مما يزيد من وجاهة الشاعرة الفذة نازك الملائكة، إنها تصاهرت فأبدعت، وعاصرت الكبار فحازت على مكانة في الصف الأول من شعراء جيلها، وهذا بشهادة الشاعر الناقد جبرا أبراهيم جبرا، ونقاد عرب آخرين، سوف نأتي إلى تقديم آرائهم وحواراتهم، وما توصلوا إليه من سبر أغوار شعر الملائكة وعالمه التنويعي. أيضاً مما آثر شعرها في وجدانية الشاعر بدر شاكر السياب فأحب شاعريتها، وفي زمنها الشعري تجذرَ كمه وكيفه بين المثقفين وأهل الصنعة ليبقى خالدا على مر العصور، وبهذا تجدني محاوراً ألق اللغة في بناء إيحائها التركيبي الشعري، ذلك الذي ميزته أصالتها البلاغية كنتيجة لثقافة أدبية واسعة، باعتباره خلق تكويناً للاشتغال بالجدل من خلال تطورات المختلف في أسلوبها الشعري الذي اعتمد بتمثيله على تراتبية النحو الكلي، بالامتياز الحاصل في نمذجة إرث العلم الإدراكي ذو السياق المستقل الممتد مع القواعد تحويلية، التي حققت لها تشذيباً دقيقاً وَسَّعَ من آفاق جديدها، الذي اشتغل على أسلوبية الاستبدال في نسق مبنيات الخليل، في أنظمة القصيدة العربية القديمة ذات الشطرين ببنيته الثابتة، إلى البنية المتحركة في الشطر الواحد، وهو ما أتفق على تسميته بقانون الحداثة، "قصيدة التفعيلة" أو "القصيدة الحرة" أما شعر التفعيلة فهو يعمل على فطرية الروي في الشطر المتحرك بالقافية اللازمة، حيث تنهض فيه البنية المركبة بتوازن الأفكار المنتجة للبلاغة، متى كانت الحاجة ملبية لما يأتي به نظام التفعيلة الذي يكون أساساً عروضياً للقصيدة، لا يتقيد بعدد معيّن من التفعيلات في السطر الواحد، وصولاً إلى اثنتي عشرة تفعيلة، كما أشار السياب إلى ذلك، بأن هذا الشعر يخرج عن مبدأ تساوي الأشطر، ولا يلتزم بقافية واحدة في بنية القصيدة كما هو معروف، وأول من نظم هذا اللون من الشعر وبدأ به هو بدر شاكر السياب في البصرة، بعد نشر قصيدته الشهيرة: "هل كان حبا".
اختلفت الآراء في هذا المولود الشعري الجديد ومنهم الدكتور عبد الهادي محبوبة في قوله:
"أنّ التفعيلة موجودة في فنّ النثر أيضاً والموسيقى، وأنّ شعر التفعيلة هو أقرب للنثر منه للشعر. لأن خصائص شعر التفعيلة وحدة التفعيلة غالباً في القصيدة.*" وما بان أن الملائكة اعتبرتْ الشعر العمودي يدخل في التكرار والملل، وفي الوقت ذاته فهو يعطّل حرية الشاعر، وهو ما أشار إليه بعض المقربين منها، أنها استسقت حداثتها المختلفة من فلسفة نقودات لسانيات تشومسكي البنيوية 1955 المتمثلة بأخذ النظم إلى تسلسل الألفاظ، المحاكية للصوت والوزن والتفصيل. في استخدام الرمزية التي عبّرت عنها الشاعرة ب"القواعد التحويلية" التي تراعي تهُّيؤ الدنوّ من تراكيب نصوصها، خاصة في تطور فنية التدوير، وهذا يعني أن تأتي التفعيلة في نهاية البيت، وجزء منها في بداية البيت وما يتبعه من انتاج التنظيم الفني للتفعيلة الواحدة.
كان الشعراء ما قبل الحداثة يتقيدون بالقافية كقانون لا خلاف عليه، حتى وإن كانت تلك القافية خالية من وحيّها الدلالي الذي ينشده الجناس، وهذا فاسد لأنه يضعف من المعطيات الانشادية في النظام الجدلي بين الداخل والشكل في البنية الفنية، لذلك يجب أن تحصل الجملة الشعرية على توليد دقيق المعاني، عبر تلاقي ألفاظ تمنح النص جرساً يحرص على تداعيات تتيح التعبير عن هموم وإظهار آمال الشاعر / الشاعرة، كما فعل أبو القاسم الشابي، وبدر شاكر السياب، وجبران خليل جبران. تقول د. حكمت صباغ الحكيم: "أن ما هو داخل في النص الأدبي، في معنى من معانيه خارج، كما أن ما هو خارج هو ايضاً وفي معنى من معانيه داخل*". وهذا ما اسميه بالجناس الانتقالي، الذي يقيم للنص حضوره الدائم والمميز.
1- محبوبة، عبدالهادي: مؤتمر المرأة العربية الإبداع، القاهرة 2002، بالاشتراك مع أ. د. جابر عصفور وعبده بدوي، وبذلك المؤتمر كرمت الشاعرة نازك الملائكة على أنها شاعرة العرب.
2- د. صباغ الحكيم، حكمت: جدلية النص الأدبي، مجلة الأقلام، الصادرة عن دار الشؤون الثقافية، بغداد، العدد التاسع، أيلول 1981، ص25.
وفي هذا المجال نستمع إلى رأي تشومسكي في ما يختص بالتكنيك التوليدي المشتمل على ما تمنحه اللفظة من تلاقح يغذي مدار التعاقب خصوصيته في قوله: "أن المهمات التكنيكية في حقل النظرية اللغوية وما تبوح به من مجسات فنية تحرك العمق التأويلي لما تنتجه فسحة النص باتساعها المعرفي."* وللوصول إلى انجاز النص غاياته يجب تنقيح أنساق اللغة التي تحكم هذه العلاقات، وهنا نلاحظ أن مهارة البنى المتحركة في قصيدة التفعلية، تعتمد اتساع تجديد الألفاظ من حيث مفاهيمها التحويلية في قانون الشطر الواحد، عبر توظيف تواصل محاكاة التأمل إلى أوسع براعة في قبول خصوصية النص.
حقق الجيل الستيني هرباً واسعاً من بوابة قصيدة التفعيلة، إلى متاهة قصيدة النثر، وهو أول تراجع إيقاعي للشعر، خاصة إذا كان الشاعر غير ملمٍ بقوانين الشعر واحكامه، لذا نجد قصيدة النثر في أماكن معينة، أصبحت مطية يركبها كل من هب ودب، خاصة في الشعر النسوي، في حين نجد هذا الانتقال الجديد، أي قصيدة النثر، قد أثمر منجزها خصوبة عند محدثيها من الشعراء الذين اشتغلوا على منهج البلاغة في كل جديد أمثال: سعدي يوسف، فوزي كريم، أدونيس، عباس بيضون، محمود درويش، محمد بنيس، مي زيادة، آدم حاتم، وآخرين. استلهمت الملائكة قوانين التغيير في روح القصيدة الحديثة، من ثقافات تحقق حاجة العصر إلى تسهيل قراءة الشعر، وذلك بكسب أكثر عدد ممكن من القراء، وخاصة التجديد الحاصل في مفهوم النسق، فأصبح لديها فكرة شاملة عن طبيعة التجديد، وهاجساً يروم إلى حداثوية ناجحة لا تبخس القارىء، في هذا:
لاحت الظلمةُ في الأفق السحيق
وانتهى اليومُ الغريب
ومضت أصداؤه نحو كهوف الذكريات
وغداً تمضي كما كانت حياتي
شفةٌ ظمأى وكوب
عكست أعماقهُ لونَ الرحيق
من قصيدة "يوم تافه" المكتوبة في 1948 حيث الملامح والأصداء في هذه القصيدة، نلمسها من تثوير جوانية التعبير الحسي المبثوث في اللفظة الدلالية، المعبرة عن التناسق المنصب من وحي البلاغات الشعرية بالكشف عن نفسية الشاعرة المكتأبة، لتكون اللغة هي المعبر عن تناص القيم الأدبية في الخاصية المثالية، معتمدة على نمط شعري أشاع تأثيره على القامات الشعرية التي برزت في عصرها، بعد أن توضح أنّ شعر الملائكة خال من التكرار والسكون والاستسقاء من كتابات الخلف، بالوارد المعيون في تأويلات المعنى، فصورها الصوتية تتمايز منذ حال نشأتها بالثبات والقدوة والمتانة الشعرية مثلها مثل شعراء آخرين كالشابي، خاصة في جانبه الفسيولوجي، في قولها: "لاحت الظلمة..." أغلب شعراء العراق الكبار تأثروا بالطابع النفسي المعقد في الشعر الغربي، وهذا الحال نقرأها تعيش مخاض ولادة عسيرة لحظة الكتابة، فهي تؤمن أن المُقَوَل المعيون لا يمكن أن يكون يمثل جهات تتجسد فيها حرية العقل لأن أفكاره ملغية، بفعل تشاكل منطق التثقيف الذاتي، وخاصة في التثقيف الأكاديمي، من الجوانب الوعيوية المنظورة في بنية تقارب الهيمنة التقريرية من قبل النظام المتخلف السائد، ولذلك نجد أثرها الصوتي يتردد في المطابقة الذهنية الحسية الواسعة في قولها: " وغدا تمضي كما كانت حياتي / شفة ظمأى وكوب"، ومما يضاف في هذا السياق الخاصية التحويلية وهي القوة الحاصلة في القراءة الايحائية المؤلمة وثيقة الصلة بايمانها، ولهذا عُدَتْ الملائكة منذ ظهورها الأول إنها شاعرة دراما الصوت الموَّر في ولادات الزمن المحبط، المولد الحقيقي في مطابقة حسها الثاقب لمباني فنيتها التصويرية، وخاصة في قصائدها المطولة، كونها عطفت الفلسفة على الشعر، لما حصل في ما بينهما من وصل ثقافي تنويعي في قولها: "لماذا نعود؟ أليس هناك مكان وراء الوجود"
1- تشومسكي، افرام نعوم: ملامح النظرية التركيبية، مكتبة دار الثقافة، القاهرة، الطبعة الثانية 1982، ص118.
وفي مكان آخر تقول: "نحدق في أي شيء نراه \ نحدق، لا رغبة في النظر \ ولكن لأن لنا أعينا *"، لهذا اعتبرها النقاد العرب واحدة من أهم الشواعر العربيات قدرة على صناعة نص يعتمد بنى وعلائق دلالية تقوم بوظيفتها على أحسن وجه، وقد أكد هذا النحو الشاعر والناقد الفيلسوف عبدالآله الصايغ. الذي اعتبرها إحدى مكونات الأقباس البلاغية، وهي تعلن عن التوهج المحسوس في شعاب أدواتها المحكمة بالابتكار النوعي، الذي يكسب المعنى تدفقات الاحساس إيحاؤه النوعي، من حيث مخاض بلاغة البنية الداخلية، في إثارة تحكم مجرى الإيماءات الحاسة في علانية التفاعلات الالمنطوية على أننا هكذا مكتوب لنا أن نعيش، "لا رغبة لنا في النظر / ولكن لأن لنا أعينا"، وكأنها تشارك سويسر أفكاره البنيوية، ولهذا فقد أصبح هذا الأتجاه يحقق لها أسلوباً مستقلاً، تبعها الكثير من الشواعر العربيات وتأثرن بها لأنها مست الأفكار النبيلة ببحثها عن مجتمع غير تقليدي لا يؤمن بالخرافات "العاشورية" وغيرها، وسوف أكشف لاحقاً عن مدى تأثير شاعرية الملائكة في نصوص الكثير من الشواعر العراقيات خاصة، والعربيات عامة، هذا كون شعر الملائكة كالعسل النقي وأن صاحبه الألم، ، فهي تؤمن بحقوق الفرد في التغير والتصحيح، فإذا قام البرهان النقدي على كشف حقيقة تلك النصوص، التي تمنت لها الشاعرة أن تكون نصوصها رسالة تعمق تعاليمها في أذهان قارئيها.
وفي حساب ما تقدم وتأخر في الشعر العربي والأوروبي على السواء، نجد ملامح الشاعرة تطوف باجنحة قصائدها، فتختلف مع أصوات جيلها المجدد للقصيدة العربية، باعتبارها واحدة من الذين وضعوا أسس هذا التجديد، كراعية لتطور بنية القصيدة الحديثة، واحكام ديمومة تأملها نحو تطورية أكثر تنوعاً في شغلانية لغتها اللسانية، التي ولدت على الساحة الأدبية العربية بفعل فلسفة لسانيات تشومسكي، بين مؤيد لهذا الفيض الفلسفي ومعارض له، فجاءت قصيدتها تقترب من بلاغات تلك المرحلة، أو تبعتد عنها قليلاً بعوامل مهمة وهي:
أولاً: الملامح التراثية: التقمص والقابلية للتكيف في دائرة ظبط النزاعات والأمزجة، ضمن حدود الكيفية الإلهامية، أي خصوبة الوعي المتصل بمنبهات الذات الحسية لأنه باحث فيها.
ثانياً: تتردد في قصيدتها أصداء الشعر القديم. خاصة في القصيدة العمودية.
ثالثاً: شعر التثقيف. المعبر عن المثابرة والتعاطف والبحث والتناص مع القيم غير المحبطة للسياقات التاريخية المتخلفة.
وهذا التنوع بين القديم والحديث، جعل شعرها يحتكم إلى تقنية المقايسة بدراية ودقة عالية في مفاهيم المساقات الإبداعية، فهي وفي الشعر الحديث شاركت شعراء الرعيل الأول المجددين لبنية القصيدة العربية، وخاصة جماعة الأدب الرمزي شديد الغنى والتنوع، أمثال: السياب، البريكان، الحصري، عاتكة الخزرجي، علي السبتي، وصلاح عبدالصبور، وخليل حاوي. ولهذا نجد الأقباس التصويرية عندها تومض وتتوهج في شاعريتها، ذات الحساسية العاطفية التي تسقي شعاب الكلام رشاقة في تجانسه، وهي تلامس الواقع سواء أكان عاطفياً، أو تراجيدياً، أو سياسياً، أو اجتماعياً، فتجدنا نحن المتلقين من أدباء وعامة، نحس بها إحساساً عميقاً، تتفاعل وتحرق مشاعرها بعذابات الصورة الشعرية، من واقع رهافة إحساسها وقيمة تلاقحها مع الصورة، وتلاقيها تلاقياً موضوعياً يحقق للنص سحره وجماليته، فقد أفرز على وجه التحديد يقين الكمال الشعري واصالته. النابع من تلاقح: الموهوب العاطفي بالتنوير الثقافي، المعلن في بلاغة التعبير التجانسي التصويري، بسياق ينزل فيه الإحساس منزلة الخمرة من النفس، حتى لا يدانيها شغف آخر.
من الممكن أن نذكر في هذا المجال العوامل المؤثرة في جوانبها الحياتية، سواء أكانت في المجال الأدبي أو السياسي، على اعتبارها مفكرة ليبرالية يسارية، من عائلة متوسطة الدخل، شديدة الانضباط الأجتماعي، وهي تتلخص في:
أولا: من داخل العراق بلدها الأصلي: جماعة رواد الحداثة المجايلون لحركة النهضة الأدبية العربية، الذين تبوأت اعمالهم صدور صفحات الصحافة العربية، وخاصة مجلة: "شعر اللبنانية"، ومجلة "الآداب اللبنانية" والمتأثرة هي الأخرى بشخصيات أدبية غربية تحلت بكاريزمات خاصة، تمثلت وتأثرت بالفلسفة التي ابتدأها فولتير وديكارت مروراً بكانط وانتهاء بسارتر.
ثانياً: النهضة السياسية الأدبية التحويلية في مسار الأدب العربي، تتلخص في تأثير النزعة الأدبية الجديدة الملحقة بعصر النهضة الغربية، التي كانت حينها تجتاح الثقافة العربية، وتمثلت بأسماء عديدة منها: دانتي، وجوته، وملتون، وجون دون، وبايرون، ورامبو، ومالارميه، وبودلير، وإليوت، وعزراباوند، وكيتس، وسويسر. وإلى غير ذلك من الشعراء الأوروبين الذين ذاع صيتهم، فتأثر بهم الكثير من الشاعرات والشعراء العرب. هذا ناهيك عن الروائيين والقصاصين، فالغرب خزين اسماء كبيرة على درجة عالية من الأهمية.
كانت الملائكة التي ذاع صيتها أوائل الأربعينات قد حققت قصائد مهمة: خاصة قصيدتها المطولة المتشائمة حسب رأي الشاعرة نفسها. "مأساة الحياة 1945" من الوزن الخفيف، وبعد التنقيح والتهذيب سمتها "أغنية للإنسان" عام 1965 وقد ظهر وضوح تأثر الشاعرة بالأدب الأنكليزي بعد ثورة التجديد، وكان هذا قبل ظهور ديوانها: "عاشقة الليل"، وهو واحد من أجمل دواوينها الذي ما انفك صالحا للقراءة حتى يومنا هذا، فشعرها رغم نزعته التجريدية العميقة، وغموضه الحاد، لكننا نقرؤه يعبر عن لون خاص من ألوان التجديد الشعري، المبهر في ثنايا ملامحها المغذية لبنية الصورة الشعرية. فقد تركت مغازي ذات سمات واضحة وعميقة على سير الحركة النقدية العربية آنذاك، ولغاية يومنا.
مع أنني أجد في بعض من جوانب أعمالها أنها شاعرة عميقة التأمل، كمتصوفة تخاطب سلطة الغيب شديد التأويل في بنية اللاملموس واللامرئي، وهنا أخال فيها فلسفة الذات التي تبحث في التضاد بين الظاهر والباطن، وقد تجلى هذا التظهير الفلسفي واضحا عليها خلال مراحل دراستها الجامعية الأولى، وفي هذه الفترة تعددت قراءتها في الآداب الأوروبية والعربية فقرأت ابن سبعين، وابن عربي، وابن رشيق وآخرين، وقد أروت مناهلها ايضاً من المتصوفة العباسيين، وما عاصر تلك الفترة من شعراء وفلاسفة، ومن خلال قراءتي المكثفة لشاعرية نازك وجدتها تلك الشاعرة الأنثى المكيفة بالطافها الخفية ذات اللمسة العاطفية الحنونة، التي تتذوق الصوتي الإيقاعي في ثنايا اللفظة التي تكيّف شفافية المعنى داخل سياق النص، بالقياس إلى ثقافتها الأستاذية الموزونة وزناً محصناً، فهي تشتغل على نسق يجعل من وحدة القصيدة مبدءاً اساسياً. وبهذا المعنى نستمع إلى باختين يقول:" كلُّ كلمة أدبية تشد إليها بدرجة قوية مستمعها أو قارئها أو ناقدها، وتعكس في متنها اعتراضاته أو أحكامه أو وجهات نظره المسبقة فهي ناجحة "*. ومع هذا الانطباع الذي يلامس نازك في جانبها الرومانسي، إلا أنها ايضاً تروم الوصل التشذيبي عبر قدرتها الهائلة بالتفنن التقني، من وازع معطياتها التحويلية، أو بما نسميه هيمنة الإبداع التوليدي المؤسس لأسلوبية تختص بمعارفها هي في فن اسمته "التعديل". الذي تبنته ودافعت عنه، ولكنها في المقام ذاته بقيت محافظة على القواعد المألوفة في ترتيب مدرسة الخليل، في قصائد مثل" "جامعة الظلال، لنكن أصدقاء، مرثية يوم تافه، أغنية الهاوية" هذ حسب ما جاء في مقدمة أعمالها الكاملة الجزء الثاني، حيث اعتبرت نفسها صاحبة التنظير في بناء القصيدة التي تجاوزت بناء الخليل، وذلك بتعديله من نظام الشطرين إلى نظام الشطر الواحد كما بينا سابقاً، ومن خلال هذا النهج الممعن بالخصوصية، نجدها وعبر تحولاتها التجديدية أثرت في جيل من الشعراء تصالحوا مع زمنها، وأجيال أخرى وما زالتر، وبهذه المقدرة تواصل نجاحها مع ذات السياق الذي من الممكن أن نسميه: الاستبدال، أو استنطاق الجديد، الذي اعتبرته الشاعرة حالة تجديدية تميز حداثوية لغة الأديب، وفي ذاك يطلق الشعر جناحيه كي ينعش الحيوية، والسهولة، والإيجاز، في نظم المناظرة بين الشعر العمودي، وتقنيات شعر التفعيلة،
1- باختين، ميخائيل: المنهج الشكلي في علم الأدب، دار الفارابي بيروت، الطبعة الأولى 1965، ص22.
