لم يكن باقياً من سنة 1913 سوى شهر واحد وبضعة أيام وقتما وصلت مصر قادماً من دمشق هرباً من مطاردة الحكومة إياي.
الليلة عيد، وأجراس الكنائس تدق، والناس بين داخل البَيع بوجوه تعلوها سيماء الرضى والإيمان، وبين خارج منها مسرع الخطى إلى الفنادق الكبرى والمنتديات الخاصة تطلعاً إلى الاشتراك في حفلات العيد.
كنت مع الماشين إلى النادي الشرقي وكأني منساق معهم إليه؛ ولما دخلته حسبت الناس ينظرون إلي نظرات الاستيحاش والاستغراب.
أهاجت فرحة الناس نفسي فتذكرت والدتي وأهلي وإخواني وقد خلفتهم في غير هذا البلد الذي كل ما فيه يناديني: (غريب)
تركت صحبي ومواطني هناك؛ تركت قلباً وذريات تتأجج نارها كلما طال البعاد، وما أحراها بالاضطرام ليلة العيد إذ ذهبت وحدي إلى ذلك النادي أقضي ساعات مع أناس يعرفونني ولا أعرفهم من أبناء الجالية السورية.
كان كل ما في النادي في تلك الليلة ينم عن المرح والحبور، وكنت الصامت المستوحش الساهم وحدي بين الجمع، لأني (غريب).
انقضت سنوات عدة كنت خلالها لا أنقطع عن زيارة النادي، إذ أصبح لي فيه إخوان وأصدقاء لا يقلون حباً لي ولا يقل تعلقي بهم وإخلاصي لهم عن أولئك الأصدقاء والأخوان الذين خلفتهم في دمشق.
زرت النادي في ليلة الأحد وأنا متأبط ذراع فتاة عرفتها فيه، وقد صارت لي زوجة، وصرت لها بكليتي، وعقدت حظها بحياتي، ووقفت على إسعادها وجودي، وأحسب أني كنت في تلك الليلة من أسعد الناس، وأوفرهم غبطة، وأحرصهم على تكييف كل شيء بالهناء المرفوف على نفسي؛ وحينما كان يطوف بذهني خيال والدتي وأنا وحيدها، وصورة شقيقتي المحبوبة كنت أحاول استهواء ذاتي وإقناعها بأن قد صار لي في امرأتي حنان كحنان الأم، وألفة كألفة الأخت، فوق حب الزوج لزوجه، بحيث أضحى محالاً أن يطوف بخاطري طيف (الغريب) أو وحشة البعيد عن أهله ووطنه.
طوتني مصر كما طوت الآلاف من الناس الذين وفدوا مثلي عليها، فأقلمتني بإقليمها، ونفخت فيّ روحها، وألهمتني وحي بيئتها، فصيرتني كأحد أبنائها أقوم بالواجب المفروض بمثل ما يقوم به كل مصري مخلص حرّ، ولما كنت أعود بذاكرتي صوب الشام، مسقط رأسي ومهد حداثتي، كنت أحس بالحرمان يمزقني ويكبت روحي، وأشعر بالواقع يسترضيني ويتودد إليّ. .
حقاً لقد علمتني مصر أن أرى فيها وطني وأهلي، ولقد تعلمت منها كيف أبادلها الجميل بجميل والوفاء بوفاء؛ لقد علمتني كيف أحبها وكيف أحافظ على حبي مسقط رأسي ومهد ذكرياتي، وكنت أصيخ بسمعي دائماً إلى أنات قومي وأوجاعهم، وأسعى جهدي إلى مزجها بأنات إخواني المصريين الموجعين؛ وكنت أعمل، وسأعمل على أن أجعل من تفاعلات تمازج الأنات المؤلمة ما يزيل العلة الموجعة.
انقضت سنوات أخرى كنت لا أنفك خلالها عن المجيء إلى النادي الشرقي؛ وحدث في عصر يوم من أيام الشتاء أن ذهبت إليه، وكنت متعب الجسم، مكدود القوى، موزع الخاطر، مشرد الفكر، فرحت تواً إلى صالة الرقص وانتحيت ناحية فيها أرفه عن خاطري بقدح من الشراب.
ما كنت لأعبأ بالراقصات والراقصين رغم ما فيهم من رشاقة ودلال جذابين؛ وما كنت لأحس ضربات (الجازبند) العنيفة المؤذية للنفس لأني كنت في شاغل عن كل ذلك.
طال بي الجلوس؛ هممت بالنهوض؛ رفعت رأسي عفواً وإذا بي ألمح سيدة جالسة قبالتي على قيد أمتار مني، ما كدت أتبينها حتى نهضت مسرعاً لتحيتها.
عرّفتني السيدة إلى زوجها، واكتفت بقولها عني: (صديقنا) وذكرت اسمي، فكان هذا التعارف على ما فيه من بساطة واقتضاب كافياً لاستذكار الزوج، فنهض مسلماً سلام مودة وصداقة، داعياً إياي إلى مجالستهما. . . . . . . . انطلقت ألسنتنا بالحديث، تارة عن الحياة الزوجية وسعادتها القائمة على التضحية، والتفاهم، والطمأنينة، وطوراً على الأبناء وعناء تربيتهم، وعما يضحي الآباء في سبيلهم من عواطف زوجية يستغرقها الحنان الوالدي. كنا نتكلم عن كل شئ، وعن كل إنسان نعرفه في لبنان بسرور، ولم ننس الغدير وأحراج الصنوبر، ودير (القرقفة) في قرية كفر شيما مسقط رأس السيدة حيث عرفتها هناك، وكنت أُلمح من طرف خفي إلى حوادث الشباب، ولم يصدنا عن الاسترسال في التنقل بالكلام كالأطفال من موضوع إلى آخر إلا دعوة الزوج زوجه إلى الرقص معه، واعتذارها بلطف إليه بحجة الرغبة في الرقص معي رقصة (التانجو).
