محسن خالد - الوجود والوجود الآخر

أي سيرة حياة ذاتية يخفيها الشخص بداخله تشبه مشيته؛ وربما مشية شخص مثلي ناشزة وتشبه كينونة رجل آخر يسير في الاتجاه المعاكس لوجهتي. ولا بُدَّ أنني الرجل الوحيد في هذه الدنيا الذي فَارِقُ العمر بينه وبين والده يساوي سبع سنوات فقط. هذا لأنَّ أبي كان طفلاً سميناً وشهوانياً فنضج قبل الأوان الطبيعي للفحولة. أما أمي فكانت صبية ساذجة وساقطة النفس حتى الثانية عشرة من عمرها. كانت تقف على ضفة الجدول الأخرى؛ وكان هو يركب على حمار أبيه الذي سرقه حين تَرَجَّل عنه الأب لأداء الصلاة. لوَّح لها بقصبة السُّكَّر الغليظة التي يُنَقِّط حلوها كقِربة مثقوبة. وظَنَّت هي أنَّها ستأكل قصبة الولد "ذاك" السمين؛ ولن تساعده في جمع الطماطم فتبعته. هو ألقى لها بالقصبة على الأرض بعد أن توَسَّط الحمار حقلاً كثيفاً؛ وهي نهضت من على الأرض بعد تمرغ طويل بحلوين. حلو القصب بإغرائه الاعتيادي؛ وحلو آخر عَرفتْ له فماً في ذلك النهار.
وهكذا؛ ككارثة يجرجرونها من شَرَى الحقول وسط القيظ؛ يأتون برجل مثلي.
في الحقيقة أنا لم أقلْ إنَّ قَدَري لا بُعد نظر لديه؛ ولا يحزنني هذا الوجود الذي استخلَصَه لي عقلاء مفترضون حين حالوا بين الأهل وبين ذبح ذاك الشهواني وتلك الساذجة؛ أبداً. بل أنا أتقَبَّل هذا الميلاد اللاواعي تماماً؛ الباحث عن حلو ليس ملكه؛ والمتأكِّد من قدرته على تفادي وظيفة ما؛ أتقبَّله كأي مجنون لا يعرف حكايته من أولها كي تتسَبَّب له الخاتمة بعد ذلك في حزن من أي نوع.
أنا أتقبَّل بتحمُّل نَفْسٍ مُجازِفة أكثر منها وَرِعة أن أكون هذا الأنا؛ على أن أكون نتائج الحادثة المفترضة فيما لو سقط ذلك الشهواني من على حمار أبيه ولم يلتقِ بتلك الساذجة.
وهكذا؛ بضغينة من كان يمكن أن يكون سقطة ضائعة في الكون أتعاطى عمري. ولن أُحَدِّثك عن المآسي الاجتماعية لميلاد كهذا؛ ولا حتّى المآسي الدينية؛ هكذا ستصبح سيرة الحياة التي بداخلي تشبه مشيتي. وأنا أُصِرُّ على أنها ربما تشبه كينونة رجل آخر يسير في الاتجاه المعاكس لوجهتي.
أصبحت إذن متعايشاً في الوجود الذي يتم بلا تبعية للمجتمع أو الدين. الحكومة مثلاً قبلتني في المدرسة الداخلية بالنظر لدرجات الكل ولم تُعِرْ قصة الصبي الشهواني والصبية ساقطة النفس أدنى انتباه. وأنا لا يهمني أن أُحَدِّثك في هذا الاتجاه أيضاً. فقد سمعتُ الناس في وقت مبكر جداً وهم يقولون "فلان هذا لا يعنيني في شيء"؛ كما يقولون تارة أخرى باسم الدين "المسلم من شغله هَمُّ المسلمين". أما ما هو أكيد فهو انوجادهم على الدوام وبينهم قصبة سكر تغري بابن حرام ما؛ لا يرضى عنه المجتمع ولا "الفرد" الذي بلفظ آخر هو عينة لدين المجتمع. وهذا ما جعلني أعيش كل لحظة؛ كان يمكن أن تتلاشى ولا يصبح بوسعها أن تعني شيئاً فيما لو سقط الشهواني من على الحمار؛ أعيشها بإحساس القادم من هاوية في العدم.
