفلة والسقاط. فحين استوائي إليها عهد بحطي إليهم وخلطي بهم ووضعي بينهم فنقلت على أقبح النصب وأسوء الرتب. ودخل إلي في هذه الحال من أبلغ إليّ عن ابن الحكم رسالة جامعة من فنون مشتملة من الوعيد. فتبين لي أن ايحاشي نفسي بايناس أهلي، وقطعها في مواصلة وطني غبنٌ في الرأي وخور في العزم. ووجدت الحر ينام على الشكل ولا ينام على الذل. ولم استغرب أن أسأم بمثل هذا الخسف في مسقط رأسي، فقد ضاع المرء الفاضل في وطنه. فاستخرت الله عز وجل، واضح وجه العذر، ثابت قائم الحجة، عند من غصن عين الهوي، وخزن لسان التعسف. والله يصيب غرض الصواب برأي، ويقرب غاية النجاح على من سعى، حسبما ذلك في علمه أني مظلوم، مبغي علي، منسوب ما لم آته إلي ولعمرك يا سيدي أن ساعة العذر لتضيق عنك، وما تكاد تتسع لك في إسلامك تلميذك وابن جارك وشيخك الذي لم تزل آخذاً عنه مقتبساً منه، مع إكثارك من ذكر هذا والاعتداد به وادعاء الحفظ له. وقد رويت أن حسن العهد من الأيمان، ولكن من لك بأخيك كله؟ وما حم واقع، ولا حذر من قدر، وقد سبق السيف العذل! وتقدم من فعلي ما جف به القلم. وأنا الآن بحيث أمنت بعض الأمن، ألا إن نذراً من وعيد سقط إلي بأن السعي لم يرتفع، وأن مادة البغي لم تنقطع، وأن البصيرة مستحكمة في استرجاعي من الأفق الذي أحل به، والجناب الذي أحط فيه. وأكد ذلك ف ظني ما كان إشارة لي إليه بعض من كنت آوي إلى الثقة بعهده، وأبني على الوثاقة من عقده، من الفقهاء الموسومين بالثرة عند لحكم المذكور والمكانة منه. وقد عاتبته على تأخره عن مضافرتي، وتقصيره في مؤازرتي. فاعتذر بأن ذلك لا سبيل إليه، ولا منفذ للحيلة فيه. إذ المحرض علي لا تتأتى معارضته، ولا يتهيأ الاستبداد عليه، وأنه وصفني بالبذاء، وعابني بالتسلط على الأعراض. ووالله! ما استنجزت هذا، بعد أن هتك من ستري ما هتك، وأنهك ما انتهك، إن كنت أقول معذوراً، وأنفث مصدوراً. فكيف قبل ذلك، إذ لم يحدث سبب ولا عرض موجب؟ ومالي وهذا الجني تم مالياً! وستكتب شهادتهم ويسألون. . .
ووالله ما توهمت أني أوتي ممن أوتيت منه، مع اتصالي به وانقطاعي إليه واتسامي بالتأمل له والتعويل عليه. أن المعارف في أهل النهي ذمم. . .
لقد كان من محاسن الشيم، وشروط المروءة والكرم، أن يهب لي ما أنكر لما عرف، ويغفر ما سخط لما رضي، ويدفع بالتي هي أحسن، ويؤثر الذي هو أجمل وأرفق، ويتوقف عندما نص له من سعاية، وزف إليه من وشاية. فإن كان باطلاً ألقاه وفضح المخبر المتقرب به وأقصاه. ون كان حقاً صبر صبر الحليم. وأغضي إغضاء الكريم. وقبل إنابة المعتب، واقتصد في مؤاخذة المذنب. فقدم التوقيف قبل التثقيف، والتأنيب قبل التأديب. فإن الرفق بالجاني عتاب. والحر يلحى والعصا للعبد. . .
وهو يرى ويسمع أن بالحضرة قوماً لا يحصرهم العد، تحتمل سقطاتهم وتغتفر هفواتهم، وتقال عثراتهم. . .
وما أعلم أنهم يدلون بوسيلة إلا شاركتهم فيها، ولا يمتون بذريعة ينفردون دوني بها. . .
فإن كانت مسامحتهم لسابقة سلفت فقد أحرزت منها الحظ الأعلى أو لكمال أدب فقد ضربتُ فيه بالقدح المعلى، أو للطف تودد فما قصرتُ في الاجتهاد غير أني حرمت التوفيق. والأمر لله رب مجتهد ما خاب إلا لأنه جاهد والله لقد أظهرت مدحه، وأضمرت نصحه، وتممت على الصاغية له، وجريت ملء العنان إلى الاعتلاق به، اسقيه السائغ من مياه ودي. واكسبه السابغ من برود حمدي، وأجنبه الغض من ثمرات شكري، وأهدي إليه العطر من نفحات ذكري. لا يفيدني التحبب إليه، إلا ضياعاً لديه. ولا يزيدني التقرب منه. إلا بعداً عنه.
والذي أحبه منك وأثق ف المسارعة إليه بك، لقاؤه مجارياً ذكرى، مفاوضنا في امرئ، معلماً له بالذي لا يذهب عنه من أن الذي اخترته لنفسي غاية ما يسيء العدو به ويساء المولى منه. فالجلاء أخو القتل، والغربة أحد السباءين: قال الله تعالى: ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم
وقد هجرت الأرض التي هي ظئري، والدار التي كانت مهادي، وغبت عن أم أنا واحدها، تمتد أنفاسها شوقاً لي، وتغض أجفانها حزناً علي، والله يرى بكاءها ويسمع لي على من ظلمني نداءها. فالاستجابة مضمونة للمخلص وللمظلوم، وقد حملت السمتين، واستوجبت الصفتين ولتكن بغيتك التي دخرها عليها كلمة تأمين وإشارة إلى تأنيس وتذكير، تراجعني بها فأظهر بحيث أنا آمنا، وألقي العصا مطمئناً. فإن وجدت محر الشفرة فالعوان لا تعلم الخمرَة فإن اشبهت الليلة البارحة، أعلمتني بذلك، فطلبت الأمن في مظانه، وتقريت السلامة في مواطنها. وصبرت حتى يحكم الله لي وهو خير الحاكمين. كل يوم هو في شأن. ومع اليوم غد ولكل حال معقب. ولربما أجلى لك المكروه عما تحمد. ولك يا سيدي في انتدابك لما ندبتك إليه الفضل، والأيادي قروض، والصنائع ودائع، لا يذهب العرف بين الله والناس. والتحية الطيبة والسلام المردد على سيدي
ولكن ابن زيدون كان قد ذاق من الدهر حلوه ومره، فلم يرض لنفسه بالذهاب إلى اشبيلية دون أن يكون على ثقة من أمره. فلذلك كتب رسائل بديعة إلى بعض المقربين من المعتضد، قم إلى المعتضد نفسه، ليمهد السبيل إلى الهجرة حتى إذا تحقق أنه سينزل في اشبيلية على الرحب والسعة أزمع الرحيل إليها. وكان ذلك في سنة 441 للهجرة.
واتفق في وقت فراره من قرطبة إلى اشبيلية أن صادفه عيد الأضحى فرأى الناس مبتهجين بالعيد، وهم يتزاورون ويتبادلون التهاني، وهو شريد طريد، ففاضت نفسه بوصف حاله:
خليليّ لا فطر يسر ولا أضحى! ... فما حال من أمسى مشوقاً كما أضحى!
لئن شاقني شرق العقاب، فلم أزل ... أخص بمخصوص الهوى ذلك السفحا
وما انفك جو في الرصافة مشعري ... دواعي بث تعقب الأسف البرحا
ويهتاج قصر الفارسي صبابة ... بقلبي لا يألو زناد الهوى قدحا
وليس ذميماً عهد مجلس ناصح ... فأقبل في فرط الولوع به نصحا كأني لم أشهد لدى عين شهدة ... نزال عتاب كان آخره الفتحا
وقائع جانيها التجني فإن مشى ... سفير خضوع بيننا، أكد الصلحا
وأيام وصل بالعقيق اقتضيته ... فا لا يكن ميعاده العيد، فالفصحا
وآصال لهو في مسناة مالك ... معاطاة ندمان إذا شئت أو سبحا
لدى راكد تصيبك من صفحاته ... قوارير خضر خلتها مردت صرحا
معاهد لذات وأوطان صبوة ... أجلت المعلى في الأماني بها قدحا
مقاصر ملك أشرقت جنباتها، ... فخلنا العشاء الجون أثناءها صبحاً
يمثل قرطيها لي الوهم جهرة ... فقبتها فالكوكب الرحب فالسطحا
هناك الحمام الزرق تندى خفافها ... ظلال عهدت الدهر فيها فتى سمحا
محل ارتياح يذكر الخلد طيبه ... إذا عزّ أن يصدى الفى فيه أو يصحا
تعوضت من شدو القيان خلالها، ... صدى فلوات قد أطار الكرى صبحا
ومن حملى الكاس المفدى مديرها، ... تقحم أهوال حملت لها الرمحا
فلما وصل اشبيلية، نزل على كنف المعتضد، وأصبح من خواصه وصحابته يجالسه في خلواته، ويرسله في مهم رسائله. وولاه الوزارة، وحفظ له لقبه ذا الوزارتين.
كان المعتضد جعل مجلسه منحطاً عن مجلس ابنه وولي عهده المعتمد بن عباد. فكتب المعتمد لابن زيدون:
أيها المنحط عني مجلساً! ... وله في النفس أعلى مجلس!
بفؤادي لك حب يقتضي ... أن تري تحمل فوق الأرؤس!
فأجابه ابن زيدون يشكره:
اسقيط الطل فوق النرجس ... أم نسيم الروض تحت الحندس
أم قريض جاءني من ملك ... مالك بالبر رق الأنفس؟
يا جمال الموكب الغادي إذا ... سار فيه، يا بهاء المجلس!
شرفت بكر المعالي خطبة ... بك، فانعم بسرور المعرس!
وارتشفت معسول ثغر أشنب ... تجنيه من مجاج ألعس!
واغتبق بالسعد في جفن المنى ... يصبح الصنع دهاق الاكؤس! فاعترض الدهر فيما شئته ... مرتقي في صدره لم يهجس!
ولكن هل أنساه ذلك ولاّدة ومحاسنها، أم قرطبة ومساكنها؟
كلا! فلم يزل صاحبنا مشغوفاً بهذه وبتلك، وأشعاره أكبر دليل على ذلك. فكلما حانت له فرصة، أو هزته نشوة، قال فيها أقوالاً تذيب الفؤاد.
فلقد تشوق إلى قرطبة وساكنيها بقصيدة تدل على حنينه لها ولمن فيها، فقال:
على دارة الشرقي مني تحية ... زكت وعلى وادي العقيق سلام
ولا زال روض بالرصافة ضاحك ... بأرجائها يبكي عليه غمام!
معاهد لهو لم نزل في ظلالها ... تدار علينا للسرور مدام
زمانٌ رياض العيش خضر نواعم ... ترف وأمواه النعيم جمام
فإن بان مني عهدها فبلوعة ... يشب لها بين الضلوع ضرام
تذكرت أيامي بها فتبادرت ... دموعي كما خان الفريد نظام!
ومن أجلها أدعو لقرطبة المنى ... بسقي ضعيف الطل وهو رهام!
محل نعمنا بالتصابي خلاله ... فأسعدنا والحادثات نيام!
فما لحقت تلك الليالي ملامة، ... ولا ذم من ذاك الحبيب ذمام!
وكان يبلغه عن بني جهور ما يسوءه في نفسه وقرابته في قرطبة، فقال يخاطبهم:
بني جهور أحرقتمو بجفائكم ... فؤادي؟ فما بال المدائح تعبق!
تعدونني كالعنبر الورد، إنما ... تفوح لكم أنفاسه حين يحرق!
وأما أمداحه في المعتضد بن عباد فشيء كثير جليل. وأذكر فقط بيتين أرسلهما إليه مع هدية من باكورة التفاح، وهما:
يا من تزينت الريا ... سة حين ألبس ثوبها!
جاءتك جامدة المدا ... م، فخذ عليها ذوبها!
وقد كتب عنه إلى صهره الموفق أبي الجيش بن مجاهد العامري صاحب دانية والجزائر الشرقية المعروفة الآن بجزائر الباليار:
عرفت عرف الصبا إذ هب عاطره ... من أفق من آنا في قلبي أشاطره
أراد تجديد ذكراه على شحط ... وما تيقن أنى الدهر ذاكره ينأى الزار به، والدار دانية ... يا حبذا الفال لو صحت زواجره
خلي، أبا الجيش، هل يدنو اللقاء بنا ... فيشتفي منك طرف أنت ناظره
قصاره قيصر أن قام مفتخراً ... لله أوله مجداً وآخره
قلت فيما تقدم أن ملوك الطوائف كانوا منقسمين على أنفسهم، وأن الحرب كانت دائرة بينهم. فإليكم مثالاً واحداً مما يتعلق بابن زيدون. وذلك أن الحرب وقعت بين المعتضد صاحب اشبيلية، وبين ابن الأفطس صاحب بطليوس، فانهزم ابن الأفطس هزيمة فظيعة، وخسر خسارة جسيمة، فقال ابن زيدون يهنئ المعتضد:
ليهن الهدى إنجاح سعيك في العدا ... وإن راح صنع الله نحوك واغتدى!
وبشراك دنيا غضة العهد طلقة ... كما ابتسم النوار عن أدمع الندى!
دعوت فقال النصر. لبيك ماثلاً، ... ولم تك كالداعي يجاوبه الصدى!
وأحمد عقب الصبر في درك المنى، ... كما بلغ الساري الصباح فاحمدا.
ولما اعتضدت الله كنت مؤملاً ... لديه بأن تحمي وتكفي وتعضدا.
وجدناك أن ألقحت سعياً نتجته، ... وغيرك شاو حين أنضج أرمدا.
سل الخائن المغتر: كيف احتقابه ... مع الدهر عاراً بالفرار مخلدا؟
رأى أنه أضحى هزبراً مصمماً! ... فلم يعد أن أمسى ظليماً مشردا!
يود إذا ما جنه الليل أنه ... أقام عليه آخر الليل سرمدا!
وأصبح يبكيه المصاب بثكله ... بكاء لبيد حين فارق أربدا.
هذا مع أن ابن زيدون سبق له مدح ابن الأفطس بمديحة غراء في قصيدته التي يقول فيها:
لبيض الطلى ولسود اللمم ... بقلبي مذبن عني لمم!
ففي ناظري عن رشادي عمم، ... وفي أذني عن ملامي صمم!
مليك إذا طاولته الملوك ... حوى الخصل، أو ساهمته شهم.
فأطولهم بالأيادي يدا ... وأثبتهم ف المعالي قدم.
وأروح، لا مبتغي رفده ... يخيب ولا جاره يهتضم.
أبوه الذي فل غرب الضلا ... ل ولاءم شعب الهدى فالتأم.
فلا سامي الطرف إلا أذل ... ولا شامخ الأنف إلا رغم.
تقيل في العز من حمير ... مقاول عز جميع الأمم.
نجوم هدى والمعالي بروج، ... وأسد وغى والعوالي أجم.
أبا بكر أسلم على الحادثات ... ولا زلت من ريبها في حرم!
وأني لأصفيك محض الهوى ... وأخفي لبعدك برح الألم!
ولا غرابة في ذلك. فالملك عقيم، وتصاريف السياسة تقضي بالتغيير من حال إلى حال، خصوصاً إذا انقسمت أمة من الأمم على نفسها، وخاضت في غمار الخطوب والفتن. وفوق ذلك أفليس التقلب من مديح إلى هجاء ومن ملام إلى سلام، هو سجية من سجايا الشعراء الكرام وغير الكرام.