لما حققته هذه الأسلوبية من معطيات نجاح هذا التحويل، وخاصة في الوزن "المتقارب" و"الطويل". وبناءً عليه فالأسلوب عند نازك ليس مجرد تقنية وحسب، إنما هو رؤيا تحتكم إلى تفاعل المعاصرة،
والتكيّف مع معطياتها التجديدية، لذا نجدها أوجزت ولادات ألفاظ تفيض معاني واسعة التشكيل في بنيتها الخاصة، تنم عن انسجام تضافر العناصر المشتركة بين المضمون ودلالاته، كما هو الحال في الطويل، عندما اوصلت زاوية الرؤيا إلى عمق نفاذ صورتها للآخر.
أحبُّ، أحبُّ، فقلبي جنون وسورة حب عميق المدى، أحبُّ فروحي حسٌ غريبٌ، يضيع لديه جمودي سُدى
هذه الأبيات من قصيدة "صراع" من الشعر العمودي، وهنا وظفت الذات أن تطلق الإشارية الإيحائية المتفاعلة تلك التي تستجمع اللغة من أجل أبانة الاعتراف الذي تخاف عليه أن يضيع، وللخصوصية الذاتية تستهوي بلاغة الاستعارة من أجل تفعيل صورة الكلام، ولهذ فهو توليد إضافي، لأنها جعلت من الجنون يصيب القلب، وهذا فاسد بالمنطق، فلو وظفت العقل بدل القلب لاستوى المعنى أكمله ولكن للمجاز شؤون، من جهة أخرى لاقحت "القلب" ب"السورة" وجعلت من الحب المشبه به قابل للتمييز، وفي هذا التناسب حصلت المشاهدة كما لو أن بيانها يحرك الخميرة العاطفة الساكنة في الأعماق، أن تطلق هواها ينبثق من خلد يتحرك فيه التشبيه، لأنها تأمل أن لا يكون هذا الحب العميق يضيع سدى، كون الشاعرة اجريت الاستعارة على مسماها وهو ثابت معلوم "المدى" فنقول أنها عنيت الأسم، وجعلت القلب كصيغة تمتع العاطفة وفقا لنزعة تكابد أوهانا صامتة تناصت مع المعنى، لأنها جعلت "الحب" معلوماً بعمقه كإجراء يجعل من الصفة "الجنون" ملبية لقسمتها المفيدة، لماذا؟ لأنها أرادت للمستعار "الحس الغريب" أن يحقق فعله علناً، أمَّا البيان هنا كونه مستقراً داخل بنية التحويل "سُدى"، فالشاعرة اشتغلت هذه القصيدة بأسلوب "الحامل والمحمول" بنظر ريتشاردز.
من هنا نطرق بوابة الخلاف بينها وبين السياب، فيما يختص بالمعيون التجديدي في أسلوبية التشبيه إلى مشبه ومشبه به، الذي يخضع لقانون الحداثة المعني بأسس الاختلاف، فقصيدة نازك تمتلك كل مقومات فلسفة الحداثة، وكأنها توسوس الشعر فتفعل ذلك على ترتل كونها مثقفة، ولذلك تجد السلطنة منبعثة من تماس الصوت بالحوارية المعتادة في الشعر الأوروبي، ومن هنا حصل الفرق بينها وبين السياب لأن شاعريته أكثر ارتباطا بالمجتمع العراقي الجنوبي، وبهذا كان السياب متقدما في طريقته الشعرية فهو يحاكي الصوت ويقرن الفكرة بالصورة الحاكية، مرسخا منحاه التحديثي بوحي وجدت مكانته في النفس، فقصيدته لها حكم الشفافية وغناؤها، تدفع معانيها المتخيلة إلى القارئ بسهولة.
فلو تأملنا مهارة سلطة بنية النص عند نازك، لوجدنا مقاصد الدلالات الموجبة تتفق في توجيه التأويل مع السياب، وهنا فكلاهما يؤسس بنيات المعاني المتلازمة التي تعكس القيم المادية والمعنوية بتلقي واضح في منطقه، من مبدأ توليف الملائمة الحسية على مستوى اللفظية الموسيقية، وجعلها تتكيف في مضامين بنية متماسكة، تبث مفهوم تحررها وتبرئتها من الغموض والاسهاب، لأن قيمة كل إبداع تنطلق من خصوبته الأصيلة، فيكون الخيال اللاعب التوصيلي الذي يجب أن يخترق الواقعي بتأملاته الحيوية، حتى تتواصل عملية لقاح النواة مع إرهاصات مداراتها التوليدية، التي يجب أن تستفز المتلقي.
ويبقى السياب شاعراً عميقَ الإيحاء والصورة، فقصيدته "هل كان حباً" وأسلوبها الطارف الذي لم يألفه الشعر العربي في حينها، بعد أن اذاع التجديد المكثف، والإيقاع السلس، محققاً أبعاداً غنية في موضوعة دلالات بعدها الذهني الميتافيزيقي، وكأن الشعر عنده حال بوح تساقى فيض الأسلوبية المحلقة بقوامها الرشيق، مما يؤكد إعلان فيض رؤيته الداخلية، ومع نازك فالأمر لا يختلف كثيرا خاصة في الجانب الفني الإيقاعي وبلاغة اللفظة في بناء الجملة الشعرية، كما عبر عن هذا فرنسيس بيكون في الأورغانون الجديد وقوله: "فأنها تزود العقل بالإيحاءات الخاصة بالفهم، وتزوده كذلك بالدهشة الضرورية."*
1- بيكون، فرنسيس: الأورغانون، ترجمة د. عادل مصطفى، دار رؤية للنشر، القاهرة، الطبعة الأولى 2013، ص299.
وهنا تجدني مختلفاً مع الشاعر والناقد عبدالإله الصايغ فيما يروم إليه من حجة: "أن نازك هي التي ادخلت الحداثة الشعرية على القصيدة العربية"، لكنني أرى أن لا نازك ولا بدر لهما الفضل في هذا، بل هو الشاعر بلند الحيدري في قصيدته: "خفقة الطين" المنشورة في أوائل عام 1943. وقد اجاب على اسئلتي في مقابلة معه منشورة عام 1993 عندما كنت وقتها مستشاراً لرئيس التحرير وصاحب الامتياز في مجلة النافذة. لكن بلند مثله مثل نازك كان شاعرا شكلياً يهتم بالشكل التصويري، أكثر مما يتعمق بدوائر الإيماءات والإشارات والتأمل في وجدانية الصوت اللفظي المكثف، الذي يبزغ من جوانية عميقة في بنية القصيدة، ذات البنيات المتحركة في محاورها، المفترض أن تنقي مصبات التكثيف اللغوي والفني في النص.
ومن أجل هذا ولد السياب شاعراً مميزاً، له الفضل الأول بالكشف عن مواطن جمالية وفنية التكثيف النوعي في الشعر العربي عامة، كون الشعر عنده تآزر وتفاعل الإدراكات الحقيقية التلقائية للحواس، المشاع على مستوى نفاذ الإيقاع الدلالي، كروح للمعنى الإشاري المتحول إلى معنى عاطفي، المغزول طوعاً من تلقائية خالصة في الذهن النابض بالمعاني الدالة على صورتها، المستفزة دوماً. ويسميه تشومسكي: "النحو التوليدي" وللسياب الأولوية في إرساء الأدوات أو الآلآت المنشطة والمحفزة لأسلوبية الاختلاف المجدد في بنية القصيدة العربية، وذلك باتاحة الحرية الحيوية في موضعية اللفظة في سياقها السلس، فربات الشعر عند السياب روض خصب يتملاه ويتمثله بعشق ألق يفيض فيه مخاض الحس الخيالي، بحساب وعي تلقائي يلوب في أعماق الذات الشاعرة.
تقول نازك الملائكة عن قصيدتها "مأساة الحياة" وعن طبيعة تأثرها بالشعر الأنكليزي: "كنت إذ ذاك أَكثرُ قراءةِ الشعر الأنكليزي، فأعجبت بالمطوّلات الشعرية التي نظمها الشعراء، وأحببت أن يكون لنا في الوطن العربي مطوّلات مثلهم، وسرعان ما بدأت قصيدتي وسمّيتها: "مأساة الحياة" وهو عنوان يدل على التشاؤم، وشعوري بأن الحياة كلها ألم وإبهام وتعقيد."* بهذه القصيدة كانت الملائكة مغرمة جدا بالكتابات النقدية للناقد الألماني المتشائم: "شوبنهاور" ونازك تعرف جيدا أن الشعراء يعتذرون للقارىء إذا جاء في شعرهم لغة حادة أو منفعلة. فكيف إذا كانت القصيدة مطوّلة بكل هذا التعقيد. ترى هل القارىء يطلب كل هذا الصخب الذي يبوح لإمراض النفس البشرية، بدل أن ينعش روحها، ويعالج مأساتها؟ أما عن الأولوية أو الأفضلية لمن أدخل الحداثة على الشعر العربي نقرأ نازك وهي تعترف بهذا: "وكنت في عام 1946 أنوي أن أقدم المطولة للقراء بعد مجموعتي الشعرية الأولى "عاشقة الليل" وعندما طبع هذا الديوان كان في آخره إعلان صغير عن "مأساة الحياة" ولكن الظروف حالت دون ذلك. فأصدرت مجموعتي الشعرية الثانية: "شظايا ورماد" عام 1949 وهي المجموعة التي دعوت فيها إلى الشعر الحر."* هذا يقين قاطع أن الشاعرة تعترف بنفسها أن أول قصائدها التي تدعو بها إلى التجديد كانت عام 1949 "مر القطار" بعد قصائدها التي تقدمت مجموعتها "شظايا ورماد" وهي: كبرياء، من الشعر العمودي 1948 \ يوتوبيا الضائعة، من الشعر العمودي 1948\ تواريخ قديمة وجديدة، من الشعر العمودي 1948 \ صراع، من الشعر العمودي 1947\ عندما انبعث الماضي، من الشعر الكلاسيكي أو الاتباعي، وهي غير مؤرخة. والقطار قصيدة جميلة جداً، سوف نأتي على دراستها.
1- الصايغ، عبدالإله: موضوع بحثي، "جيل الرواد حسب التسلسل الريادي"، موقع النور 2017،
2- الملائكة، نازك: ديوان نازك الملائكة، دار العودة بيروت، المجلد الأول، 1986، ص6.
في عام 1950 أخذ أسلوب الملائكة بالتطور الملحوظ، فقد بدأت حياة شعرية جديدة، خاصة بعد إعادة النظر في القصيدة المطوّلة الكلاسيكية، بعد أن عدلت من مسيرتها التشاؤمية، تبدلت تلك القصيدة "مأساة الحياة" إلى فسحة تفاؤل ووضوح. فجاء ديوان: "عاشقة الليل" الذي من شأنه أن يدشن الملائكة كشاعرة محترفة، ومنذ ذلك الحين أخذ مجموعة من الشعراء منحى تجربة الملائكة يؤثر في أعمالهم إلى حد بعيد، نظراً لاستقلاليتها الشعرية، وجودة شخصيتها الثقافية المقبولة، وخاصية أسلوبها النقدي، الذي أخذ يلوح تأثيره على الشاعر والناقد والمتلقي المثقف بآن، وبهذا تكون قد حققت قفزة أدبية نوعية بسياق البناء الصوتي المعنوي. وبداهة فإن طرق الملائكة لأبواب النقد في هذا التطور المبكر من حياتها، بتصوري هو أهم خبر يجب أن يعرفه القارىء عن حياة هذه الشاعرة القديرة، فكانت نزعتها التجريدية منذ وعيها الشعري الأول قد طغت على نتاجها الشعري الناضج في مساحات إيقاعاتها المتجانسة، كونه خرج عن الأنماط الثابتة في الشعر العمودي، وقوالبه الجامدة. فجاء شغلها التجديدي يقوم على مفارقة بنية المحصل النوعي في مكونات النهج التعبيري، كونه إحدى الطرائق التي تعمل على تنشيط المخيلة المبدعة، يدعمها الوعي النقدي المتمم لمسارات قراءة حاسية الصوّر المتخيلة.
وفي غضون هذه الفترة الأولى من تبنيها الشعر الحر، تعرفت الشاعرة على فلسفة البروفسير الهيغلي: "برادلي" والمعروف عن هيغل هو صاحب المدرسة الجدلية المهتمة بصراع الأضداد. ولسوف يكون لهذه الثقافة المادية الجديدة أثرها الواضح على أعمال الشاعرة في قصائد مثل: "الكوليرا" و"الراقصة المذبوحة" و "اسطورة عينين" و " انشودة الرياح" في أجزائها الخمسة.
كذلك أغرمت الشاعرة بالشعراء الأوروبين وخاصة الشاعر الأنكليزي كيتس، فكتبت له قصيدة جميلة حملت ذات العنوان لقصيدته: "Ode to Nightingale" وترجمتها للعربية: "مسلك العندليب" خاصة وأن كيتس كان شاعراً ميتافيزيقيا، ميالاً في حالاته الاجتماعية إلى التناقض، عبر مسلكه المنطوي على جعل الروح مكتأبة ومطيعة للوحدة "Depressed"، وبهذا نجده احياناً الرومانسي الحاد، وفي احايين أخرى: نجده الواقعي الذي يعيش تصوراته الإدراكية كما يتملاها ويتمثلها بعفوية، ثم يمضي على نحو خاص يستكمل بحثه، متخذاً من الأساليب المعاصرة التي كثرت فيها المقابلات، بين ما يرشح له السياق وما يدل عليه. أما في الجانب الفني تجده: تارة متصالحاً مع الرمزيين الفرنسيين، وتارة أخرى نجده مختلفاً معهم، لا سيما لافروغ، وكوربير، وبودلير، ورامبو، ومالارميه.
وعلى واقع المنهج ذاته نجد علاقات الملائكة مع الشعراء المحدثين ليست على وفاق، خاصة مع جماعة الحركة الرمزية من الشعراء العراقيين، وكأنها تطبق مسلكية كيتس على حياتها الخاصة مع شعراء جيلها، بما يتعلق في خلافاتها مع البياتي صاحب نظرية المؤامرة على شعراء جيله، كما أكد وأوضح الشاعر والناقد عبدالاله الصايغ في إحدى دراساته. لكنها في الوقت ذاته كانت متفقة ومتصالحة مع النقاد العرب أمثال: الناقد جبرا أبراهيم جبرا، والناقد المهم عباس محمود العقاد وآخرين. وفي خضم هذا الصراع لم تجد الملائكة بداً من أن تتوج ثقافتها المنوعة، أن تتجه ببحثها عن اكتشاف الفضاءات المتحولة عبر آفاق المعرفة، القديم منها والجديد، ومن القديم لامست الفلسفة الأفلاطونية، القائلة، ما معناه "أن الروح تشبه القصيدة"، وقد نجحت في هذا التفكير الذكي، لأنها رسمت من الروح كلماتها، وأذاعت فيها نبض الحياة لاسيما في قصائدها: "خصام \ لحن للنسيان \ مرثية يوم تافه". وما كان عند الملائكة لم يزل من جمهورية أفلاطون عالقاً ومصاحباً تمنيات البحث في موضوعة الجناس والمقابلة، باقامة الجمهورية المشاعية الجديدة، على أن تطلق الحريات تنوعها على أوسع مدى، كما أود أن اتناص معها في هكذا تفكير من منوال مجالي المنظور الناطق بتمثلات معرفة الذات، التي تنشد للحريات مصباتها الإنسانية كوني مؤمناً بها.
ولسقراط رأي في هذه الجمهورية، أي جمهورية أفلاطون وقوله: "تكون الصورة بالنسبة إلى الأصل بمنزلة موضوع الظن بالنسبة إلى موضوع المعرفة*".
1- زكريا، فؤاد: جمهورية افلاطون، ترجمة فؤاد زكريا، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، لبنان بيروت، الطبعة الأولى 2013، ص 318.
وما المدينة الفاضلة عند نازك إنما هي اللغة، ندخل إليها من منظور الإحتدامية الجدلية التي تمنح الاختلاف خصوبة، وأما بلاغة الأدوات فهذا تابع لبلاغة أفكار الشاعرة نفسها، فتكون هذه الخاصية عبارة عن وحدات تصنع نصاً يقوم على منح صاحبه المنبر الذي يناسبها، وما المنبر المناسب لنازك: إنما هو المهارة المعنوية التي نشأت عليها شخصية الشاعرة. وهنا نقتطف من قصيدة "غرباء" هذا المقطع الذي يدلنا على صحة رأينا في هذا المحور:
أطفىء الشمعةَ واتركنا غريبينِ هنا
نحن جزءان من الليل فما معنى السنا؟
يسقطُ الضوءُ على وهمين في جفن المساء
يسقطُ الضوءُ على بعض شضايا من رجاء
سُمّيت نحن، وأدعوها أنا
مللاً نحن هنا مثل الضياء
غرباء
ومن أجل هذا يحق لنا أن نسلط الضوء أكثر إمعاناً وتركيزاً، بدءاً من حل مفاتيح رموز فلسفة الملائكة، وذلك بالنزول إلى عميق أغوار الطاقة الإيحائية التي وسعت طاقات إنتاجها الإيقاعي السلس في الملقحة الدرامية، فما من شيء يرعش الشعر الثري، إلا أطر الرؤى المسحورة في تمثلاتها المعراجية، المؤهلة بحصانة أجوائها الخاصة. التي ما انفكت تسقي الذهني عندها كمال رعشة الصورة، التي تحقق نمو الإخصاب الوجداني في حقلها، المؤثر إيجاباً على إنتاج المحصول الخصب، المهيأ دائماً على محاسنة صوّر الإدراك الحسية، المعكوسة بكياستها على الآخر كمرآة تعكس حقيقة التكوين، من منظور يعبر عن إنطباع التمثلات البينية العاكسة لحقيقة الاستبدلال في أسلوبها، المنبسط في عالم مرئي يثير الإحساس في جوهر المنحنى التجديدي في مملكة لغتها الفاضلة. كما عبر ابن رشيق في هذا قائلاً: "وإنما الشعر ما أطرب ، وهز النفوس، وحرك الطباع، فهذا هو باب الشعر الذي وضع له، وبني عليه، لا ما سواه"*
تمتعت الملائكة بموهبة فطرية فذة، على اعتبارها امتلكت تجربة كبيرة على مستوى التركيز، من حيث الانسجام الروحي في بناء القصيدة، وليس على أعتبار البناء التقني الاكاديمي. لأن التقنية في أرقى حالاتها تصاحب التأليف، وجماعة هذا الأتجاه "التأليف" قد يمتلكون ناصية اللغة، لكنهم لا يتمتعون بالفطرة الحسية في مجالها التخيلي، الموحي بتماثل وتناسق التصورات بالمكان الجزئي في العقل حيث بلوغ غاياته الإبداعية القصوى، إلهام لا يتماشى مع مثنوية الرفض والقبول، لأن العقل في هذه الحالة يكون مؤهلاً لوظيفته الإشارية الجاذبة لحالتها الحسية. ولذلك نجد الشاعرة قد امتعت صورتها الشعرية بموضوعات أقرب إلى مفاهيم تحوي نواتج الخيال الإيحائي المولدة لتكنيك يستولد انفتاح مصبات الجذب الخيالي، مع مشترك الإدراك الثقافي، والذاكرة الحسية، من إدراك واضح في الصيغ الصرفية حول بناء التحولات الإدراكية، التي تخصب النشاط الوسيط للخزين الثقافي في الذاكرة، "Working Memory".