رقصنا. . . . . . وكنت إبان الرقص كالساهم الغارق في حلم لذيذ؛ كنت أنعم بالراحة كلها في مخاصرة هذه السيدة التي تنبعث منها الطمأنينة إلى أعماق نفسي؛ لم أكلمها؛ لم أجتل محياها؛ كنت نشوان بها؛ لم أسمع كلمة منها، بل شعرت بجسمها اللين البض يسترخي شيئاً فشيئاً بين ذراعي. كنا سوية كنبرة وتر مزدوجة عزفها موسيقى ماهر، فصدرت كأنها من وتر واحد، يدفع خطانا وينقلها نقلاً إيقاعياً متناسقاً. . . . . . . . . . وقبل الانصراف تواعدنا على اللقاء في النادي في الليلة القادمة.
طافت بي الخواطر، ثم ألحت عليّ، فآثرت العودة إلى البيت ماشياً لأطلقها في أوسع مجالات الفكر.
رجعت بي الذكريات إلى دمشق يوم بارحتها ويوم لذت بلبنان بقرية صغيرة رابضة فوق ربوة تطل على سهول (الشويفات) ثم البحر، تكتنفها أحراج الصنوبر وقد انتشر منها أرج الأصماغ؛ ذكرت ذلك الدير المهيب الشاهق الرابض فوق الربوة أشبه بقلعة شيدت لحماية الخيالات والأحلام!! وتراءت لي أطياف سكان القرية وهي تحج إليه متسلقة الربوة بهمة ونشاط، يتهادون في ابتسام الفجر الساحر المغبر تحية الصباح.
ذكرت إقبال رجال القرية للسلام عليّ ودعواتهم إياي إلى زيارتهم. ذكرت الساعات الطوال التي كنت أقضيها بين الأحراج أفترش الأرض، وأناجي الشجر، وأملأ من جمال الطبيعة قلبي وروحي؛ تراءت أمام عيني صور شيوخ القرية جالسين في القهوة يدخنون النارجيلة ويحلمون، والشباب يلعبون الورق أو يشربون ويغنون؛ كنت أطرب لسماع أغنيتهم المستمدة من وحي روح الطبيعة الساذجة الهادئة، والمعبرة عن دوافع الغريزة بأبسط الكلمات والإشارات.
ذكرت تلك الفتاة القروية عائدة من الكنيسة بثيابها الفضفاضة، وضفائرها المنسدلة على كتفيها، ووجهها الحري الزاهر بنفحات الربيع، وصدرها الناهد، وقدها الممشوق، وخطواتها المتزنة الحازمة.
كم كانت رائعة صبغة الخجل الوردية التي اصطبغت بها أذناها لما سألتها عن اسمها، وهل فكرت في صلاتها في غير أهلها ممن تعرف من الناس!؟ لقد حيرها سؤالي فارتبكت وسكتت عن الجواب؛ وذكرت أيضاً زيارتي لها في بيت أهلها وكيف اعترفت لها بحبي وعاهدتها على الزواج، وتلك الأوقات الحلوة التي كنا نقضيها تارة في النقاش وقراءة الكتب، وطوراً في التطلع إلى المستقبل والتمهيد لبناء عش سعادتنا.
تمثلت يوم عودتي إلى دمشق، والاضطهاد الذي أصابني من حكومتها، وفراري من السجن والتجائي إلى مصر بعد الحكم علي وعلى زملائي بالنفي المؤبد، لا لشيء إلا لأننا من دعاة الاستقلال الظامئين إلى الحرية.
ذكرت كل هذا والطريق يمتد أمامي؛ كانت ظلمته تبعث في نفسي رؤيا تلك الأيام التي ودعتها منذ سنين في أرض الوطن وطويتها بين ضلوعي، وبدا لي كأن ماضي يبعث من جديد وينشر فجأة؛ تجسمت أمامي الحوادث كأنما لم يمر عليها ساعات، ذلك العهد الباسم الذي أمضيته وإياها، خيل إلي أن هذا الماضي الماثل القريب قد ضاع مني كله، كأن بيني وبينه برزخاً. . . فجوة الزمن، والحنث بالعهد، تفصل بيننا!!!
ارتدت بي الذكرى فجأة إلى النادي الشرقي، فاستشعرت تلك الذراع الغضة منبسطة فوق كتفي، والصدر المليء ما برح يتموج مختلجاً بين ذراعي؛ جاشت نفسي بالذكرى، وعضضت شفتي ندماً وقلت: ليتني، ليتني ما حنثت باليمين. . . . . . . .
ما كنت أحسبني استعيد مرح الصبا ونشوة الرقص، وقد أرهقني الزواج المبكر بأحمال من الرزانة، وبأثقال من الوقار، وبكل ما تفتعله أكاذيب العادات ونفاق التقاليد.
لم أكن أنشد في الرقص ما ينشده شبان ينتقلون كالنحلة من زهرة إلى زهرة، يرتشفون من ندى زهرات الحياة ما يرتشفون. . . لم أكن كعقلاء العزّاب أو جهالهم أبحث عن فتاة فيها من أوصاف الجمال الجثماني، أو طيش الطباع النزاعة إلى العبث واللهو، أو وفرة المال للزواج، بل كنت مكبوت النفس بحب قديم لم تقو صروف الزمان ومناسباته ولا تطورات الفكر على خنقه؛ لا غرابة في خمود ذلك الحب طوال السنين، بل الغرابة لو لم يستيقظ ويستنهض فيّ دوافع الميول المستقرة في أعماق قلبي بكامل ما فيها من قوى الحياة تهليلاً للحب البكر البريء.
