لم أشك مطلقا في أن الدكتور زكي مبارك كان يمزح حينما شكا من التضييق على حرية الفكر في زمننا هذا. وفي أن تباكيه على حرية الفكر في العصر الذهبي للتصوف الإسلامي كان دعابة ظريفة من دعاباته التي لا تنفد. . . وذلك أن الدكتور زكي رجل قوي الذاكرة. ولا يمكن أن يكون قد نسي ما نقله في كتابه العظيم الخالد عن التصوف، عن كتاب اليواقيت للشعراني، حيث قول: (ج1 ص193)
(ولا يخفى ما قاساه الإمام أبو حنيفة مع الخلفاء، وما قاساه الإمام مالك واستخفاؤه خمساً وعشرين سنة لا يخرج لجمعة ولا جماعة، وكذلك ما قاساه الإمام الشافعي من أهل العراق، وأهل مصر وكذلك ما قاساه الإمام أحمد بن حنبل من الضرب والحبس، وما قاساه البخاري، حين أخرجوه من بخارى إلى خرتنك
(وقد نفى أبو زيد البسطامي سبع مرات من بسطام بواسطة جماعة من علمائها؛ وشيعوا ذا النون المصري من مصر إلى بغداد مقيداً مغلولاً. وسافر معه جماعة من أهل مصر يشهدون عليه بالزندقة. ورموا سمنون المحب بالعظائم، ورشوا امرأة من البغايا فادعت عليه إنه يأتيها هو وأصحابه، واختفى بسبب ذلك سنة. وأخرجوا سهل بن عبد الله التستري من بلده إلى البصرة ونسبوه إلى قبائح وكفروه مع إمامته وجلاله، ورموا أبا سعيد الخراز بالعظائم، وأفتى العلماء بكفره بألفاظ وجدوها في كتبه، وشهدوا على الجنيد بكفره مراراً حين كان يتكلم في التوحيد على رؤوس الأشهاد. فصار يقرره في عقر بيته إلى أن مات
(وأخرجوا محمد بن الفضل البلخي من بَلْخ لكون مذهبه كان مذهب أهل الحديث من إجراء آيات الصفات وأخبارها على ظاهرها بلا تأويل والإيمان بها على علم الله فيها، ولما أرادوا إخراجه قال: لا أخرج إلا أن جعلتم في عنقي حبلا ومررتم بي في أسواق البلد، وقلتم هذا مبتدع نريد أن نخرجه من بلدنا، ففعلوا ذلك وأخرجوه، فالتفت إليهم وقال: يا أهل بلخ، نزع الله من قلوبكم معرفته! الخ. . .
(وأخرجوا أبا عثمان المغربي من مكة مع كثرة مجاهدته وتمام علمه وحاله، وضربوه ضرباً مبرحاً، وطافوا به على جمل، فأقام ببغداد إلى أن مات!
(وشهدوا على الشبلي بالكفر مراراً مع تمام علمه وكثرة مجاهداته، وأدخله أصحابه البيمارستان ليرجع الناس عنه مدة طويلة!
(وأخرجوا الإمام أبا بكر النابلسي مع فضله واستقامته في طريقته من المغرب إلى مصر، وشهدوا عليه بالزندقة عند سلطان مصر، فأمر بسلخه منكوساً، فصار يقرأ القرآن وهم يسلخونه بتدبر وخشوع، حتى قطع قلوب الناس، وكادوا يفتتنون به!!