فلما مات المعتضد بن عباد وتولى الملك ابنه المعتمد ابن عباد كان لابن زيدون عنده تلك الكرامة وهذه الحفاوة، تدلنا على ذلك شهادة التاريخ ويؤيدها قول ابن زيدون نفسه في رثاء المعتضد ومخاطبته روحه بعد دفنه.
أعباد، يا أوفى الملوك لقد عدا ... عليك زمان من سجيته الغدر!
فهلا عداه أن علياك حلية ... وذكراك في أردان أيامه عطر؟
أأنفس نفس في الورى أقصد الردى ... وأخطر علق للهدى اقبر الدهر؟
فهل علم الشأو القدس أنني ... مسوّغ حال ضل في وهمها الفكر؟
وإن متاتي لم يضعه محمد ... خليفتك العدل الرضا وابنك البر
وأرغم في بري أنوف عصابة ... لقاؤهم جهم ومنظرهم شزر؟
إذا ما استوى في الدست عاد حبوة ... وقام سماطاً خلفه فلى الصدر،
ومن المعلوم أن ابن زيدون هو الذي دبر دولة المعتضد واظهر صولته وأغراه بأعدائه وزين له الإيقاع بعماله، ووزرائه فغدا شجا في صدورهم، ونكداً في سرورهم، فلما آل الأمر إلى المعتمد. قام حساده وخصومه وسعوا لديه في النكاية به، ثم رموا إليه برقعة فيها قصيدة طويلة أولها:
يا أيها الملك العلي الأعظم ... اقطع وريدى كل باغ ينئم!
واحسم بسيفك داء كل منافق ... يبدي الجميل وضد ذلك يكتم!
وهي قصيدة طويلة تتألف من 27 بيتاً كلها إغراء بابن زيدون، على سبيل التصريح المفهوم. ولكن المعتمد كان أعقل من ابن جهور، فلم يصغ لتلك النميمة، ولم تنفع لديه تلك السعاية، فقل في صدهم ورد كيدهم في نحرهم.
كذبت منا كم صرحوا أو جمجموا ... الدين أمتن والسجية أكرم!
خنتم ورمتم أن أخون وربما ... حاولتم أن يستخف ململم
وأردتم تضييق صدر لم يضق ... والسمر في ثغر النحور تحطم
وزحفتم بمحالكم لمجرب ... ما زال يثبت للمحال فيهزم
أني رجوتم غدر من جربتم ... منه الوفاء وظلم من لا يظلم
أنا ذلكم، لا البغي يثمر غرسه ... عندي ولا مبنى الصنيعة يهدم
كفوا وإلا فارقبوا إلي بطشة ... يلقى السفيه بمثلها فيحلم
فلما بلغ ابن زيدون ما راجعهم به وتحقق حسن مذهبه وعلم أن حياته قد أخفقت، وسعايتهم ما نفقت، وسهامهم تهزعت، ومكائدهم تبددت وتوزعت.
قال ينمدح المعتمد ويعرض بإعاديه بقصيدة طويلة مطلعها:
الدهر، إن سأل، فصيح أعجم ... يعطي اعتباري ما جهلت فأعلم
ومنها
ولكم تسامي بالرفيع نصابه ... خطراً فناصبه الوضيع الالأم
ومنها
قل للبغاة المنبضين قسيهم ... سترون من تصميه تلك الأسهم
ثم مدح المعتمد - إلى أن قال:
امطيتني متن السماك برتبة ... علياء منكب عزها لا يزحم
وتركت حسادي عليك وكلهم ... شاكي حشى يدوي وأنف يرغم
نصح العدا في زعمهم فوقمتهم ... والغش في بعض النصائح مدغم
وثناهم ثبت قناة أناتهم ... خلقاء يصلب متنها إذ يعجم
وزهاهم نظم الهراء فكفهم ... نظم عقود السحر منه تنظم
أشرعت منه إلى لغواة أسنة ... نفذت وقد ينبو الطرير اللهذم
فرق عوت فزأرت زأرة زاجر ... راع الكليب بها البسبنتي الضيغم ياليت شعري هل يعود سفيههم ... أم قد حماه النبح ذاك الأكعم
لي منك، فليذب الحسود تلظياً، ... لطف المكانة والمحل الأكرم
وشفوف حظ ليس يفتأ يجتلي ... غض الشباب وكل غض يهرم
لم تلف صاغيتي لديك مضاعة ... كلا ولا حق اصطناعي الأقدم
بل أوسعت حفظاً وصدق رعاية ... ذمم موثقة العرى لا تفصم
فليخرقن الأرض شكر منجد ... منى تناقله المحافل متهم
عطر هو المسك السطيع يطيب في ... شم العقول أريجه المتنسم
فإذا غصون المكرمات تهدلت ... كان الهديل ثناءها المترنم
الفخر ثغر عن حياضك باسم ... والمجد برد من وفائك معلم
فاسلم مدى الدنيا فأنت جمالها ... وتسوغ النعمى فإنك منعم
واستقر المعتمد به في وزارته فكان أحد وزرائه الثلاثة الأكابر المثناة وزارتهم (أي أحد الثلاثة الذين يلقب كل واحد منهم بذي الوزارتين) والآخران هما ذو الوزارتين ابن عمار وذو الوزارتين ابن خلدون (جد صاحب التاريخ المشهور).
خرج الثلاثة في أحد الأيام من اشبيلية إلى منظرة (قصر خلوى) لبني عباد بموضع يقال له الفُنت (تعريباً للفظ اسباني وهو متنزه تحف به مروج مشرقة الأنوار، متنسمة الأنجاد والأغوار، متبسمة عن ثغور النوار. في زمان ربيع سقت الأرض السحب فيه بوسميها ووليها. وجعلتها في زاهر ملبسها وباهر حليها. وارداف الربى قد تأزرت بالأزر الخضر من نباتها، وأجياد الجداول قد نظم النوار قلائده حول لباتها، ومجامر الزهر تعطر أردية النسائم عند هباتها. وهناك من البهار، ما يزري على مداهن النضار، ومن النرجس الريان، ما يهزأ بنواعس الأجفان. وقد نووا الانفراد للهو والطرب، والتنزه في روضي النبات والأدب. وبعثوا صاحباً لهم يسمى خليفة هو قوام لذتهم، ونظام مسرتهم، ليأتيهم بنبيذ يذهبون الهم بذهبه في لجين زجاجهن ويرمونه بما يقضي بتحريكه للهرب عن القلوب وإزعاجه. فجلسوا الانتظار، وترقب عوده على آثاره. فلما بصروا به مقبلاً من أول الفج بادروا إلى لقائه، وسارعوا إلى نحوه وتلقائه. واتفق أن فارساً من الجند ركب فرسه فصدمه، ووطئ عليه فهشم أعظمه وأجرى دمه، وكسر قمصالالنبيذ الذي كان معه، وفرق من شملهم ما كان الدهر جمعه. ومضى على غلوائه راكضاً حتى خفي عن العين، خائفاً من متعلق به يحين بتعلقه الحين. وحين وصل الوزراء إليه تأسفوا عليه وأفاضوا في ذكر الزمان وعدوانه، والخطب وألوانه، ودخوله بطوام المضرات، على تمام المسرات، وتكديره الأوقات المنعمات، بالآفات المؤلمات.
فقال ابن زيدون:
أنلهو والحتوف بنا مطيفه ... ونأمن والمنون لنا مخيفه؟
فقال ابن خلدون:
وفي يوم وما أدراك يومٌ ... مضى قُمصالنا ومضى خليفة!
فقال ابن عمار:
هما فخارتا راح وروح ... تكسرتا فأشقاف وجيفه.
ولابن زيدون مدائح في المعتمد بن عباد كلها درر وغرر، وآيات بينات، وله معه مداعبات، ومطارحات ومساجلات. فتارة يشوقه إلى تعاطي الحميا في قصوره البديعة، وتارة يرسل له التفاح ويكتب عليه الأشعار، يدعوه إلى تناول العقار، وتارة يهينه، وأخرى يمدحه. وله بيتان قد بلغا حد الإبداع في هذا الباب. قال يخاطبه:
مهما امتدحت سواك قبل فإنما ... مدحي إلى مدحي لك استطراد
يغشى الميادين الفوارس حقبة ... كيما يعلمها النزال طراد
فما أحسن هذا التنصل بالتمرن على المديح، حتى إذا جاد وبلغ المراد أهدى ثمرته إلى ابن عباد.
هذه قطرة من بحر من بحور شعر ذلك الفرد. وأما نثره، فشيء بعيد حصره. ومما يجهله كثيرون أنه ألف كتاباً في التاريخ، جعله ابن حزم من مفاخر الأندلس، وقال أن أبا الوليد بن زيدون ألف كتاب التبيين في خلفاء بني أمية بالأندلس على منزع كتاب التعيين في خلفاء المشرق للمسعودي. وقد نقل صاحب نفح الطيب سطراً أو سطرين عن هذا الكتب الذي لم يبق له أثر ولا عين.
وما زال ابن زيدون يتشوق لقرطبة ولمن فيها ويعمل لدى المعتمد بن عباد حتى جعل قرطبة منتهى أملهن فسعى في مداخلة أهليها، ومواصلة ذوي الكلمة فيها. لأنه رأى عدم الفائدة، في غير الحيلة والمكايدة، لاستمساك أهلها بدعوة الخلافة وأنفتهم من زوالها عنهم وانطماس رسومها في بلدهم فلما فاز بالمرام وانتظمت تلك العاصمة الضخمة في ملكه. ذهب إليها مسرعاً واهتم بتدبير شؤونها. هنالك جاشت نفسه بالفخر على سائر ملوك الطوائف. فقال:
من للملوك بشأو الأصيد البطل، ... هيهات جاءتكم مهدية الدول!
خطبت قرطبة الحسناء إذ منعت ... من جاء يخطبها بالبيض والأسل
وكم غدت عاطلاً حتى عرضت لها ... فأصبحت في سرى الحلي والحلل.
عرس الملوك لنا في قصرها عرس ... كل الملوك به في مأتم الوجل.
فراقبوا عن قريب! لا أبالكم، ... هجوم ليث بدرع البأس مشتعل
أما ابن زيدون، فقد عاد قرير العين إلى وطنه وأهله وكانت له شيعة كبيرة في قرطبة، فارتفع جده، وزاد إقبال الدنيا عليه، وبلغ حظوته عند المعتمد درجة لا يطمع فيها.
فحينئذ سعي في هلاكه صاحباه ابن مرتين وابن عمار، وتلطفا في إبعاده وإبعاد ابنه من بعده ليخلو لهما الجو، ولينفردا بالاستئثار بابن عباد. ولقد ساعدتهما الظروف.
فقد وقعت فتنة في اشبيلية واضطر ابن عباد للتعجيل بإرسال جيش كثيف إليها تحت قيادة ابنه سراج الدولة بن عباد. فسول ابن مرتين وابن عمار لابن عباد أن يرسل ابن زيدون مع سراج الدولة وتلطفا في تفهيم السلطان أن ذهاب ذي الوزارتين فيه حقن للدماء، وحفظ للنظام، لما له من المكانة العالية والجاه الرفيع، ولأنه محبوب لدى جميع القلوب. ثم وسوسا له بأن المصلحة كل المصلحة هي في وجود ابن زيدون الوزير العاقل المدرب المحنك المجرب بجانب سراج الدولة الذي هو قرة عين الملك، ومطمح الأنظار لبقاء البيت العبادي.
وما زال الرجلان ينسجان على هذا المنوال حتى أفلحا خصوصاً لغياب ابن زيدون في مرض ألزمه البيت.
صدر إليه الأمر بالذهاب ولم يعذره السلطان في التوقف لما ألم به من الآلام. فخرج منها مع الحاجب سراج الدولة بن عباد والجيش متوجهين إلى اشبيلية. وكان ذلك في يوم 13 ذي الحجة سنة 462. وخلف في قرطبة ابنه الوزير الكاتب أبا بكر بن زيدون، ولكن صاحبينا (بن مرتين وابن عمار) ما زالا يعملان لدى ابن عباد حتى صدر الأمر إلى أبي بكر بن زيدون أيضاً بأن يلحق بأبيه في اشبيلية. حينئذ خلا لهما الجو فاستأثرا بالأمور كلها وانفردا بتدبير الدولة بلا مشارك لهما في أهوائهما ولا معارض لهما في أغراضهما.
وكأن زوال دولة ابن عباد كان مقدراً على يد هذين الرجلين. فابن مرتين، يكفي في التعريف بمراميه أنه ابن مرتين أي أنه من أصل غير عربي، فإن جده رجل اسباني يسمى وأما ابن عمار فقد أنكر فضل ابن عباد وشق طاعته وسعى في الفساد والخراب وخرق العهود وخان واتعب ابن عباد حتى أوهي دولته، على ما هو معروف ومشهور.
أما ابن زيدون وهو في اشبيلية، فلم يطل الأمد به بعد لحاق ابنه به. فكأنه جاء ليكفنه ويدفنه بها في صدر رجب سنة 463 حينئذ تولى منه كهل لن يخلف الدهر مثله جمالاً وبياناً وبراعة وظرفاً.
وهو عند أولي التحقيق في النظم أمد طلقاً وأحث عنقاً، فلا يلحقه فيه تقصير، ولا يخشى رهقاً. ولما وصل خبره إلى قرطبة، وله فيها عشرة كبيرة وأشياع كثار، تناعوه وحزنوا عليه لأنه كان منهم، هاوياً إليهم، حدباً عليهم، وليجة خير بينهم وبين سلطانهم الحديث الولاية.
فأراد السلطان أن يترضاهم فأرسل لأبنه (أي أبي بكر بن زيدون) وقربه إليه، ورقاه في مراتب والده، حتى أحظاه بالوزارة. وقد اغتنم هذا فرصة ما وقع من ذي الوزارتين بن عمار من الخروج على ابن عباد فأوغر صدر ابن عباد عليه وما زال يعمل لديه حتى كان سبباً في هلاك ابن عمار على ما هو معروف ومشهور.
يقولون مات ابن زيدون. فهل تظنون أن هذا قد كان أو يمكن أن يكون.
أنا لا أقول بالرجعة ولا أذهب إلى الخلود. ولكنني لا أصدق بأن ابن زيدون قد مات. لأن المؤرخين اختلفوا في موته، والاختلاف مدعاة للشكوك والظنون. فشمس الدين الذهبي يقول أنه مات سنة 463. وأما ابن بشكوال فإنه يجعل ذلك سنة 405. فإن صدقنا هذا الثاني لأنه أندلسي، فإننا نرى ابن بسام (وهو أندلسي) أيضاً يؤيد قول الذهبي الشرقي. فهذا شك أول.
ثم أنهم اختلفوا في موضع وفاته. فقال الذهبي أنها حدثت باشبيلية. وقال ابن بشكوال أن ذلك كان بالبيرة (وهي مدينة كبيرة بقرب غرناطة).
نعم إنهما اتفقا على دفنه بقرطبة. ولكن الرجل لا يمكن أن يكون قد مات في موضعين مختلفين وفي وقتين متباعدين. فذلك شك ثان نؤيده باستدلالات واستنباطات. وفوق ذلك فإن ابن بسام يؤكد لنا أن دفنه كان باشبيلية 0فهذا شك ثالث).
كيف يموت ابن زيدون وأقواله لا تزال ترن في المسامع وتدور في الأفواه؟
كيف يموت ذلك الذي لا يصح لأديب أو متأدب أن لا يروي له شيئاً من الأشعار؟
كيف يموت ذلك الذي نظم القصيدة النونية التي افتتحها بقوله:
أضحى التنائي بديلاً من تدانينا ... وناب عن طيب لقيانا تجافينا
بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا ... شوقاً إليكم ولا جفت مآقينا؟
كيف يموت صاحب هذه القصيدة التي حكم بعض الأدباء بأن من رواها ولبس البياض وتختم بالعقيق وقرا لأبي عمرو وتفقه للشافعي فقد استكمل الظرف.
