طوال 28 سنة قضاها الكاتب روبرت فالزر بالمصحة لم يكن يفعل شيئا سوى المشي وحيدا ولساعات طوال كل يوم، فالكتابة والمشي كانا وجهي عملة الحياة بالنسبة له.
الخميس 2018/09/20
كان يمشي كل يوم ليكتب
حياة بعض الكتاب تبدو غريبة لمن يطلع على أسرارها، بين تنقلاتهم والأمراض التي فتكت ببعضهم وبين الجنون الذي يصيب البعض الآخر، لكن يبقى المثير حقا هو نبوءات الكتاب التي تتحقق، فبعضهم مثلا يتنبأ بموته ويحصل تماما كما كتب، وبعضهم يكتب عن مصير إحدى الشخصيات فيحدث معها نفس المصير كما حصل مع الكاتب السويسري روبرت فالزر.
“لا وجود لكافكا دون فالزر”، مقولة حاسمة أوردها إلياس كانيتي في كتابه “محاكمة كافكا الأخرى”، وبالرغم مما قد يراه البعض فيها من مبالغة، إلا أنه لم يكن الوحيد الذي يرى ذلك، فروبرت موزيل قال إنه كان يقرأ كافكا على أساس أنه حالة خاصة من فالزر، بل إن كافكا نفسه، وقد كان معجبا بفالزر، رآه البعض في صمته وشروده يشبه شخصية كتبها فالزر، أما سوزان سونتاج فكانت أكثر حذرا ودقه حينما وصفته بأنه الحلقة المفقودة بين هاينريش فون كلايست وفرانز كافكا، فمن هو هذا الكاتب؟
[SIZE=5]تحقق النبوءة[/SIZE]
روبرت فالزر كاتب حداثي، ولد في 15 أبريل 1878، في مدينة بيرل بسويسرا. وكان السابع بين ثمانية إخوة، أنجبهم أب فقير لم يستطع تركهم بالمدرسة لإكمال تعليمهم، وكان روبرت في الرابعة عشرة من العمر حينما غادرها ليحصل على عمل بأحد البنوك لكنه هرب بعد عام إلى شتوتغارت ليصبح ممثلًا إلا أن الفشل لازمه، فغادرها إلى برلين ليقيم ويعمل مع شقيقه الأكبر كارل الذي كان يعمل مصمما لمناظر المسرحيات ورساما للكتب. وفي برلين مارس روبرت أعمالا عديدة وكتب المقالات والقصائد التي بدأ نشرها في عام 1898، وفي عام 1905 نشر مجموعته “قصص برلين” وبعدها قرر أن يكون كاتبا فقط وليس أي شيء آخر.
نزهة سير مألوفة عند فالزر وشخصياته
ذكر صديقه كارل زيلج أن روايته الأولى كتبها في عام 1899، بعنوان “أحفاد تانير”، وكانت أقرب إلى السيرة الذاتية، كتب فيها عن علاقته بأمه “إنني بحاجة ماسة إلى معاملة حنونة، لكن هذا لم يحدث أبداً”. لكنه لم ينشرها، بعدها كتب أربع روايات أخفى ثلاث منها ونشر فقط الرابعة “الدباغون” في عام 1907، كتب في رسالة لكارل ”سأكتب كثيرًا لدرجة أن هسه سيصيبه الرعب”.
ونشر روايات “المساعد” عام 1908، و”جاكوب فون جونتن” عام 1909، بالإضافة إلى العديد من القصص القصيرة والقصائد، وكتب كل من هرمان هسه وستيفان زفايغ وروبرت موزيل معبّرين عن إعجابهم بالكاتب الشاب الذي هجر كل شيء فجأة، لم يتحمل الفقر والصخب في برلين فعاد إلى بيرل بسويسرا في عام 1913، عاش بصحبة شقيقته وتنقل بين عدد من الوظائف غير اللائقة لكنها كانت هي فقط المتاحة، وكتب روايتين، هما “توبلد” التي مزقها في نوبة ضجر، والثانية “ثيودور” التي أضاعها الناشر.
