مـنـى جـبّـور
- ولدت منى جبور في القبيات في لبنان في 20 سبتمبر سنة 1942،
- بدأت دراستها في القبيات، ثم في مدرسة الراهبات في طرابلس ثم في المدرسة النموذجية في فرن الشباك في بيروت. بدأت تنشر في النهار والرسالة خواطر وجدانية وشعراً منثوراً. كانت متحفظة جداً في ما يتعلق بشؤونها الخاصة، لا سيما حياتها العاطفية.
- مارست التعليم بدءا من 1960
- أولى مؤلّفات منى جبّور: “فتاة تافهة”، نشرت عام 1959 وهي في السابع عشر من عمرها
- ولها رواية ثانية بعنوان : الغربان والمسوح البيضاء
الغرف ويصفق الابواب ويدلي الجدران على رأسي فماذا افعل؟
لقد مر جورج عليّ في الصباح الباكر في طريقه الى طبيب العائلة والزوجة في الجبل عند أمه المريضة وأنا وحدي وسأنام الليلة. لم اعد اقوى على تحمل الوحدة. يجب أن اوقظ زوزو.
لكن يدي تتراجع عن لمس كتفه.
انحنيت،ُ اقبّله واقضم بعينيّ فمه الصغير وأنفه اليقظ كحارس، وجفنيه المسترخيين كالغمامة السوداء على عيني. وأبحرتُ في جبينه الابيض الواسع واهتززتُ لخصلة الشعر على جبينه فزوزو يشبه نبيلاً ويشبه هنري عيد.
وسيصبح رجلاً. لو كان رجلاً لما خفتُ الآن...
امسكتهُ اشدّه من كتفه: "زوزو، قم" وحين فتح عينيه وانفجر دفء نظره كدت اتلاشى قُبَلاً. شددتُهُ الى صدري اغرزه فيه. فأنا بحاجة لزوزو الطفل وبحاجة لزوزو الرجل، بحاجة لرجل يبذر في بطني جنيناً يتحرك وينمو ويملأ فراغي.
ولبّى زوزو حاجتي:
- مامي، اين ماما؟
ومرة ثانية:
- مامي... ألم تحضر ماما بعد؟
وثالثة:
- مامي، اريد ان اذهب عند ماما!
رفعتُه ُالعق وجهه بقبلاتي، ومددتُهُ على السرير اعبّ القبل من عينيه وجررتُهُ ورائي الى المغسلة فأنا أحبه!
ودغدغتني راحة وأنا اغسل وجهه الصغير وافرك قدميه بيدي واحمله. انها لذة كبيرة ان انتقي له من ثيابه قميصاً كحلياً، فأنا اليوم حرة بزوزو ألبسه ما اشاء واسرّح شعره الذهبي كما يحلو لي.
وفتحتُ له علبة مربى. قبّلتُهُ. جلستُ اسلّيه بحكاية. قبلّتُهُ اصلحتُ حاجبيه وقبلتُهُ، لا استطيع ان امتنع عن تقبيله.
يجب الا ادعه يمضي اليوم ويترك الوحدة تخنقني فأنا بحاجة لحماية، وبحاجة اليه.
لكن عقرب الساعة يزحف بسرعة نحو الثامنة وهذا معناه ان زوزو سيغادرني بعد دقائق الى المدرسة اود لو امسك هذا العقرب الزاحف!
اطبقت ُعلى زوزو اقبله، ابلل شعره بدمعة، واغرق في عينيه واشده الى صدري. وأنا اهذي بحكاية خرقاء. وتمنيتُ لو يظل ملتصقاً بي الى الابد، لكن زمور الاوتوكار يفصله عني فأراه يبتعد ويشد محفظته...
وانقضضتُ عليه. يجب الا ادعه يذهب. لكن الزمور يقوى، وزوزو يبتعد وركضتُ وراءه اضمه الى صدري:
- زوزو... اعطني قبلة.
وطبع شفتيه على شفتي ثم تناول رأسي وشده الى رأسه، ومضى.
وركضتُ:
- زوزو، زوزو، انتظر هل تحبني؟
حدق في وجهي.
- كثيراً احبك يا مامي.
- ومن تحب اكثر أنا ام ماما؟
فرماني ببسمة وهو يمر بيده الناعمة على وجهي:
- أنت اكثر.