ورموا الشيخ أبا مدين بالزندقة وأخرجوه من بجاية إلى تلمسان
وأخرجوا أبا الحسن الشاذلي من مصر وشهدوا عليه بالزندقة
ورموا عز الدين بن عبد السلام بالكفر، وعقدوا له مجلساً في كلمة قالها في عقيدته وحرشوا السلطان عليه
ورموا تاج الدين السبكي بالكفر وشهدوا عليه إنه يقول بإباحة الخمر والفاحشة، وأنه يلبس في الليل الغيار والزنار وأتوا به مغلولاً مقيداً من الشام إلى مصر. . . الخ. . . الخ)
وبعد. . . فتلك صفحة عجيبة من تاريخ الاضطهاد الفكري نقلها صديقنا الدكتور زكي بقلمه عن كتاب اليواقيت. . . وهو كما قدمنا رجل ألمعي أريب قوي الذاكرة. . . فلا يمكن أبدا أن يكون صادقاً حينما ينعى حرية الفكر في مصر اليوم، ويتباكى على حرية الفكر في العصور الذهبية للتصوف الإسلامي. ولكن الممكن أن يكون مداعباً كدأبه. . . وإلا فماذا حدث في مصر الحديثة لرجال التصوف المنبثين في كل حدب وكل صوب. أو ماذا حدث للذين يعلنون اليوم جهرة أنهم يؤمنون بنظرية وحدة الوجود التي خرجوا منها بأن الله هو هذا العالم - أو هذا الوجود المطلق الكلي - وأن محمداً هو مبتدع تلك النظرية، كما أنه مؤلف القرآن، وأن كل ما جاء به، صلوات الله عليه من أنباء الغيب لا يمكن أن ينهض له العقل. فلا بعث ولا حساب ولا ثواب ولا عقاب ولا جنة ولا نار ولا ميزان ولا صراط. . . وأنه لا داعي لأن يدعو الإنسان ربه ولا أن يصلي له. . . لأن دعاءه وصلاته لن يغيرا من قوانين الأقدار شيئا. . . وأن المتضادات أمام الله سواء، لأنه هو الهادي وهو المضل، وعليه، يكون الفجور كالتقى، والشر كالخير، والسجود بين يديه مثل إكباب المرء على حليلته. . . إلى آخر هذا الهذيان الذي اجترأ بعض فلاسفة زماننا أن يرددوه مؤمنين به، ومع ذلك فهم يسرحون ويمرحون، لم يعرض لهم أحد بشر، ولم يأخذهم أولو الأمر بذنوبهم، فلم يقيدوهم بالأغلال، ولم يحملوهم على الجمال ولم يسلطوا عليهم البغايا، ولم يسلخوا جلودهم أحياء ولم يرسلوا بهم إلى مستشفيات المجاذيب، ولم يسلطوا عليهم الصبية يرجمونهم بالحجارة. . .
لم يصنعوا بهم شيئاً من هذا، مع أنهم غلوا أضعاف ما غلا أسلافهم. . . ألا ترى يا أخي أنهم اجترأوا فقالوا إن القرآن هو كلام ألفه محمد؟! ألا ترى أنهم أنكروا ما جاء به محمد جملة؟! وهم قد صنعوا ذلك وأثبتوه في كتب طبعت في العراق وأرسلت إلى مصر فدخلتها دون أن يعترضها معترض، كما دخلت جميع الأقطار الإسلامية دون أن يقف في سبيلها شيء. . . ولماذا يقف في سبيلها شيء ما دامت أقلام المسلمين في أيديهم، وما دامت عقولهم في صدورهم - ورؤوسهم - يا دكتور زكي؟! ليقل الزنادقة ما شاءوا، ولينشروا من كتبهم ما أرادوا، آمنين مطمئنين، ما دام هذا الزمان الذي كانت الدولة تسلخ فيه جلودهم وهم على قيد الحياة قد مضى. . . لقد أبصرت الدولة اليوم، ولقد أبصرت الأمة الإسلامية، فهي لم تعد تلجأ مع الزنادقة إلى تلك الوسائل الهمجية من التمثيل والتعذيب، وما نهى عنه الإسلام الصحيح الصادق من ضروب المثلة. . . لكنها تلجأ إلى وسائل أحزم وأوسع مدى في حرية الفكر. . . إنها تلجأ إلى يقظة الضمير الإسلامي في أقلام أبنائها فتزيف الأفكار الفجة، والآراء السقيمة، فلا يكون زيغ، ولا يكون إضلال، ولا يكون إيمان أعمى بنظرية وحدة الوجود بتخريجاتها المضحكة التي انتهى إليها هذا الأستاذ الجليل، الشيخ معروف الرصافي