كيف يموت صاحب هذه القصيدة التي سارت في البلاد، وطارت بين العباد، واشتهرت حتى صارت محدودة، فقيل ما حفظها أحد إلا مات غريباً.
كيف يموت صاحب هذه القصيدة التي تهافت كبراء الأدباء على معارضتها في حياة صاحبها وبعد موته (الذي يزعمون) ولم يقاربها أحد منهم إلى الآن بل بقيت الشهرة لها كما بقي الصيت لصاحبها (الباقي إلى الآن).
كيف يموت صاحب هذه النونية التي عارضها أبو بكر بن الملح وأراد أن ينازعه الراية، فقصر عن الغاية. وهذا مطلع قصيدته:
هل يسمع الربع شكوانا فيشكينا ... أو يرجع القول مغناه فيغنينا
كيف يموت صاحب هذه القصيدة التي أراد الصفدي أزمان الشباب أن يعارضها بمرثية لبعض أصحابه في صفد، وأولها
تحكمت بعدكم أيدي الثوى فينا ... وقد قامت بنادينا تنادينا
كيف يموت صاحب هذه القصيدة التي قصر عنها الأدباء فاحتمى بعضهم في ظلالها: واقتبس كلامها، فقد سدسها أحد علماء المغرب وهذا مطلع التسديس:
ماللعيون بسهم الغنج تُصمينا ... وعن قطاف جنى الأعطاف تحمينا تألق كان يحيينا ويضنينا ... تفرق عاث في شمل المحبينا
أضحى التنائي بديلاً من تدانينا ... وآن عن طيب دنيانا تجافينا
كيف يموت صاحب هذه القصيدة التي تلطف الشاعر المصري اللطيف وأعني به صدر الدين ابن الوكيل المتوفي سنة 706 بالقاهرة، فاقتبس من جواهر ذلك العقد النفيس ما حلا به موشحاً لطيفاً.
وأني أترك إلقاء هذا التوشيح لبعض أعضاء النادي الكرام ليكون في صوتهم الشجي وتلحينهم الرخيم. تشنيف للأسماع يحسن عنده الختام، والسلام.
مجلة البيان للبرقوقي - العدد 13
بتاريخ: 1 - 10 - 1913
1
تمهيد
قلبي بأندلس مدله وعقلي بأطلاله موله. وهيامي بأهليه حديث قديم، وغرامي بساكنيه مقعد مقيم. وحنيني إليه يحبب لي فيه الأسى والحنين.
فلا غرو إذا كنت أتصيد الفرص السوانح ولا عجب إذا كنت أتقنص الشوارد والبوارح، لأترنم بذكرى المحبوب. فإن الذكرى بلسم القلوب.
أفليس المصدور يروح نفسه بنفثه؟ وهل يلام المستهام إذا تحين خلسة لبثة؟ فاعذروني على هذا الهوى العذري! فقد خانني شعري ولم يساعدني نثري على أنني أعلل نفسي بأن تستمعوا لهمسي وتعاونوني على إحياء أندلسي فذلك الهوس هوسي قد لازمني في حلمي وفي حسي واستمكن من عقلي واستولى على نفسي فهل أحظى بشارقة يكون بها أنسى قبل أن أدخل في رمسي.
ناشدتكم الله أن تسمحوا لهذه الزفرات أن تتصاعد على مسمع منكم! وأن تبيحوا لهذه العبرات أن تتحدر على مشهد منكم! فلعلي أجد في هذا الأنين راحة مما يجده قلبي الحزين! ولعلي أتوصل لإيصال صورتي إلى أعماق قلوب الحاضرين ولإرسال صداء إلى غاية مداه بين الغائبين! ولعلي ولعلني. ولعلني أرى الكثيرين من أبناء أمتي يشاركونني في صبابتي ولوعتي! فو الله أن الشرك في مثل هذا الغرام ليس فيه شيء من الحرام لا في شرع الهوى ولا في شرع النهي، ولا في شرع الهدى، فكل شرك مذموم: اللهم إلا ما كان فيه تعاون على البر والتقوى. وليت شعري أي تعاون أفضل من وضع الأيدي ومن توازر العقول بالعقول ومن تجاذب الأرواح إلى الأرواح للتناصر على إحياء كلمة الأدب بين العرب حتى يزدان هذا العصر الجديد بما كان للشرق من فخر قديم ومجد تليد.
لعمري إذا ما سرى هذا التيار تيار الكهرباء المنبعث من ذياك الغرام في صدور أبناء العرب الكرام، فلا جرم أن تتوقد في قلوبهم تلك الحمية التي امتلكوها بها نواصي الأيام. ولا ريب في أن يشتعل في نفوسهم ذلك الحماس الذي سادوا به على الناس فالأيام دول ومن سار على الدرب وصل!
كنت آليت على نفسي في هذه السنة أن لا أناجي هذا النادي، وأن لا أحاضر هذا السامر بما أتلقفه من بطون الطوامير وما أهتدي إليه بين دفات الدفاتر مما ينضاف إليه شيء من علمي القاصر وخاطري الكليل الفاتر وكنت أردت أن أحقق في نفسي ما قاله حكماء العجم والعرب. إن كان الكلام من فضة: فالسكوت من ذهب فلزمت الصمت ولازمت البيت: وعكفت على خدمة الدفاتر والطوامير. ولبثت منتظراً انهيال القناطر من الدنانير: ولكن حرفة الأدب لا نسبة ولا نسب بينها وبين الذهب. فلم أحظ بذهب السكوت وانفضت عني فضة الكلام فكان حظي صفقة المغبون.
وكأن الأقمار حكمت علي بفضة الكلام لا غير فأثارني من مكمني. وهزني بشدة عنيفة لمعاودة المحاضرة في هذا النادي.
ذلك أن جريدة النوفيل التي تصدر في الإسكندرية كتبت ذات يوم فصلاً عن المسيو بوانكاريه رئيس الجمهورية الفرنسية أثناء زيارته لعاصمة الأنقليشيين (كما يقول الأندلسيون) أو الأنكتار (كما كان يقول المصريون في أيام الحروب الصليبية) أو الانجليز (كما نقول نحن اليوم) تلك العاصمة التي كان أهل الأندلس يسمونها لوندرس وعلى منوالهم جرى الاسبانيون إلى الآن، وهي لوندرة في اصطلاحنا عن الفرنسيين أو لندن في عرفنا أيضاً عن أبناء جلدتها.
قالت جريدة النوفيل أن المسيو بوانكاريه استقبل عشرين وفداً من طوائف الانجليز ورجالاتهم المعدودين، وكلهم قدّم له خطبة للترحيب بمقدمه إلى بلادهم. فأجاب كل خطبة بعبارة من الشكر تخالف ما أجاب به الأخرى. وهكذا استعمل الرئيس عشرين صيغة مختلفة في الشكر. فدل بذلك على تضلعه من لغته وتبحره في آدابها. وكانت هذه البراعة سبباً لإعجاب الناس بهذا الاقتدار. تلقف الإخباريون هذه النادرة فأطنبوا في مدحها وأعجبوا بالرئيس إعجاباً ما وراءه من مزيد.
رأيت ذلك فأخذتني العصبية لقومي، والحمية للغتي. فأمسكت القلم وكتبت في الحال لجريدة النوفيل فصلاً باللغة الفرنسية تكرمت بنشره في اليوم الثاني. أظهرت في هذا الفصل ما تذكرته من أوجه الشبه بين الوزير ابن زيدون وبين الرئيس بوانكاريه ثم ذكرت ما رواه ابن بسام صاحب الذخيرة في محاسن الجزيرة أي جزيرة الأندلس. قال عن ابن زيدون: فاما سعة ذرعه، وتدفق طبعه؟ وغزارة بيانه، ورقة حاشية لسانه: فالصبح الذي لا ينكر ولا يرد، والرمل الذي لا يحصى ولا يعد. أخبرني من لا أدفع خبره من وزراء اشبيلية، قال: لَعهدي بأبي الوليد قائماً على جنازة بعض حُرَمه والناس يعزونه على اختلاف طبقاتهم، فما سمع يجيب بما أجاب به غيره لسعة ميدانه، وحضور جنانه قال الصلاح الصفدي: وهذا من التوسع في العبارة والقدرة على التفنن في أساليب الكلام. وهو أمر صعب إلى الغاية وأقل ما كان في تلك الجنازة - وهو وزير_ألف رئيس ممن يتعين عليه أن يشكر له، فيحتاج في هذا المقام إلى ألف عبارة مضمونها الشكر. وهذا كثير إلى الغاية، ولا سيما من محزون فقد قطعة من كبده.
ولكنه صوب العقول إذا انبرت ... سحائب منه أعقبت بسحائب
أظهرت للجريدة الفرنسية أن ما صنعه ابن زيدون أكثر بكثير مما فعله الرئيس بوانكاريه، ولا سيما إذا نظرنا إلى الموقفين فإن المثكول بالأولاد، المحروق الفؤاد، يستعصي عليه الكلام، ويحتبس لسانه دون البيان، ولو كان في بلاغة قس وفصاحة سحبان.
ثم ذكرت في تلك الرسالة أن ابن زيدون ممن يستأهل التعريف به في هذه الأيام، وأنني ربما اختلست فرصة من وقتي وتملصت من الأشغال الكثيرة التي تستفرغ جهدي وفكري لتحضير محاضرة أتحف بها أخواني في نادي الموظفين بالإسكندرية. ولكنني لم أختم الرسالة دون الاستطراد إلى ما فعله بعض المشارقة مما ينطوي تحت هذا الباب واخترت ثلاثة شواهد أوردتها لأولي النهي من الإفرنج والجاهلين أو المتجاهلين من المصريين المتفرنجين ليعلموا أن في العربية كنوزاً لمن يطلبها، وذخائر تجعل لها ولأهلها فخراً باقياً. اخترت المثال الأول من العراق، وأشرت إلى الحريري صاحب المقامات وذلك أنه كلما جمع بين الحارث بن همام وبين أبي زيد السروجي واحتاج إلى التفريق بينهما وإلى القول فلما أصبح الصباح تراه يعبر عن هذا المعنى في كل مقامة بعبارة تغاير الأخرى.
والمقامات بيننا تنطق بهذا الشاهد الصادق.
واخترت الشاهد الثاني من مصر. فإن الخطيب ابن نباتة (الذي شرح إحدى رسائل ابن زيدون) أملى مجلدة معناها من أولها إلى آخرها أيها الناس اتقوا الله واحذروه فإنكم إليه ترجعون وهذا أمر بارع معجز والناس يغفلون عن هذه النكتة فيه.
والشاهد الثالث اخترته من لشام وهو الصلاح الصفدي (الذي شرح رسالة أخرى لابن زيدون) فإنه ألف كتاباً كبيراً في تاريخ المشهورين في عصره وسماه أعيان العصر وأعوان النصر وهو يقع في اثني عشر مجلداً: فكلما ذكر وفاة أحد المترجمين استعمل عبارة تخالف الصيغة التي استعملها عند كلامه على وفاة غيره وهلم جراً.
هذه خلاصة الرسالة التي نشرتها في جريدة النوفيل في اليوم التالي لليوم الذ أوردت خبرها عن براعة الرئيس الفرنسي.
فأنتم ترون أن الفضل الأول يرجع إلى هذه الجريدة في محاضرتي الليلة. والفضل الثاني يرجع إلى مؤلفي العرب الذين رجعت إليهم في تلقف هذه الشوارد التي سأقصها عليكم: وهم:
أولاً_ابن بسام صاحب الذخيرة (وقد أحضرنا في دار الكتب الخديوية نسخة منها بخط مغربي نقلناه إلى الخط المشرقي بواسطة العلامة فقيد اللغة والأدب لعهدنا هذا المرحوم الشيخ أحمد بن الأمين الشنقيطي)
ثانياً_قلائد العقيان للفتح بن خاقان الأندلسي.
ثالثاً_المعجب بتلخيص أخبار المغرب لعبد الواحد المراكشي.
رابعاً_البيان المغرب في أخبار المغرب لابن عذارى المراكشي (وترجمته للغة الفرنسية للموسيو فانيان
خامساً_سرح العيون في شرح رسالة ابن زيدون لابن نباتة المصري.
سادساً_تمام المتون من رسالة ابن زيدون التي كتبها لابن جهور وهو لصلاح الدين الصفدي (وتوجد منه نسخة جليلة في الخزانة الزكية).
سابعاً_أعيان العصر وأعوان النصر لصلاح الدين الصفدي أيضاً (وليس لهذا الكتاب أثر في القطر المصري سوى الجزء الأول الموجود بالخزانة الزكية).
ثامناً_مسالك الأبصار لأبن فضل الله العمري.
تاسعاً_تاريخ مسلمي الأندلس للعلامة دوزي الهولاندي في أربعة أجزاء إلى غير ذلك من الكتب والرسائل الأخرى الموجودة بلغات متعددة لا حاجة إلى الإطالة بذكرها:
ومما يحسن ذكره أنني حينما شرعت في هذا المبحث رأيت أن اثنين من أفاضل العلماء المستشرقين قد سبقوني إليه. وذلك أنني كنت أبحث في قوائم الكتب المعروضة للبيع في بعض أسواق ألمانية فرأيت كتابين عن ابن زيدون لم يكن لي بهما علم قط قبل ذلك اليوم.
فأولهما - كتاب صنفه دكتور في العلوم اللاهوتية وهو الاستاذ هَندرك أنجلينس بن ويَّرس الهولندي اقتضر فيه على نقل ما كتبه الفتح بن خاقان عن ابن زيدون ثم ترجمه للغة اللاتينية مع شروح كثيرة وتفاسير عدة وطبعه في مدينة ليدن سنة 1831 (وقد أحضرت هذا الكتاب).
وثانيهما - هو المستشرق بستورن طبع رسالة ابن زيدون إلى ابن جهور وترجمها باللاتينية وصدرها بحياة ابن زيدون وعلق عليها كثيراً من الحواشي والشروح باللاتينية وطبعه سنة 1889 (وقد سبقني غيري إلى اقتنائه ولكنني سأجتهد في الحصول على نسخة منه أضمها إلى الخزانة الزكية).
فأنتم ترون أن رجلاً كابن زيدون يُعنَى به العلماء من العرب وغير العرب على كر الغداة ومر العشي واختلاف المذاهب جدير أن يكون موضوع السمر في هذا النادي.
2
كلمة صغيرة عن الأدب الأندلسي
فتح العرب الأندلس في أواخر المائة الأولى للهجرة، ثم أخذوا ينثالون على تلك البلاد الجميلة من جميع بلاد الإسلام، هنالك راجت سوق الحضارة الإسلامية، واستبحر العمران العربي، ونفقت بضاعة الأدب، وارتفعت رايات العلم، فبلغ القوم شأواً بعيداً، وأبقوا لهم فخراً مجيداً، فكانت لهم تلك الآثار التي تلعب بالعقول، ولا لعب الشمول، وسحروا الألباب، بما أتوا من العجب العجاب، حتى أقر بفضلهم ابن فضل الله العمري مع شدة تعصبه عليهم في كتابه المشهور مسالك الأبصار فقد اعترف بأنهم لطفوا مسالك الأدب، وأفادوا شرف الحضارة محاسن العرب، وقلبوا الأعيان، وسحروا الألباب بالبيان، فجاؤوا بأعجب العجيب، وزادوا بحسن السبك خالص الذهب، وإن كان المشرق قد أنتج من طبقة أهل الأندلس من لا يُحجم به المُفاخر، ولا تحجب به المفاخر. ولكن للأندلسيين لطائف أعلق بالقلوب، وأدخل على النفوس في كل أسلوب. وستسمعون مصداق ذلك مما سأسرده عليكم من نقثات تلك الآيات البينات، التي تدلكم على أن كلام الأندلسيين ذهب بين رقة الهواء وجزالة الصخرة الصماء.