واخذ يركض على الدرج واخذتُ اركض وزاد سرعته وزدت سرعتي وعندما امسكه الكاهن ورفعه الى الاوتوكار كنت اقف عند المدخل مذبوحة منهزمة.
وسارت العربة امامي فشعرتُ ان قلبي يفر من صدري ويسرع ويزيد سرعته.
تأملتها وهي تصفر كلما ابتعدت، وحين طوتها البناية الضخمة عند المنعطف المقابل استدرتُ اعدّ الدرجات.
لا اجسر على دخول البيت فأنا وحيدة وبلا حماية. لكن اين امضي؟
وتناهى الى سمعي وقع خطوات من الطابق العلوي فشعرتُ بخوف ودخلت.
أخاف وقع الخطوات، وظل وقع الخطوات يقترب ويصل الى الباب ويبتعد.
خيّل اليّ ان الغرفة تدور بي فجريتُ الى الباب امسكه والتصق به. وتراءى ان يداً تدقّ عليه.
هربتُ الى الاريكة وظلت الغرفة تدور ولم أعد اقوى على الوقوف فارتميت على الارض.
حتّام اظل ممددة كالجثة.
وتضخم خيال الموت امامي وتحول الى مارد طويل، مارد اسود ضخم، فشعرتُ بخوف وهربتُ الى الدار. ظل المارد يتبعني حين هربتُ الى المطبخ وغرفتي ولم أعد اقوى على الصمود فصرختُ وارتميتُ على السرير.
لماذا تتراجع الغمامة السوداء عن عيني؟ هذه الفاجرة ترحمني انها تعذبني.
قمتُ وعدتُ أتيه في البيت، افتح باباً واغلقه، امسك حائطاً واشدّه، ولم اشعر الا واصابعي تتسلل عبر ثياب زوزو. لم اشعر الا ووجهي يغرق في دولاب ثيابه...
انني أحب زوزو، ولم أعد اكره الاطفال، أنا بحاجة لفم يرضع من ثديي، بحاجة لرجل، ينام قربي في الفراش ويدفئ صقيعي، يطويني حنواً ويترك فيّ بذرة طفل.
اشعر انه عليّ ان ادور في البيت واتحرك، واحس ان عليّ الا اقف واترك الفراغ يدور في الغرفة وبي. ان اركض، افعل شيئاً ما، ان اقلب هذا الكرسي واحطم هذا الاناء.
وظللتُ ادور واتحرك واقلب الاثاث وانزل اللوحات الى الارض واغيّر وضع الراديو، وافتح النافذة واغلق باب الشرفة. ظللت ادور واتحرك واعمل... ولكن هل نجحت؟
الغرفة لا تزال تدور بي. والوحدة كشبح الموت تخيّم عليّ.
ماذا افعل؟
وقفتُ امام المكتبة وسحبت "دروب" الذي بنى وحدتي مع المحاضر في الندوة وسينما دنيا والصفع واللذة والسيارة والراتب وأبي وشوارع طرابلس، فكيف اهدم هذه الوحدة لأحيا وأمارس حقي؟
ارتفعت اظافري لتثأر وتهدم الوحدة فانقضت على الكتاب تحرقه وكنت ارقب بارتياح اوراقه المتناثرة في الغرفة.
وبقيتُ امزق والاوراق في الغرفة تتبعثر.
وعندما وقعت آخر ورقة هدأتُ وتأملت البلاط واشتات الورق، واهوي عليها بقدمي ادوسها وادوس معها الكيان والوحدة وقافلة الايام التي مضت كالسراب...
فالآن انتهى طور، وعليّ ان ابني طوراً آخر، عليّ ان أسير.
هربت ُمن الغرفة الى، الى الدار فالشرفة، هربتُ، هربت...
ولكن، اين أمضي؟
انني بحاجة لحماية، بحاجة لطفل، بحاجة لفم يرضع ثديي.
وأخرجت ثديي اللاهبين المكتنزين وقرّبتُ الزهرية منهما، فتململت فيهما البرودة. ارتجفتُ والصقتُ الزهرية بثديي اكثر.
لو كان هذا الاناء طفلاً لشعرتُ بحرارة.