على أن الذي يغيظني منك يا صديقي الطلعة المفضال هو اشتدادك في البكاء على حرية الفكر، وهذه كتبك القيمة كلها تحمل من الجراءة ومن الأفكار الحرة، بل الأفكار الطليقة السائبة التي لا تحفل بشيء، ما تحمل، وهي تنتشر مع ذاك بين المسلمين في جميع الأقطار الإسلامية انتشاراً عظيماً، دون أن ينقم منها أحد شيئا، إلا ما استدركه عليها مناظرك الفاضل من ملاحظات يوافقه الناس على بعضها ولا يوافقونه على بعضها الآخر. . . وما أريد أن أدخل بينكما الآن. . . ولكني أردت أن أنفذ من ذلك إلى الاعتذار إليك مما قلته الآن عن بعض أفكارك، والتعبير عنها بأنها طليقة سائبة لا تحفل بشيء. . .
هل تذكر يا أخي أن الحلاج مات كافرا - ولو من وجهة النظر الإسلامية - لأنه يزعم للناس إنه الله؟ وهل تذكر أنك كنت الكاتب المسلم الوحيد الذي دافع عن الحلاج، بالرغم من قوله هذا، وأنك لم تكن تبالي بإتباع اسمه كلما ذكرته بهذه العبارة الغالية: رضى الله عنه!
لشد ما تضحكني منك روحك الحلوة المفتونة بالدعاية وخبيث المزاح!
الحلاج رضى الله عنه! أي والله يا دكتور زكي، إنك تحسن استغلال حرية الفكر في مصر، وتحسن استغلال سعة صدور المسلمين!
على انك نسيت، بالرغم من قوة ذاكرتك أنك، وأنت تشكو من التضييق على حرية الفكر في مصر. كنت أول كاتب جريء استطاع أن يدافع عن شيء يعتبر الدفاع عنه شيئاً مضحكاً جدا. . . بل شيئاً مثيرا لعواطف المسلمين. . . جالباً لسخط الله والناس. . . فهل تذكر عم دافعت؟! أنا أذكرك إن كنت قد نسيت. . . لقد دافعت في كتابك القيم - التصوف الإسلامي - عن المعاصي. . . أي والله يا أخي. لقد دافعت عن المعاصي دفاعاً مضحكاً حاراً في أكثر من خمس صفحات كتابك المجيد الذي لا يخلو من تلك (البُقع) المسلية. . . لقد فعلت فعلتك الظريفة هذه بمناسبة ما يقوله الجيلاني عن تساوي العاصي والمطيع أمام الحق. . . أي أمام الله! ولكن لا مندوحة عن تسجيل قطعة من دفاعك ذاك فاسمع:
(. . . وكيف يكون فهمنا لعظمة الله إذا حرمنا الشقاء بالعواطف والشهوات والأهواء؟ كيف كنا نعيش لو خلت دنيانا من اللهو والفتون؟ كيف كانت تطيب دنيانا لو لم نطع الله بالعصيان؟! كيف يكون العقل لو خلا من التمرد والثورة والاعتساف؟ إن أجمل أثر أدبي تركه الأولون هو (سفر أيوب) وإنما كان كذلك لأن ناظمه وقف ربه أمام ساحة الجزاء!
إن أقوى الأغاني والأناشيد هي أنفاس الملتاعين من الذين قارعوا فتن الوجود!
إن أعاظم الرجال هم الذين نقعوا أرواحهم في بحار الشهوات!