فكان كما قال شاعرهم الأندلسي عبد الجليل بن وهبون المرسي:
رقيق كما غنّت حمامة ايكة ... وجزل كما شق الهواء عقاب
أولية ابن زيدون
كان في جملة القبائل التي ذهبت إلى الأندلس رهط من بني مخزوم توطنوا في جهات قرطبة وما إليها. وناهيك بهذه القبيلة ذات الشرف الصميم، واللسان القويم. فكان بنو زيدون من رجالاتهم المعدودين، خصوصاً في الفقه والأدب. واشتهر منهم ثلاثة حفظ لنا التاريخ أسماءهم وهم:
أولهم_أبو بكر غالب بن زيدون.
ثانيهم_أبو الوليد أحمد بن زيدون (وهو قطب الدائرة في هذه المحاضرة).
ثالثهم_أبو بكر بن زيدون.
كان مولد الأول سنة 304 ومات سنة 405 بعد أن بلغ من العمر مائة سنة. توفي في ضيعة له، ثم نقلوا تابوته إلى قرطبة، فدفن بالربض (أي الضاحية). وهنالك رثاه أبو بكر عبادة الشاعر الأندلس بما يعرفنا بمقامه في قومه:
أي ركن من الرياسة هيضا ... وجموم من المكارم غيضا
حملوه من بلدة نحو أخرى ... كي يوافوا به ثراه الأريضا
مثل حمل السحاب ماء طبيبا ... لتداوي به مكاناً مريضا
وأما ثانيهم فهو واسطة العقد، والذي سيدور عليه كلامنا فيما بعد.
والثالث هو الذي تقلد بعد أبيه (أبي الوليد) وزارة المعتمد بن عباد. وقد انتقم لأبيه من ذي الوزارتين ابن عمار على ما سنراه في آخر الكلام. وكان أبو بكر هذا هو الذي تولى السفارة عن أبن عباد إلى يوسف بن تاشفين صاحب المغرب الأقصى حينما تنمر الاسبانيون مع ملكهم الأذفونش (الفونس السادس) لملوك الطوائف، وخصوصاً لبني عباد في خطب يطول شرحه، ولا يسع المقام تلخيصه.
من هو ابن زيدون
عني خذوا أخباره وتلقفوا ... أشعاره وتتبعوا آثاره
فالحر من أمضى لنيل تراثه ... عزماً وأسهد ليله ونهاره
وبيمن عباس تهيأت النهى ... للعلم واقتنت الورى أسفاره
عباس قد غرس الفخار بأرضكم ... فتعهدوه لتجتنوا آثاره
هو ذو الوزارتين أبو الوليد أحمد بن عبد الله بن أحمد بن غالب ابن زيدون المخزومي الأندلسي. كان مولده بقرطبة في سنة 394 أعني في الوقت الذي سرى فيه الانحلال في جسم الخلافة المروانية بالأندلس بعد أن بلغت من المجد نهاية النهايات، وأدركت من الفخامة مالا تصدق معه الروايات. في ذلك الوقت تحللت عرى الدولة، فانقسم المسلمون على أنفسهم، وتخاذلوا، واستنصروا أعدائهم على بعضهم بعضاً، وسلموا البلاد والقلاع والحصون واحداً تلو الآخر إلى أعدائهم ليمدوهم بالمعونة على إخوانهم. وهكذا حتى أودت تلك الفوادح بذلك الملك الكبير، ثم أتت على القوم بأكملهم فأصبحوا خبراً بعد عين. نتساءل عنهم بقولنا كيف وأين؟ في تلك الأيام استظهروا على شهواتهم بجر ذيولها، وامتروا بطالاتها من أخلاف أباطيلها. حتى انشقت عصاهم، ودارت بدائرة السوء على الجهالة رحاهم.
كان ابتداء الاضمحلال والانحلال من أول يوم جلس فيه المستعين على عرش الخلافة في منتصف ربيع الأول سنة 400.
فقد كانت أيامه كلها كما وصفها ابن حيان الأندلسي شداداً نكرات، صعاباً مشئوومات. كريهات المبدأ والفاتحة، قبيحات المنتهى والخاتمة. ما فقد فيها حيف، ولا فورق خوف. ولا تم سرور، ولا فقد محذور. مع تغير السيرة، وخرق الهيبة، واشتعال الفتنة، واعتلاء العصبية، وظعن الأمن وطول المخافة. دولة كفاها ذماً أنها تمخضت عن الفاقرة الكبرى، وآلت من التي بعدها إلى ما كان أعضل وأدهى. مما طوى بساط الدنيا، وعفارسمها وأهلك أهلها. وإذا أراد الله شيئاً أمضاه.
وكذلك لم يكن في المستكفي أدنى كفاية للخلافة. وإنما أرسله الله على الأمة محنة وبلية. إذ كان منذ عرف منقطعاً إلى البطالة، مجبولاً على الجهالة، عاطلاً عن كل حلية تدل على فضله. عضته الفتنة فأملق، وهان حتى أهانه أهله ولقد رآه أبو حيان مؤرخ الأندلس المشهور أيام الخسف بأهل بيته في الدولة الحمودية، ولم يكن ممن لحقه الاعتقال منهم لركاكته. كان يقصد أهل الفلاحة يومئذ بقرطبة أوان ضمهم لغلاتهم يسألهم من زكاتها. قال وقد أجمع أهل التحصيل أنه لم يجلس في الأمارة منذ تلك الفتنة أسقط منه، ولا أنقص. إذ لم يزل معروفاً بالتخلف والركاكة، مشتهراً بالشرب والبطالة، سقيم السر والعلانية، أسير الشهوة، عامل الخلوة.
ذلك الوقت هو الذي أشار إليه ابن حزم بقوله:
فضيحة لم يقع في الدهر مثلها! أربعة رجال في مسافة ثلاثة أيام في مثلها، يسمى كل واحد منهم بأمير المؤمنين، ويخطب له في زمن واحد: أحدهم خلف الحصري باشبيلية على أنه هشام بن الحكم المؤيد. والثاني محمد بن القاسم بن حمود بالجزيرة الخضراء والثالث محمد بن علي بن حمود بمدينة مالقه والرابع إدريس ابن يحيى بن علي بسبته تلك هي الأيام التي كان العرب والبربر فيها في خصام مستديم، وكان كل من الفريقين منقسماً على نفسه، وكان الجميع في خلاف مع أهل المغرب الأقصى من الجنوب، وفي حروب وخطوب مع بقايا الأمم الاسبانية من الشمال والغرب. في ذلك الوقت العصيب تفرق أهل الأندلس فرقاً، وتغلب في كل جهة منها متغلب. وهم الذين عرفهم التاريخ باسم - ملوك الطوائف_وقد أرادوا أن يفخموا أنفسهم وممالكهم فتقسموا ألقاب الخلافة، كما تناهبوا أشلائها. فكان منهم المعتضد والمأمون والمؤتمن والمستعين والمقتدر والمعتصم والمعتمد والموفق والمتوكل. إلى غير ذلك من الألقاب الخلافية. حتى قال في ذلك أبو علي الحسن بن رشيق بيتين سارا سير الشمس، وبقيا بقاء الدهر. وهما:
مما يزهدني في أرض أندلس ... سماع مقتدر فيها ومعتضد
ألقاب مملكة في غير موضعها ... كالهر يحكي انتفاخاً صولة الأسد
فكانت طرطوش وسرقسطة وافراغه ولاردة وقلعة أيوب في يد بني هود. وكانت بلنسية في يد عبد الملك بن عبد العزيز. وكان الثغر، أي ما فوق طليطلة من جهة الشمال في يد بني رزين وكانت طليطلة في يد بني ذي النون. وكانت قرطبة في يد أبناء جهور. وكانت اشبيلية في يد بني عباد. وكانت ملقة والجزيرة الخضراء وغرناطة في يد بني برزال من البربر - وأما المرية فكانت في يد زهير العامري الخادم ثم خيران العامري الخادم. ثم أبن صمادح. وكانت دانية وأعمالها والجزائر الشرقية (الباليار) في يد مجاهد العامري. وكانت بطليوس ويابرة وشنترين والاشبونة في يد بني الأفطس. فلا عجب إذا كثر الوزراء في تلك الأيام، ولاعجب إذا كثر أيضاً ذوو الوزارتين. فالناس على دين ملوكهم. فكان كل من امتلك مائة كيلو متراً مربعاً في مثلها يعد نفسه سلطاناً كبيراً، ويتخذ من الحاشية ما يضارع به أبهة الخلافة - وقد كان عهدهم بها قريباً_فكثر عندهم الوزراء. وكثر بينهم الذين يسمون أنفسهم بذي الوزارتين.
ومن الطبيعي أن الرئاسة إذا انحطت عن جلالتها تبعها المرؤوس في السقوط. فلما تدلت الخلافة في الانحلال، صارت الوزارة أيضاً في درجات الهوان. فإن المستعين الذي ذكرناه قال بعد أن جلس على عرش الخلافة للناس أجمعين: ارتعوا كيف شئتم وارتسموا بما أحببتم من الخطط فتسمى بالوزارة في أيامه مفردة ومثناة أراذل الدائرة، وأخابث النظار. فضلاً عن زعانف الكتاب والخدمة (عن ابن بسام).
وصارت هذه الرتبة تنحط مع انحطاط الدول، حتى نزلت في أواسط القرن الثامن للهجرة إلى الدرجة التي وصفها لنا ابن فضل الله العمري حيث قال:
سألت الشيخ العلامة ركن الدين أبا عبد الله بن القويع عن رتبة الوزير بالمغرب فقال: ليست بطائل، ولا لصاحبها شيء من الأمر. بل هو كالجاويش يخرج قدام السلطان يوم الجمعة: حقيقة دون السمعة
وقد استبد هؤلاء الرؤساء بتدبير ما تقلبوا عليه من الجهات. وانقطعت الدعوة للخلافة. فلم يبق لخليفة هاشمي أو أموي ذكر على منابر الأندلس خلا أيام يسيرة دعى فيها باشبيلية لهشام المؤيد بن الحكم (أو لشخص شبه لهم) حسبما اقتضته الحيلة، واضطر إليه التدبير. ثم انقطع ذلك. فأشبهت حال ملوك الأندلس بعد الفتنة حال ملوك الطوائف من الفرس بعد قتل دارا. وحال قواد الاسكندر بعد وفاته. ولم يزل هؤلاء الرؤساء في اقتتال وتخاذل. ويستعينون بعدوهم جميعاً فيميل تارة إلى هذا وطوراً إلى ذاك حتى اختلت الأحوال إلى أن تولاهم الضعف. فاستنصروا بالمرابطين فانتظم الشمل، وعادت المياه لمجاريها. ولكن إلى أجل معين. ثم عاد الانشقاق والانقسام. فانمحت كلمة الإسلام، وانطفأ ذلك النور، وباد القوم عن آخرهم في سنة 897 للهجرة، بعد أن أقاموا فيها ثمانية قرون. لأن دخولهم كان في سنة 92 للهجرة على يد طارق بن زياد.
رفعت الستار عن هذا المنظر المحزن ليكون لكم ولأمم المشرق تذكرة وعبرة، خصوصاً في الأوقات الحاضرة. والآن أقول لكم أنه على الرغم من توالي الفتن واضطراب الأحوال كانت سوق الأدب رائجة وبضاعته نافقة. فكل أمير وكل وزير وكل كاتب وكل وجيه كان له من الأدب نصيب وافر.
عرفنا من تقسيم الأندلس بين ملوك الطوائف أن بني جهور استبدوا بقرطبة، وأن بني عباد استأثروا باشبيلية.
في المملكة الأولى درج ذو الوزارتين ابن زيدون وتربى وظهر فضله. وفي الثانية قضى بقية أيامه في العز والكرامة. وكانت بها وفاته في محرم سنة 463 على التحقيق الدقيق كما نص عليه معاصره ابن بسام ولا عبرة بالأقوال الأخرى عن وفاته، لأن الذين قالوا بوفاته في سنة 405 خلطوا بينه وبين أبيه غالب بن زيدون. وقد قدمنا الكلام عليه وعلى مولده ووفاته.
اشتغل ابن زيدون بالأدب، وفحص عن نكته، ونقب عن دقائقه، إلى أن برع وبلغ من صناعتي النثر والنظم المبلغ الطائل. حتى قال فيه ابن بسام:
كان أبو الوليد غاية منثور ومنظوم، وخاتمة شعراء مخزوم، أحد من جر الأيام جراً، وفات الأنام طراً، وصرّف السلطان نفعاً وضراً، ووسع البيان نظماً ونثراً. إلى أدب ليس للبحر تدفقه، ولا للبدر تألقه. وشعر ليس للسحر بيانه، ولا للنجوم الزهر اقترانه. وحظ من النثر غريب المباني، شعري الألفاظ والمعاني.
وما عتم أن أصبح في الأندلس متيم ذلك الحي، وعاشق ولاّدة لامى. زاد عل مجنون ليلى، وقيس لبنى، وابن أبي ربيعة صاحب الثريا. تركه هواه أنحف من قلم، وأشهر من نار على علم، وله مع ولادة أخبار ما حكى مثلها ابن أبي عتق، ولا الأصفهاني عن سكان وادي العقيق، ولا الأصمعي عن أهل ذلك الفريق. أندى من نسيم الصباح، وأرق من ريق الغوادي في ثغور الأقاح.
وإذا تصفحنا دواوين الأدب عند الأمم الأخرى لا نجد له شبيهاً سوى تيبولسشاعر الرومان.
وتنقسم حياة ابن زيدون إلى قسمين مهمين في قرطبة في اشبيلية.
أولاً_في قرطبة: برع ابن زيدون في الأدب، حتى كان أبو الوليد في الأندلس شبيهاً ومثيلاً لأبي الوليد في دولة المتوكل العباسي. وقد سماه الناس بحتري الأندلس. ولقد صدقوا. فمن جملة المحفوظ عنه في صباه قوله:
أخذت ثلث الهوى غصباً ولي ثلث ... وللمحبين فيما بينهم ثلث
تالله لو حلف العشاق أنهم ... موتى من الوجد يوم البين ما حنثوا
قوم إذا هجروا من بعد ما وصلوا ... ماتوا فإن عاد من يهوونه بعثوا
ترى المحبين صرعى في عراصهم ... كفتية الكهف ما يدرون مالبثوا
ثم هام بعد ذلك بحب ولاّدة بنت المستكفي الخليفة الأموي بالأندلس. وكانت أديبة، شاعرة، جزلة القول، حسنة الشعر. تناضل الشعراء وتساجل الأدباء. وعمرت عمراً طويلاً ولم تتزوج قط. جاءت على خلاف أبيها في كل أوصافها، فكانت مصداقاً لقوله تعالى يخرج الحيّ من الميت وقد ابتذل حجابها بعد نكبة أبيها وقتله، فصارت تجلس للشعراء والكتاب وتعاشرهم وتحاضرهم، ويتعشقها الكبراء منهم. وكانت على خلق جميل، وأدب غض. وكان لأبن زيدون معها أخبار تطرف القلوب، وتشغف المسامع. لأنه خلع في هواها العذري عذاره. وقد شهد المؤرخون كلهم لها بالعفة والصيانة. ولكن الشعراء في كل واد يهيمون، فكيف لا يهيم بولاّدة أبو الوليد بن زيدون. والمقام لا يتسع لأشعاره فيها وأشعارها إليه، ولكني آتيكم براموز ومثال، واترك الباقي لغير هذا المجال.