ولو أننا مددنا بساط التنوع الإبداعي في حقل رياض الحركة الأدبية، واجلسنا عليه الأغنى شاعرية التي تخصنا في هذه الدراسة، لوجدنا شاعرات على مشوار نازك، أو ممن مشين على طريق الإبداع الصافي، أو اللآتي اقتربن منها، وقد تطول القائمة، لكنني أذكر في هذا الفصل، ما أراه محصناً بإبداعه النقي، لا على اساس الفكرة القائلة: "فاسمع وعِ القول كما سمعت". ومنهن:
* هيام قبلان الشاعرة الفلسطينة: التي حققت الأبعاد البلاغية في محسنات اللفظة، ونقحت اللغة إلى مسارات يستقيم فيها الخلق بأرقى غاياته.
1- ابن رشيق: أبي علي الحسن القيرواني: العمدة في صناعة الشعر ونقده، مطبعة السادة، الطبعة الأولى 1907، ص107.
* دكتورة هناء القاضي: الشاعرة التي تعني أن الشعر معنى حاصل في الروح، يستقيم كونه أداة لملاقاة المعنى بالوتر الصوتي في محاكاة الدلالة.
* الشاعرة التي عثرت عليها حديثا في مساراتي البحثية هي: بلقيس خالد، التي دلقت في مصب الشعر وجدانا مثالياً يداعب الروح الهائمة، سواء أكان في شعرها، أو في علاقاتها الأدبية الموزونة بالتضحيات الأكثر مدنية، وهي تتواصل في النشاط الخلاق، بجمالية مهارة ثقافتها.
* خالدة خليل الشاعرة التي لازمت بين الحرف والصوت، وهما إضافتان نوعيتان للشعر، فإذا كان الحرف جوهر الكلمة، فالكلمة تكون جوهر الجملة، والجملة جوهر النص، وهذا جناس يؤسس لطباق فني مميز الرفعة، أما الإضافة الثانية فالصوت عند خالدة أشبه بالانسياح اللوني حين يلامس العاطفي، فيثور الشعر في روحه، وكما يقول ابن رشيق الشعر لا يكون شعراً إلا إذا أحدث انفعالاً خاصاً عند المتلقي، هذا إذا اتفقنا على مبدأ قول لنين "إذا استطعت إقناع شخص ما، فأنا ناجح" .
فما من مشترك ثقافي يمتلك حقيقة البديل النوعي، ويحترم مشروعية إنتاجه، يجب أن يذكر أو يتناول هذه الأسماء المهمة على الساحة الأدبية الشعرية. لأنه ما من كتابة تحترم سدنة هويتها، يجب أن تنحاز إلى المألوف بنكران الذات الخالصة في هذا الاختيار، وأن لا تتماشى مع طريق آخر يتمثل بالإنحطاط الإغرائي على أن يصحح هذا الشاعر أو ذاك لهذه الشاعرة أو تلك، فتكون تلك "الشاعرة" اعظم "واحدة" في التاريخ. فتنهال عليها كتابات لا تعد ولا تحصى من "الحرشة" بواجهة غزلية، وما بهذا المديح من الحشو عديم اللون والطعم والذوق.
خارج هذا السياق يمكن لنا أن نتصور قصيدة الملائكة يحققها النسق الإبداعي عبر المنجز التخيلي من رؤية ذات وجهين:
أوّلاً: المحصل الثقافي الذاتي، والمضاف إليه من مدركات الوعي الخارجي، أي الاحتذاء بالنظار والفصحاء، أمثال مصطفى جواد، وطه حسين، ومهدي عامل صاحب البنيوية التي أسهمت في بنية حداثوية مميزة.
ثانياً: تأثرها بالوعي المجتمعي المحيط بالدائرة الضيقة حولها، من أدباء، ونقاد، ومثقفين ثوريين، والملازم النوعي الآخر هو المنجز الثقافي العربي والغربي وتلاقحه مع وعي الشاعرة، وقدرة تأثيره عليها.
من وعي هذه الصفحات الفاعلة، أخذ التأسيس النوعي عند الملائكة يطلق حرية الانتقال في الصورة الشعرية المضيئة في نصوصها، الموحية لمعطيات قد لا تكون ملهمة لمشاعر المتلقي العادي في صعوبتها، كما سبقها دانتي في فلسفته الأحادية، والمتأثر به إليوت، وأستطيع القول إن الشاعر الإلهي دانتي بان تأثيره واضحا في بعض قصائدها مثل: "الأفعوان" "الكوليرا" "ثلج ونار" وبعض آخر من نتاجها الأدبي، كما هو الحال في تحولاتها النحوية، خاصة في قصيدتها القطار، ومن ثم تأثرها بالشاعر الهندي المعجزة طاغور، والفرنسي أدغار آلان بو، والشاعر الأنكليزي روبرت بروك. وكأننا نقرأ الملائكة إنعكاساً يصبح تفكيراً ناطقاً بالصور المحاكية لمركبات الصورة الغربية بدقتها.. كخيال الظلمة، والموت، والقنوط، والنهايات المغلقة، والحلول الملحقة بالتشاؤم، وهذه الأدوات اصبحت السمة المؤثرة في بعض بنيتها الصعبة، هذه المفردات وأخرى نجدها واردة في النصوص الشعرية الغربية، التي نتبينها واضحة الصفحات المعنية بالاحلام، والمرايا، والاشباح. ومع هذا نجد المراحل الأربعة المؤثرة في اضطرابات العامل النفسي المؤسس لبنى النمو والارتقاء، في عالمها الذي تتحكم به التراجيديا المعكوسة في جواب الصوت الحاكي في ثقافتها الطردية وهي:
1- العقل الانفعالي ومصباته الإدراكية الأصيلة.
2- الفهم الموسوعي ومنابعه المتعددة.
3- الاعتقاد الإيهامي وبواعث مؤثرات الأساطير.
4- موسوعة التخيل التشكيلي النفسي.
ومن خلال بنية تأثير هذه العوامل، تتلاقى مرتبات إبانة التفاعل الثقافي في إعادة مفهوم البنى التركيبية المُحدثة للنحو التحويلي في مثالية النص، من قرار تنشيط فاعلية تأملات الذات، المانحة الحقيقية لمأسسة نواة توليد الطاقة التوليفية، التي تمنح الشعر حيوية وفيض يبقى ماثلا في مخيلة القارئ. وهو الدليل الأهم الذي يجعل من الشاعرة أيا كانت تمنح اليقين الناجع لمقبولية نصها، وهذا ما يدعونا إلى الاجتهاد في الكشف عن أسرار النص في تفكيرنا الاستقرائي من معيون أبعاده التوليدية، وذلك بتأكيد الإحاطة أن نكون ملمين بسبر أغواره اللامنتهية، ذات الشأن المتجلي في استرخاء العمق التعبيري، فيما تطلقه بلاغة الملائكة من شجن، وذلك بقدرتها على محاكاة الدقة في طابع اللغة الانزياحي، عبر صور قل نظيرها عند شاعرات جيلها، الأعمق والأكثر كثافة في النوعية، وصفاء تجليات خيال التوحد الروحي الميتافيزيقي، المؤكد على صفاء معادن أدواتها الواضح فعلها في محسنها الشعري. فقد تأسست حياتها منذ ولادتها الشعرية وحتى موتها عبارة عن قصيدة لا تنتهي، وإن تراجعت شعريتها في الآونة الأخيرة، وربما نكصت نكوصا واضحاً. لكننا وجدنا الملائكة دائمة التقرب والتواصل والتعاطي المميز مع المنجز الشعري العربي والعالمي، خاصة ما تمايزت ثقافات شخصيتها السحرية، بتناص مع قامات عالمية مهمة، وارتباطها بفلسفات تعبر عن القيمة النوعية كالفلسفة الدانتية، والكانطية، كذلك الحال عند بلويلر ويونج، وبول ماتيك، والماركسي أنتوني بانيوك، وكارل كروش، طبعا مع تطورات التميِّز التحويلي عند كل كاتب من هؤلاء، من خلال نمذجة مفاهيمهم الخاصة التي انعكست بقوة على المسرح التنوعي الثقافي.
كل ما تقدم من تبيين، هو إلقاء نظرة على حياة وأسلوب وثقافة ومميزات الملائكة، التي اوضحنا فيها عن نتائج تخصنا في هذا البحث عن الفترة التي تلت شعرها الكلاسيكي، ولكن حين نقرأ الاختتامات، أي تمام الغرض في شعرها، عند ذاك نفهم الملائكة على حقيقة إبداعها الصعب والغني بآن. وهي تطبق عبارة برنادشو: " اللاقاعدة هي القاعدة الذهبية." وتدافع عن هذه الفلسفة قائلة: " لسبب هام، هو أن الشعر وليد أحداث الحياة، وليس للحياة قاعدة معينة تتبعها في ترتيب أحداثها."*
اعلنت الملائكة على أن قصيدتها "مر القطار" من القصائد المهمة، الفاعل أثرها في الحركة الشعرية العربية والعالمية، فقالت عنها: "غرضي االأساسي من كتابتها أن أعبر عن الشعور الغامض الذي يحسه المسافر ليلاً على الدرجة الثالثة بالقطار." إذن دعونا نسافر مع الملائكة في قطارها:
مر القطار
الليل ممتدُّ السكونِ إلى المدَى
لا شيءَ يقطعُهُ سوى صوتٍ بليدْ
لحمامةٍ حَيْرى وكلبٍ ينبَحُ النجمَ البعيدْ،
والساعةُ البلهاءُ تلتهمُ الغدا
إذن: القطار، الحمامة، الكلب، الساعة أو الزمن، الركاب، الغبار، العجلات، النجوم، التلال، المصباح، الظلام، الحقائب وغيرها من أدوات عمقت الألطاف في بنية المعاني، حيث نجد في أغلب قصائد الملائكة التأثر بالواقعي الإلهامي المباشر، ومقاربة النحو الشكلي في معالجته بما يحتويه الواقع من أحداث وتهيئات، فقد ساقت للقطار افعالاً تشابه ثقل زمن تلك الرحلة، ضمن سياق مرتبط بالمحور النظري الملازم للحوار شديد الاتفاق، لما تتحسسه الذات الفاعلة المرتبطة ارتباطا نوعياً بالوعي المتفاعل مع حالة الزمن، كل هذا يتمثل في البنية الفلسفية للفكرة، من خلال لغتها الفطرية الاستقرائية الفنية التي ارتقت إلى ولادات النمو الصوتي الإبلاغي، الذي يمكن النفاذ إليه عبر قراءة مرنة، تكشف عن فضاءات تعاين قسوة القيود الصناعية على راحة الراكب،
1- الملائكة، نازك: ديوان نازك الملائكة، المجلد الثاني، دار العودة، بيروت، الطبعة الطبعة الأولى 1986، ص 7.
وهنا تقوم مقاربة المبادئ والوسائط الفنية تحدث إشباعاً نوعياً يرضي الذائقة التلقائية غايتها، بأستثناء الفرضيات اللسانية التي يفقدها صوت الحمامة، ونباح الكلب من خلال اختلاف اللغة، فقد جاءت هذه الملاقحة أشبه بتمييز الخصائص الكلية على ما يتم من توافق في تنظيم تحول التجاذب الصوتي شديد الحيوية، بما يطلقه ألق الذكاء الاستعاري.
مع أنه شديد الاختلاف خاصة في المقطع الأخير من جملتها الشعرية: "وكلبٌ ينبحُ النجمَ البعيد" والشاعرة هنا تقصد: الكلب المناجي للسماء برفع رأسه إلى الأعلى وهو نوع من أنواع التجلي بأثر الوحدانية التي تصيب الكلاب خاصة، فيتحول الصوت وكأنه يشتكي نجمه. أما الحمامة المعروف عنها إنها تتمتم في الليل وتطلق هديلها، هذا ناهيك عن قول الشاعرة على نحو واع في انسياب البنى الصوتية وتأثيراتها المرنة على مجمل البناء التقني في قولها: "لا شيء يقطعه سوى صوت لحمامة حيرى..." واللام التي تتقدم الأسم "الحمامة" هي لام الانتساب "ضمن حروف المباني" أو توكيد الرابطة الفنية، وقد أصبح الرمز "الحمامة" مقياساً للوظائف الحسية، بجهة رد الفعل النفسي. يقول غالتون: "الأفكار الإبداعية لا تزود إلا العقل المهيأ لها، ما ينبغي أن تقوم به هو ألا ترددها على نحو ببغائي، بل أن تضيف إليها من ذاتك وخبراتك وانفعالاتك"*. وتأكيداً لهذا الرأي نجد أن الموصول الدلالي: "الحمامة" التيمة التي لاقحت الملازمة المتمثلة بوعي الرمز، نجدها قد احاطت تطابق نسقها بالمقابلة وأشكالها، فأصبحت الحمامة الفائض التقني لطبيعة النسق المضاف، هذا إذا احتكمنا إلى مشروعية التأويل، فيكون التأويل يمنح الدلالة قوة اكتساب المعنى لمشروعيته، فإذا كانت الشاعرة تشتكي من عثرات الراحة في القطار، فهديل الحمامة شكوى روحية دائمة تنادي من يخلصها من حزنها الأزلي، ويعيد لها ابنها التائه، كما تحدثت بهذا الأسطورة. *
وهناك في بعضِ الجهاتْ
مرَّ القطارْ
عجلاتُهُ غزلتْ رجاءً بتُّ أنتظرُ النهارْ
من أجلِهِ .. مرَّ القطارْ
وخبا بعيداً في السكونْ
خلفَ التلال النائياتْ
لم يبقَ في نفسي سوى رجْعٍ وَهُونْ
وأنا أحدّقُ في النجومِ الحالماتْ
أتخيلُ العرباتِ والصفَّ الطويلْ
من ساهرينَ ومتعبينْ
أتخيلُ الليلَ الثقيلْ
في أعينٍ سئمتْ وجوهَ الراكبينْ
في ضوءِ مصباحِ القطارِ الباهتِ
سَئمتْ مراقبةَ الظلامِ الصامتِ
أتصوّرُ الضجَرَ المريرْ
في أنفس ملّت وأتعبها الصفيرْ
هي والحقائبُ في انتظارْ
هي والحقائبُ تحت أكداسِ الغبارْ
تغفو دقائقَ ثم يوقظها القطارْ
وُيطِلُّ بعضُ الراكبينْ
متثائباً، نعسانَ، في كسلٍ يحدّق في القِفارْ
"وهناك في بعض الجهات مر القطار"
وهنا اجلستنا الشاعرة على مقاعد القطار المتربة، وادخلتنا في المناخ التخيلي، القائم على التمثلات، أو غرابة الإحساس، وقد نسميها المنازعات النفسية، عبر أدوات تحاول من خلالها معالجة ما ينتج من تصورات وآلام تنتجها الانفعالات والألغاز، وهي صوّر رؤيوية إشارية تعتمد على المشابهة والتوقعات، تاركة الفرد يعيش في دوامة من الغرائب، والأحكام، وفقدان طاقة التركيز على ما ينتج من الجو الانفعالي من حوله، في قولها: "مرَّ القطارْ \ عجلاتهُ غزلت رجاءً بت أنتظرُ النهارْ \ وخبأ بعيداً في السكون \ خلف التلال النائيات."، إذا اجتهدنا في غربلة هذه الأفكار وفك رموزالصوَّر الشعرية، نجدها قد مرت بمصفاة كيتس واستلهمت آثاره، كونه مجرباً مميزاً على مستوى الايقاع، بيد أن نازك اخضعت المسافر لسلطة الرتابة الصورية الواقعة في البنية التشاؤمية، بسبب قياسات النبض الداخلي المرتبك الذي لم تعتده نازك، خاصة الجانب المختص بالرمزية السياسية في جوانبها الشعرية، وهذا تعبير آخر يأخذنا إلى الخصوصية النوعية فائضة القيمة الحسية، والمُبَسْطةِ في واقعيتها، كونها اذاعت تجلي صورها من باطنية محاكاة الموهبة النافعة في اليقين الشعري، وإن تعثرت قليلاً فيما يختص بما يعارض المباني الفنية على المناقضة. لكنها وفي سياق آخر ذكي اعادتنا رمزيتها إلى المراحل الأولى لعصر التمدن، وحال لسان شعرها يقول:
كلما زاد العالم تمدنا، كلما زاد العراق تخلفاً، رغم خصوبة تربته البشرية، وذلك بفضل حكامه الأشرار، كأنهم يعيدوننا إلى المراحل البدائية للتطور البشري، فتجدنا نحاول أن نشرع بإعادة قراءة إمكانات جديدة لأكتشاف الذات الحرة، وهذا ما تعنيه الشاعرة في قولها: "بتُ أنتظرُ النهار" أي ما تربو إليه النفس من متعة إشراق التمدن ومفرداته التنويرية، وحال القطار يشق الظلام عبر تلال نائيات خاليات من البشر، ومما يزيد من عزلة الراكب في هذه الثلاثية ذات القوائم الحادة: الآلة المتخلفة \ الزمان \ المسافر، تنتج احتمالية طرائق الخوف الترجيحية على مداها المعقد، حيث تصبح الحلول المرنة مستحيلة، أو على الأقل غير وارد بما يمتع نفسية المسافر على الدرجة الثالثة، وهذا يشير إلى أسباب الملل والارهاق، مع افتقار هذا القطار إلى وسائل الراحة، فيصبح السكون الذي يحيط بالقطار شبحاً مهيمناً يتفاعل سلباً مع النوازع النفسية المستعينة على التركيز العقلي وفواعله، التي يجب أن تتحلى بالمسلكية الإنسانية وبالحكمة في مراحل السفر.
ولذا فقد عملت نازك بهذا الاتجاه الذي يحتكم إلى جملة من التباينات، أن تشتغل على منهج التسوير والحصانة في احادية قانون منهجها الخالص، في نقاط قابلة ومطروحة لنقد النقد، نضعها في منطقة الجدل والحوار وهي:
1- ما يؤهل إلى قطع التوازي بين: الصوت والمعنى في النظم البنائية.
2- ما يتفاعل مع بوح جمالية الترتيب الذي يصاحب فعله.
3- ما يتضاد بين الوظيفة المرجعية، والوظيفة الانفعالية، فينتج النص المعجمي مختصاً بالناقد أو الشاعر، والمثقف الثوري.