إن أقوى القلوب هي القلوب التي واجهت سرائر الليل!
إن أعظم النفوس هي النفوس التي عاقرت كؤوس الغل والحقد والحب والهيام!
إن أعظم العقول هي العقول التي اصطرعت في ميادين الشك واليقين!
حدثوني عن رجل واحد بين العظماء شهد تاريخه بأنه احترم العرف والقوانين والتقاليد! إن الرجل العظيم هو الحوت الذي يسير كما يشاء، ومن سواه من الصغار هم صغار الأسماك التي تساير التيار لتقع في شباك الصيادين!
. . . والشر ينفع كل النفع، فهو الذي يحولنا من ناس إلى حكماء، وينقلنا من مراتع الحملان إلى مرابض الأسود!
وماذا غنمنا من سيادة الشرائع (!!) والقوانين؟!. . غنمنا العدل! وهو كذلك! ولكن أي عدل؟ إنه العدل الأعرج الذي سمح للضعفاء والمهازيل بأن يكونوا من قادة الشعوب!) الخ
فهل رأيت يا أخي كيف كنت أجرأ مخلوق على وجه الأرض، أوتي من حرية الفكر أن يدافع عن المعاصي والشهوات هذا الدفاع الحماسي المتأجج، دون أن يناله شر، ودون أن يفتك الناس به، ودون أن يطارده القانون!
ولكن لابد من اقتباس الفقرة التالية أو الفقرات التاليات التي تدل على أنك تبلغ أحيانا تلك المرتبة من مراتب (ما وراء الشجاعة):
(وبفضل تقدم الضعفاء، وتخلف الأقوياء، صار الشرقيون من المستعبدين! وهل كان للشرق قوة إلا يوم صح لأنبيائه وزعمائه أن يروا لأنفسهم مزايا ليست لسائر الناس؟ وهل استطاع النبي محمد أن يستبيح من الزوجات ما لا يستبيح لأفراد أمته، إلا وهو يرى إنه أقوى الرجال!)
فهل رأيت يا صديقي كيف سولت لك جراءتك أن تقول هذا الكلام العجيب عن محمد بن عبد الله الذي جعلته شهوانيا أنانيا يؤثر نفسه بما لا يسمح للمؤمنين، لأنه رجل قوي العضلات؟ وأنت تعلم إنه عاشر السيدة خديجة عليها رضوان الله منذ أن كان فتى حتى توفيت قبل الهجرة بثلاث سنوات، أي بعد ما نيف على الخمسين أو شارفها، لم ينظر إلى امرأة غيرها قط، ولا اشتهى أن يتزوج قط حتى توفيت. فإذا قبضها الله إليه وحدثت هذه الزيجات الكثيرة بعد ذلك. جئت أنت لتقول في جرأتك المعهودة إنها زيجات كان سببها قوة عضلات محمد التي جعلته أنانيا يؤثر نفسه بما لا يسمح به للمؤمنين!
هاأنت ذا قد قلت ذلك كله ودافعت عن الحلاج ما دافعت مع علمك بكفره لزعمه إنه الله. . . فماذا حدث لك! ماذا نالك من المطاردة والنفي والحمل على الجمال والسلخ مما نال المتصوفة في العصور الغابرة؟! ماذا تريدون أن تقولوا غير ما قلتم؟ أفتونا في حرية الرأي هذه كيف تكون بعد هذا كله؟ إن الجامعة التي هي جزء مقدس من الدولة التي دينها الرسمي هو الإسلام قد منحتكم إجازة الدكتوراه على الرسالة القيمة التي تقدمتم بها إليها بالرغم مما بها من هذه البقع الكبيرة، وقد منحتكم تلك الإجازة مع مرتبة الشرف تقديسا لحرية الرأي، فأي حرية تريدون بعد هذا؟ أتريدون الشيء الذي يأتي في الترتيب بعد الحرية؟!
