رأيت مرة صديقاً يسير كئيبا حزينا، فسألته الخبر، فلم يجب بأكثر من كلمة.
- (وقعت). . . واختفى. . .
فلم أفقه ماهية النكبة التي حلت به، وعزوت ذلك لدين لم يتمكن من سداده، أو لخلاف وقع له مع زوجته، أو لمشكلة طرأت له في وظيفته. . .
ثم غاب عن ناظري أسبوعين كاملين، إلى أن رأيته يوما يجلس في مقهى من مقاهي (يافا) وأمارات البشر والحبور تبدو على قسمات وجهه.
- قلت له: لا بد أن يكون قد حدث لك حادث، تحاول إخفائه عني، مرة تسير كئيبا ثم تختفي أسبوعين ثم ظهرت ثانيا مسرورا، فما هي قصتك؟.
قال: أفقت مرة من نومي وأنا أحس بألم لا يطاق في ذراعي اليمنى، وكانت أعصاب يدي متوترة، وكنت أجد صعوبة شديدة في قبض أصابعي، فحاولت أن أنزع لباس النوم، فلم أستطع، وأمسكت فنجان القهوة فسقط على الأرض. . . ثم أردت أن اكتب شيئاً فلم تطعني أناملي، ثم جاءني ولدي وطلب مني أن أبري له قلمه، فلم يعمل السكين في القلم. . . فاستعذت بالله من الشيطان الرجيم وهرعت إلى الطبيب.
فلما رويت له ما حدث لي، اهتم بالأمر وقال:
- المسألة في غاية التعقيد. . . وأود قبل فحص جسمك أن أفحصك بالأسئلة التي ستنير لي سر مرضك. . .
فسألني عن اسمي، وعن اسم أبي وأمي، وأين قضيت أيام طفولتي، وأين نشأت وترعرعت، وأي المدن سكنت، وهل سبق أن أصبت بأمراض، وما هي أنواعها. . . وهل أعرف شيئاً عن أمراض بارزة في عائلتنا. . . وهل قمت بأعمال جسدية يوما ما، ثم ما هي طبيعة عملي الآن، وهل أكثر من الكتابة أو المطالعة. . . وهل أميل إلى التفكير العميق أو السطحي، وأخيراً كيف أقضي ساعات الفراغ، أأقضيها في المداعبات. . . أم في التأملات. . .
ثم فحص جسمي، فجس نبضي وحملق في عيني، وأنعم النظر في حلقي، وقاس كتفي، واستمع إلى رئتي، ونقر على ظهري وبطني، وسألني أن أتأوه. . . ثم طرق ركبتي بعصا طرقاً خفيفاً فردتا عليه بحركات عنيفة. . . ثم قال:
- كفى الآن. . . اجلس.
فجلست أجمع ثيابي، وجلس وهو يضع تقريره الطبي، وبعد دقائق قال لي:
اسمع يا أبني. . . أنت مصاب بمرض عصبي عضال لم أر له مثيلا في حياتي. وأصارحك القول بأنني لن أنصحك باستعمال أي دواء قبل تصوير ذراعك بأشعة رنتجن.
- قلت ولكن كيف تشخص هذا المرض على وجه التقريب؟
- قال يغلب على ظني أنه (أوستيو ميليستوس) يتصل إما (بالبرامليجيوس) أو (بالهيمبليجيوس)!. . .
ثم أخذ لي صورة بأشعة رنتجن. . . وسألني أن أعود إليه في اليوم التالي. . . فخرجت من لدن الطبيب وقد أظلمت الدنيا في عيني، فكان الناس يعبرون بي وكأنهم أطياف. ومرت بالقرب مني سيارة مسرعة، فعن لي أن أحتك بها!. . . ثم اجتزت هضبة تطل على البحر، فرأيت أمواجه تقهقه وتتحداني!. . . لكنني تغلبت على مظاهر الضعف، ولم أقنط من رحمة الله.
