كنتُ محتاجاً أن أنتظر في اتحاد كتاب وأدباء العراق في بغداد، رئيس اتحاد كتاب وأدباء الموصل د. عمار أحمد، يحمل لي دواوين البستاني، ومن حينها بدأتْ القراءة تمتع أوقاتي خطوة تلاقح أخرى، وكان انسجامي يذيع امتحان صفات النص، وصحة احكامه، وفي الوقت ذاته إفادة مميزة تكشف عن أسرار ومعرفة المباني الطموحة باختلاف جوهرها، وسبيلي إلى تحقيق غايتي، أن تنسجم رؤيتي مع المتلازمات في مداركها الشعرية المتحركة، وغير ذلك مما يداخلني حضور يشبع فضولي بغية حوار ينسجم مع إشكالية اعتراضي النقدي على بعض النصوص الشعرية النسوية*. ليكون لكتابي هذا أثر ومكانة قيمة عند القارىء، ومن منطلق هذا الحذر، تُحَتمُ عليَ المسؤولية الأخلاقية أن أتبصر مليا بشاعريتها، وحال القصائد وكأنها تتحرك أمام قلمي.
في هذا الفصل أجدني أدخل مناخاً شعرياً مختلفاً في إيقاعه ورشاقته الأسلوبية، من حيث تنسيق صنعته، وإحكام بنيته، في دقة تستنبط الآثار الأدبية ترتيباً، واستثناء، وجزاء. قصيدة تعانق امتداد صعود فنية التصوير إلى فضاءات بينة أجدها تشاغلني، وبينما تقدمني نصوص الشاعرة إلى الميْز التنويري حيث متعة الفصاحة في قصائدها، أجدها تبوح الشعر ملذات مسيرتها الممتدة منذ الستينات وليومنا بتفوق نادر، وما زالت على طريق التفاعل النوعي، حيث أن شخصيتها الشعرية تعاقبت بقصائدها المقبولة عند القارىء بارتياح على امتداد تجربتها، وهذا منذ ولادتها الشعرية الأولى التي بدأت على وفاق تام مع ميزات التنوع. وهي ترسم مسيرتها بخطى مستقلة وثابتة، معلنة حضورها التفاعلي بين أهم الشعراء العرب من الرجال والنساء، فكانت قصيدتها وما زالت تلج بشخصيتها التي لا تنضب مشارعها وحكمتها. أعترف أن موقفي أمام الشاعرة البستاني محكوم بالتحدي من الناحية الأدبية والفكرية، وخاصة النقدية كما كان الحال مع الشاعرة نازك الملائكة. ومما لا شك فيه فإنني متعلق موضوعياً بقصيدة البستاني، دوار على صفحتها في موقع "حروف"، مع أن المواقع اللمامة تهزمني دون أن تمتعني لأنها تواقيع لا غير. وكنت منذ أن بدأت الخوض في الكتابة النقدية النسوية، تعاظمت نيتي لكي أطلع القارىء على الأسماء الشعرية الحقيقية على الساحة العربية، واستثني "شاعرات" التبضع من شحوب بودلير وغيره. حيث تجدني صاغراً كما تقتضي جوابات الشاعرة لكي أبحث وأنقب في بلاغات النساء الشاعرات، لأضيف هذه الشاعرة أو تلك التي أجد في نصوصها المتانة في السبك، وحسن الصنعة، اضمها إلى منظومتي النقدية التي بنيتها بحرص شديد، فاختياري للأسماء محسوب جداً، ومع هذ كله ليس للشاعرة علم مسبق بقراري المعني بالكتابة عنها. خاصة تلك التي أجدها وهي تقبض على الدلالة التي لا تُحصر، وتلازم بلاغتها مناهل التنوير الحسي من مصادر الذات، المولد الحقيقي للمنهج الإبداعي، حيث لا تضيق المعاني في امكنتها المتعددة، من قدسية تشتمل على قدرة الإبداع الفكري التنويري، تطلقها معرفتها إلى فضاءات أكثر جمالية وخصوبة، كي يصبح المعنى ذو قيمة، تَؤُول فيه الدلالات إتساع مبتغياتها للوصول إلى المقبولية أدقها.
ولهذا كنتُ أنتظر أن أحصلَ على دواوين البستاني، لأتمتع بتصوراتي عنها فقد تعلمت من ثقافة الكتابة أنني منذ أن مارست جناس التنوع وجدتني أحاور المنظور الأدبي أن يفتح آفاق التصورات التنويرية على مديات تحرر معطيات العقل الفاعل، يقول نجيب المانع في احدى محاضراته التي كنت مولعا بحضورها في قاعة الكوفة كاليري في لندن، وهذا ما قرأته أيضاً في كتابه المهدى لي منه شخصياً حيث يقول: " إن كنت قد تعلمت شيئاً من قراءة الأدب فهو محرر للروح من إغراء الكراهية فحتى الهجاء فيه شيء من التلقيح ضد الكراهية بالكراهية إذا كان الهجاء مصاغاً صياغة فنية رفيعة"
1- امانع، نجيب: ذكريات عمر أكلته الحروف، تقديم مظفر، دار النشر العربي، بيروت الطبعة الأولى 1999، ص 55.
وكما نوهت في الفصل الأول بعد أن قررت دخول هذه المعصية قولي: "أن الشاعرة التي ورد اسمها في الجزء الأول لا يعني إنها الأفضل من الشاعرة التي يورد اسمها في الفصل الأخير، إلا ما ورد بمستوى رأيي في تلك الشاعرة، وذلك حاصل في اختلاف وعيها الأدبي عامة"، وكتابي كما قلت يتحمل عشرة فصول، قليلة هي الأصوات النسائية من الشاعرات العربيات اللاتي لا تتداخل في إبداعهن أصوات أخرى، أو يأثرن التقليد والتحوير والمبايعة، وهذا يشكل قيدا ثقيلا على تلك المتشاعرة، وممن تحررن من هذا القيد آثرن التحرر لخلق شخصياتهن الخاصة، ومن الشاعرات العربيات التي خلقت بجهودها الخاصة تراثها الذاتي هي الشاعرة العراقية أ. د. بشرى البستاني، حيث قدمت تراثها الجمعي من لدن موهبتها الشخصية، التي تمثلت بها قدرتها الفنية العميقة، من حيث استولاد خصوبة حققت لها منجزات ميزت آثارها الشعرية، وطورت شخصنة أسلوبها فأصبح لها مقامها النوعي بين شاعرات الجيل الذي سبقها أمثال: فدوى طوقان، وعاتكة الخزرجي، و أمينة المريني. لأنها أي البستاني أظهرت قدرة فنية ولغوية عالية، فيما إنزاح على شعرها تناص توليدي ذاتي، انساقت تصوراته من فلسفة بنيتها الخاصة، حيث حققت للتراث تكملة أدبية مستقلة وواضحة في معالمها وعناصرها وأدواتها، التي جعلت من بنيتها الفنية أن تتجانس بجديدها مع جماليات التراث العالمي، عبر فرض رؤيتها الإبداعية الخاصة على الحركة الأدبية العربية .
لذلك كانت الهوية مثالها ومقصدها الايجابي تحديث اكتشاف الذات، من لدن شخصية مستقلة بثقافتها وفكرها ومواقفها، ومن أهم الأسباب التي ميزت شاعرات الجيل الستيني هو نشوء اتجاهات شعرية جديدة، ذات حداثوية بقيت أثارها واضحةً ومؤثرةً على المتلقي، فكان سباق التنوير قد أحدث هزة شعرية أحرزت إنجازات على اختلاف المسارات التي تنوعت بثقافات تناص فعلها مع ملاقحات ثقافات عربية واوروبية، فكان الشعر العراقي واللبناني في مقدمة الدول العربية من حيث الكم والتجديد والجودة، وكان أغلب شعراء الجيل الستيني من الرجال، وقد تعددت الأجناس الشعرية التي ولدت من رحم القصيدة الحرة، أختص بها العراق ولبنان أكثر تجديداً من أي دولة عربية أخرى، فكانت الأجناس الشعرية التي ولدت من رحم الشعرالحر قد تعددت على النحو التالي:
1- قصيدة النثر المائزة، وقد أمتاز بها شعراء أمثال: سعدي يوسف، عباس بيضون، أحمد عبدالله، سركون بولص، صادق الصايغ، عبد الرحمن الطهمازي، مؤيد الراوي، حلمي سالم، أنور الغساني، وآخرون.
2- قصيدة النثر ذات التوجه العبثي، وقد أشتهر في إنجازها الإبداعي الشعراء، عبد الأمير الحصيري، حسين مردان، جان دمو. وعلى هذا النحو تطورت تلك القصيدة على نحو واسع، فجاء الجيل السبعيني باسماء غاية في الأهمية ومنهم آدم حاتم.
3- القصيدة المدورة وهي صياغة شكلية زاوجت بين النثر والوزن، وافضل من كتب هذه القصيدة: سعدي يوسف، حسب الشيخ جعفر، نازك الملائكة.