الوجود هذا حنكته تكتمل حين نلاحظ إمكانية افتراض عدمه. أما ميزته فتتلخص في داهية لا يمكن لنا أن نكتشفها إن لم تتجلَّ في ابن حرام ملموس. لذا أشعر دائماً بكوني الدليل على قضية كونية؛ وبكوني الوحيد الموجود بوصفه شهادة عن غائب عميق.
في مدنيَّة كهذه: لا ينجز فيها أحدٌ صُنْعَ وجودٍ مختلف دون قصبة سكر خادعة. وفي وجود كهذا: يجب أن يتحلَّى فيه الناس بحس مؤسسة وهمية كالحكومة ليكونوا حياديين. وجدت نفسي لا أُطارد حلواً ما ولا تتعقّبني إملاءات انحياز لجهة لن تستفيد مني بأي حال من الأحوال.
لا أريد أن أقول لكم إن الناس سيئون كما يقضي بذلك ميلادهم؛ فلكم قابلني أشخاص أرهقني جمالهم بالرغم من سوء منبتهم. وآخرون تدحرج آباؤهم على أمهاتهم من فوق سرير طبيعي ولم يسقطوا عليهن من عُلُوِّ حمار؛ ومع ذلك دخلوا إلى الحياة بشَقِّ جِلدها كدمامل خبيثة. ولا حتى أريد منحكم فكرة عن سوئي أو جمالي؛ أبداً. مثل مسائل الحكم على الناس هذه وبما فيهم أنا لا يخوض فيها إلا شخص غير عاقل.
سطح البحيرة يدفن تحته التماسيح؛ هذه فكرة تصف سيرة الحياة الذاتية بداخل الناس. والألسنة تتعاطاها في شكل مثل شعبي يقهقهون بعده من المنعوت بها. لا يهمّنا؛ شجر الشاطئ من بخله يرمي بظله في ماء النهر. وهذه فكرة متقوقعة في أنانيتها وتسولها قصبة السكر لدرجة تقترح ليس على التاريخ؛ وإنما على الطبيعة أن تكون لا الطبيعة ولا التاريخ. ولخصوصية تجربتي قضيتُ معهم بتفاهة الاثنين ولا معناهما.
واقعة القرطاس الشهيرة مثلاً، في أيام السلطان حسين؛ التي أبادت معظم عَرَب المعالية وثُلَثي عرب الحَمَر؛ لماذا أسموها واقعة القرطاس؟ الإجابة نفسها التي بدّدت احتمال أن أكون سقطة مهملة في الكون بدل أنا. عرب المعالية قاموا بمهاجمة تجار يُعْرَفون بأهل زريبة عبد العزيز وأخذوا منهم بقوة السلاح مؤونة السُّكَّر المجلوبة من مصر بكاملها. حينها قام السلطان حسين أحد العقلاء المفترضين أيضاً باستدعاء الشيخ منعم ود مكي زعيم عَرَب الحَمَر وأذِنَ له بأن يصفي عداءه المزمن مع المعالية.
وحين تَمَّ للشيخ ود مكي تجميع رجاله وحُلفائه طلب منهم أن يُسقطوا بجوار كل قرطاس سُكَّر رأس رجل أو أكثر من فرسان المعالية، وأن تُعاد إليه تلك القراطيس بتمامها ومكمومة الأفواه بتكك سراويل القتلى. والمعالية بالإضافة لشرعية حقهم في أن تكون لهم قضية سُكَّر ما، كانوا مشهوداً لهم بالبسالة والضراوة؛ التي جعلت من براريهم على مَرِّ التاريخ إمَّا لهم وللوحوش فقط؛ وإمَّا للوحوش وحدها فوق جثثهم. وهكذا حدث؛ فقد فني فرسان القبيلتين وبقي السُّكَّر وحده يلمع والرمال على مدى الصحراء؛ حتى جاءه حَمَرٌ آخرون لكثرتهم. قيل إن الريح في ذلك اليوم ثكلت الجميع؛ وتناثرت قراطيس السكر بالصحاري والبرية حتى أسموها واقعة القرطاس.