لماذا لا يكون عندي طفل يرضع غليان دمي؟
امسكتُ الزهرية وخبطتُ الارض بها، وانقضضتُ على اجزائها ادهسها واحوّلها الى اشلاء صغيرة. وعمّتني لذة التحطيم فركضتُ نحو المطبخ وأمسكتُ بكدسة صحون. هممتُ بأن اهوي بها الى الارض لكني تذكرتُ انها ليست لي فأنا غريبة، والبيت ليس لي فأنا غريبة!
حقاً يجب ان اهرب من هذا البيت، ان اهرب من الوحدة والغربة. ولكن... هل هذا الشارع لي؟
وبقيتُ اسير...
وخيّل اليّ ان التاجر المرتخي على الباب يصفعني ويقول: غريبة.
فركضتُ أجلس في سيارة السرفيس فسيارتي مع جورج. ولكن، هل السيارة لي؟ لم ادفع بعد من ثمنها الا جزءاً تافهاً.
السيارة ليست لي وغرفتي ليست لي. أنا لا املك شيئاً. متى املك شيئاً واصبح حرة في تحطيم كدسة صحون في بيتي؟ تمنيتُ لو تكمل هذه السيارة انطلاقها لكنها بصقتني عند البرج وتركتني.
اين امضي؟
لا ادري. بل ادري! انني أبحث عن شعور احسستُهُ قرب نبيل، واحسستُهُ قرب جورج، واحسستُهُ عندما جمعني الفراش بزوزو. عن شيء يكون لي، عن حرارة لثديي، عن حماية!
ورحت أبحث في عيون المارة، وتوقفت امام سيارة تنهب الشارع، وتوقفت امام الترام الصاخب.
لماذا لا اموت؟
يجب الا اموت.
وعدتُ افتش عن شيء يخصني وانسان يساعدني في سحق الغربة ويترك لي حرية تحطيم كدسة صحون في مطبخ يكون لي.
وتهتُ. واخيراً توقفت.
مَن هذا الذي يمر؟ مَن؟ هنري عيد!؟
ركضتُ نحوه ولحقت به الى الرصيف المقابل. كادت سيارة تجتاحني وأنا اقطع. وصفّر لي البوليس. لم اقف. ظللت اركض وصرخت: "هنري! هنري!"، واخيراً وجدتُني امام سمرة جبينه الهادئ والدمعة الذائبة في عينيه.
امسكتُُ يده بكلتا يدي، شددتُ عليها، كدت ارفعها الى فمي.
ونزع هنري يده من يدي!
- ندى هل أصابك شيء؟
وعدت اتمسك بيده. ماذا يهمني من الناس؟ "اريد" الاّ اترك هذه اليد.
وعاد هنري يشد يده من يدي:
- ندى، مع الاسف، لقد انتهى كل شيء...
انظري المحبس... وهذه الآنسة خطيبتي.
نقلتُ نظري بين لمعان المحبس في يده اليمنى والفجور في عيني الفتاة الممسكة بزنده ونقلتُ نظري من سمرة جبينه الى قدميه المبتعدتين عني، ونقلتُ نظري من قدميه الى الشارع ومن الارض الى السيارة المجنونة امامي، وفكرت:
الآن، اين امضي؟
وعدتُ اسير. هل أنا في حلم؟ وقعت على الارض امام الاوتوماتيك فركض اليّ مصوّر: "ماذا بك؟".
وقفتُ وتمنيت لو اشده الى صدري واقول له: تزوجني. تمنيت لو يحملني ويعرّيني ويحوّلني الى أم، الى أم طفل. تمنيت لو يمدني على سرير عارية ويسلخ ثديي ويرضع منهما الحليب... لكنه تركني ومضى.
واتكأت على الحائط ارقب الشارع واحواض النبات الاخضر في المقهى، والباب الزجاجي المتحرك. وفتشت بين المارة عن خصلة شعر تائهة على جبين، وبين السيارات عن سيارة حمراء، وبين أفواه المارة عن فم فسخته الشهوة.
وانتقلتُ الى داخل الاوتوماتيك وهبطتُ الى الطابق السفلي. وبين المقاعد فتشتُ كذلك. وتهالكتُ على المقعد عند البركة الزرقاء واخذت ابكي.
اين نبيل!
لكن هل يتزوجني نبيل؟ هل يهبني بيتاً يكون لي ويطرد الغربة من حياتي؟
كلا، مستحيل، فنبيل لا يزال طالباً في الجامعة.