4- القصيدة الدادائية أو السريالية التي تنحو نحو عوالم الرؤى والتخيلات، في مصاهرة تجسد الفوضى والتصور المنطقي منه وغير المنطقي، الذي ينحو نحو إلغاء بعض جوانب الواقعية. واهم من اشتهر في هذا الاتجاه: الشاعر المهرج الجميل حسين مردان، والعبثي المسكون بكوميديا الكراهية عبدالقادر الجنابي، والمجنون الأرقى في درجات النقاوة جان دمو، وبعض قصائد الهادىء مثل النسيم سركون بولص.
5- القصيدة الفلسفية: الذي يأخذ اسلوبها المسار الوجودي، والتشكيك في الخلق، بدلا من جعل الإنسان محط إرتكاز واكتشاف وتنوير. "اعتذر عن ذكر الأسماء"
6- القصيدة الأيديولوجية: وهي تعبير عن الانكسارات والهزيمة السياسية سواء كانت تعبير عن الذات أو مهاجمة ذات الآخر، وافضل من كتب هذه القصيدة: سعدي يوسف، مظفر النواب، أمل دنقل، محمود درويش، ومعين بسيسو، وشارك بالقليل منها نزار قباني.
الهوية:
تطورت النقاشات في بداية الجيل الستيني عند ثلة من المفكرين والشعراء، إلى دعوة تقوم على معيار الاتصال الإبداعي الذي يعمل على طبيعة خصوصية الهوية، ومن أجل احترافية هذا المبدأ نشأ الشاعر الناقد، وأول تلك النشأة كانت في أوروبا على يد: دانتي، شيلي، والنبي دوستويفسكي، وفاجنر، وجون كاوبر بويز، إدجار اآن بو، روبرت لويل، ت س إليوت وآخرين كثيرين. حيث تعددت تلك المواهب، واتسعت مفاهيم الشاعر الناقد، وتطورت مناهج ضبط مقاييس الدراسات النقدية عنده، كتدفق اللاشعور الجمعي الممول بسحر الإيقاعات الإيحائية الداخلية، تلك التي تختلج فيها الهمسة المنفلتة من صبوتها، ومن أجل هذا الوهج التنويري تنامي الشعور حول أهمية المعاصرة، وتناصها مع ثقافات أخرى وخاصة الأوروبية، المتمثلة بالمدرستين اللتين بقي أسمهما وضاءً وهي الشكسبيرية والديكارتية، حتى أصبح واضحاً من أن الهوية تتحكم بقطرية الأديب، وفي الوقت ذاته بدا الأديب الراشد في ثقافته محافظا ذكياً على تلك الهوية، وهذا مما جعل تفوق المنظومات الأدبية هو الذي يحدد نوعية وسياقات الشعر ومكانته في هذه الدولة العربية أو تلك.
في شرحي السابق عن الشعر النسوي العربي، عالجت قدرات الشاعرات العربيات اللاتي تناولتهن في سياق الاختلاف المعرفي في اسلوبية دقيقة كنت قد بينت فيها رأياً: أن الشاعرة التي تمتهن قدرة رؤاها الايحائية، نجدها تناغي الإيغال في مناطق تنبض في مساحتها الذاتية الناجعة، فنقول إن هذه الشاعرة أو تلك تحررت من سلطة الأستذة عند الرجل، أي الشاعر "الكبير" أو الشاعر "العظيم". ولكي تحافظ الشاعرة على هويتها يجب أن يكون عملها الإبداعي يعطي ردة فعل ايجابية خالصة، حتى تكتمل عندها المعالم الفنية من أوسعها في أيقونة شاعريتها، فتتناص مع البنى التنويعية والمواقف والاصالة. ولي أن أقول على النقد أن لا يتصيد الزلات البسطية، أو يحاكم الأتجاهات الحديثة في علم اللغة، التي تبناها بعض المحدثين سواء أكانوا من أُولئِكَ الذين اشتغلوا في "طراز اللغة، المتضمن أسرار البلاغة وعلوم حقائق الإعجاز" كما قال الجرجاني، أو ممن حرروا المفردة من تعقيداتها، لتكتب للقارىء بشكلها لا باعرابها، وهو تسهيل ينجز بعداً حقيقياً عن تفسير المساحات المعقدة، لا تعود على اللغة بالخير على الاطلاق "وهذا رأيي الخاص".
فلسفة الموروث الأدبي:
شاركت الشاعرة البستاني بتوليف الموروث الأدبي الانتقالي، من الشطر والعجز إلى نظام السطر بكل تجلياته، وهذا ما قامت عليه نظرية التجديد عند: علي أحمد باكتير، ود. لويس عوض، والسياب، ونازك، وصلاح عبدالصبور، وبلند الحيدري، وجعلته ينزاح إلى معالمها التنويرية فاقتربت بالافصاح والإبانة من الرواد وجعلت من اللغة الشعرية عندها اشبه ب "مسكن الوجود" كما عبر عن هذا هيدغر، لأن سعة التعبير عندها نتاج معرفي رافق تحولات شيوع الحركة الأدبية الستينية، التي بدأت تعالج رسم ثورتها الإبداعية من لدن إبانة تحترف المهارة النوعية إلى النظر في مِرْآة حركية أفكار تلك النهضة، من رؤية حيوية تستقيها الشاعرة من فنية ما وراء ما تفرزه الأحداث من تحولات، والتفسير إنها أجملت جهة الاشتراك مع أهل الوضع، وأعني واضعي الحداثة، وكأنها بسطت هذا التمكّن على بساط مضيافها، محمولاً بين الفكرة والفصاحة، حيث بلغت الأمكنة الصوتية التفاعلية المفتوحة على القياسات التعبيرية مبانة في توظيفها الاستقلالي، عبر محاكاة صوتية تعلّقَ معنى بمعنى، وهذا واضح في قصيدتها "جروح الأرض"، التي تمتهن اللفظ كعرف الشرع الفني، عما وضع له التجديد من تجليات مكلومة حيث تقول:
جروح الأرض
=
حولَ مائدة الحبِّ كنا غريبينِ
ما بيننَا قهوةٌ مرةٌ
وعذولْ
يحدّقُ كل بصاحبهِ
أهو هذا
أصابع باردة
ليلة شاحبه
والرياحُ تجيءُ بنايٍ غريق
قد يكون ذلك بسبب معرفة المراد من المباشرة، لكن المعنى يرافق المستدل عليه، لأن "القهوة المرة" أي المراد من هذا المعنى هو: المر، الصفة التي شكلت الفاصل النوعي بين المتمني ومجالسه أو رفيقه، ولو أن الشاعرة لم تقل "وعذول " وقالت: "وزمن" لكان السياق أبلغ وأدق فصاحة، لأن المقصود هنا هو إرسالي داخلي، عالج الشرطٌ الظاهر في صحةِ الاختلاف لا في تكراره، "وبيانُ شرط الدليل على المستدل لا على المعترض*" كما عبر عن هذا الآمدي، فتكون العبارة على النحو التالي: ما بيننا قهوة مرة \ وزمن \ يحدٌق كل بصاحبهِ" على اعتبار أن "القهوة المرة" شاركت الانزياح الدلالي إلى مرارة الحياة من معناها الحقيقي المتعارف عليه، فأصبحت مفتوحة على معان متعددة الإيعازات، والإيماءات، والرموز كلّ على بيانه، ومن هذه المعاني "العذول". على اعتبار العذول يساوي المر، أو نقول العذول = الصاحب المر، هذا إذا كانت الشاعرة نوت تلقيح استعارة التأويل بما بان في المعنى. وربما قد يكون ذلك بسبب احتراز عن قوة البدء الذي رافق طغيان المر على المعنى، أما إذا كان ذلك العذول شخصاً ثالثاً يشارك تلك المائدة، حينها يكون المعنى تقريرياً تحكمه التقاليد اللانوعية لا غير، لكنني لا أظن أن البستاني تلامس سطحية التعبير، بل أن العذول الوارد ذكره، هو الصمت القائم بينهما، على إعتبار صحة التوليدية الإبداعية الفنية القائمة بالاستعارة التخيلية الجامحة بابتكارها، قد أبانت صلاحية التعبير الدال الموصوف على أن ذلك كان مخيباً للمشاعر.
والواضح أن رفيق الشاعرة لم يأخذ زمام المبادرة بالتصريح أو البوح العشقي، فنقول هو ظاهر، كون الشعور مجملاً في زمن المائدة، في حين وبذات الحال كان الزمن يؤرخ لقاء المائدة، الذي كان غارقاً بالصمت الحزين، لأن الشاعرة تطلب الإجمال المشاعري، حين علت شكواها: "أصابع باردة" أي أن الأصابع بقيت وحيدة من يد أخرى تجف بخلاياها العاطفية، فكانت تلك الليلة شاحبة لا نضوج يغذيها، ولا حرارة تشحن المشاعر وترويها، ومع صوت الناي المفترض أن يكون المرافق بالحانه العذبة لذلك اللقاء الذي ضم عاشقين وثالثهم القهوة المرة، نجده أي الناي قد حملته الرياح وألقته في القاع غريقاً، حيث لا لحن ولا متعة. إذن كل هذه المعاني الموغلة في بلاغتها، فسرها انفتاح المعني في الجملة الأولى، ولذلك دققنا على أن المعرفة الحاصلة في الدلالة الظاهرة على المستهل هي تتويج التردد بجهة إرشاد المشترك العاطفي، لا في الحديث العام ولا في الحضور، وهذا مدون في ثيمة "غريبين". لأن الموازنة هنا لا تخضع إلى كثرة التعريفات، بقدر ما تبتغي الفصاحة التعبيرية المجملة بالتكثيف والإبانة.