في 1925 نشر رواية “الوردة” لكن تدهورت حالته الصحية، وانحسرت عنه الأضواء التي لازمته في برلين، وعانى نوبات اكتئاب شديدة لكنه استمر في الكتابة، ومالت تعبيراته إلى التكثيف الشديد، فتخلصت نصوصه من أي زوائد وكادت تقتصر على مقطوعات نثرية قصيرة جدا، ربما نجد فيها إرهاصات القصة الومضة أو الكتابة الشذرية. لكن عزلته واكتئابه زادا عن الحد فأصبح نهبا للهلاوس نهارا والكوابيس ليلا فتكررت محاولات الانتحار أكثر من مرة، لكنه أيضا فشل في ذلك، ولم يبق له إلا المصحة النفسية، حيث تم تشخيص حالته على أنها فصام، كان ذلك في عام 1928، وهناك في مصحة فالدو استقرت حالته فعاد للكتابة، لكن نقله دون إرادته بعد خمسة أعوام إلى مصحة سنتريوم في شرق سويسرا أدى إلى انتكاس حالته فامتنع عن الكتابة بإرادته، كتب عن ذلك في رسالة لصديق يقول “لست هنا لأكتب، بل لأصبح مجنونا”.
وعشية الاحتفال بليلة عيد الميلاد في 25 ديسمبر 1956، خرج في إحدى نزهاته الليلية المعتادة، ليلتها كانت البرودة شديدة وكان الثلج يتساقط بغزارة، لم يحتملها جسده المنهك فداهمته نوبة قلبية وسقط في الحقل ليموت وحيداً. بنفس الطريقة التي أمات بها “سيباستيان” بطل روايته “الدباغون”، ولم تكن الوفاة سوى نصف النبوءة، أما
نصفها الثاني فتمثل في حديث “سيمون” إلى الجثة التي عثر عليها في حقل مليء بالثلج، قال له ”عزيزي سيباستيان، سآخذ قصائدك إلى ناشر، كي يبقى اسمك لامعا في هذا العالم”. وهو ما تحقق أيضا فبعد خمسة عشر عاما من رحيله، وكان الصمت قد طواه تماما، فلم يكن صدر عنه إلا كتابان أولهما تزامن مع دخوله مصحة سنتريوم عام 1933، حيث نشر الناقد الألماني فالتر بنيامين أول دراسة عن أعماله، والثاني بعد وفاته بشهور، أصدره صديقه الوحيد كارل زيلج بعنوان “نزهات مع روبرت فالزر”، لكن بعد خمسة عشر عاما من رحيله وجد من يعيد اكتشافه فجمع كل أعماله، ونشرها في عشرين مجلدا ليستعيد الكاتب ألقه ويتواصل تأثيره.
[SIZE=5]مشوار المشي[/SIZE]
فالزر كان يتأمل كل ما يراه
طوال 28 سنة قضاها فالزر بالمصحة لم يكن يفعل شيئا سوى المشي وحيدا ولساعات طوال كل يوم، فالكتابة والمشي كانا وجهي عملة الحياة بالنسبة له، وكذلك للراوي في نوفيلته ”مشوار المشي” التي نقلها إلى العربية الدكتور نبيل الحفار، وصدرت في مطلع هذا العام عن دار الجمل.
المشوار هو نزهة سير مألوفة عند فالزر وشخصياته، تستمر هنا ليوم كامل، الراوي هنا شأنه شأن الكاتب في الاهتمام المفرط بالتفاصيل، والاستغراق الشديد في التأمل، والتغير الفجائي للحالة النفسية. يبدأ قصته هكذا “حضرتني رغبة في أن أتمشى، فلبست قبعتي، وغادرت غرفة الكتابة أو غرفة الأرواح، ونزلت على الدرج لأخرج بسرعة إلى الطريق”.
يعلم القارئ أن فالزر كان يصف غرفة الكتابة دائما بأنها غرفة أرواح، ولم يكن يغادرها إلا لمشوار المشي، والراوي الذي يكاد يكون قناعا له يتأمل كل ما يراه، من بشر أو جماد، ويصف الناس بأوصاف غريبة ساخرة، أول من مرّ به في مشواره هو البروفيسور مايلي، يقول عنه “فمه كان كتوما حقوقيا ومقفلا تنفيذيا، وطريقة مشيه تشبه قانونا صارما”، وفي الشارع يلتقي برجلين يصفهما هكذا “أرى فجأة قبعتين في الهواء الناعم المضيء، وتحت القبعتين يقف سيدان فاضلان”، وهكذا يستمر في سيره ملتقطا أدق التفاصيل التي تثير في نفسه السخرية أو الحزن أو الذكريات.
و”فيما كنت أنظر إلى الأرض والهواء والسماء، تملكتني الفكرة الحتمية المكتئبة، بأني سجين مسكين بين السماء والأرض، وأن الناس جميعهم على هذا النحو أسرى يُثيرون الشفقة، وأن لا منفذ أمامهم سوى إلى الحفرة المعتمة تحتهم في الأرض، وأن لا طريق هناك إلى العالم الآخر إلا عبر القبر”. وفي النهاية يموت الراوي كما مات قبله سيباستيان، بطل “الدباغون”، وكما مات الكاتب في ما بعد، وحيدا إثر مشوار مشي.
