ليس الغرض من هذه الكلمة تعبير شعراء الشباب بفقر ثقافتهم، ولكن الغرض منها هو التعاون العام بين من تعنيهم نهضة الشعر العربي، وبين أولئك الشعراء الذين تعتمد عليهم نهضتنا الأدبية كل الاعتماد في الأخذ بيد الشعر، وتجديده، والاتجاه به إلى الوجهات التي ظل الشعر العربي محروماً منها إلى اليوم
ونحن حينما ندعو إلى وجوب إحداث ثورة - أو نهضة - في الشعر العربي، نؤمن بأن الثورة - أو النهضة - ليست عبثاً يستطيع أن ينهض به أولئك المتأدبون الظرفاء الذين عرفوا بعض موازين الشعر. وقواعد العروض، فكان حسبهم من الشعر كله هذه المعرفة البائسة التي انقلبت في رؤوسهم غروراً ذميماً، وخيلاء لا تعرف التواضع، وأحلاماً تشبه أحلام الصائمين في هذا الزمان بالأطايب والأشربات!
لا يستطيع جاهل أن ينفع جاهل أن ينفع نفسه ولا أن ينفع أمته. . . ولا تستطيع جماعة من الجهلاء أن تضطلع بعمل يحتاج القيام به إلى علم وبصيرة وطول تجربة. . . وقد طالبنا شعراء الشباب بإحداث نهضة في الشعر العربي تشمله كله شكلاً وموضوعاً. . . فما راعنا إلا أن يظن أولئك المتأدبون الظرفاء أننا ندعوهم لهذا العمل، ونعتمد عليهم في القيام به. . . فأمطرونا بمئات كثيرة من هذياناتهم التي دعوها شعراً. . . ومع إعجابنا الشديد بعدد كبير مما وصلنا من المنظومات الشائقة من مصر ومن جميع الأقطار العربية إلا أننا لم نستطع منافقة أصحاب الكثرة الغالبة من المنظومات الأخرى التي تضطرنا إلى مصارحة إخواننا الظرفاء هؤلاء بوجوب النصح لهم بالانصراف عن قرض الشعر، ومعاطاة صناعتهم البائرة تلك، التي سوف تجر عليهم عقابيل من الحسرات لا قبل لهم بها. . . وليس في تعبيرنا بذلك الأسلوب قسوة على أحد. . . فالمسألة جد لا لعب. . . إنا مفتقرون إلى شعر جديد يشحذ من همة الأمم العربية، وترى فيه تلك الأمم آمالها ومطامحها، وترى فيه أدباً جديداً حياً سائغاً لا نقلد به العباسيين، ولا نمشي به في آثار الأمويين أو الأندلسيين. . . نريد شعراً تتجلى فيه شخصيتنا قوية مستقلة لها طريقته الخاصة من الأداء والتفكير. . . لا شعراً مقلداً رثاً تكرثه روح الماضي، وتجثم على صدره قيود الغابرين. . . ونحن حينما هتفنا بشعراء الشباب ليتغنوا آمالنا الجديدة، ولينشدوا لنا أنشودة العالم العربي الحديث، لم نكن نزعم أن هؤلاء الشعراء مبرءون من العيوب، ولكنا كنا نزعم أنهم أقدر على التجديد من الشعراء الشيوخ الإجلاء، الذين نحبهم ونحترمهم. وإن خامرنا الشك في قدرتهم على التجديد، لأنهم عاشوا معظم حياتهم في هذا القديم الذي لم يعرفوا غيره
غير أن الشعراء الشباب - أو أغلبية الشعراء الشباب - المشهورين وغير المشهورين فقراء في ثقافتهم إلى درجة محزنة. . . والشاعر الفقير في ثقافته لا يستطيع أن ينهض بثورة في الشعر وإن حاولها، وأرق في سبيلها عينيه، لأنه مفتقر إلى الأدوات الأولى التي تمكنه من إتقان عمله، وتمهد له سبيله إلى قلوب قرائه. . .