لقد كنت والسيدة أحرص ما نكون على إخفاء أمارات الحب في عيوننا؛ لم يكن في مظاهرنا ما يلهم غريزة المرأة استشعار الواقع بدليل أن امرأتي لم تدرك شيئاً منه؛ أما زوجها فقد كان له من أقداح الوسكي وأحاديث البورصة والمضاربات ما يشغله عنا، فلم يع شيئا من ذلك أيضاً؛ وهكذا كانت تنقضي ليالي الاجتماع بمظهرين: مظهر النفس المتأججة بلاعج من حب باطني، ومظهر السكوت الدال على الاندماج الكلي في وحدانية الحب المقدس، وعلى التجاوب الروحي والتفاهم الجسدي حين المخاصرة.
لم يعد طبيعياً أن تطاوعنا عناصر الوجود على استدامة هذه الحال، فلما همست أخفتَ همسة في أذن (حبيبتي) أطلب منها لقاء على انفراد، أومأت بهدب جفنها إيماءة الرضى وأتبعتها بلمحة من بسمة ارتسمت على جانب شفتها، ونظرت إلي نظرة طويلة. . . ثم فتحت فاها كأنها تريد أن تقول شيئاً، ولكنها أحجمت وأطبقت شفتيها. . . ثم عادت فاشترطت أن يكون اللقاء في الريف على ضفاف النيل، وألا يرى أحدنا الآخر إلا في الموعد المضروب؛ رضيت بهذا الشرط الصارم وحرماني منها طيلة عشرة أيام.
عبثاً كنت أحاول إخماد حدة الأزمة النفسية التي ساورتني ففزعت إلى (الأقصر) أستمد السكون والهدوء من مشاهدة آثار العصور الخوالي في وادي الملوك، ولكن متى كانت صور الفن تصرف الذهن عن الصور الحية، وكيف يهدأ قلب استفاق من هجعة الحب الأول على صراخ تأنيب الضمير؟
عجباً! لم جعلت اللقاء بعد عشرة أيام ودعمته ألا يرى أحدنا الآخر خلالها؟ هل رمت من وراء هذا التباعد إلى إثارة قوى الدفع والجذب التي تكون وليدة الآمال المرتجاة؟ هل شاءت بباعث من غرائزها التي يعمل عقل الرجل مجتهداً في حل رموزها أن تمتحن الفوارق بين اللقاء المكظوم في صالة الرقص وبين اللقاء الموعود في الريف؟ هل أرادت أن نستجم للقاء كما يستجم الشاعر لإبداع قصيدة، والعابد لتمتمة صلاة غير مسطورة في كتاب، والصوفي للاندماج في وحدانية الله؟ وإنما رغبت في أن يكون لقانا اللقاء الأخير وموقف الوداع قبل السفر!!
. . . . . . دنا الموعد، اقتربت ساعة اللقاء، وقفت أنتظر قدوم سيارتها وأرقب دقائق الساعة بضجر ملحّ، وأعدّ الثواني باضطراب. تمضي الثواني والدقائق والساعات، بل العمر كله يمضي في طريق الزمن والزمن لا ينفك منذ الأزل وسيبقى مدى الآباد يسير بنظام محكم الضبط إلا أنا، أنا الشاذ المضطرب، الصاخب الهادئ، المفكر المبلبل، أنا السعيد الحزين، والباكي الضاحك، أنا الذي أعيش في أرض يلوح لي الآن أنها تدور دورة معكوسة!!!
لمحت سيارتها مطلة من بعيد فشعرت بدمي يندفع حاراً في عروقي وسمعت بأذني وجيب قلبي. . . وقفت السيارة، وإذ فتح بابها رأيت السيدة جالسة وإلى جانبها صبي صغير، وكانت مرتدية ثوباً أزرق وقد أمالت رأسها إلى جانب من السيارة، رأيت في عينيها الحالمتين فتوراً ساحراً غريباً؛ وقفت زهاء نصف دقيقة ذاهلاً مبهوتاً لم أستطع النطق حتى بالتحية؛ خيل إلي أني قد استجمعت في هذه الفترة كل ماضينا. . . والتفت فوقعت عيناي على الصبي. . . وانقبض قلبي؛ غام الضوء في نظري وشعرت بحزن طارئ يستولي علي، كبحت جماح عواطفي، وتعملت الابتسام، وكانت قد أفسحت لي مجالاً فوثبت إلى المقعد ورأيتني بالقرب منها.
لم أدر السبب الذي حدا بي كي أستجيب وأصعد إلى السيارة؛ لقد غمرني مرأى الصبي بإحساس مؤلم قوي لم أكن أتوقعه حتى لقد وددت أن أفر بنفسي.
وكأنما قد أشفقت علي، فلم تتكلم، بل مدت بأطراف الأنامل يدها وتلاقت يدانا في مصافحة صامتة، وكانت يدي باردة كالثلج بينما كان الدفء يسري من كفها. ثم قربت يدها شيئاً فشيئاً حتى احتوتها يدي، فضغطت عليها ضغطة قوية كأنما أردت أن أهرب من برودة قارسة إلى حرارة الحياة.
استأنسنا بالصمت، ثم تلاقت عينانا؛ كان في نظراتي شبه استعتاب لمجيء الصبي معها، وكأنها فهمت ذلك بالنظرة الخاطفة فشاءت أن تعدل عنها، وتبسمت واهتزت يدها في يدي تريد أن تذكرني بأني أضغط في عنف عليها، وتألق في عينيها لمعان. . . هذا اللمعان الذي أبصرته في مقلتيها الكستنائيتين أول مرة عرفتها، لمعان قوي كضوء باهر في ليلة شتاء يسطع بين السحب ثم يختفي. . . أجل؛ بدا لي أنني أعثر في تلك السيدة على أشياء ما رأيت قط مثلها في امرأة من قبل، وكان هذا محور حياتي معها وتاريخ حبي لها. . .
فيها أشياء كالنور حيناً والحرارة حيناً؛ فيها صمت لا أدري قراره. . . شممت عطرها القديم الذي طالما ملأت منه رئتي، فاسترحت.
السيارة ماضية بنا تنهب الطريق الممتد بين حقول القطن تظلله غصون الشجر، لم أكن لأستطيع في هذا الحين جمع خواطري لأنها كانت تتناثر كالشرر، إنما كنت أحس كأني انفصلت عن العالم وانقطعت صلتي بالناس، بالحياة وبالواجب أيضاً.
هاهي إلى جانبي، المرأة التي كنت ركزت عليها آمال الشباب، هاهي مبعث الحلم البعيد الذي يصطخب في قرارة تصوراتي، هاهي الومضة الخاطفة التي بإشاعتها تنير أجواء التفاؤل في حياتي، لقد حققت بوجودها جميع صور الخيال وأطياف الأحلام، هاهي بروحها وجسمها إلى جانبي لا يحتجزها عن الالتصاق بي سوى طفلها الجالس في هدوء كأنه يحلم مثلنا.
. . . علام أتجاهل حياتها الواقعة، بل لم أتغافل عن الأمر الواقع الصارخ؟ إن قوانين الحياة وتقاليدها البغيضة تسري علينا سوياً، فلماذا أحاول أن أبعث في نفسها أنانية متمردة شرهة كالتي تعج بها نفسي؟ كلنا أسرى العواطف، عبيد الشهوات، أفلا يليق بنا وقد ولجنا عالم الإنسانية من أبواب الشعر أن نقيم لسيول الشهوة العمياء سدوداً تحول دون اجترافنا؟ أجل، إني لأنزه الحب عن أن يكون مجرد مادة، كما أني أتبرم به متى كان حرماناً صرفاً. يسمو الحب على الحقائق ولكنه لا يستطيع أن ينكرها أو يستهين بها؛ فلماذا تتألم نفسي من وجود الصبي بيننا؟
يسمو الحب على الحقائق، ولكنه متى نما واكتمل وازدهر، وتسنم ذروته العليا فقد يخضع لهذه الحقائق عن رضى لأن سر عظمته في اللين والخضوع!!
لماذا أفزع من وجود الصبي؟ لقد جاءت به لتفصلني عنها، لتضع سداً بيني وبينها، لتنقذ حبي من التردي في مهاوي الواقع والفناء في ظلمة الحقيقة. . . إنها تحبني، أشعر بهذا من رعشات يدها، ورجفات جفنيها، من شفتيها المختلجتين وعينيها المتقدتين شهوة وحسرة، تحبني ولكنها لا تريد الاستسلام، تحبني وتخشى إن هي استسلمت ثم افترقنا على مضض، كما يقضي بذلك الواجب، أن تعذبني الحسرة وتشقيها اللوعة، وأن تترك من شخصها في خيالي صورة بشعة ملوثة تهبط بهذا الحب الرائع القدسي إلى درك الحيوانية الأولى!! إنها تريد أن تكون بكليتها لي، أولا تكون لي أبداً، وما دامت سترحل في الغد، عائدة إلى لبنان، فهي تؤثر أن تحرمني كل شئ على أن تسقيني من كأس بدنها الشهي جرعة واحدة لا تنقع غلتي ولا بد أن تسمم في المستقبل كل حياتي.
أواه! لقد أدركت ما يجول بخاطري، هاهي تتفرس في وتتأملني وتشفق علي منذ الآن، ويكاد الدمع يطفر من عينيها.
لماذا؟ لماذا تبكين يا حبيبتي؟! أخذت رأسها بين ذراعي ألاطف شعرها بينما كانت تنتفض ودموعها الحارة تتساقط على يدي.
تجاه هذه الدموع لم أجد بداً من الإذعان لها، أشفقت عليها كما أشفقت علي، سموت بحبي كما أرادت أن تسمو بحبها، عولت على ألا أعترض القدر، وأن أنزل ما استطعت على حكم هذه المرأة التي علمتني أن في وسع الإنسان أن يعيش بالروح أكثر مما يعيش بالجسد، وأن الحب الكبير قد يستطيع أن ينتصر لا على المادة فقط، بل على الزمن أيضاً.
أرسلت نفساً طويلاً فرّج عن صدري، وضاعف أعصابي صلابة وقوة، فتنحيت قليلاً ومددت رأسي إلى حيث سائق السيارة وغمغمت بهذه الكلمات: (عد من حيث أتيت).
حدَّقت فيّ وأشرق وجهها بغتة، ثم أطرقت برأسها وتلمست يدي ورفعتها برفق إلى شفتيها، فشعرت بالقبلة الهادئة تجمع بيننا إلى الأبد.
عادت بنا السيارة تنهب الأرض، والأشجار تتعاقب، والهواء يصفر، والصبي يضحك، وأنا أردد في نفسي هذه الكلمات: غريب! غريب! غريب!
حبيب الزحلاوي
مجلة الرسالة - العدد 124
بتاريخ: 18 - 11 - 1935
الليلة عيد، وأجراس الكنائس تدق، والناس بين داخل البَيع بوجوه تعلوها سيماء الرضى والإيمان، وبين خارج منها مسرع الخطى إلى الفنادق الكبرى والمنتديات الخاصة تطلعاً إلى الاشتراك في حفلات العيد.
كنت مع الماشين إلى النادي الشرقي وكأني منساق معهم إليه؛ ولما دخلته حسبت الناس ينظرون إلي نظرات الاستيحاش والاستغراب.
أهاجت فرحة الناس نفسي فتذكرت والدتي وأهلي وإخواني وقد خلفتهم في غير هذا البلد الذي كل ما فيه يناديني: (غريب)
تركت صحبي ومواطني هناك؛ تركت قلباً وذريات تتأجج نارها كلما طال البعاد، وما أحراها بالاضطرام ليلة العيد إذ ذهبت وحدي إلى ذلك النادي أقضي ساعات مع أناس يعرفونني ولا أعرفهم من أبناء الجالية السورية.
كان كل ما في النادي في تلك الليلة ينم عن المرح والحبور، وكنت الصامت المستوحش الساهم وحدي بين الجمع، لأني (غريب).
انقضت سنوات عدة كنت خلالها لا أنقطع عن زيارة النادي، إذ أصبح لي فيه إخوان وأصدقاء لا يقلون حباً لي ولا يقل تعلقي بهم وإخلاصي لهم عن أولئك الأصدقاء والأخوان الذين خلفتهم في دمشق.
زرت النادي في ليلة الأحد وأنا متأبط ذراع فتاة عرفتها فيه، وقد صارت لي زوجة، وصرت لها بكليتي، وعقدت حظها بحياتي، ووقفت على إسعادها وجودي، وأحسب أني كنت في تلك الليلة من أسعد الناس، وأوفرهم غبطة، وأحرصهم على تكييف كل شيء بالهناء المرفوف على نفسي؛ وحينما كان يطوف بذهني خيال والدتي وأنا وحيدها، وصورة شقيقتي المحبوبة كنت أحاول استهواء ذاتي وإقناعها بأن قد صار لي في امرأتي حنان كحنان الأم، وألفة كألفة الأخت، فوق حب الزوج لزوجه، بحيث أضحى محالاً أن يطوف بخاطري طيف (الغريب) أو وحشة البعيد عن أهله ووطنه.
طوتني مصر كما طوت الآلاف من الناس الذين وفدوا مثلي عليها، فأقلمتني بإقليمها، ونفخت فيّ روحها، وألهمتني وحي بيئتها، فصيرتني كأحد أبنائها أقوم بالواجب المفروض بمثل ما يقوم به كل مصري مخلص حرّ، ولما كنت أعود بذاكرتي صوب الشام، مسقط رأسي ومهد حداثتي، كنت أحس بالحرمان يمزقني ويكبت روحي، وأشعر بالواقع يسترضيني ويتودد إليّ. .
حقاً لقد علمتني مصر أن أرى فيها وطني وأهلي، ولقد تعلمت منها كيف أبادلها الجميل بجميل والوفاء بوفاء؛ لقد علمتني كيف أحبها وكيف أحافظ على حبي مسقط رأسي ومهد ذكرياتي، وكنت أصيخ بسمعي دائماً إلى أنات قومي وأوجاعهم، وأسعى جهدي إلى مزجها بأنات إخواني المصريين الموجعين؛ وكنت أعمل، وسأعمل على أن أجعل من تفاعلات تمازج الأنات المؤلمة ما يزيل العلة الموجعة.
انقضت سنوات أخرى كنت لا أنفك خلالها عن المجيء إلى النادي الشرقي؛ وحدث في عصر يوم من أيام الشتاء أن ذهبت إليه، وكنت متعب الجسم، مكدود القوى، موزع الخاطر، مشرد الفكر، فرحت تواً إلى صالة الرقص وانتحيت ناحية فيها أرفه عن خاطري بقدح من الشراب.
ما كنت لأعبأ بالراقصات والراقصين رغم ما فيهم من رشاقة ودلال جذابين؛ وما كنت لأحس ضربات (الجازبند) العنيفة المؤذية للنفس لأني كنت في شاغل عن كل ذلك.
طال بي الجلوس؛ هممت بالنهوض؛ رفعت رأسي عفواً وإذا بي ألمح سيدة جالسة قبالتي على قيد أمتار مني، ما كدت أتبينها حتى نهضت مسرعاً لتحيتها.
عرّفتني السيدة إلى زوجها، واكتفت بقولها عني: (صديقنا) وذكرت اسمي، فكان هذا التعارف على ما فيه من بساطة واقتضاب كافياً لاستذكار الزوج، فنهض مسلماً سلام مودة وصداقة، داعياً إياي إلى مجالستهما. . . . . . . . انطلقت ألسنتنا بالحديث، تارة عن الحياة الزوجية وسعادتها القائمة على التضحية، والتفاهم، والطمأنينة، وطوراً على الأبناء وعناء تربيتهم، وعما يضحي الآباء في سبيلهم من عواطف زوجية يستغرقها الحنان الوالدي. كنا نتكلم عن كل شئ، وعن كل إنسان نعرفه في لبنان بسرور، ولم ننس الغدير وأحراج الصنوبر، ودير (القرقفة) في قرية كفر شيما مسقط رأس السيدة حيث عرفتها هناك، وكنت أُلمح من طرف خفي إلى حوادث الشباب، ولم يصدنا عن الاسترسال في التنقل بالكلام كالأطفال من موضوع إلى آخر إلا دعوة الزوج زوجه إلى الرقص معه، واعتذارها بلطف إليه بحجة الرغبة في الرقص معي رقصة (التانجو).
رقصنا. . . . . . وكنت إبان الرقص كالساهم الغارق في حلم لذيذ؛ كنت أنعم بالراحة كلها في مخاصرة هذه السيدة التي تنبعث منها الطمأنينة إلى أعماق نفسي؛ لم أكلمها؛ لم أجتل محياها؛ كنت نشوان بها؛ لم أسمع كلمة منها، بل شعرت بجسمها اللين البض يسترخي شيئاً فشيئاً بين ذراعي. كنا سوية كنبرة وتر مزدوجة عزفها موسيقى ماهر، فصدرت كأنها من وتر واحد، يدفع خطانا وينقلها نقلاً إيقاعياً متناسقاً. . . . . . . . . . وقبل الانصراف تواعدنا على اللقاء في النادي في الليلة القادمة.
طافت بي الخواطر، ثم ألحت عليّ، فآثرت العودة إلى البيت ماشياً لأطلقها في أوسع مجالات الفكر.
رجعت بي الذكريات إلى دمشق يوم بارحتها ويوم لذت بلبنان بقرية صغيرة رابضة فوق ربوة تطل على سهول (الشويفات) ثم البحر، تكتنفها أحراج الصنوبر وقد انتشر منها أرج الأصماغ؛ ذكرت ذلك الدير المهيب الشاهق الرابض فوق الربوة أشبه بقلعة شيدت لحماية الخيالات والأحلام!! وتراءت لي أطياف سكان القرية وهي تحج إليه متسلقة الربوة بهمة ونشاط، يتهادون في ابتسام الفجر الساحر المغبر تحية الصباح.
ذكرت إقبال رجال القرية للسلام عليّ ودعواتهم إياي إلى زيارتهم. ذكرت الساعات الطوال التي كنت أقضيها بين الأحراج أفترش الأرض، وأناجي الشجر، وأملأ من جمال الطبيعة قلبي وروحي؛ تراءت أمام عيني صور شيوخ القرية جالسين في القهوة يدخنون النارجيلة ويحلمون، والشباب يلعبون الورق أو يشربون ويغنون؛ كنت أطرب لسماع أغنيتهم المستمدة من وحي روح الطبيعة الساذجة الهادئة، والمعبرة عن دوافع الغريزة بأبسط الكلمات والإشارات.
ذكرت تلك الفتاة القروية عائدة من الكنيسة بثيابها الفضفاضة، وضفائرها المنسدلة على كتفيها، ووجهها الحري الزاهر بنفحات الربيع، وصدرها الناهد، وقدها الممشوق، وخطواتها المتزنة الحازمة.
كم كانت رائعة صبغة الخجل الوردية التي اصطبغت بها أذناها لما سألتها عن اسمها، وهل فكرت في صلاتها في غير أهلها ممن تعرف من الناس!؟ لقد حيرها سؤالي فارتبكت وسكتت عن الجواب؛ وذكرت أيضاً زيارتي لها في بيت أهلها وكيف اعترفت لها بحبي وعاهدتها على الزواج، وتلك الأوقات الحلوة التي كنا نقضيها تارة في النقاش وقراءة الكتب، وطوراً في التطلع إلى المستقبل والتمهيد لبناء عش سعادتنا.
تمثلت يوم عودتي إلى دمشق، والاضطهاد الذي أصابني من حكومتها، وفراري من السجن والتجائي إلى مصر بعد الحكم علي وعلى زملائي بالنفي المؤبد، لا لشيء إلا لأننا من دعاة الاستقلال الظامئين إلى الحرية.
ذكرت كل هذا والطريق يمتد أمامي؛ كانت ظلمته تبعث في نفسي رؤيا تلك الأيام التي ودعتها منذ سنين في أرض الوطن وطويتها بين ضلوعي، وبدا لي كأن ماضي يبعث من جديد وينشر فجأة؛ تجسمت أمامي الحوادث كأنما لم يمر عليها ساعات، ذلك العهد الباسم الذي أمضيته وإياها، خيل إلي أن هذا الماضي الماثل القريب قد ضاع مني كله، كأن بيني وبينه برزخاً. . . فجوة الزمن، والحنث بالعهد، تفصل بيننا!!!
ارتدت بي الذكرى فجأة إلى النادي الشرقي، فاستشعرت تلك الذراع الغضة منبسطة فوق كتفي، والصدر المليء ما برح يتموج مختلجاً بين ذراعي؛ جاشت نفسي بالذكرى، وعضضت شفتي ندماً وقلت: ليتني، ليتني ما حنثت باليمين. . . . . . . .
ما كنت أحسبني استعيد مرح الصبا ونشوة الرقص، وقد أرهقني الزواج المبكر بأحمال من الرزانة، وبأثقال من الوقار، وبكل ما تفتعله أكاذيب العادات ونفاق التقاليد.
لم أكن أنشد في الرقص ما ينشده شبان ينتقلون كالنحلة من زهرة إلى زهرة، يرتشفون من ندى زهرات الحياة ما يرتشفون. . . لم أكن كعقلاء العزّاب أو جهالهم أبحث عن فتاة فيها من أوصاف الجمال الجثماني، أو طيش الطباع النزاعة إلى العبث واللهو، أو وفرة المال للزواج، بل كنت مكبوت النفس بحب قديم لم تقو صروف الزمان ومناسباته ولا تطورات الفكر على خنقه؛ لا غرابة في خمود ذلك الحب طوال السنين، بل الغرابة لو لم يستيقظ ويستنهض فيّ دوافع الميول المستقرة في أعماق قلبي بكامل ما فيها من قوى الحياة تهليلاً للحب البكر البريء.