أخي الدكتور زكي. . . أرجو ألا يغضبك هذا الحق. . . وأرجو أن يعجبك ما أكتب عن الرصافي، لأني أكتب لغرض أسمى أنت تعرفه.
دريني خشبه
مجلة الرسالة - العدد 586
بتاريخ: 25 - 09 - 1944
(ولا يخفى ما قاساه الإمام أبو حنيفة مع الخلفاء، وما قاساه الإمام مالك واستخفاؤه خمساً وعشرين سنة لا يخرج لجمعة ولا جماعة، وكذلك ما قاساه الإمام الشافعي من أهل العراق، وأهل مصر وكذلك ما قاساه الإمام أحمد بن حنبل من الضرب والحبس، وما قاساه البخاري، حين أخرجوه من بخارى إلى خرتنك
(وقد نفى أبو زيد البسطامي سبع مرات من بسطام بواسطة جماعة من علمائها؛ وشيعوا ذا النون المصري من مصر إلى بغداد مقيداً مغلولاً. وسافر معه جماعة من أهل مصر يشهدون عليه بالزندقة. ورموا سمنون المحب بالعظائم، ورشوا امرأة من البغايا فادعت عليه إنه يأتيها هو وأصحابه، واختفى بسبب ذلك سنة. وأخرجوا سهل بن عبد الله التستري من بلده إلى البصرة ونسبوه إلى قبائح وكفروه مع إمامته وجلاله، ورموا أبا سعيد الخراز بالعظائم، وأفتى العلماء بكفره بألفاظ وجدوها في كتبه، وشهدوا على الجنيد بكفره مراراً حين كان يتكلم في التوحيد على رؤوس الأشهاد. فصار يقرره في عقر بيته إلى أن مات
(وأخرجوا محمد بن الفضل البلخي من بَلْخ لكون مذهبه كان مذهب أهل الحديث من إجراء آيات الصفات وأخبارها على ظاهرها بلا تأويل والإيمان بها على علم الله فيها، ولما أرادوا إخراجه قال: لا أخرج إلا أن جعلتم في عنقي حبلا ومررتم بي في أسواق البلد، وقلتم هذا مبتدع نريد أن نخرجه من بلدنا، ففعلوا ذلك وأخرجوه، فالتفت إليهم وقال: يا أهل بلخ، نزع الله من قلوبكم معرفته! الخ. . .
(وأخرجوا أبا عثمان المغربي من مكة مع كثرة مجاهدته وتمام علمه وحاله، وضربوه ضرباً مبرحاً، وطافوا به على جمل، فأقام ببغداد إلى أن مات!
(وشهدوا على الشبلي بالكفر مراراً مع تمام علمه وكثرة مجاهداته، وأدخله أصحابه البيمارستان ليرجع الناس عنه مدة طويلة!
(وأخرجوا الإمام أبا بكر النابلسي مع فضله واستقامته في طريقته من المغرب إلى مصر، وشهدوا عليه بالزندقة عند سلطان مصر، فأمر بسلخه منكوساً، فصار يقرأ القرآن وهم يسلخونه بتدبر وخشوع، حتى قطع قلوب الناس، وكادوا يفتتنون به!!