ولهذا لم أجد عند شاعرتنا الميوعة الميلودرامية المعهودة عند الكثير من "شاعرات" اليوم، بل أن البستاني اغتنت بالجدية والمهارة المصاغة من عالمها الداخلي المخصب ذاتيا بالمفاجئات التحديثية، حيث إنها أفردت للتحول المثالي التعددي بلوغ وحيّها الطوعي، حين تلتقي الأضداد بصيغ بلغت حضور الاضافة "الطبع" الذي جانس أبعاد الشخصية المستقلة بكيانها، وهو يسمو بتحول المعنى إلى طاقة مولدة لأعلاء جماليته، بمصاحبة مبدأ تحرر الذات الشاعرة، التي تعمل على تخصيب الشخصية المتحولة إبداعياً بعلوم مصفاة اللغة المأخوذة أبعادها من استقلالية الشخصية، التي تدلل على الإلهام النقي. وهو ارتحال الدلالة التمويلية إلى اقصى حالاتها، كأنما هو ارتحال يصاحب الخيال المركز على جدية استعارة موروث علم الاجتماع.
1- علي بن محمد الآمدي، سيف الدين: الإحكام في أصول الأحكام، دار الكتب العلمية، بيروت، الطبعة السادسة، 2011، ص51.
لو قلنا أن الشاعرة في هذا المقطع الشعري ناسجت المفاضلة بين علمٍ منه على فنٍ، يكون فعله تثبيت الطاقة الايجابية وقوعها في منطقة الخلق التكويني. وفي هذا أيضاً متعنا الجرجاني من موروثه الأدبي قوله: "الكلام الذي اطرد على الصواب، سلم من العيب، أما يكون في كثرة الصواب فضيلة؟ أما والصواب كما ترى فلا لأنا لسنا في ذكر تقويم اللسان، والتحرز من اللحن، وزيغ الاعراب فنعتد بمثل هذا الصواب، وإنما نحن في أمور تدرك بالفكر بفضائل تعرف منازلها*". وقول ابن المقفع في هذا" إن استطعت أن تكون إلى أن تفعل ما لا تقول أقرب منك إلى أن تقول ما لا تفعل فعلت*". هذا إذا احتكمنا إلى قول علي حرب "أن الإنسان كينونة لغوية" وتعريف آخر من هيدغر أن اللغة "مسكن الوجود". وهذا لا يعني أن اللغة مسميات أو احكام ارشادية وحسب، بل هي بنى وأنظمة بوصفها ترميزات وعلامات ومواضعات للتجديد، فهي المشار إليه في الخلق الفني والإبداعي والفلسفي والتعبيري، يعبر عن توليد لمعان اصطلاحية وتقويمية، وبالتالي فهي مفتاح الوجود.
المعاصرة
منحت البستاني اللغة آفاقاً جديدة بترتيب الألفاظ ذات الخواص المتباينة الأكثر تنويراً، لاسيما تلك التي يتدفق فيها الرقيق، واللوني، والصوتي، من حيث سلامة رؤياها وحدسها وإشراقها، على نحو خاص في بنية القصيدة ولغتها، وذلك ببسط ارهاصاتها التي تجاوزت تزمت اصحاب المدرسة القديمة الذين تحججوا بالمحافظة على تراث اللغة، كما فعلوا في بداية انتقال القصيدة العربية من القديم "العمودي" إلى نظام السطر، كما عبرت عن هذا الشاعرة الخالدة نازك الملائكة، وقولي الدائم إن اختراق اللغة ليس جريمة يحاسب عليها المبدع، لأن الشعراء هم الذين يزيحون الكلام إلى لغة يجدونها ممتعة، ولي أن أقول أن الجامعات لم تؤهل طالبا ليكون شاعراً، مهما تميز الطالب بالنحو أو البلاغة، مع أني لست ضد أولئك السادة الذين رفعوا سهامهم وسيوفهم ضد المعاصرة، بقدر ما أنا منحاز للقارىء، الذي يتفاعل مع اللفظة المقرؤوة السهلة التي تحمل ذات المعنى للفظة التي أكلتها السنين فصارت مبهمة. ولا ضير فالمدرسة القديمة ما زال لها انصارها ولكنهم قلة. فالكثير من الشعراء المعاصرين استطابوا معايشة التجديد ومحاورته، ومنهم شاعرتنا البستاني التي نحن بصدد تناولها في هذا الفصل، وفي الوقت نفسه اعترفوا بحق الاختلاف مع أولئك المتشددين الذين مانعوا الحداثة، وتشبثوا بالقديم المنقح بالابهام والتعقيد والسطحية الذي يصعب على القارىء فهمه، سواء أكان هذا التطرف اعتمد محققات نوعية أم لا، لكن الذين اعترفوا بالتجديد ومارسوا تحقيق إبداعه بقوا سائرين على منهج الاستفادة من القديم باتجاه تطوير جمالية صيغ ومفردات الاختلاف الإحداثي.
ولذلك تمثل هذا الرعيل بالسهولة والإبانة أفضل ممن بقوا على منهج تطرف هدفه التعقيد. وقد أبدى الأديب المجدد إعجابه بالأدب المترجم عامة، وهذه المواقف تعددت ملامحها بالايجاب مع كل الآداب الأجنبية، فصار ذاك الإعجاب باعتباره انفعالاً متطوراً جسد من إبانة الأسلوب الحداثي بلغة جزلة، ونحا نحو شفافية أذاعت محاسنة ملموسة، في سهولة وتوصيل اللفظة إلى المتلقي دون عناء، مستعيناً أي الشاعر بمحاسنة المعنى، وكثافة التشبيه والاستعارة والكناية، وحسن تعليل النص بسياق اتجاهات البحث الأسلوبي المعاصر.
1- عبدالرحمن الجرجاني النحوي، عبدالقاهر: أسرار البلاغة، دار المدني القاهرة، الطبعة الأولى 1991، ص87.
2- المقفع، عبدالله: الأدب الكبير، دار الآداب بيروت، الطبعة الأولى 1965، ص211.
ومن أجل هذا أخذ الكثير من الأدباء وخاصة الرواد العناية الجادة في خلق نص نحوي يعتمد الوزن والعروض فسميت تلك القصيدة: " القصيدة الحرة". كان السياب يقول وهو الرائد الغزير والمركز والمتأمل في ماوراء التخيل في المولود الأدبي الجديد، بكل تواضع: "مهما يكن فان كوني أنا ونازك أو باكتير أول من كتب الشعر الحر، أو آخر من كتبه ليس بالأمر المهم. وانما الأمر المهم هو أن يكتب الشاعر فيجيد فيما كتبه، ولم يشفع له إن لم يجد.*" ولي أن أشير إلى الأديب المغمور علي أحمد باكتير هو أول من كتب الشعر الحر، وهذا بشهادة السياب *، ولكن تجربته الشعرية هو ولويس عوض 1948 ماتت حيث بدأت.
من المهم جدا أن نبحث في تطورية تحول السياق الشعري من الشطر والعجز إلى نظام السطر، بما يعنيه هذا الجديد من ميل إلى ترك وإبقاء القديم على حاله عند مريديه. واطلاق حرية الهجين الذي توافق مع حرية تناص سياق اللفظة اللونية، والصوتية، التي أقامت صلات معنوية بما توافق ومبدأ الفراهيدي، أي أن الفراهيدي ليس نبياً بالمفهوم "الديني" لا يعدل رأيه ولا يستحدث الذي وضع قبل 1400 عام. لذلك من الأصح أن نقول إن الألفاظ التي لا توقّف فيها ولا تكلّف تستلهم خصوصبة المقبول تلقيه، تلك التي تجمع بين القوى الكامنة في روح الألفاظ التي تكسب المعنى قوة الإيحاء، وبين التعادل الانفجاري التوليدي في الصورة الشعرية عند الرواد، والمعاصرين ومنهم شاعرتنا البستاني، باعتبار هذه الولادة نوعاً من التعلق بالمرحلي المتغير، الذي هو ناتج حصول تزاوج جمالية الشعر العمودي العربي قديماً وحديثاً، مع ولادة قصيدة السطر الأوروبية الآهلة للتمدد والأنفجار. بهذا نقول هي ولادة إشراق تميزت مساراتها بالرضا العربي المقنن، وقد انطوت عليها في الفترة اللاحقة قياسات ازدهار تنورت في تعددها، وبهذا أقر الكثير من النقاد العرب بمعالجة وايضاح هذه الولادة، التي غيرت من سياق الموروث الأدبي الذي تعاقبت عليه أجيال متتابعة، ومن النقاد ذوي الألق الوافر في إبانة التجديد الحاصل في نظام القصيدة العربية، برز احسان عباس، والعقاد. د. عبد الرضا علي، جواد الطاهر، عبدالله القذامي، كمال أبو ديب، غالي شكري، علي عشري زايد، حاتم الصكر، ومحمد برادة. لاشك من أن التوجه الأدبي الجديد بات سقاءً احترافيا لدى بعض المجددين من الرجال والنساء.
لقد أصبح حضور البستاني فاعلا على الساحة الأدبية العربية، بكل ما أتت المعاصرة من توازن قيمي في القصيدة العربية الحديثة، فقد احدثت ابعاداً فلسفية تقومية في مجالس اللغة من حيث بلاغتها العصرية التنويرية، وإذا نظرنا إلى المشكلات في التوليد الشعري الحديث، فهذا لا يعود إلى توجه حداثة الغايات، والمقاصد، والمستوى، بقدر ما يتوجه إلى ضعف الصنائع الملهمة، والمهارات اللازمة في الغزارة اللغوية والفنية التي تحقق الضرورة الشعرية في وحدة بنيته.
يمكن أن ننظر إلى قصيدة البستاني على إنها مزج بين الأنا المثالية، وبين التبشير بتوحيد القصيدة الحزينة، خاصة في قصيدتها "أندلسيات لجروح العراق" التي أقول عنها قصيدة تتبنى خلودها، وهذا ما سوف نتبينه حين نأتي على شرحها من بوابة التأويل الجمعي، كون طبيعة القياسات في هذه القصيدة تدخل الغاية إلى إصلاح فن المنطق، أن لا يكون النص ضحية حاصل تصانيف غير مفيدة، على شكل تلبس بلباس الأخرين كما هو الحال عند الكثير، ولكننا نعلم جيدا أن ما اسميناه بشعر "التسفيط الكلامي" الذي انتشر بفعل صفحات المواقع غير الحريصة على الأدب الحقيقي، إنما الحقيقة ناصعة البياض تكتبها حروف بلاغة المعاصرة، التي تدخل مكاتبها لَذات الإصالة من القصائد، هذا إذا اعتبرنا إبداء تراجع الفرع من الأصل، وهذا ما سوف نوضحه في إبانة التأويل التوجهي، حيث ندخل إلى مشاغلات القصيدة الوجدانية في تنوعها، لكي نحافظ على بنية الدلالة الشرطية في القيمة الشعرية، من وازع صورتها الدلالية، من منظور تزمين الواقعة السياسية التاريخية، مما بان من رؤية الأحداث والشخصيات، التي تتجه إليها تأشيرات الحدث، وخاصة في الجانب المختص بالمبادىء والمواطنة عبر تراسل إيحاءات الحواس المتأملة.
1- السياب، بدر: مقدمة ديوان السياب، نقلها ناجي علوش عن السياب، دار العودة بيروت، الطبعة الأولى1995، ص15.
الوحي التوليدي:
مما دعاني إلى حوارية مبهج شاعرية البستاني هو نهمها التنويعي بين الشعر والنقد، حيث تجدني اقرأها من خلال هذا النهم الانسجامي الخالص ذات العاطفة المشبوبة المستقاة من عذوبة غير مقادة من صناعة أدوات دخيلة، بل من أدوات أصيلة تختص بها، بقدر ماهي أسيرة تفاعل وحي صورها من نقيع إبداعي يستعذبه القارىء بتفاعل، بكل هذا وجدتها تروم التحليق في فضاء يجتني حسن الصنعة، ونقاء خامة شعرية عالية الجودة والدقة، من رؤية مثالية خالصة بصياغ حساباتها النوعية من بوابة المهارات التي تخلق صورة متخيلة محسّنة، نجد هذا في مضامين نصوصها مما يؤكد براعة عفوية الفطرة المنقاة من حيث وضعية قيمتها التنويرية، إلى ما يمكن تصوره مشادات اللعب على التمرد غير المألوف، وهذا ليس انتقاصا من المألوف السائد، بقدر ما هو تنويع استحداثي يبحث في ما وراء القفزة المثالية، حيث اعتمدت الشاعرة تفكيك قوة الرمزية واخضاعها للمعنى المفتوح على غاياته، بمستوى أكثر جرأة في طرق أبواب توغل في اتاكيت المادية اللآشرطية، وهنا قول حول الحدود الشرطية التي أرساها كانط حيث يقول: " إن الإدراكات الحسية بغير الإدراكات العقلية عمياء، وأن قوانين الفكر هي قوانين الأشياء *". وأعني أن الشاعرة خصبت ممارستها التخصصية من جواب الفكر الذي يتبنى الفلسفة في قوامها الريعي، ضمن أطرها الخاصة كالحدوس المؤسسة للبنية الداخلية في تنويعية إيقاعية خاصة، تلك التي تطلعنا على شاعرة ترجم شعرها إلى عدة لغات، وممن كتبوا النقودات لصالحها هم محترفون أمتعوا النقد إفادة، وليس أولئك الذين احترفوا المديح صنعة، ممن لم تر الصحافة الورقية اسمائهم.
تنوعت الشاعرة البستاني على أن تقوم قصيدتها على نكهة إشراق التخيل، عبر معانقة الصورة الشعرية، المعنية ببنى الاستدلال المغامر في حوار نشط مع اللفظة الذكية، وهذا ينصب في سلة محاكاة المعرفة الجمعية، ومعرفتها تنطلق من وعي مجدد على وجهين:
الأول: مراعاة فهم القارىء.
وثانيهما: التواصل الايجابي مع مزايا مسيرة حداثوية القصيدة، عندما تستولد تلك المزايا ينبوعا يدر إشراقاً معنوياً.
ومن سهل هذا التوليف الذكي نقرأ قصيدتها "أندلسيّات لجروح العراق" وفيها نمتحن قدرتنا النقدية على الكشف عن لحن المحسوسات المتدفقة بالحيوية حيث تسري في عروق المتخيل النوعي، ومن هذا نقرأ:
دبابات القتل تدور
بغدادُ
سمرقند
غرناطةُ تنهد
ثانيةً يوغلُ هولاكو في قمصان المدنِ التَّعبى
ثانيةً يقطعُ هولاكو
شريانَ الحبر الأسودْ
هولاكو يَترصدني
يقطعُ رأسي
يُوْدِعُه في صندوق مقفل
يرميه في البحر
يدورُ البحرُ
اللعبةُ ترتدُ على نحرالبارجة الأمريكية
تتحرَّرُ من ذاتي لُغَتي
أطِلقُها نحو الصفصاف وأبكي
أرى أن تداعيات نوافذ هذه القصيدة تبدأ بالمنطق التصويري المحصور بالحيز الزمكاني، وصولا إلى اطلاق حركية الرمز التاريخي "هولاكو" الممول التكويني لهذا النص، مروراً بايعازات التأويل وهذا مثار في قلب الأجناس المختلفة بالزمن، والشخصية، والغاية. وكل هذا يسير باتجاه وحدة النص بين الذات الشاعرة والوطن، وبهذا حققت البستاني تراتبية المحور الدلالي في "قمصان المدن التعبى"، ومعيونه أحداث الاحتلال الأمريكي للعاصمة بغداد، وكأنما السياق عناق لا تتجزأ مهاراته بالكف عن كشف المقدر الواقعي المر الذي أرادته الشاعرة بتوضيح مشاعرها الوطنية، مع أن الأدب
1- كانط،ايمانويل: نقد العقل المحض دار اليقضة العربية بيروت، الطبعة الأولى 2013، ص187.
الواقعي أنحسر وجوده منذ زمن ليس بالبعيد، عن المنظور التحويلي، من على صفحات تعددت حداثويتها، ولكن المتغير في هذه القصيدة هو تغيير المناخ الخاص في ثيمة الأدب الواقعي، إلى تجسيد حركة الترميزات غير المغلقة على ذاتها، بفعل التجديد في المشاغلة التراجيدية " المأساة " بين الروح القائمة في مضمون الصورة الشعرية، وبين الأحداث الموحية المؤلمة التي سببها الاحتلال الأمريكي والأوروبي لأهل العراق، ويكمن هذا التحويل عبر ذكاء الحركية الخطابية المستقاة من جذور أميبية تدور في اقصى حالاتها العاطفية بين المكان والعاطفة الوطنية للفرد، والمعروف أن مدار الزمان والمكان مفهومان مجردان للإمتداد والديمومة المفتوحة ظاهرة الحكومات العربية العميلة لأمريكا والغرب، أما المحنة الدائرة في نبض قصيدة الشاعرة هي: وجود الآخر الغريب غير المسالم، الذي رج الذات التي أدامتها تلك القضية. وهذا تعبير عن ارتباط الشيء في ذاته. كما عبر عن هذا لايبينتز. من وحي مسببات المنظور في الجواز الحسي المكشوف على ذاته، المفهوم الذي يتبنى اعتقادي حول وجوب مقارنة القدرة على تقدم المطلوب من بيانه، أي أن النص يسير بجنائزية اللوم على النفس، محققاً نداء استغاثات الملامة لمن يفضلون معالجة إدمان جروح الوطن على أمتداد التاريخ، وكأنما حال لسان الشاعرة ينادي: أجدُ جسدي معذباً، يتساوى في التيهة كحال واحد بين أنا والوطن. إذن لابد من تناول اللعبة الواقعية على بنية مجازها، ومعالجتها خارج ارتباكات الوعي السياسي عند القادمين على سطح الدبابات المحتلة، وإن كانت استدلالاتها تسير نحو التقريري المباشر في المعالجة الملموسة في النص، مع أن الشاعرة حيدت نصها قليلاً عن سهاد القيلولة الكسلى، في قولها: "دبابات االقتل تدور".
ثيمة "القتل" تنتصف الجملة الشعرية، المشبهة كما لو أنها القلب النابض بالحياة، لأنها عدلت الدلالة من سبات التقرير إلى فنية تتحلى بالتلاقح المصيري، والمعنى يتساوى في السؤال: لمَ جاءت الدبابات وما هو شعارها وعملها وغاياتها؟ قالت الشاعرة كل هذا من أجل "القتل"، والقتل يعني هنا أتخاذ قرار إجرامي مع سبق الأصرار، ولم تقل الاحتلال كما هو متعارف عليه في الصيّغ التحريرية، إذن الشاعرة حيدت الواقعية عن مسراها التقليدي إلى سياق فني يعلو على تأمل الموضوعات الحسية اللامشروطة، المنسجم مع دلالات فلسفة النسبي وإلغاء المطلق في رأي كارل ماركس، وهذا ظاهر في معالجات بنتها الشاعرة في صرختها المدوية: "دبابات القتل تدور". وذاك من البديهي أن يأتي النداء صادقا، في إثبات أن البلية قائمة، فمن يحافظ على تراث بغداد؟ وما حصل كموروث تأريخي شكل قاعدة لحضارات بنيت بعد ذلك على أسس قوانين ذلك التراث.
نقول أن المادة تمثل كل ما يصدر عن فسلجة المتحرك المادية في طبيعة الموجودات، فإذا قلنا أن الصورة البَصَريَّة حين تتلاقح رؤيتها مع الخلق الذاتي تكون معطياتها الحسية تمثل تعبيرا مادياً، واستدعاء من لدن تصاورية الشاعرة في موضوعة سمرقند عندما أحتلها المغول 1220م، شكل التداعي التشبيهي في المكان المختلف في حضارته فكان اندماجاً ماديا لا يختلف بالغاية والجناس السياسي، لأن كليهما خضعا لحركة تاريخ الاعتداء على المدن الشرق أوسطية، من أجل هذا الاستواء المادي ترفع الشاعرة صرختها "بغداد \ سمرقند \ غرناطةُ تنهد"، وهو إنهاض عاطفي للمزامنة الحسية أن يتستفيق الوجدان على تحديد المواطنة، فالدبابات التي دخلت بغداد للقتل في الصورة الأولى، نجدها في وظيفتها الثانية: غايتها أن تهد حضارات بغداد المعاصرة وتستولي على قرارها وخيراتها، وغرناطة ترى وتبكي، فالعمامات السوداء والبيظاء والخضراء التي وطأت أرض بغداد، لا تشبه عمامات غرناطة. لأنه ليس هناك ولادات اختلاف، حيث تتبلور مؤسسة الرفض بصيغة اساسها الشعوب لا العمامات الموحية بالموت والتخلف والانحطاط، وحين استدعت الشاعرة غرناطة لأنقاذ بغداد، كأنها استدعت الذات المثلى، لا الذات الخاضعة المستجدية للدبابة الأمريكية، وحين تكبر بذرة الرفض فسمرقند وغرناطة يستفيق فيهما زمن بغداد ثانية، نجدهما في الوقت ذاته يؤمنان أن بغداد تكبر في النفوس، فيكون الرفض ينطوي على أتحاد الأفكار والآراء التي تسمح بالاختلاف الوطني. إذن "غرناطة تنهدْ" تصرخ، تحذر من التغلغل، أي أن جيوش هولاكو الجديدة، سوف تأتي بالدمار وقولها: " ثانية يوغل هولاكو في قمصانِ المدنِ التَّعبى \ ثانية يقطعُ هولاكو شريانَ الحبر الأسود" الصورة الشعرية الأولى موغلة بالنبل الوطني، كون الشعر هنا ينطوي على جواب أأرخة الحدث، وخاصة قولها: "في قمصان المدن التَّعبى" أي أن القمصان التعبى انطوت على التحلل المادي عند الفرد في زمن ما قبل الاحتلال، وجاء الاحتلال فأصبحت القمصان أكثر ذلاً وتلك غايته الدنيئة قائمة في الحقيقة دون وجل، وهولاكو الثاني "بوش الثاني" عندما وطأت قدمه أرض العراق، كانت المدن العراقية مدناً ممزقة حزينة ومنهكة، حتى إنها لا تمتلك الدفاع عما تبقى من ثوبها المنحل، وما أورثه هذا المعتدي على العراق غير العقد والأورام الخبيثة، نقول أن الاقتداء بالتاريخ الأسود أمر محير، وعقدة هولاكو غرضها تحطيم كبرياء الوجود في بلاد ما بين النهرين، إذن من هو هولاكو القديم؟ هو تاريخ أسود مزق رئتيْ بغداد عام 656هجرية، ورمي بتاريخ المدينة الذي دونه الحبر الأسود في دجلة، وحكمة الشاعرة هنا أنها أبانت وأفادت إثبات شدة التشبيه بين هولاكو القديم والجديد، وهذا شأن تحقق في قوة الاستعارة، أي أنك كلما زدت من بلاغة التشبيه ازدادت الاستعارة قوة، حتى إنك تلامس امتداد الوسوسات والعقد في نفسية الإنسان خارج التمدن، من أثر تركه هولاكو القديم كي يحيي على تراثه "بوش الثاني" القادم على متن آلة الحرب الطاحنة: الطائرات والدبابات ليحرق ما تبقى من وجدانية الإنسان العراقي بتاريخه المعنون بالمتاحف وأمهات الكتب والوثائق من خلال حضارات أمتدت عبر آلاف السنين، والسبب في هذا التدمير هو ذاك المعادل النوعي بين النظام البعثي، وممن جاءوا بعده على ظهر الدبابة الأمريكية، فأولهم حزب البعث جاء للحكم يحمل قاموس ماكنة القطار الأمريكي، وثانيهما جاء الدعوة محمولا بقلب الدبابة التي وصلت بغداد لتحتل الكيان التاريخي للمدينة، تعلن الويل والثبور لأهل العراق بحجة المظلومية فحصل الثأر الأعمى.
والشاعرة حين أعلنت صرختها، هي لا تحذر فقط من الموت الأسود القادم، بل من الحصاد الذي سوف يولد من افرازات هذا الاحتلال، فكم من أرواح العراقيين سيحصد على أمتداد المرحلة، وصولاً إلى زوايا السلطة الحادة، التي استقام فيها وازع الأنتقام، وهذا يشكل امتداداً إلى صراع ستزرعه الدبابة في عقلية مافيات القتل اليومي، وهو إعلاء الصراع على السلطة، وإعلان الانحياز إلى الطائفية والمذهبية، باسم الحفاظ على هوية العراق، وهذا ما ينجلي في قول الشاعرة الذي يؤكد أننا لا نعيش عصراً أخوياً كما يعلن في خطابات الجمعة من الطرفين في المباني الدينية، بل هناك في الزوايا السوداء بقية من اولئك الذين يترصدون ذبحي وذبحها بسكينة عمياء: " هولاكو يَترصَّدُني \ يقطع رأسي \ يُوْدِعُه في صندوقِ مقفل \ يرميه في البحرِ \ يدور البحرُ". نلاحظ أن الصور الشعرية مدورة على ذاتها، مع تقدم الفعل على الفعل المستجاب له بالقيمة المحقة لبنية نمت ما بعد البنيوية، والمعنى واضح في معادلاته فالمشاهد أصبحت واقعية تختلط فيها دماء العراقيين بماء دجلة والفرات، والفرد العراقي أصبح لا يملك الوضوح الذي يمنحه الحق في رسم معطيات حياته اليومية، لأنها مرهونة ليد الذباح، والذباح يمارس قانون السلطة في أعلى مراكزها: "الاخوان" من جهة، والآخر من جهة أخرى، وكلاهما يبكي على الضحية المذبوحة بقدسيتها، إنه الحاكم الأسود. و: "اللعبةُ ترتدُّ على نحر البارجة الأمريكية \ تتحرَّرُ من "قلبي" لغتي \ أُطِلقُها نحو "الصفصاف" \ وأبكي" القرار الحقيقي لقاتل أهل العراق يأتي من البارجة الأمريكية، صاحبة الشأن في العراق، أما الفرد العراقي الموسوم بشخص الشاعرة فأن قلبه مخضب بالألم والحسرة على وطن ضاع بالصراع على الكرسي. كان ابن خلدون بوصفه مؤرخا أكثر الفلاسفة اقتراباً من فهم الحلقة الضيقة التي تدير الحكم قال: "خاصة وأن واقع الدولة الإسلامية منها، هذا لأن المعارضة للحكم الإسلامي كانت تختصر على بعض الأدباء، والفقهاء المتصوفة منهم." بينما لم نجد في ذلك الزمن قد ولد يسار كما ولد من باطنية الثورة الفرنسية عام 1789.
نتابع صعود التجلي المؤلم في هذه الغنائية حيث ينطوي الشعر على متعة الجنون، لأن هيام الشاعرة الموهوب بالوحي، استدعى البكائية الصامتة وهي تدور بساريها الذي لا يعرف أين يرسي ذلك المحمل بفجاعية أوبرا "فاجنر" على وقع موسيقاه الروحية الحائرة بالنداء القاتل، وهي تحلم بواقع يقترب من العصاب المحزون، الذي يقيم صلة مفعمة بالوجد بين الإبداع المخضب بالصنعة البديعية، وبين البلاغات المجبولة بالمحسنات التاريخية المحزنة، استجابة لقوة المعنى من محمولات الاستدلال، والمطابقة، والاستعارة. وقولها:
مرهفةٌ بغدادُ
ومجروحٌ معصمها
سرُّ الرمانِ على وجنتِها
يذبلُ في الأصفاد
كثفت الشاعرة البستاني في هذه القصيدة التركيز على توشج اللفظ بتداعيات المعنى، بما يتصل بالتوليف والتكثيف، على حد التناص مع القصيدة العمودية من حيث فنية الترتيب البلاغي، لا من حيث البناء الطباقي بين الشطر والعجز، يقول ابن الأثير: "إذا قصر اللفظ عن المعنى كان إيجازاً، وإن طال لفائدة كان إطناباً، وإن تساويا كان مساوة أوتقديرا *" القسم الأخير في هذا الرأي لا يفيدنا بشىء كون معناه غير وارد في الفطنة التشخيصية التي أحاطت هذا النص حيث إنه ابتعد عن التقدير، فالقصيدة ابتدأت في الإيجاز المفتوح على معالجاته التشخيصية، وأنتهت في التكثيف المختصر على البوح التصويري الملحق بالتأويل المناعي. ماعدا بعض تنويعات بلغت حدود القوة الانفعالية، والجناس حاصل في تقدير التقسيمات الإيقاعية المنسجمة في المضمون وهو بيان جواز المنظور الواقعي المشاهد. فالذي أبانته الشاعرة إنها اعتنت بالمعاني المولدة، ولقحتها بالاستعارات البعيدة التي تسهل الدليل وتقربه من القارىء، حيث جعلت من البيت الشعري يتواصل في المعنى مع ما سبقه وتلاه، بانسجام يستسهد التخيل النوعي Imagination المعبر عن العاطفة، بلمسات حزينة بلغت شغف الوجدان. فالبيان والتشبيه للوسيلة اللازمة في ما تظهره الشاعرة وتعنيه: أنا وبغداد حصيلة تصفية روحية، ويظل الشكل العام للذبح كما يتمنون، وقولها: "سرَّ الرمان على وجنتيها يذبل في الأصفاد. أي اللون الأحمر على الوجنتين هو ربيع الحياة، ونقيضه اللون الأصفر هشاشة الحياة، فاستعارة الرمان خصب من المعنى، وأباح له قيمة جمالية جذلى، وكأننا نلامس خاطر الشاعرة المرهف كجنح فراشة، تلوب بمشاعرها في وجدها الوطني، حتى أن بغداد أصبحت تقاسم الشاعرة روحها وعواطفها والهامها وتشتكي. والشكوى من أهل الوطن ولهم، لأن مخيال الشاعرة يعجز على أن يحتمل المسئولية الملقاة على عاتق الشاعر / الشاعرة بحدود ولاء الأديب اتجاه وطنه، أن يكون احتمال طاقة الألم معيون في الصورة البيانية المعبرة عن القدسية الإنسانية والأخلاقية، وهو أن يعبث هولاكو الجديد ببغداد، وهي تتصور أن معصم بغداد مجروح، من حيث دخول هولاكو وخاصرة بغداد تتألم من تدنيس بساطيل الاحتلال لها، وهذا يؤرخ أن ثمة صلة روحية بين معاناة بغداد، وبين التيار الصوتي المعلن في صرخة القصيدة.
كذلك من الشعر الثوري أو السياسي نستشرف لغتها العاطفية، وهي حاصلة بذات صحة الاستنباط التميزي في براءة العبارة السياسية، فلها قصائد مشغولة بالولع العاطفي، أجدها ثائرة بروحيتها، المنقلبة بمصراعها الصوتي، مبتكرة بحسن تصويرها وملاءمة صدق العاطفة، ربما يعود هذا إلى الشفافية الروحانية المتلاقحة ضمناً مع الذات الحسية المخصبة من أفكارها السامية.
وقد تميزت الشاعرة البستاني بشعر اللازمة، التي تبني عليها دورة كبرى من مسار ومحصلات المضمون، ودورة صغرى أخرى تحوم في خلايا الشكل، فتلتقيان بتلك اللازمة، كما لو أن الصورة الشعرية أصبحت أشبه بالأشعة التي تكشف عن مرض أو ما شابه في الجسد، ونتيجة ذلك بان الوضوح الممتد في خلود الشخصية الشعرية المعلن في مزاج تجاربها المختلفة، وفي نزعاتها المتصلة بالحياة، من حيث طريقة التفكير والتصوير والتعبير من جهة، ومن جهة أخرى وسع ثقافتها وامتداد معرفتها الشاملة، هذ بدافع فلسفة أسلوبها المشتق من نفسه شكل لغتها الخاصة، ومثل هذا الثراء الشعري النوعي وجدته عند نازك الملائكة، ولكن باختلاف معطيات اللفظة، فنازك تعتمد اللفظة الخلقية ذات النبوغ الفكري الذي يرد الصورة الشعرية المشابهة للفقه اللاهوتي إلى حواسها التصويرية، أمّا البستاني فإنها تعتمد اللفظة التكوينية المتحركة المنسابة والمفتوحة على اتجاهات شاعرية متنقلة بين الحس والليونة، خاصة في هذه قصيدة مائدتها البستانية:
"مائدة الخمر تدور"
مائدةُ الخمرِ تدورْ
يمحو اللؤلؤ ما سطّرهُ الياقوتُ على الأغصانْ
لا أستثني وَجعَ السمكِ القابعِ
في كهفِ البرقِ الأخضرِ
مات السمكُ الأخضرُ مقتولاً في ثقبِ الإبرةِ
قال الليلكُ
ثقبُ الإبرةِ أوسعُ من بحرٍ
تبتلعُ الحُمَّى مرساهُ
وتأخذهُ نحوَ ذراعِ الزبَدِ الطاعنِ بالصدْ
ينفرطُ العقدُ
وأهوى نحو القاعْ
في هذه القصيدة أيضاً تبتكر الشاعرة مفهومة اللازمة، أو ممكن أن نسميها عنوان الفقرة، فهي تلزم الفقرات تحت عناوين مختلفة منها مكررة، ومنها احادية، لكن مضمون تلك الفقرات التي تحمل التكرار مختلفة بنشاطها الفكري والايعازي والوجداني، تعتمد نظاماً معطىً بشكل مسبق لبنى وعلائق دلالية تقوم بوظيفتها الإبداعية استناداً إلى معايير تأويلية ذو كفاءة عالية، لا سيما وأن القصيدة بأكملها تحمل تشاكل العناوين المتفقة على الاختلاف في مسار بوصلة النص، لما تنطوي عليه القصيدة من احكام ومفاهيم ومعالجات لا نستطيع أن نجدها متحققة في كل معطياتها، خاصة تلك الصور والملامح الشعرية الأحادية المفهوم، فالشعر ليس بلاغة جملة شعرية مقفلة على كيانها، مجزأة بنفسها عن بقية اعضائها ولوازمها وعناصرها، بل كما قلنا في السابق: الشعر هو وحدة متلاقيات وتلازمات تعمل على تلاقح اعصابها، وخلاياها، واوكسجينها، في وحدة عضوية سميكة العضد في بنية رشيقة، بليغة المعاني والايحاءات، لها خصوصية التميز، وذلك بقدرتها على أن تجعل القارى يتفاعل معها بسهولة دون عناء أو إبهام.