وكأنها تحاول أن تدلنا على بلاغة مهاراتها الخاصة. لأن البلاغة قد تكون في كل النص، وقد تكون في مكان ما في النص، أو قد لا تكون كلياً، كما فعل ماركيز الروائي عندما قدم في أعماله الرائعة ما يكون مُعْجِزاً، جعله حاصلاً في النظم الإحصائية، عبر تخصيب بلاغة السرد المنعش للتلقي الذي يشد القارىء عبر بلاغة كل العبارات الحاكية. وهذا ينطبق أيضاً على ما تبناه بورخيس البروفسيور. وبودي أن أشير إلى أن وجوب قيمة كل إبداع إنما ينحصر في مساحة قدرة الأدوات النوعية، التي تعمل باتجاه تبلور بناءات مفاهيمية تحاكي أحلام الإنسان وتمنياته العاطفية، وتلك معطيات اعتبرتها الشاعرة إنجازاً: يرفع من مستوى الاستبدال إلى مستوى استنباط يؤسس ويفعل أحكام النسق إلى رؤية جديدة، حتى يمنح التمثيل الفني بلوغ سطوته على القارىء، عبر ايماءات وليدة الإبداع في تخيلها العميق، تكشف عن علانية ديمومتها التفاعلية، وذلك باطلاق ثقافة المعنى إلى رحاب أوسع
1- غالتون، فرانسيس: "حركة القياس النفسي"، سلسلة عالم المعرفة، تأليف د. محمد طه، مطابع المجموعة الدولية 2006، ص 25.
لكي تكسب ثقة القراءة بجديدها. يقول الشاعر الناقد الانكليزي ستيفن سبندر مع قليل في نقد الأنوية: "المطلوب من الشاعر أن يجد انسجاماً بين ذاته وذات المجتمع. ولكنه أبى لنفسه أن يكون من زمرة الطبيعيين".
وكأن ليلة القطار لم تنته: "ليلة من ألف ليلة وليلة" ليلة أشَدّ قسوة على الراكب وقولها: "في أنفس ملت وأتعبها الصفير". وهذا ظاهرٌ معناه لمن يتأمله، فشدة السهر على الإنسان بانت بوضوح في قولها: "تغفو دقائق ثم يوقظها القطار". في هذا المقطع أجادت تنزيل المحتمل أن لا يكون محتملا. وهو تصرف في التأويل لما تقيمه من تنشيط دقيق للبراهين عبر سعة مدلولاتها، وهذا الأسلوب أصبح قانونا للملائكة، ومن جاء بعدها من شاعرات، لم يخضعن التقنية لمفهوم المناقضة ما بين الفلسفة والشعر، على أعتبار الشعر ليس بيانا يحكمه الإرشاد والنوايا الخطابية، أو النظريات المعقدة، أو أفكار منهوبة من هذه الصفحة أو تلك، إنما الشعر وحي بلاغي منسق أُحْكِمَتْ أوزانه، وتعددت معانيه، وفُصلتْ غاياته، فكان وما زال هو المهد الذي يتسع الأغاني، والمعرفة، والدلالة التأريخية، من طور قديم إلى طور التجديد، بفعل الحداثة العلمية والثقافية والمجتمعية التي طورت حاصل الإلهام المبني على التنويع أن يجنح إلى لزوم يلائم طبيعة التطور العام المعكوس ايجاباً على بنية النص الشعري. عبر لعبة رؤيوية تفاعلية تعتمد محاسنة الأداء الإبداعي، الذي يجب أن يحدث إشباعاً في الأشكال الشعرية المختلفة ومنها ما تهتم به الأفكار الموحية للإلهامية المكتسبة، ومنها موهبة خالصة ونقية من العث والرداءة والتسفيط.
وهذا يعيدنا إلى المقدمة المتجانسة في خصوبة الألفاظ المحركة لباطنية المعنى، بوصفه أي الشعر يؤسس لنظامٍ حسيٍ يكشفُ لنا عن الدلالات الخصبة في البوح الفائض من منبع بعدها الإيحائي، بحيث يشعر القارىء بتفاعله الايجابي مع المشاعر التي تنتجها الهوية القيمية الجمالية، من خلال تكوينات المنتج الإبداعي الذي أذاع فهماً متعدداً، وهو يكشفت عن الملموس السلبي أو الأيجابي في النظم التوليدية، ولذلك جاء أجتهاد الشاعرة أن تكشف لنا من حيث رمزها "القطار" عن الفارق بين الدكتاتوريات العربية، وبين الحضارة الأوروبية، فتقيم التبادل الواعي المتكافىء بين: الوعي المقصود، واللاوعي الفاعل، على خط مستقيم من الأقدم إلى الأحدث، ومن الأرقى إلى الأبسط، وهذا ما يوعز أن الفكر الغربي المتأثرة به الشاعرة، ساوى ما بين التطور والحداثة، والفكر العربي ساوى ما بين الدكتاتورية والتخلف. وهذا ما توضح مؤخراً عند غارودي في كتابه: "نداء إلى الأحياء" والذي تمثل في المنحى الفلسفي على مستوى الذكاء الجريء، لكنه من حيث التأثير الفعلي لم يصل إلى درجة النبوغ كما هو الحال عند غوركي، وتولستوي، أو نابليون، أو دافنشي، أو نيوتن، أو جاليلو، أو كما جاء في المعرفة الكلاسيكية واتجاهها النقدي عند بيار كلاستر، الذي رأى أن النظرة التطورية إلى التاريخ تعكس نظرة الإنسان إلى ذاته. والمعنى بهذا السياق يأخذنا إلى مبدأ الحوار مع الذات الشاعرة، فالشعر إن لم تكيفه سلطة الميتافيزيقيا يصبح النص فاقداً وضوحه الإبداعي، حتى إذا كان النص عاطفيا يخضع لتزويق الأسوب بحرفية معينة، وحتى يكون الشعر منبعه الإشراق والإيحاء، يجب ملاحظة حركية البعد الإلهامي الذي يهيء طاقة توحي إلى وجدانية المعنى، وأبعاد تنوع دلالاته الروحية، وثرائها الفطري النابع من خصوبة الرؤيا والخيال المفتوح على المدى التنويعي. وإذا احتكمنا إلى المجاز، على اعتباره مخلصاً اعتباريا للاجتياز الدلالي من الشكلي إلى الرمزي، فهذا لا يعني إسقاط أو تقويض البناء الملحمي على صيغ تحتكم البلاغة في منحاها، فعدم استغلال أو تبني قوة الألفاظ، تجعل من القصيدة تابعية للكلام المتعارف عليها في الجناس الشعري الشائع في الاساليب القديمة التي أضعفت شفافية التوصيل. ولهذا نقول على الشاعر أن يجدد أدواته وثقافته ومعاصرته، حتى لا يكرر نفسه، وكما قال جوته: " "يمكنك أن تصنع الجمال حتى من الحجارة التي توضع لك عثرة في الطريق" بمعنى يجب أن لا نكرر أخطاءنا كما فعل هاملت بقوله: "أيها القلب تحطم، لأن عليّ أن أمسك لساني". هذا يدلنا على أن الشاعر يجب أن يكون جريئاً، منفصلاً عن الأفكار المنحطة التي تقيد حرية الشعر، وتقبره في منحى بعيد عن الشاعرية الأصيلة.
1- غوته، يوهان: من أقوال غوته عبر ويكيبيديا.
إذن فالقطار يمر محملا بالتعب وإنهاك المسافر من تجمع الغبار على المقاعد والحقائب، وصفيره الممل والمتعب للراحة التي طال انتظارها، والقطار يتمايل يميناً ويساراً كتمايل السفينة بفعل الأمواج العاتية، وقولها: "أتخيلُ العرباتِ والصفَّ الطويل" مع أن هذا القطار يسير في بلد النفط، الغنى بتنوع موارده، وكثرة مياهه وزراعته، وتنوع المعادن فيه. لكننا لا نجد الحاكم العربي يبحث في مجالات التطور فيما يختص بالصناعات والابتكار، بقدر ما نجده متحولاً بحالاته الخاصة إلى وحش مستتر خلف الخطاب الوصولي، عندما اختارت الملائكة سير القطار في الظلام، إنما نوت بنسبة معينة أن تظهر البعد الدلالي السياسي والتعبير عنه، في قولها: " لم يبقَ في نفسي سوى رجْعٍ وَهُونْ \ وأنا أحدّقُ في النجومِ الحالماتْ" ولم نبتعد كثيراً فالذاكرة الإنسانية ما زالت تحتفظ بعصر الظلمات، عندما كان الإنسان بنظر الحاكم ما هو إلا شبح مطيع لأوامره، فمنذ العصر الأموي وليومنا هذا، بقي العربي مسيراً تقوده السياط والركلات القاسية. وما الفرق بين عصر العبيد، وسلطة الدكتاتوريات العربية المنحطة، فالشاعرة متألمة من جهة أن هذا البلد يحكمه الجهلة، جماعة من الفاشيين، والطائفيين القدماء والجدد. فالظلام هو ظلام الأنظمة القاهرة لشعوبها، ولو تصفحنا تاريخ هذه القصيدة لوجدناها مكتوبة عام 1948 ، في العهد الملكي، وكان يرأس الحكومة العراقية في ذلك الوقت، نوري السعيد، الذي أعدم أصحاب الرأي والتنوير قادة الحزب الشيوعي العراقي عام 1949 وهم: "فهد مؤسس الحزب الشيوعي العراقي، وحازم عضو مكتب سياسي في الحزب ، وصارم عضو مكتب سياسي في الحزب ذاته.
في هذه القصيدة اسخدمت الشاعرة المفاتيح النقدية، التي دفعت الرموز الإدراكية المحصنة بفعل البنيوية الحديثة المعاصرة، إلى غاية تبلورها، وهي المتأثرة بها أشد تأثير بفعل الزمن الانتقالي في روح القصيدة، الذي أتفق على تسميتها ب "التضمين"، ما بعد البرغماتية الجديدة قصيرة الأمد، مع أن الملائكة تفاعلت معها بشغف حسب رأي جبرا أبراهيم جبرا. كذلك اخذت الملائكة حينها تلعب دوراً كبيراً بالدفاع عن الفلسفة العقلانية في: "اللغة \ والبنيوية" عند منظرها العظيم مهدي عامل. من مبدأ المدخل التكويني، حيث نجد الملائكة قد تفاعلت مع الشعر من حواس دائرة المعنى، بتجريد ذهني خالص، خاصة ما أستقته في ثقافتها المختلفة: من المدرسة الكانطية التنويرية، أو التعاليم الصاخبة عند فوكو، أو من الإرث الممتد بعيداً إلى ديكارت، أو تفكيك السلطة الإبداعية وأثر الخيال عليها عند سبينوزا. في قولها في مقدمة أعمالها الكاملة في الجزء الثاني: "فنحن عموماً ما زلنا أسرى، تسيرنا القواعد التي وضعها أسلافنا في الجاهلية وصدر الإسلام. ما زلنا نلهث في قصائدنا ونجر عواطفنا المقيدة بسلاسل الأوزان القديمة، وقرقعة الألفاظ الميتة"* ودليلها نابع من إحكام تأسيس نص جديد من عالم مرئي معطٍ للحواس، تتحقق على مرماه أبعاد العوامل التي تتضمن البنى التحويلية في الأساليب المجددة في طبيعة النص الإيحائي، وليس التأليفي، وقولها يتلخص في:
أولاً: فلسفة الشعور بالعجز، عند راكب القطار، فقد وضعته في سجال مستمر مع الحدوس، وما تنتج صورها من مفاجآت تحتمل الكثير من الريبة والشك، وعدم الثقة بالنفس، وبالواقع المحيط. في قولها: " سَئمتْ مراقبةَ الظلامِ الصامتِ \ أتصوّرُ الضجَرَ المريرْ ْ". وهنا تبلغ القصيدة ذروة تجلياتها، تمثيلاً لنهجها التجديدي، وذلك بتسليط ضوء الواقعية على مفاهيمها، فالشاعرة بحالاتها القصوى تتعامل باتزان الوجدان، ولكن بعدم الاستقرار العاطفي. باستثناء ما جاء من ثقل سببته ثيمة: "الصامت" فلو حررت جملتها الشعرية "سئمت.." من ثيمة الصامت، لأصبحت الجملة مفتوحة على إيماءات واسعة الدلالات، ولكنها خذلتها واربكتها عندما وضعتها في إطارها الواقعي، مما عطلت تجليات الرمز من غاياته. ولأن الوزن أحكم الشاعرة، ايجاد كلمة ذات صلة. وهنا تكمن قوة السياب الخالد إنه جعل من الوزن طيعا له، وليس العكس.
ثانياً: اشكالية الحوار، احالت الأفكار الشائكة إلى: الأنا "العقل"، والذات "العاطفة"التي سميت عند العامة "الفؤاد". بمعنى أن الراكب أعزل من كل الحلول، وخاصة إذا كان هذا الراكب امرأة، فمحاكاة النفس للخوف من الظلام، والوحدة، والاعتداء،
1- الملائكة، نازك: ديوان نازك الملائكة، المجلد الثاني، دار العودة - بيروت، الطبعة الأولى 1986، ص8.
وسقوط النعاس عليها، قد يجعلها سهلة الاقتناص، كل هذه الأسباب تضع الراكب في جدل دائم، في قولها المشترك بحالة التصوّر المثالي، من تلعثمات أو شبهات أو أخطاء خارجة عن المعالجة: "أتخيل الليلَ الثقيل \ في أعينٍ سئمت وجوهَ الراكبين" وفي مكان آخر تقول: "ويكادُ يغفو ثم يسمَعُ في شُرُودْ \ صوتاً يغمغمُ في برود \ هذي العقارب لا تسير."
ثالثاً: حدود الإرادة، وهي ضياع الحيلة والكفاءة في الذكاء الفطري في معالجة ما سوف يحدث من عواقب غير معروفة، وهكذا يكون للرهبة منحنيان مزدوجان: الأول تخيلي – وصفي. والثاني تسليم بالأمر لما سيحدث. في قولها الذي يضعنا أمام معركة يحيطها التشاؤم من كل الجهات: "وفتىً هنالك في انطواء \ في مقلتيه برودةٌ حطَّ الوجوم \ ألقت عليه حرارةُ الأحلام آثارَ احمرار".
اعتمدت الملائكة المقدرة التوصيلية عبر مجسات الحواس المتفاعلة مع البصيرة، لما حققته للمصبات الحداثوية من تنويع، حيث جددت في المقدرات التي تلبي أفق مدارها التنويعي الجمعي بأكثر من رؤية، وحسب قول هابرماس: الأفق العام المتنور، وهذا ما اشتغلت على اساسه الملائكة فأسمته: "بالقوة الإيحائية" وهو ما نعنيه في مقالتنا توصيل الصوت الإيحائي من نواته إلى المدار المحيط به. وهذا نجده عند الكثير من الشاعرات العربيات أمثال:
* بلقيس ملحم: الشاعرة الشجاعة المجددة للقصيدة الإيحائية وفواعلها الذكية، وهي تعيش في محيط يؤمه واقع القحط المدني، وهذا ما دعاها أن تعتمد بنية الرمز الحاد، بأسلوبية الدفاع الاحتياطي.
* غادة السمان: حققت للشعر بعده التنويعي، الموالف لمعطيات الفهم التأويلي في بنية الصورة، وطورت من بلوغ فصاحة الاستعارة الملبية لحاجات المعاني، من آفاق لها تركيبتها في الصورة الشعرية، التي تتحمل تضمينات محورية، كونها نتاجاً انعكاسياً من مديات رؤيتها الخاصة.
* فدوى طوقان: الشاعرة الثائرة على التقاليد البالية. التي حققت في نصها سياقاً اجتماعياً مختلفا عن الجو المحيط بها.
*آمال الزهاوي: صاحبة قصيدة النقاش المفتوح.
فكل واحدة من هؤلاء اعتبرت أن النص عناها وقصدها، فهو مجالها المميز، وميدانها الرحب، وسلاحها الأمضى. فالنص النثري عند كثير من الشاعرات العربيات هو تعديل في مجد طريقة التفعيلة كما أرادت الملائكة للتجديد أن يكون، كون التجديد يجنح على مساحة أوسع في التعبير عن تداعيات مساحة القصيدة، كونه يصدر عن رؤيا شاملة تعبر عن حاجات الكائنات والأشياء، فيسرد غاياتها عبر مجسات تلازم الصور الشعرية، فتكون الألفاظ هنا هي المسوغ الأساسي في توليد طاقة حسية تهاتف نغمية الأوتار التوصيلية، أن تطلق تقطيعات لحنية تمزج النبض اللفظي في إنسياح المعاني، وهذا ما يفاعل حساسية الرؤيا الإيقاعية في أعماق النص، فيجعلها تمتاز بقدرة عالية على الايحاء، كما هو الحال في قصائدها" الراقصة المذبوحة \ لحن النسيان \ السلم المنهار \ أغنية لشمس الشتاء".
ويلوحُ مصباحُ الخفيرْ /
ويلوحُ ضوء محطةٍ عبرَ المساء
تستمد الصورة الشعرية ألقها التخيلي من خصوبة المرئيات، التي تعتمد على عمق الإحساس، وأبعاد التعبير. كما أراد لها أرسطو أن تبدو من خلال الملموسات والتشبيه، لأن الصورة تتحدث عن الأمل، هل لاح فعلاً؟ ويجيب على هذا السؤال جان كوين: "إن الإجابة توجد في التقابل بين النمطين*". تلك هي معجزات الشعر المؤمل له أن يشتمل على تحسين وتكثيف المناحي الذكية، والإشارات الذكية الموجبة في بنية الصورة؟ حتى يكون الوجه الشعري مدهشاً في تنوعاته التأملية، فتكون القراءة غير الشاقة مقبولة، تجلس القارىء منشغلاً في ما سوف ينتج محصولها من توارد للأفكار الغنية في مدلولاتها، وابعادها التي تحتمل الضدّين بين متلقٍ يدهشه النص، وآخر ليس بالمستوى المطلوب لفهم هذا النص. إذا سلمنا من مبدأ أن الشاعر صالح للضدين فهذا شاعر يمكن أن يجلس في خانة السياب مبتهجاً.
1- محمد عياد، شكري: اتجاهات البحث الأسلوبي، مجلة شعر، العدد 10، ص 55.
فإذا طل مصباح الخفير، طل الرمز الواقع اصلاً في الحياة اليومية العملية، ولكن الشاعرة لها رأي آخر في هذا الرمز الذكي، ياترى هل يكون هذا المصباح أملاً للعراقيين، والعرب بفجر جديد؟ وهذا ما لاح فعلاً بأثر الثورات الخمسينية في مصر والعراق التي تحصد محصول عذاباتها! فالحاكم العربي حكمه يقوم على تحطيم الإنسان العربي لا غير، وها نحن اليوم أمام إضاءة كل المصابيح العربية، وذلك بتحطيم القيد الذي كسر ظهرنا لأعوام طويلة، ما دامت هناك يد الحرية تحرك هذا الأمل. وما كان عند الملائكة في قصيدة القطار أمل يدعو إلى ضوء حقيقي، بعد ما كان يلوح من محطة ربما لا تنفع الراكب بشيء، ولكنه ضوء فعلته الشاعرة لأن يجمل النص برمزيته المتحركة.
تمت
هوامش:
1- محبوبة، عبدالهادي: مؤتمر المرأة العربية الإبداع، القاهرة 2002، بالاشتراك مع أ. د. جابر عصفور وعبده بدوي، وبذلك المؤتمر كرمت الشاعرة نازك الملائكة على أنها شاعرة العرب.
2- د. صباغ الحكيم، حكمت: جدلية النص الأدبي، مجلة الأقلام، الصادرة عن دار الشؤون الثقافية، بغداد، العدد التاسع، أيلول 1981، ص25.
3- تشومسكي، افرام نعوم: ملامح النظرية التركيبية، مكتبة دار الثقافة، القاهرة، الطبعة الثانية 1982، ص118.
4- باختين، ميخائيل: المنهج الشكلي في علم الأدب، دار الفارابي بيروت، الطبعة الأولى 1965، ص22.
- بيكون، فرنسيس: الأورغانون، ترجمة د. عادل مصطفى، دار رؤية للنشر، القاهرة، الطبعة الأولى 2013، ص299.