لقد كنت والسيدة أحرص ما نكون على إخفاء أمارات الحب في عيوننا؛ لم يكن في مظاهرنا ما يلهم غريزة المرأة استشعار الواقع بدليل أن امرأتي لم تدرك شيئاً منه؛ أما زوجها فقد كان له من أقداح الوسكي وأحاديث البورصة والمضاربات ما يشغله عنا، فلم يع شيئا من ذلك أيضاً؛ وهكذا كانت تنقضي ليالي الاجتماع بمظهرين: مظهر النفس المتأججة بلاعج من حب باطني، ومظهر السكوت الدال على الاندماج الكلي في وحدانية الحب المقدس، وعلى التجاوب الروحي والتفاهم الجسدي حين المخاصرة.
لم يعد طبيعياً أن تطاوعنا عناصر الوجود على استدامة هذه الحال، فلما همست أخفتَ همسة في أذن (حبيبتي) أطلب منها لقاء على انفراد، أومأت بهدب جفنها إيماءة الرضى وأتبعتها بلمحة من بسمة ارتسمت على جانب شفتها، ونظرت إلي نظرة طويلة. . . ثم فتحت فاها كأنها تريد أن تقول شيئاً، ولكنها أحجمت وأطبقت شفتيها. . . ثم عادت فاشترطت أن يكون اللقاء في الريف على ضفاف النيل، وألا يرى أحدنا الآخر إلا في الموعد المضروب؛ رضيت بهذا الشرط الصارم وحرماني منها طيلة عشرة أيام.
عبثاً كنت أحاول إخماد حدة الأزمة النفسية التي ساورتني ففزعت إلى (الأقصر) أستمد السكون والهدوء من مشاهدة آثار العصور الخوالي في وادي الملوك، ولكن متى كانت صور الفن تصرف الذهن عن الصور الحية، وكيف يهدأ قلب استفاق من هجعة الحب الأول على صراخ تأنيب الضمير؟
عجباً! لم جعلت اللقاء بعد عشرة أيام ودعمته ألا يرى أحدنا الآخر خلالها؟ هل رمت من وراء هذا التباعد إلى إثارة قوى الدفع والجذب التي تكون وليدة الآمال المرتجاة؟ هل شاءت بباعث من غرائزها التي يعمل عقل الرجل مجتهداً في حل رموزها أن تمتحن الفوارق بين اللقاء المكظوم في صالة الرقص وبين اللقاء الموعود في الريف؟ هل أرادت أن نستجم للقاء كما يستجم الشاعر لإبداع قصيدة، والعابد لتمتمة صلاة غير مسطورة في كتاب، والصوفي للاندماج في وحدانية الله؟ وإنما رغبت في أن يكون لقانا اللقاء الأخير وموقف الوداع قبل السفر!!
. . . . . . دنا الموعد، اقتربت ساعة اللقاء، وقفت أنتظر قدوم سيارتها وأرقب دقائق الساعة بضجر ملحّ، وأعدّ الثواني باضطراب. تمضي الثواني والدقائق والساعات، بل العمر كله يمضي في طريق الزمن والزمن لا ينفك منذ الأزل وسيبقى مدى الآباد يسير بنظام محكم الضبط إلا أنا، أنا الشاذ المضطرب، الصاخب الهادئ، المفكر المبلبل، أنا السعيد الحزين، والباكي الضاحك، أنا الذي أعيش في أرض يلوح لي الآن أنها تدور دورة معكوسة!!!
لمحت سيارتها مطلة من بعيد فشعرت بدمي يندفع حاراً في عروقي وسمعت بأذني وجيب قلبي. . . وقفت السيارة، وإذ فتح بابها رأيت السيدة جالسة وإلى جانبها صبي صغير، وكانت مرتدية ثوباً أزرق وقد أمالت رأسها إلى جانب من السيارة، رأيت في عينيها الحالمتين فتوراً ساحراً غريباً؛ وقفت زهاء نصف دقيقة ذاهلاً مبهوتاً لم أستطع النطق حتى بالتحية؛ خيل إلي أني قد استجمعت في هذه الفترة كل ماضينا. . . والتفت فوقعت عيناي على الصبي. . . وانقبض قلبي؛ غام الضوء في نظري وشعرت بحزن طارئ يستولي علي، كبحت جماح عواطفي، وتعملت الابتسام، وكانت قد أفسحت لي مجالاً فوثبت إلى المقعد ورأيتني بالقرب منها.
لم أدر السبب الذي حدا بي كي أستجيب وأصعد إلى السيارة؛ لقد غمرني مرأى الصبي بإحساس مؤلم قوي لم أكن أتوقعه حتى لقد وددت أن أفر بنفسي.
وكأنما قد أشفقت علي، فلم تتكلم، بل مدت بأطراف الأنامل يدها وتلاقت يدانا في مصافحة صامتة، وكانت يدي باردة كالثلج بينما كان الدفء يسري من كفها. ثم قربت يدها شيئاً فشيئاً حتى احتوتها يدي، فضغطت عليها ضغطة قوية كأنما أردت أن أهرب من برودة قارسة إلى حرارة الحياة.