ودّعها ذات يوم فأنشدها مرتجلاً
ودّع الصبر محب ودعك ... ذائعاً من سره ما استودعك
يقرع السن على أن لم يكن ... زاد في تلك الخطى إذ شيعك
يا أخا البدر سناءً وسنا ... حفظ الله زماناً أطلعك
إن يطل بعدك ليلي فلكم ... بت أشكو قصر الليل معك
ثم قال يا نازحاً وضمير القلب مثواه ... أنستك دنياك عبداً أنت دنياه
ألهتك عنه فكاهات تلذ بها ... فليس يجري ببال منك ذكراه
علّ الليالي تبقيني إلى أمل ... الدهر يعلم والأيام معناه
ولما كان مجلس ولاّدة بقرطبة منتدى لأحرار المصر، وفناؤها ملعباً لجياد النظم والنثر. يعشو أهل الأدب إلى ضوء غرتها، ويتهافت أفراد الشعراء والكتاب على حلاوة مسامرتها. وهي مع ذلك محافظة على علو النصاب، وكرم الأنساب، وطهارة الأثواب. ولقد طمع بعضهم في الاستئثار بها دون ابن زيدون. فنازعه على حبها، وزاحمه في ودها، رجل من رجالات عصره. وهو أبو عبد الله البطليوسي. فكتب إليه ابن زيدون يزجره بهذا الرجز:
أيا عبد الإله اسمع ... وخذ بمقالتي أو دع
وأنقص بعدها أو زد ... وطر في أثرها أو قع
ألم تعلم بأن الده ... ر يعطي بعد ما يمنع
فإن قصارك الدها ... يز حيث سواك في المضجع
ومنهم الوزير أبو عامر بن عبدوس الملقب بالفار، وكان ممن أكابر رجالات قرطبة، فاغتاظ ابن زيدون وبعث له بهذه الأبيات:
أثرت هزبر الشرى إذ ربض ... ونبهته إذ هدا فاغتمض
وما زلت تبسط مسترسلاً ... إليه يد البغي لما انقبض
أبا عامر أين ذاك الوفا ... إذ الدهر وسنان والعيش غض
وأين الذي كنت تعتد من ... مصافاتي الواجب المفترض
حذار حذار فإن الكريم ... إذا سيم خسفا أبي فامتعض
وإن سكون الشجاع النهو ... ش ليس بمانعه أن يعض
عمدت لشعري ولم تتئد ... تعارض جوهره بالعرض
أضاقت أساليب هذا القري ... ض أم عفا رسمه فانقرض
لعمري لفوقت سهم النضال ... وأرسلته لو أصبت الغرض
وشمرت للخوض في لجة ... هي البحر ساحلها لم يخض
وغرك من عهد ولادة ... سراب تراآى وبرق ومض هي الماء يأبى على قابض ... ويمنع زبدته من مخض
ونبئتها بعده استحمدت ... يسرى إليك لمعنى غمض
أبا عامر عثرة فاستقل ... اتبرم من ودنا ما انتفض
ولا تعتصم ضلة بالحجاج ... وسلم فرب احتجاج دحض
وحسبي أني أطبت الجنى ... ل يأبه وأبحت النفض
ويهنيك أنك يا سيدي ... غدوت مقارن ذاك النفض
ثم كتب له رسالته المشهورة على لسان ولاّدة، وقد عبث فيها به كما عبث الجاحظ في رسالته التربيع والتدوير بأحمد بن عبد الوهاب الكاتب في بغداد. فاشتهرت رسالة ابن زيدون في المشارق والمغارب. وهي التي شرحها كثير من أدباء المشارقة، كابن نباتة والصفدي. وشرح ابن نباتة قد طبع في مصر مراراً. وهو في غاية الحسن ونهاية الفائدة. وأما شرح الصفدي لهذه الرسالة فلم يصلنا.
على أن ابن عبدوس لم ينثن عن محاولته، حتى تمكن من أيقاع الجفوة بين أبن زيدون وولاّدة واستأثر بها دونه، فاغتاظ ابن زيدون والتجأ إلى قريضه القارص، فلسع الرجل بقوله:
أكرم بولادة ذخر المدخر ... لو فرقت بين بيطار وعطار
قالوا أبو عامر أضحى يلم بها ... قلت الفراشة قد تدنو من النار
عيرتمونا بأن قد صار يخلفنا ... فيمن نحب وما في ذاك من عار
أكل شهي أصبنا من أطايبه ... بعضاً وبعضاً صفحنا عنه للفار
ولقد فاز ابن زيدون بمناه، من إقاء الفار عن حماه، بل أن ولاّدة أخذت تعبث بذلك الوزير، حتى أنها مرت به ذات يوم في تربها وسربها وكان الوزير ابن عبدوس جالساً على باب داره يستنشق الهواء العليل، وكانت أمام داره بركة تجمعت فيها مياه المطر، وانساق إليها شيء من أقذار الدار. كان الوزير جالساً في أبهته وعظمته وقد نشر كميه، ونظر في عطفيه، وحشر أعوانه إليه. فلما قربت منه ولاّدة نادته باسمه فهش إليها وبش، واقترب من البدر، فقالت له وهي تشير إلى البركة: يا ابن عبدوس
أنت الخصيب وهذه مصر ... فتدفقا فكلاكما بحر ثم نفرت كالظبي الشارد وتركته حائراً بائراً، باهتاً صامتاً. لا يحير جواباً، ولا يعي خطأ ولا صواباً. وهذا البيت لأبي نواس تمثلت به ولاّدة ونقلته هذا النقل الحسن من المدح إلى الهجاء.
غير أن هذا الوزير صبر حتى خلا جو قرطبة من ابن زيدون على ما سيأتي. فاستأثر بولاّدة وعاش وعاشت حتى بلغا الثمانين وهما يتراسلان ويرتعان في بساتين الأدب، ورياض العفاف.
لم يبلغ ابن زيدون الخامسة والعشرين من عمره حتى نَبُه ذكره، وعم صيته. اصطنعه أبو الحزم ابن جهور المتغلب على قرطبة ونواحيها وضواحيها ونوه به لأنه رآه فتى الآداب، وعمدة الظرف، والشاعر البديع الوصف. ولما له بقرطبة من الأبوة السنية، والوسامة والدراية، وحلاوة المنظوم والسلاطة، وقوة العارضة، والافتنان في المعرفة. فكانت الكتب تنفذ من إنشائه إلى شرق الأندلس فيقال تأتي اشبيلية كتب هي بالنظم الخطير أشبه منها بالمنثور. ثم ترقى في وظائف الدولة القرطبية حتى صار إليه النظر على أهل الذمة، ثم رآه ابن جهور أهلاً للوزارة فرقاه إليها، بل جعله ذا الوزارتين. فكان منه بمنزلة السمير والوزير، والمشير والسفير. فكم أنفذه إلى ملوك الطوائف لأمور سياسية، ولمخابرات تقتضيها المعاملات والمجاملات التي يوجهها الجوار، أو تدعو إليها علاقاته معهم أو مع ملوك الاسبانيين الذين كانوا يتربصون به وبهم دوائر السوء. فأحسن ابن زيدون التصرف في ذلك، وغلب على قلوب الملوك. حتى كان كل ملك يخطب وده، ويتمنى أن يقيم عنده. ولكنه كان بعد انقضاء مهمته يرجع إلى صاحبه بقرطبة وإلى مجالس أنسه بها، ولهوه بأهلها.
في ذلك الوقت المضطرب بالفتن الداخلية، والخطوب الخارجية كانت الجاسوسية لها أثر في مصالح الدولة، وفي أحوال الأفراد.
نترك أمور الدولة وسياستها جانباً ونقتصر على الدائرة التي ارتضينا لأنفسنا الجولان فيها وهي ميدان الأدب، ونذكر حكاية تدل على الجاسوسية الفردية في تلك الأيام.
كانت قرطبة جارية تتعشق فتى من القرشيين، وكانت لوجدها كاتمة. لكن الخبر وصل إلى الوزير ابن زيدون فلم يعبأ به لأن القوم كلهم كانوا متغلغلين في هذه السبيل. وكانت الجارية تقول الشعر فجاشت نفسها ببيت فذ وامتنع عليها ما تريد وهذا لبيت هو:
يا معطشي عن وصل كنت وارده ... هل منك لي غلة إن صحت واعطشي
فجاءت إلى كبير الوزراء، وأمير الشعراء، وسألته أن يزيد عليه شيئاً وهي تظن أنه لا يعلم بما هي فيه من الغرام، فأمسك القرطاس، واغتنم فرصة الروىّ، وما يعلمه من السر المطوى. فكتب:
كسوتني من ثياب السقم أسبغها ... ظلماً وصيرت من لحف الضنى فرشي
أني بصرف الهوى عن مقلة كحلت ... بالسحر منك وخد بالجمال وشى
لما بدى الصدغ مسوداً بأحمره ... أرى التشاكل بين الروم والحبش
أوفى إلى الخد ثم أنصاع منعطفاً ... كالعقربان انثنى من خوف محترش
لو شئت زرت وسلك الليل منتظم ... والأفق يختال في ثوب من الغبش
جفا إذا التذت الأجفان طيف كرى ... جفنى المنام وصاح الليل يا قرشي
ومن تأمل أحوال الأندلسيين رأى أنهم كانوا يبالغون في التشبه بالشرقيين في كل ما اشتهروا به أو اشتهر من أحوالهم. فمدائنهم وعمائرهم وقصورهم ومنازلهم سموها بما اختاره الشرقيون في بلادهم. كذلك حاكوهم في مجالس أنسهم. وأنا اقتصر على ما يتعلق بابن زيدون وصحبه، وأمهد لذلك بما كان في بغداد.
كان في دار السام الوزير المهلى المشهور، والقاضي التنوخي، وقد بلغا من الكبر سناً عالياً، ولهما ذقون بيضاء تنهال على صدروهما، وكانا يتعاطيان في النهار أمور الدولة بغاية الحشمة والوقار. حتى إذا جن الليل اجتمعا في مجلس العقار، وخلعا العذار، فكانا يشربان في أواني من البلور والنضار، ولا يكتفيان بلذة الشراب، بل يغمسان أذقانهما في الأواني، ثم يرش كل منهما الشراب بتلك الرشاشات الغريبة على صاحبه لتتم لهما لذة السكر حساً ومعنى، باطناً وظاهراً. ويستمران على ذلك طرفاً من الليل. حتى إذا جاء الصباح عادا إلى أشغالهما: الوزير في تدبير الدولة، وقاضي القضاة في النظر في الخصومات والحكم على مقتضى الشرع. واستمرا على هذه الحال في معاقرة المدام، حتى وافاهما الحمام.
فاسمعوا نظير ذلك في قرطبة كان القاضي ابو بكر بن ذكوان من الجلالة بأسمى مكان.
أدركته حرفة الأدب، وله في العلم باع طويل. وكان يتشبه في خلوته مع ابن زيدون بالقاضي التنوخي مع الوزير المهلى. وهنالك ما شئت من دعابات ورقاعات، وما تخيلت من فكاهات ومجانات. حتى إذا أصبحا ذهب ذو الوزارتين إلى شأنه في ديوانه، وبكر أبو بكر إلى مجلس الحكم بمقتضى الحق. ومتى اقترب المساء عادا إلى القصف، وتجاوزا في ميدانهما كل وصف. إلى أن سطا الدهر، على أبي بكر. واتفق أن مرّ لبن زيدون يوماً بقبر ابن ذكوان في لمة من أخوانه، وجماعة من عمار ميدانه، فعطفوا عليه مسلمين، فقال أبو الوليد ابن زيدون مرتجلاً:
انظر الحال كيف تحال ... ولدولة العلياء كيف تدال
من سر لما عاش قل متاعه ... فالعيش نوم والسرور خيال
ولى ابو بكر فراع له الورى ... هول تقاصر دونه الأهوال
يا قبره العطر الرى لا يبعدن ... حلو من الفتيان فيك حلال
ما أنت إلا الجفن أصبح طيه ... نصل عليه من الشباب صقال
ما أقبح الدنيا خلاف مودع ... غنيت به في حسنها تختال
يا منشئ الأمثال منه أوحد ... ضربت به في السودد الأمثال
نقصت حياتك حين فضلك كامل ... هلا استضاف إلى الكمال كمال
من للقضاء يعز في أثنائه ... إيضاح مظلمة لها أشكال
من لليتيم تتابعت أرزاؤه ... هلك الأب الحافي وضلع المال
زرناك لم تأذن كأنك غافل ... ما كان منك بواجب إغفال
أين الحفاوة روضها غض الجنى ... أين الطلافة ماؤها سلسال
هيهات لا عهد كعهدك عائد ... إذ أنت في وجه الزمان جمال
فاذهب ذهاب البدء أعقبه الغنى ... وإلا من وافت بعده الأوجال
حيّ الحيا مثواك وامتدت على ... ضاحي ثراك من النعيم ظلال
وإذا النسيم اعتل فاعتلت به ... ساحاتك الغدوات والآصال
ولئن إذا لك بعد طول صيانة ... قدر فكل مصونة ستذال
ولقد أفاض في مدح ابن جهور وأهل بيته بأمداح تزري بالقلائد ولا تحتملها هذه المحاضرة، فاقتصر على هذه الأبيات:
إن الجهاورة الملوك تبوؤا ... شرفاً جرى معه السماك جنيبا
فإذا دعوت وليدهم لعظمة=لباك رقراق السماح أريبا
هم تعاقبها النجوم وقد تلا=في سؤدد منها العيب عقيبا
ومحاسن تندى دقائق ذكرها=فتكاد توهمك المديح نسيبا
فتى أديب حر يصل هذه المكانة قبل أن يصل إلى الثلاثين من العمر، فكيف لا يكون كما قال المتنبي حرب الزمان والدهر. نعم فقد دبت عقارب الغيرة بينه وبين حاسدي نعمته وسعادته، والمناظرين والأنداد فتألبوا عليه وتآمروا حتى انتهوا بإيقاعه في شراكهم، ونجحوا لدى الأمير ابن جهور فحبسه حبساً طالت مدته فكانت تلك السجون مثاراً لشجونه.
فبعد أن صاغ لبني جهور لا سيما لأبي الحزم قلائد وخرائد، كتب إليه من السجن أشعاراً ورسائل مختارة، فاضت بها نفسه في التنصل والاعتذار والاستشفاع والاستعطاف. ولكن المزاحمين له على مركزه في الدولة، وعلى حب ولاّدة، كانوا دائماً يفوزون. فبقي في السجن مدة تنيف على الخمسمائة يوم.
كتب لابن جهور تلك الرسالة البديعة التي طبعها أحد المستشرقين في سنة 1889، وهي التي شرحها العلامة صلاح الدين الصفدي. وعندي في الخزانة الزكية نسخة جليلة من هذا الشرح. وختمها بقصيدة فريدة يقول في تضاعيفها:
أيهذا الوزير، ها أنا أشكو! ... والعصا بدء قرعها للحليم!
ما عناء أن يألف السابق المر ... بط في العتق منه والتطهيم
وثواء الحسام في الجفن يثنى ... منه بعد المضاء والتصميم
أقصير مئين خمسٌ من الأ=يام؟ ناهيك من عذاب أليم!
فلم يفد ذلك شيئاً. ومنظوماته في هذا الباب كثيرة جداً، أذكر منها قيدة قصيرة:
إيهٍ، أبا الحزم اهتبل غرة! =ألسنة الشكر عليها فصاح
لا طار لي حظ إلى غاية ... إن لم أكن منك مريش الجناح!
عتباك بعد العتب أمنية، ... مالى على الدهر سواها اقتراح!