ربما تجدني حذراً أمام الشاعرة وقصيدتها هذه، لأن الشاعرة ناقدة أيضاً، والشاعر الناقد يبني نصه على أساس نقدي لكي يحافظ على متانة الفاضلة الفنية وجعل مبناها يبصر ولا يسمع من حيث توليداته باقية في مهارات النقودات التي تنصب في معالجة وتحليل النص، والكشف عن المؤترات المُحدِثَة للمعاني باختلاف سياقات موازينها، على إعتبار النقد مصفاة ووزن لما بلغه التحصيل اللغوي الفني، وفي الوقت ذاته يعمل النقد على كشف الخلل، وعدم التوازن، ولمس مناطق العلة والخواء، فلو أخذنا العنوان الذي هو بوابة الدخول للنص نجده مركباً على الشكل التالي:
مائدة: اللفظة دائرية التورية في معانيها، وفي الوقت ذاته نجدها مفتوحة على إيماءات ذات لغة محصنة بالاشارات والتوليفات، بصيغة أخذت دلالات معناها منذ بدأ الخليقة وحتى يومنا، ففي القرآن سورة المائدة، وفي الأنجيل وردت محاكاتها بين الإله والمسيح، وبين مريم أم المسيح والمائدة التي تدخل عليها من النافذة، كما تقول الأسطورة. إذن فهي مائدة الخمر، ومائدة الطعام، حتى إذا كان خبزاً وملحاً، ومائد الخير، ومائدة السلام، ومائدة الرب، ومائدة التفاوض الخ. إذن فاللفظة تعتمر بالمعاني الغنية في دلالاتها، فانتقاء الشاعرة لهذه اللفظة حققت بها انجازا مهما وبليغا بآن.
الخمر: اللفظ الثانية في العنوان تحمل اسماً يدل على معناه، وللخمر معان واسعة تمتد منذ الجذر التاريخي وستستمر كما هو في مفهوم المائدة، إذن وجدنا تلاقح المعنى بين اللفظتين بليغاً وحصيفاً ورشيقاً بتفاعله البيني.
تدور: في هذه اللفظة حققت الشاعرة استكمال المقصود من العنوان، ومن المضمون، كون القصيدة مدورة ببنيتها وحالاتها الروحية، أجازت للقارىء البحث عن مفهوم سيجده ممتعاً، لكن هل القارىء لمس هذا فعلاً، سنرى ما سوف نبحث في هذه المعاني بعد قراءتنا لهذا النص المركب.
إذن "يمحو اللؤلؤ ما سطرهُ الياقوتُ على الأغصانْ" هناك في العصرين الجاهلي والإسلامي حينما كان الشعر لغة العرب، كان الحدث مهما ما بلغ صغره يُعبر عنه، أو يتوصف به، فعندما أراد يزيد بن معاوية تقبيل جاريته التركية، بكت تلك الجارية، فقال:
"فأسْبَلَتْ لُؤلُؤاً من نرجس وسقت ورداً، وعضت على العناب بالبرد"
وناظره أبي نواس بالقول:
تَبكي فَتُذري الدُّرَّ عن نَرجِسٍ وَتَلطِمُ الوَردَ بعنابِ
إذن فاللؤلؤ في البيتين ليزيد وأبي نواس يعني الدمع، أما في بيت الشاعرة هو الندى، قطرات تلمع اشبه باللؤلؤ تتجمع على أوراق غصن الشجرة على غير هدى، ثم ما أن يذوب "الندى" اللؤلؤ لا ترى من ذلك الحسن إلا بلته، أما الفائدة بالنتيجة فهي شدة التشبيه والتقدير، خاصة وأن الاستعارة في هذا المكان لازمة علمٌ كثير، ذات لطائف ومعان غنية في محتواها، وكما هو معروف فأن وقت الندى يكون في وقت مبكر من الصباح، فتكون الأغصان وأوارقها مغسولة بفعل الندى، ولكن كيف لهذا الندى أن يغسل الياقوت عن الأغصان؟ وكيف وصل الياقوت إلى الأغصان؟ ونحن نعرف أن الياقوت: حجر كريم أحمر اللون، أو فاتح قليلاً، وله ألوان أخرى كالأزرق والأصفر والأبيض، الذي هو عبارة عن أوكسيد الألومنيوم يوجد في جبال شاهقة، ترى مالذي جعل هذا الحجر الثقيل يتكاثر على الأغصان؟ سنبحث عميقا في هذا التوليف الذكي، لأنه لابد من دلالة معينة جعلت الشاعرة ترسم الصورة على هُداها، ربما أرادت توليف رؤية لاستعارة تحكم الرومانسية وإن صعبت، أي أن تعكس الأوضاع إلى غير اتجاهها، أو أن تكون قد جعلت من البرهان التصويري بطبيعته يعكس مواجهة تغييره إلى صميم الدلالة التصويرية الطبيعية، وربما المنطقية التي حازت على استثناءات لعوامل الانزياح المادي للمعنى في قولها: "ثقب الأبرة أوسع من بحرٍ" والتأويل الدال على الإقناع يتسع في المزاوجة بين المادي الفلسفي، والمثالي التوجهي نحو اللاواقعي، كيف أن اللؤلؤ يمحو الياقوت، وبين الاتجاهين هل تكون الاستثارة المجازية فاعل تنويري للمعنى؟ مع أننا يحق لنا أن نقول أن ثقب الأبرة أوسع من البحر، كما قال الشاعر عزيز السماوي: "أكدر أسوي الجسر دنبوس". لأن المعكوس من المجاز تبينه التحايل على اللغة، حيث نصاحب الموروث بملاقحة صورة أخرى شبيهٌ بهذا، حيث يقول القائل: "الدنيا تضيق فتصبح كثقب أبرة في عين المحتاج" وهذا نعده مشتركاً بين اللاوعي في المنظور المادي، وبين صيغة المهزوم في الواقع: " ينفرطُ العقدُ نحو القاع"، أنفرط بمعنى: أنحل، تفرق، تبعثر، تبدد، فنقول مثلاً: "حتى لا ينفرط العقد" أو "أنفرط عقد الياقوت"، ألخ. نقول ليس بمتصور أن تكون هذه الجمل الشعرية أقوى من بقائها، أي أن يصب نطقها المأخوذ عليه بالابانة المباشرة في دقة معناه الموشح بقيم ذات دلالات حاذقة في التصوير والإرادة، فنقول أن هذه الجملة ناظرة في صحة ما أشارت إليه، أي أن الشاعرة لم تأت بالجديد التوليدي في المختلف الفني، لأنه إذا أنفرطت حبات المسبحة ستستقر على القاع، ولا تستقر في الهواء، إذن الشعر أختلاف صياغي في انزياح حذق تصويري للمعنى العام، لتكون تصوراته أشبه ببائع الهواء في اللاورائي اللغوي، فلو قالت الشاعرة في جملتها تلك: "ينفرط العقد في العين" لكان للألم أكثر دقة في المعنى، وللعين قاع ملم في تعدد بصيرته، أما القاع فهو النهاية المظلمة، أي المصير المؤلم المتعارف عليه. مع أن لفظة انفرط أدت عمل النواة التي دارت حولها تجليات الصورة المجردة من حسيَّتها، رغم تداولها المبان.
إذن إرادة التوازن في مؤثرات الحدث تقف حيث تنتمي الصورة الشعرية، وهذا بفعل الفاعل الموضوعي الذي هو "الشاعرة"، حيث أن تلاقح التقمص الفني يقودنا إلى أن الحدث يعلنه حكواتي الشاعرة الموحي لها، وهو كما توصلنا إليه في مفهوم: "الليلك" حين دارت بوصلته عند ثقب الأبرة إنه وسيلة حوار الزبد الطاعن بالصد، كم يهوى أو يتمنى أن الذراع تطول أو تقصر! إذن فالبيئة المختارة لهذا الفعل هي في تعدد نداءات المائدة التي تصيب احيانا، وفي أحايين أخرى نجدها تنزع نفس المعنى من نفسه، أي ينفلت المعنى التوليدي من المعنى العام. "ليعذرني القارىء أنا ناقد اشكالي، لا استجدي المناهج الخشبية". لأن الشعر لعبة الاحتمالات بين التأويل والغاية من جانب، وبين المجاز والحقيقة من جانب آخر، حيث نقبض على ذروته، وسنامه، ومصباحه بتنظيم أكثر تأثيرا من الفنون الأخرى، نتجانس مع هذه اللعبة ونعشقها، فما هي اللعبة التي أرادتها البستاني أن تكون في هذا التوليف؟ نقرأ:
مائدةُ المسكِ تدور
نامت أقمارُ الغابات
فوق ذراعيَّ
هديلُ الحلم يناولُ كأسكَ خمرَ الناي
الصبَ على عزفِ سنابلِ قلبي
خذني قبل ولوجِ الخيطِ الأبيض في المسك
كي يشهدَ ذاك الليلُ
خلاصي
المزايا النوعية التي تجدها في هذه الغنائية الصاخبة بالعاطفة، نادراً ما تجدها عند شاعرات هذا اليوم، إنه النشيد المقدس الذي أكتنزت به العلوم الأدبية بطاقة تحكم الصورة بأرقى تجلياتها، لكل ما يفتح أمام القارىء من آفاقٍ من التفكير أو التخيل، وهذا ناتج عن قوة وضوح الأفكار والصور، ففي هذه المائدة المسك نامت أقمار الغابات فوق ذراعيّ الشاعرة، تنوعت الكلمات الوصفية من صيغ جمال الأسلوب اللافت للتمعن، إلى حيث أن وظيفة المجاز حررت الكيفية الفنية من الغموض والمبالغة بثيمة "أقمار"، فالصورة ملهمة الفنتازيا الحيوية التي غلب عليها مجال التفكير والتخيل، وهي وضع صور تكتسب عناية وانتباهاً، لأن قوة الطباق جعلت من التركيب بين اللغة والفنية مقابلة ذات مسحة بلاغية مثل:
لئن سَاءني أن نِلتَنِي بمسَاءَةٍ لقد سرَّني أني خطرتُ ببالك
الناي يزور هديل الحلم بخمرته، إذن هو التشكيل الذي ناسج دوران المجاز في أركان تبعث آثارها إلى المعاني كأنسياب الندى على الأغصان، أما المسك أو الفجر الذي تبوح منه رائحة التراب المبلل كالمسك، والخاتمة بعد الليل يكون أشبه بخلاص الطباق الكيفي.