استأنسنا بالصمت، ثم تلاقت عينانا؛ كان في نظراتي شبه استعتاب لمجيء الصبي معها، وكأنها فهمت ذلك بالنظرة الخاطفة فشاءت أن تعدل عنها، وتبسمت واهتزت يدها في يدي تريد أن تذكرني بأني أضغط في عنف عليها، وتألق في عينيها لمعان. . . هذا اللمعان الذي أبصرته في مقلتيها الكستنائيتين أول مرة عرفتها، لمعان قوي كضوء باهر في ليلة شتاء يسطع بين السحب ثم يختفي. . . أجل؛ بدا لي أنني أعثر في تلك السيدة على أشياء ما رأيت قط مثلها في امرأة من قبل، وكان هذا محور حياتي معها وتاريخ حبي لها. . .
فيها أشياء كالنور حيناً والحرارة حيناً؛ فيها صمت لا أدري قراره. . . شممت عطرها القديم الذي طالما ملأت منه رئتي، فاسترحت.
السيارة ماضية بنا تنهب الطريق الممتد بين حقول القطن تظلله غصون الشجر، لم أكن لأستطيع في هذا الحين جمع خواطري لأنها كانت تتناثر كالشرر، إنما كنت أحس كأني انفصلت عن العالم وانقطعت صلتي بالناس، بالحياة وبالواجب أيضاً.
هاهي إلى جانبي، المرأة التي كنت ركزت عليها آمال الشباب، هاهي مبعث الحلم البعيد الذي يصطخب في قرارة تصوراتي، هاهي الومضة الخاطفة التي بإشاعتها تنير أجواء التفاؤل في حياتي، لقد حققت بوجودها جميع صور الخيال وأطياف الأحلام، هاهي بروحها وجسمها إلى جانبي لا يحتجزها عن الالتصاق بي سوى طفلها الجالس في هدوء كأنه يحلم مثلنا.
. . . علام أتجاهل حياتها الواقعة، بل لم أتغافل عن الأمر الواقع الصارخ؟ إن قوانين الحياة وتقاليدها البغيضة تسري علينا سوياً، فلماذا أحاول أن أبعث في نفسها أنانية متمردة شرهة كالتي تعج بها نفسي؟ كلنا أسرى العواطف، عبيد الشهوات، أفلا يليق بنا وقد ولجنا عالم الإنسانية من أبواب الشعر أن نقيم لسيول الشهوة العمياء سدوداً تحول دون اجترافنا؟ أجل، إني لأنزه الحب عن أن يكون مجرد مادة، كما أني أتبرم به متى كان حرماناً صرفاً. يسمو الحب على الحقائق ولكنه لا يستطيع أن ينكرها أو يستهين بها؛ فلماذا تتألم نفسي من وجود الصبي بيننا؟
يسمو الحب على الحقائق، ولكنه متى نما واكتمل وازدهر، وتسنم ذروته العليا فقد يخضع لهذه الحقائق عن رضى لأن سر عظمته في اللين والخضوع!!
لماذا أفزع من وجود الصبي؟ لقد جاءت به لتفصلني عنها، لتضع سداً بيني وبينها، لتنقذ حبي من التردي في مهاوي الواقع والفناء في ظلمة الحقيقة. . . إنها تحبني، أشعر بهذا من رعشات يدها، ورجفات جفنيها، من شفتيها المختلجتين وعينيها المتقدتين شهوة وحسرة، تحبني ولكنها لا تريد الاستسلام، تحبني وتخشى إن هي استسلمت ثم افترقنا على مضض، كما يقضي بذلك الواجب، أن تعذبني الحسرة وتشقيها اللوعة، وأن تترك من شخصها في خيالي صورة بشعة ملوثة تهبط بهذا الحب الرائع القدسي إلى درك الحيوانية الأولى!! إنها تريد أن تكون بكليتها لي، أولا تكون لي أبداً، وما دامت سترحل في الغد، عائدة إلى لبنان، فهي تؤثر أن تحرمني كل شئ على أن تسقيني من كأس بدنها الشهي جرعة واحدة لا تنقع غلتي ولا بد أن تسمم في المستقبل كل حياتي.
أواه! لقد أدركت ما يجول بخاطري، هاهي تتفرس في وتتأملني وتشفق علي منذ الآن، ويكاد الدمع يطفر من عينيها.
لماذا؟ لماذا تبكين يا حبيبتي؟! أخذت رأسها بين ذراعي ألاطف شعرها بينما كانت تنتفض ودموعها الحارة تتساقط على يدي.
تجاه هذه الدموع لم أجد بداً من الإذعان لها، أشفقت عليها كما أشفقت علي، سموت بحبي كما أرادت أن تسمو بحبها، عولت على ألا أعترض القدر، وأن أنزل ما استطعت على حكم هذه المرأة التي علمتني أن في وسع الإنسان أن يعيش بالروح أكثر مما يعيش بالجسد، وأن الحب الكبير قد يستطيع أن ينتصر لا على المادة فقط، بل على الزمن أيضاً.
أرسلت نفساً طويلاً فرّج عن صدري، وضاعف أعصابي صلابة وقوة، فتنحيت قليلاً ومددت رأسي إلى حيث سائق السيارة وغمغمت بهذه الكلمات: (عد من حيث أتيت).
حدَّقت فيّ وأشرق وجهها بغتة، ثم أطرقت برأسها وتلمست يدي ورفعتها برفق إلى شفتيها، فشعرت بالقبلة الهادئة تجمع بيننا إلى الأبد.
عادت بنا السيارة تنهب الأرض، والأشجار تتعاقب، والهواء يصفر، والصبي يضحك، وأنا أردد في نفسي هذه الكلمات: غريب! غريب! غريب!
حبيب الزحلاوي
مجلة الرسالة - العدد 124
بتاريخ: 18 - 11 - 1935