لم يثنني عن أمل ما جرى، ... قد يرقع الخرق وتؤسى الجراح ولقد زارته أمه في سجنه، فخانتها دمعتها، فقال يخاطبها من قصيدته اللاّمية التي وجهها إلى ابن جهور مستعطفاً:
ألم يأنِ أن يبكي الغمام على مثلي ... ويطلب ثأري البرق منصلت النصل؟
وهلا أقامت أنجم الليل مأتماً ... لتندب في الآفاق ما ضاع من نبلي؟
فلو أصفتني، وهي أشكال همتي، ... لألقت بأيدي الذل لما رأت ذلي!
ولا افترقت سبع الثريا وغاضها ... بمطلعها ما فرق الدهر من شملي
لعمر الليالي، إن يكن طال عمرها، ... لقد قرطست بالنَبل في مقتبل النُبل!
تحلّت بآدابي وإن مآربي ... لسارحة في عُرص أمنية عطل
أخص لفهمي بالقلى؟ وكأنما ... يبيت لذي الفهم الزمان على دخل!
وأجفى على نظمي لكل قلادة ... مفصلة السمطين بالمنطق الفصل؟
ولو أنني اسطيع كي أرضى العدا ... شريت ببعض العلم حظاً من الجهل
أمقتولة الأجفان، مالكِ والهاً؟ ... ألم تُركِ الأيام نجماً هوى قبلي؟
أقلى بكاءً لست أول حرة ... طوت بالأسى كشحاً على مضض الثكل
وفي أم موسى عبرة إذ رمت به ... إلى اليم في التابوت فاعتبري واسلي
ولله فينا علم غب وحسبنا ... به عند جور الدهر من حكم عدل
وإن أردنا أن نتعرف حالته الروحية، وهو في سجنه، فهذه شذرات من قصيدة وجهها إلى أبي الحزم ابن جهور، يعاتبه فيها على عدم الإصغاء إليه. قال يصف نفسه:
جواد إذا استن الجياد إلى مدى ... تمطر، فاستولى على أمد الخصل
ثوى صافنا في مرابط الهون، يشتكي ... بتصهاله ما ناله من أذى الشكل
وأني لتنهاني نهاي عن التي ... أشار بها الواشي، ويعقلني عقلي!
أأنقض فيك المدح من بعد قوة؟ ... فلا أقتدي إلا بناقضة الغزل!
هي النعل زلت بي فهل أنت مكذب ... لقيل الأعادي؟ أنها زلة الحسل!
ألا أن ظني بين فعليك واقف ... وقوف الهوى بين القطيعة والوصل!
وإلا جنيت الأنس من وحشة النوى ... وهول السرى بين المطية والرحل
وأين جواب منك ترضى به العلا، ... إذا سألتني عنك ألسنة الحفل؟ ومن السجن خاطب صديقه أبا حفص بن برد، وقد حار لم يجد هادياً، وصار رهيناً لا يرجو فادياً، وعلم أن الناس متقلبون، وعلى من انقلب به الدهر منقلبون، لا يدينهم في الشدة إخاء، ولا يثنيهم عن ذي الخطوة زهو ولا انتماء:
ما على ظني باسُ ... يجرح الدهر ويأسو!
ربما أشرف بالمر ... ء على الآمال يأسُ!
ولقد ينجيك أغفا ... لٌن ويرديك احتراس!
والمحاذير سهام، ... والمقادير قياس!
ولكم أجدى قعود، ... ولكم أكدى التماس!
وكذا الحكم إذا ما ... عز ناس، ذل ناسُ
وبنو الأيام أخيا ... ف: سراة وخساس
نلبس الدنيا، ولكن ... متعة ذاك اللباس
يا أبا حفص، وماسا ... واك في فهم إياس!
من سنا رأيك لي في ... غسق الخطب اقتباس
وودادي لك نص ... لم يخالفه القياس!
أنا حيران وللأم ... ر وضوح والتباس
لا يكن عهدك ورداً، ... إن عهدي لك آس!
وأدِر ذكرىَ كاسا، ... ما امتطت كفك كاس
فعسى أن يسمح الده ... ر، فقد طال الشماس
واغتنم صفو الليالي، ... إنما العيش اختلاس
ما ترى في معشر حا ... لوا عن العهد وحاسوا؟
ورأوني سامرياً، ... يُتَّقى منه المساس
أذؤبٌ هامت بلحمي: ... فانتهاب وانتهاس
كلهم يسأل عن حا ... لي وللذئب اعتساس
إن قسا الدهر، فللما ... ء من الصخر انبجاس
ولئن أمسيت محبو ... سا، فللغيث احتباس ويُفَتُّ المسك في التر ... ب: فيوطاً ويداس
وما ألطف وصفه لنفسه ولوشاته في إحدى قصائده الطنانة:
كأن الوشاة، وقد منيت بأفكهم، ... أسباط يعقوب، وكنت الذيبا
هذه الأحوال مضافة إلى نفس كبيرة تتعب في مرادها الأبدان، شيبت رأس ابن زيدون وجعلته هرماً قبل الأوان. فقد رأى الشيب في رأسه وعاضيه، فبكى على نفسه وقال قصيدة أخرى يستعطف بها ابن جهور أيضاً:
لم تطو برد شبابي كبرة وأرى ... برق المشيب اعتلى في عارض الشَّعَر
قبل الثلاثين إذ عهد الصبا كثب ... وللشبيبة غصن غير مهتصر
وفيها يقول بما يعرفنا بأنه عارف قدر نفسه:
أحين رف على الآفاق من أدبي ... غرس له من جناه يانع الثمر؟
وسيلة سبباً أن لا تكن سبباً ... فهو الوداد صفاء غير ما كدر
فدلنا بذلك على أن الشيب ألمَّ برأسه وبلحيتهن قبل أن يصل إلى الثلاثين من عمره. وذلك مصداق لما ذكرناه من أنه بلغ مراتب العلا وهو في سن الفتوة وريعان الصبا. وذكر الصفدي أنه كان يخضب بالسواد. وأنا لست ممن يرى الخضاب للرجال، فإنما هو في رأي خليق برباب الحجال. لأن الطبيعة لا تغالب ولا تقهر، وهل يصلح العطار ما أفسده الدهر. ويعجبني بهذه المناسبة قول تلك العجوز المشرقية:
وصبغت ما صبغ الزمان، فلم يفد ... صبغي. ودانت صبغة الأيام
ولا استجيز رواية البيت الثاني لكم. . . فإذا كان منكم من يعرفه فليهمس به لأخيه الذي بجانبهن وليطلب منه أن يلقيه في أذن صاحبه. وهكذا حتى يدور الدور، فأكون كأنني ألقيته عليكم وما ألقيته. ولكن الذي أسألكم العفو في إيراده، أن ابن زيدون كان كأنه نظر إلينا في هذه الليلة وتفرس أن سيكون من بني مصر رجل يعرف فضله، وينشر ذكره، فأشار بما أفاضته الحكمة الربانية على لسانه إلى هذا العاجز الواقف بين أيديكم يناجيكم في ناديكم. فقد قال في ضمن استعطافه لابن جهور بيتاً هو أشبه بالوحي الذي يفيض على ألسنة الشعراء:
سيُعنى بما ضيعت مني حافظٌ ... ويغلي لما أرخصتَ من خطري مغلِ ولكن ابن جهور أصر على القعود عن إقالته، من كبوته. فلما رأى ابن زيدون أن كل ذلك لم يجده نفعاً قال يخاطبه:
قل للوزير وقد قطعت بمدحه ... عمري، فكان السجن منه ثوابي
لا تخش لائمتي بما قد جئته ... من ذاك فيّ ولا توقَّ عتابي
لم تُخطِ في أمري الصواب موفقاً ... هذا جزاء الشاعر الكذاب
ثم أنه تحيل في الهرب ونجح. فلما خرج من السجنن اختفى بقرطبة وأقام فيها متوارياً. م نظم قصيدة طويلة يخاطب فيها ولاّدة ويستنهض الأديب أبا بكر بن مسلم للشفاعة ويستنزل أبا الحزم بن جهور. وفيها يعرفنا أن مدة حبسه بلغت خمس سنوات. قال:
سنون من الأيم خمس قطعتها ... أسيراًن وأن لم يبد شدٌّ ولا ربط
والقصيدة طويلة جميلة جليلة. ثم أنه ما زال بأبي الوليد بن جهور يستشفع به إلى أبيه أبي الحزم، حتى شفع له وانتشله من نكبته وصيره في صنائعه. ولما ولي الأمر بعد والده نوّه به وقدمه في الذين اصطنع لدولته وجلله كرامة لم تقنعه، زعموا.
فلا غرابة إذا بكى واستبكى حينما مات أبو الوليد بن جهور الذي أذاقه من الحبس والعذاب ألواناً. فقد وجد ابن بسام بخط ابن حيان هذه المرثية البديعة لأبن زيدون في أبي الحزم:
ألم تر أن الشمس قد ضمها القبر، ... وإن قد كفانا فقدها القمرَ البدر؟
وأن الحيا إن كان أقلع صوبه ... فقد فاض للآمال في أثره البحر؟
إساءة دهر أحسن الفعل بعدها، ... وذنب زمان جاء يتبعه العذر
فلا يتمنى الكاشحون، فما دجا ... لنا الليل إلا ريثما طلع الفجر
وإن يك ولى جهور؟ فمحمد ... خليفته العدل الرضا وابنه البر
همام جرى يتلو أباه كما جرى ... معاوية يتلو الذي سنه صخر
فقل للحيارى: قد بدا علم الهدى ... وللطالع المعروف قد قضى الأمر
أبا الحزم قد ضاقت عليك من الأسى ... قلوب ومنها الصبر لو ساعد الصبر
دع الدهر يفجع بالذخائر أهله ... فليس لنفس مذ طواك الردى قدر
مساعيك حلى الزمان مرصع ... وذكرك في أيام أردانها عطر
أمامك من حفظ الإله طليعة ... وحولك من آلائه عسكر مجر وما بك من فقر إلى نصر ناصر، ... كفاك من الله الكلاءة والنصر
ولكننا نعود إلى ولاّدة ونتساءل هل نسي أبو الوليد ولاّدة؟ كلا بل عاد إلى التودد إليها والتقرب منها، وكان يذكرها في قرطبة وغير قرطبة ويراسلها بأشعاره الرائقة الفائقة.
ذهب مرة إلى الزهراء يتأمل في محاسنها فوصفها بقوله:
أني ذكرتك بالزهراء مشتاقا، ... والأفق طلق ووجه الأرض قد راقا
وللنسيم اعتلال في أصائله، ... كأنما رق لي فاعتل إشفاقا
والروض عن مائه الفضيّ مبتسم، ... كما حللتِ عن اللبات أطواقا
يوم كأيام لذات لنا انصرمت ... بتنا لها حين نام الدهر، سراقا
تلهو بما يستميل العين من زهر ... جال الندا فيه حتى مال أعناقا
كأن أعينه، إذ عاينت أرقى، ... بكت لما بي، فجال الدمع رقراقا
ورد تألق في ضاحي منابته، ... فازداد منه الضحى في العين إشراقا
سري بنا فجة نيلوفر عبق ... وسنان نبه منه الصبح أحداقا
كل يهيج لنا ذكرى تشوقنا ... إليك، لم يعد عنها الصدر إن ضاقا
لو كان وَّفي المنا في جمعنا بكم، ... لكان من أكرم الأيام أخلاقا
لا سكن الله قلباً عنّ ذكركم، ... فلم يطر بجناح الشوق خفاقا
لو شاء حملى نسيم الريح حين هفا، ... وافاكم بفتى أضناه مالاقا
كان التجازي بمحض الود من زمن ... ميدان أنس جرينا فيه إطلاقا
فالآن أحمد ما كنا لعهدكم ... سلوتم؟ وبقينا نحن عشاقا
ثم أرسله ابو الوليد بن جهور سفيراً إلى حضرة إدريس الحسني بمالقة، فأطال الثواء هنالك واقترب من إدريس وخف على نفسه وأحضره مجالس أنسه فعتب عليه ابن جهور وصرفه عن السفارة بينه وبين أمراء الأندلس فيما يجري بينهم من التراسل والمداخلة.
2_إلى هنا انقضت أيامه في قرطبة. فلقد خشي أبو الوليد أن يلاقي من الوليد ما لاقاه من الوالد. وحينئذ صحت عزيمته على الهجرة من قرطبة والذهاب إلى المعتضد بن عباد باشبيلية. فلامه بعض اخصائه على ما اعتزمه من التحول عن وطنه وهجرة أهله وخلانه فكتب إليه رسالة ضافية يعتذر فيها لنفسه ويقول من جملتها ما نصه: وكنت أول حبسي قد وُضعت من السجن في موضع قد جرت العادة بوضع مستوري الناس وذوي الهيئات منهم فيه. وفي الشر خيار، وبعضه أهون من بعض. ثم اقتضى نقلي إلى حيث الجناة المفسدون، واللصوص المعتدون. وشكوت ذلك إلى الحاكم الحابس لي. . . فانتفى من الرضا به وأظهر الامتعاض. وتقدم إلى الموكل بالسجن في اختيار مجلس، أباين فيه من لا تليق بي ملابسته، وأنتبذ عمن لا تُرضى لي مجالسته. ثم لم ألبث أن أحضره (أي الموكل بالسجن) مجلس نظره وأمر بتأديبه على امتثاله فيما أمره به وانتهائه إلى ما حده له. واستأنف العهد في التضييق عليّ، زمنع من اعتاد صلتي من الوصول إلي. فأصعدت إلى غرفة في السجن أقنعني بها مع خساستها وامتلأت بالكون فيها على مضاضتها انفرادي من لفيف الأخلاط ومن ضمه السجن من السفلة والسقاط. فحين استوائي إليها عهد بحطي إليهم وخلطي بهم ووضعي بينهم فنقلت على أقبح النصب وأسوء الرتب. ودخل إلي في هذه الحال من أبلغ إليّ عن ابن الحكم رسالة جامعة من فنون مشتملة من الوعيد. فتبين لي أن ايحاشي نفسي بايناس أهلي، وقطعها في مواصلة وطني غبنٌ في الرأي وخور في العزم. ووجدت الحر ينام على الشكل ولا ينام على الذل. ولم استغرب أن أسأم بمثل هذا الخسف في مسقط رأسي، فقد ضاع المرء الفاضل في وطنه. فاستخرت الله عز وجل، واضح وجه العذر، ثابت قائم الحجة، عند من غصن عين الهوي، وخزن لسان التعسف. والله يصيب غرض الصواب برأي، ويقرب غاية النجاح على من سعى، حسبما ذلك في علمه أني مظلوم، مبغي علي، منسوب ما لم آته إلي ولعمرك يا سيدي أن ساعة العذر لتضيق عنك، وما تكاد تتسع لك في إسلامك تلميذك وابن جارك وشيخك الذي لم تزل آخذاً عنه مقتبساً منه، مع إكثارك من ذكر هذا والاعتداد به وادعاء الحفظ له. وقد رويت أن حسن العهد من الأيمان، ولكن من لك بأخيك كله؟ وما حم واقع، ولا حذر من قدر، وقد سبق السيف العذل! وتقدم من فعلي ما جف به القلم. وأنا الآن بحيث أمنت بعض الأمن، ألا إن نذراً من وعيد سقط إلي بأن السعي لم يرتفع، وأن مادة البغي لم تنقطع، وأن البصيرة مستحكمة في استرجاعي من الأفق الذي أحل به، والجناب الذي أحط فيه. وأكد ذلك ف ظني ما كان إشارة لي إليه بعض من كنت آوي إلى الثقة بعهده، وأبني على الوثاقة من عقده، من الفقهاء الموسومين بالثرة عند لحكم المذكور والمكانة منه. وقد عاتبته على تأخره عن مضافرتي، وتقصيره في مؤازرتي. فاعتذر بأن ذلك لا سبيل إليه، ولا منفذ للحيلة فيه. إذ المحرض علي لا تتأتى معارضته، ولا يتهيأ الاستبداد عليه، وأنه وصفني بالبذاء، وعابني بالتسلط على الأعراض. ووالله! ما استنجزت هذا، بعد أن هتك من ستري ما هتك، وأنهك ما انتهك، إن كنت أقول معذوراً، وأنفث مصدوراً. فكيف قبل ذلك، إذ لم يحدث سبب ولا عرض موجب؟ ومالي وهذا الجني تم مالياً! وستكتب شهادتهم ويسألون. . .