ولسنا ندري إن كان كلامنا هذا سوف يغضب أحداً من هؤلاء الشعراء ما دمنا صادقين فيه، صادقين في إزجاء النصح لكل شاعر يود أن تكون له منزلة سامية في مستقبل هذا الشعر الذي ندعو إلى تجديده وإصلاحه
وشعر الشباب في الأقطار العربية فئتان. فئة تجهل اللغات الأجنبية، وفئة تعرف واحدة أو أكثر من واحدة من تلك اللغات. . . فالفئة التي تجهل اللغات الأجنبية لم تطلع على نماذج الشعر الأجنبي في لغاته الأصلية. وأكبر الظن أنها لا تدري ما الملحمة ولا الدرامة المنظومة ولا ما الشعر المرسل. . . وليس في ذلك ضير قط على شعراء هذه الفئة، وإن كنا نؤثر لهم تعلم إحدى هذه اللغات وإتقانها إلى الدرجة التي تساعدهم على مطالعة أشعارها لما للمحاكاة من أثر بالغ في تجديد شعرنا الذي نصبو إليه، فإن لم يتيسر لهم تعلم إحدى اللغات الأجنبية، فلا أقل من استيعاب كل ما يترجم من ملاحم تلك اللغات ومن دراماتها، ثم تطالب العبقرية العربية بتذكر أن تلك الملاحم وهذه الدرامات كانت شعراً في لغاتها الأصلية، فليس ما يمنع أن ننظم مثلها أو أرقى منها أو ما يدانيها بالشعر العربي. . . وإن لم يرقنا الشعر المرسل الذي دعونا إليه، ولا نزال نؤثره على غيره للملاحم وللدرامة المنظومة، فلنختر لنظم الملحمة أو الدرامة الطريقة العروضية التي تروقنا. إذ لا ينبغي أن يحول الشكل دون الغرض أما الفئة التي تعرف اللغات الأجنبية وتتقنها إلى الدرجة التي تقرأ بها الشعر الأجنبي قراءة مفهومة سائغة، فهي الفئة التي أخرجت لمصر وللشرق العربي أحسن شعرائها، ولسنا نريد أن نثير فتنة بين الفئتين بهذا التفضيل الذي لا يماري في حقيقته أحد، بل نحن - على العكس من ذلك - نريد أن نتهم أغلبية الفئتين بأنها أغلبية فقيرة الثقافة، قليلة الاطلاع، لا تحفل بأن تجاري تيارات الفكر العالمي، ولا بمواكبتها تلك المواكبة التي تنعكس في أشعارنا - أما موافقة وإما معارضة وإما ابتداعاً
إن المكتبة العربية لتحفل بطائفة قيمة من كتب النقد التي تتجلى عبقريات أسلافنا من النقاد العرب، والتي تطلعنا على موازين أدبية لا يقل كثير منها عما يروج اليوم من أساليب النقد الحديث في أوربا. . . فهل اطلع شعراؤنا الشباب - أو أغلبية شعرائنا الشباب - على هذه الكتب، وهل حاولوا الانتفاع بما أورده أصحابها فيها من كرائم اللفتات الأدبية التي تكون للقرائح الفجة، والأذواق الشاردة، كما تكون النار للذهب؟
هل قرأ شعراؤنا الشباب - أو أغلبية شعرائنا الشباب - كتاب العمدة لأبن رشيق، أو كتاب نقد الشعر ونقد النثر لقدامة؟ إنهم لا شك يسمعون عن كتاب الصناعتين للعسكري، فهل فكروا في قراءته والانتفاع بما فيه، أو بما في كتاب الموازنة بين أبي تمام والبحتري، أو كتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه؟! ثم كتب البيان والتبيين والكامل ومعاهد التنصيص وغيرها وغيرها من ذخائرنا التي لا تحضرنا الآن أسماؤها والتي لا داعي لحشد أسمائها. . .