ورموا الشيخ أبا مدين بالزندقة وأخرجوه من بجاية إلى تلمسان
وأخرجوا أبا الحسن الشاذلي من مصر وشهدوا عليه بالزندقة
ورموا عز الدين بن عبد السلام بالكفر، وعقدوا له مجلساً في كلمة قالها في عقيدته وحرشوا السلطان عليه
ورموا تاج الدين السبكي بالكفر وشهدوا عليه إنه يقول بإباحة الخمر والفاحشة، وأنه يلبس في الليل الغيار والزنار وأتوا به مغلولاً مقيداً من الشام إلى مصر. . . الخ. . . الخ)
وبعد. . . فتلك صفحة عجيبة من تاريخ الاضطهاد الفكري نقلها صديقنا الدكتور زكي بقلمه عن كتاب اليواقيت. . . وهو كما قدمنا رجل ألمعي أريب قوي الذاكرة. . . فلا يمكن أبدا أن يكون صادقاً حينما ينعى حرية الفكر في مصر اليوم، ويتباكى على حرية الفكر في العصور الذهبية للتصوف الإسلامي. ولكن الممكن أن يكون مداعباً كدأبه. . . وإلا فماذا حدث في مصر الحديثة لرجال التصوف المنبثين في كل حدب وكل صوب. أو ماذا حدث للذين يعلنون اليوم جهرة أنهم يؤمنون بنظرية وحدة الوجود التي خرجوا منها بأن الله هو هذا العالم - أو هذا الوجود المطلق الكلي - وأن محمداً هو مبتدع تلك النظرية، كما أنه مؤلف القرآن، وأن كل ما جاء به، صلوات الله عليه من أنباء الغيب لا يمكن أن ينهض له العقل. فلا بعث ولا حساب ولا ثواب ولا عقاب ولا جنة ولا نار ولا ميزان ولا صراط. . . وأنه لا داعي لأن يدعو الإنسان ربه ولا أن يصلي له. . . لأن دعاءه وصلاته لن يغيرا من قوانين الأقدار شيئا. . . وأن المتضادات أمام الله سواء، لأنه هو الهادي وهو المضل، وعليه، يكون الفجور كالتقى، والشر كالخير، والسجود بين يديه مثل إكباب المرء على حليلته. . . إلى آخر هذا الهذيان الذي اجترأ بعض فلاسفة زماننا أن يرددوه مؤمنين به، ومع ذلك فهم يسرحون ويمرحون، لم يعرض لهم أحد بشر، ولم يأخذهم أولو الأمر بذنوبهم، فلم يقيدوهم بالأغلال، ولم يحملوهم على الجمال ولم يسلطوا عليهم البغايا، ولم يسلخوا جلودهم أحياء ولم يرسلوا بهم إلى مستشفيات المجاذيب، ولم يسلطوا عليهم الصبية يرجمونهم بالحجارة. . .
لم يصنعوا بهم شيئاً من هذا، مع أنهم غلوا أضعاف ما غلا أسلافهم. . . ألا ترى يا أخي أنهم اجترأوا فقالوا إن القرآن هو كلام ألفه محمد؟! ألا ترى أنهم أنكروا ما جاء به محمد جملة؟! وهم قد صنعوا ذلك وأثبتوه في كتب طبعت في العراق وأرسلت إلى مصر فدخلتها دون أن يعترضها معترض، كما دخلت جميع الأقطار الإسلامية دون أن يقف في سبيلها شيء. . . ولماذا يقف في سبيلها شيء ما دامت أقلام المسلمين في أيديهم، وما دامت عقولهم في صدورهم - ورؤوسهم - يا دكتور زكي؟! ليقل الزنادقة ما شاءوا، ولينشروا من كتبهم ما أرادوا، آمنين مطمئنين، ما دام هذا الزمان الذي كانت الدولة تسلخ فيه جلودهم وهم على قيد الحياة قد مضى. . . لقد أبصرت الدولة اليوم، ولقد أبصرت الأمة الإسلامية، فهي لم تعد تلجأ مع الزنادقة إلى تلك الوسائل الهمجية من التمثيل والتعذيب، وما نهى عنه الإسلام الصحيح الصادق من ضروب المثلة. . . لكنها تلجأ إلى وسائل أحزم وأوسع مدى في حرية الفكر. . . إنها تلجأ إلى يقظة الضمير الإسلامي في أقلام أبنائها فتزيف الأفكار الفجة، والآراء السقيمة، فلا يكون زيغ، ولا يكون إضلال، ولا يكون إيمان أعمى بنظرية وحدة الوجود بتخريجاتها المضحكة التي انتهى إليها هذا الأستاذ الجليل، الشيخ معروف الرصافي
على أن الذي يغيظني منك يا صديقي الطلعة المفضال هو اشتدادك في البكاء على حرية الفكر، وهذه كتبك القيمة كلها تحمل من الجراءة ومن الأفكار الحرة، بل الأفكار الطليقة السائبة التي لا تحفل بشيء، ما تحمل، وهي تنتشر مع ذاك بين المسلمين في جميع الأقطار الإسلامية انتشاراً عظيماً، دون أن ينقم منها أحد شيئا، إلا ما استدركه عليها مناظرك الفاضل من ملاحظات يوافقه الناس على بعضها ولا يوافقونه على بعضها الآخر. . . وما أريد أن أدخل بينكما الآن. . . ولكني أردت أن أنفذ من ذلك إلى الاعتذار إليك مما قلته الآن عن بعض أفكارك، والتعبير عنها بأنها طليقة سائبة لا تحفل بشيء. . .