ووالله ما توهمت أني أوتي ممن أوتيت منه، مع اتصالي به وانقطاعي إليه واتسامي بالتأمل له والتعويل عليه. أن المعارف في أهل النهي ذمم. . .
لقد كان من محاسن الشيم، وشروط المروءة والكرم، أن يهب لي ما أنكر لما عرف، ويغفر ما سخط لما رضي، ويدفع بالتي هي أحسن، ويؤثر الذي هو أجمل وأرفق، ويتوقف عندما نص له من سعاية، وزف إليه من وشاية. فإن كان باطلاً ألقاه وفضح المخبر المتقرب به وأقصاه. ون كان حقاً صبر صبر الحليم. وأغضي إغضاء الكريم. وقبل إنابة المعتب، واقتصد في مؤاخذة المذنب. فقدم التوقيف قبل التثقيف، والتأنيب قبل التأديب. فإن الرفق بالجاني عتاب. والحر يلحى والعصا للعبد. . .
وهو يرى ويسمع أن بالحضرة قوماً لا يحصرهم العد، تحتمل سقطاتهم وتغتفر هفواتهم، وتقال عثراتهم. . .
وما أعلم أنهم يدلون بوسيلة إلا شاركتهم فيها، ولا يمتون بذريعة ينفردون دوني بها. . .
فإن كانت مسامحتهم لسابقة سلفت فقد أحرزت منها الحظ الأعلى أو لكمال أدب فقد ضربتُ فيه بالقدح المعلى، أو للطف تودد فما قصرتُ في الاجتهاد غير أني حرمت التوفيق. والأمر لله رب مجتهد ما خاب إلا لأنه جاهد والله لقد أظهرت مدحه، وأضمرت نصحه، وتممت على الصاغية له، وجريت ملء العنان إلى الاعتلاق به، اسقيه السائغ من مياه ودي. واكسبه السابغ من برود حمدي، وأجنبه الغض من ثمرات شكري، وأهدي إليه العطر من نفحات ذكري. لا يفيدني التحبب إليه، إلا ضياعاً لديه. ولا يزيدني التقرب منه. إلا بعداً عنه.
والذي أحبه منك وأثق ف المسارعة إليه بك، لقاؤه مجارياً ذكرى، مفاوضنا في امرئ، معلماً له بالذي لا يذهب عنه من أن الذي اخترته لنفسي غاية ما يسيء العدو به ويساء المولى منه. فالجلاء أخو القتل، والغربة أحد السباءين: قال الله تعالى: ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم
وقد هجرت الأرض التي هي ظئري، والدار التي كانت مهادي، وغبت عن أم أنا واحدها، تمتد أنفاسها شوقاً لي، وتغض أجفانها حزناً علي، والله يرى بكاءها ويسمع لي على من ظلمني نداءها. فالاستجابة مضمونة للمخلص وللمظلوم، وقد حملت السمتين، واستوجبت الصفتين ولتكن بغيتك التي دخرها عليها كلمة تأمين وإشارة إلى تأنيس وتذكير، تراجعني بها فأظهر بحيث أنا آمنا، وألقي العصا مطمئناً. فإن وجدت محر الشفرة فالعوان لا تعلم الخمرَة فإن اشبهت الليلة البارحة، أعلمتني بذلك، فطلبت الأمن في مظانه، وتقريت السلامة في مواطنها. وصبرت حتى يحكم الله لي وهو خير الحاكمين. كل يوم هو في شأن. ومع اليوم غد ولكل حال معقب. ولربما أجلى لك المكروه عما تحمد. ولك يا سيدي في انتدابك لما ندبتك إليه الفضل، والأيادي قروض، والصنائع ودائع، لا يذهب العرف بين الله والناس. والتحية الطيبة والسلام المردد على سيدي
ولكن ابن زيدون كان قد ذاق من الدهر حلوه ومره، فلم يرض لنفسه بالذهاب إلى اشبيلية دون أن يكون على ثقة من أمره. فلذلك كتب رسائل بديعة إلى بعض المقربين من المعتضد، قم إلى المعتضد نفسه، ليمهد السبيل إلى الهجرة حتى إذا تحقق أنه سينزل في اشبيلية على الرحب والسعة أزمع الرحيل إليها. وكان ذلك في سنة 441 للهجرة.
واتفق في وقت فراره من قرطبة إلى اشبيلية أن صادفه عيد الأضحى فرأى الناس مبتهجين بالعيد، وهم يتزاورون ويتبادلون التهاني، وهو شريد طريد، ففاضت نفسه بوصف حاله:
خليليّ لا فطر يسر ولا أضحى! ... فما حال من أمسى مشوقاً كما أضحى!
لئن شاقني شرق العقاب، فلم أزل ... أخص بمخصوص الهوى ذلك السفحا
وما انفك جو في الرصافة مشعري ... دواعي بث تعقب الأسف البرحا
ويهتاج قصر الفارسي صبابة ... بقلبي لا يألو زناد الهوى قدحا
وليس ذميماً عهد مجلس ناصح ... فأقبل في فرط الولوع به نصحا كأني لم أشهد لدى عين شهدة ... نزال عتاب كان آخره الفتحا
وقائع جانيها التجني فإن مشى ... سفير خضوع بيننا، أكد الصلحا
وأيام وصل بالعقيق اقتضيته ... فا لا يكن ميعاده العيد، فالفصحا
وآصال لهو في مسناة مالك ... معاطاة ندمان إذا شئت أو سبحا
لدى راكد تصيبك من صفحاته ... قوارير خضر خلتها مردت صرحا
معاهد لذات وأوطان صبوة ... أجلت المعلى في الأماني بها قدحا
مقاصر ملك أشرقت جنباتها، ... فخلنا العشاء الجون أثناءها صبحاً
يمثل قرطيها لي الوهم جهرة ... فقبتها فالكوكب الرحب فالسطحا
هناك الحمام الزرق تندى خفافها ... ظلال عهدت الدهر فيها فتى سمحا
محل ارتياح يذكر الخلد طيبه ... إذا عزّ أن يصدى الفى فيه أو يصحا
تعوضت من شدو القيان خلالها، ... صدى فلوات قد أطار الكرى صبحا
ومن حملى الكاس المفدى مديرها، ... تقحم أهوال حملت لها الرمحا
فلما وصل اشبيلية، نزل على كنف المعتضد، وأصبح من خواصه وصحابته يجالسه في خلواته، ويرسله في مهم رسائله. وولاه الوزارة، وحفظ له لقبه ذا الوزارتين.
كان المعتضد جعل مجلسه منحطاً عن مجلس ابنه وولي عهده المعتمد بن عباد. فكتب المعتمد لابن زيدون:
أيها المنحط عني مجلساً! ... وله في النفس أعلى مجلس!
بفؤادي لك حب يقتضي ... أن تري تحمل فوق الأرؤس!
فأجابه ابن زيدون يشكره:
اسقيط الطل فوق النرجس ... أم نسيم الروض تحت الحندس
أم قريض جاءني من ملك ... مالك بالبر رق الأنفس؟
يا جمال الموكب الغادي إذا ... سار فيه، يا بهاء المجلس!
شرفت بكر المعالي خطبة ... بك، فانعم بسرور المعرس!
وارتشفت معسول ثغر أشنب ... تجنيه من مجاج ألعس!
واغتبق بالسعد في جفن المنى ... يصبح الصنع دهاق الاكؤس! فاعترض الدهر فيما شئته ... مرتقي في صدره لم يهجس!
ولكن هل أنساه ذلك ولاّدة ومحاسنها، أم قرطبة ومساكنها؟
كلا! فلم يزل صاحبنا مشغوفاً بهذه وبتلك، وأشعاره أكبر دليل على ذلك. فكلما حانت له فرصة، أو هزته نشوة، قال فيها أقوالاً تذيب الفؤاد.
فلقد تشوق إلى قرطبة وساكنيها بقصيدة تدل على حنينه لها ولمن فيها، فقال:
على دارة الشرقي مني تحية ... زكت وعلى وادي العقيق سلام
ولا زال روض بالرصافة ضاحك ... بأرجائها يبكي عليه غمام!
معاهد لهو لم نزل في ظلالها ... تدار علينا للسرور مدام
زمانٌ رياض العيش خضر نواعم ... ترف وأمواه النعيم جمام
فإن بان مني عهدها فبلوعة ... يشب لها بين الضلوع ضرام
تذكرت أيامي بها فتبادرت ... دموعي كما خان الفريد نظام!
ومن أجلها أدعو لقرطبة المنى ... بسقي ضعيف الطل وهو رهام!
محل نعمنا بالتصابي خلاله ... فأسعدنا والحادثات نيام!
فما لحقت تلك الليالي ملامة، ... ولا ذم من ذاك الحبيب ذمام!
وكان يبلغه عن بني جهور ما يسوءه في نفسه وقرابته في قرطبة، فقال يخاطبهم:
بني جهور أحرقتمو بجفائكم ... فؤادي؟ فما بال المدائح تعبق!
تعدونني كالعنبر الورد، إنما ... تفوح لكم أنفاسه حين يحرق!
وأما أمداحه في المعتضد بن عباد فشيء كثير جليل. وأذكر فقط بيتين أرسلهما إليه مع هدية من باكورة التفاح، وهما:
يا من تزينت الريا ... سة حين ألبس ثوبها!
جاءتك جامدة المدا ... م، فخذ عليها ذوبها!
وقد كتب عنه إلى صهره الموفق أبي الجيش بن مجاهد العامري صاحب دانية والجزائر الشرقية المعروفة الآن بجزائر الباليار:
عرفت عرف الصبا إذ هب عاطره ... من أفق من آنا في قلبي أشاطره
أراد تجديد ذكراه على شحط ... وما تيقن أنى الدهر ذاكره ينأى الزار به، والدار دانية ... يا حبذا الفال لو صحت زواجره
خلي، أبا الجيش، هل يدنو اللقاء بنا ... فيشتفي منك طرف أنت ناظره
قصاره قيصر أن قام مفتخراً ... لله أوله مجداً وآخره
قلت فيما تقدم أن ملوك الطوائف كانوا منقسمين على أنفسهم، وأن الحرب كانت دائرة بينهم. فإليكم مثالاً واحداً مما يتعلق بابن زيدون. وذلك أن الحرب وقعت بين المعتضد صاحب اشبيلية، وبين ابن الأفطس صاحب بطليوس، فانهزم ابن الأفطس هزيمة فظيعة، وخسر خسارة جسيمة، فقال ابن زيدون يهنئ المعتضد:
ليهن الهدى إنجاح سعيك في العدا ... وإن راح صنع الله نحوك واغتدى!
وبشراك دنيا غضة العهد طلقة ... كما ابتسم النوار عن أدمع الندى!
دعوت فقال النصر. لبيك ماثلاً، ... ولم تك كالداعي يجاوبه الصدى!
وأحمد عقب الصبر في درك المنى، ... كما بلغ الساري الصباح فاحمدا.
ولما اعتضدت الله كنت مؤملاً ... لديه بأن تحمي وتكفي وتعضدا.
وجدناك أن ألقحت سعياً نتجته، ... وغيرك شاو حين أنضج أرمدا.
سل الخائن المغتر: كيف احتقابه ... مع الدهر عاراً بالفرار مخلدا؟
رأى أنه أضحى هزبراً مصمماً! ... فلم يعد أن أمسى ظليماً مشردا!
يود إذا ما جنه الليل أنه ... أقام عليه آخر الليل سرمدا!
وأصبح يبكيه المصاب بثكله ... بكاء لبيد حين فارق أربدا.
هذا مع أن ابن زيدون سبق له مدح ابن الأفطس بمديحة غراء في قصيدته التي يقول فيها:
لبيض الطلى ولسود اللمم ... بقلبي مذبن عني لمم!
ففي ناظري عن رشادي عمم، ... وفي أذني عن ملامي صمم!
مليك إذا طاولته الملوك ... حوى الخصل، أو ساهمته شهم.
فأطولهم بالأيادي يدا ... وأثبتهم ف المعالي قدم.
وأروح، لا مبتغي رفده ... يخيب ولا جاره يهتضم.
أبوه الذي فل غرب الضلا ... ل ولاءم شعب الهدى فالتأم.
فلا سامي الطرف إلا أذل ... ولا شامخ الأنف إلا رغم.
تقيل في العز من حمير ... مقاول عز جميع الأمم.
نجوم هدى والمعالي بروج، ... وأسد وغى والعوالي أجم.
أبا بكر أسلم على الحادثات ... ولا زلت من ريبها في حرم!
وأني لأصفيك محض الهوى ... وأخفي لبعدك برح الألم!
ولا غرابة في ذلك. فالملك عقيم، وتصاريف السياسة تقضي بالتغيير من حال إلى حال، خصوصاً إذا انقسمت أمة من الأمم على نفسها، وخاضت في غمار الخطوب والفتن. وفوق ذلك أفليس التقلب من مديح إلى هجاء ومن ملام إلى سلام، هو سجية من سجايا الشعراء الكرام وغير الكرام.
فلما مات المعتضد بن عباد وتولى الملك ابنه المعتمد ابن عباد كان لابن زيدون عنده تلك الكرامة وهذه الحفاوة، تدلنا على ذلك شهادة التاريخ ويؤيدها قول ابن زيدون نفسه في رثاء المعتضد ومخاطبته روحه بعد دفنه.
أعباد، يا أوفى الملوك لقد عدا ... عليك زمان من سجيته الغدر!
فهلا عداه أن علياك حلية ... وذكراك في أردان أيامه عطر؟
أأنفس نفس في الورى أقصد الردى ... وأخطر علق للهدى اقبر الدهر؟
فهل علم الشأو القدس أنني ... مسوّغ حال ضل في وهمها الفكر؟
وإن متاتي لم يضعه محمد ... خليفتك العدل الرضا وابنك البر
وأرغم في بري أنوف عصابة ... لقاؤهم جهم ومنظرهم شزر؟
إذا ما استوى في الدست عاد حبوة ... وقام سماطاً خلفه فلى الصدر،
ومن المعلوم أن ابن زيدون هو الذي دبر دولة المعتضد واظهر صولته وأغراه بأعدائه وزين له الإيقاع بعماله، ووزرائه فغدا شجا في صدورهم، ونكداً في سرورهم، فلما آل الأمر إلى المعتمد. قام حساده وخصومه وسعوا لديه في النكاية به، ثم رموا إليه برقعة فيها قصيدة طويلة أولها:
يا أيها الملك العلي الأعظم ... اقطع وريدى كل باغ ينئم!
واحسم بسيفك داء كل منافق ... يبدي الجميل وضد ذلك يكتم!
وهي قصيدة طويلة تتألف من 27 بيتاً كلها إغراء بابن زيدون، على سبيل التصريح المفهوم. ولكن المعتمد كان أعقل من ابن جهور، فلم يصغ لتلك النميمة، ولم تنفع لديه تلك السعاية، فقل في صدهم ورد كيدهم في نحرهم.
كذبت منا كم صرحوا أو جمجموا ... الدين أمتن والسجية أكرم!