ولما عدت إلى الطبيب مرة أخرى، أظهر لي الصورة، وراح يشرح لي تفاصيلها بالقرب من النافذة. . . فقال:
انظر. . . هذه جمجمتك. . . وهذه أسنانك. . . باستثناء المخلوع منها طبعاً. . . وهذه رقبتك. . . أنظر كيف يميل عمودك الفقري إلى اليمين قليلا. . أما هذه الريشة فموقفها غير طبيعي، وأظن أنها هي التي تضغط على مجموعة أعصاب كتفك الأيمن وتسبب لك الآلام. . . وعلى كل فهذا رأي الخاص. . . ولما كان الطبيب عادة لا يرتاح إلى رأي واحد في القضايا الطبية المعقدة، فأنني سأرسلك الآن إلى طبيب أخصائي في الأعصاب، ثم تجرى لك مشاورة طبية فوق العادة. . .
وتركت العيادة وأنا في حالة يرثى لها، وأسرعت إلى الأخصائي في أمراض الأعصاب الذي أرشدني إليه الطبيب، واسمه الدكتور رودولف روبنشتاين، خريج معهد فينا الطبي فجلست له وكان يسألني سؤالا في الطب وعشرة أسئلة في السياسة الفلسطينية!. . . ثم بدأ الفحص بعد أن ظهرت أمامه كما خلقني ربي، ووخزني بإبرة في أطراف أصابعي. . . ثم مر بالإبرة أيضاً على ظهري، ثم ربط جهازاً على ذراعي وضغط عليه ثم قال لي:
- تمدد على ظهرك، وارفع يديك إلى العلاء، فابسط أصابعك. . . ثم أمسك بيدي وقال:
- دعنا نتجاذب بشدة. . .
ثم أخذ يطرق جسمي بمطرقة خشبية صغيرة، وكان ذلك خاتمة الفحص.
فقال لي وهو يقبض الجنيهات الخمسة:
أنت تشكو من انحطاط في مجموعة أعصابك. . . وأقترح أن تستريح شهراً كاملا في (كاليه) في منطقة البحر الميت.
وعدت إلى البيت، وأنا أفكر في هذه المصيبة التي حلت بي، فكنت أردد أقوال الطبيبين، وأنعم النظر في صورة رنتجن، وأطالع التقارير الطبية، وأحاول إدراك كنه محتوياته اللاتينية مستعينا بالقاموس الطبي. . . إلى أن أضحيت أسير هواجس، فانكمشت على نفسي واعتزلت الناس، وعولت على ألا أعود إلى طبيبي الأول، وألا أسافر إلى (كاليه). . . وفي إحدى الأمسيات خاطبت نفسي قائلا - لم لا تجرب حظك في الدواء البلدي؟. . . فنهضت للتو وقصدت جارتنا (أم حسين) وهي عجوز معروفة بوصفاتها البلدية وعرضت عليها ذراعي فأمسكت به وتفحصته وقالت: أنت تشكو من قرصة هواء!. . .
قلت: وكيف ذلك؟
قالت: لا تبحث بما لا يعنيك. . . وعليك أن تعمل حسب ما أوصيك به - خذ خمسة جرامات من المسحوق الفارسي، ومثلها من بذور البطم، وعشرة جرامات من الزنجبيل، ومثلها من الهند شعيرية، ومثلها من روح الزرنيخ، واسحقها كلها معا، ثم اطبخها بالزيت، واصنع منها لزقات. . .
قلت ومن أين آتي بهذه العقاقير؟
قالت - أطمئن فأنا أجلبها من البلاد البعيدة بواسطة الحجاج. . . ولك أن تثق بخبرتي ومهارتي. . . والآن هات جنيهاً على الحساب. . .
وبعد أن قضيت أسبوعين وأنا في هذه الرحلة الشاقة بين الطب والوصفات البلدية، ذهبت إلى صديق صيدلي، ورويت له حكايتي في جميع أدوارها، فضحك وقال - لا تجزع. . . يبدو لي أن مناخ البحر لا يلائمك، وهذه رطوبة أحدثت في ذراعك التهاباً. . . إليك هذا المعجون وأدلك به ذراعك دلكا خفيفا ثم لفه بالصوف على ثلاث ليالي متواليات، وعلى الله الشفاء.
قلت - وما ثمنه؟
فأجاب في شئ من التردد والخجل معًا:
- (شلن) واحد فقط!. . .