الخميس 2018/09/20
كان يمشي كل يوم ليكتب
حياة بعض الكتاب تبدو غريبة لمن يطلع على أسرارها، بين تنقلاتهم والأمراض التي فتكت ببعضهم وبين الجنون الذي يصيب البعض الآخر، لكن يبقى المثير حقا هو نبوءات الكتاب التي تتحقق، فبعضهم مثلا يتنبأ بموته ويحصل تماما كما كتب، وبعضهم يكتب عن مصير إحدى الشخصيات فيحدث معها نفس المصير كما حصل مع الكاتب السويسري روبرت فالزر.
“لا وجود لكافكا دون فالزر”، مقولة حاسمة أوردها إلياس كانيتي في كتابه “محاكمة كافكا الأخرى”، وبالرغم مما قد يراه البعض فيها من مبالغة، إلا أنه لم يكن الوحيد الذي يرى ذلك، فروبرت موزيل قال إنه كان يقرأ كافكا على أساس أنه حالة خاصة من فالزر، بل إن كافكا نفسه، وقد كان معجبا بفالزر، رآه البعض في صمته وشروده يشبه شخصية كتبها فالزر، أما سوزان سونتاج فكانت أكثر حذرا ودقه حينما وصفته بأنه الحلقة المفقودة بين هاينريش فون كلايست وفرانز كافكا، فمن هو هذا الكاتب؟
[SIZE=5]تحقق النبوءة[/SIZE]
روبرت فالزر كاتب حداثي، ولد في 15 أبريل 1878، في مدينة بيرل بسويسرا. وكان السابع بين ثمانية إخوة، أنجبهم أب فقير لم يستطع تركهم بالمدرسة لإكمال تعليمهم، وكان روبرت في الرابعة عشرة من العمر حينما غادرها ليحصل على عمل بأحد البنوك لكنه هرب بعد عام إلى شتوتغارت ليصبح ممثلًا إلا أن الفشل لازمه، فغادرها إلى برلين ليقيم ويعمل مع شقيقه الأكبر كارل الذي كان يعمل مصمما لمناظر المسرحيات ورساما للكتب. وفي برلين مارس روبرت أعمالا عديدة وكتب المقالات والقصائد التي بدأ نشرها في عام 1898، وفي عام 1905 نشر مجموعته “قصص برلين” وبعدها قرر أن يكون كاتبا فقط وليس أي شيء آخر.
نزهة سير مألوفة عند فالزر وشخصياته
ذكر صديقه كارل زيلج أن روايته الأولى كتبها في عام 1899، بعنوان “أحفاد تانير”، وكانت أقرب إلى السيرة الذاتية، كتب فيها عن علاقته بأمه “إنني بحاجة ماسة إلى معاملة حنونة، لكن هذا لم يحدث أبداً”. لكنه لم ينشرها، بعدها كتب أربع روايات أخفى ثلاث منها ونشر فقط الرابعة “الدباغون” في عام 1907، كتب في رسالة لكارل ”سأكتب كثيرًا لدرجة أن هسه سيصيبه الرعب”.
ونشر روايات “المساعد” عام 1908، و”جاكوب فون جونتن” عام 1909، بالإضافة إلى العديد من القصص القصيرة والقصائد، وكتب كل من هرمان هسه وستيفان زفايغ وروبرت موزيل معبّرين عن إعجابهم بالكاتب الشاب الذي هجر كل شيء فجأة، لم يتحمل الفقر والصخب في برلين فعاد إلى بيرل بسويسرا في عام 1913، عاش بصحبة شقيقته وتنقل بين عدد من الوظائف غير اللائقة لكنها كانت هي فقط المتاحة، وكتب روايتين، هما “توبلد” التي مزقها في نوبة ضجر، والثانية “ثيودور” التي أضاعها الناشر.
في 1925 نشر رواية “الوردة” لكن تدهورت حالته الصحية، وانحسرت عنه الأضواء التي لازمته في برلين، وعانى نوبات اكتئاب شديدة لكنه استمر في الكتابة، ومالت تعبيراته إلى التكثيف الشديد، فتخلصت نصوصه من أي زوائد وكادت تقتصر على مقطوعات نثرية قصيرة جدا، ربما نجد فيها إرهاصات القصة الومضة أو الكتابة الشذرية. لكن عزلته واكتئابه زادا عن الحد فأصبح نهبا للهلاوس نهارا والكوابيس ليلا فتكررت محاولات الانتحار أكثر من مرة، لكنه أيضا فشل في ذلك، ولم يبق له إلا المصحة النفسية، حيث تم تشخيص حالته على أنها فصام، كان ذلك في عام 1928، وهناك في مصحة فالدو استقرت حالته فعاد للكتابة، لكن نقله دون إرادته بعد خمسة أعوام إلى مصحة سنتريوم في شرق سويسرا أدى إلى انتكاس حالته فامتنع عن الكتابة بإرادته، كتب عن ذلك في رسالة لصديق يقول “لست هنا لأكتب، بل لأصبح مجنونا”.