هل تذكر يا أخي أن الحلاج مات كافرا - ولو من وجهة النظر الإسلامية - لأنه يزعم للناس إنه الله؟ وهل تذكر أنك كنت الكاتب المسلم الوحيد الذي دافع عن الحلاج، بالرغم من قوله هذا، وأنك لم تكن تبالي بإتباع اسمه كلما ذكرته بهذه العبارة الغالية: رضى الله عنه!
لشد ما تضحكني منك روحك الحلوة المفتونة بالدعاية وخبيث المزاح!
الحلاج رضى الله عنه! أي والله يا دكتور زكي، إنك تحسن استغلال حرية الفكر في مصر، وتحسن استغلال سعة صدور المسلمين!
على انك نسيت، بالرغم من قوة ذاكرتك أنك، وأنت تشكو من التضييق على حرية الفكر في مصر. كنت أول كاتب جريء استطاع أن يدافع عن شيء يعتبر الدفاع عنه شيئاً مضحكاً جدا. . . بل شيئاً مثيرا لعواطف المسلمين. . . جالباً لسخط الله والناس. . . فهل تذكر عم دافعت؟! أنا أذكرك إن كنت قد نسيت. . . لقد دافعت في كتابك القيم - التصوف الإسلامي - عن المعاصي. . . أي والله يا أخي. لقد دافعت عن المعاصي دفاعاً مضحكاً حاراً في أكثر من خمس صفحات كتابك المجيد الذي لا يخلو من تلك (البُقع) المسلية. . . لقد فعلت فعلتك الظريفة هذه بمناسبة ما يقوله الجيلاني عن تساوي العاصي والمطيع أمام الحق. . . أي أمام الله! ولكن لا مندوحة عن تسجيل قطعة من دفاعك ذاك فاسمع:
(. . . وكيف يكون فهمنا لعظمة الله إذا حرمنا الشقاء بالعواطف والشهوات والأهواء؟ كيف كنا نعيش لو خلت دنيانا من اللهو والفتون؟ كيف كانت تطيب دنيانا لو لم نطع الله بالعصيان؟! كيف يكون العقل لو خلا من التمرد والثورة والاعتساف؟ إن أجمل أثر أدبي تركه الأولون هو (سفر أيوب) وإنما كان كذلك لأن ناظمه وقف ربه أمام ساحة الجزاء!
إن أقوى الأغاني والأناشيد هي أنفاس الملتاعين من الذين قارعوا فتن الوجود!
إن أعاظم الرجال هم الذين نقعوا أرواحهم في بحار الشهوات!
إن أقوى القلوب هي القلوب التي واجهت سرائر الليل!
إن أعظم النفوس هي النفوس التي عاقرت كؤوس الغل والحقد والحب والهيام!
إن أعظم العقول هي العقول التي اصطرعت في ميادين الشك واليقين!