إن هذه الكتب وغيرها ثروة ثمينة في المكتبة العربية القديمة لا غنى عنها لشاعر يحترم نفسه. . . شاعر يحس من نفسه بنواحي الضعف فلا يمنعه استعلاء أو غرور عن معالجتها بالإكباب على كتب القدامى من أبطال النقد الأدبي العربي، ثم بما تصل إليه يده من كتب النقد الحديث المؤلفة أو المترجمة، وهي كتب والحمد لله قد أنفق فيها مؤلفوها ومترجموها جهوداً محمودة مشكورة، يجب أن تقابل من طائفة الأدباء عامة، والشعراء بوجه خاص بحسن القراءة والمذاكرة، حتى يكتب الكتاب، وينظم الشعراء على هدى مما تلفتهم إليه تلك الكتب من عيوب الكتابة ومآخذ النظم، وحتى يستطيعوا أن يفهموا روح القوة - أو روح النهضة - التي نطلب إليهم الاضطلاع بأعبائها في الأدب العربي عامة، وفي الشعر العربي خاصة
ولدينا من كتب النقد الحديث طائفة صالحة جداً من إنتاج أشبال الجامعة ورجالها الصناديد، ومن إنتاج كرام كتابنا الذين مهدوا لنا طريق نهضتنا، وحملوا المشاعل الأولى بين أيدي أدبنا الغض المفتقر إلى الإصلاح والتجديد. . . فهل قرأ شعراؤنا الشباب، أو معظم شعرائنا الشباب، شيئاً من تلك الكتب، وهل انتفعوا بها في تنظيم إنتاجهم الأدبي؟
إن الشاعر الذي يكتفي بمواهبه في توجيه منظوماته هو شاعر تعس، لا يرجى منه خير كثير. . . والشاعر الذي يبخل على نفسه بشراء عشرة كتب في النقد القديم والحديث هو شاعر فقير في تفكيره، مريض في إنتاجه، غاط في نومه الممتلئ بأحلام النوكي والضعفاء. . . تلك الأحلام المريضة التي لن يصيب منها الأدب العربي، ولن يصيب منها الشعر العربي إلا ما أصاب من الزخارف الباطلة التي سماها أصحابها شعراً، وما هي من الشعر في شيء، لأنها عبث يغثي النفوس، ويكرب الأخيلة، ويزهد الإنسان في إنشاد الشعر
وليس تقصير شعرائنا الشباب، أو معظم شعرائنا الشباب في مطالعة كتب النقد هو كل ما نأخذه عليهم، بل يحزننا أن نقرر أن أكثرهم لا يقرءون من الشعر العربي إلا قدراً ضئيلاً لا يُقوّم ألسنة، ولا يكسب ثروة، ولا يربي ملكة، ولا يطبع ذوقاً، ولا يمد القريحة بما تفتقر إليه ساعة النظم من شتى التعابير وفنون الأساليب. . . يبدو ذلك كله في استبعاد طائفة بعينها من التعابير، وطائفة بعينها من المعاني، وطائفة بعينها من الأخيلة لقرائح الكثرة الساحقة من شعراء الشباب. . . وذلك دليل جلي على فقرهم الثقافي، وندرة اضطلاعهم على الشعر العربي الزاخر بأكبر ثروة لفظية يمتلكها شعر أمة من الأمم. . . شعر عاش منذ أكثر من ألفي سنة، ولا يزال يعيش، وسوف يعيش؛ وإن كنا نطلب له عيشاً جديداً وحياة ثائرة مختلفة الأغراض متغايرة المقاصد عما اعتاد الشعر القديم - وكل الشعر العربي أو معظمه، في رأينا قديم
وقد تشترك الفئتان، الذين يعرفون اللغات الأجنبية والذين لا يعرفونها، في ذلك العيب الواضح. . . أي عدم الاطلاع الطويل العميق على كتب النقد، قديمها وحديثها. . . وعلى دواوين الشعر العربي قديمها وحديثها كذلك. إلا أن تقصير شعرائنا، أو معظم شعرائنا، الذين يجيدون لغة أجنبية، في الاضطلاع على شعر تلك اللغة، واستيعاب ما نقل إليها من أشعار اللغات الأخرى، قديمها وحديثها، هو تقصير لا تبرره أسباب وجيهة، اللهم إلا الغفلة والكسل وتراخي الهمة. . .