وخرجت.
اتكأتُ على واجهة ثم عدت أمشي.
شعرتُ بالانحلال فوقعتُ ثم قمتُ ثم وقعتُ وقمت.
وارتميتُ في سيارة وضعتني امام مدخل البيت. لكن لماذا اقصد هذا البيت ما دام ليس لي؟ لماذا اخرج المفتاح من محفظتي ما دامت الغرفة ليست لي؟
اغلقتُ الباب وارتميتُ على الارض. الورق المبعثر يخنقني. يجب ان اهرب ولكن اين؟
اخرجتُ من الخزانة قميصاً قديماً طويتُه ودسستُه تحت ثوبي...
بطني الآن منفوخ... أنا حبلى!!
تمشيتُ امام المرآة: أنا حبلى: ليتني استطيع تقبيل بطني المنفوخ!
يلزمني رجل اتعمشق بيده واطرد الغربة.
وسقط القميص من تحت ثوبي. ورأيتُ بطني امام المرآة ممسداً فارغاً فصعقت.
انشبتُ اظافري في بطني أمزقه، أمزق ثوبي، اشد لحمي الى الخارج لينتفخ، لأصبح حبلى.
لم ينتفخ، ولم اشعر بحرارة تدفئ ثديي، فرجعتُ الى الوراء والتصقتُ بالحائط وتأملتُ الورق المبعثر على الارض والزجاج المحطّم والقميص القديم...
وارتميتُ على الدرج، واخذت اسير.
أين امضي؟
إنني افتش عن رجل يطرد غربتي ويترك لي حرية تحطيم كدسة صحون في مطبخ يكون لي، في بيت يكون لي.
ورحتُ اسير، واسير، واسير، أبحث عن حرارة لثديي.
ولا أزال أسير دون أن ادري الى اين امضي.
==================من «فتاة تافهة»
واتكأت على الحائط أرقب الشارع وأحواض النبات الأخضر في المقهى، والباب الزجاجي المتحرك. وفتشت بين المارة عن خصلة شعر تائهة على جبين، وبين السيارات عن سيارة حمراء، وبين أفواه المارة عن فم فسخته الشهوة.
وانتقلت إلى داخل الأوتوماتيك وهبطت إلى الطابق السفلي. وبين المقاعد فتشت كذلك. وتهالكت على المقعد عند البركة الزرقاء وأخذت أبكي.
أين نبيل!
لكن هل يتزوجني نبيل؟ هل يهبني بيتاً يكون لي ويطرد الغربة من حياتي؟
كلا، مستحيل، فنبيل لا يزال طالباً في الجامعة.
وخرجت.
اتكأت على واجهة ثم عدت أمشي.
شعرت بالانحلال فوقعت ثم قمت ثم وقعت وقمت.
وارتميت في سيارة وضعتني أمام مدخل البيت. لكن لماذا أقصد هذا البيت ما دام ليس لي؟ لماذا أخرج المفتاح من محفظتي ما دامت الغرفة ليست لي؟
أغلقت الباب وارتميت على الأرض. الورق المبعثر يخنقني. يجب أن أهرب ولكن أين؟
اخرجت من الخزانة قميصاً قديماً طويته ودسسته تحت ثوبي...
بطني الآن منفوخ... أنا حبلى!!
تمشيت أمام المرآة: أنا حبلى: ليتني أستطيع تقبيل بطني المنفوخ!
يلزمني رجل أتعمشق بيده وأطرد الغربة.
وسقط القميص من تحت ثوبي. ورأيت بطني أمام المرآة ممسداً فارغاً فصعقت.
انشبت أظافري في بطني أمزقه، أمزق ثوبي، أشد لحمي إلى الخارج لينتفخ، لأصبح حبلى.
لم ينتفخ، ولم أشعر بحرارة تدفئ ثديي، فرجعت إلى الوراء والتصقت بالحائط وتأملت الورق المبعثر على الأرض والزجاج المحطّم والقميص القديم...
وارتميت على الدرج، وأخذت أسير.
أين أمضي؟
إنني أفتش عن رجل يطرد غربتي ويترك لي حرية تحطيم كدسة صحون في مطبخ يكون لي، في بيت يكون لي.
ورحت أسير، وأسير، وأسير، أبحث عن حرارة لثديي.
ولا أزال أسير دون أن أدري الى أين أمضي.