والناس من مثل المعالية والحَمَر أو غيرهم يموتون موتتين. موتٌ يرافقهم على الدوام كعَرَض للأشياء الحلوة التي تنقصهم. والآخر نوعٌ من الوجود سيعيشونه على الدوام حين يكتمل نقصانهم. فالناس وجودهم أكثر تناقضاً من وجود الموت كاكتمال. أما أنا فوجودي قد تشبَّعَ من السُّكَّر لأنَّ قصتي من صنعه الخالص. ولذا وجودي خالٍ من الأنانية؛ لأني لا أحب نفسي بالقدر الكافي. كما هو خالٍ من الغرور لأني لا أحتقر الآخرين كما يجب. على عجل؛ كل شيء يتم معي؛ على عَجَل؛ النهر يؤكد وجوده على عجل. وسيرة ميلاد الحياة الداخلية للأشخاص لا تتم تاريخياً فقط؛ ولا حتى نوعياً لو ظننت أنني سأقول ذلك، بل أيضاً على عَجَل كما يتشَمَّم النهر مجرى وجوده عَدْوَاً. وليتني كان بوسعي شرح كل ذلك لسلوى.
الوجود مهما جَعَلتْ منه الآلام نائياً؛ بوراً؛ لا مفهوماً؛ ومنقطعاً عن كينونتنا، فهو لن يكون ظاهرة بالنسبة للموجود. ومهما جعلت منه الشهوات والرغائب شيئاً أكيداً وملموساً فهو لن يكون عَالَماً متأكدين منه كما تتأكَّد الفلسفة من مقاصدها. في قيظ الصيف الذي يبلغ عندنا درجة وحشية، ننظر إلى خط سكة القطار البعيد عند منتصف النهار، فتلوح الأشياء عن بعد وهي متوارية في ظلالها بتقطُّعٍ وإبهام رهيب؛ السراب يعيد خلق وجودها المتنائي في كل ثانية. أما في عِزّ الشتاء الزمهرير بينما ننظر للحقول البعيدة أو الضفة الأخرى للنهر فيظهر ما يسميه البسطاء بـ"أبو شهلل". الذي يُقَرِّب الأشياء لحد مذهل بعد أن يطليها بندى بديع. تكاد تُحادِث الرجل على شاطئ النهر الآخر هامساً دون تشكك في كونه يسمعك. الوجود يُجزئ نفسه ليُعدَّ لُعبة خفائه الأدهى والأمكر والمبتعد؛ ويُجزئها تارة أخرى ليقترب ويتوضَّح في تداخل مع تشيئات يعرفها هو. الوجود يتوافر بوصفه المتقطع في أمكنة وغير الراكد في مكان؛ بوصفه تنوُّع الفصول الممكن وليس ديمومة الممتد والحتمي.