خنتم ورمتم أن أخون وربما ... حاولتم أن يستخف ململم
وأردتم تضييق صدر لم يضق ... والسمر في ثغر النحور تحطم
وزحفتم بمحالكم لمجرب ... ما زال يثبت للمحال فيهزم
أني رجوتم غدر من جربتم ... منه الوفاء وظلم من لا يظلم
أنا ذلكم، لا البغي يثمر غرسه ... عندي ولا مبنى الصنيعة يهدم
كفوا وإلا فارقبوا إلي بطشة ... يلقى السفيه بمثلها فيحلم
فلما بلغ ابن زيدون ما راجعهم به وتحقق حسن مذهبه وعلم أن حياته قد أخفقت، وسعايتهم ما نفقت، وسهامهم تهزعت، ومكائدهم تبددت وتوزعت.
قال ينمدح المعتمد ويعرض بإعاديه بقصيدة طويلة مطلعها:
الدهر، إن سأل، فصيح أعجم ... يعطي اعتباري ما جهلت فأعلم
ومنها
ولكم تسامي بالرفيع نصابه ... خطراً فناصبه الوضيع الالأم
ومنها
قل للبغاة المنبضين قسيهم ... سترون من تصميه تلك الأسهم
ثم مدح المعتمد - إلى أن قال:
امطيتني متن السماك برتبة ... علياء منكب عزها لا يزحم
وتركت حسادي عليك وكلهم ... شاكي حشى يدوي وأنف يرغم
نصح العدا في زعمهم فوقمتهم ... والغش في بعض النصائح مدغم
وثناهم ثبت قناة أناتهم ... خلقاء يصلب متنها إذ يعجم
وزهاهم نظم الهراء فكفهم ... نظم عقود السحر منه تنظم
أشرعت منه إلى لغواة أسنة ... نفذت وقد ينبو الطرير اللهذم
فرق عوت فزأرت زأرة زاجر ... راع الكليب بها البسبنتي الضيغم ياليت شعري هل يعود سفيههم ... أم قد حماه النبح ذاك الأكعم
لي منك، فليذب الحسود تلظياً، ... لطف المكانة والمحل الأكرم
وشفوف حظ ليس يفتأ يجتلي ... غض الشباب وكل غض يهرم
لم تلف صاغيتي لديك مضاعة ... كلا ولا حق اصطناعي الأقدم
بل أوسعت حفظاً وصدق رعاية ... ذمم موثقة العرى لا تفصم
فليخرقن الأرض شكر منجد ... منى تناقله المحافل متهم
عطر هو المسك السطيع يطيب في ... شم العقول أريجه المتنسم
فإذا غصون المكرمات تهدلت ... كان الهديل ثناءها المترنم
الفخر ثغر عن حياضك باسم ... والمجد برد من وفائك معلم
فاسلم مدى الدنيا فأنت جمالها ... وتسوغ النعمى فإنك منعم
واستقر المعتمد به في وزارته فكان أحد وزرائه الثلاثة الأكابر المثناة وزارتهم (أي أحد الثلاثة الذين يلقب كل واحد منهم بذي الوزارتين) والآخران هما ذو الوزارتين ابن عمار وذو الوزارتين ابن خلدون (جد صاحب التاريخ المشهور).
خرج الثلاثة في أحد الأيام من اشبيلية إلى منظرة (قصر خلوى) لبني عباد بموضع يقال له الفُنت (تعريباً للفظ اسباني وهو متنزه تحف به مروج مشرقة الأنوار، متنسمة الأنجاد والأغوار، متبسمة عن ثغور النوار. في زمان ربيع سقت الأرض السحب فيه بوسميها ووليها. وجعلتها في زاهر ملبسها وباهر حليها. وارداف الربى قد تأزرت بالأزر الخضر من نباتها، وأجياد الجداول قد نظم النوار قلائده حول لباتها، ومجامر الزهر تعطر أردية النسائم عند هباتها. وهناك من البهار، ما يزري على مداهن النضار، ومن النرجس الريان، ما يهزأ بنواعس الأجفان. وقد نووا الانفراد للهو والطرب، والتنزه في روضي النبات والأدب. وبعثوا صاحباً لهم يسمى خليفة هو قوام لذتهم، ونظام مسرتهم، ليأتيهم بنبيذ يذهبون الهم بذهبه في لجين زجاجهن ويرمونه بما يقضي بتحريكه للهرب عن القلوب وإزعاجه. فجلسوا الانتظار، وترقب عوده على آثاره. فلما بصروا به مقبلاً من أول الفج بادروا إلى لقائه، وسارعوا إلى نحوه وتلقائه. واتفق أن فارساً من الجند ركب فرسه فصدمه، ووطئ عليه فهشم أعظمه وأجرى دمه، وكسر قمصالالنبيذ الذي كان معه، وفرق من شملهم ما كان الدهر جمعه. ومضى على غلوائه راكضاً حتى خفي عن العين، خائفاً من متعلق به يحين بتعلقه الحين. وحين وصل الوزراء إليه تأسفوا عليه وأفاضوا في ذكر الزمان وعدوانه، والخطب وألوانه، ودخوله بطوام المضرات، على تمام المسرات، وتكديره الأوقات المنعمات، بالآفات المؤلمات.
فقال ابن زيدون:
أنلهو والحتوف بنا مطيفه ... ونأمن والمنون لنا مخيفه؟
فقال ابن خلدون:
وفي يوم وما أدراك يومٌ ... مضى قُمصالنا ومضى خليفة!
فقال ابن عمار:
هما فخارتا راح وروح ... تكسرتا فأشقاف وجيفه.
ولابن زيدون مدائح في المعتمد بن عباد كلها درر وغرر، وآيات بينات، وله معه مداعبات، ومطارحات ومساجلات. فتارة يشوقه إلى تعاطي الحميا في قصوره البديعة، وتارة يرسل له التفاح ويكتب عليه الأشعار، يدعوه إلى تناول العقار، وتارة يهينه، وأخرى يمدحه. وله بيتان قد بلغا حد الإبداع في هذا الباب. قال يخاطبه:
مهما امتدحت سواك قبل فإنما ... مدحي إلى مدحي لك استطراد
يغشى الميادين الفوارس حقبة ... كيما يعلمها النزال طراد
فما أحسن هذا التنصل بالتمرن على المديح، حتى إذا جاد وبلغ المراد أهدى ثمرته إلى ابن عباد.
هذه قطرة من بحر من بحور شعر ذلك الفرد. وأما نثره، فشيء بعيد حصره. ومما يجهله كثيرون أنه ألف كتاباً في التاريخ، جعله ابن حزم من مفاخر الأندلس، وقال أن أبا الوليد بن زيدون ألف كتاب التبيين في خلفاء بني أمية بالأندلس على منزع كتاب التعيين في خلفاء المشرق للمسعودي. وقد نقل صاحب نفح الطيب سطراً أو سطرين عن هذا الكتب الذي لم يبق له أثر ولا عين.
وما زال ابن زيدون يتشوق لقرطبة ولمن فيها ويعمل لدى المعتمد بن عباد حتى جعل قرطبة منتهى أملهن فسعى في مداخلة أهليها، ومواصلة ذوي الكلمة فيها. لأنه رأى عدم الفائدة، في غير الحيلة والمكايدة، لاستمساك أهلها بدعوة الخلافة وأنفتهم من زوالها عنهم وانطماس رسومها في بلدهم فلما فاز بالمرام وانتظمت تلك العاصمة الضخمة في ملكه. ذهب إليها مسرعاً واهتم بتدبير شؤونها. هنالك جاشت نفسه بالفخر على سائر ملوك الطوائف. فقال:
من للملوك بشأو الأصيد البطل، ... هيهات جاءتكم مهدية الدول!
خطبت قرطبة الحسناء إذ منعت ... من جاء يخطبها بالبيض والأسل
وكم غدت عاطلاً حتى عرضت لها ... فأصبحت في سرى الحلي والحلل.
عرس الملوك لنا في قصرها عرس ... كل الملوك به في مأتم الوجل.
فراقبوا عن قريب! لا أبالكم، ... هجوم ليث بدرع البأس مشتعل
أما ابن زيدون، فقد عاد قرير العين إلى وطنه وأهله وكانت له شيعة كبيرة في قرطبة، فارتفع جده، وزاد إقبال الدنيا عليه، وبلغ حظوته عند المعتمد درجة لا يطمع فيها.
فحينئذ سعي في هلاكه صاحباه ابن مرتين وابن عمار، وتلطفا في إبعاده وإبعاد ابنه من بعده ليخلو لهما الجو، ولينفردا بالاستئثار بابن عباد. ولقد ساعدتهما الظروف.
فقد وقعت فتنة في اشبيلية واضطر ابن عباد للتعجيل بإرسال جيش كثيف إليها تحت قيادة ابنه سراج الدولة بن عباد. فسول ابن مرتين وابن عمار لابن عباد أن يرسل ابن زيدون مع سراج الدولة وتلطفا في تفهيم السلطان أن ذهاب ذي الوزارتين فيه حقن للدماء، وحفظ للنظام، لما له من المكانة العالية والجاه الرفيع، ولأنه محبوب لدى جميع القلوب. ثم وسوسا له بأن المصلحة كل المصلحة هي في وجود ابن زيدون الوزير العاقل المدرب المحنك المجرب بجانب سراج الدولة الذي هو قرة عين الملك، ومطمح الأنظار لبقاء البيت العبادي.
وما زال الرجلان ينسجان على هذا المنوال حتى أفلحا خصوصاً لغياب ابن زيدون في مرض ألزمه البيت.
صدر إليه الأمر بالذهاب ولم يعذره السلطان في التوقف لما ألم به من الآلام. فخرج منها مع الحاجب سراج الدولة بن عباد والجيش متوجهين إلى اشبيلية. وكان ذلك في يوم 13 ذي الحجة سنة 462. وخلف في قرطبة ابنه الوزير الكاتب أبا بكر بن زيدون، ولكن صاحبينا (بن مرتين وابن عمار) ما زالا يعملان لدى ابن عباد حتى صدر الأمر إلى أبي بكر بن زيدون أيضاً بأن يلحق بأبيه في اشبيلية. حينئذ خلا لهما الجو فاستأثرا بالأمور كلها وانفردا بتدبير الدولة بلا مشارك لهما في أهوائهما ولا معارض لهما في أغراضهما.
وكأن زوال دولة ابن عباد كان مقدراً على يد هذين الرجلين. فابن مرتين، يكفي في التعريف بمراميه أنه ابن مرتين أي أنه من أصل غير عربي، فإن جده رجل اسباني يسمى وأما ابن عمار فقد أنكر فضل ابن عباد وشق طاعته وسعى في الفساد والخراب وخرق العهود وخان واتعب ابن عباد حتى أوهي دولته، على ما هو معروف ومشهور.
أما ابن زيدون وهو في اشبيلية، فلم يطل الأمد به بعد لحاق ابنه به. فكأنه جاء ليكفنه ويدفنه بها في صدر رجب سنة 463 حينئذ تولى منه كهل لن يخلف الدهر مثله جمالاً وبياناً وبراعة وظرفاً.
وهو عند أولي التحقيق في النظم أمد طلقاً وأحث عنقاً، فلا يلحقه فيه تقصير، ولا يخشى رهقاً. ولما وصل خبره إلى قرطبة، وله فيها عشرة كبيرة وأشياع كثار، تناعوه وحزنوا عليه لأنه كان منهم، هاوياً إليهم، حدباً عليهم، وليجة خير بينهم وبين سلطانهم الحديث الولاية.
فأراد السلطان أن يترضاهم فأرسل لأبنه (أي أبي بكر بن زيدون) وقربه إليه، ورقاه في مراتب والده، حتى أحظاه بالوزارة. وقد اغتنم هذا فرصة ما وقع من ذي الوزارتين بن عمار من الخروج على ابن عباد فأوغر صدر ابن عباد عليه وما زال يعمل لديه حتى كان سبباً في هلاك ابن عمار على ما هو معروف ومشهور.
يقولون مات ابن زيدون. فهل تظنون أن هذا قد كان أو يمكن أن يكون.
أنا لا أقول بالرجعة ولا أذهب إلى الخلود. ولكنني لا أصدق بأن ابن زيدون قد مات. لأن المؤرخين اختلفوا في موته، والاختلاف مدعاة للشكوك والظنون. فشمس الدين الذهبي يقول أنه مات سنة 463. وأما ابن بشكوال فإنه يجعل ذلك سنة 405. فإن صدقنا هذا الثاني لأنه أندلسي، فإننا نرى ابن بسام (وهو أندلسي) أيضاً يؤيد قول الذهبي الشرقي. فهذا شك أول.
ثم أنهم اختلفوا في موضع وفاته. فقال الذهبي أنها حدثت باشبيلية. وقال ابن بشكوال أن ذلك كان بالبيرة (وهي مدينة كبيرة بقرب غرناطة).
نعم إنهما اتفقا على دفنه بقرطبة. ولكن الرجل لا يمكن أن يكون قد مات في موضعين مختلفين وفي وقتين متباعدين. فذلك شك ثان نؤيده باستدلالات واستنباطات. وفوق ذلك فإن ابن بسام يؤكد لنا أن دفنه كان باشبيلية 0فهذا شك ثالث).
كيف يموت ابن زيدون وأقواله لا تزال ترن في المسامع وتدور في الأفواه؟
كيف يموت ذلك الذي لا يصح لأديب أو متأدب أن لا يروي له شيئاً من الأشعار؟
كيف يموت ذلك الذي نظم القصيدة النونية التي افتتحها بقوله:
أضحى التنائي بديلاً من تدانينا ... وناب عن طيب لقيانا تجافينا
بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا ... شوقاً إليكم ولا جفت مآقينا؟
كيف يموت صاحب هذه القصيدة التي حكم بعض الأدباء بأن من رواها ولبس البياض وتختم بالعقيق وقرا لأبي عمرو وتفقه للشافعي فقد استكمل الظرف.
كيف يموت صاحب هذه القصيدة التي سارت في البلاد، وطارت بين العباد، واشتهرت حتى صارت محدودة، فقيل ما حفظها أحد إلا مات غريباً.
كيف يموت صاحب هذه القصيدة التي تهافت كبراء الأدباء على معارضتها في حياة صاحبها وبعد موته (الذي يزعمون) ولم يقاربها أحد منهم إلى الآن بل بقيت الشهرة لها كما بقي الصيت لصاحبها (الباقي إلى الآن).
كيف يموت صاحب هذه النونية التي عارضها أبو بكر بن الملح وأراد أن ينازعه الراية، فقصر عن الغاية. وهذا مطلع قصيدته:
هل يسمع الربع شكوانا فيشكينا ... أو يرجع القول مغناه فيغنينا
كيف يموت صاحب هذه القصيدة التي أراد الصفدي أزمان الشباب أن يعارضها بمرثية لبعض أصحابه في صفد، وأولها
تحكمت بعدكم أيدي الثوى فينا ... وقد قامت بنادينا تنادينا
كيف يموت صاحب هذه القصيدة التي قصر عنها الأدباء فاحتمى بعضهم في ظلالها: واقتبس كلامها، فقد سدسها أحد علماء المغرب وهذا مطلع التسديس:
ماللعيون بسهم الغنج تُصمينا ... وعن قطاف جنى الأعطاف تحمينا تألق كان يحيينا ويضنينا ... تفرق عاث في شمل المحبينا
أضحى التنائي بديلاً من تدانينا ... وآن عن طيب دنيانا تجافينا
كيف يموت صاحب هذه القصيدة التي تلطف الشاعر المصري اللطيف وأعني به صدر الدين ابن الوكيل المتوفي سنة 706 بالقاهرة، فاقتبس من جواهر ذلك العقد النفيس ما حلا به موشحاً لطيفاً.
وأني أترك إلقاء هذا التوشيح لبعض أعضاء النادي الكرام ليكون في صوتهم الشجي وتلحينهم الرخيم. تشنيف للأسماع يحسن عنده الختام، والسلام.
مجلة البيان للبرقوقي - العدد 13
بتاريخ: 1 - 10 - 1913