- ولدت منى جبور في القبيات في لبنان في 20 سبتمبر سنة 1942،
- بدأت دراستها في القبيات، ثم في مدرسة الراهبات في طرابلس ثم في المدرسة النموذجية في فرن الشباك في بيروت. بدأت تنشر في النهار والرسالة خواطر وجدانية وشعراً منثوراً. كانت متحفظة جداً في ما يتعلق بشؤونها الخاصة، لا سيما حياتها العاطفية.
- مارست التعليم بدءا من 1960
- أولى مؤلّفات منى جبّور: “فتاة تافهة”، نشرت عام 1959 وهي في السابع عشر من عمرها
- ولها رواية ثانية بعنوان : الغربان والمسوح البيضاء
الغرف ويصفق الابواب ويدلي الجدران على رأسي فماذا افعل؟
لقد مر جورج عليّ في الصباح الباكر في طريقه الى طبيب العائلة والزوجة في الجبل عند أمه المريضة وأنا وحدي وسأنام الليلة. لم اعد اقوى على تحمل الوحدة. يجب أن اوقظ زوزو.
لكن يدي تتراجع عن لمس كتفه.
انحنيت،ُ اقبّله واقضم بعينيّ فمه الصغير وأنفه اليقظ كحارس، وجفنيه المسترخيين كالغمامة السوداء على عيني. وأبحرتُ في جبينه الابيض الواسع واهتززتُ لخصلة الشعر على جبينه فزوزو يشبه نبيلاً ويشبه هنري عيد.
وسيصبح رجلاً. لو كان رجلاً لما خفتُ الآن...
امسكتهُ اشدّه من كتفه: "زوزو، قم" وحين فتح عينيه وانفجر دفء نظره كدت اتلاشى قُبَلاً. شددتُهُ الى صدري اغرزه فيه. فأنا بحاجة لزوزو الطفل وبحاجة لزوزو الرجل، بحاجة لرجل يبذر في بطني جنيناً يتحرك وينمو ويملأ فراغي.
ولبّى زوزو حاجتي:
- مامي، اين ماما؟
ومرة ثانية:
- مامي... ألم تحضر ماما بعد؟
وثالثة:
- مامي، اريد ان اذهب عند ماما!
رفعتُه ُالعق وجهه بقبلاتي، ومددتُهُ على السرير اعبّ القبل من عينيه وجررتُهُ ورائي الى المغسلة فأنا أحبه!
ودغدغتني راحة وأنا اغسل وجهه الصغير وافرك قدميه بيدي واحمله. انها لذة كبيرة ان انتقي له من ثيابه قميصاً كحلياً، فأنا اليوم حرة بزوزو ألبسه ما اشاء واسرّح شعره الذهبي كما يحلو لي.
وفتحتُ له علبة مربى. قبّلتُهُ. جلستُ اسلّيه بحكاية. قبلّتُهُ اصلحتُ حاجبيه وقبلتُهُ، لا استطيع ان امتنع عن تقبيله.
يجب الا ادعه يمضي اليوم ويترك الوحدة تخنقني فأنا بحاجة لحماية، وبحاجة اليه.
لكن عقرب الساعة يزحف بسرعة نحو الثامنة وهذا معناه ان زوزو سيغادرني بعد دقائق الى المدرسة اود لو امسك هذا العقرب الزاحف!
اطبقت ُعلى زوزو اقبله، ابلل شعره بدمعة، واغرق في عينيه واشده الى صدري. وأنا اهذي بحكاية خرقاء. وتمنيتُ لو يظل ملتصقاً بي الى الابد، لكن زمور الاوتوكار يفصله عني فأراه يبتعد ويشد محفظته...
وانقضضتُ عليه. يجب الا ادعه يذهب. لكن الزمور يقوى، وزوزو يبتعد وركضتُ وراءه اضمه الى صدري:
- زوزو... اعطني قبلة.
وطبع شفتيه على شفتي ثم تناول رأسي وشده الى رأسه، ومضى.
وركضتُ:
- زوزو، زوزو، انتظر هل تحبني؟
حدق في وجهي.
- كثيراً احبك يا مامي.
- ومن تحب اكثر أنا ام ماما؟
فرماني ببسمة وهو يمر بيده الناعمة على وجهي:
- أنت اكثر.
واخذ يركض على الدرج واخذتُ اركض وزاد سرعته وزدت سرعتي وعندما امسكه الكاهن ورفعه الى الاوتوكار كنت اقف عند المدخل مذبوحة منهزمة.
وسارت العربة امامي فشعرتُ ان قلبي يفر من صدري ويسرع ويزيد سرعته.
تأملتها وهي تصفر كلما ابتعدت، وحين طوتها البناية الضخمة عند المنعطف المقابل استدرتُ اعدّ الدرجات.
لا اجسر على دخول البيت فأنا وحيدة وبلا حماية. لكن اين امضي؟
وتناهى الى سمعي وقع خطوات من الطابق العلوي فشعرتُ بخوف ودخلت.
أخاف وقع الخطوات، وظل وقع الخطوات يقترب ويصل الى الباب ويبتعد.
خيّل اليّ ان الغرفة تدور بي فجريتُ الى الباب امسكه والتصق به. وتراءى ان يداً تدقّ عليه.
هربتُ الى الاريكة وظلت الغرفة تدور ولم أعد اقوى على الوقوف فارتميت على الارض.
حتّام اظل ممددة كالجثة.
وتضخم خيال الموت امامي وتحول الى مارد طويل، مارد اسود ضخم، فشعرتُ بخوف وهربتُ الى الدار. ظل المارد يتبعني حين هربتُ الى المطبخ وغرفتي ولم أعد اقوى على الصمود فصرختُ وارتميتُ على السرير.
لماذا تتراجع الغمامة السوداء عن عيني؟ هذه الفاجرة ترحمني انها تعذبني.
قمتُ وعدتُ أتيه في البيت، افتح باباً واغلقه، امسك حائطاً واشدّه، ولم اشعر الا واصابعي تتسلل عبر ثياب زوزو. لم اشعر الا ووجهي يغرق في دولاب ثيابه...
انني أحب زوزو، ولم أعد اكره الاطفال، أنا بحاجة لفم يرضع من ثديي، بحاجة لرجل، ينام قربي في الفراش ويدفئ صقيعي، يطويني حنواً ويترك فيّ بذرة طفل.
اشعر انه عليّ ان ادور في البيت واتحرك، واحس ان عليّ الا اقف واترك الفراغ يدور في الغرفة وبي. ان اركض، افعل شيئاً ما، ان اقلب هذا الكرسي واحطم هذا الاناء.
وظللتُ ادور واتحرك واقلب الاثاث وانزل اللوحات الى الارض واغيّر وضع الراديو، وافتح النافذة واغلق باب الشرفة. ظللت ادور واتحرك واعمل... ولكن هل نجحت؟
الغرفة لا تزال تدور بي. والوحدة كشبح الموت تخيّم عليّ.
ماذا افعل؟
وقفتُ امام المكتبة وسحبت "دروب" الذي بنى وحدتي مع المحاضر في الندوة وسينما دنيا والصفع واللذة والسيارة والراتب وأبي وشوارع طرابلس، فكيف اهدم هذه الوحدة لأحيا وأمارس حقي؟
ارتفعت اظافري لتثأر وتهدم الوحدة فانقضت على الكتاب تحرقه وكنت ارقب بارتياح اوراقه المتناثرة في الغرفة.
وبقيتُ امزق والاوراق في الغرفة تتبعثر.
وعندما وقعت آخر ورقة هدأتُ وتأملت البلاط واشتات الورق، واهوي عليها بقدمي ادوسها وادوس معها الكيان والوحدة وقافلة الايام التي مضت كالسراب...
فالآن انتهى طور، وعليّ ان ابني طوراً آخر، عليّ ان أسير.
هربت ُمن الغرفة الى، الى الدار فالشرفة، هربتُ، هربت...
ولكن، اين أمضي؟
انني بحاجة لحماية، بحاجة لطفل، بحاجة لفم يرضع ثديي.
وأخرجت ثديي اللاهبين المكتنزين وقرّبتُ الزهرية منهما، فتململت فيهما البرودة. ارتجفتُ والصقتُ الزهرية بثديي اكثر.
لو كان هذا الاناء طفلاً لشعرتُ بحرارة.
لماذا لا يكون عندي طفل يرضع غليان دمي؟
امسكتُ الزهرية وخبطتُ الارض بها، وانقضضتُ على اجزائها ادهسها واحوّلها الى اشلاء صغيرة. وعمّتني لذة التحطيم فركضتُ نحو المطبخ وأمسكتُ بكدسة صحون. هممتُ بأن اهوي بها الى الارض لكني تذكرتُ انها ليست لي فأنا غريبة، والبيت ليس لي فأنا غريبة!
حقاً يجب ان اهرب من هذا البيت، ان اهرب من الوحدة والغربة. ولكن... هل هذا الشارع لي؟
وبقيتُ اسير...
وخيّل اليّ ان التاجر المرتخي على الباب يصفعني ويقول: غريبة.
فركضتُ أجلس في سيارة السرفيس فسيارتي مع جورج. ولكن، هل السيارة لي؟ لم ادفع بعد من ثمنها الا جزءاً تافهاً.
السيارة ليست لي وغرفتي ليست لي. أنا لا املك شيئاً. متى املك شيئاً واصبح حرة في تحطيم كدسة صحون في بيتي؟ تمنيتُ لو تكمل هذه السيارة انطلاقها لكنها بصقتني عند البرج وتركتني.
اين امضي؟
لا ادري. بل ادري! انني أبحث عن شعور احسستُهُ قرب نبيل، واحسستُهُ قرب جورج، واحسستُهُ عندما جمعني الفراش بزوزو. عن شيء يكون لي، عن حرارة لثديي، عن حماية!
ورحت أبحث في عيون المارة، وتوقفت امام سيارة تنهب الشارع، وتوقفت امام الترام الصاخب.
لماذا لا اموت؟
يجب الا اموت.
وعدتُ افتش عن شيء يخصني وانسان يساعدني في سحق الغربة ويترك لي حرية تحطيم كدسة صحون في مطبخ يكون لي.
وتهتُ. واخيراً توقفت.
مَن هذا الذي يمر؟ مَن؟ هنري عيد!؟
ركضتُ نحوه ولحقت به الى الرصيف المقابل. كادت سيارة تجتاحني وأنا اقطع. وصفّر لي البوليس. لم اقف. ظللت اركض وصرخت: "هنري! هنري!"، واخيراً وجدتُني امام سمرة جبينه الهادئ والدمعة الذائبة في عينيه.
امسكتُُ يده بكلتا يدي، شددتُ عليها، كدت ارفعها الى فمي.
ونزع هنري يده من يدي!
- ندى هل أصابك شيء؟
وعدت اتمسك بيده. ماذا يهمني من الناس؟ "اريد" الاّ اترك هذه اليد.
وعاد هنري يشد يده من يدي:
- ندى، مع الاسف، لقد انتهى كل شيء...
انظري المحبس... وهذه الآنسة خطيبتي.
نقلتُ نظري بين لمعان المحبس في يده اليمنى والفجور في عيني الفتاة الممسكة بزنده ونقلتُ نظري من سمرة جبينه الى قدميه المبتعدتين عني، ونقلتُ نظري من قدميه الى الشارع ومن الارض الى السيارة المجنونة امامي، وفكرت:
الآن، اين امضي؟
وعدتُ اسير. هل أنا في حلم؟ وقعت على الارض امام الاوتوماتيك فركض اليّ مصوّر: "ماذا بك؟".
وقفتُ وتمنيت لو اشده الى صدري واقول له: تزوجني. تمنيت لو يحملني ويعرّيني ويحوّلني الى أم، الى أم طفل. تمنيت لو يمدني على سرير عارية ويسلخ ثديي ويرضع منهما الحليب... لكنه تركني ومضى.
واتكأت على الحائط ارقب الشارع واحواض النبات الاخضر في المقهى، والباب الزجاجي المتحرك. وفتشت بين المارة عن خصلة شعر تائهة على جبين، وبين السيارات عن سيارة حمراء، وبين أفواه المارة عن فم فسخته الشهوة.
وانتقلتُ الى داخل الاوتوماتيك وهبطتُ الى الطابق السفلي. وبين المقاعد فتشتُ كذلك. وتهالكتُ على المقعد عند البركة الزرقاء واخذت ابكي.
اين نبيل!
لكن هل يتزوجني نبيل؟ هل يهبني بيتاً يكون لي ويطرد الغربة من حياتي؟
كلا، مستحيل، فنبيل لا يزال طالباً في الجامعة.
وخرجت.
اتكأتُ على واجهة ثم عدت أمشي.
شعرتُ بالانحلال فوقعتُ ثم قمتُ ثم وقعتُ وقمت.
وارتميتُ في سيارة وضعتني امام مدخل البيت. لكن لماذا اقصد هذا البيت ما دام ليس لي؟ لماذا اخرج المفتاح من محفظتي ما دامت الغرفة ليست لي؟
اغلقتُ الباب وارتميتُ على الارض. الورق المبعثر يخنقني. يجب ان اهرب ولكن اين؟
اخرجتُ من الخزانة قميصاً قديماً طويتُه ودسستُه تحت ثوبي...
بطني الآن منفوخ... أنا حبلى!!
تمشيتُ امام المرآة: أنا حبلى: ليتني استطيع تقبيل بطني المنفوخ!
يلزمني رجل اتعمشق بيده واطرد الغربة.
وسقط القميص من تحت ثوبي. ورأيتُ بطني امام المرآة ممسداً فارغاً فصعقت.
انشبتُ اظافري في بطني أمزقه، أمزق ثوبي، اشد لحمي الى الخارج لينتفخ، لأصبح حبلى.
لم ينتفخ، ولم اشعر بحرارة تدفئ ثديي، فرجعتُ الى الوراء والتصقتُ بالحائط وتأملتُ الورق المبعثر على الارض والزجاج المحطّم والقميص القديم...
وارتميتُ على الدرج، واخذت اسير.
أين امضي؟
إنني افتش عن رجل يطرد غربتي ويترك لي حرية تحطيم كدسة صحون في مطبخ يكون لي، في بيت يكون لي.
ورحتُ اسير، واسير، واسير، أبحث عن حرارة لثديي.
ولا أزال أسير دون أن ادري الى اين امضي.
==================من «فتاة تافهة»
واتكأت على الحائط أرقب الشارع وأحواض النبات الأخضر في المقهى، والباب الزجاجي المتحرك. وفتشت بين المارة عن خصلة شعر تائهة على جبين، وبين السيارات عن سيارة حمراء، وبين أفواه المارة عن فم فسخته الشهوة.
وانتقلت إلى داخل الأوتوماتيك وهبطت إلى الطابق السفلي. وبين المقاعد فتشت كذلك. وتهالكت على المقعد عند البركة الزرقاء وأخذت أبكي.
أين نبيل!
لكن هل يتزوجني نبيل؟ هل يهبني بيتاً يكون لي ويطرد الغربة من حياتي؟
كلا، مستحيل، فنبيل لا يزال طالباً في الجامعة.
وخرجت.
اتكأت على واجهة ثم عدت أمشي.
شعرت بالانحلال فوقعت ثم قمت ثم وقعت وقمت.
وارتميت في سيارة وضعتني أمام مدخل البيت. لكن لماذا أقصد هذا البيت ما دام ليس لي؟ لماذا أخرج المفتاح من محفظتي ما دامت الغرفة ليست لي؟
أغلقت الباب وارتميت على الأرض. الورق المبعثر يخنقني. يجب أن أهرب ولكن أين؟
اخرجت من الخزانة قميصاً قديماً طويته ودسسته تحت ثوبي...
بطني الآن منفوخ... أنا حبلى!!
تمشيت أمام المرآة: أنا حبلى: ليتني أستطيع تقبيل بطني المنفوخ!
يلزمني رجل أتعمشق بيده وأطرد الغربة.
وسقط القميص من تحت ثوبي. ورأيت بطني أمام المرآة ممسداً فارغاً فصعقت.
انشبت أظافري في بطني أمزقه، أمزق ثوبي، أشد لحمي إلى الخارج لينتفخ، لأصبح حبلى.
لم ينتفخ، ولم أشعر بحرارة تدفئ ثديي، فرجعت إلى الوراء والتصقت بالحائط وتأملت الورق المبعثر على الأرض والزجاج المحطّم والقميص القديم...
وارتميت على الدرج، وأخذت أسير.
أين أمضي؟
إنني أفتش عن رجل يطرد غربتي ويترك لي حرية تحطيم كدسة صحون في مطبخ يكون لي، في بيت يكون لي.
ورحت أسير، وأسير، وأسير، أبحث عن حرارة لثديي.
ولا أزال أسير دون أن أدري الى أين أمضي.