ولست أدري كيف يطيق شاعر يجيد اللغة الإنجليزية مثلاً ألا يستوعب درامات شيكسبير وبن جونسون ومارلو، وألا يقرأ منظومات برونتج وشلي وبيرون وتنيسون وسكوت الطويلة الرائعة التي هي بلا شك خير ما نظم البشر وأحسن ما تغنت به الإنسانية. . . ولست أدري كيف يطيق شاعر يجيد اللغة الإنكليزية مثلاً ألا يقرأ ما ترجم إلى هذه اللغة من ملاحم الأقدمين كالإلياذة والأوديسة والإلياذة والكوميديا الإلهية مثلاً وهي تلك الملاحم الخالدة في عالم الشعر، والتي لا ندعو دعوتنا إلا ليكون لنا مجد شعري يشبه مجدها أو يدنو منه. . . ولست أدري كيف يطيق من يجيد اللغة الإنكليزية مثلاً ألا يقرأ كتب النقد الرائعة التي كتبها هازلت أو أرنولد، ومدلتون ولامبورن، وريتشارد، وسبنجارا، ومن إليهم من أساطين النقد الحديث
وبعد... فهذا كلام لا نريد به تعبير أحد من شعراء الشباب الذين نعقد عليهم آمالنا في النهوض بالشعر العربي الحديث، ولكنه كلام تريد به حفز همم شعرائنا الذين يرحبون بالنقد ويتشوَّفون إلى الكمال.
دريني خشبة
مجلة الرسالة - العدد 583
بتاريخ: 04 - 09 - 1944
ونحن حينما ندعو إلى وجوب إحداث ثورة - أو نهضة - في الشعر العربي، نؤمن بأن الثورة - أو النهضة - ليست عبثاً يستطيع أن ينهض به أولئك المتأدبون الظرفاء الذين عرفوا بعض موازين الشعر. وقواعد العروض، فكان حسبهم من الشعر كله هذه المعرفة البائسة التي انقلبت في رؤوسهم غروراً ذميماً، وخيلاء لا تعرف التواضع، وأحلاماً تشبه أحلام الصائمين في هذا الزمان بالأطايب والأشربات!
لا يستطيع جاهل أن ينفع جاهل أن ينفع نفسه ولا أن ينفع أمته. . . ولا تستطيع جماعة من الجهلاء أن تضطلع بعمل يحتاج القيام به إلى علم وبصيرة وطول تجربة. . . وقد طالبنا شعراء الشباب بإحداث نهضة في الشعر العربي تشمله كله شكلاً وموضوعاً. . . فما راعنا إلا أن يظن أولئك المتأدبون الظرفاء أننا ندعوهم لهذا العمل، ونعتمد عليهم في القيام به. . . فأمطرونا بمئات كثيرة من هذياناتهم التي دعوها شعراً. . . ومع إعجابنا الشديد بعدد كبير مما وصلنا من المنظومات الشائقة من مصر ومن جميع الأقطار العربية إلا أننا لم نستطع منافقة أصحاب الكثرة الغالبة من المنظومات الأخرى التي تضطرنا إلى مصارحة إخواننا الظرفاء هؤلاء بوجوب النصح لهم بالانصراف عن قرض الشعر، ومعاطاة صناعتهم البائرة تلك، التي سوف تجر عليهم عقابيل من الحسرات لا قبل لهم بها. . . وليس في تعبيرنا بذلك الأسلوب قسوة على أحد. . . فالمسألة جد لا لعب. . . إنا مفتقرون إلى شعر جديد يشحذ من همة الأمم العربية، وترى فيه تلك الأمم آمالها ومطامحها، وترى فيه أدباً جديداً حياً سائغاً لا نقلد به العباسيين، ولا نمشي به في آثار الأمويين أو الأندلسيين. . . نريد شعراً تتجلى فيه شخصيتنا قوية مستقلة لها طريقته الخاصة من الأداء والتفكير. . . لا شعراً مقلداً رثاً تكرثه روح الماضي، وتجثم على صدره قيود الغابرين. . . ونحن حينما هتفنا بشعراء الشباب ليتغنوا آمالنا الجديدة، ولينشدوا لنا أنشودة العالم العربي الحديث، لم نكن نزعم أن هؤلاء الشعراء مبرءون من العيوب، ولكنا كنا نزعم أنهم أقدر على التجديد من الشعراء الشيوخ الإجلاء، الذين نحبهم ونحترمهم. وإن خامرنا الشك في قدرتهم على التجديد، لأنهم عاشوا معظم حياتهم في هذا القديم الذي لم يعرفوا غيره
غير أن الشعراء الشباب - أو أغلبية الشعراء الشباب - المشهورين وغير المشهورين فقراء في ثقافتهم إلى درجة محزنة. . . والشاعر الفقير في ثقافته لا يستطيع أن ينهض بثورة في الشعر وإن حاولها، وأرق في سبيلها عينيه، لأنه مفتقر إلى الأدوات الأولى التي تمكنه من إتقان عمله، وتمهد له سبيله إلى قلوب قرائه. . .
ولسنا ندري إن كان كلامنا هذا سوف يغضب أحداً من هؤلاء الشعراء ما دمنا صادقين فيه، صادقين في إزجاء النصح لكل شاعر يود أن تكون له منزلة سامية في مستقبل هذا الشعر الذي ندعو إلى تجديده وإصلاحه
وشعر الشباب في الأقطار العربية فئتان. فئة تجهل اللغات الأجنبية، وفئة تعرف واحدة أو أكثر من واحدة من تلك اللغات. . . فالفئة التي تجهل اللغات الأجنبية لم تطلع على نماذج الشعر الأجنبي في لغاته الأصلية. وأكبر الظن أنها لا تدري ما الملحمة ولا الدرامة المنظومة ولا ما الشعر المرسل. . . وليس في ذلك ضير قط على شعراء هذه الفئة، وإن كنا نؤثر لهم تعلم إحدى هذه اللغات وإتقانها إلى الدرجة التي تساعدهم على مطالعة أشعارها لما للمحاكاة من أثر بالغ في تجديد شعرنا الذي نصبو إليه، فإن لم يتيسر لهم تعلم إحدى اللغات الأجنبية، فلا أقل من استيعاب كل ما يترجم من ملاحم تلك اللغات ومن دراماتها، ثم تطالب العبقرية العربية بتذكر أن تلك الملاحم وهذه الدرامات كانت شعراً في لغاتها الأصلية، فليس ما يمنع أن ننظم مثلها أو أرقى منها أو ما يدانيها بالشعر العربي. . . وإن لم يرقنا الشعر المرسل الذي دعونا إليه، ولا نزال نؤثره على غيره للملاحم وللدرامة المنظومة، فلنختر لنظم الملحمة أو الدرامة الطريقة العروضية التي تروقنا. إذ لا ينبغي أن يحول الشكل دون الغرض أما الفئة التي تعرف اللغات الأجنبية وتتقنها إلى الدرجة التي تقرأ بها الشعر الأجنبي قراءة مفهومة سائغة، فهي الفئة التي أخرجت لمصر وللشرق العربي أحسن شعرائها، ولسنا نريد أن نثير فتنة بين الفئتين بهذا التفضيل الذي لا يماري في حقيقته أحد، بل نحن - على العكس من ذلك - نريد أن نتهم أغلبية الفئتين بأنها أغلبية فقيرة الثقافة، قليلة الاطلاع، لا تحفل بأن تجاري تيارات الفكر العالمي، ولا بمواكبتها تلك المواكبة التي تنعكس في أشعارنا - أما موافقة وإما معارضة وإما ابتداعاً
إن المكتبة العربية لتحفل بطائفة قيمة من كتب النقد التي تتجلى عبقريات أسلافنا من النقاد العرب، والتي تطلعنا على موازين أدبية لا يقل كثير منها عما يروج اليوم من أساليب النقد الحديث في أوربا. . . فهل اطلع شعراؤنا الشباب - أو أغلبية شعرائنا الشباب - على هذه الكتب، وهل حاولوا الانتفاع بما أورده أصحابها فيها من كرائم اللفتات الأدبية التي تكون للقرائح الفجة، والأذواق الشاردة، كما تكون النار للذهب؟
هل قرأ شعراؤنا الشباب - أو أغلبية شعرائنا الشباب - كتاب العمدة لأبن رشيق، أو كتاب نقد الشعر ونقد النثر لقدامة؟ إنهم لا شك يسمعون عن كتاب الصناعتين للعسكري، فهل فكروا في قراءته والانتفاع بما فيه، أو بما في كتاب الموازنة بين أبي تمام والبحتري، أو كتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه؟! ثم كتب البيان والتبيين والكامل ومعاهد التنصيص وغيرها وغيرها من ذخائرنا التي لا تحضرنا الآن أسماؤها والتي لا داعي لحشد أسمائها. . .
إن هذه الكتب وغيرها ثروة ثمينة في المكتبة العربية القديمة لا غنى عنها لشاعر يحترم نفسه. . . شاعر يحس من نفسه بنواحي الضعف فلا يمنعه استعلاء أو غرور عن معالجتها بالإكباب على كتب القدامى من أبطال النقد الأدبي العربي، ثم بما تصل إليه يده من كتب النقد الحديث المؤلفة أو المترجمة، وهي كتب والحمد لله قد أنفق فيها مؤلفوها ومترجموها جهوداً محمودة مشكورة، يجب أن تقابل من طائفة الأدباء عامة، والشعراء بوجه خاص بحسن القراءة والمذاكرة، حتى يكتب الكتاب، وينظم الشعراء على هدى مما تلفتهم إليه تلك الكتب من عيوب الكتابة ومآخذ النظم، وحتى يستطيعوا أن يفهموا روح القوة - أو روح النهضة - التي نطلب إليهم الاضطلاع بأعبائها في الأدب العربي عامة، وفي الشعر العربي خاصة
ولدينا من كتب النقد الحديث طائفة صالحة جداً من إنتاج أشبال الجامعة ورجالها الصناديد، ومن إنتاج كرام كتابنا الذين مهدوا لنا طريق نهضتنا، وحملوا المشاعل الأولى بين أيدي أدبنا الغض المفتقر إلى الإصلاح والتجديد. . . فهل قرأ شعراؤنا الشباب، أو معظم شعرائنا الشباب، شيئاً من تلك الكتب، وهل انتفعوا بها في تنظيم إنتاجهم الأدبي؟