حدثوني عن رجل واحد بين العظماء شهد تاريخه بأنه احترم العرف والقوانين والتقاليد! إن الرجل العظيم هو الحوت الذي يسير كما يشاء، ومن سواه من الصغار هم صغار الأسماك التي تساير التيار لتقع في شباك الصيادين!
. . . والشر ينفع كل النفع، فهو الذي يحولنا من ناس إلى حكماء، وينقلنا من مراتع الحملان إلى مرابض الأسود!
وماذا غنمنا من سيادة الشرائع (!!) والقوانين؟!. . غنمنا العدل! وهو كذلك! ولكن أي عدل؟ إنه العدل الأعرج الذي سمح للضعفاء والمهازيل بأن يكونوا من قادة الشعوب!) الخ
فهل رأيت يا أخي كيف كنت أجرأ مخلوق على وجه الأرض، أوتي من حرية الفكر أن يدافع عن المعاصي والشهوات هذا الدفاع الحماسي المتأجج، دون أن يناله شر، ودون أن يفتك الناس به، ودون أن يطارده القانون!
ولكن لابد من اقتباس الفقرة التالية أو الفقرات التاليات التي تدل على أنك تبلغ أحيانا تلك المرتبة من مراتب (ما وراء الشجاعة):
(وبفضل تقدم الضعفاء، وتخلف الأقوياء، صار الشرقيون من المستعبدين! وهل كان للشرق قوة إلا يوم صح لأنبيائه وزعمائه أن يروا لأنفسهم مزايا ليست لسائر الناس؟ وهل استطاع النبي محمد أن يستبيح من الزوجات ما لا يستبيح لأفراد أمته، إلا وهو يرى إنه أقوى الرجال!)
فهل رأيت يا صديقي كيف سولت لك جراءتك أن تقول هذا الكلام العجيب عن محمد بن عبد الله الذي جعلته شهوانيا أنانيا يؤثر نفسه بما لا يسمح للمؤمنين، لأنه رجل قوي العضلات؟ وأنت تعلم إنه عاشر السيدة خديجة عليها رضوان الله منذ أن كان فتى حتى توفيت قبل الهجرة بثلاث سنوات، أي بعد ما نيف على الخمسين أو شارفها، لم ينظر إلى امرأة غيرها قط، ولا اشتهى أن يتزوج قط حتى توفيت. فإذا قبضها الله إليه وحدثت هذه الزيجات الكثيرة بعد ذلك. جئت أنت لتقول في جرأتك المعهودة إنها زيجات كان سببها قوة عضلات محمد التي جعلته أنانيا يؤثر نفسه بما لا يسمح به للمؤمنين!
هاأنت ذا قد قلت ذلك كله ودافعت عن الحلاج ما دافعت مع علمك بكفره لزعمه إنه الله. . . فماذا حدث لك! ماذا نالك من المطاردة والنفي والحمل على الجمال والسلخ مما نال المتصوفة في العصور الغابرة؟! ماذا تريدون أن تقولوا غير ما قلتم؟ أفتونا في حرية الرأي هذه كيف تكون بعد هذا كله؟ إن الجامعة التي هي جزء مقدس من الدولة التي دينها الرسمي هو الإسلام قد منحتكم إجازة الدكتوراه على الرسالة القيمة التي تقدمتم بها إليها بالرغم مما بها من هذه البقع الكبيرة، وقد منحتكم تلك الإجازة مع مرتبة الشرف تقديسا لحرية الرأي، فأي حرية تريدون بعد هذا؟ أتريدون الشيء الذي يأتي في الترتيب بعد الحرية؟!
أخي الدكتور زكي. . . أرجو ألا يغضبك هذا الحق. . . وأرجو أن يعجبك ما أكتب عن الرصافي، لأني أكتب لغرض أسمى أنت تعرفه.
دريني خشبه
مجلة الرسالة - العدد 586
بتاريخ: 25 - 09 - 1944