5 الصايغ، عبدالإله: موضوع بحثي، "جيل الرواد حسب التسلسل الريادي"، موقع النور 2017،
6- الملائكة، نازك: ديوان نازك الملائكة، دار العودة بيروت، المجلد الأول، 1986، ص6.
7- زكريا، فؤاد: جمهورية افلاطون، ترجمة فؤاد زكريا، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، لبنان بيروت، الطبعة الأولى 2013، ص 318.
8- ابن رشيق: أبي علي الحسن القيرواني: العمدة في صناعة الشعر ونقده، مطبعة السادة، الطبعة الأولى 1907، ص107
9- الملائكة، نازك: ديوان نازك الملائكة، المجلد الثاني، دار العودة، بيروت، الطبعة الطبعة الأولى 1986، ص 7.
10- غالتون، فرانسيس: "حركة القياس النفسي"، سلسلة عالم المعرفة، تأليف د. محمد طه، مطابع المجموعة الدولية 2006، ص 25.
11- غوته، يوهان: من أقوال غوته عبر ويكيبيديا.
12 - الملائكة، نازك: ديوان نازك الملائكة، المجلد الثاني، دار العودة - بيروت، الطبعة الأولى 1986، ص8.
اختلفت الآراء في هذا المولود الشعري الجديد ومنهم الدكتور عبد الهادي محبوبة في قوله:
"أنّ التفعيلة موجودة في فنّ النثر أيضاً والموسيقى، وأنّ شعر التفعيلة هو أقرب للنثر منه للشعر. لأن خصائص شعر التفعيلة وحدة التفعيلة غالباً في القصيدة.*" وما بان أن الملائكة اعتبرتْ الشعر العمودي يدخل في التكرار والملل، وفي الوقت ذاته فهو يعطّل حرية الشاعر، وهو ما أشار إليه بعض المقربين منها، أنها استسقت حداثتها المختلفة من فلسفة نقودات لسانيات تشومسكي البنيوية 1955 المتمثلة بأخذ النظم إلى تسلسل الألفاظ، المحاكية للصوت والوزن والتفصيل. في استخدام الرمزية التي عبّرت عنها الشاعرة ب"القواعد التحويلية" التي تراعي تهُّيؤ الدنوّ من تراكيب نصوصها، خاصة في تطور فنية التدوير، وهذا يعني أن تأتي التفعيلة في نهاية البيت، وجزء منها في بداية البيت وما يتبعه من انتاج التنظيم الفني للتفعيلة الواحدة.
كان الشعراء ما قبل الحداثة يتقيدون بالقافية كقانون لا خلاف عليه، حتى وإن كانت تلك القافية خالية من وحيّها الدلالي الذي ينشده الجناس، وهذا فاسد لأنه يضعف من المعطيات الانشادية في النظام الجدلي بين الداخل والشكل في البنية الفنية، لذلك يجب أن تحصل الجملة الشعرية على توليد دقيق المعاني، عبر تلاقي ألفاظ تمنح النص جرساً يحرص على تداعيات تتيح التعبير عن هموم وإظهار آمال الشاعر / الشاعرة، كما فعل أبو القاسم الشابي، وبدر شاكر السياب، وجبران خليل جبران. تقول د. حكمت صباغ الحكيم: "أن ما هو داخل في النص الأدبي، في معنى من معانيه خارج، كما أن ما هو خارج هو ايضاً وفي معنى من معانيه داخل*". وهذا ما اسميه بالجناس الانتقالي، الذي يقيم للنص حضوره الدائم والمميز.
1- محبوبة، عبدالهادي: مؤتمر المرأة العربية الإبداع، القاهرة 2002، بالاشتراك مع أ. د. جابر عصفور وعبده بدوي، وبذلك المؤتمر كرمت الشاعرة نازك الملائكة على أنها شاعرة العرب.
2- د. صباغ الحكيم، حكمت: جدلية النص الأدبي، مجلة الأقلام، الصادرة عن دار الشؤون الثقافية، بغداد، العدد التاسع، أيلول 1981، ص25.
وفي هذا المجال نستمع إلى رأي تشومسكي في ما يختص بالتكنيك التوليدي المشتمل على ما تمنحه اللفظة من تلاقح يغذي مدار التعاقب خصوصيته في قوله: "أن المهمات التكنيكية في حقل النظرية اللغوية وما تبوح به من مجسات فنية تحرك العمق التأويلي لما تنتجه فسحة النص باتساعها المعرفي."* وللوصول إلى انجاز النص غاياته يجب تنقيح أنساق اللغة التي تحكم هذه العلاقات، وهنا نلاحظ أن مهارة البنى المتحركة في قصيدة التفعلية، تعتمد اتساع تجديد الألفاظ من حيث مفاهيمها التحويلية في قانون الشطر الواحد، عبر توظيف تواصل محاكاة التأمل إلى أوسع براعة في قبول خصوصية النص.
حقق الجيل الستيني هرباً واسعاً من بوابة قصيدة التفعيلة، إلى متاهة قصيدة النثر، وهو أول تراجع إيقاعي للشعر، خاصة إذا كان الشاعر غير ملمٍ بقوانين الشعر واحكامه، لذا نجد قصيدة النثر في أماكن معينة، أصبحت مطية يركبها كل من هب ودب، خاصة في الشعر النسوي، في حين نجد هذا الانتقال الجديد، أي قصيدة النثر، قد أثمر منجزها خصوبة عند محدثيها من الشعراء الذين اشتغلوا على منهج البلاغة في كل جديد أمثال: سعدي يوسف، فوزي كريم، أدونيس، عباس بيضون، محمود درويش، محمد بنيس، مي زيادة، آدم حاتم، وآخرين. استلهمت الملائكة قوانين التغيير في روح القصيدة الحديثة، من ثقافات تحقق حاجة العصر إلى تسهيل قراءة الشعر، وذلك بكسب أكثر عدد ممكن من القراء، وخاصة التجديد الحاصل في مفهوم النسق، فأصبح لديها فكرة شاملة عن طبيعة التجديد، وهاجساً يروم إلى حداثوية ناجحة لا تبخس القارىء، في هذا:
لاحت الظلمةُ في الأفق السحيق
وانتهى اليومُ الغريب
ومضت أصداؤه نحو كهوف الذكريات
وغداً تمضي كما كانت حياتي
شفةٌ ظمأى وكوب
عكست أعماقهُ لونَ الرحيق
من قصيدة "يوم تافه" المكتوبة في 1948 حيث الملامح والأصداء في هذه القصيدة، نلمسها من تثوير جوانية التعبير الحسي المبثوث في اللفظة الدلالية، المعبرة عن التناسق المنصب من وحي البلاغات الشعرية بالكشف عن نفسية الشاعرة المكتأبة، لتكون اللغة هي المعبر عن تناص القيم الأدبية في الخاصية المثالية، معتمدة على نمط شعري أشاع تأثيره على القامات الشعرية التي برزت في عصرها، بعد أن توضح أنّ شعر الملائكة خال من التكرار والسكون والاستسقاء من كتابات الخلف، بالوارد المعيون في تأويلات المعنى، فصورها الصوتية تتمايز منذ حال نشأتها بالثبات والقدوة والمتانة الشعرية مثلها مثل شعراء آخرين كالشابي، خاصة في جانبه الفسيولوجي، في قولها: "لاحت الظلمة..." أغلب شعراء العراق الكبار تأثروا بالطابع النفسي المعقد في الشعر الغربي، وهذا الحال نقرأها تعيش مخاض ولادة عسيرة لحظة الكتابة، فهي تؤمن أن المُقَوَل المعيون لا يمكن أن يكون يمثل جهات تتجسد فيها حرية العقل لأن أفكاره ملغية، بفعل تشاكل منطق التثقيف الذاتي، وخاصة في التثقيف الأكاديمي، من الجوانب الوعيوية المنظورة في بنية تقارب الهيمنة التقريرية من قبل النظام المتخلف السائد، ولذلك نجد أثرها الصوتي يتردد في المطابقة الذهنية الحسية الواسعة في قولها: " وغدا تمضي كما كانت حياتي / شفة ظمأى وكوب"، ومما يضاف في هذا السياق الخاصية التحويلية وهي القوة الحاصلة في القراءة الايحائية المؤلمة وثيقة الصلة بايمانها، ولهذا عُدَتْ الملائكة منذ ظهورها الأول إنها شاعرة دراما الصوت الموَّر في ولادات الزمن المحبط، المولد الحقيقي في مطابقة حسها الثاقب لمباني فنيتها التصويرية، وخاصة في قصائدها المطولة، كونها عطفت الفلسفة على الشعر، لما حصل في ما بينهما من وصل ثقافي تنويعي في قولها: "لماذا نعود؟ أليس هناك مكان وراء الوجود"
1- تشومسكي، افرام نعوم: ملامح النظرية التركيبية، مكتبة دار الثقافة، القاهرة، الطبعة الثانية 1982، ص118.
وفي مكان آخر تقول: "نحدق في أي شيء نراه \ نحدق، لا رغبة في النظر \ ولكن لأن لنا أعينا *"، لهذا اعتبرها النقاد العرب واحدة من أهم الشواعر العربيات قدرة على صناعة نص يعتمد بنى وعلائق دلالية تقوم بوظيفتها على أحسن وجه، وقد أكد هذا النحو الشاعر والناقد الفيلسوف عبدالآله الصايغ. الذي اعتبرها إحدى مكونات الأقباس البلاغية، وهي تعلن عن التوهج المحسوس في شعاب أدواتها المحكمة بالابتكار النوعي، الذي يكسب المعنى تدفقات الاحساس إيحاؤه النوعي، من حيث مخاض بلاغة البنية الداخلية، في إثارة تحكم مجرى الإيماءات الحاسة في علانية التفاعلات الالمنطوية على أننا هكذا مكتوب لنا أن نعيش، "لا رغبة لنا في النظر / ولكن لأن لنا أعينا"، وكأنها تشارك سويسر أفكاره البنيوية، ولهذا فقد أصبح هذا الأتجاه يحقق لها أسلوباً مستقلاً، تبعها الكثير من الشواعر العربيات وتأثرن بها لأنها مست الأفكار النبيلة ببحثها عن مجتمع غير تقليدي لا يؤمن بالخرافات "العاشورية" وغيرها، وسوف أكشف لاحقاً عن مدى تأثير شاعرية الملائكة في نصوص الكثير من الشواعر العراقيات خاصة، والعربيات عامة، هذا كون شعر الملائكة كالعسل النقي وأن صاحبه الألم، ، فهي تؤمن بحقوق الفرد في التغير والتصحيح، فإذا قام البرهان النقدي على كشف حقيقة تلك النصوص، التي تمنت لها الشاعرة أن تكون نصوصها رسالة تعمق تعاليمها في أذهان قارئيها.
وفي حساب ما تقدم وتأخر في الشعر العربي والأوروبي على السواء، نجد ملامح الشاعرة تطوف باجنحة قصائدها، فتختلف مع أصوات جيلها المجدد للقصيدة العربية، باعتبارها واحدة من الذين وضعوا أسس هذا التجديد، كراعية لتطور بنية القصيدة الحديثة، واحكام ديمومة تأملها نحو تطورية أكثر تنوعاً في شغلانية لغتها اللسانية، التي ولدت على الساحة الأدبية العربية بفعل فلسفة لسانيات تشومسكي، بين مؤيد لهذا الفيض الفلسفي ومعارض له، فجاءت قصيدتها تقترب من بلاغات تلك المرحلة، أو تبعتد عنها قليلاً بعوامل مهمة وهي:
أولاً: الملامح التراثية: التقمص والقابلية للتكيف في دائرة ظبط النزاعات والأمزجة، ضمن حدود الكيفية الإلهامية، أي خصوبة الوعي المتصل بمنبهات الذات الحسية لأنه باحث فيها.
ثانياً: تتردد في قصيدتها أصداء الشعر القديم. خاصة في القصيدة العمودية.
ثالثاً: شعر التثقيف. المعبر عن المثابرة والتعاطف والبحث والتناص مع القيم غير المحبطة للسياقات التاريخية المتخلفة.
وهذا التنوع بين القديم والحديث، جعل شعرها يحتكم إلى تقنية المقايسة بدراية ودقة عالية في مفاهيم المساقات الإبداعية، فهي وفي الشعر الحديث شاركت شعراء الرعيل الأول المجددين لبنية القصيدة العربية، وخاصة جماعة الأدب الرمزي شديد الغنى والتنوع، أمثال: السياب، البريكان، الحصري، عاتكة الخزرجي، علي السبتي، وصلاح عبدالصبور، وخليل حاوي. ولهذا نجد الأقباس التصويرية عندها تومض وتتوهج في شاعريتها، ذات الحساسية العاطفية التي تسقي شعاب الكلام رشاقة في تجانسه، وهي تلامس الواقع سواء أكان عاطفياً، أو تراجيدياً، أو سياسياً، أو اجتماعياً، فتجدنا نحن المتلقين من أدباء وعامة، نحس بها إحساساً عميقاً، تتفاعل وتحرق مشاعرها بعذابات الصورة الشعرية، من واقع رهافة إحساسها وقيمة تلاقحها مع الصورة، وتلاقيها تلاقياً موضوعياً يحقق للنص سحره وجماليته، فقد أفرز على وجه التحديد يقين الكمال الشعري واصالته. النابع من تلاقح: الموهوب العاطفي بالتنوير الثقافي، المعلن في بلاغة التعبير التجانسي التصويري، بسياق ينزل فيه الإحساس منزلة الخمرة من النفس، حتى لا يدانيها شغف آخر.
من الممكن أن نذكر في هذا المجال العوامل المؤثرة في جوانبها الحياتية، سواء أكانت في المجال الأدبي أو السياسي، على اعتبارها مفكرة ليبرالية يسارية، من عائلة متوسطة الدخل، شديدة الانضباط الأجتماعي، وهي تتلخص في:
أولا: من داخل العراق بلدها الأصلي: جماعة رواد الحداثة المجايلون لحركة النهضة الأدبية العربية، الذين تبوأت اعمالهم صدور صفحات الصحافة العربية، وخاصة مجلة: "شعر اللبنانية"، ومجلة "الآداب اللبنانية" والمتأثرة هي الأخرى بشخصيات أدبية غربية تحلت بكاريزمات خاصة، تمثلت وتأثرت بالفلسفة التي ابتدأها فولتير وديكارت مروراً بكانط وانتهاء بسارتر.
ثانياً: النهضة السياسية الأدبية التحويلية في مسار الأدب العربي، تتلخص في تأثير النزعة الأدبية الجديدة الملحقة بعصر النهضة الغربية، التي كانت حينها تجتاح الثقافة العربية، وتمثلت بأسماء عديدة منها: دانتي، وجوته، وملتون، وجون دون، وبايرون، ورامبو، ومالارميه، وبودلير، وإليوت، وعزراباوند، وكيتس، وسويسر. وإلى غير ذلك من الشعراء الأوروبين الذين ذاع صيتهم، فتأثر بهم الكثير من الشاعرات والشعراء العرب. هذا ناهيك عن الروائيين والقصاصين، فالغرب خزين اسماء كبيرة على درجة عالية من الأهمية.
كانت الملائكة التي ذاع صيتها أوائل الأربعينات قد حققت قصائد مهمة: خاصة قصيدتها المطولة المتشائمة حسب رأي الشاعرة نفسها. "مأساة الحياة 1945" من الوزن الخفيف، وبعد التنقيح والتهذيب سمتها "أغنية للإنسان" عام 1965 وقد ظهر وضوح تأثر الشاعرة بالأدب الأنكليزي بعد ثورة التجديد، وكان هذا قبل ظهور ديوانها: "عاشقة الليل"، وهو واحد من أجمل دواوينها الذي ما انفك صالحا للقراءة حتى يومنا هذا، فشعرها رغم نزعته التجريدية العميقة، وغموضه الحاد، لكننا نقرؤه يعبر عن لون خاص من ألوان التجديد الشعري، المبهر في ثنايا ملامحها المغذية لبنية الصورة الشعرية. فقد تركت مغازي ذات سمات واضحة وعميقة على سير الحركة النقدية العربية آنذاك، ولغاية يومنا.
مع أنني أجد في بعض من جوانب أعمالها أنها شاعرة عميقة التأمل، كمتصوفة تخاطب سلطة الغيب شديد التأويل في بنية اللاملموس واللامرئي، وهنا أخال فيها فلسفة الذات التي تبحث في التضاد بين الظاهر والباطن، وقد تجلى هذا التظهير الفلسفي واضحا عليها خلال مراحل دراستها الجامعية الأولى، وفي هذه الفترة تعددت قراءتها في الآداب الأوروبية والعربية فقرأت ابن سبعين، وابن عربي، وابن رشيق وآخرين، وقد أروت مناهلها ايضاً من المتصوفة العباسيين، وما عاصر تلك الفترة من شعراء وفلاسفة، ومن خلال قراءتي المكثفة لشاعرية نازك وجدتها تلك الشاعرة الأنثى المكيفة بالطافها الخفية ذات اللمسة العاطفية الحنونة، التي تتذوق الصوتي الإيقاعي في ثنايا اللفظة التي تكيّف شفافية المعنى داخل سياق النص، بالقياس إلى ثقافتها الأستاذية الموزونة وزناً محصناً، فهي تشتغل على نسق يجعل من وحدة القصيدة مبدءاً اساسياً. وبهذا المعنى نستمع إلى باختين يقول:" كلُّ كلمة أدبية تشد إليها بدرجة قوية مستمعها أو قارئها أو ناقدها، وتعكس في متنها اعتراضاته أو أحكامه أو وجهات نظره المسبقة فهي ناجحة "*. ومع هذا الانطباع الذي يلامس نازك في جانبها الرومانسي، إلا أنها ايضاً تروم الوصل التشذيبي عبر قدرتها الهائلة بالتفنن التقني، من وازع معطياتها التحويلية، أو بما نسميه هيمنة الإبداع التوليدي المؤسس لأسلوبية تختص بمعارفها هي في فن اسمته "التعديل". الذي تبنته ودافعت عنه، ولكنها في المقام ذاته بقيت محافظة على القواعد المألوفة في ترتيب مدرسة الخليل، في قصائد مثل" "جامعة الظلال، لنكن أصدقاء، مرثية يوم تافه، أغنية الهاوية" هذ حسب ما جاء في مقدمة أعمالها الكاملة الجزء الثاني، حيث اعتبرت نفسها صاحبة التنظير في بناء القصيدة التي تجاوزت بناء الخليل، وذلك بتعديله من نظام الشطرين إلى نظام الشطر الواحد كما بينا سابقاً، ومن خلال هذا النهج الممعن بالخصوصية، نجدها وعبر تحولاتها التجديدية أثرت في جيل من الشعراء تصالحوا مع زمنها، وأجيال أخرى وما زالتر، وبهذه المقدرة تواصل نجاحها مع ذات السياق الذي من الممكن أن نسميه: الاستبدال، أو استنطاق الجديد، الذي اعتبرته الشاعرة حالة تجديدية تميز حداثوية لغة الأديب، وفي ذاك يطلق الشعر جناحيه كي ينعش الحيوية، والسهولة، والإيجاز، في نظم المناظرة بين الشعر العمودي، وتقنيات شعر التفعيلة،
1- باختين، ميخائيل: المنهج الشكلي في علم الأدب، دار الفارابي بيروت، الطبعة الأولى 1965، ص22.