عندما صعدتُ على سطح القطار المتجه إلى مدينة الدمازين لم أكن أعرف الكثير عن سَيْر الأشياء من حولي. حياتي كلها كانت سِيرة مَنْ يسافر بالداخل. ولكن عندما تحركت الأشجار والبيوت والدواب؛ فيما يشبه مشيتها وما لا يشبهها؛ أدركت العَدْو الكبير ووجودي الذي على السطح. لم أكتشف أي مفاهيم خاصة بالزمن لو قَدَّرت ذلك، ففكرة أن الزمن لا يمكن تعريفه إلا من خلال الحركة أعجبتني في بساطتها وصدقها الطفولي هذا لا أكثر، حكمة الفيزياء. الطبيعة. ولا أظنني أقصد أنَّ الوجود يحتاج لحركة أيضاً من أجل تعريفه، هذا سيقودني إلى مزاعم علمية وتفلسف لن يهمني الخوض فيه بأي حال من الأحوال. كل ما أود قوله هو فكرة أن الإنسان يُولد متجهاً نحو مكان ويمكنه أن يموت في طريقه هذا دون أن يرى سيره بمنظار مُكَبِّر. أرهقتني فكرة أن هنالك مناظير مُكَبِّرة، توسِّع الرؤيا وتُعَمِّق الإدراك والمتعة، الانفصال أو الاندماج مع الوجود والموجودات، تفعل أشياء كثيرة وتظل غامضة وغير مكتشفة. في الحقيقة ما الذي يجعلني أفكِّر على هذا النحو؟ هل لأنَّ سلوى ماتت دون أن أُلاحظ وجودها لجوار وجودي سابقاً؟ بالأساس كانت علاقتي بها غريبة وأشبه بالتراهن مع الجنون. إلا أنَّه لم تصادفني فيها تلك الفتاة المجنونة أو غير المتزنة نفسياً بالحد الذي يشيعه الناس عنها في القرية. أتذكَّر حين سألتُها لأول مرة: اسمك منو؟ ضحكت مني بسخرية، كيف أبدأ حواري مع فتاة عمرها 17 سنة بسؤالي عن اسمها. كان ينقصني أن أضيف: يا فالحة. لقد أجابت مُنَدِّدَة بمشاركتي للآخرين في اتهامهم لها بضعف العقل: "أنا أوعى منك، مش لو ودّوك مدارس!". شعرتُ بالحرج، هل يوجد شخص في القرية لا يعرف اسم الآخر؟ معها الحق حين سخرتْ مني: مولود معانا هنا وألا في بلد تاني؟
"آسف والله يا سلوى".
"آي أحسن تتكلم عديل"، وضحكت ببراءة، فرحاً بالتعارف وبتذكّري لاسمها، لا شماتة ولا انتصاراً.
"ما قصدت شيء، إمكن بس لأنها أول مرة أتكلم معاك فيها".
"ولا يهمك، هم المتعلمين ديل بخجلوا يعني؟".
لقد وجدتُها لطيفة، بالأساس هي معروفة في القرية بأنها أجمل بنت من ناحية الشكل لولا أنَّ الجمال مسحور.
يوم غَرِقَتْ في النهر مساءً كانت تقول لرفيقاتها بينما تخوض في مياه النهر: "هوي يا بنات، أنا والله فترت من لقيط الطماطم دا. هَسَّع أنا فرقي شنو من تيران ود الحرتي؟". ورفيقاتها يضحكن وينادين فيها: "يا بت هوي أمرقي بتغرقي، المكان دا هنا جابية، والله تاني لقيط الطماطم ما تلمي فيهو، غايتو إلا كان يلقِّطك السمك في رقبتك دي". وتضحك هي: "ومالو؟ كان شالني البحر أحسن من يشيل عمري لقيط الطماطم. والله زراعتن الشوم والمابتكمل دي شالت روحي ذاتها. هووي يا بخيته لو ودَّاني البحر لبلد الحور بجيب ليك معاي عريس". وترد بخيته، البائرة، مُقهقه: "هَيْ يا يمه بتطريني، أريد الله".
الوجود عندما يمزح به أحد وُلِد ذراعاً للحقول، أو حينما يظن أن بإمكانه جرجرته نحو دائرة الغرس التي هي كل ما تعَلَّمه في حياته. وهذا عين الأمر الذي أخرج كل القرية والقرى المجاورة ليعثروا على وجود ضائع لا يعرفون أين ألقى به الزبد.