وفي تنغيمة أخرى نقرأ:
مائدةُ الصبرِ تدور
أستلقي تحتَ سريرِ الريحِ
فتُخرجني الأرضُ من الأرضِ
وأُخرجها من كأسي
تَرقُبني عينُ الصياد
وتنقتنص الكأس
أكتب بالخمرة فوق الأقداح أحِبُكَ
يتبنى هذا المقطع القصيدة بكل جولاتها وتنوعاتها ومعادلاتها، حيث يحق لنا أن نقول لقد حصل تجانس بين العنوان والمضمون بتجليات مرهفة الحس في معانيها، صور شعرية تدور في صفوتها بألق راقص فوق تعبيرات الحروف، و"مائدة الصبر تدور"، التركيب النظري وضع بين مفهومين متحركين هما المائدة وما تحتوية من أبعاد تفوض المعنى أن يطلق اسراره، ويفيض كعشقٍ إلهي ليقيم علاقة حميمية على أن المائدة وجدت موضوعتها تدور بالصبر إلى ألا قرار، فالصبر المصطلح ذو قيمة متعددة البلاغات، يصنع الشعر ويفوز اعجازه باختلاف ليس مجرد نظم ذو شكل لغوي خلاب، بل هو حوار الرؤيا المجسمة بين الدال والمدلول الغني بانفجارات كشفت لنا عن تلاقح قيمي لمعنى يشادي معنى، ولفظة تفيض ببلاغة أخرى تأنقت فصاحتها بمعناها، إنه الشعر الذي أبحر عميقا في نهاية تخمرت قيمته الفنية واللغوية بمعان استقت جودتها من ذاتها.
وبينما مائدة البلاغة تدور في دلالاتها النوعية، يأخذنا المضمون إلى انسجام الرؤيوية وثرائها الروحي، حيث سرير الريح وربما "بساط الريح" أما الفرق هنا فالشاعرة تستلقي بذاتها تحت سرير الريح، بينما نجد الأسطورة تعني أن المسافر العاشق يعبر القارات على بساط الريح. هي ملاقحة لاستعارة ناجحة تنزاح بالتوظيف الذي يؤسس للتجنيس الطباقي، حيث أن الريح هو الفاعل التوليدي للمعنى ببنية للمصاهرة العضوية، التي تقوم على أساس الخروج من قمقم الذاتية للالتقاء بمصاحبة الأسطورة، دون خلل في بسط النظر من وازع استدعاء خزين الماضي، لمعالجة الحاضر بموقف شديد التشخيص، وهذا الشأن عالج المكان الأميبي الذي هو الفضاء، مكان الريح، حيث أصبح الريح عاملا مشتركا بين الأعلى في الفضاء وبين اسفله الأرض، حين تقول الشاعرة: "فتُخرجني الأرضُ من الأرضِ" وهذا ما يدعونا لمناقشة المعيار الفلسفي في سلطة الريح الأزلية وعاملها التوليدي الأوكسجين، المتصل بتوليدية الحياة المقرونة بالزمكان التفاعلي بين الماضي والحاضر والمستقبل، حيث لا تغير إلا بتأثير التفاعل الصناعي، وتأكيد الشاعرة على النقاء والأصل، وكما يقول ابن سينا "النفس كمال أول، لجسم طبيعي ذي حياة بالقوة، أي من جهة ما يتولد ويربو ويتغذى*"، فالشعر لا يكون إلا بالقدرة الإيحائية، ولم نر قدرةً أضاءت صاحبها إلا بمكانة تميز إبداعه، والبستاني نتاج هذا الانتماء، هي شجرة تمد جذورها الوطنية والقيمية والتأريخية والثقافية من وإلى وطنها العراق.
الكأس بما امتلأ من خمرة القصيدة، وحال شعور البستاني تحسس الحاجة إلى تجانس البلاغة من تفعيل وسائل أكثر تجديدا في حالتها الفنية، فرسمت الصورة الأخيرة المعلنة عن المؤرخ الحقيقي لموقفها، وما تبوح به من مواقف شجاعة تخرجها من الكأس "العقل" وقولها: "وأخرجها من كأسي" والمعنى امتداد لما تفاعل في ما سبقه من معنى حين ولدت الأرض من الشاعرة التي هي الأرض، حيث تقول البستاني" " تخرجني الأرض من الأرض" ونسمي "فتخرجني" إزاحة المعنى التوليفي إلى المعنى البلاغي، فيه غنائية مطولة تتبنى ولادة جديدة لموقف يتبنى الحقيقة، مع أن الولادة لم تكن حرة بالمعنى المطلق، فالصياد يقيم شباكه على استمرار لتحقيق شهوة غريزته القاتلة، المجردة تماماً من الإيمان بحقوق الفرد بحريته الشخصية، سواء أكان هذا الصياد يعني "مجموعة" فاسدة، أو قاتلا محترفا تستخدمة منظمة إرهابية لتحقيق غاياتها، أو مفتونا بجمال الشاعرة وانوثتها الخجولة، والتشبيه هنا يتعدى العبور كما نرى من حيز إلى آخر كي يسهل من ثبوت الدلالة في معانيها، والشاعرة هي الكلمة النبيلة التي تغيظ الحاكم، ذلك الند الذي يتربص بالحكمة ليقتلها. وعين الصياد تدور تبحث عن هذا الإبداع لنزعه من واقعه وحقيقته، من كأسه الثر الذي هو العقل. ما دام موقف الشاعرة مصراً على قول الحقيقة للوطن "أكتبُ بالخمرةِ فوقَ الأقداح \ أحبك" سواء كان هذا الحب للفرد أو للوطن فهو انتماء إنساني، أما التوليف الحاصل في "أكتبُ بالخمرة" صياغة لقحت الصورة الشعرية ببلاغة جانست التأويل الذي يقوم على إنتاج دلالة اللفظ بمعطيات مؤثرة، فالخمرة لفظة تؤسس للفرح والإبداع ونسيان الغيظ من ألم ما، وهي تساعد المخيلة على أكثر متعة وبوحا في تجليات الروح لأنتاج أكثر "ونسة" والمعنى الحقيقي للخمرة في هذه الجملة هو أن حصل ترابط بين المعاني من خلال استعارات نوعية، حققت علاقات قوية في تصريف الكلمات والجمل الفنية، أي ما ينتجه العقل من تصريف فصيح في لغة الحب الذي تعددت معانيه، فالمجانسة القيمية التي عالجت استعارة الفعل المعرفي بين الكأس والعقل هي تنويع إبداعي تطوري.
1- عبدالله، علي الحسين: كتاب العلوم النظرية، دار العودة بيروت، الطبعة الثانية 1965، ص111.
هامش:
نقوداتي:
كما هو معروف أن دراساتي النقدية تناولت جميع الأجناس الأدبية: في الشعر، والقصة القصيرة، والرواية، كذلك في مجال الفن التشكيلي.
الشاعرة د. بشرى البستاني، أستاذة الأدب العربي \ جامعة الموصل.
نجيب المانع كتاب ذكريات عمر أكلته الحروف.
الجرجاني: كتاب دلائل الإعجاز.
ابن المقفع: اقرأ كتاب عمر أكلته الحروف \ نجيب المانع.
الآمدي: كتاب الإحكام في أصول الأحكام.
نازك الملائكة. مقدمة ديوانها الجزء الثاني.
حول مفهوم التجديد، دار حديث نشط بيني وبين أ. د. سامي علي جبار، كلية التربية جامعة البصرة، صاحب كتاب: "أسلوبية البناء الشعري". دراسة في شعر أبي تمام. كان حينها قد وجه لي دعوة لألقاء محاضرة في جامعة البصرة، ولكني حوصرت في بغداد. أثر أعمال الجامعة العربية. ومن ثم سفري إلى لندن. أعتذر
بدر شاكر السياب. مجلة آداب اللبنانية، حزيران 1954 .
مناقشات بين السياب وصلاح عبد الصبور على صفحات مجلة الآداب اللبنانية 1955 .
الفيلسوف كانط : كتاب نقد العقل المحض.
فاجنر: موسقي صاحب أوبرات "تريستان وايزولده" المعروف بالموسيقي القاتل.
ابن سينا 980 اقرأ كتاب الشفاء.
اقرأ ابن الأثير كتاب العمدة ص256