لما حققته هذه الأسلوبية من معطيات نجاح هذا التحويل، وخاصة في الوزن "المتقارب" و"الطويل". وبناءً عليه فالأسلوب عند نازك ليس مجرد تقنية وحسب، إنما هو رؤيا تحتكم إلى تفاعل المعاصرة،
والتكيّف مع معطياتها التجديدية، لذا نجدها أوجزت ولادات ألفاظ تفيض معاني واسعة التشكيل في بنيتها الخاصة، تنم عن انسجام تضافر العناصر المشتركة بين المضمون ودلالاته، كما هو الحال في الطويل، عندما اوصلت زاوية الرؤيا إلى عمق نفاذ صورتها للآخر.
أحبُّ، أحبُّ، فقلبي جنون وسورة حب عميق المدى، أحبُّ فروحي حسٌ غريبٌ، يضيع لديه جمودي سُدى
هذه الأبيات من قصيدة "صراع" من الشعر العمودي، وهنا وظفت الذات أن تطلق الإشارية الإيحائية المتفاعلة تلك التي تستجمع اللغة من أجل أبانة الاعتراف الذي تخاف عليه أن يضيع، وللخصوصية الذاتية تستهوي بلاغة الاستعارة من أجل تفعيل صورة الكلام، ولهذ فهو توليد إضافي، لأنها جعلت من الجنون يصيب القلب، وهذا فاسد بالمنطق، فلو وظفت العقل بدل القلب لاستوى المعنى أكمله ولكن للمجاز شؤون، من جهة أخرى لاقحت "القلب" ب"السورة" وجعلت من الحب المشبه به قابل للتمييز، وفي هذا التناسب حصلت المشاهدة كما لو أن بيانها يحرك الخميرة العاطفة الساكنة في الأعماق، أن تطلق هواها ينبثق من خلد يتحرك فيه التشبيه، لأنها تأمل أن لا يكون هذا الحب العميق يضيع سدى، كون الشاعرة اجريت الاستعارة على مسماها وهو ثابت معلوم "المدى" فنقول أنها عنيت الأسم، وجعلت القلب كصيغة تمتع العاطفة وفقا لنزعة تكابد أوهانا صامتة تناصت مع المعنى، لأنها جعلت "الحب" معلوماً بعمقه كإجراء يجعل من الصفة "الجنون" ملبية لقسمتها المفيدة، لماذا؟ لأنها أرادت للمستعار "الحس الغريب" أن يحقق فعله علناً، أمَّا البيان هنا كونه مستقراً داخل بنية التحويل "سُدى"، فالشاعرة اشتغلت هذه القصيدة بأسلوب "الحامل والمحمول" بنظر ريتشاردز.
من هنا نطرق بوابة الخلاف بينها وبين السياب، فيما يختص بالمعيون التجديدي في أسلوبية التشبيه إلى مشبه ومشبه به، الذي يخضع لقانون الحداثة المعني بأسس الاختلاف، فقصيدة نازك تمتلك كل مقومات فلسفة الحداثة، وكأنها توسوس الشعر فتفعل ذلك على ترتل كونها مثقفة، ولذلك تجد السلطنة منبعثة من تماس الصوت بالحوارية المعتادة في الشعر الأوروبي، ومن هنا حصل الفرق بينها وبين السياب لأن شاعريته أكثر ارتباطا بالمجتمع العراقي الجنوبي، وبهذا كان السياب متقدما في طريقته الشعرية فهو يحاكي الصوت ويقرن الفكرة بالصورة الحاكية، مرسخا منحاه التحديثي بوحي وجدت مكانته في النفس، فقصيدته لها حكم الشفافية وغناؤها، تدفع معانيها المتخيلة إلى القارئ بسهولة.
فلو تأملنا مهارة سلطة بنية النص عند نازك، لوجدنا مقاصد الدلالات الموجبة تتفق في توجيه التأويل مع السياب، وهنا فكلاهما يؤسس بنيات المعاني المتلازمة التي تعكس القيم المادية والمعنوية بتلقي واضح في منطقه، من مبدأ توليف الملائمة الحسية على مستوى اللفظية الموسيقية، وجعلها تتكيف في مضامين بنية متماسكة، تبث مفهوم تحررها وتبرئتها من الغموض والاسهاب، لأن قيمة كل إبداع تنطلق من خصوبته الأصيلة، فيكون الخيال اللاعب التوصيلي الذي يجب أن يخترق الواقعي بتأملاته الحيوية، حتى تتواصل عملية لقاح النواة مع إرهاصات مداراتها التوليدية، التي يجب أن تستفز المتلقي.
ويبقى السياب شاعراً عميقَ الإيحاء والصورة، فقصيدته "هل كان حباً" وأسلوبها الطارف الذي لم يألفه الشعر العربي في حينها، بعد أن اذاع التجديد المكثف، والإيقاع السلس، محققاً أبعاداً غنية في موضوعة دلالات بعدها الذهني الميتافيزيقي، وكأن الشعر عنده حال بوح تساقى فيض الأسلوبية المحلقة بقوامها الرشيق، مما يؤكد إعلان فيض رؤيته الداخلية، ومع نازك فالأمر لا يختلف كثيرا خاصة في الجانب الفني الإيقاعي وبلاغة اللفظة في بناء الجملة الشعرية، كما عبر عن هذا فرنسيس بيكون في الأورغانون الجديد وقوله: "فأنها تزود العقل بالإيحاءات الخاصة بالفهم، وتزوده كذلك بالدهشة الضرورية."*
1- بيكون، فرنسيس: الأورغانون، ترجمة د. عادل مصطفى، دار رؤية للنشر، القاهرة، الطبعة الأولى 2013، ص299.
وهنا تجدني مختلفاً مع الشاعر والناقد عبدالإله الصايغ فيما يروم إليه من حجة: "أن نازك هي التي ادخلت الحداثة الشعرية على القصيدة العربية"، لكنني أرى أن لا نازك ولا بدر لهما الفضل في هذا، بل هو الشاعر بلند الحيدري في قصيدته: "خفقة الطين" المنشورة في أوائل عام 1943. وقد اجاب على اسئلتي في مقابلة معه منشورة عام 1993 عندما كنت وقتها مستشاراً لرئيس التحرير وصاحب الامتياز في مجلة النافذة. لكن بلند مثله مثل نازك كان شاعرا شكلياً يهتم بالشكل التصويري، أكثر مما يتعمق بدوائر الإيماءات والإشارات والتأمل في وجدانية الصوت اللفظي المكثف، الذي يبزغ من جوانية عميقة في بنية القصيدة، ذات البنيات المتحركة في محاورها، المفترض أن تنقي مصبات التكثيف اللغوي والفني في النص.
ومن أجل هذا ولد السياب شاعراً مميزاً، له الفضل الأول بالكشف عن مواطن جمالية وفنية التكثيف النوعي في الشعر العربي عامة، كون الشعر عنده تآزر وتفاعل الإدراكات الحقيقية التلقائية للحواس، المشاع على مستوى نفاذ الإيقاع الدلالي، كروح للمعنى الإشاري المتحول إلى معنى عاطفي، المغزول طوعاً من تلقائية خالصة في الذهن النابض بالمعاني الدالة على صورتها، المستفزة دوماً. ويسميه تشومسكي: "النحو التوليدي" وللسياب الأولوية في إرساء الأدوات أو الآلآت المنشطة والمحفزة لأسلوبية الاختلاف المجدد في بنية القصيدة العربية، وذلك باتاحة الحرية الحيوية في موضعية اللفظة في سياقها السلس، فربات الشعر عند السياب روض خصب يتملاه ويتمثله بعشق ألق يفيض فيه مخاض الحس الخيالي، بحساب وعي تلقائي يلوب في أعماق الذات الشاعرة.
تقول نازك الملائكة عن قصيدتها "مأساة الحياة" وعن طبيعة تأثرها بالشعر الأنكليزي: "كنت إذ ذاك أَكثرُ قراءةِ الشعر الأنكليزي، فأعجبت بالمطوّلات الشعرية التي نظمها الشعراء، وأحببت أن يكون لنا في الوطن العربي مطوّلات مثلهم، وسرعان ما بدأت قصيدتي وسمّيتها: "مأساة الحياة" وهو عنوان يدل على التشاؤم، وشعوري بأن الحياة كلها ألم وإبهام وتعقيد."* بهذه القصيدة كانت الملائكة مغرمة جدا بالكتابات النقدية للناقد الألماني المتشائم: "شوبنهاور" ونازك تعرف جيدا أن الشعراء يعتذرون للقارىء إذا جاء في شعرهم لغة حادة أو منفعلة. فكيف إذا كانت القصيدة مطوّلة بكل هذا التعقيد. ترى هل القارىء يطلب كل هذا الصخب الذي يبوح لإمراض النفس البشرية، بدل أن ينعش روحها، ويعالج مأساتها؟ أما عن الأولوية أو الأفضلية لمن أدخل الحداثة على الشعر العربي نقرأ نازك وهي تعترف بهذا: "وكنت في عام 1946 أنوي أن أقدم المطولة للقراء بعد مجموعتي الشعرية الأولى "عاشقة الليل" وعندما طبع هذا الديوان كان في آخره إعلان صغير عن "مأساة الحياة" ولكن الظروف حالت دون ذلك. فأصدرت مجموعتي الشعرية الثانية: "شظايا ورماد" عام 1949 وهي المجموعة التي دعوت فيها إلى الشعر الحر."* هذا يقين قاطع أن الشاعرة تعترف بنفسها أن أول قصائدها التي تدعو بها إلى التجديد كانت عام 1949 "مر القطار" بعد قصائدها التي تقدمت مجموعتها "شظايا ورماد" وهي: كبرياء، من الشعر العمودي 1948 \ يوتوبيا الضائعة، من الشعر العمودي 1948\ تواريخ قديمة وجديدة، من الشعر العمودي 1948 \ صراع، من الشعر العمودي 1947\ عندما انبعث الماضي، من الشعر الكلاسيكي أو الاتباعي، وهي غير مؤرخة. والقطار قصيدة جميلة جداً، سوف نأتي على دراستها.
1- الصايغ، عبدالإله: موضوع بحثي، "جيل الرواد حسب التسلسل الريادي"، موقع النور 2017،
2- الملائكة، نازك: ديوان نازك الملائكة، دار العودة بيروت، المجلد الأول، 1986، ص6.
في عام 1950 أخذ أسلوب الملائكة بالتطور الملحوظ، فقد بدأت حياة شعرية جديدة، خاصة بعد إعادة النظر في القصيدة المطوّلة الكلاسيكية، بعد أن عدلت من مسيرتها التشاؤمية، تبدلت تلك القصيدة "مأساة الحياة" إلى فسحة تفاؤل ووضوح. فجاء ديوان: "عاشقة الليل" الذي من شأنه أن يدشن الملائكة كشاعرة محترفة، ومنذ ذلك الحين أخذ مجموعة من الشعراء منحى تجربة الملائكة يؤثر في أعمالهم إلى حد بعيد، نظراً لاستقلاليتها الشعرية، وجودة شخصيتها الثقافية المقبولة، وخاصية أسلوبها النقدي، الذي أخذ يلوح تأثيره على الشاعر والناقد والمتلقي المثقف بآن، وبهذا تكون قد حققت قفزة أدبية نوعية بسياق البناء الصوتي المعنوي. وبداهة فإن طرق الملائكة لأبواب النقد في هذا التطور المبكر من حياتها، بتصوري هو أهم خبر يجب أن يعرفه القارىء عن حياة هذه الشاعرة القديرة، فكانت نزعتها التجريدية منذ وعيها الشعري الأول قد طغت على نتاجها الشعري الناضج في مساحات إيقاعاتها المتجانسة، كونه خرج عن الأنماط الثابتة في الشعر العمودي، وقوالبه الجامدة. فجاء شغلها التجديدي يقوم على مفارقة بنية المحصل النوعي في مكونات النهج التعبيري، كونه إحدى الطرائق التي تعمل على تنشيط المخيلة المبدعة، يدعمها الوعي النقدي المتمم لمسارات قراءة حاسية الصوّر المتخيلة.
وفي غضون هذه الفترة الأولى من تبنيها الشعر الحر، تعرفت الشاعرة على فلسفة البروفسير الهيغلي: "برادلي" والمعروف عن هيغل هو صاحب المدرسة الجدلية المهتمة بصراع الأضداد. ولسوف يكون لهذه الثقافة المادية الجديدة أثرها الواضح على أعمال الشاعرة في قصائد مثل: "الكوليرا" و"الراقصة المذبوحة" و "اسطورة عينين" و " انشودة الرياح" في أجزائها الخمسة.
كذلك أغرمت الشاعرة بالشعراء الأوروبين وخاصة الشاعر الأنكليزي كيتس، فكتبت له قصيدة جميلة حملت ذات العنوان لقصيدته: "Ode to Nightingale" وترجمتها للعربية: "مسلك العندليب" خاصة وأن كيتس كان شاعراً ميتافيزيقيا، ميالاً في حالاته الاجتماعية إلى التناقض، عبر مسلكه المنطوي على جعل الروح مكتأبة ومطيعة للوحدة "Depressed"، وبهذا نجده احياناً الرومانسي الحاد، وفي احايين أخرى: نجده الواقعي الذي يعيش تصوراته الإدراكية كما يتملاها ويتمثلها بعفوية، ثم يمضي على نحو خاص يستكمل بحثه، متخذاً من الأساليب المعاصرة التي كثرت فيها المقابلات، بين ما يرشح له السياق وما يدل عليه. أما في الجانب الفني تجده: تارة متصالحاً مع الرمزيين الفرنسيين، وتارة أخرى نجده مختلفاً معهم، لا سيما لافروغ، وكوربير، وبودلير، ورامبو، ومالارميه.
وعلى واقع المنهج ذاته نجد علاقات الملائكة مع الشعراء المحدثين ليست على وفاق، خاصة مع جماعة الحركة الرمزية من الشعراء العراقيين، وكأنها تطبق مسلكية كيتس على حياتها الخاصة مع شعراء جيلها، بما يتعلق في خلافاتها مع البياتي صاحب نظرية المؤامرة على شعراء جيله، كما أكد وأوضح الشاعر والناقد عبدالاله الصايغ في إحدى دراساته. لكنها في الوقت ذاته كانت متفقة ومتصالحة مع النقاد العرب أمثال: الناقد جبرا أبراهيم جبرا، والناقد المهم عباس محمود العقاد وآخرين. وفي خضم هذا الصراع لم تجد الملائكة بداً من أن تتوج ثقافتها المنوعة، أن تتجه ببحثها عن اكتشاف الفضاءات المتحولة عبر آفاق المعرفة، القديم منها والجديد، ومن القديم لامست الفلسفة الأفلاطونية، القائلة، ما معناه "أن الروح تشبه القصيدة"، وقد نجحت في هذا التفكير الذكي، لأنها رسمت من الروح كلماتها، وأذاعت فيها نبض الحياة لاسيما في قصائدها: "خصام \ لحن للنسيان \ مرثية يوم تافه". وما كان عند الملائكة لم يزل من جمهورية أفلاطون عالقاً ومصاحباً تمنيات البحث في موضوعة الجناس والمقابلة، باقامة الجمهورية المشاعية الجديدة، على أن تطلق الحريات تنوعها على أوسع مدى، كما أود أن اتناص معها في هكذا تفكير من منوال مجالي المنظور الناطق بتمثلات معرفة الذات، التي تنشد للحريات مصباتها الإنسانية كوني مؤمناً بها.
ولسقراط رأي في هذه الجمهورية، أي جمهورية أفلاطون وقوله: "تكون الصورة بالنسبة إلى الأصل بمنزلة موضوع الظن بالنسبة إلى موضوع المعرفة*".
1- زكريا، فؤاد: جمهورية افلاطون، ترجمة فؤاد زكريا، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، لبنان بيروت، الطبعة الأولى 2013، ص 318.
وما المدينة الفاضلة عند نازك إنما هي اللغة، ندخل إليها من منظور الإحتدامية الجدلية التي تمنح الاختلاف خصوبة، وأما بلاغة الأدوات فهذا تابع لبلاغة أفكار الشاعرة نفسها، فتكون هذه الخاصية عبارة عن وحدات تصنع نصاً يقوم على منح صاحبه المنبر الذي يناسبها، وما المنبر المناسب لنازك: إنما هو المهارة المعنوية التي نشأت عليها شخصية الشاعرة. وهنا نقتطف من قصيدة "غرباء" هذا المقطع الذي يدلنا على صحة رأينا في هذا المحور:
أطفىء الشمعةَ واتركنا غريبينِ هنا
نحن جزءان من الليل فما معنى السنا؟
يسقطُ الضوءُ على وهمين في جفن المساء
يسقطُ الضوءُ على بعض شضايا من رجاء
سُمّيت نحن، وأدعوها أنا
مللاً نحن هنا مثل الضياء
غرباء
ومن أجل هذا يحق لنا أن نسلط الضوء أكثر إمعاناً وتركيزاً، بدءاً من حل مفاتيح رموز فلسفة الملائكة، وذلك بالنزول إلى عميق أغوار الطاقة الإيحائية التي وسعت طاقات إنتاجها الإيقاعي السلس في الملقحة الدرامية، فما من شيء يرعش الشعر الثري، إلا أطر الرؤى المسحورة في تمثلاتها المعراجية، المؤهلة بحصانة أجوائها الخاصة. التي ما انفكت تسقي الذهني عندها كمال رعشة الصورة، التي تحقق نمو الإخصاب الوجداني في حقلها، المؤثر إيجاباً على إنتاج المحصول الخصب، المهيأ دائماً على محاسنة صوّر الإدراك الحسية، المعكوسة بكياستها على الآخر كمرآة تعكس حقيقة التكوين، من منظور يعبر عن إنطباع التمثلات البينية العاكسة لحقيقة الاستبدلال في أسلوبها، المنبسط في عالم مرئي يثير الإحساس في جوهر المنحنى التجديدي في مملكة لغتها الفاضلة. كما عبر ابن رشيق في هذا قائلاً: "وإنما الشعر ما أطرب ، وهز النفوس، وحرك الطباع، فهذا هو باب الشعر الذي وضع له، وبني عليه، لا ما سواه"*
تمتعت الملائكة بموهبة فطرية فذة، على اعتبارها امتلكت تجربة كبيرة على مستوى التركيز، من حيث الانسجام الروحي في بناء القصيدة، وليس على أعتبار البناء التقني الاكاديمي. لأن التقنية في أرقى حالاتها تصاحب التأليف، وجماعة هذا الأتجاه "التأليف" قد يمتلكون ناصية اللغة، لكنهم لا يتمتعون بالفطرة الحسية في مجالها التخيلي، الموحي بتماثل وتناسق التصورات بالمكان الجزئي في العقل حيث بلوغ غاياته الإبداعية القصوى، إلهام لا يتماشى مع مثنوية الرفض والقبول، لأن العقل في هذه الحالة يكون مؤهلاً لوظيفته الإشارية الجاذبة لحالتها الحسية. ولذلك نجد الشاعرة قد امتعت صورتها الشعرية بموضوعات أقرب إلى مفاهيم تحوي نواتج الخيال الإيحائي المولدة لتكنيك يستولد انفتاح مصبات الجذب الخيالي، مع مشترك الإدراك الثقافي، والذاكرة الحسية، من إدراك واضح في الصيغ الصرفية حول بناء التحولات الإدراكية، التي تخصب النشاط الوسيط للخزين الثقافي في الذاكرة، "Working Memory".
ولو أننا مددنا بساط التنوع الإبداعي في حقل رياض الحركة الأدبية، واجلسنا عليه الأغنى شاعرية التي تخصنا في هذه الدراسة، لوجدنا شاعرات على مشوار نازك، أو ممن مشين على طريق الإبداع الصافي، أو اللآتي اقتربن منها، وقد تطول القائمة، لكنني أذكر في هذا الفصل، ما أراه محصناً بإبداعه النقي، لا على اساس الفكرة القائلة: "فاسمع وعِ القول كما سمعت". ومنهن:
* هيام قبلان الشاعرة الفلسطينة: التي حققت الأبعاد البلاغية في محسنات اللفظة، ونقحت اللغة إلى مسارات يستقيم فيها الخلق بأرقى غاياته.
1- ابن رشيق: أبي علي الحسن القيرواني: العمدة في صناعة الشعر ونقده، مطبعة السادة، الطبعة الأولى 1907، ص107.
* دكتورة هناء القاضي: الشاعرة التي تعني أن الشعر معنى حاصل في الروح، يستقيم كونه أداة لملاقاة المعنى بالوتر الصوتي في محاكاة الدلالة.
* الشاعرة التي عثرت عليها حديثا في مساراتي البحثية هي: بلقيس خالد، التي دلقت في مصب الشعر وجدانا مثالياً يداعب الروح الهائمة، سواء أكان في شعرها، أو في علاقاتها الأدبية الموزونة بالتضحيات الأكثر مدنية، وهي تتواصل في النشاط الخلاق، بجمالية مهارة ثقافتها.
* خالدة خليل الشاعرة التي لازمت بين الحرف والصوت، وهما إضافتان نوعيتان للشعر، فإذا كان الحرف جوهر الكلمة، فالكلمة تكون جوهر الجملة، والجملة جوهر النص، وهذا جناس يؤسس لطباق فني مميز الرفعة، أما الإضافة الثانية فالصوت عند خالدة أشبه بالانسياح اللوني حين يلامس العاطفي، فيثور الشعر في روحه، وكما يقول ابن رشيق الشعر لا يكون شعراً إلا إذا أحدث انفعالاً خاصاً عند المتلقي، هذا إذا اتفقنا على مبدأ قول لنين "إذا استطعت إقناع شخص ما، فأنا ناجح" .
فما من مشترك ثقافي يمتلك حقيقة البديل النوعي، ويحترم مشروعية إنتاجه، يجب أن يذكر أو يتناول هذه الأسماء المهمة على الساحة الأدبية الشعرية. لأنه ما من كتابة تحترم سدنة هويتها، يجب أن تنحاز إلى المألوف بنكران الذات الخالصة في هذا الاختيار، وأن لا تتماشى مع طريق آخر يتمثل بالإنحطاط الإغرائي على أن يصحح هذا الشاعر أو ذاك لهذه الشاعرة أو تلك، فتكون تلك "الشاعرة" اعظم "واحدة" في التاريخ. فتنهال عليها كتابات لا تعد ولا تحصى من "الحرشة" بواجهة غزلية، وما بهذا المديح من الحشو عديم اللون والطعم والذوق.
خارج هذا السياق يمكن لنا أن نتصور قصيدة الملائكة يحققها النسق الإبداعي عبر المنجز التخيلي من رؤية ذات وجهين:
أوّلاً: المحصل الثقافي الذاتي، والمضاف إليه من مدركات الوعي الخارجي، أي الاحتذاء بالنظار والفصحاء، أمثال مصطفى جواد، وطه حسين، ومهدي عامل صاحب البنيوية التي أسهمت في بنية حداثوية مميزة.
ثانياً: تأثرها بالوعي المجتمعي المحيط بالدائرة الضيقة حولها، من أدباء، ونقاد، ومثقفين ثوريين، والملازم النوعي الآخر هو المنجز الثقافي العربي والغربي وتلاقحه مع وعي الشاعرة، وقدرة تأثيره عليها.
من وعي هذه الصفحات الفاعلة، أخذ التأسيس النوعي عند الملائكة يطلق حرية الانتقال في الصورة الشعرية المضيئة في نصوصها، الموحية لمعطيات قد لا تكون ملهمة لمشاعر المتلقي العادي في صعوبتها، كما سبقها دانتي في فلسفته الأحادية، والمتأثر به إليوت، وأستطيع القول إن الشاعر الإلهي دانتي بان تأثيره واضحا في بعض قصائدها مثل: "الأفعوان" "الكوليرا" "ثلج ونار" وبعض آخر من نتاجها الأدبي، كما هو الحال في تحولاتها النحوية، خاصة في قصيدتها القطار، ومن ثم تأثرها بالشاعر الهندي المعجزة طاغور، والفرنسي أدغار آلان بو، والشاعر الأنكليزي روبرت بروك. وكأننا نقرأ الملائكة إنعكاساً يصبح تفكيراً ناطقاً بالصور المحاكية لمركبات الصورة الغربية بدقتها.. كخيال الظلمة، والموت، والقنوط، والنهايات المغلقة، والحلول الملحقة بالتشاؤم، وهذه الأدوات اصبحت السمة المؤثرة في بعض بنيتها الصعبة، هذه المفردات وأخرى نجدها واردة في النصوص الشعرية الغربية، التي نتبينها واضحة الصفحات المعنية بالاحلام، والمرايا، والاشباح. ومع هذا نجد المراحل الأربعة المؤثرة في اضطرابات العامل النفسي المؤسس لبنى النمو والارتقاء، في عالمها الذي تتحكم به التراجيديا المعكوسة في جواب الصوت الحاكي في ثقافتها الطردية وهي:
1- العقل الانفعالي ومصباته الإدراكية الأصيلة.
2- الفهم الموسوعي ومنابعه المتعددة.
3- الاعتقاد الإيهامي وبواعث مؤثرات الأساطير.
4- موسوعة التخيل التشكيلي النفسي.
ومن خلال بنية تأثير هذه العوامل، تتلاقى مرتبات إبانة التفاعل الثقافي في إعادة مفهوم البنى التركيبية المُحدثة للنحو التحويلي في مثالية النص، من قرار تنشيط فاعلية تأملات الذات، المانحة الحقيقية لمأسسة نواة توليد الطاقة التوليفية، التي تمنح الشعر حيوية وفيض يبقى ماثلا في مخيلة القارئ. وهو الدليل الأهم الذي يجعل من الشاعرة أيا كانت تمنح اليقين الناجع لمقبولية نصها، وهذا ما يدعونا إلى الاجتهاد في الكشف عن أسرار النص في تفكيرنا الاستقرائي من معيون أبعاده التوليدية، وذلك بتأكيد الإحاطة أن نكون ملمين بسبر أغواره اللامنتهية، ذات الشأن المتجلي في استرخاء العمق التعبيري، فيما تطلقه بلاغة الملائكة من شجن، وذلك بقدرتها على محاكاة الدقة في طابع اللغة الانزياحي، عبر صور قل نظيرها عند شاعرات جيلها، الأعمق والأكثر كثافة في النوعية، وصفاء تجليات خيال التوحد الروحي الميتافيزيقي، المؤكد على صفاء معادن أدواتها الواضح فعلها في محسنها الشعري. فقد تأسست حياتها منذ ولادتها الشعرية وحتى موتها عبارة عن قصيدة لا تنتهي، وإن تراجعت شعريتها في الآونة الأخيرة، وربما نكصت نكوصا واضحاً. لكننا وجدنا الملائكة دائمة التقرب والتواصل والتعاطي المميز مع المنجز الشعري العربي والعالمي، خاصة ما تمايزت ثقافات شخصيتها السحرية، بتناص مع قامات عالمية مهمة، وارتباطها بفلسفات تعبر عن القيمة النوعية كالفلسفة الدانتية، والكانطية، كذلك الحال عند بلويلر ويونج، وبول ماتيك، والماركسي أنتوني بانيوك، وكارل كروش، طبعا مع تطورات التميِّز التحويلي عند كل كاتب من هؤلاء، من خلال نمذجة مفاهيمهم الخاصة التي انعكست بقوة على المسرح التنوعي الثقافي.
كل ما تقدم من تبيين، هو إلقاء نظرة على حياة وأسلوب وثقافة ومميزات الملائكة، التي اوضحنا فيها عن نتائج تخصنا في هذا البحث عن الفترة التي تلت شعرها الكلاسيكي، ولكن حين نقرأ الاختتامات، أي تمام الغرض في شعرها، عند ذاك نفهم الملائكة على حقيقة إبداعها الصعب والغني بآن. وهي تطبق عبارة برنادشو: " اللاقاعدة هي القاعدة الذهبية." وتدافع عن هذه الفلسفة قائلة: " لسبب هام، هو أن الشعر وليد أحداث الحياة، وليس للحياة قاعدة معينة تتبعها في ترتيب أحداثها."*
اعلنت الملائكة على أن قصيدتها "مر القطار" من القصائد المهمة، الفاعل أثرها في الحركة الشعرية العربية والعالمية، فقالت عنها: "غرضي االأساسي من كتابتها أن أعبر عن الشعور الغامض الذي يحسه المسافر ليلاً على الدرجة الثالثة بالقطار." إذن دعونا نسافر مع الملائكة في قطارها:
مر القطار
الليل ممتدُّ السكونِ إلى المدَى
لا شيءَ يقطعُهُ سوى صوتٍ بليدْ
لحمامةٍ حَيْرى وكلبٍ ينبَحُ النجمَ البعيدْ،
والساعةُ البلهاءُ تلتهمُ الغدا
إذن: القطار، الحمامة، الكلب، الساعة أو الزمن، الركاب، الغبار، العجلات، النجوم، التلال، المصباح، الظلام، الحقائب وغيرها من أدوات عمقت الألطاف في بنية المعاني، حيث نجد في أغلب قصائد الملائكة التأثر بالواقعي الإلهامي المباشر، ومقاربة النحو الشكلي في معالجته بما يحتويه الواقع من أحداث وتهيئات، فقد ساقت للقطار افعالاً تشابه ثقل زمن تلك الرحلة، ضمن سياق مرتبط بالمحور النظري الملازم للحوار شديد الاتفاق، لما تتحسسه الذات الفاعلة المرتبطة ارتباطا نوعياً بالوعي المتفاعل مع حالة الزمن، كل هذا يتمثل في البنية الفلسفية للفكرة، من خلال لغتها الفطرية الاستقرائية الفنية التي ارتقت إلى ولادات النمو الصوتي الإبلاغي، الذي يمكن النفاذ إليه عبر قراءة مرنة، تكشف عن فضاءات تعاين قسوة القيود الصناعية على راحة الراكب،
1- الملائكة، نازك: ديوان نازك الملائكة، المجلد الثاني، دار العودة، بيروت، الطبعة الطبعة الأولى 1986، ص 7.
وهنا تقوم مقاربة المبادئ والوسائط الفنية تحدث إشباعاً نوعياً يرضي الذائقة التلقائية غايتها، بأستثناء الفرضيات اللسانية التي يفقدها صوت الحمامة، ونباح الكلب من خلال اختلاف اللغة، فقد جاءت هذه الملاقحة أشبه بتمييز الخصائص الكلية على ما يتم من توافق في تنظيم تحول التجاذب الصوتي شديد الحيوية، بما يطلقه ألق الذكاء الاستعاري.
مع أنه شديد الاختلاف خاصة في المقطع الأخير من جملتها الشعرية: "وكلبٌ ينبحُ النجمَ البعيد" والشاعرة هنا تقصد: الكلب المناجي للسماء برفع رأسه إلى الأعلى وهو نوع من أنواع التجلي بأثر الوحدانية التي تصيب الكلاب خاصة، فيتحول الصوت وكأنه يشتكي نجمه. أما الحمامة المعروف عنها إنها تتمتم في الليل وتطلق هديلها، هذا ناهيك عن قول الشاعرة على نحو واع في انسياب البنى الصوتية وتأثيراتها المرنة على مجمل البناء التقني في قولها: "لا شيء يقطعه سوى صوت لحمامة حيرى..." واللام التي تتقدم الأسم "الحمامة" هي لام الانتساب "ضمن حروف المباني" أو توكيد الرابطة الفنية، وقد أصبح الرمز "الحمامة" مقياساً للوظائف الحسية، بجهة رد الفعل النفسي. يقول غالتون: "الأفكار الإبداعية لا تزود إلا العقل المهيأ لها، ما ينبغي أن تقوم به هو ألا ترددها على نحو ببغائي، بل أن تضيف إليها من ذاتك وخبراتك وانفعالاتك"*. وتأكيداً لهذا الرأي نجد أن الموصول الدلالي: "الحمامة" التيمة التي لاقحت الملازمة المتمثلة بوعي الرمز، نجدها قد احاطت تطابق نسقها بالمقابلة وأشكالها، فأصبحت الحمامة الفائض التقني لطبيعة النسق المضاف، هذا إذا احتكمنا إلى مشروعية التأويل، فيكون التأويل يمنح الدلالة قوة اكتساب المعنى لمشروعيته، فإذا كانت الشاعرة تشتكي من عثرات الراحة في القطار، فهديل الحمامة شكوى روحية دائمة تنادي من يخلصها من حزنها الأزلي، ويعيد لها ابنها التائه، كما تحدثت بهذا الأسطورة. *
وهناك في بعضِ الجهاتْ
مرَّ القطارْ
عجلاتُهُ غزلتْ رجاءً بتُّ أنتظرُ النهارْ
من أجلِهِ .. مرَّ القطارْ
وخبا بعيداً في السكونْ
خلفَ التلال النائياتْ
لم يبقَ في نفسي سوى رجْعٍ وَهُونْ
وأنا أحدّقُ في النجومِ الحالماتْ
أتخيلُ العرباتِ والصفَّ الطويلْ
من ساهرينَ ومتعبينْ
أتخيلُ الليلَ الثقيلْ
في أعينٍ سئمتْ وجوهَ الراكبينْ
في ضوءِ مصباحِ القطارِ الباهتِ
سَئمتْ مراقبةَ الظلامِ الصامتِ
أتصوّرُ الضجَرَ المريرْ
في أنفس ملّت وأتعبها الصفيرْ
هي والحقائبُ في انتظارْ
هي والحقائبُ تحت أكداسِ الغبارْ
تغفو دقائقَ ثم يوقظها القطارْ
وُيطِلُّ بعضُ الراكبينْ
متثائباً، نعسانَ، في كسلٍ يحدّق في القِفارْ
"وهناك في بعض الجهات مر القطار"
وهنا اجلستنا الشاعرة على مقاعد القطار المتربة، وادخلتنا في المناخ التخيلي، القائم على التمثلات، أو غرابة الإحساس، وقد نسميها المنازعات النفسية، عبر أدوات تحاول من خلالها معالجة ما ينتج من تصورات وآلام تنتجها الانفعالات والألغاز، وهي صوّر رؤيوية إشارية تعتمد على المشابهة والتوقعات، تاركة الفرد يعيش في دوامة من الغرائب، والأحكام، وفقدان طاقة التركيز على ما ينتج من الجو الانفعالي من حوله، في قولها: "مرَّ القطارْ \ عجلاتهُ غزلت رجاءً بت أنتظرُ النهارْ \ وخبأ بعيداً في السكون \ خلف التلال النائيات."، إذا اجتهدنا في غربلة هذه الأفكار وفك رموزالصوَّر الشعرية، نجدها قد مرت بمصفاة كيتس واستلهمت آثاره، كونه مجرباً مميزاً على مستوى الايقاع، بيد أن نازك اخضعت المسافر لسلطة الرتابة الصورية الواقعة في البنية التشاؤمية، بسبب قياسات النبض الداخلي المرتبك الذي لم تعتده نازك، خاصة الجانب المختص بالرمزية السياسية في جوانبها الشعرية، وهذا تعبير آخر يأخذنا إلى الخصوصية النوعية فائضة القيمة الحسية، والمُبَسْطةِ في واقعيتها، كونها اذاعت تجلي صورها من باطنية محاكاة الموهبة النافعة في اليقين الشعري، وإن تعثرت قليلاً فيما يختص بما يعارض المباني الفنية على المناقضة. لكنها وفي سياق آخر ذكي اعادتنا رمزيتها إلى المراحل الأولى لعصر التمدن، وحال لسان شعرها يقول:
كلما زاد العالم تمدنا، كلما زاد العراق تخلفاً، رغم خصوبة تربته البشرية، وذلك بفضل حكامه الأشرار، كأنهم يعيدوننا إلى المراحل البدائية للتطور البشري، فتجدنا نحاول أن نشرع بإعادة قراءة إمكانات جديدة لأكتشاف الذات الحرة، وهذا ما تعنيه الشاعرة في قولها: "بتُ أنتظرُ النهار" أي ما تربو إليه النفس من متعة إشراق التمدن ومفرداته التنويرية، وحال القطار يشق الظلام عبر تلال نائيات خاليات من البشر، ومما يزيد من عزلة الراكب في هذه الثلاثية ذات القوائم الحادة: الآلة المتخلفة \ الزمان \ المسافر، تنتج احتمالية طرائق الخوف الترجيحية على مداها المعقد، حيث تصبح الحلول المرنة مستحيلة، أو على الأقل غير وارد بما يمتع نفسية المسافر على الدرجة الثالثة، وهذا يشير إلى أسباب الملل والارهاق، مع افتقار هذا القطار إلى وسائل الراحة، فيصبح السكون الذي يحيط بالقطار شبحاً مهيمناً يتفاعل سلباً مع النوازع النفسية المستعينة على التركيز العقلي وفواعله، التي يجب أن تتحلى بالمسلكية الإنسانية وبالحكمة في مراحل السفر.
ولذا فقد عملت نازك بهذا الاتجاه الذي يحتكم إلى جملة من التباينات، أن تشتغل على منهج التسوير والحصانة في احادية قانون منهجها الخالص، في نقاط قابلة ومطروحة لنقد النقد، نضعها في منطقة الجدل والحوار وهي:
1- ما يؤهل إلى قطع التوازي بين: الصوت والمعنى في النظم البنائية.
2- ما يتفاعل مع بوح جمالية الترتيب الذي يصاحب فعله.
3- ما يتضاد بين الوظيفة المرجعية، والوظيفة الانفعالية، فينتج النص المعجمي مختصاً بالناقد أو الشاعر، والمثقف الثوري.
وكأنها تحاول أن تدلنا على بلاغة مهاراتها الخاصة. لأن البلاغة قد تكون في كل النص، وقد تكون في مكان ما في النص، أو قد لا تكون كلياً، كما فعل ماركيز الروائي عندما قدم في أعماله الرائعة ما يكون مُعْجِزاً، جعله حاصلاً في النظم الإحصائية، عبر تخصيب بلاغة السرد المنعش للتلقي الذي يشد القارىء عبر بلاغة كل العبارات الحاكية. وهذا ينطبق أيضاً على ما تبناه بورخيس البروفسيور. وبودي أن أشير إلى أن وجوب قيمة كل إبداع إنما ينحصر في مساحة قدرة الأدوات النوعية، التي تعمل باتجاه تبلور بناءات مفاهيمية تحاكي أحلام الإنسان وتمنياته العاطفية، وتلك معطيات اعتبرتها الشاعرة إنجازاً: يرفع من مستوى الاستبدال إلى مستوى استنباط يؤسس ويفعل أحكام النسق إلى رؤية جديدة، حتى يمنح التمثيل الفني بلوغ سطوته على القارىء، عبر ايماءات وليدة الإبداع في تخيلها العميق، تكشف عن علانية ديمومتها التفاعلية، وذلك باطلاق ثقافة المعنى إلى رحاب أوسع
1- غالتون، فرانسيس: "حركة القياس النفسي"، سلسلة عالم المعرفة، تأليف د. محمد طه، مطابع المجموعة الدولية 2006، ص 25.
لكي تكسب ثقة القراءة بجديدها. يقول الشاعر الناقد الانكليزي ستيفن سبندر مع قليل في نقد الأنوية: "المطلوب من الشاعر أن يجد انسجاماً بين ذاته وذات المجتمع. ولكنه أبى لنفسه أن يكون من زمرة الطبيعيين".
وكأن ليلة القطار لم تنته: "ليلة من ألف ليلة وليلة" ليلة أشَدّ قسوة على الراكب وقولها: "في أنفس ملت وأتعبها الصفير". وهذا ظاهرٌ معناه لمن يتأمله، فشدة السهر على الإنسان بانت بوضوح في قولها: "تغفو دقائق ثم يوقظها القطار". في هذا المقطع أجادت تنزيل المحتمل أن لا يكون محتملا. وهو تصرف في التأويل لما تقيمه من تنشيط دقيق للبراهين عبر سعة مدلولاتها، وهذا الأسلوب أصبح قانونا للملائكة، ومن جاء بعدها من شاعرات، لم يخضعن التقنية لمفهوم المناقضة ما بين الفلسفة والشعر، على أعتبار الشعر ليس بيانا يحكمه الإرشاد والنوايا الخطابية، أو النظريات المعقدة، أو أفكار منهوبة من هذه الصفحة أو تلك، إنما الشعر وحي بلاغي منسق أُحْكِمَتْ أوزانه، وتعددت معانيه، وفُصلتْ غاياته، فكان وما زال هو المهد الذي يتسع الأغاني، والمعرفة، والدلالة التأريخية، من طور قديم إلى طور التجديد، بفعل الحداثة العلمية والثقافية والمجتمعية التي طورت حاصل الإلهام المبني على التنويع أن يجنح إلى لزوم يلائم طبيعة التطور العام المعكوس ايجاباً على بنية النص الشعري. عبر لعبة رؤيوية تفاعلية تعتمد محاسنة الأداء الإبداعي، الذي يجب أن يحدث إشباعاً في الأشكال الشعرية المختلفة ومنها ما تهتم به الأفكار الموحية للإلهامية المكتسبة، ومنها موهبة خالصة ونقية من العث والرداءة والتسفيط.
وهذا يعيدنا إلى المقدمة المتجانسة في خصوبة الألفاظ المحركة لباطنية المعنى، بوصفه أي الشعر يؤسس لنظامٍ حسيٍ يكشفُ لنا عن الدلالات الخصبة في البوح الفائض من منبع بعدها الإيحائي، بحيث يشعر القارىء بتفاعله الايجابي مع المشاعر التي تنتجها الهوية القيمية الجمالية، من خلال تكوينات المنتج الإبداعي الذي أذاع فهماً متعدداً، وهو يكشفت عن الملموس السلبي أو الأيجابي في النظم التوليدية، ولذلك جاء أجتهاد الشاعرة أن تكشف لنا من حيث رمزها "القطار" عن الفارق بين الدكتاتوريات العربية، وبين الحضارة الأوروبية، فتقيم التبادل الواعي المتكافىء بين: الوعي المقصود، واللاوعي الفاعل، على خط مستقيم من الأقدم إلى الأحدث، ومن الأرقى إلى الأبسط، وهذا ما يوعز أن الفكر الغربي المتأثرة به الشاعرة، ساوى ما بين التطور والحداثة، والفكر العربي ساوى ما بين الدكتاتورية والتخلف. وهذا ما توضح مؤخراً عند غارودي في كتابه: "نداء إلى الأحياء" والذي تمثل في المنحى الفلسفي على مستوى الذكاء الجريء، لكنه من حيث التأثير الفعلي لم يصل إلى درجة النبوغ كما هو الحال عند غوركي، وتولستوي، أو نابليون، أو دافنشي، أو نيوتن، أو جاليلو، أو كما جاء في المعرفة الكلاسيكية واتجاهها النقدي عند بيار كلاستر، الذي رأى أن النظرة التطورية إلى التاريخ تعكس نظرة الإنسان إلى ذاته. والمعنى بهذا السياق يأخذنا إلى مبدأ الحوار مع الذات الشاعرة، فالشعر إن لم تكيفه سلطة الميتافيزيقيا يصبح النص فاقداً وضوحه الإبداعي، حتى إذا كان النص عاطفيا يخضع لتزويق الأسوب بحرفية معينة، وحتى يكون الشعر منبعه الإشراق والإيحاء، يجب ملاحظة حركية البعد الإلهامي الذي يهيء طاقة توحي إلى وجدانية المعنى، وأبعاد تنوع دلالاته الروحية، وثرائها الفطري النابع من خصوبة الرؤيا والخيال المفتوح على المدى التنويعي. وإذا احتكمنا إلى المجاز، على اعتباره مخلصاً اعتباريا للاجتياز الدلالي من الشكلي إلى الرمزي، فهذا لا يعني إسقاط أو تقويض البناء الملحمي على صيغ تحتكم البلاغة في منحاها، فعدم استغلال أو تبني قوة الألفاظ، تجعل من القصيدة تابعية للكلام المتعارف عليها في الجناس الشعري الشائع في الاساليب القديمة التي أضعفت شفافية التوصيل. ولهذا نقول على الشاعر أن يجدد أدواته وثقافته ومعاصرته، حتى لا يكرر نفسه، وكما قال جوته: " "يمكنك أن تصنع الجمال حتى من الحجارة التي توضع لك عثرة في الطريق" بمعنى يجب أن لا نكرر أخطاءنا كما فعل هاملت بقوله: "أيها القلب تحطم، لأن عليّ أن أمسك لساني". هذا يدلنا على أن الشاعر يجب أن يكون جريئاً، منفصلاً عن الأفكار المنحطة التي تقيد حرية الشعر، وتقبره في منحى بعيد عن الشاعرية الأصيلة.
1- غوته، يوهان: من أقوال غوته عبر ويكيبيديا.
إذن فالقطار يمر محملا بالتعب وإنهاك المسافر من تجمع الغبار على المقاعد والحقائب، وصفيره الممل والمتعب للراحة التي طال انتظارها، والقطار يتمايل يميناً ويساراً كتمايل السفينة بفعل الأمواج العاتية، وقولها: "أتخيلُ العرباتِ والصفَّ الطويل" مع أن هذا القطار يسير في بلد النفط، الغنى بتنوع موارده، وكثرة مياهه وزراعته، وتنوع المعادن فيه. لكننا لا نجد الحاكم العربي يبحث في مجالات التطور فيما يختص بالصناعات والابتكار، بقدر ما نجده متحولاً بحالاته الخاصة إلى وحش مستتر خلف الخطاب الوصولي، عندما اختارت الملائكة سير القطار في الظلام، إنما نوت بنسبة معينة أن تظهر البعد الدلالي السياسي والتعبير عنه، في قولها: " لم يبقَ في نفسي سوى رجْعٍ وَهُونْ \ وأنا أحدّقُ في النجومِ الحالماتْ" ولم نبتعد كثيراً فالذاكرة الإنسانية ما زالت تحتفظ بعصر الظلمات، عندما كان الإنسان بنظر الحاكم ما هو إلا شبح مطيع لأوامره، فمنذ العصر الأموي وليومنا هذا، بقي العربي مسيراً تقوده السياط والركلات القاسية. وما الفرق بين عصر العبيد، وسلطة الدكتاتوريات العربية المنحطة، فالشاعرة متألمة من جهة أن هذا البلد يحكمه الجهلة، جماعة من الفاشيين، والطائفيين القدماء والجدد. فالظلام هو ظلام الأنظمة القاهرة لشعوبها، ولو تصفحنا تاريخ هذه القصيدة لوجدناها مكتوبة عام 1948 ، في العهد الملكي، وكان يرأس الحكومة العراقية في ذلك الوقت، نوري السعيد، الذي أعدم أصحاب الرأي والتنوير قادة الحزب الشيوعي العراقي عام 1949 وهم: "فهد مؤسس الحزب الشيوعي العراقي، وحازم عضو مكتب سياسي في الحزب ، وصارم عضو مكتب سياسي في الحزب ذاته.
في هذه القصيدة اسخدمت الشاعرة المفاتيح النقدية، التي دفعت الرموز الإدراكية المحصنة بفعل البنيوية الحديثة المعاصرة، إلى غاية تبلورها، وهي المتأثرة بها أشد تأثير بفعل الزمن الانتقالي في روح القصيدة، الذي أتفق على تسميتها ب "التضمين"، ما بعد البرغماتية الجديدة قصيرة الأمد، مع أن الملائكة تفاعلت معها بشغف حسب رأي جبرا أبراهيم جبرا. كذلك اخذت الملائكة حينها تلعب دوراً كبيراً بالدفاع عن الفلسفة العقلانية في: "اللغة \ والبنيوية" عند منظرها العظيم مهدي عامل. من مبدأ المدخل التكويني، حيث نجد الملائكة قد تفاعلت مع الشعر من حواس دائرة المعنى، بتجريد ذهني خالص، خاصة ما أستقته في ثقافتها المختلفة: من المدرسة الكانطية التنويرية، أو التعاليم الصاخبة عند فوكو، أو من الإرث الممتد بعيداً إلى ديكارت، أو تفكيك السلطة الإبداعية وأثر الخيال عليها عند سبينوزا. في قولها في مقدمة أعمالها الكاملة في الجزء الثاني: "فنحن عموماً ما زلنا أسرى، تسيرنا القواعد التي وضعها أسلافنا في الجاهلية وصدر الإسلام. ما زلنا نلهث في قصائدنا ونجر عواطفنا المقيدة بسلاسل الأوزان القديمة، وقرقعة الألفاظ الميتة"* ودليلها نابع من إحكام تأسيس نص جديد من عالم مرئي معطٍ للحواس، تتحقق على مرماه أبعاد العوامل التي تتضمن البنى التحويلية في الأساليب المجددة في طبيعة النص الإيحائي، وليس التأليفي، وقولها يتلخص في:
أولاً: فلسفة الشعور بالعجز، عند راكب القطار، فقد وضعته في سجال مستمر مع الحدوس، وما تنتج صورها من مفاجآت تحتمل الكثير من الريبة والشك، وعدم الثقة بالنفس، وبالواقع المحيط. في قولها: " سَئمتْ مراقبةَ الظلامِ الصامتِ \ أتصوّرُ الضجَرَ المريرْ ْ". وهنا تبلغ القصيدة ذروة تجلياتها، تمثيلاً لنهجها التجديدي، وذلك بتسليط ضوء الواقعية على مفاهيمها، فالشاعرة بحالاتها القصوى تتعامل باتزان الوجدان، ولكن بعدم الاستقرار العاطفي. باستثناء ما جاء من ثقل سببته ثيمة: "الصامت" فلو حررت جملتها الشعرية "سئمت.." من ثيمة الصامت، لأصبحت الجملة مفتوحة على إيماءات واسعة الدلالات، ولكنها خذلتها واربكتها عندما وضعتها في إطارها الواقعي، مما عطلت تجليات الرمز من غاياته. ولأن الوزن أحكم الشاعرة، ايجاد كلمة ذات صلة. وهنا تكمن قوة السياب الخالد إنه جعل من الوزن طيعا له، وليس العكس.
ثانياً: اشكالية الحوار، احالت الأفكار الشائكة إلى: الأنا "العقل"، والذات "العاطفة"التي سميت عند العامة "الفؤاد". بمعنى أن الراكب أعزل من كل الحلول، وخاصة إذا كان هذا الراكب امرأة، فمحاكاة النفس للخوف من الظلام، والوحدة، والاعتداء،
1- الملائكة، نازك: ديوان نازك الملائكة، المجلد الثاني، دار العودة - بيروت، الطبعة الأولى 1986، ص8.
وسقوط النعاس عليها، قد يجعلها سهلة الاقتناص، كل هذه الأسباب تضع الراكب في جدل دائم، في قولها المشترك بحالة التصوّر المثالي، من تلعثمات أو شبهات أو أخطاء خارجة عن المعالجة: "أتخيل الليلَ الثقيل \ في أعينٍ سئمت وجوهَ الراكبين" وفي مكان آخر تقول: "ويكادُ يغفو ثم يسمَعُ في شُرُودْ \ صوتاً يغمغمُ في برود \ هذي العقارب لا تسير."
ثالثاً: حدود الإرادة، وهي ضياع الحيلة والكفاءة في الذكاء الفطري في معالجة ما سوف يحدث من عواقب غير معروفة، وهكذا يكون للرهبة منحنيان مزدوجان: الأول تخيلي – وصفي. والثاني تسليم بالأمر لما سيحدث. في قولها الذي يضعنا أمام معركة يحيطها التشاؤم من كل الجهات: "وفتىً هنالك في انطواء \ في مقلتيه برودةٌ حطَّ الوجوم \ ألقت عليه حرارةُ الأحلام آثارَ احمرار".
اعتمدت الملائكة المقدرة التوصيلية عبر مجسات الحواس المتفاعلة مع البصيرة، لما حققته للمصبات الحداثوية من تنويع، حيث جددت في المقدرات التي تلبي أفق مدارها التنويعي الجمعي بأكثر من رؤية، وحسب قول هابرماس: الأفق العام المتنور، وهذا ما اشتغلت على اساسه الملائكة فأسمته: "بالقوة الإيحائية" وهو ما نعنيه في مقالتنا توصيل الصوت الإيحائي من نواته إلى المدار المحيط به. وهذا نجده عند الكثير من الشاعرات العربيات أمثال:
* بلقيس ملحم: الشاعرة الشجاعة المجددة للقصيدة الإيحائية وفواعلها الذكية، وهي تعيش في محيط يؤمه واقع القحط المدني، وهذا ما دعاها أن تعتمد بنية الرمز الحاد، بأسلوبية الدفاع الاحتياطي.
* غادة السمان: حققت للشعر بعده التنويعي، الموالف لمعطيات الفهم التأويلي في بنية الصورة، وطورت من بلوغ فصاحة الاستعارة الملبية لحاجات المعاني، من آفاق لها تركيبتها في الصورة الشعرية، التي تتحمل تضمينات محورية، كونها نتاجاً انعكاسياً من مديات رؤيتها الخاصة.
* فدوى طوقان: الشاعرة الثائرة على التقاليد البالية. التي حققت في نصها سياقاً اجتماعياً مختلفا عن الجو المحيط بها.
*آمال الزهاوي: صاحبة قصيدة النقاش المفتوح.
فكل واحدة من هؤلاء اعتبرت أن النص عناها وقصدها، فهو مجالها المميز، وميدانها الرحب، وسلاحها الأمضى. فالنص النثري عند كثير من الشاعرات العربيات هو تعديل في مجد طريقة التفعيلة كما أرادت الملائكة للتجديد أن يكون، كون التجديد يجنح على مساحة أوسع في التعبير عن تداعيات مساحة القصيدة، كونه يصدر عن رؤيا شاملة تعبر عن حاجات الكائنات والأشياء، فيسرد غاياتها عبر مجسات تلازم الصور الشعرية، فتكون الألفاظ هنا هي المسوغ الأساسي في توليد طاقة حسية تهاتف نغمية الأوتار التوصيلية، أن تطلق تقطيعات لحنية تمزج النبض اللفظي في إنسياح المعاني، وهذا ما يفاعل حساسية الرؤيا الإيقاعية في أعماق النص، فيجعلها تمتاز بقدرة عالية على الايحاء، كما هو الحال في قصائدها" الراقصة المذبوحة \ لحن النسيان \ السلم المنهار \ أغنية لشمس الشتاء".
ويلوحُ مصباحُ الخفيرْ /
ويلوحُ ضوء محطةٍ عبرَ المساء
تستمد الصورة الشعرية ألقها التخيلي من خصوبة المرئيات، التي تعتمد على عمق الإحساس، وأبعاد التعبير. كما أراد لها أرسطو أن تبدو من خلال الملموسات والتشبيه، لأن الصورة تتحدث عن الأمل، هل لاح فعلاً؟ ويجيب على هذا السؤال جان كوين: "إن الإجابة توجد في التقابل بين النمطين*". تلك هي معجزات الشعر المؤمل له أن يشتمل على تحسين وتكثيف المناحي الذكية، والإشارات الذكية الموجبة في بنية الصورة؟ حتى يكون الوجه الشعري مدهشاً في تنوعاته التأملية، فتكون القراءة غير الشاقة مقبولة، تجلس القارىء منشغلاً في ما سوف ينتج محصولها من توارد للأفكار الغنية في مدلولاتها، وابعادها التي تحتمل الضدّين بين متلقٍ يدهشه النص، وآخر ليس بالمستوى المطلوب لفهم هذا النص. إذا سلمنا من مبدأ أن الشاعر صالح للضدين فهذا شاعر يمكن أن يجلس في خانة السياب مبتهجاً.
1- محمد عياد، شكري: اتجاهات البحث الأسلوبي، مجلة شعر، العدد 10، ص 55.
فإذا طل مصباح الخفير، طل الرمز الواقع اصلاً في الحياة اليومية العملية، ولكن الشاعرة لها رأي آخر في هذا الرمز الذكي، ياترى هل يكون هذا المصباح أملاً للعراقيين، والعرب بفجر جديد؟ وهذا ما لاح فعلاً بأثر الثورات الخمسينية في مصر والعراق التي تحصد محصول عذاباتها! فالحاكم العربي حكمه يقوم على تحطيم الإنسان العربي لا غير، وها نحن اليوم أمام إضاءة كل المصابيح العربية، وذلك بتحطيم القيد الذي كسر ظهرنا لأعوام طويلة، ما دامت هناك يد الحرية تحرك هذا الأمل. وما كان عند الملائكة في قصيدة القطار أمل يدعو إلى ضوء حقيقي، بعد ما كان يلوح من محطة ربما لا تنفع الراكب بشيء، ولكنه ضوء فعلته الشاعرة لأن يجمل النص برمزيته المتحركة.
تمت
هوامش:
1- محبوبة، عبدالهادي: مؤتمر المرأة العربية الإبداع، القاهرة 2002، بالاشتراك مع أ. د. جابر عصفور وعبده بدوي، وبذلك المؤتمر كرمت الشاعرة نازك الملائكة على أنها شاعرة العرب.
2- د. صباغ الحكيم، حكمت: جدلية النص الأدبي، مجلة الأقلام، الصادرة عن دار الشؤون الثقافية، بغداد، العدد التاسع، أيلول 1981، ص25.
3- تشومسكي، افرام نعوم: ملامح النظرية التركيبية، مكتبة دار الثقافة، القاهرة، الطبعة الثانية 1982، ص118.
4- باختين، ميخائيل: المنهج الشكلي في علم الأدب، دار الفارابي بيروت، الطبعة الأولى 1965، ص22.
- بيكون، فرنسيس: الأورغانون، ترجمة د. عادل مصطفى، دار رؤية للنشر، القاهرة، الطبعة الأولى 2013، ص299.
5 الصايغ، عبدالإله: موضوع بحثي، "جيل الرواد حسب التسلسل الريادي"، موقع النور 2017،
6- الملائكة، نازك: ديوان نازك الملائكة، دار العودة بيروت، المجلد الأول، 1986، ص6.
7- زكريا، فؤاد: جمهورية افلاطون، ترجمة فؤاد زكريا، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، لبنان بيروت، الطبعة الأولى 2013، ص 318.
8- ابن رشيق: أبي علي الحسن القيرواني: العمدة في صناعة الشعر ونقده، مطبعة السادة، الطبعة الأولى 1907، ص107
9- الملائكة، نازك: ديوان نازك الملائكة، المجلد الثاني، دار العودة، بيروت، الطبعة الطبعة الأولى 1986، ص 7.
10- غالتون، فرانسيس: "حركة القياس النفسي"، سلسلة عالم المعرفة، تأليف د. محمد طه، مطابع المجموعة الدولية 2006، ص 25.
11- غوته، يوهان: من أقوال غوته عبر ويكيبيديا.
12 - الملائكة، نازك: ديوان نازك الملائكة، المجلد الثاني، دار العودة - بيروت، الطبعة الأولى 1986، ص8.