كانوا يتعَثَّرون في طريقهم إلى بطن الكرد، تلك الجزر الحرشية المتقطِّعة في النهر، العتمة بلا حد، والمشاعل في أيديهم تقع وتنهض معهم بعدد الحُفَر والشِّيم. صياح النساء وعويلهن يشيعه السكون والمياه في كل مكان، وصداه يرتد من ضفة النهر الأخرى، أليفاً ويحكي شيئاً. تحَطُّم الموج في أماكن بعيدة وخافية في الظلمة، وصياحُ طيور البحر الليلية، خبيب المراكب وحِدَّة النداءات. كل ذلك الهرج ينادي وجوداً تلَصَّص إلى دائرة الغرس الأعمق من حكمة الأشجار والنوم.
"أسحب المركب يا خليل، فَتِّش بالمِدرة بَسْ، ما تنزِّل رجليك في الموية، لا حول ولا قوة إلا بالله".
"أفرد الشبكة يا ود الحرتي، خليها تنزل تحت، يبقالي في شيء غائص هنا".
"ها ناس.. الأوتاد ما بتنغزَّ فوق السَّار، شوفوا الرملة والضَحَل".
الوجود حين يفتش عنه رجال هَلِعون، في اللجة والظلام. لم يكن وجود سلوى تلك أثمن من وجودها المفقود هذا بأي حال من الأحوال. وجود غَرِق وانتهى، ماذا يريدون منه؟ الوجود في عادة الإنسان وليس حكمته لا بُدَّ أن يُوضع في كفن وحنوط من حنان ابن آدم. لا بُدَّ له من إطار وداع معترف به. المشاعل محزومة بالسواعد المعروقة، وبحُجُب مما يعتقدونه في الوجود. سواعد النساء مرفوعة باكية وضارعة، الوجود حين تخرج خلفه مظاهرة من أحزان.
سمعت تعَثُّر خطوات جدي محمود فوق أرض الكردة الحرشة. مجموعة من الأيادي امتدت إليه لتساعده، جاؤوا إليه بخُرْجِ جواده وبسطوه له فوق يابسة كي يجلس عليه. كنتُ مبهوتاً ومتفَرِّجاً على الأحداث لا أكثر، ولكن حين سمعت همهماته الدينية وتصبُّرَه: "يوماً دُوار، ويوماً مراقدو سار".
بكيتُ بحرقة جاءتني من وجود لا عهد لي به داخل وجودي السابق. تذكرت صوته حين كان يعابث سلوى والناس يحصدون البصل. كانت معروفة بالنشاط والخدمة وكثرة الأكل، يقول جدي لود النعيم:
"عاين لي عَرَقها كيف بوشل آود النعيم، يمين بي مِيَّة راجل. بِنيَّة مبروكة، والله خدمتها البتخدمها دي جَوَان سيدنا سليمان ما يخدموها".
"إلا آفتها آ محمود أخوي بطينتها دي مسكونة، الشيء أتقول فيها دَقَّاقة!؟".
هاق.. هاق.. هاق، يقهقه ود الحرتي بصوته الأجعد، يرخي حبل البقر بين يديه ليعترض ضاحكاً: "طاحونة شنو آود النعيم الله يطراك بالخير؟ بطنها دي مكوِّع فيها تمساح عُشاري".
أَهُمْ يبحثون الآن عن ذراع للخدمة وبطن للأكل؟ أم عن وجود افترضته أحزانهم، وحادت عنه مشاعلهم في هذا الليل؟ أم عن شيء لم يسبق لهم أن عرفوه بالمرة؟
والنظرة إلى وجود النهر تبقى هي ذاتها، يأخذ الرجال، والزرع والعيال، وأيضاً يُكَسِّبهم مواسم من ذهب. ويعود ليكفر بدين ربه من جديد ويأخذ مواسم أخرى بأرواحها. وهذا هو وجوده الذي عاش لجوار وجودهم منذ الأزل. جوار وجود لوجود رحمة ومهلكة، رخاء ومسغبة، بداية ونهاية لا بُدَّ من تكبيرها لحد أن تملأ القلب والعين.