وعشية الاحتفال بليلة عيد الميلاد في 25 ديسمبر 1956، خرج في إحدى نزهاته الليلية المعتادة، ليلتها كانت البرودة شديدة وكان الثلج يتساقط بغزارة، لم يحتملها جسده المنهك فداهمته نوبة قلبية وسقط في الحقل ليموت وحيداً. بنفس الطريقة التي أمات بها “سيباستيان” بطل روايته “الدباغون”، ولم تكن الوفاة سوى نصف النبوءة، أما
نصفها الثاني فتمثل في حديث “سيمون” إلى الجثة التي عثر عليها في حقل مليء بالثلج، قال له ”عزيزي سيباستيان، سآخذ قصائدك إلى ناشر، كي يبقى اسمك لامعا في هذا العالم”. وهو ما تحقق أيضا فبعد خمسة عشر عاما من رحيله، وكان الصمت قد طواه تماما، فلم يكن صدر عنه إلا كتابان أولهما تزامن مع دخوله مصحة سنتريوم عام 1933، حيث نشر الناقد الألماني فالتر بنيامين أول دراسة عن أعماله، والثاني بعد وفاته بشهور، أصدره صديقه الوحيد كارل زيلج بعنوان “نزهات مع روبرت فالزر”، لكن بعد خمسة عشر عاما من رحيله وجد من يعيد اكتشافه فجمع كل أعماله، ونشرها في عشرين مجلدا ليستعيد الكاتب ألقه ويتواصل تأثيره.
[SIZE=5]مشوار المشي[/SIZE]
فالزر كان يتأمل كل ما يراه
طوال 28 سنة قضاها فالزر بالمصحة لم يكن يفعل شيئا سوى المشي وحيدا ولساعات طوال كل يوم، فالكتابة والمشي كانا وجهي عملة الحياة بالنسبة له، وكذلك للراوي في نوفيلته ”مشوار المشي” التي نقلها إلى العربية الدكتور نبيل الحفار، وصدرت في مطلع هذا العام عن دار الجمل.
المشوار هو نزهة سير مألوفة عند فالزر وشخصياته، تستمر هنا ليوم كامل، الراوي هنا شأنه شأن الكاتب في الاهتمام المفرط بالتفاصيل، والاستغراق الشديد في التأمل، والتغير الفجائي للحالة النفسية. يبدأ قصته هكذا “حضرتني رغبة في أن أتمشى، فلبست قبعتي، وغادرت غرفة الكتابة أو غرفة الأرواح، ونزلت على الدرج لأخرج بسرعة إلى الطريق”.
يعلم القارئ أن فالزر كان يصف غرفة الكتابة دائما بأنها غرفة أرواح، ولم يكن يغادرها إلا لمشوار المشي، والراوي الذي يكاد يكون قناعا له يتأمل كل ما يراه، من بشر أو جماد، ويصف الناس بأوصاف غريبة ساخرة، أول من مرّ به في مشواره هو البروفيسور مايلي، يقول عنه “فمه كان كتوما حقوقيا ومقفلا تنفيذيا، وطريقة مشيه تشبه قانونا صارما”، وفي الشارع يلتقي برجلين يصفهما هكذا “أرى فجأة قبعتين في الهواء الناعم المضيء، وتحت القبعتين يقف سيدان فاضلان”، وهكذا يستمر في سيره ملتقطا أدق التفاصيل التي تثير في نفسه السخرية أو الحزن أو الذكريات.
و”فيما كنت أنظر إلى الأرض والهواء والسماء، تملكتني الفكرة الحتمية المكتئبة، بأني سجين مسكين بين السماء والأرض، وأن الناس جميعهم على هذا النحو أسرى يُثيرون الشفقة، وأن لا منفذ أمامهم سوى إلى الحفرة المعتمة تحتهم في الأرض، وأن لا طريق هناك إلى العالم الآخر إلا عبر القبر”. وفي النهاية يموت الراوي كما مات قبله سيباستيان، بطل “الدباغون”، وكما مات الكاتب في ما بعد، وحيدا إثر مشوار مشي.