نجاتي صدقي
مجلة الرسالة - العدد 685
بتاريخ: 19 - 08 - 1946
- (وقعت). . . واختفى. . .
فلم أفقه ماهية النكبة التي حلت به، وعزوت ذلك لدين لم يتمكن من سداده، أو لخلاف وقع له مع زوجته، أو لمشكلة طرأت له في وظيفته. . .
ثم غاب عن ناظري أسبوعين كاملين، إلى أن رأيته يوما يجلس في مقهى من مقاهي (يافا) وأمارات البشر والحبور تبدو على قسمات وجهه.
- قلت له: لا بد أن يكون قد حدث لك حادث، تحاول إخفائه عني، مرة تسير كئيبا ثم تختفي أسبوعين ثم ظهرت ثانيا مسرورا، فما هي قصتك؟.
قال: أفقت مرة من نومي وأنا أحس بألم لا يطاق في ذراعي اليمنى، وكانت أعصاب يدي متوترة، وكنت أجد صعوبة شديدة في قبض أصابعي، فحاولت أن أنزع لباس النوم، فلم أستطع، وأمسكت فنجان القهوة فسقط على الأرض. . . ثم أردت أن اكتب شيئاً فلم تطعني أناملي، ثم جاءني ولدي وطلب مني أن أبري له قلمه، فلم يعمل السكين في القلم. . . فاستعذت بالله من الشيطان الرجيم وهرعت إلى الطبيب.
فلما رويت له ما حدث لي، اهتم بالأمر وقال:
- المسألة في غاية التعقيد. . . وأود قبل فحص جسمك أن أفحصك بالأسئلة التي ستنير لي سر مرضك. . .
فسألني عن اسمي، وعن اسم أبي وأمي، وأين قضيت أيام طفولتي، وأين نشأت وترعرعت، وأي المدن سكنت، وهل سبق أن أصبت بأمراض، وما هي أنواعها. . . وهل أعرف شيئاً عن أمراض بارزة في عائلتنا. . . وهل قمت بأعمال جسدية يوما ما، ثم ما هي طبيعة عملي الآن، وهل أكثر من الكتابة أو المطالعة. . . وهل أميل إلى التفكير العميق أو السطحي، وأخيراً كيف أقضي ساعات الفراغ، أأقضيها في المداعبات. . . أم في التأملات. . .
ثم فحص جسمي، فجس نبضي وحملق في عيني، وأنعم النظر في حلقي، وقاس كتفي، واستمع إلى رئتي، ونقر على ظهري وبطني، وسألني أن أتأوه. . . ثم طرق ركبتي بعصا طرقاً خفيفاً فردتا عليه بحركات عنيفة. . . ثم قال:
- كفى الآن. . . اجلس.
فجلست أجمع ثيابي، وجلس وهو يضع تقريره الطبي، وبعد دقائق قال لي:
اسمع يا أبني. . . أنت مصاب بمرض عصبي عضال لم أر له مثيلا في حياتي. وأصارحك القول بأنني لن أنصحك باستعمال أي دواء قبل تصوير ذراعك بأشعة رنتجن.
- قلت ولكن كيف تشخص هذا المرض على وجه التقريب؟
- قال يغلب على ظني أنه (أوستيو ميليستوس) يتصل إما (بالبرامليجيوس) أو (بالهيمبليجيوس)!. . .
ثم أخذ لي صورة بأشعة رنتجن. . . وسألني أن أعود إليه في اليوم التالي. . . فخرجت من لدن الطبيب وقد أظلمت الدنيا في عيني، فكان الناس يعبرون بي وكأنهم أطياف. ومرت بالقرب مني سيارة مسرعة، فعن لي أن أحتك بها!. . . ثم اجتزت هضبة تطل على البحر، فرأيت أمواجه تقهقه وتتحداني!. . . لكنني تغلبت على مظاهر الضعف، ولم أقنط من رحمة الله.
ولما عدت إلى الطبيب مرة أخرى، أظهر لي الصورة، وراح يشرح لي تفاصيلها بالقرب من النافذة. . . فقال:
انظر. . . هذه جمجمتك. . . وهذه أسنانك. . . باستثناء المخلوع منها طبعاً. . . وهذه رقبتك. . . أنظر كيف يميل عمودك الفقري إلى اليمين قليلا. . أما هذه الريشة فموقفها غير طبيعي، وأظن أنها هي التي تضغط على مجموعة أعصاب كتفك الأيمن وتسبب لك الآلام. . . وعلى كل فهذا رأي الخاص. . . ولما كان الطبيب عادة لا يرتاح إلى رأي واحد في القضايا الطبية المعقدة، فأنني سأرسلك الآن إلى طبيب أخصائي في الأعصاب، ثم تجرى لك مشاورة طبية فوق العادة. . .
وتركت العيادة وأنا في حالة يرثى لها، وأسرعت إلى الأخصائي في أمراض الأعصاب الذي أرشدني إليه الطبيب، واسمه الدكتور رودولف روبنشتاين، خريج معهد فينا الطبي فجلست له وكان يسألني سؤالا في الطب وعشرة أسئلة في السياسة الفلسطينية!. . . ثم بدأ الفحص بعد أن ظهرت أمامه كما خلقني ربي، ووخزني بإبرة في أطراف أصابعي. . . ثم مر بالإبرة أيضاً على ظهري، ثم ربط جهازاً على ذراعي وضغط عليه ثم قال لي:
- تمدد على ظهرك، وارفع يديك إلى العلاء، فابسط أصابعك. . . ثم أمسك بيدي وقال:
- دعنا نتجاذب بشدة. . .
ثم أخذ يطرق جسمي بمطرقة خشبية صغيرة، وكان ذلك خاتمة الفحص.
فقال لي وهو يقبض الجنيهات الخمسة:
أنت تشكو من انحطاط في مجموعة أعصابك. . . وأقترح أن تستريح شهراً كاملا في (كاليه) في منطقة البحر الميت.
وعدت إلى البيت، وأنا أفكر في هذه المصيبة التي حلت بي، فكنت أردد أقوال الطبيبين، وأنعم النظر في صورة رنتجن، وأطالع التقارير الطبية، وأحاول إدراك كنه محتوياته اللاتينية مستعينا بالقاموس الطبي. . . إلى أن أضحيت أسير هواجس، فانكمشت على نفسي واعتزلت الناس، وعولت على ألا أعود إلى طبيبي الأول، وألا أسافر إلى (كاليه). . . وفي إحدى الأمسيات خاطبت نفسي قائلا - لم لا تجرب حظك في الدواء البلدي؟. . . فنهضت للتو وقصدت جارتنا (أم حسين) وهي عجوز معروفة بوصفاتها البلدية وعرضت عليها ذراعي فأمسكت به وتفحصته وقالت: أنت تشكو من قرصة هواء!. . .
قلت: وكيف ذلك؟
قالت: لا تبحث بما لا يعنيك. . . وعليك أن تعمل حسب ما أوصيك به - خذ خمسة جرامات من المسحوق الفارسي، ومثلها من بذور البطم، وعشرة جرامات من الزنجبيل، ومثلها من الهند شعيرية، ومثلها من روح الزرنيخ، واسحقها كلها معا، ثم اطبخها بالزيت، واصنع منها لزقات. . .
قلت ومن أين آتي بهذه العقاقير؟
قالت - أطمئن فأنا أجلبها من البلاد البعيدة بواسطة الحجاج. . . ولك أن تثق بخبرتي ومهارتي. . . والآن هات جنيهاً على الحساب. . .
وبعد أن قضيت أسبوعين وأنا في هذه الرحلة الشاقة بين الطب والوصفات البلدية، ذهبت إلى صديق صيدلي، ورويت له حكايتي في جميع أدوارها، فضحك وقال - لا تجزع. . . يبدو لي أن مناخ البحر لا يلائمك، وهذه رطوبة أحدثت في ذراعك التهاباً. . . إليك هذا المعجون وأدلك به ذراعك دلكا خفيفا ثم لفه بالصوف على ثلاث ليالي متواليات، وعلى الله الشفاء.
قلت - وما ثمنه؟
فأجاب في شئ من التردد والخجل معًا:
- (شلن) واحد فقط!. . .
نجاتي صدقي
مجلة الرسالة - العدد 685
بتاريخ: 19 - 08 - 1946