كان وجودها مَرِحاً، زاكياً، ونشطاً كجن شادوا مملكة سليمان! "أفرد الشبكة يا ود الحرتي، خليها تنزل تحت، يبقالي في شيء غائص هنا". وهاهو بهذه اللحظة من الدهر مجرد شيء غائر في النهر، يُمكن الحصول عليه بشَبَكَة أو هلب صيادين.
دَفْ..دَفْ..دَفْ... مراكب كبيرة وصغيرة تُجَرُّ مِنْ وإلى ظلمة النهر، بشر يخوضون، نساء يتخبطن ببكائهن في رقراق الموج اللامع. فجيعة مُرَّة وحارة كوجود سلوى المفقود هذا. كانت تجيئني بحماسة طفلة: "شفت اللعبة اللَّداني ليها جدي، هداها ليهو تاجر جابها من الجنوب".
"أبداً ما شفتها".
"يلا نلعبها". أسألها: وين؟ تجرني من يدي ولا تجيب. تدخل بي إلى الكرنك المعد لتخزين الفول واللوبيا، هناك قد أعَدَّت لها مكاناً نظيفاً ومرتَّباً لخلوتها الساذجة، ولهذه اللعبة خصوصاً. المعنية بمنح وجود انتقائي لمن يتعاطونها. "اسمها شنو اللعبة دي؟ أول مَرَّة أشوفها".
"جدي قال بلغة الرطانة اسمها "تونج"، ما تقعد إنت هنا لكن، قريب قلت ليك، عشان أعلّمك". وعند اقترابي من الاستقرار على المقعد، تغمز عيناها وتشعّان ببساطة، فيما يعني كان بوسعها سحب المقعد لأسقط على الأرض. تصنع حركة حلوة بأصابعها، بمعنى: عفوت عنك. تواصل تعريفها للُّعْبة:
"اسمها بالرطانة دا كلام طير ساي، أنا مِسَمِّياها أم بروج". أضحك أنا فحسب ولا أقول لها إنَّ " أم بروج" هذه لغة كراكي أو سنبر على وجه التحديد. ربما هي تعني هذه الأشياء شبيهة الفتحات التي تُفضي لبعضها بعضاً عُلْوِيَّاً كالأبراج. أنشغل. فاللعبة كانت مركَّزة الوجود. كنَّا نغيب عن وجوديْنا ونندمج في وجودها ومصيرها الافتراضيين تماماً. تشبه لدرجة ما لعبة السُّلَّم والثعبان بوجه من الوجوه، أو بمجرد إحساس التقارب مع الوجود المتروك لما يُفْصِح عنه، ولتَكَشُّفِه المرتقَب والمتبَدِّل.
دَفْ.. دَفْ.. دَفْ، كُلُّ أحد وكل شيء يتخَبَّط في المياه مفَتِّشاً عنها. لم أحتمل وجود سلوى الذي ضاع، ولا تفتيشه بمكان خاطئ مثل نهر. ركضتُ عائداً إلى الكرنك. بالأمس عصراً لا أكثر، كُنَّا هنا، تركنا لعبتنا دون أن نكملها؛ فقد نادى عليَّ جدي لضيوف حضروه ساعتها.