إن الشاعر الذي يكتفي بمواهبه في توجيه منظوماته هو شاعر تعس، لا يرجى منه خير كثير. . . والشاعر الذي يبخل على نفسه بشراء عشرة كتب في النقد القديم والحديث هو شاعر فقير في تفكيره، مريض في إنتاجه، غاط في نومه الممتلئ بأحلام النوكي والضعفاء. . . تلك الأحلام المريضة التي لن يصيب منها الأدب العربي، ولن يصيب منها الشعر العربي إلا ما أصاب من الزخارف الباطلة التي سماها أصحابها شعراً، وما هي من الشعر في شيء، لأنها عبث يغثي النفوس، ويكرب الأخيلة، ويزهد الإنسان في إنشاد الشعر
وليس تقصير شعرائنا الشباب، أو معظم شعرائنا الشباب في مطالعة كتب النقد هو كل ما نأخذه عليهم، بل يحزننا أن نقرر أن أكثرهم لا يقرءون من الشعر العربي إلا قدراً ضئيلاً لا يُقوّم ألسنة، ولا يكسب ثروة، ولا يربي ملكة، ولا يطبع ذوقاً، ولا يمد القريحة بما تفتقر إليه ساعة النظم من شتى التعابير وفنون الأساليب. . . يبدو ذلك كله في استبعاد طائفة بعينها من التعابير، وطائفة بعينها من المعاني، وطائفة بعينها من الأخيلة لقرائح الكثرة الساحقة من شعراء الشباب. . . وذلك دليل جلي على فقرهم الثقافي، وندرة اضطلاعهم على الشعر العربي الزاخر بأكبر ثروة لفظية يمتلكها شعر أمة من الأمم. . . شعر عاش منذ أكثر من ألفي سنة، ولا يزال يعيش، وسوف يعيش؛ وإن كنا نطلب له عيشاً جديداً وحياة ثائرة مختلفة الأغراض متغايرة المقاصد عما اعتاد الشعر القديم - وكل الشعر العربي أو معظمه، في رأينا قديم
وقد تشترك الفئتان، الذين يعرفون اللغات الأجنبية والذين لا يعرفونها، في ذلك العيب الواضح. . . أي عدم الاطلاع الطويل العميق على كتب النقد، قديمها وحديثها. . . وعلى دواوين الشعر العربي قديمها وحديثها كذلك. إلا أن تقصير شعرائنا، أو معظم شعرائنا، الذين يجيدون لغة أجنبية، في الاضطلاع على شعر تلك اللغة، واستيعاب ما نقل إليها من أشعار اللغات الأخرى، قديمها وحديثها، هو تقصير لا تبرره أسباب وجيهة، اللهم إلا الغفلة والكسل وتراخي الهمة. . .
ولست أدري كيف يطيق شاعر يجيد اللغة الإنجليزية مثلاً ألا يستوعب درامات شيكسبير وبن جونسون ومارلو، وألا يقرأ منظومات برونتج وشلي وبيرون وتنيسون وسكوت الطويلة الرائعة التي هي بلا شك خير ما نظم البشر وأحسن ما تغنت به الإنسانية. . . ولست أدري كيف يطيق شاعر يجيد اللغة الإنكليزية مثلاً ألا يقرأ ما ترجم إلى هذه اللغة من ملاحم الأقدمين كالإلياذة والأوديسة والإلياذة والكوميديا الإلهية مثلاً وهي تلك الملاحم الخالدة في عالم الشعر، والتي لا ندعو دعوتنا إلا ليكون لنا مجد شعري يشبه مجدها أو يدنو منه. . . ولست أدري كيف يطيق من يجيد اللغة الإنكليزية مثلاً ألا يقرأ كتب النقد الرائعة التي كتبها هازلت أو أرنولد، ومدلتون ولامبورن، وريتشارد، وسبنجارا، ومن إليهم من أساطين النقد الحديث
وبعد... فهذا كلام لا نريد به تعبير أحد من شعراء الشباب الذين نعقد عليهم آمالنا في النهوض بالشعر العربي الحديث، ولكنه كلام تريد به حفز همم شعرائنا الذين يرحبون بالنقد ويتشوَّفون إلى الكمال.
دريني خشبة
مجلة الرسالة - العدد 583
بتاريخ: 04 - 09 - 1944