كان النرد الذي لعبنا به معاً مرمياً في مكانه. صنعوه من العاج الخالص. ليس تكعيبي الشكل كالنرد المتعارف عليه، ذي الوجوه الستة. بل تكعيبي يحتوي على اثني عشر وجهاً. وترقيمه يبدأ بالواحد وينتهي بالرقم اثني عشر. أما رقمه المُمَيَّز فهو العشرة بدلاً عن الستة. الأرقام عليه موضوعة في ترقيم إفريقي مهجور يقارب طريقة رسم الأعداد بالروماني. النرد بأرقامه الاثني عشر يجاري بروج العام، يا للمصادفة المدبَّرة ربما. ما يزال النرد في مكانه حيث تركناه يبحث لنا عن حظ وانتظرنا نحن مصيرنا الذي يجلبه لنا هو. الفيل الصغير يقف في ذات مربع حركته الجامدة والثقيلة. الثعالب الصغيرة وطيور البحر المُلَوَّنة والوز، والبومة حيث المُرَبَّع الذي يعني نهاية اللاعب. لكم كانت هذه اللعبة كاملة وعظيمة. سُكّان الجنوب جاؤوا بها من الغابة المجاورة لوجودهم ولم تلهمها لهم تأملات عطالة ما. الأسد خانة المنتصر والطريق إليه يمر بمربع لُبؤَة تعبره بسلالم من الحبال الطائرة. رسم الحشائش والبحيرة في المنتصف والطرقات الصغيرة والمتشَعِّبة كدروب الغابة، يا للكمال المهيب. إنّ فَقْدَك في لعبة كهذه شيء أكيد دون شك، وكذلك كوخك الذي ستصل إليه لو عبرت مصيرك الخَطِر. الوجود هاهنا أُمنية عظيمة ومُرَاهنٌ عليها. هكذا تخرج بفأسك أو طوريتك وتأتي بوجود من عَرَق جبينك. رغم غضبي عليهم، فقد صرتُ مؤمناً بحكمة الوجود حين يُفتقَد. حين يُفَتِّش عنه الناس كشيء ملموس يمكن العثور عليه بواحدة من طرق الحصول على وجود مخلوقات أخرى. الآن هم يتبعون تيار النهر إلى حيث يجرُّ الأشياء الغارقة عادة، يعرفون ذلك من رائحة المياه ولونها. الأماكن التي يجرُّ إليها التيار يسمونها بالشيمة، لون المياه فيها يكون أغبَرَ، ورائحة الطين أقوى منها في الأماكن الأخرى. لقد رصدوا هيئة حِسِّية للوجود إذن، وصاروا يتتبعونه كشيءٍ أكيد. المراكب تدفُّ بقوة وتطيح هنا وهناك لو دخلتْ إلى وكر التيار هذا. ليبحثوا عن وجود سلوى بمعارف وجودهم الذي خُلِق لجوار وجود النهر منذ الأزل. ليعثروا على الشيء الذي يظنونه وجود سلوى كما يشاؤون، مثلي لن يعرف أين يبحث. قَرَّبتُ الفانوس القديم من لعبة "تونج، أم بروج" أكثر فأكثر. السلالم المنحوتة المربعات من الأبنوس اللامع أخذت تشع وتتوهج. حين نادى عليَّ جَدي كان دور إلقاء النرد لخانتي أنا. هي لعبت ودفعت رجليها بدقتهما البديعة، لجوار موضع الفانوس الحالي، كعادتها حين تظن أنها ستكسب. تقول ضاحكة:
"أسمع يا بتاع الكتب إنت، كَفْ كَفْ".
تعني أنَّ مَنْ يفوز يصبح من حقه صفع الآخر على خده. يُغْشِي عينيَّ وهجُ تورُّدِ خديها الجميلين. أضحك وأقول في سِرّي: لا بُدَّ أن تقبل عقاب لُعْبَة أعلى منك، كي تنعم بمنحة لعبة أخرى أدنى منك.
أصوات بحثهم وصياحهم في النهر كانت تتناهى إليَّ كصياح بعيد للطيور حين تستيقظ مع الفجر، وتصيح بذاك الضجيج الغريب. كقَطْع للمسافة الفاصلة بين وهن الموات والنيام وتركيز الحياة. ساعة تصحو الموجودات لتصب وجودها في قدح، حان دوري أنا إذاً. ألقيتُه بحسرة باردة ومترعة بالخيبة، دون أن تتعلَّق به نظرتي؛ كان النرد يشق طريقه مُغَيِّراً حظوظه ومصائر لاعبيه في كل حركة، حتى توَقَّف لامعاً ومتوهجاً فوق السلالم المعلَّقة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى