ملخص:
كانت ولادة الروايات الجزائرية الأولى المكتوبة باللغة الفرنسية عسيرة. أثر الاحتلال الفرنسي الذي تزامن وجوده و ظهور هذه الأعمال المنتجة من طرف الجزائريين سلبا على إشكالية هوية هذا الأدب. أكان أدبا جزائريا أم فرنسيا ؟ وبتعدد الإجابات تظهر إشكالات جديدة هي الأخرى عاجزة على حل مشكل الهوية في أدب كتب بلغة مغايرة للغة الأمة. ومن جهة أخرى ، فإن ظاهرة الكتابة الروائية بلغة المستعمر لم تكن خاصية جزائرية ، إنما مست كذلك بلدان أخرى من إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية ، هذه البلدان التي عانت وبأشكال مختلفة ومتفاوتة من هذه المعضلة، وبتجاوز هذه القضية الحدود السياسية واللغوية ، أصبحت بطبيعة الحال شئنا يتعلق بالأدب المقارن الذي كان في الأصل من اختصاص الفرنسيين الذين ينطلقون في دراساتهم لهذه القضايا ، من مبدأ عدم القدرة على مقارنة أدبين إلا من خلال الحدود اللسانية.
لذا، فإن أولى الروايات الجزائرية المكتوبة باللغة الفرنسية في فترة ما بين الحربين قد تضررت من إشكاليتي الهوية وظاهرة الإدماج الذي تبناه ظاهريا هؤلاء الكتاب كخطاب أيديولوجي للتعبير عن انبهارهم الشديد بحضارة المستعمرين ، ذلك حسب الدراسات الأولى التي وضعتها المدرسة الأدبية الفرنسية بقيادة الباحث المتخصص جون ديجو(Jean Déjeux)
تقترح هذه الرسالة تقديما لأولى الروايات الجزائرية المكتوبة من طرف جزائريين مسلمين بلغة المستعمر. والأكيد أن هذا الأدب الجزائري المكتوب باللغة الفرنسية في الفترة المذكورة بقي مجهولا ومهشما، ليس إلا من طرف الجمهور الواسع ولكن حتى من طرف الباحثين الاختصاصيين المهتمين بالأدب الفرنكافوني في البلدان المغاربية إبان الاحتلال الفرنسي ،
ولقد وقع اختيارنا على هذه المدونة التي تضم خمس(05) روايات كتبت ونشرت في الفترة الممتدة ما بين 1920و 1945م أجل محاولة فهم ميكانزمات سير وعمل هذا الإنتاج الأدبي الذي نشأ في ظروف اجتماعية وتاريخية وثقافية خاصة .
وبالرغم من أن هذه الروايات أدرجت اعتباطيا في صنف الرواية الأطروحة وأنها تظهر في اسطرها الأولى نوعا من الخطاب الأيديولوجي الذي يمدح الإدماج لكنها أنها سرعان ما تكشف النقاب عن خطاب ثان ينمو من خلال السرد ليعلن عن فشل الخطاب الأول ويعبر عن الحاجة في العودة إلى الهوية الأصلية التي صادرها المستعمر الذي قيل عنه أنه ممدن .
المقدمة:
لكل أمة أدب يسجل، شفويا كان أم مكتوبا، مغامرات وملامح وبطولات السابقين. فيحفظ ويدرس في مدارسها وجامعاتها حتى يبقى من مكونات الشخصية المحافظة على هويتها خاصة إذا دوّن هذا الأدب في اللغة الأم. وهذا ما يطرح إشكالية جنسية الأدب للعديد من الشعوب التي استعمرت فترات طويلة من الزمن حيث حرمت من كل حقوقها ومن أهمها اللغة والدين كما هو الشأن بالنسبة للجزائريين الذين سلبت منهم اللغة العربية؛ فحاولت مجموعة من المثقفين إسماع صوت الجزائر إلى" الآخر" عن طريق لغته، هذا ما دفعنا في تناول موضوع إشكالية جنسية الأدب الجزائري المكتوب باللغة الفرنسية، هذا الموضوع الذي جلب اهتمام بعض الدارسين الذين ركزوا بالأخص على النص الروائي المتكامل الذي فرض نفسه بداية من الخمسينيات مع : مولود فرعون، محمد ديب ،كاتب ياسين وغيرهم، لكن وقبل الوصول إلى روائع هؤلاء ألم تكن هناك خطوة أصعب من التي تلتها في هذا المجال؟ نقصد بذلك المؤلفات الجزائرية المكتوبة بالفرنسية في فترة ما بين الحربين ( 1945،1920) وما نعتبره بواكير الرواية الجزائرية التي همشت أو تناولها النقاد للحكم عليها بغير الناضجة،كما استقبلت أحيانا بالرفض عند الجزائريين عندما كانت الأسباب الأيديولوجية والسياسية توضح الموقف الرسمي المحتشم إزاء هذا الإنتاج الذي اعتبر أحيانا مضادا للوطنية، لكن هل نستطيع فعلا حرمان كتاب هذه الفترة العسيرة من حياه الأمة من التمتع بصفتهم مؤسسين لفضاء أدبي جزائري يشتغل مكانه ضمن التاريخ الفكري وكتب ليرد بطريقته وأسلوبه على الآخر في وقت لم تكتمل فيه الرواية الجزائرية المكتوبة بالعربية إلا في سنة 1947م. لذا كان لا بد من هذه الدراسة كمحاولة منا لنمكن القارئ من الإطلاع على مدى تعلق جذور هذا الإنتاج في أصول الأدب الجزائري العربي شفويا أو مكتوبا كان حتى ولو تأثر شكلا ومضمونا بالرواية الفرنسية عامة وبالأدب الاستعماري خاصة.
وبعد قراءة شخصية لبعض المؤلفات للفترة المذكورة، كان لزاما علينا أن نعي ببعض الإشكاليات التي يطرحها هذا الأدب، سواء على المستوى الفكري أو الفني، كما كان هناك سبب موضوعي دفعنا إلى قراءة جدية للموضوع ألا وهو ما لاحظناه من قلة اهتمام لدى الجزائريين عندما يتعلق الأمر بترجمة أو دراسة هذا الأدب أو الكتابة عنه لأن معظم ما ترجم منه ونشر باللغة العربية تم على يد الأشقاء المصريين والسوريين ، ومعظم ما وضع من الدراسات عنه كان على يد الغربيين باللغة الفرنسية واللبنانيين باللغة العربية، ثم إن أقسام الأدب في جامعتنا لا تولي اهتماما كبيرا، لا باللغة العربية ولا باللغة الفرنسية للأدب الجزائري المكتوب في هاتين اللغتين، الشيء الذي كرّس القطيعة والتجاهل المتبادل بين المثقفين بهذه اللغة أو بتلك.
انطلاقا مما سبق من اعتبارات ذاتية وموضوعية، اخترنا هذا البحث الذي حدّد عنوانه ب:" كتابة الهوية في الرواية الجزائرية المكتوبة بالغة الفرنسية ( 1945،1920)، هذا العنوان الذي يطرح إشكالية النقاش فيما يخص موضوع الهوية ، إذ هناك من ينكر على هذا الأدب جزائريته ويعدُّه بسبب لغته أدبا فرنسيا، وهناك من يعده بسبب الروح التي كتب بها ، أدبا جزائريا خالصا ، ولكل فريق حجته وأسانيده لكن هذا ليس اهتمامنا وإنما نريد تتبع تاريخه والإحاطة بمختلف مراحله، والتعمق في مضامينه ومسألة نصوصه المختارة مباشرة دون وسيط ولا شك أن هذا لم يمنعنا من إعطاء الأهمية لأداء الدارسين مهما كانت وإنما هذا يعني أننا تمنحنا الأولوية للنصوص الأصلية الأولى واستخلاص من النتائج منها بعد قراءتها وخاصة النصوص الروائية التي صدرت في العشرينيات والثلاثينيات والأربعينيات من القرن المنصرم، وهي النصوص التي تعود معظم الدارسين إصدار الأحكام الجاهزة بشأنهادون أن يكلفوا أنفسهم عناء دراستها في عمقها متأثرين بأحكام أشهر الدراسات للأب "جون دي جو" Jean Déjeux) ( الذي وإن كان لا يباري في وفرة مؤلفاته في هذا المجال إلا أنه لم يكن منصفا في حق الكتاب المغاربة إذ جردهم في كثير من الأحيان من اكتساب لمسة فنية أو فكرية وجعلهم فقط تلاميذ يتعلمون الإنشاء محاولين إظهار قدراتهم اللغوية المكتسبة عن أساتذتهم الفرنسيين رغم أن هؤلاء كانوا أصحاب ثقافة عربية وفرنسية عالية ومنهم من يمتلك موهبة روائية خارقة للعادة آنذاك ولم يمثلوا شيئا من الصورة التي رسمها لهم الأب 'ديجو' ومن اعتمد آراءه من الباحثين الجزائريين الذين نقلوا أعماله بكل أمانة دون الرجوع إلى النصوص الأصلية لتلك الفترة حتى بلغ ذلك نوع من الظلم اتجاه هؤلاء الكتاب، الذين وبالرغم من "إندماجيتهم" الظاهرية لأنهم لم يتعلقوا بها في حقيقة الأمر إلا حرصا على فكرة المساواة بين المستوطنين والجزائريين، قد دافعوا فعلا عن هوية الشعب الجزائري وعن كيانه ووجوده، وعن حقه في صيانة دينه وتعلم لغته والحفاظ على مقوماته الأساسية ، من هنا كانت عنايتنا بهؤلاء الكتاب والقراءة لهم، انطلاقا من نصوص روايتهم الأولى ابتداء من 1920م وحتى إلى الخمسينات حيث لم تنل تلك النصوص هي الأخرى حظها من التحليل رغم كل ما كتب عنها لمّا كان الاهتمام منصب غالبا على الظروف التاريخية التي أحاطت بها.
تتضمن دراستنا في أجزائها بدايات الأدب الجزائري المكتوب باللغة الفرنسية في الفترة ما بين الحربين وذلك بالتعرف على نشأة هذا الأدب وأهم كتابه ثم يلي الباب الثاني الذي يلخص الخيال الروائي وتناول دراسة روايات المدونة بالتحليل تتبعه خلاصة لهذا الجزء. في نهاية المطاف،نصل إلى خاتمة الموضوع التي تلخص لنا مراحل هذه القراءة المتواضعة في ما كتبوه روائيونا باللغة الفرنسية في فترة ما بين الحربين والتي تعتبر قاعدة تحضير، وفي كل المجالات لثورة التحرير الكبرى.
-1- بواكير أدب:
"أول الروائيين الجزائريين باللغة الفرنسية (1920-1940)
في نص موجه للمعلمين صدر له في "نشرية أكاديمية الجزائر" كتب ب برنارد في سنة 1908 والذي كان يشغل وقتها منصب مدير مدرسة الأساتذة لبوزريعة: "الجزائر مستعمرة من نوع خاص، مستعمرة موجة للتوطين لا تبعد إلا بأربع وعشرين ساعة عن فرنسا البلد الأم، لسنا بحاجة إلى تقوية اللغة العربية وبخاصة في أشكالها الإقليمية والمحلية ، تلك المستعملة كلهجات في التعاملات اليومية . أول اهتمام لشعب غازي يكمن في رأيي في إزالة وفي أسرع وقت ممكن لغة رعاياه الجدد(.....)
الفرنسية هي التي يجب المساعدة في نشرها وكل ما يمنح للعربية- وهنا أعترف بأننا مجبرون في ظل الظروف الحالية فعل شيء لهذه اللغة- هو مفقود بالنسبة لفرنسا.
يشكل مثل هذا التحجج أحد العناصر الأساسية في سياسة الإدماج عن طريق المدرسة ويعطى فكرة واضحة عن المشروع الاستعماري ويفسر ولو جزئيا وضعية اللغات في الجزائر اليوم والشغف المفرط الذي يحيط بها.
من الضروري وقبل التطرق للنصوص الأدبية الأولى المكتوبة باللغة الفرنسية وبأقلام جزائرية التذكير ولو بإيجاز بمراحل الفرنسة التي وضعها النظام الاستعماري. لم يقتصر المستعمر على إدخال الفرنسية بل عمل على تقويتها بوضع الأسس لمستعمرة توطين. وهكذا فإن هذه اللغة الأجنبية فرضت نفسها كلغة أولى في الحياة الاجتماعية والحياة الإدارية والقضائية، كما في الصحافة أيضا وسرعان ما احتجبت ازدواجية اللغة فرنسية / عربية
لتضمحل نهائيا قبل أن تعاود الظهور باحتشام عند نهاية الحقبة الاستعمارية، حيث دخلت مجموعة العمليات المراد من ورائها اجتثاث آثار الاستعمار مرحلتها الأخيرة.
يجب العودة إلى ش.ر أجيرون *(Charles R.Ageron) لتذكر المراحل المختلفة للسياسة الاستعمارية في الجزائر والتي من دونها لن نتمكن من الإحاطة جيدا بتطور الأدب الجزائري باللغة الفرنسية كما في شقه العربي أيضا.
في مرحلة أولى، نلك التي تقابل المرحلة العسكرية، كان هناك تمسك بتدريس اللغة العربية، والبرنامج هنا وكما يبدو لم يكن صادقا بل ينم عن واقعية أمام الأحداث أكثر منها عن قناعة. إنه البرنامج الخاص بازدواجية اللغة في بعض المدارس والإكماليات العربية / الفرنسية. كما تم، تحت حكم الإمبراطورية الثانية، إنشاء المدارس الثلاث التي كان يرجى منها :" توظيف أمثل للمسلمين في القضاء كما في الشؤون الدينية والأوقاف وفي التعليم أيضا".
ولكن مشروع إزدواجية الثقافة هذا ، ما فتئ أن انمحى أمام هجمة الجمهورية الثالثة في عام 1882.
قوانين التعليم لجول فيري *(Jules Ferry) توسعت لتشمل المستعمرة بمرسوم 13 فبراير 1883 مع اجتهاد خاص يشمل المدن ومنطقة القبائل الكبرى. مدرسة تكوين الأساتذة وبرامج التدريس تأقلمت وبسرعة مع هذه السياسة الجديدة. صياغة جديدة لبرامج التدريس في 1898 حرصت على إزالة العربية لصالح الفرنسية، وهنا يجب الإشارة إلى النسبة الضئيلة للجزائريين الذين كان يحق لهم الالتحاق بالمدرسة الابتدائية. 1901 هي السنة التي يجب مقايستها بسن كتابنا، 3.8% من الأطفال المتمدرسين هم من الجزائريين يقابلهم 84% من الأوروبيين.
تاريخ الفرنسية في الجزائر هو تاريخ جس النبض الذي يسبق الصراعات. كما أن لهذا التاريخ علاقة وطيدة بمراحل إزالة اللغة العربية الفصحى والتقليل من هيمنة اللغات الناطقة : اللهجتان العربية والبربرية.
الجيل الأول من الكتاب الجزائريين ظهر عن طريق محاولات ونصوص مختلفة، القصد من ورائها الإثبات والتحجج، موجهة كليا نحو الحياة السياسية والاجتماعية، وأكثر الأسماء التي عبرت عن هذه الأفكار بالإضافة إلى "حمدان خوجة" الذي أصدر سنة 1833 في باريس : لمحة تاريخية وإحصائية للوصاية على الجزائر العاصمة – إسماعيل هامات- الحاج شريف قاضي سيدي امحمد بن رحال (الذي كتب بدوره سنة 1891 الأقصوصة الأولى باللغة الفرنسية "انتقام الشيخ" – الدكتور طيب مرسلي – لويس خوجة – شريف بن حبيلس، الأمير خالد وأخيرا الشاب فرحات عباس.
الروايات التي واصلت في طريق الإثبات السياسي والمتنوعة من حيث أفكار وأراء أصحابها هي في الغالب روايات مدافعة عن قضايا وأطروحات ، بن سي أحمد بن الشريف (1879-1921) أصدر سنة 1920 عن دار نشر بايو (Payot) الرواية الأولى (أحمد بن مصطفى القومي) والرواية التي تلتها كانت "زهرة زوجة عامل المنجم" (باريس منشورات العالم الحديث) لصاحبها الحاج حمو (1891-1953) المعروف أيضا بإصدارات أخرى منها العمل الذي صدر له بالاتفاق مع روبارراندو (رفقاء الحديقة) تحت الاسم المستعار "محمد فكري".
بعد هاتين المحاولتين الرومانسيتين جاء الدور لروائيين اثنين أكثر أهمية : شكري خوجة (1891-1967) صاحب الاسم المستعار "حسان خوجة حمدان" صاحب الرواية الأولى (مامون ، شهيد المثالية) (باريس، رادو 1928) التي هي في جزء منها سيرة ذاتية ويدشن السلسلة الطويلة في تحديد المسالك المؤدية في طريق الاصطباغ بثقافة المحتل. الرواية الثانية : العلج أسير البربر (أراس 1929) تتحدث عن الإدماج المستحيل مهما كان حجم الجهود المبذولة التي يقوم بها برنارد لوديو(Bernard Ledieux)، سجين قراصنة الجزائر الذي اعتنق الإسلام قبل أن يصبح من أعيان الجزائر، ليرتد عن دينه الجديد قبل أن توافيه المنية بوقت قليل ليقوم ابنه الذي كان مفتيا بإنقاذه من حملة الانتقام التي وجهها ضده المؤمنون. هنا يأخذ الإيضاح منحى معاكسا. إذا كان هذا الإدماج مستحيلا فكيف لذلك المراد به إدماج الجزائريين سنة 1930 يصبح ممكنا؟
شخصية أخرى مثيرة للاهتمام وموهوبة تتجسد في شخص محمد ولد الشيخ (1905-1938) ابن عائلة كبيرة نسبا في الجنوب الجزائري الذي كتب أشعارا وقصصا قصيرة في الأسبوعية الوهرانية "الحق" في سنة 1936، أصدر عن دار النشر بلازا (Plaza)في وهران الرواية الجزائرية الخامسة المكتوبة باللغة الفرنسية والأولى التي تصدر في الجزائر "مريم بين النخيل", تدور أحداث القصة في منطقة تافيلات التي تتقاسمها الجزائر مع المغرب والتي كانت وقتها لا زالت متمردة، زواج مختلط بين خديجة والنقيب ديبوسي(Debussy) الذين يختلفان بسبب تربية طفليهما مريم وجان حفيظ. كتب ولد الشيخ أيضا مسرحية تخليدا لروح الأمير خالد الذي توفي سنة 1936،" خالد" (1937) الذي اقتبسها بشطارزي الذي قام بتلطيفها ظنا منه أنها كانت عنيفة جدا، وهذا لم يمنعه من مقص الرقابة الذي فرضته عليه السلطة الاستعمارية.
إذا كان "الحوار" هو السمة الأساسية للخطاب الاستعماري المهيمن عند الروائيين الجزائريين داخل المستعمرة ، فإن النبرة تختلف كليا في أعمال المنفيين الاثنين : علي حمامي (1902-1949) وهو ابن عائلة رفضت العيش تحت سطوة الاستعمار ففضلت الهجرة إلى مصر لتستقر هناك، وقتها كان الابن في سن العشرين، كان مناضلا في جميع أساليب مقاومة المستعمر، وفي بغداد في سنوات 1941-1942 كتب روايته الوحيدة "إدريس" باللغة الفرنسية والتي صدرت في القاهرة سنة 1948 . هذه الرواية الطويلة تغوص في العودة إلى مراجع الحركات الوطنية في العالم العربي. منفي آخر، هذه المرة ينحدر من عائلة قبائلية مسيحية اختارت الاستقرار في تونس هو جان عمروش(JeanAmrouche) (1906-1962) الذي نشر سنة 1934 ديوانين: رمد، والنجم الخفي، ثم في سنة 1939 في تونس أغاني بربرية من منطقة القبائل.
في منتصف القرن يجب الحديث عن أسماء وروايات عيسى زهار (بداية القرن- 1963)، رابح زناتي (1877 – 1952) وأكلي ابنه من جميلة دباش (1926) وطاوس عمروش أخت جان (1913 – 1976) ولكن مع هؤلاء الروائيين ندخل في مشهد آخر الذي ما بين سنوات 1945 و 1954 يدشن لنظرة جديدة في التعامل مع المجتمع الاستعماري.
في الروايات الأولى أو النصوص التي سبق التطرق إليها، الفرنسية كلغة أدبية مستنبطة عن الفرنسية التي تعلم خلال التكوين المزدوج في المدارس تتميز باللجوء إلى ألفاظ وأساليب حيث التكلف والتصنع يساوي بين الرعونة والصيغ المفخمة. هؤلاء الكتاب المتجذرين في اللغة العربية والثقافة العربية والإسلامية لديهم نماذج جمالية واقعية على وجه الخصوص وبمسحة خفيفة منقولة من بلدان أجنبية وموروثة عن فترة التكوين المدرسي . الاهتمام المهيمن يندرج في إطار إعلامي أكثر منه جمالي. لقد كتبوا من أجل الحديث عن حياتهم وحياة مجتمعاتهم، عن الاختلاف الذي يحببوه في خطاب الانتماء إلى مهمة التحضر التي حددتها فرنسا لنفسها عندما باشرت الاستعمار.
بواكير الفرنكوفونية الأدبية الجزائرية لا تشكل حركة ولكن ظهور أفراد ينحدرون من عائلات وجيهة . لايمكننا فهمها دون ربطها بما يجري في أماكن أخرى ليس فقط في مجموعة الأفكار التي تطرقنا لها باقتضاب ولكن في مجال المسرح المعرب مع محي الدين بشطارزي، رشيد قسنطيني وعلالو. في مجال الشعر باللغة البربرية (الممثل الأكثر شهرة لهذا النوع هو س محند أو محند(1845-1905) أو باللغة العربية مع الأمير عبدالقادر، محمد بن قيطون، محمد بلخير. كما يجب إدراجه ضمن مجموعة حيث تطفو شخصيات يسطع نجمها بصفة مؤقتة أو انفرادية كإليزابيت إبرهارت.(ElisabethEberhardt)
ابتداء من هذه التربة الخصبة المبعثرة والغير متجانسة بدأ الأدب الجزائري يشق طرق إنجازه داخل السياق الاستعماري الصعب بالقيود التي يفرضها وتخفيض المكتسبات السابقة لغوية كانت أم ثقافية."
2- النشأة و التطور
قبل الوصول إلى النصوص الروائية المختارة للدراسة في الفترة المشار إليها في البحث، كان لزاما علينا أن نتوقف ولو بإيجاز عند ما اعتبر أول المحاولات في كتابات الجزائريين المختلفة كسرد الأفكار لصاحبه "حمدان خوجة ، هدا العمل الذي طبع في باريس سنة 1833 ووجه إلى الرأي العام الفرنسي كان هدفه المحافظة على الجزائر ، هذه المحاولة وما تبعها لم تكن دراسات مطولة وإنما مرافعات قصيرة تبرز الطابع لاستعجالي لأخذ الكلمة والتعبير عن تواجد العنصر الجزائري المثقف كل حسب موقفه أو وظيفته أو تكوينه، واستمر ظهور تلك الكتابات التي مهدت الأرضية للإنتاج الروائي الذي قام بخطواته الأولى في ميدان القصة على يد سي أمحمد بن رحال* في أول نص أدبي سنة 1891م تحت عنوان "انتقام الشيخ" وهو ما اعتبره "جان ديجو"(Jean Déjeux) أول قصة مستقاة من التقاليد الاجتماعية الجزائرية ونشرتها المجلة الجزائرية التونسية الأدبية والفنية ، لكن يعود الباحث ديجو بعد قيامه بعملية مسح شامل مست كل ما كان يصدره الفرنسيون في الجزائر بين 1880 إلى 1920 من مجلات وجرائد فيقول بأنه عثر على نصوص قليلة موقعة بأسماء ذات "رنين عربي" – على حد قوله- لأنه كان يشك في هوية أصحابها ويرجح بأنها أسماء مستعارة من طرف مستوطنين فرنسيين مستثنيا منها اثنين:
الأول يدعى أحمد بوري وهو من نشر سنة 1912م، في جريدة "الحق"، رواية مسلسلة تحت عنوان "مسلمون ومسيحيون"، ويشير ديجو في دراستها إلى التناقضات التي أخفاها المؤلف في هذه القصة عندما كان يصور العلاقة بين الفرنسيين والجزائريين كأنها في غاية الانسجام ، أما المؤلف الثاني يدعى سالم القوبي ونُشر له عملان، مجموعة شعرية بعنوان 'حكايات وقصائد من الإسلام" سنة 1917، تبعتها أخرى سنة 1920 تحت عنوان "أنداء مشرقية"، ولا يختلف العمل هذا عن الأول حيث كان يمجد الإسلام والشرق وفرنسا في آن واحد .
ولما تميزت الفترة ما بين سنة 1891، سنة ظهور قصة "انتقام الشيخ" بفراغ في الإنتاج الأدبي لأسباب مختلفة وبين العشرينات التي ظهرت خلالها عدة نصوص أدبية لجزائريين كتبوا باللغة الفرنسية في مجال الرواية، فإن المؤرخ الأول للأدب الجزائري ذي التعبير الفرنسي "جان ديجو" يعد أول انطلاقة حقيقية لهذا الأدب الناشئ عن طريق القائد "بن شريف محمد بن سي أحمد في روايته: "أحمد بن مصطفى القومي" والتي ينظر إليها كأول رواية يكتبها جزائري باللغة الفرنسية، وهذا ما لا ينكره بعض الباحثين المعروفين ولكنهم يتجاهلونه في الوقت ذاته كما هو الشأن بالنسبة لكل الإنتاج الأدبي الذي كتبه الجزائريون بالفرنسية في فترة ما بين الحربين ، للإشارة فإن الفترة الممتدة بين بداية الاحتلال الفرنسي للجزائر وظهور هذا الأدب تزيد عن التسعين عاما وهذا ما يعتبر غير عادي وغير طبيعي إذا أخذنا بدعاوى المستعمر الذي كان يردد دائما أن رسالة في الجزائر هي رسالة حضارية.
والحقيقة أن تأخر ظهور هذا الأدب طيلة هذه المدة له عوامل وأسباب عديدة ومختلفة نكتفي بالتطرق إلى أبرزها وهما: سياسة العدوان المنتهجة من طرف الاستعمار وسياسة التعليم التي طبقها المحتل في الميدان.
لقد كان الجزائريون والمستوطنون الأوروبيون يعيشون فوق أرض الجزائر جنبا إلى جنب، ولكن كخطين متوازيين لا يلتقيان، كان لكل مجتمع منهما حياته الخاصة التي لا يشارك فيها الطرف الآخر فللجزائريين مقاهيهم ونواديهم وجمعياتهم الثقافية والرياضية الخاصة بهم، وللمستوطنين الأوروبيين ملاهيهم ومقاهيهم ونواديهم ومسارحهم. كما كانوا لا يسمحون للجزائريين بمشاركتهم أنشطتهم المختلفة حيث كانت تلك الأنشطة "نوعا من الفاكهة المحرمة على الجزائريين ، وبالمقابل كان الجزائريون من جهتهم لا يبدون أي رغبة في مشاركة المستوطنين أنشطتهم الثقافية أو الترفيهية ، وهو نوع من المقاومة السلبية للمحتل، وحفاظا منهم على ثقافتهم وهويتهم الخاصة بهم . كما عبر عن ذلك أحد الباحثين الفرنسيين حين قال : " لا يوجد بين فرنسا والجزائر سوى ألف كيلومتر من ماء البحر، ولكن يوجد بين أحياء الأوروبيون في المدينة وأحياء "الأهالي" مسافة فلكية هي تلك التي صنعها الاستعمار . هذه الوضعية العدائية المستحكمة التي ظلت تطبع العلاقة بين الطرفين منعت كل تبادل ثقافي أو تلاقح فكري أو تأثير حضاري بينها، لقد كان المحتل ينظر في الغالب إلى الثقافة المحلية نظرة احتقار، من جهتهم كان الجزائريون يتوجسون خيفة من ثقافة المحتل، ويقابلون بحذر كل ما يصدر عنه، ومن أشهر الأمثال الشعبية التي كانت متداولة على ألسنة الجزائريين لتترجم ذلك الخوف والتوجس قولهم : "كل ما يأتي من الغرب ما يفرح القلب".
لكن بدأت هذه الهوة تتقلص بين الطرفين عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى حين وقع ما يشبه نوعا من التقارب الحذر بينهما، حيث حاول كل طرف الانفتاح على الآخر، كما ساعد على ذلك حالة الانفراج الدولي التي أعقبت الحرب وإعلان مبادئ الرئيس الأمريكي ويلسون(Wilson)الشهيرة التي كانت تتحدث لأول مرة عن حق الشعوب في تقرير مصيرها، إضافة إلى تجسيد هذا الانفراج من طرف الحكومة الفرنسية باتخاذ بعض الإجراءات السياسية والإدارية حففت من حدة التوتر فهيأت ولو قليلا الأجواء المناسبة لمثل هذا الانفتاح، حيث ظهر ما أصبح يعرف بقوانين 04 فبراير 1919 التي ألغيت بموجبها معظم مواد قانون "الأنديجينا" العنصري الذي حكم الجزائريين بقبضة من حديد ، وباتخاذ تلك الإجراءات، كانت الحكومة الفرنسية تريد رد بعض الجميل لما يقارب 73000 جندي جزائري كانوا قد شاركوا في الحرب تحت العلم الفرنسي، فقتل وجرح منهم الآلاف، كما كانت هذه لفتة اعتراف وتقدير منها لجهود العمال الجزائريين المقيمين على التراب الفرنسي والذين ضمنوا طوال فترة الحرب، استمرار دوران آلات المصانع الفرنسية عوضا عن العمال الأصليين الذين جندوا في الحرب .
بفضل هذه الاعتبارات واستنادا إلى القانون المذكور، أصبح من حق الجزائريين، ولأول مرة في تاريخ الاحتلال الفرنسي للجزائر إنشاء الأحزاب السياسية وإصدار الصحف والمشاركة في الانتخابات المحلية التي كشفت عن مدى صدق النوايا الاستعمارية في المضي قدما في وضع هذا الإصلاح موضوع التنفيذ الفعلي، لكن ما حصل في الانتخابات المحلية لمدينة الجزائر والتي فاز بها الأمير خالد بالأغلبية أظهرت عكس كل التوقعات .
كما كان هناك عامل سياسي آخر عجل بظهور الإجراءات الإصلاحية في السياسة الفرنسية اتجاه الجزائريين وهو استعدا المستعمِر للاحتفال بالذكرى المئوية لاحتلال الجزائر، لذا كان لا بد من إظهار شيء ما أمام الرأي العام العالمي، وحتى الفرنسي نفسه لتبرير استمرار احتلال الجزائر، ويظهر هذا "ثمار الرسالة الحضارية" التي طالما ادعى المحتل الفرنسي أنه جاء لنشرها في هذا البلد، لذلك تقرر تشجيع الأدب ونشر أعمال إبداعية لكتاب من "الأهالي"تظهر كيف أن "جمعة أو Vendredi " قد حفظ الدرس وتعلم من سيده المتحضر حتى أصبح يعبر عن مختلف شؤونه الخاصة بتلك اللغة.
لهذا ظهرت فجأة وبعد أكثر من تسعين عاما من الاحتلال، أعمال أدبية باللغة الفرنسية لبعض الجزائريين، كتب ونشرت على عجل للمناسبة، وبالرغم مما كانت تحويه من نقائص وعيوب، إذ يقول "ديجو" " فكان المؤلفون(الجزائريون) يريدون أن يبرهنوا (للمستعمر) أنهم تلاميذ نجباء ومقتدرون" .
في هذا الصدد، تميزت العشرية 1920-1930 بظهور خمسة أعمال أدبية حيث عقبت مجموعة سالم القبي الشعرية والسيرة الذاتية للقائد بن شريف روايات: "زهراء امرأة المنجمي" لشكري خوجة سنة 1928، ورواية " العلج أسير بربروسيا" للكاتب نفسه سنة 1929.
لم يشكل هذا الإنتاج الأدبي القليل عامل فخر إذا قيس بطول فترة الاحتلال أو حجم الدعاية التي أحاطت بها السلطات الفرنسية في الجزائر هذا الحدث، كما يعكس هذا العدد نفسه مدى عقم المدرسة الاستعمارية في سياستها التعليمية الخاصة بالأهالي ، بالإضافة إلى أن الكتاب الذين نشرت أعمالهم من أبناء البلد الأصليين قد اختبروا بعناية كبيرة، حيث كان ينتمي معظمهم إلى أبناء الذوات والمتعاونين مع الإدارة الاستعمارية ممن كانت أحوالهم ميسرة ويؤمنون لحد بعيد بفكرة التعايش مع المستعمر والاندماج في مجتمع المستوطنين، كما كان هؤلاء الكتاب يظهرون إعجابهم بالثقافة والحضارة الفرنسيتين في كثير من الأحيان ضمن كتاباتهم غير أن القضايا التي عبروا عنها قد عكست ، وربما عن غير قصد منهم العديد من الإشكاليات المعقدة التي كانت تطرحها تلك الثقافة الأجنبية بالنسبة للمجتمع الجزائري المسلم، ومن أهم ما كون الهاجس الرئيسي في تلك الأعمال الأدبية الجزائرية مسألة حرية تعاطي الخمور، ولعب القمار التي كانت تشكل جزءا من الحياة اليومية العادية للفرنسيين الذين أدخلوها معهم للجزائر فصارت شيئا مباحا لا يعاقب عليه القانون، وكذا تسامحهم في ممارسة الدعارة وتعاطي المخدرات، هذه الأمور التي كان الفرنسيون يعدونها من التصرفات الشخصية التي تتعلق بحرية الفرد، في حين تحرم الشريعة الإسلامية، دين كل الجزائريين، كل هذه الأشياء المذكورة وتلزم إقامة الحد على مرتكبها. وحتى أن هؤلاء الكتاب الأوائل لم ينظروا إلى الأمور المذكورة من الجانب الشرعي الديني المحض فإنهم أولوا العناية بتصوير أثارها المدمرة على الأسرة المسلمة في الواقع الاجتماعي وهذا ما عبر عنه في الروايات الأولى والتي سنتناولها بالتفصيل ونذكر منها "زهرة امرأة المنجمي" التي يبرز فيها الكاتب الأثر السلبي للخمرة التي أدت بالبطل إلى الانحلال الأخلاقي، ليسجن بعد ذلك على جريمة قتل لم يرتكبها في الحقيقة .
هذه الرواية وما تبعها بينت حتى وإن كان بصورة فردية أن موضوع معاقرة الخمرة، ولعب القمار، وتعاطي الحشيش لم يكن عفويا ولم يكن أبدا مجرد مسألة شخصية أو موضة أدبية لدى هؤلاء الكتاب ، ولكنه تجسد في هاجس اجتماعي تحركه انشغالات وتساؤلات فكرية وسياسية توضح الحدود الفاصلة بين المحرم والمباح في الدين وفي القانون المدني، بين حرية الفرد عند المستوطنين والضوابط الأخلاقية بالمفهوم الإسلامي ، هذا ما يبين أن أزمة هوية رافقت هذا الأدب الجزائري المكتوب باللغة الفرنسية ومنذ بداياته الأولى لتتطور فيما بعد.
وتحولت هذه التساؤلات بسرعة لدى هؤلاء الكتاب إلى حيرة أو أزمة ضمير حينما طرحت إمكانية حصول بعض الجزائريين على صفة "المواطنة الفرنسية" حيث ظهر السؤال المحير لدى الكتاب وحتى عند بعض الزعماء السياسيين والمثقفين الجزائريين باللغة الفرنسية بوجه عام ألا وهو: كيف يمكن للجزائري أن يصبح فرنسيا ويبقى في الوقت داته عربيا مسلما مع كل التناقضات الموجودة بين مستعمر حاكم ومحتل محكوم؟
كان هذا السؤال محور أساسي في معظم الروايات الجزائرية المكتوبة بالفرنسية والتي ظهرت في فترة العشرينيات إلى ما بعد 1945م، ونذكر على سبيل المثال : "مريم بين النخيل" (1934) لمحمد ولد الشيخ، و"بولنوار، فتى جزائري" (1941) لرابح زناني، ورواية "العلج أسير بلاد البرابر" (1929) لشكري خوجة والتي عالجت الموضوع ، خلافا للروايات المذكورة ، بطريقة غير مباشرة حين لجأ كاتبها إلى استلهام وقائعها من تاريخ "رياس البحر في الجزائر" في القرن ال 16 ليسقطها بشكل فني مميز يدفع به القارئ إلى استخلاص العبرة.
ولم ينحصر نقاش هذه المسألة في الروايات بل كان أيضا محل تدخل السياسيين ومن بينهم الزعيم الوطني فرحات عباس، أول من كرس استعمال صفة "الفتى الجزائري" في أدبيات الحركة الوطنية في فترة العشرينات والثلاثينات كدلالة على تواجد الجيل الجديد من المثقفين الجزائريين خريجي المدرسة الفرنسية، نشرت هذه الأفكار بين سنتي 1922 و 1930 في مقالات صحفية متفرقة ثم جمعت سنة 1931 في كتاب عنوانه "الفتى الجزائري"، كما اشتهر ترديد هذه التسمية بعد ظهور هذا الكتاب وبرزت في عناوين عديدة من كتابات الجزائريين باللغة الفرنسية خاصة في حقل الفن الروائي الذي اتخذ كوسيلة لتجسيد الأطروحات الفكرية الرئيسية كالدفاع عن المساواة في الحقوق والواجبات بين الجزائريين والأوروبيين مثلا فيما يتعلق بقانون الخدمة العسكرية الإجبارية والتي كانت مدتها تمتد ثلاث سنوات بالنسبة للمجند الجزائري ولا تتعدى ثمانية عشر شهرا بالنسبة للأوروبيين .
وقد جسد كتاب "الفتى الجزائري" أرضية نقاش الأفكار حتى توسعت الرؤى وبدأت تشمل التعرض إلى بعض القضايا الأخرى ذات الطابع الاجتماعي والاقتصادي ، من أهمها هجرة الفلاحين الجزائريين إلى فرنسا ليتحولوا هناك إلى عمال ، والاتهامات التي كانت توجه للشبان الجزائريين من خلال كل نشاط نقابي أو اجتماعي أو سياسي .
وأخرى ذات بعد حضاري وثقافي وديني، فشكلت هذه الموضوعات الخلفية الفكرية لمعظم الروايات التي سبقت فترة الخمسينات حيث دافع الروائيون من جهتهم بطرق شتى عن الإسلام، وعملوا على التعريف به، وإظهار سمو مبادئه، وعظمة رسالته اعتقادا منهم بأن الأوروبيين لا يعرفون الإسلام، فكانوا يحرصون أشد الحرص على الاستشهاد بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة مع التركيز على شرحها وتبين مقاصدها، لكن روائيي هذه الفترة، وفي تأثرهم بكتابات الأوروبيين من مدرسة الجزأرة*(Les Algérianistes ) اهتموا كثيرا بموضوع الزواج المختلط بين الجزائريين والفرنسيات في المحل الأول، ثم بين الفرنسيين والجزائريات وهو القليل حيث وظفوا، ما يعد خرقا للممنوع بالنسبة للفريقين لطرح مختلف القضايا الاجتماعية والثقافية وحتى السياسية التي تعتبر سببا رئيسيا في تباعد وتنافر الطائفتين. ووجد في النظر إلى هذا النوع من الزواج موقفان رئيسيان حيث عده البعض ممكنا ولكن غير مجد في خلق الانسجام نظرا لاختلاف العقيدة وهذا ما سنتطرق إليه في دراسة الروايات المختارة في المدونة موضوع البحث، في حين يرى الفريق الثاني أن هذا النوع من الزواج هو السبيل الوحيد لدفع التقارب والتفاهم بين المسلمين والمسيحيين، كما ذهبا إليه كل من "محمد ولد الشيخ" في رواية "مريم بين النخيل" ورابح زناتي في "بولنوار الفتى الجزائري"، أما الرأي الذي يتفق عليه الجميع أن ما يمنع تحقيق التقارب عن طريق هذا الزواج، فهي الأحكام المسبقة التي تحملها كل طائفة عن الأخرى وعدم استعدادها الفعلي للتخلي عن مواقفها، مما يشكل ضغطا اجتماعيا قويا يهزم أبطال هذه المغامرة فيحولهم إلى ضحايا مجتمع، كما حدث لبطل الرواية المذكورة "بولنوار الفتى الجزائري" ، وكذا بطل رواية " ابن الفقير" لمولود فرعون والتي يعود تاريخ كتابتها إلى سنة 1939، حيث يلتقي كاتبها مع من سبقوه في الإيمان بفكرة الاندماج والتعايش مع الأوروبيين، حيث كان مولود فرعون ، كتب روايته انطلاقا من منظور أن الأهالي قد أتيحت لهم الفرصة للتعرف على فرنسا عن طريق الهجرة وعن طريق المدرسة، "حتى أن أطفال القرية يعرفون من أين ينبع نهر السين(...) ، إلا أن هذه المؤلفة كانت تختلف عن إنتاج كتاب هذه الفترة ، إذ ابتعد الكاتب فيها عن طغيان السيرة الذاتية واعتمد في عمله على تصوير العادات والتقاليد القبائلية خاصة، ونشير هنا إلى امتداد ظاهرة الرفض الذي عبر عنه فيما بعد كتاب فترة ما بعد 1945، كما كان الشأن بالنسبة لمالك بن نبي في رواية "لبيك" التي كانت تعالج موضوع الخمرة والضياع، كما شكل ظهور أعمل محمد ديب (1954) منعطفا حاسما في تطور الأدب الروائي الجزائري المكتوب باللغة الفرنسية الذي تجاوز الفوقية في معالجة المشاكل الحقيقة وبدأ يطرح تساؤلات محددة وصريحة عن الهوية الوطنية وعن مفهوم الوطن وعن الهوية الحقيقية للجزائريين.
وخشية منا أن نخرج عن موضوعنا والذي هو نبذة عن نشأة وتطور وبعض قضايا أدب الجزائريين المكتوب باللغة الفرنسية في مرحلة ما بين الحربين، لا بد لنا أن نشير هنا إلى أسماء كتاب جدد من أصل جزائري برزوا في فرنسا في العقدين الأخيرين وهم في معظمهم من أبناء العمال المهاجرين الجزائريين أمثال "مهدي شارف"، "علي غالم"، "زوليخة بوقرط"، هؤلاء الذين يعرفون حاليا ب"البير" (Beur) أو الجيل الثاني من المهاجرين الجزائريين يتناولون موضوعات لها صلة من قريب أو بعيد بالجزائر حتى وإن تعلقت تلك الموضوعات بصميم الحياة اليومية في المجتمع الفرنسي المعاصر، وهذا ما نراه في نظرنا امتدادا و تطورا طبيعيا لأدب الجزائريين السابقين باللغة الفرنسية بوجود الفوارق في المستويات الفنية واللغوية .
هذا ما نعتبره نبذة عن الأدب الجزائري المكتوب باللغة الفرنسية من حيث التطور عبر مراحله المختلفة والتي يمكن تصنيفها إلى أربع فترات رئيسية منها مرحلة البداية والتي كانت متعثرة فنيا ومتذبذبة سياسيا وامتدت من قبل 1920 إلى 1945 مع ظهور المرحلة الثانية التي شهدت على اندلاع ثورة التحرير والتي تميزت بالقلق والترقب، ثم أتت مرحلة الثورة التي غاب فيها مجال التردد والحياد عند الكتاب، حتى أتت مرحلة ما بعد الاستقلال التي عرفت تنوعا كبيرا في الرؤى والمواقف حول كل القضايا الاجتماعية والسياسية والفكرية والفنية حيث تضاعف الإنتاج في كل الأنواع الأدبية، من شعر، ومسرح، نثر بتنوع في الموضوعات حسب التوجهات الفكرية الجديدة والمختلفة حسب كل مرحلة عن التي سبقتها، هذا ما يؤكد أن عملية تكوين الدوائر الثقافية والسياسية للجزائر لم تكن تستغني عن المساهمة البناءة لمثقفي فترة ما بين الحربين في نمو وتطور فكرة المثل والهوية الثقافية للبلاد.
3- كتاب ومؤلفات
إنه وفي هذا المنظور وجب علينا إعادة وضع دراسة دور أوائل الكتاب الجزائريين باللغة الفرنسية الذين غالبا ما يدرجون وبسرعة في خانة "منشدي الإدماج" من دون معرفة حقيقية أو دراسة معمقة لأعمالهم الأدبية (لمؤلفاتهم). ينتمي هؤلاء الكتاب إلى الطبقة الرهيفة من المثقفين المفر نسين داخل المجتمع الجزائري والذي سبق لنا وأن حددنا معالمهم الفكرية وتحدثنا عن انشغالاتهم ، حيث أن حياة كل واحد منهم تتميز بارتباطها العميق بالهيئات والمؤسسات الاقتصادية والاجتماعية التي وضعها النظام الاستعماري من أجل إحكام سيطرته. هذا الارتباط الوثيق لم يكن جليا عند طبقة المثقفين المفر نسين فحسب، بل شمل ولو لدى جزء منهم، مجموعة المثقفين المتخرجين من القالب الإسلامي. تبقى المجالات التي توفرها الإدارة والقضاء والتعليم والجيش من بين الأماكن المفضلة حيث تنتعش وتتطور هذه الطبقة الرهيفة المحلية والتي تستعمل في الإنابة عن السلطة الاستعمارية. تعطي موسوعة الكتاب المغاربة باللغة الفرنسية لصاحبها (Jean Déjeux) ملخصا مقتضبا لسيرة الكتاب موضع الدراسة، ولكن في ما يخص العمل الذي نريد إنجازه، فقد حاولنا أن نجد معلومات أكثر تفصيلا فيما يخص هؤلاء الكتاب، كما سنحاول البحث عن أوجه التشابه البليغة فيما بينهم أو إذا لزم الأمر الحديث عن خصوصياتهم داخل السياق الثقافي والأدبي للفترة التي عايشوها.
1- بن الشريف محمد بن سي أحمد (1879-1921)
ينحدر من قبيلة أولاد سيدي أمحمد التي كانت تنتشر في الهضاب العليا الوسطى في الجزائر، في منطقة الجلفة على وجه الخصوص. إنه أول جزائري مسلم ينشر رواية كاملة باللغة الفرنسية. عمل أبوه تحت لواء الأمير عبد القادر قبل أن يعلن موالاته لفرنسا، وبقيت عائلته من بعده وفية لهذا الالتزام. من طالب في ثانوية الجزائر، ثم سان سير (Saint-cyr)– ضابط مرافق للحاكم جونار "Jonnart"، ملازم في فيلق السبايس، وأخيرا قايد لقبيلته، مسيرة محمد بن الشريف كما نرى، هي مسيرة صاحب امتياز داخل النظام الاستعماري. إنه لا يعبر عن امتنانه لفرنسا عبر كتاباته فحسب ولكن من خلال حياته كاملة. بعد مشاركته في حرب المغرب الأقصى سنة 1908، لم يتورع في الذهاب إلى جبهة الحرب إبان الحرب العالمية الأولى.وسرعان ما سقط في الأسر ليتم ترحيله إلى ألمانيا، ليحول فيما بعد إلى معتقل سويسرا. وبالرغم من كل هذه التقلبات بقي وفيا لالتزاماته إلى جانب فرنسا، وعند انتهاء الحرب، وبعد عودته إلى الجزائر عاود الاشتغال بمهامه كقايد لقبيلة أولاد سي أمحمد، توفي سنة 1921 أثناء وباء الطاعون الذي ضرب المنطقة حيث جاء لمساندة رجال قبيلته في محنتهم قبل يتوفى بدوره بعد إصابته بالعدوى.
وصل عدد المسلمين المجندين طواعية في صفوف الجيش الفرنسي خلال الحرب العالمية الأولى حدا تفاجأ له المسئولون في الجزائر، تم إحصاء 87500 مجند طوعي من بين 173000 مسلم في صفوف الجيش حيث سقط منهم في ساحات المعركة 25000 جندي مسلم مقابل 22000 فرنسي من الجزائر ، تترجم هذه الأرقام مدى أهمية الشريحة من المجتمع الجزائري التي اختارت طواعية أو مكرهة الخوض في سبل الإدماج أو على الأقل التعاون مع قوى النظام الاستعماري. لذا لا يجب الاندهاش من كون صاحب أول رواية باللغة الفرنسية يعمل جنديا، لأن الجيش يشكل المكان المفضل للاتصال والالتقاء بين العرب والبربر والأوروبيين القادمين من مشارب مختلفة من المستعمرة. وهذه الرواية ليست الأولى ولا الأخيرة من مجموع المؤلفات الفكرية التي تنشر بالفرنسية لمسلمين جزائريين مجندين في الجيش الفرنسي. إسماعيل هامات ، عبدالله بوكابوية ، سعيد قنون ، وفيما بعد الأمير خالد، حتى لا نذكر إلا بعض الأسماء من الذين كتبوا وخاطبوا في ظروف وحالات مماثلة داخل الجيش. بالنسبة للكثير منهم كان الهدف المرجو من وراء كتاباتهم هو تقديم المسلم بديانته وتقاليده ومطالبه إلى الفرنسيين وليس بناء على الكليشيهات والصور السلبية التي صنعها عنهم المستعمِر ، ولكن من الداخل وبحسب النظرة التي يوقعونها عن أنفسهم أو كما يريدون أن يظهروا للآخرين. وهكذا فإن أول طبعة لمحمد بن شريف هي سرد لمآثر السفر والذي يستجيب لهذا المنطق. وحيث أن الهدف المبتغى هو تقديم الحج إلى البقاع المقدسة ومدى أهميته بالنسبة إلى المسلمين وهنا يتضح لنا جليا ومن خلال كتاباته وحياته، أن الكاتب بقي متعلقا بقوة بالقيم الإسلامية، وحتى أن ارتباطاته بفرنسا وبجيشها لم تنقص من انتماءاته العرقية ولم تؤثر في هويته العربية المسلمة.
-2-عبد القادر حاج حمو(1953-1891):
ينحدر صاحب الرواية الثانية في هذه المدونة بدوره من عائلة كبيرة، هي عائلة حاج حمو من مدينة مليانة. وعلى النقيض من عائلة محمد بن شريف، لم يكن للجيش الفرنسي دور في شهرة عائلة عبد القادر الحاج حمو (1891-1953)، ولكن في مجال الدين والتشريع الإسلامي. فمن بين أجداده هناك ولي صالح في معسكر، عمل أبوه قاضيا في مدينة مليانة وهو الذي اقترح في سنة 1893 مشروع إصلاح القضاء الإسلامي في الجزائر أمام لجنة مكونة من سيناتورات، واصل الابن سيرة أبيه، فبعد دراسته في مدرسة الجزائر، امتهن القضاء، ولكونه يجيد اللغتين : العربية والفرنسية، ما أهله لتدريس اللغة العربية وتحصيل شهادة مترجم قضائي.
في سنة 1930، وعند الاحتفال بمرور مائة سنة على احتلال الجزائر وجه خطابا في سيدي فرج باسم الكتاب باللغة الفرنسية من أصول عربية وبربرية. عبد القادر الحاج حمو هو الروائي الجزائري باللغة الفرنسية في حقبة ما بين الحربين (الأولى والثانية) الذي كان على اتصال مكثف بمعاصريه من كتاب ما بات يعرف بالأدب الاستعماري. انتماؤه إلى الماسونية وصداقته ب Robert Randauوجان بوميي Joan Pomier جعلته يتبوأ مكانة هامة في حركة الجزأرة. وجهت له دعوة لشغل نائب رئيس جمعية الكتاب الجزائريين بعد الحرب العالمية الثانية. بدأ أعماله الأدبية بأقصوصة نشرت سنة 1925 ضمن مجموعة قصصية قدم لها لويس برتران (Louis Bertrand) صدر له في نفس السنة "الزهرة زوجة المنجمي" . ثم بعد سنوات أخرى صدر له وتحت اسم مستعار مع روبرت راندو(Robert Randau) حوار في قالب قصصي اعتبر فيما بعد إنجيل التعايش ما بين الأوروبيين والسكان الأصليين، كما أن لصاحبنا عدة مقالات في الصحف والجرائد لتلك الفترة إلى جانب مجموعة من الحكايات (contes)صدرت له في أربعينات القرن الماضي. لقد استعمل مرات عديدة أسماء مستعارة لإصداراته (العربي أو عبد القادر فكري) ونتيجة لذلك كان له عنوانان مختلفان بالجزائر العاصمة.
وفاؤه للإسلام، جعله يحلم بجزائر فرنسية إلى الأبد، مدمجة كليا حيث يحترم كل واحد فيها تعاليم ديانة الآخر. من خلال حواره مع روبرت راندو (Robert Randau) ومن خلال إصداراته في المجلات ، ترتسم صورة مثلى للتعايش بين مختلف الأطراف التي يتشكل منها الشعب الجزائري، تناقضات كثيرة ومحاولة لإخفاء حقيقة المستعمر كما تميزت كتاباته بمطابقتها الشديدة لثقافة المحتل وهو الأمر الذي أدهش القراء الحاليين وجعلهم يتساءلون عن مدى نزاهة واستقامة مواقفه المختلفة . ولتقدير عمق هذا التماثل الفكري الذي عمل جاهدا من أجل مطابقة الخطاب الإيديولوجي المهيمن آنذاك. دعنا نقرأ بعض المقاطع المدهشة من مقالة صدرت له في مجلة (Mercure de France)زئبق فرنسا .
"نؤمن بأن فرنسا هي أعظم قوة إسلامية في العالم ، لذا وجب على كل فرنسي معرفة الإسلام والمسلمين.
أو عندما يتكلم عن نفوذ فرنسا في بلاد المسلمين.
لقد بدأ المسلمون في الجزائر والمغرب ومنذ أن رفرف العلم الفرنسي فيها، فهم ديانتهم التي كانوا يجهلونها".
بمجيء فرنسا، لازالت مدارسها تبدد ظلمات الجهل.
من هنا نفهم أن عبد القادر حاج حمو لم يكن له أي تقدير لدى الوطنيين الجزائريين وأن الأدب الجزائري باللغة الفرنسية سرعان ما تجاهل مؤلفاته الأدبية. إذا كانت رواية "زهرة زوجة عامل المنجم" لاقت الكثير من النقد بسبب الخرق والرعونة في التعابير إلى جانب ثقلها في الأسلوب إلا أن حواراته مع روبرت راندو في "رفقاء الحديقة" هي التي أثارت نقدا عنيفا ولاذعا بسبب مثاليته التي تخفي حقيقة النظام الاستعماري ويوميات المسلمين في جزائر ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية. إن المسار الفكري لعبد القادر حاج حمو وارتباطه الداخلي يجعلان منه الروائي الأكثر ريبة وإشكالية عندما نتناول أعماله الأدبية. بالفعل ، كيف يمكن لنا الآن قراءة وفهم خطاب سماته الأساسية، التناقضات الضرورية والأوهام التي كان من الصعب تجنبها في تلك الفترة.
وكما سيظهر لاحقا فإن مجال الخيال الأدبي هو الكفيل بتحرير الروائي من الضغوطات الخارجية والداخلية التي تبقي نظرته للعالم رهينة إطار يحدده الخطاب الاستعماري لتلك الفترة.
-3-شكري خوجة (1891-1967) :
اسمه الحقيقي حسن خوجة حمدان، هو صاحب رواية"العلج أسير البرابره". يعتبره البعض بأنه الأكثر جرأة وإثارة من باقي الكتاب الجزائريين بالفرنسية في الحقبة الاستعمارية. بالفعل لم يكن له إسهامات في المجلات الأدبية والثقافية لتلك المرحلة، وبغض النظر عن الروايتين موضع دراستنا ، لم تعرف له إصدارات أخرى، بالرغم من أن سلفه ومساره الدراسي والمهني لم يختلفا كثيرا عن عبد القادر حاج حمو. ولد في عائلة من صغار التجار برأسمال ثقافي معتبر، فكان جده (والد أمه) رئيسا لمحكمة الجزائر وكاتبا. مساره الدراسي بدأ في المدرسة الابتدائية المخصصة لأبناء السكان الأصليين بحي سوسطارة حيث تحصل على شهادة الانتهاء من الدراسة الابتدائية. فقد أباه وسنه 16 عاما وهو ما دفعه إلى العمل بائعا عند تاجر يهودي في وسط العاصمة، ليتحول فيما بعد للعمل في الإدارة. وفي سنة 1916 عندما كان عمره 25 عاما تمكن من الالتحاق بمدرسة الجزائر ليحصل على شهادة المدرسة أولا ثم في سنة 1922 حصل على الشهادة العليا للمدارس. بحكم تمكنه الجيد للغتين الفرنسية والعربية وبعد اجتيازه للمسابقة ، تم تعيينه مترجما قضائيا في أحياء وبلدات مختلفة تابعة للجزائر العاصمة .
هذا الموظف الهادئ والوجداني حظي باحترام رؤسائه، وهو ما سمح له بالحصول على تعيين كممتحن لجميع أقسام الترجمة القضائية في سنة 1933. لم يشارك بفعالية في الحركات الشبابية في الجزائر إلا أننا يمكننا التخمين بأن أفكاره كانت تتقارب وأفكار هؤلاء الشبان وأن الانهيار السياسي لهم والعنف الذي انجر عن الحرب التحريرية أثر سلبيا على صاحبنا . من المهم الإشارة إلى أن هذا المثقف المزدوج اللغة الذي نشر روايتين بالفرنسية، كان عضوا نشيطا في جمعية ثقافية مسلمة في البليدة، وجمعية للتعاون الاجتماعي بالمدية. وهذا يوضح جليا ما سبق وأن تحدثنا عنه عن العلاقات التي كانت تربط المثقفين المفر نسين بنظرائهم في الحركات الإسلامية. ينتمي شكري خوجة إلى مجموعة المثقفين الذين حاولوا التحقيق عبر مؤلفاتهم وحياتهم تركيبة تشمل الجزائر المسلمة ومجتمع على الطريقة الفرنسية، بهوية ثقافية جزائرية وتكوين فرنسي، وضعية غير مريحة باستمرار والتي تسببت من دون شك في هموم وقلاقل داخلية انجر عنها انهيار عصبي شديد في السنوات القليلة التي سبقت وفاته والتي أتلف خلالها كل أعماله الأدبية وكتاباته المختلفة. في بداية سنوات التسعين أعيد نشر روايته من طرف الديوان الوطني للإصدارات الجامعية وهو ما يعتبر في حد ذاته حالة نادرة.
- 4- محمد ولد الشيخ (1906-1938)
في 23 فبراير سنة 1906 في الجنوب الوهراني وبالتحديد في مدينة بشار، من بين الخمس كتاب لمدونتنا يبقى الوحيد الذي يشتغل بالوظيفة ضمن الهيئات الاستعمارية كباقي المثقفين المفر نسين لتلك الفترة. ينحدر من أسرة كبيرة من الجنوب الوهراني والتي كانت لها تأثير حاسم في التطور التاريخي لتلك المنطقة ، ومن المهم الإشارة إلى كيف أن الدور التاريخي لهذه العائلة (أولاد سيد الشيخ) يطرح بشكل مغاير عن باقي المثقفين لفترة ما بين الحربين، فلننظر إلى تقديم هذه العائلة بحسب ما يرويه عنهم' جان ديجو' ثم حسب أحمد الأنصاري صاحب أعمال كثيرة بخصوص هذه الفترة.
"إنه ابن الأغا الشيخ بن عبد الله الذي عمل على انتشار النفوذ الفرنسي في منطقة كولمب بشار" .
فضلا عن ذلك فإن الروائي ينحدر من عائلة الأشراف الكبرى لأولاد سيد الشيخ التي لعبت دورا رئيسيا في إثبات الهوية الجزائرية. من انتفاضة 1864 إلى تلك التي اندلعت سنة 1891، برهن أولاد سيد الشيخ عن رفضهم الاستعمار واعتزازهم بهويتهم الإسلامية.
ولكون الروائي قد ورث من هذه العائلة الشريفة الأنفة والاعتزاز فقد احتفظ في أعماقه بتعلق شديد بالإسلام."
ومن دون الدخول في جدل إيديولوجي وتاريخي، فإن المقولتين السابقتين تتحدثان عن نفس العائلة ولكن بحسب حقبتين تاريخيتين مختلفتين، وباستعارتنا للمفردات التقنية التي استعملها عبد القادر جغلول أن العائلة مرت من مرحلة (المقاومة –الرفض) إلى مرحلة (المقاومة-الحوار)
وفي كل الأحوال فإن محمد ولد الشيخ تابع مساره الدراسي الكلاسيكي المخصص للعائلات الجزائرية المترفة، دراسة ابتدائية في مدرسة فرنسية في بشار ثم التحق بثانوية في وهران التي انفصل عنها لأسباب صحية عاد إلى الجنوب دون أن ينهي دراسته الثانوية بعد إصابته بمرض رئوي كاد يتفاقم بوجوده في وهران بالرغم من استجما مات في فيشي (Vichy)، بوحنيفية وتلمسان، إلا أن حالته الصحية لم تتحسن حيث وافته المنية وهو في 32 من العمر، وذلك في جانفي من سنة 1938. وعلى النقيض من كتاب الفترة هاته، لم يعمل صاحبنا في الهيئات الإدارية والقضائية أو التعليم الاستعماري بسبب مرضه، والنشاط الوحيد الذي عرفناه عنه هو الكتابة ونشر أعماله الأدبية. ولكن وفي واقع الأمر فإن عدم الارتباط يبقى نسبيا، كون عائلته المصدر الرئيسي لتموين حياة الكاتب الارستقراطية وإن كانت قصيرة والاستجمامات التي كانت بعيدة المنال بالنسبة لغالبية سكان المنطقة بقيت خاضعة لعلاقتها بالسلطة الاستعمارية.
بالإضافة إلى الرواية المطروحة للدراسة، فإن محمد ولد الشيخ كتب العديد من الأقصوصات والحكايات والأشعار نشرت في "مجلة وهران" وديوان لأشعار نثرية صدر تحت عنوان "أغاني من أجل ياسمين" . لصاحبنا كذلك مسرحيتان، ثانيهما "صمصم الجزائري"؟ التي ترجمت إلى العربية ليقوم محمد بشطارزي بإخراجها أولا سنة 1937 وثانيا في سنة 1947 قبل أن تمنعها السلطات الاستعمارية. تعد " مريم بين النخيل" الرواية الأولى لفترة مابين الحربين التي يتم إعادة نشرها في الجزائر المستقلة سنة 1985 بتقديم مفصل لأحمدالأنصاري حول الظروف التاريخية والثقافية لهذه المرحلة. بإمكاننا القول الآن أن محمد ولد الشيخ هو الروائي الوحيد من بين كتاب مدونتنا الذي يلاقي قبولا وترحيبا في الجزائر اليوم. على النقيض من الروائيين المفر نسين الذين عاصروه يبقى محمد ولد الشيخ الوحيد الذي أعيد إدماجه في نطاق التراث الأدبي الوطني الرسمي.
-5-رابح زناتي (1877-1952)
هو آخر روائي جزائري يصدر رواية باللغة الفرنسية مليئة بالخطابات الداعية للإدماج. كما مكننا القول بأنه آخر ممثل للتوجه المعروف باسم (المقاومة-حوار). بالفعل فبعد نشره لروايته "بولنوار الشاب الجزائري" سنة 1945، لم نرى له إصدارات لروايات جديدة بهذا الأسلوب الذي تميزت به سنوات الاستعمار، حيث أن الخيال يرضخ بقوة للخطاب الإيديولوجي المهيمن. والذي يطغى على السطح إرادة واضحة في الإدماج تخفي في نفس الوقت كل الغموض والالتباس الذي يعتري المحاولة.
ولد رابح زناتي في منطقة القبائل الكبرى في عائلة متواضعة، ولنقل فقيرة والتي لم يكن لديها جميع الامتيازات الاجتماعية والاقتصادية لكتاب تلك الفترة.
في سنة 1871، شارك والده في ثورة المقراني ، أحرق البيت الذي كان يؤوي العائلة في العمليات الانتقامية التي كان ينتهجها جيش المحتل ، مما دفع العائلة للاحتماء في مغارات جبال جرجرة، في أيام صباه، الطفل رابح عمل على رعي قطيع صغير من الماعز طوال النهار على غرار أقرانه من أطفال منطقة القبائل، لم يلتحق بالمدرسة الفرنسية إلى حين بلوغه سن 12 من العمر دون رضا والده الذي كان يريد إبعاده عن سيطرة الفرنسيين.
بالرغم من هذه البداية المتأخرة إلا أن الطفل رابح برع في دراسته والشيء الأهم بالنسبة لمستقبله فإنه آمن بقوة بفرنسا مثالية عادلة وصانعة للحضارة. حصل على شهادة مدرس سنة 1903 ليحصل بعدها على الجنسية الفرنسية ولكن تجربته الكبيرة التي اكتسبها خلال الحرب العالمية الأولى صنعت منه مناضلا متحمسا في سبيل الإدماج وهو ما أهله للعب دور الوسيط بين الأوروبيين والمسلمين. في هذه المقدمة التي سبق الحديث عنها، يتحدث عن نفسه بصيغة الغائب.
"السنوات الأربع للحرب مكنته من الاطلاع على الكثير من الأشياء وبخاصة القيم الأخلاقية للبشر(...). معرفته الدقيقة لعقلية الفرنسيين في أوساط مختلفة، حياتهم النقية والمعتدلة مكنته من تكوين نظرة حول احتمال إدماج إخوانه الذين يشغلون مراتب منحطة ومهملة باحتراس وحكمة وعلى مراحل. ومن هنا فإن قراره بلعب دور الوسيط، نقطة الوصل لضمان الالتحام بين شعبين محكوم عليهما العيش في مجتمع بمصالح وأفكار مشتركة".
شغل بعد انقضاء الحرب، منصب معلم ثم مدير مدرسة في القطاع القسنطيني إلى حين حصوله على المعاش سنة 1934، وهي المرحلة التي عمل فيها في المجالين الفكري والثقافي، بدأ بكتابة مقالات صحفية، إلى جانب مساهمته سنة 1922 في إنشاء "صوت البسطاء" والتي عرفت بداية ب"نشريه المعلمين الذين ينحدرون من أصول جزائرية" ليؤسس في سنة 1929 جريدة خاصة به "صوت السكان الأصليين". عبر جميع كتاباته يظهر أن رابح زناتي كان يناضل من أجل تحرير وإدماج إخوانه في المذهب من خلال تعميم التعليم لديهم وتمكينهم من حقوقهم السياسية . ممثل حقيقي لتيار الشباب الجزائري، بعد أن كان قريبا من فيدرالية المنتخبين من أصول جزائرية، وبعد مرور الزمن، والإخفاقات السياسية التي تراكمت والراديكالية التي طبعت مواقفه، وجد نفسه تدريجيا وحيدا مع أفكاره. وبرغم كل خيبات الأمل التي مست الشبان الجزائريين وفيدرالية المنتخبين ، واظب في المحافظة على مواقفه وواصل العمل بتوظيف موارده الشخصية وكل طاقته. خلافا للرواية التي تشكل جزءا من مدونتنا هاته، لم نعرف له أعمالا أدبية أخرى.
لقد تحدث أساسا عبر صحيفته، التي أصبحت تعرف ب "الصوت الحر جريدة الاتحاد الفرنسي المسلم" بداية من سنة 1947 وعبر نصين بطابع سياسي صدرا له سنة 1938. ووفق مواقيت متباعدة ببضعة أشهر، الأول في باريس والآخر في قسنطينة تحت اسم مستعار .
إذا قدمنا أعمال أنصار الإدماج على أنها أعمال وطنية وأيديولوجية فهذا يعني أننا لم نتمعن إلا في المقاطع التي تمجد فرنسا ورسالتها الحضارية في الجزائر. ولكن في واقع الأمر ، قراءة معمقة وموضوعية لكتاب رابح زناتي تمكننا من اكتشاف عند هذا الرجل تعبيرا لنضال فكري صادق ويائس أحيانا، لم يتورع في انتقاد السلطة الاستعمارية مع التمسك بجذوره الفكرية والعقائدية.
وتصديقا لذلك، لننظر إلى مقطع من مقالة تميل إلى الهزل حينا وإلى الدراما حينا آخر، صدرت له في الصفحة الأولى من جريدة "صوت الأهالي" سنة 1933 والتي هي حسب ما يبدو بقلم مدير الجريدة.
الوصايا العشر للمستعمَر:
1- عليك أن تتخلى عن تاريخك وعليك أن تتعلم تاريخنا وعليك أن لا تحلم بالدخول إلى عائلتنا.
2- عليك أن تحفظ عن ظهر قلب قيمنا المتمثلة في الحرية والمساواة والإخاء وترتلها في المدرسة ولكن يستحيل عليك المطالبة بها في الحياة العملية.
3- في المجالس المنتخبة، عليك الاحتفاظ بمنصبك السفلي، والموافقة بإشارة من رأسك فقط ومن دون أن تطمع في الدفاع عن مصالحك(…)
مصادق عليه، البيكو الفرنسي
بقراءة هذه المقالات الصحفية المعبرة عن يأس يتزايد يوما بعد يوم، وبالاطلاع على النص السياسي الذي صدر له في قسنطينة سنة 1938، تحت اسم مستعار وبعنوان (كيف ستضمحل الجزائر الفرنسية) نبقى نتساءل كيف أن هذا الرجل بقي وفيا إلى حين وفاته لأفكاره المطالبة بالإدماج، أفكار ما فتئ أن تنازل عنها كثير من أصدقائه المثقفين المفر نسين تدريجيا في الثلاثينات من القرن الماضي وبخاصة بعد فشل مشروع بلوم – فيولات(Blum-Violette).*
صدور روايته في سنة 1945 التي هي موضوع دراستنا والتي هي تصوير مطابق لحركة الشاب الجزائري تبدو "متأخرة" مقارنة بالأحداث والتطورات التي عرفتها الدوائر الفكرية والأدبية في الجزائر المسلمة, وعليه إذا قرأنا كتابات رابح زناتي لأواخر الثلاثينات وإذا فكرنا في نصه "كيف ستضمحل الجزائر الفرنسية" يصعب علينا الفهم في كون الكاتب يصدر روايته سبع سنوات بعد ذلك موضوعها الأساسي إصراره على إمكانية الإدماج والتعايش مع الفرنسيين.
سنحاول في أعمالنا التي ستلي الإجابة على هذه التساؤلات. وما هو مؤكد أنه وخلال سنة 1945 والمظاهرات التي شهدها القطاع القسنطيني والقمع الشنيع الذي تلاها طويت صفحة من تاريخ الجزائر نهائيا.
وفي كلتا الجهتين فإن مناضلي الإدماج أقروا باستحالة تحقيق هذا المبتغى وأن أحلامهم أضحت ضربا من الخيال. في المجال الأدبي، هذه الصحوة المفاجئة للحقائق ترجمتها نهاية سلسلة الروايات التي تمجد احتمالات ومزايا الإدماج من جهة ومحاولة تقديم جزائر مستعمرة وبثقافات متعددة ، فرنسية ومحترمة لحقوق السكان المسلمين.
من مجموع الروايات التي تتشكل منها مدونتنا، جلها صدرت بفرنسا واثنتين فقط صدرتا بالجزائر عن دور نشر يملكها فرنسيون في المستعمرة. هذه الملاحظة تبين لنا مدى ارتباط الدوائر الثقافية الجزائرية بالنظام الاستعماري.
ضعف الوسائل عند المثقفين الجزائريين يظهر جليا في جميع المستويات عند إصدار ونشر كتاباتهم وعند توزيعها أيضا. فبغض النظر عن بعض المحاولات فأن الصحافة ونشر الكتب يبقيان خاضعين للدوائر الاستعمارية فيما يخص التموين بالورق، الطباعة والتوزيع. هيمنة الدوائر الاستعمارية على المطبعات والتوزيع تؤثر من دون شك على الكتاب وتحد من حرية التعبير لديهم بحكم الرقابة المسلطة عليهم وبحكم الرقابة التي يمارسونها على أنفسهم أيضا.
وبالنظر إلى العدد الكبير للمقدمات التي تتصدر روايات مدونتنا والتي تتسم بميزتها الأبوية نفهم أكثر مدى إرتباط كتابنا بأصحاب دور النشر وبالدوائر الثقافية الاستعمارية.
للحديث عن مشاكل الطباعة والتوزيع، التساؤل الآخر الذي يكتسي أهمية قصوى والذي يجب أن نطرحه لمعرفة القارئ الرئيسي لكل هذه الأعمال الأدبية المدونة بلغة وأيديولوجية غربية، وأكثر غرابة منها الأسلوب المفروض على الروائيين أنفسهم ، لقد أشرنا في بداية هذا العمل إلى النسبة الكبيرة للأمية مابين الأهالي في جزائر ما بين الحربين والعدد المحدود للمثقفين الذين يقرؤون ويكتبون باللغة الفرنسية. حقيقة هذه الأرقام تؤكد الإحساس الذي يتولد عند قراءة هاته الروايات ، هذه الأعمال موجهة إلى الفرنسيين عموما وسكان فرنسا على وجه الخصوص. بعد قرن من الاستعمار بدأ المستعمر يتكلم عن نفسه، يقدم نفسه للآخر بتبنيه للغة وشكل وأيديولوجية فرضها المحتل. إنها الفترة التي تمكن فيها الجزائريون من اللغة الفرنسية إلى درجة التأليف بمحاكاة الكتاب الذين يفضلونهم ومنها توجيه النظرة التي صنعها الأوروبيون عن الشعوب المغزوة: تاريخ الأدب الجزائري باللغة الفرنسية بدأ مع فترة التشبع بالثقافة والمحاكاة حيث أن الانبهار بالآخر تساهم بجزء لا يمكن تجاهله في عوامل تحفيز الكتاب.
الخاتمة
إنه لمن الصعب أو حتى الخطأ الفصل بين الرواية الجزائرية المكتوبة بالعربية والرواية الجزائرية المكتوبة بالفرنسية، كما أنه لمن الصعب الجزم أيضا بتأثير هذه في تلك لمجرد الأسبقية عليها في الظهور و النشأة و التطور، ومما لا شك فيه أنهما تلتقيان في سمات مشتركة وذلك بفعل انطلاقهما من أرضية مشتركة لأن كلاهما تعيد صياغة للمجتمع بوصفه كيانا موضوعيا متميز بوجوده، ولا بد هنا من الوقوف عند ارتباط الحركة الأدبية الجزائرية باللغتين ومنذ نشأتها بالمسألة الوطنية والنضال الوطني، حتى غيبت هذه الحركة الأدبية التي سبقت حرب التحرير وفي كثير من الأحيان، أدبية الأدب وجماله بمنح الصدارة للعمل الإصلاحي و النضال من أجل المحافظة على مقومات الهوية الجماعية للشعب الجزائري.
وهذا البحث يتناول بواكير الأعمال الروائية للجزائريين باللغة الفرنسية في نشأتها، فيحدد مضامين هدا الأدب، ويسأل نصوصه الأولى مباشرة بالدراسة و التحليل و الاستنباط، بالتركيز بالخصوص على النصوص الروائية الصادرة ما بين 1920و1945 و التي أهملت نوعما من طرف الدارسين الجزائريين خاصة وغيرهم عامة. لذا اعتمدنا على النصوص مباشرة بالتحليل لاستنباط مدلولها أولا ثم تناولناها في سياق الأحداث التاريخية والظروف السياسية التي عايشها أدباء هذه الفترة التي تميزت بميلاد الحركة الوطنية عبر تيارات متعددة للتعبير عن هوية الشعب الجزائري الجماعية من خلال الدين و اللغة والتقاليد وذلك رغم كل ما قيل عن هذه الفترة التي اعتبر كتابها من منشدي الإدماج في المجتمع الفرنسي، حتى طرحت جملة من الأسئلة حول موضوع هوية أدب هذه الفترة وما جاء بعده ولا سيما ما تعلق منها بلغته ومن ثم بهويته الثقافية و الحضارية، وبعد محاولة قراءة وتحليل النصوص المختارة ،بقي لنا ادا أن نقف و لو قليلا مع الأدب الجزائري الذي كتب بالفرنسية،و دلك لعدة اعتبارات منها و أنه أدب جزائري لحما و دما، حتى و أن كان موجها في وقت من الأوقات إلى جمهور أخر غير الجمهور الجزائري، و حتى وأن كتب باللغة الفرنسية و وجهت اعتراضات لأجل دلك على"جزائريته". إلا أن هدا الأدب قد خدم القضية الجزائرية و أوصل صوت الجزائر إلى الرأي العام العلمي، نظرا لانتشار اللغة الفرنسية على نطاق واسع ممهدا بدالك الطريق إلى أدب الثورة الذي ازداد تطورا فيما بعد.
في الأخير لم يأت أدب هذه الفترة(1920-945) نتيجة احتكاك حضاري مؤثر ولا نتيجة تبادل ثقافي متميز بل جاء بعد تسعين عاما من حرب شاملة شنها الاستعمار الفرنسي في كل الميادين على الشعب الجزائري. فانطلاقا من هذه الحقيقة التاريخية، يمكننا القول بان هذا الأدب حملته أمه كرها ووضعته كرها، وهذا ما تعبر عنه موضوعاته الكبرى ولا سيما مسألة الإدماج المستحيل الذي كان مرفوضا من الطرفين لعمق الخلاف و الاختلاف السائد بين المستعمر و المستعمَر.
الدكتور مومن سعد
* نقلا عن أصوات الشمال
كانت ولادة الروايات الجزائرية الأولى المكتوبة باللغة الفرنسية عسيرة. أثر الاحتلال الفرنسي الذي تزامن وجوده و ظهور هذه الأعمال المنتجة من طرف الجزائريين سلبا على إشكالية هوية هذا الأدب. أكان أدبا جزائريا أم فرنسيا ؟ وبتعدد الإجابات تظهر إشكالات جديدة هي الأخرى عاجزة على حل مشكل الهوية في أدب كتب بلغة مغايرة للغة الأمة. ومن جهة أخرى ، فإن ظاهرة الكتابة الروائية بلغة المستعمر لم تكن خاصية جزائرية ، إنما مست كذلك بلدان أخرى من إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية ، هذه البلدان التي عانت وبأشكال مختلفة ومتفاوتة من هذه المعضلة، وبتجاوز هذه القضية الحدود السياسية واللغوية ، أصبحت بطبيعة الحال شئنا يتعلق بالأدب المقارن الذي كان في الأصل من اختصاص الفرنسيين الذين ينطلقون في دراساتهم لهذه القضايا ، من مبدأ عدم القدرة على مقارنة أدبين إلا من خلال الحدود اللسانية.
لذا، فإن أولى الروايات الجزائرية المكتوبة باللغة الفرنسية في فترة ما بين الحربين قد تضررت من إشكاليتي الهوية وظاهرة الإدماج الذي تبناه ظاهريا هؤلاء الكتاب كخطاب أيديولوجي للتعبير عن انبهارهم الشديد بحضارة المستعمرين ، ذلك حسب الدراسات الأولى التي وضعتها المدرسة الأدبية الفرنسية بقيادة الباحث المتخصص جون ديجو(Jean Déjeux)
تقترح هذه الرسالة تقديما لأولى الروايات الجزائرية المكتوبة من طرف جزائريين مسلمين بلغة المستعمر. والأكيد أن هذا الأدب الجزائري المكتوب باللغة الفرنسية في الفترة المذكورة بقي مجهولا ومهشما، ليس إلا من طرف الجمهور الواسع ولكن حتى من طرف الباحثين الاختصاصيين المهتمين بالأدب الفرنكافوني في البلدان المغاربية إبان الاحتلال الفرنسي ،
ولقد وقع اختيارنا على هذه المدونة التي تضم خمس(05) روايات كتبت ونشرت في الفترة الممتدة ما بين 1920و 1945م أجل محاولة فهم ميكانزمات سير وعمل هذا الإنتاج الأدبي الذي نشأ في ظروف اجتماعية وتاريخية وثقافية خاصة .
وبالرغم من أن هذه الروايات أدرجت اعتباطيا في صنف الرواية الأطروحة وأنها تظهر في اسطرها الأولى نوعا من الخطاب الأيديولوجي الذي يمدح الإدماج لكنها أنها سرعان ما تكشف النقاب عن خطاب ثان ينمو من خلال السرد ليعلن عن فشل الخطاب الأول ويعبر عن الحاجة في العودة إلى الهوية الأصلية التي صادرها المستعمر الذي قيل عنه أنه ممدن .
المقدمة:
لكل أمة أدب يسجل، شفويا كان أم مكتوبا، مغامرات وملامح وبطولات السابقين. فيحفظ ويدرس في مدارسها وجامعاتها حتى يبقى من مكونات الشخصية المحافظة على هويتها خاصة إذا دوّن هذا الأدب في اللغة الأم. وهذا ما يطرح إشكالية جنسية الأدب للعديد من الشعوب التي استعمرت فترات طويلة من الزمن حيث حرمت من كل حقوقها ومن أهمها اللغة والدين كما هو الشأن بالنسبة للجزائريين الذين سلبت منهم اللغة العربية؛ فحاولت مجموعة من المثقفين إسماع صوت الجزائر إلى" الآخر" عن طريق لغته، هذا ما دفعنا في تناول موضوع إشكالية جنسية الأدب الجزائري المكتوب باللغة الفرنسية، هذا الموضوع الذي جلب اهتمام بعض الدارسين الذين ركزوا بالأخص على النص الروائي المتكامل الذي فرض نفسه بداية من الخمسينيات مع : مولود فرعون، محمد ديب ،كاتب ياسين وغيرهم، لكن وقبل الوصول إلى روائع هؤلاء ألم تكن هناك خطوة أصعب من التي تلتها في هذا المجال؟ نقصد بذلك المؤلفات الجزائرية المكتوبة بالفرنسية في فترة ما بين الحربين ( 1945،1920) وما نعتبره بواكير الرواية الجزائرية التي همشت أو تناولها النقاد للحكم عليها بغير الناضجة،كما استقبلت أحيانا بالرفض عند الجزائريين عندما كانت الأسباب الأيديولوجية والسياسية توضح الموقف الرسمي المحتشم إزاء هذا الإنتاج الذي اعتبر أحيانا مضادا للوطنية، لكن هل نستطيع فعلا حرمان كتاب هذه الفترة العسيرة من حياه الأمة من التمتع بصفتهم مؤسسين لفضاء أدبي جزائري يشتغل مكانه ضمن التاريخ الفكري وكتب ليرد بطريقته وأسلوبه على الآخر في وقت لم تكتمل فيه الرواية الجزائرية المكتوبة بالعربية إلا في سنة 1947م. لذا كان لا بد من هذه الدراسة كمحاولة منا لنمكن القارئ من الإطلاع على مدى تعلق جذور هذا الإنتاج في أصول الأدب الجزائري العربي شفويا أو مكتوبا كان حتى ولو تأثر شكلا ومضمونا بالرواية الفرنسية عامة وبالأدب الاستعماري خاصة.
وبعد قراءة شخصية لبعض المؤلفات للفترة المذكورة، كان لزاما علينا أن نعي ببعض الإشكاليات التي يطرحها هذا الأدب، سواء على المستوى الفكري أو الفني، كما كان هناك سبب موضوعي دفعنا إلى قراءة جدية للموضوع ألا وهو ما لاحظناه من قلة اهتمام لدى الجزائريين عندما يتعلق الأمر بترجمة أو دراسة هذا الأدب أو الكتابة عنه لأن معظم ما ترجم منه ونشر باللغة العربية تم على يد الأشقاء المصريين والسوريين ، ومعظم ما وضع من الدراسات عنه كان على يد الغربيين باللغة الفرنسية واللبنانيين باللغة العربية، ثم إن أقسام الأدب في جامعتنا لا تولي اهتماما كبيرا، لا باللغة العربية ولا باللغة الفرنسية للأدب الجزائري المكتوب في هاتين اللغتين، الشيء الذي كرّس القطيعة والتجاهل المتبادل بين المثقفين بهذه اللغة أو بتلك.
انطلاقا مما سبق من اعتبارات ذاتية وموضوعية، اخترنا هذا البحث الذي حدّد عنوانه ب:" كتابة الهوية في الرواية الجزائرية المكتوبة بالغة الفرنسية ( 1945،1920)، هذا العنوان الذي يطرح إشكالية النقاش فيما يخص موضوع الهوية ، إذ هناك من ينكر على هذا الأدب جزائريته ويعدُّه بسبب لغته أدبا فرنسيا، وهناك من يعده بسبب الروح التي كتب بها ، أدبا جزائريا خالصا ، ولكل فريق حجته وأسانيده لكن هذا ليس اهتمامنا وإنما نريد تتبع تاريخه والإحاطة بمختلف مراحله، والتعمق في مضامينه ومسألة نصوصه المختارة مباشرة دون وسيط ولا شك أن هذا لم يمنعنا من إعطاء الأهمية لأداء الدارسين مهما كانت وإنما هذا يعني أننا تمنحنا الأولوية للنصوص الأصلية الأولى واستخلاص من النتائج منها بعد قراءتها وخاصة النصوص الروائية التي صدرت في العشرينيات والثلاثينيات والأربعينيات من القرن المنصرم، وهي النصوص التي تعود معظم الدارسين إصدار الأحكام الجاهزة بشأنهادون أن يكلفوا أنفسهم عناء دراستها في عمقها متأثرين بأحكام أشهر الدراسات للأب "جون دي جو" Jean Déjeux) ( الذي وإن كان لا يباري في وفرة مؤلفاته في هذا المجال إلا أنه لم يكن منصفا في حق الكتاب المغاربة إذ جردهم في كثير من الأحيان من اكتساب لمسة فنية أو فكرية وجعلهم فقط تلاميذ يتعلمون الإنشاء محاولين إظهار قدراتهم اللغوية المكتسبة عن أساتذتهم الفرنسيين رغم أن هؤلاء كانوا أصحاب ثقافة عربية وفرنسية عالية ومنهم من يمتلك موهبة روائية خارقة للعادة آنذاك ولم يمثلوا شيئا من الصورة التي رسمها لهم الأب 'ديجو' ومن اعتمد آراءه من الباحثين الجزائريين الذين نقلوا أعماله بكل أمانة دون الرجوع إلى النصوص الأصلية لتلك الفترة حتى بلغ ذلك نوع من الظلم اتجاه هؤلاء الكتاب، الذين وبالرغم من "إندماجيتهم" الظاهرية لأنهم لم يتعلقوا بها في حقيقة الأمر إلا حرصا على فكرة المساواة بين المستوطنين والجزائريين، قد دافعوا فعلا عن هوية الشعب الجزائري وعن كيانه ووجوده، وعن حقه في صيانة دينه وتعلم لغته والحفاظ على مقوماته الأساسية ، من هنا كانت عنايتنا بهؤلاء الكتاب والقراءة لهم، انطلاقا من نصوص روايتهم الأولى ابتداء من 1920م وحتى إلى الخمسينات حيث لم تنل تلك النصوص هي الأخرى حظها من التحليل رغم كل ما كتب عنها لمّا كان الاهتمام منصب غالبا على الظروف التاريخية التي أحاطت بها.
تتضمن دراستنا في أجزائها بدايات الأدب الجزائري المكتوب باللغة الفرنسية في الفترة ما بين الحربين وذلك بالتعرف على نشأة هذا الأدب وأهم كتابه ثم يلي الباب الثاني الذي يلخص الخيال الروائي وتناول دراسة روايات المدونة بالتحليل تتبعه خلاصة لهذا الجزء. في نهاية المطاف،نصل إلى خاتمة الموضوع التي تلخص لنا مراحل هذه القراءة المتواضعة في ما كتبوه روائيونا باللغة الفرنسية في فترة ما بين الحربين والتي تعتبر قاعدة تحضير، وفي كل المجالات لثورة التحرير الكبرى.
-1- بواكير أدب:
"أول الروائيين الجزائريين باللغة الفرنسية (1920-1940)
في نص موجه للمعلمين صدر له في "نشرية أكاديمية الجزائر" كتب ب برنارد في سنة 1908 والذي كان يشغل وقتها منصب مدير مدرسة الأساتذة لبوزريعة: "الجزائر مستعمرة من نوع خاص، مستعمرة موجة للتوطين لا تبعد إلا بأربع وعشرين ساعة عن فرنسا البلد الأم، لسنا بحاجة إلى تقوية اللغة العربية وبخاصة في أشكالها الإقليمية والمحلية ، تلك المستعملة كلهجات في التعاملات اليومية . أول اهتمام لشعب غازي يكمن في رأيي في إزالة وفي أسرع وقت ممكن لغة رعاياه الجدد(.....)
الفرنسية هي التي يجب المساعدة في نشرها وكل ما يمنح للعربية- وهنا أعترف بأننا مجبرون في ظل الظروف الحالية فعل شيء لهذه اللغة- هو مفقود بالنسبة لفرنسا.
يشكل مثل هذا التحجج أحد العناصر الأساسية في سياسة الإدماج عن طريق المدرسة ويعطى فكرة واضحة عن المشروع الاستعماري ويفسر ولو جزئيا وضعية اللغات في الجزائر اليوم والشغف المفرط الذي يحيط بها.
من الضروري وقبل التطرق للنصوص الأدبية الأولى المكتوبة باللغة الفرنسية وبأقلام جزائرية التذكير ولو بإيجاز بمراحل الفرنسة التي وضعها النظام الاستعماري. لم يقتصر المستعمر على إدخال الفرنسية بل عمل على تقويتها بوضع الأسس لمستعمرة توطين. وهكذا فإن هذه اللغة الأجنبية فرضت نفسها كلغة أولى في الحياة الاجتماعية والحياة الإدارية والقضائية، كما في الصحافة أيضا وسرعان ما احتجبت ازدواجية اللغة فرنسية / عربية
لتضمحل نهائيا قبل أن تعاود الظهور باحتشام عند نهاية الحقبة الاستعمارية، حيث دخلت مجموعة العمليات المراد من ورائها اجتثاث آثار الاستعمار مرحلتها الأخيرة.
يجب العودة إلى ش.ر أجيرون *(Charles R.Ageron) لتذكر المراحل المختلفة للسياسة الاستعمارية في الجزائر والتي من دونها لن نتمكن من الإحاطة جيدا بتطور الأدب الجزائري باللغة الفرنسية كما في شقه العربي أيضا.
في مرحلة أولى، نلك التي تقابل المرحلة العسكرية، كان هناك تمسك بتدريس اللغة العربية، والبرنامج هنا وكما يبدو لم يكن صادقا بل ينم عن واقعية أمام الأحداث أكثر منها عن قناعة. إنه البرنامج الخاص بازدواجية اللغة في بعض المدارس والإكماليات العربية / الفرنسية. كما تم، تحت حكم الإمبراطورية الثانية، إنشاء المدارس الثلاث التي كان يرجى منها :" توظيف أمثل للمسلمين في القضاء كما في الشؤون الدينية والأوقاف وفي التعليم أيضا".
ولكن مشروع إزدواجية الثقافة هذا ، ما فتئ أن انمحى أمام هجمة الجمهورية الثالثة في عام 1882.
قوانين التعليم لجول فيري *(Jules Ferry) توسعت لتشمل المستعمرة بمرسوم 13 فبراير 1883 مع اجتهاد خاص يشمل المدن ومنطقة القبائل الكبرى. مدرسة تكوين الأساتذة وبرامج التدريس تأقلمت وبسرعة مع هذه السياسة الجديدة. صياغة جديدة لبرامج التدريس في 1898 حرصت على إزالة العربية لصالح الفرنسية، وهنا يجب الإشارة إلى النسبة الضئيلة للجزائريين الذين كان يحق لهم الالتحاق بالمدرسة الابتدائية. 1901 هي السنة التي يجب مقايستها بسن كتابنا، 3.8% من الأطفال المتمدرسين هم من الجزائريين يقابلهم 84% من الأوروبيين.
تاريخ الفرنسية في الجزائر هو تاريخ جس النبض الذي يسبق الصراعات. كما أن لهذا التاريخ علاقة وطيدة بمراحل إزالة اللغة العربية الفصحى والتقليل من هيمنة اللغات الناطقة : اللهجتان العربية والبربرية.
الجيل الأول من الكتاب الجزائريين ظهر عن طريق محاولات ونصوص مختلفة، القصد من ورائها الإثبات والتحجج، موجهة كليا نحو الحياة السياسية والاجتماعية، وأكثر الأسماء التي عبرت عن هذه الأفكار بالإضافة إلى "حمدان خوجة" الذي أصدر سنة 1833 في باريس : لمحة تاريخية وإحصائية للوصاية على الجزائر العاصمة – إسماعيل هامات- الحاج شريف قاضي سيدي امحمد بن رحال (الذي كتب بدوره سنة 1891 الأقصوصة الأولى باللغة الفرنسية "انتقام الشيخ" – الدكتور طيب مرسلي – لويس خوجة – شريف بن حبيلس، الأمير خالد وأخيرا الشاب فرحات عباس.
الروايات التي واصلت في طريق الإثبات السياسي والمتنوعة من حيث أفكار وأراء أصحابها هي في الغالب روايات مدافعة عن قضايا وأطروحات ، بن سي أحمد بن الشريف (1879-1921) أصدر سنة 1920 عن دار نشر بايو (Payot) الرواية الأولى (أحمد بن مصطفى القومي) والرواية التي تلتها كانت "زهرة زوجة عامل المنجم" (باريس منشورات العالم الحديث) لصاحبها الحاج حمو (1891-1953) المعروف أيضا بإصدارات أخرى منها العمل الذي صدر له بالاتفاق مع روبارراندو (رفقاء الحديقة) تحت الاسم المستعار "محمد فكري".
بعد هاتين المحاولتين الرومانسيتين جاء الدور لروائيين اثنين أكثر أهمية : شكري خوجة (1891-1967) صاحب الاسم المستعار "حسان خوجة حمدان" صاحب الرواية الأولى (مامون ، شهيد المثالية) (باريس، رادو 1928) التي هي في جزء منها سيرة ذاتية ويدشن السلسلة الطويلة في تحديد المسالك المؤدية في طريق الاصطباغ بثقافة المحتل. الرواية الثانية : العلج أسير البربر (أراس 1929) تتحدث عن الإدماج المستحيل مهما كان حجم الجهود المبذولة التي يقوم بها برنارد لوديو(Bernard Ledieux)، سجين قراصنة الجزائر الذي اعتنق الإسلام قبل أن يصبح من أعيان الجزائر، ليرتد عن دينه الجديد قبل أن توافيه المنية بوقت قليل ليقوم ابنه الذي كان مفتيا بإنقاذه من حملة الانتقام التي وجهها ضده المؤمنون. هنا يأخذ الإيضاح منحى معاكسا. إذا كان هذا الإدماج مستحيلا فكيف لذلك المراد به إدماج الجزائريين سنة 1930 يصبح ممكنا؟
شخصية أخرى مثيرة للاهتمام وموهوبة تتجسد في شخص محمد ولد الشيخ (1905-1938) ابن عائلة كبيرة نسبا في الجنوب الجزائري الذي كتب أشعارا وقصصا قصيرة في الأسبوعية الوهرانية "الحق" في سنة 1936، أصدر عن دار النشر بلازا (Plaza)في وهران الرواية الجزائرية الخامسة المكتوبة باللغة الفرنسية والأولى التي تصدر في الجزائر "مريم بين النخيل", تدور أحداث القصة في منطقة تافيلات التي تتقاسمها الجزائر مع المغرب والتي كانت وقتها لا زالت متمردة، زواج مختلط بين خديجة والنقيب ديبوسي(Debussy) الذين يختلفان بسبب تربية طفليهما مريم وجان حفيظ. كتب ولد الشيخ أيضا مسرحية تخليدا لروح الأمير خالد الذي توفي سنة 1936،" خالد" (1937) الذي اقتبسها بشطارزي الذي قام بتلطيفها ظنا منه أنها كانت عنيفة جدا، وهذا لم يمنعه من مقص الرقابة الذي فرضته عليه السلطة الاستعمارية.
إذا كان "الحوار" هو السمة الأساسية للخطاب الاستعماري المهيمن عند الروائيين الجزائريين داخل المستعمرة ، فإن النبرة تختلف كليا في أعمال المنفيين الاثنين : علي حمامي (1902-1949) وهو ابن عائلة رفضت العيش تحت سطوة الاستعمار ففضلت الهجرة إلى مصر لتستقر هناك، وقتها كان الابن في سن العشرين، كان مناضلا في جميع أساليب مقاومة المستعمر، وفي بغداد في سنوات 1941-1942 كتب روايته الوحيدة "إدريس" باللغة الفرنسية والتي صدرت في القاهرة سنة 1948 . هذه الرواية الطويلة تغوص في العودة إلى مراجع الحركات الوطنية في العالم العربي. منفي آخر، هذه المرة ينحدر من عائلة قبائلية مسيحية اختارت الاستقرار في تونس هو جان عمروش(JeanAmrouche) (1906-1962) الذي نشر سنة 1934 ديوانين: رمد، والنجم الخفي، ثم في سنة 1939 في تونس أغاني بربرية من منطقة القبائل.
في منتصف القرن يجب الحديث عن أسماء وروايات عيسى زهار (بداية القرن- 1963)، رابح زناتي (1877 – 1952) وأكلي ابنه من جميلة دباش (1926) وطاوس عمروش أخت جان (1913 – 1976) ولكن مع هؤلاء الروائيين ندخل في مشهد آخر الذي ما بين سنوات 1945 و 1954 يدشن لنظرة جديدة في التعامل مع المجتمع الاستعماري.
في الروايات الأولى أو النصوص التي سبق التطرق إليها، الفرنسية كلغة أدبية مستنبطة عن الفرنسية التي تعلم خلال التكوين المزدوج في المدارس تتميز باللجوء إلى ألفاظ وأساليب حيث التكلف والتصنع يساوي بين الرعونة والصيغ المفخمة. هؤلاء الكتاب المتجذرين في اللغة العربية والثقافة العربية والإسلامية لديهم نماذج جمالية واقعية على وجه الخصوص وبمسحة خفيفة منقولة من بلدان أجنبية وموروثة عن فترة التكوين المدرسي . الاهتمام المهيمن يندرج في إطار إعلامي أكثر منه جمالي. لقد كتبوا من أجل الحديث عن حياتهم وحياة مجتمعاتهم، عن الاختلاف الذي يحببوه في خطاب الانتماء إلى مهمة التحضر التي حددتها فرنسا لنفسها عندما باشرت الاستعمار.
بواكير الفرنكوفونية الأدبية الجزائرية لا تشكل حركة ولكن ظهور أفراد ينحدرون من عائلات وجيهة . لايمكننا فهمها دون ربطها بما يجري في أماكن أخرى ليس فقط في مجموعة الأفكار التي تطرقنا لها باقتضاب ولكن في مجال المسرح المعرب مع محي الدين بشطارزي، رشيد قسنطيني وعلالو. في مجال الشعر باللغة البربرية (الممثل الأكثر شهرة لهذا النوع هو س محند أو محند(1845-1905) أو باللغة العربية مع الأمير عبدالقادر، محمد بن قيطون، محمد بلخير. كما يجب إدراجه ضمن مجموعة حيث تطفو شخصيات يسطع نجمها بصفة مؤقتة أو انفرادية كإليزابيت إبرهارت.(ElisabethEberhardt)
ابتداء من هذه التربة الخصبة المبعثرة والغير متجانسة بدأ الأدب الجزائري يشق طرق إنجازه داخل السياق الاستعماري الصعب بالقيود التي يفرضها وتخفيض المكتسبات السابقة لغوية كانت أم ثقافية."
2- النشأة و التطور
قبل الوصول إلى النصوص الروائية المختارة للدراسة في الفترة المشار إليها في البحث، كان لزاما علينا أن نتوقف ولو بإيجاز عند ما اعتبر أول المحاولات في كتابات الجزائريين المختلفة كسرد الأفكار لصاحبه "حمدان خوجة ، هدا العمل الذي طبع في باريس سنة 1833 ووجه إلى الرأي العام الفرنسي كان هدفه المحافظة على الجزائر ، هذه المحاولة وما تبعها لم تكن دراسات مطولة وإنما مرافعات قصيرة تبرز الطابع لاستعجالي لأخذ الكلمة والتعبير عن تواجد العنصر الجزائري المثقف كل حسب موقفه أو وظيفته أو تكوينه، واستمر ظهور تلك الكتابات التي مهدت الأرضية للإنتاج الروائي الذي قام بخطواته الأولى في ميدان القصة على يد سي أمحمد بن رحال* في أول نص أدبي سنة 1891م تحت عنوان "انتقام الشيخ" وهو ما اعتبره "جان ديجو"(Jean Déjeux) أول قصة مستقاة من التقاليد الاجتماعية الجزائرية ونشرتها المجلة الجزائرية التونسية الأدبية والفنية ، لكن يعود الباحث ديجو بعد قيامه بعملية مسح شامل مست كل ما كان يصدره الفرنسيون في الجزائر بين 1880 إلى 1920 من مجلات وجرائد فيقول بأنه عثر على نصوص قليلة موقعة بأسماء ذات "رنين عربي" – على حد قوله- لأنه كان يشك في هوية أصحابها ويرجح بأنها أسماء مستعارة من طرف مستوطنين فرنسيين مستثنيا منها اثنين:
الأول يدعى أحمد بوري وهو من نشر سنة 1912م، في جريدة "الحق"، رواية مسلسلة تحت عنوان "مسلمون ومسيحيون"، ويشير ديجو في دراستها إلى التناقضات التي أخفاها المؤلف في هذه القصة عندما كان يصور العلاقة بين الفرنسيين والجزائريين كأنها في غاية الانسجام ، أما المؤلف الثاني يدعى سالم القوبي ونُشر له عملان، مجموعة شعرية بعنوان 'حكايات وقصائد من الإسلام" سنة 1917، تبعتها أخرى سنة 1920 تحت عنوان "أنداء مشرقية"، ولا يختلف العمل هذا عن الأول حيث كان يمجد الإسلام والشرق وفرنسا في آن واحد .
ولما تميزت الفترة ما بين سنة 1891، سنة ظهور قصة "انتقام الشيخ" بفراغ في الإنتاج الأدبي لأسباب مختلفة وبين العشرينات التي ظهرت خلالها عدة نصوص أدبية لجزائريين كتبوا باللغة الفرنسية في مجال الرواية، فإن المؤرخ الأول للأدب الجزائري ذي التعبير الفرنسي "جان ديجو" يعد أول انطلاقة حقيقية لهذا الأدب الناشئ عن طريق القائد "بن شريف محمد بن سي أحمد في روايته: "أحمد بن مصطفى القومي" والتي ينظر إليها كأول رواية يكتبها جزائري باللغة الفرنسية، وهذا ما لا ينكره بعض الباحثين المعروفين ولكنهم يتجاهلونه في الوقت ذاته كما هو الشأن بالنسبة لكل الإنتاج الأدبي الذي كتبه الجزائريون بالفرنسية في فترة ما بين الحربين ، للإشارة فإن الفترة الممتدة بين بداية الاحتلال الفرنسي للجزائر وظهور هذا الأدب تزيد عن التسعين عاما وهذا ما يعتبر غير عادي وغير طبيعي إذا أخذنا بدعاوى المستعمر الذي كان يردد دائما أن رسالة في الجزائر هي رسالة حضارية.
والحقيقة أن تأخر ظهور هذا الأدب طيلة هذه المدة له عوامل وأسباب عديدة ومختلفة نكتفي بالتطرق إلى أبرزها وهما: سياسة العدوان المنتهجة من طرف الاستعمار وسياسة التعليم التي طبقها المحتل في الميدان.
لقد كان الجزائريون والمستوطنون الأوروبيون يعيشون فوق أرض الجزائر جنبا إلى جنب، ولكن كخطين متوازيين لا يلتقيان، كان لكل مجتمع منهما حياته الخاصة التي لا يشارك فيها الطرف الآخر فللجزائريين مقاهيهم ونواديهم وجمعياتهم الثقافية والرياضية الخاصة بهم، وللمستوطنين الأوروبيين ملاهيهم ومقاهيهم ونواديهم ومسارحهم. كما كانوا لا يسمحون للجزائريين بمشاركتهم أنشطتهم المختلفة حيث كانت تلك الأنشطة "نوعا من الفاكهة المحرمة على الجزائريين ، وبالمقابل كان الجزائريون من جهتهم لا يبدون أي رغبة في مشاركة المستوطنين أنشطتهم الثقافية أو الترفيهية ، وهو نوع من المقاومة السلبية للمحتل، وحفاظا منهم على ثقافتهم وهويتهم الخاصة بهم . كما عبر عن ذلك أحد الباحثين الفرنسيين حين قال : " لا يوجد بين فرنسا والجزائر سوى ألف كيلومتر من ماء البحر، ولكن يوجد بين أحياء الأوروبيون في المدينة وأحياء "الأهالي" مسافة فلكية هي تلك التي صنعها الاستعمار . هذه الوضعية العدائية المستحكمة التي ظلت تطبع العلاقة بين الطرفين منعت كل تبادل ثقافي أو تلاقح فكري أو تأثير حضاري بينها، لقد كان المحتل ينظر في الغالب إلى الثقافة المحلية نظرة احتقار، من جهتهم كان الجزائريون يتوجسون خيفة من ثقافة المحتل، ويقابلون بحذر كل ما يصدر عنه، ومن أشهر الأمثال الشعبية التي كانت متداولة على ألسنة الجزائريين لتترجم ذلك الخوف والتوجس قولهم : "كل ما يأتي من الغرب ما يفرح القلب".
لكن بدأت هذه الهوة تتقلص بين الطرفين عقب انتهاء الحرب العالمية الأولى حين وقع ما يشبه نوعا من التقارب الحذر بينهما، حيث حاول كل طرف الانفتاح على الآخر، كما ساعد على ذلك حالة الانفراج الدولي التي أعقبت الحرب وإعلان مبادئ الرئيس الأمريكي ويلسون(Wilson)الشهيرة التي كانت تتحدث لأول مرة عن حق الشعوب في تقرير مصيرها، إضافة إلى تجسيد هذا الانفراج من طرف الحكومة الفرنسية باتخاذ بعض الإجراءات السياسية والإدارية حففت من حدة التوتر فهيأت ولو قليلا الأجواء المناسبة لمثل هذا الانفتاح، حيث ظهر ما أصبح يعرف بقوانين 04 فبراير 1919 التي ألغيت بموجبها معظم مواد قانون "الأنديجينا" العنصري الذي حكم الجزائريين بقبضة من حديد ، وباتخاذ تلك الإجراءات، كانت الحكومة الفرنسية تريد رد بعض الجميل لما يقارب 73000 جندي جزائري كانوا قد شاركوا في الحرب تحت العلم الفرنسي، فقتل وجرح منهم الآلاف، كما كانت هذه لفتة اعتراف وتقدير منها لجهود العمال الجزائريين المقيمين على التراب الفرنسي والذين ضمنوا طوال فترة الحرب، استمرار دوران آلات المصانع الفرنسية عوضا عن العمال الأصليين الذين جندوا في الحرب .
بفضل هذه الاعتبارات واستنادا إلى القانون المذكور، أصبح من حق الجزائريين، ولأول مرة في تاريخ الاحتلال الفرنسي للجزائر إنشاء الأحزاب السياسية وإصدار الصحف والمشاركة في الانتخابات المحلية التي كشفت عن مدى صدق النوايا الاستعمارية في المضي قدما في وضع هذا الإصلاح موضوع التنفيذ الفعلي، لكن ما حصل في الانتخابات المحلية لمدينة الجزائر والتي فاز بها الأمير خالد بالأغلبية أظهرت عكس كل التوقعات .
كما كان هناك عامل سياسي آخر عجل بظهور الإجراءات الإصلاحية في السياسة الفرنسية اتجاه الجزائريين وهو استعدا المستعمِر للاحتفال بالذكرى المئوية لاحتلال الجزائر، لذا كان لا بد من إظهار شيء ما أمام الرأي العام العالمي، وحتى الفرنسي نفسه لتبرير استمرار احتلال الجزائر، ويظهر هذا "ثمار الرسالة الحضارية" التي طالما ادعى المحتل الفرنسي أنه جاء لنشرها في هذا البلد، لذلك تقرر تشجيع الأدب ونشر أعمال إبداعية لكتاب من "الأهالي"تظهر كيف أن "جمعة أو Vendredi " قد حفظ الدرس وتعلم من سيده المتحضر حتى أصبح يعبر عن مختلف شؤونه الخاصة بتلك اللغة.
لهذا ظهرت فجأة وبعد أكثر من تسعين عاما من الاحتلال، أعمال أدبية باللغة الفرنسية لبعض الجزائريين، كتب ونشرت على عجل للمناسبة، وبالرغم مما كانت تحويه من نقائص وعيوب، إذ يقول "ديجو" " فكان المؤلفون(الجزائريون) يريدون أن يبرهنوا (للمستعمر) أنهم تلاميذ نجباء ومقتدرون" .
في هذا الصدد، تميزت العشرية 1920-1930 بظهور خمسة أعمال أدبية حيث عقبت مجموعة سالم القبي الشعرية والسيرة الذاتية للقائد بن شريف روايات: "زهراء امرأة المنجمي" لشكري خوجة سنة 1928، ورواية " العلج أسير بربروسيا" للكاتب نفسه سنة 1929.
لم يشكل هذا الإنتاج الأدبي القليل عامل فخر إذا قيس بطول فترة الاحتلال أو حجم الدعاية التي أحاطت بها السلطات الفرنسية في الجزائر هذا الحدث، كما يعكس هذا العدد نفسه مدى عقم المدرسة الاستعمارية في سياستها التعليمية الخاصة بالأهالي ، بالإضافة إلى أن الكتاب الذين نشرت أعمالهم من أبناء البلد الأصليين قد اختبروا بعناية كبيرة، حيث كان ينتمي معظمهم إلى أبناء الذوات والمتعاونين مع الإدارة الاستعمارية ممن كانت أحوالهم ميسرة ويؤمنون لحد بعيد بفكرة التعايش مع المستعمر والاندماج في مجتمع المستوطنين، كما كان هؤلاء الكتاب يظهرون إعجابهم بالثقافة والحضارة الفرنسيتين في كثير من الأحيان ضمن كتاباتهم غير أن القضايا التي عبروا عنها قد عكست ، وربما عن غير قصد منهم العديد من الإشكاليات المعقدة التي كانت تطرحها تلك الثقافة الأجنبية بالنسبة للمجتمع الجزائري المسلم، ومن أهم ما كون الهاجس الرئيسي في تلك الأعمال الأدبية الجزائرية مسألة حرية تعاطي الخمور، ولعب القمار التي كانت تشكل جزءا من الحياة اليومية العادية للفرنسيين الذين أدخلوها معهم للجزائر فصارت شيئا مباحا لا يعاقب عليه القانون، وكذا تسامحهم في ممارسة الدعارة وتعاطي المخدرات، هذه الأمور التي كان الفرنسيون يعدونها من التصرفات الشخصية التي تتعلق بحرية الفرد، في حين تحرم الشريعة الإسلامية، دين كل الجزائريين، كل هذه الأشياء المذكورة وتلزم إقامة الحد على مرتكبها. وحتى أن هؤلاء الكتاب الأوائل لم ينظروا إلى الأمور المذكورة من الجانب الشرعي الديني المحض فإنهم أولوا العناية بتصوير أثارها المدمرة على الأسرة المسلمة في الواقع الاجتماعي وهذا ما عبر عنه في الروايات الأولى والتي سنتناولها بالتفصيل ونذكر منها "زهرة امرأة المنجمي" التي يبرز فيها الكاتب الأثر السلبي للخمرة التي أدت بالبطل إلى الانحلال الأخلاقي، ليسجن بعد ذلك على جريمة قتل لم يرتكبها في الحقيقة .
هذه الرواية وما تبعها بينت حتى وإن كان بصورة فردية أن موضوع معاقرة الخمرة، ولعب القمار، وتعاطي الحشيش لم يكن عفويا ولم يكن أبدا مجرد مسألة شخصية أو موضة أدبية لدى هؤلاء الكتاب ، ولكنه تجسد في هاجس اجتماعي تحركه انشغالات وتساؤلات فكرية وسياسية توضح الحدود الفاصلة بين المحرم والمباح في الدين وفي القانون المدني، بين حرية الفرد عند المستوطنين والضوابط الأخلاقية بالمفهوم الإسلامي ، هذا ما يبين أن أزمة هوية رافقت هذا الأدب الجزائري المكتوب باللغة الفرنسية ومنذ بداياته الأولى لتتطور فيما بعد.
وتحولت هذه التساؤلات بسرعة لدى هؤلاء الكتاب إلى حيرة أو أزمة ضمير حينما طرحت إمكانية حصول بعض الجزائريين على صفة "المواطنة الفرنسية" حيث ظهر السؤال المحير لدى الكتاب وحتى عند بعض الزعماء السياسيين والمثقفين الجزائريين باللغة الفرنسية بوجه عام ألا وهو: كيف يمكن للجزائري أن يصبح فرنسيا ويبقى في الوقت داته عربيا مسلما مع كل التناقضات الموجودة بين مستعمر حاكم ومحتل محكوم؟
كان هذا السؤال محور أساسي في معظم الروايات الجزائرية المكتوبة بالفرنسية والتي ظهرت في فترة العشرينيات إلى ما بعد 1945م، ونذكر على سبيل المثال : "مريم بين النخيل" (1934) لمحمد ولد الشيخ، و"بولنوار، فتى جزائري" (1941) لرابح زناني، ورواية "العلج أسير بلاد البرابر" (1929) لشكري خوجة والتي عالجت الموضوع ، خلافا للروايات المذكورة ، بطريقة غير مباشرة حين لجأ كاتبها إلى استلهام وقائعها من تاريخ "رياس البحر في الجزائر" في القرن ال 16 ليسقطها بشكل فني مميز يدفع به القارئ إلى استخلاص العبرة.
ولم ينحصر نقاش هذه المسألة في الروايات بل كان أيضا محل تدخل السياسيين ومن بينهم الزعيم الوطني فرحات عباس، أول من كرس استعمال صفة "الفتى الجزائري" في أدبيات الحركة الوطنية في فترة العشرينات والثلاثينات كدلالة على تواجد الجيل الجديد من المثقفين الجزائريين خريجي المدرسة الفرنسية، نشرت هذه الأفكار بين سنتي 1922 و 1930 في مقالات صحفية متفرقة ثم جمعت سنة 1931 في كتاب عنوانه "الفتى الجزائري"، كما اشتهر ترديد هذه التسمية بعد ظهور هذا الكتاب وبرزت في عناوين عديدة من كتابات الجزائريين باللغة الفرنسية خاصة في حقل الفن الروائي الذي اتخذ كوسيلة لتجسيد الأطروحات الفكرية الرئيسية كالدفاع عن المساواة في الحقوق والواجبات بين الجزائريين والأوروبيين مثلا فيما يتعلق بقانون الخدمة العسكرية الإجبارية والتي كانت مدتها تمتد ثلاث سنوات بالنسبة للمجند الجزائري ولا تتعدى ثمانية عشر شهرا بالنسبة للأوروبيين .
وقد جسد كتاب "الفتى الجزائري" أرضية نقاش الأفكار حتى توسعت الرؤى وبدأت تشمل التعرض إلى بعض القضايا الأخرى ذات الطابع الاجتماعي والاقتصادي ، من أهمها هجرة الفلاحين الجزائريين إلى فرنسا ليتحولوا هناك إلى عمال ، والاتهامات التي كانت توجه للشبان الجزائريين من خلال كل نشاط نقابي أو اجتماعي أو سياسي .
وأخرى ذات بعد حضاري وثقافي وديني، فشكلت هذه الموضوعات الخلفية الفكرية لمعظم الروايات التي سبقت فترة الخمسينات حيث دافع الروائيون من جهتهم بطرق شتى عن الإسلام، وعملوا على التعريف به، وإظهار سمو مبادئه، وعظمة رسالته اعتقادا منهم بأن الأوروبيين لا يعرفون الإسلام، فكانوا يحرصون أشد الحرص على الاستشهاد بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة مع التركيز على شرحها وتبين مقاصدها، لكن روائيي هذه الفترة، وفي تأثرهم بكتابات الأوروبيين من مدرسة الجزأرة*(Les Algérianistes ) اهتموا كثيرا بموضوع الزواج المختلط بين الجزائريين والفرنسيات في المحل الأول، ثم بين الفرنسيين والجزائريات وهو القليل حيث وظفوا، ما يعد خرقا للممنوع بالنسبة للفريقين لطرح مختلف القضايا الاجتماعية والثقافية وحتى السياسية التي تعتبر سببا رئيسيا في تباعد وتنافر الطائفتين. ووجد في النظر إلى هذا النوع من الزواج موقفان رئيسيان حيث عده البعض ممكنا ولكن غير مجد في خلق الانسجام نظرا لاختلاف العقيدة وهذا ما سنتطرق إليه في دراسة الروايات المختارة في المدونة موضوع البحث، في حين يرى الفريق الثاني أن هذا النوع من الزواج هو السبيل الوحيد لدفع التقارب والتفاهم بين المسلمين والمسيحيين، كما ذهبا إليه كل من "محمد ولد الشيخ" في رواية "مريم بين النخيل" ورابح زناتي في "بولنوار الفتى الجزائري"، أما الرأي الذي يتفق عليه الجميع أن ما يمنع تحقيق التقارب عن طريق هذا الزواج، فهي الأحكام المسبقة التي تحملها كل طائفة عن الأخرى وعدم استعدادها الفعلي للتخلي عن مواقفها، مما يشكل ضغطا اجتماعيا قويا يهزم أبطال هذه المغامرة فيحولهم إلى ضحايا مجتمع، كما حدث لبطل الرواية المذكورة "بولنوار الفتى الجزائري" ، وكذا بطل رواية " ابن الفقير" لمولود فرعون والتي يعود تاريخ كتابتها إلى سنة 1939، حيث يلتقي كاتبها مع من سبقوه في الإيمان بفكرة الاندماج والتعايش مع الأوروبيين، حيث كان مولود فرعون ، كتب روايته انطلاقا من منظور أن الأهالي قد أتيحت لهم الفرصة للتعرف على فرنسا عن طريق الهجرة وعن طريق المدرسة، "حتى أن أطفال القرية يعرفون من أين ينبع نهر السين(...) ، إلا أن هذه المؤلفة كانت تختلف عن إنتاج كتاب هذه الفترة ، إذ ابتعد الكاتب فيها عن طغيان السيرة الذاتية واعتمد في عمله على تصوير العادات والتقاليد القبائلية خاصة، ونشير هنا إلى امتداد ظاهرة الرفض الذي عبر عنه فيما بعد كتاب فترة ما بعد 1945، كما كان الشأن بالنسبة لمالك بن نبي في رواية "لبيك" التي كانت تعالج موضوع الخمرة والضياع، كما شكل ظهور أعمل محمد ديب (1954) منعطفا حاسما في تطور الأدب الروائي الجزائري المكتوب باللغة الفرنسية الذي تجاوز الفوقية في معالجة المشاكل الحقيقة وبدأ يطرح تساؤلات محددة وصريحة عن الهوية الوطنية وعن مفهوم الوطن وعن الهوية الحقيقية للجزائريين.
وخشية منا أن نخرج عن موضوعنا والذي هو نبذة عن نشأة وتطور وبعض قضايا أدب الجزائريين المكتوب باللغة الفرنسية في مرحلة ما بين الحربين، لا بد لنا أن نشير هنا إلى أسماء كتاب جدد من أصل جزائري برزوا في فرنسا في العقدين الأخيرين وهم في معظمهم من أبناء العمال المهاجرين الجزائريين أمثال "مهدي شارف"، "علي غالم"، "زوليخة بوقرط"، هؤلاء الذين يعرفون حاليا ب"البير" (Beur) أو الجيل الثاني من المهاجرين الجزائريين يتناولون موضوعات لها صلة من قريب أو بعيد بالجزائر حتى وإن تعلقت تلك الموضوعات بصميم الحياة اليومية في المجتمع الفرنسي المعاصر، وهذا ما نراه في نظرنا امتدادا و تطورا طبيعيا لأدب الجزائريين السابقين باللغة الفرنسية بوجود الفوارق في المستويات الفنية واللغوية .
هذا ما نعتبره نبذة عن الأدب الجزائري المكتوب باللغة الفرنسية من حيث التطور عبر مراحله المختلفة والتي يمكن تصنيفها إلى أربع فترات رئيسية منها مرحلة البداية والتي كانت متعثرة فنيا ومتذبذبة سياسيا وامتدت من قبل 1920 إلى 1945 مع ظهور المرحلة الثانية التي شهدت على اندلاع ثورة التحرير والتي تميزت بالقلق والترقب، ثم أتت مرحلة الثورة التي غاب فيها مجال التردد والحياد عند الكتاب، حتى أتت مرحلة ما بعد الاستقلال التي عرفت تنوعا كبيرا في الرؤى والمواقف حول كل القضايا الاجتماعية والسياسية والفكرية والفنية حيث تضاعف الإنتاج في كل الأنواع الأدبية، من شعر، ومسرح، نثر بتنوع في الموضوعات حسب التوجهات الفكرية الجديدة والمختلفة حسب كل مرحلة عن التي سبقتها، هذا ما يؤكد أن عملية تكوين الدوائر الثقافية والسياسية للجزائر لم تكن تستغني عن المساهمة البناءة لمثقفي فترة ما بين الحربين في نمو وتطور فكرة المثل والهوية الثقافية للبلاد.
3- كتاب ومؤلفات
إنه وفي هذا المنظور وجب علينا إعادة وضع دراسة دور أوائل الكتاب الجزائريين باللغة الفرنسية الذين غالبا ما يدرجون وبسرعة في خانة "منشدي الإدماج" من دون معرفة حقيقية أو دراسة معمقة لأعمالهم الأدبية (لمؤلفاتهم). ينتمي هؤلاء الكتاب إلى الطبقة الرهيفة من المثقفين المفر نسين داخل المجتمع الجزائري والذي سبق لنا وأن حددنا معالمهم الفكرية وتحدثنا عن انشغالاتهم ، حيث أن حياة كل واحد منهم تتميز بارتباطها العميق بالهيئات والمؤسسات الاقتصادية والاجتماعية التي وضعها النظام الاستعماري من أجل إحكام سيطرته. هذا الارتباط الوثيق لم يكن جليا عند طبقة المثقفين المفر نسين فحسب، بل شمل ولو لدى جزء منهم، مجموعة المثقفين المتخرجين من القالب الإسلامي. تبقى المجالات التي توفرها الإدارة والقضاء والتعليم والجيش من بين الأماكن المفضلة حيث تنتعش وتتطور هذه الطبقة الرهيفة المحلية والتي تستعمل في الإنابة عن السلطة الاستعمارية. تعطي موسوعة الكتاب المغاربة باللغة الفرنسية لصاحبها (Jean Déjeux) ملخصا مقتضبا لسيرة الكتاب موضع الدراسة، ولكن في ما يخص العمل الذي نريد إنجازه، فقد حاولنا أن نجد معلومات أكثر تفصيلا فيما يخص هؤلاء الكتاب، كما سنحاول البحث عن أوجه التشابه البليغة فيما بينهم أو إذا لزم الأمر الحديث عن خصوصياتهم داخل السياق الثقافي والأدبي للفترة التي عايشوها.
1- بن الشريف محمد بن سي أحمد (1879-1921)
ينحدر من قبيلة أولاد سيدي أمحمد التي كانت تنتشر في الهضاب العليا الوسطى في الجزائر، في منطقة الجلفة على وجه الخصوص. إنه أول جزائري مسلم ينشر رواية كاملة باللغة الفرنسية. عمل أبوه تحت لواء الأمير عبد القادر قبل أن يعلن موالاته لفرنسا، وبقيت عائلته من بعده وفية لهذا الالتزام. من طالب في ثانوية الجزائر، ثم سان سير (Saint-cyr)– ضابط مرافق للحاكم جونار "Jonnart"، ملازم في فيلق السبايس، وأخيرا قايد لقبيلته، مسيرة محمد بن الشريف كما نرى، هي مسيرة صاحب امتياز داخل النظام الاستعماري. إنه لا يعبر عن امتنانه لفرنسا عبر كتاباته فحسب ولكن من خلال حياته كاملة. بعد مشاركته في حرب المغرب الأقصى سنة 1908، لم يتورع في الذهاب إلى جبهة الحرب إبان الحرب العالمية الأولى.وسرعان ما سقط في الأسر ليتم ترحيله إلى ألمانيا، ليحول فيما بعد إلى معتقل سويسرا. وبالرغم من كل هذه التقلبات بقي وفيا لالتزاماته إلى جانب فرنسا، وعند انتهاء الحرب، وبعد عودته إلى الجزائر عاود الاشتغال بمهامه كقايد لقبيلة أولاد سي أمحمد، توفي سنة 1921 أثناء وباء الطاعون الذي ضرب المنطقة حيث جاء لمساندة رجال قبيلته في محنتهم قبل يتوفى بدوره بعد إصابته بالعدوى.
وصل عدد المسلمين المجندين طواعية في صفوف الجيش الفرنسي خلال الحرب العالمية الأولى حدا تفاجأ له المسئولون في الجزائر، تم إحصاء 87500 مجند طوعي من بين 173000 مسلم في صفوف الجيش حيث سقط منهم في ساحات المعركة 25000 جندي مسلم مقابل 22000 فرنسي من الجزائر ، تترجم هذه الأرقام مدى أهمية الشريحة من المجتمع الجزائري التي اختارت طواعية أو مكرهة الخوض في سبل الإدماج أو على الأقل التعاون مع قوى النظام الاستعماري. لذا لا يجب الاندهاش من كون صاحب أول رواية باللغة الفرنسية يعمل جنديا، لأن الجيش يشكل المكان المفضل للاتصال والالتقاء بين العرب والبربر والأوروبيين القادمين من مشارب مختلفة من المستعمرة. وهذه الرواية ليست الأولى ولا الأخيرة من مجموع المؤلفات الفكرية التي تنشر بالفرنسية لمسلمين جزائريين مجندين في الجيش الفرنسي. إسماعيل هامات ، عبدالله بوكابوية ، سعيد قنون ، وفيما بعد الأمير خالد، حتى لا نذكر إلا بعض الأسماء من الذين كتبوا وخاطبوا في ظروف وحالات مماثلة داخل الجيش. بالنسبة للكثير منهم كان الهدف المرجو من وراء كتاباتهم هو تقديم المسلم بديانته وتقاليده ومطالبه إلى الفرنسيين وليس بناء على الكليشيهات والصور السلبية التي صنعها عنهم المستعمِر ، ولكن من الداخل وبحسب النظرة التي يوقعونها عن أنفسهم أو كما يريدون أن يظهروا للآخرين. وهكذا فإن أول طبعة لمحمد بن شريف هي سرد لمآثر السفر والذي يستجيب لهذا المنطق. وحيث أن الهدف المبتغى هو تقديم الحج إلى البقاع المقدسة ومدى أهميته بالنسبة إلى المسلمين وهنا يتضح لنا جليا ومن خلال كتاباته وحياته، أن الكاتب بقي متعلقا بقوة بالقيم الإسلامية، وحتى أن ارتباطاته بفرنسا وبجيشها لم تنقص من انتماءاته العرقية ولم تؤثر في هويته العربية المسلمة.
-2-عبد القادر حاج حمو(1953-1891):
ينحدر صاحب الرواية الثانية في هذه المدونة بدوره من عائلة كبيرة، هي عائلة حاج حمو من مدينة مليانة. وعلى النقيض من عائلة محمد بن شريف، لم يكن للجيش الفرنسي دور في شهرة عائلة عبد القادر الحاج حمو (1891-1953)، ولكن في مجال الدين والتشريع الإسلامي. فمن بين أجداده هناك ولي صالح في معسكر، عمل أبوه قاضيا في مدينة مليانة وهو الذي اقترح في سنة 1893 مشروع إصلاح القضاء الإسلامي في الجزائر أمام لجنة مكونة من سيناتورات، واصل الابن سيرة أبيه، فبعد دراسته في مدرسة الجزائر، امتهن القضاء، ولكونه يجيد اللغتين : العربية والفرنسية، ما أهله لتدريس اللغة العربية وتحصيل شهادة مترجم قضائي.
في سنة 1930، وعند الاحتفال بمرور مائة سنة على احتلال الجزائر وجه خطابا في سيدي فرج باسم الكتاب باللغة الفرنسية من أصول عربية وبربرية. عبد القادر الحاج حمو هو الروائي الجزائري باللغة الفرنسية في حقبة ما بين الحربين (الأولى والثانية) الذي كان على اتصال مكثف بمعاصريه من كتاب ما بات يعرف بالأدب الاستعماري. انتماؤه إلى الماسونية وصداقته ب Robert Randauوجان بوميي Joan Pomier جعلته يتبوأ مكانة هامة في حركة الجزأرة. وجهت له دعوة لشغل نائب رئيس جمعية الكتاب الجزائريين بعد الحرب العالمية الثانية. بدأ أعماله الأدبية بأقصوصة نشرت سنة 1925 ضمن مجموعة قصصية قدم لها لويس برتران (Louis Bertrand) صدر له في نفس السنة "الزهرة زوجة المنجمي" . ثم بعد سنوات أخرى صدر له وتحت اسم مستعار مع روبرت راندو(Robert Randau) حوار في قالب قصصي اعتبر فيما بعد إنجيل التعايش ما بين الأوروبيين والسكان الأصليين، كما أن لصاحبنا عدة مقالات في الصحف والجرائد لتلك الفترة إلى جانب مجموعة من الحكايات (contes)صدرت له في أربعينات القرن الماضي. لقد استعمل مرات عديدة أسماء مستعارة لإصداراته (العربي أو عبد القادر فكري) ونتيجة لذلك كان له عنوانان مختلفان بالجزائر العاصمة.
وفاؤه للإسلام، جعله يحلم بجزائر فرنسية إلى الأبد، مدمجة كليا حيث يحترم كل واحد فيها تعاليم ديانة الآخر. من خلال حواره مع روبرت راندو (Robert Randau) ومن خلال إصداراته في المجلات ، ترتسم صورة مثلى للتعايش بين مختلف الأطراف التي يتشكل منها الشعب الجزائري، تناقضات كثيرة ومحاولة لإخفاء حقيقة المستعمر كما تميزت كتاباته بمطابقتها الشديدة لثقافة المحتل وهو الأمر الذي أدهش القراء الحاليين وجعلهم يتساءلون عن مدى نزاهة واستقامة مواقفه المختلفة . ولتقدير عمق هذا التماثل الفكري الذي عمل جاهدا من أجل مطابقة الخطاب الإيديولوجي المهيمن آنذاك. دعنا نقرأ بعض المقاطع المدهشة من مقالة صدرت له في مجلة (Mercure de France)زئبق فرنسا .
"نؤمن بأن فرنسا هي أعظم قوة إسلامية في العالم ، لذا وجب على كل فرنسي معرفة الإسلام والمسلمين.
أو عندما يتكلم عن نفوذ فرنسا في بلاد المسلمين.
لقد بدأ المسلمون في الجزائر والمغرب ومنذ أن رفرف العلم الفرنسي فيها، فهم ديانتهم التي كانوا يجهلونها".
بمجيء فرنسا، لازالت مدارسها تبدد ظلمات الجهل.
من هنا نفهم أن عبد القادر حاج حمو لم يكن له أي تقدير لدى الوطنيين الجزائريين وأن الأدب الجزائري باللغة الفرنسية سرعان ما تجاهل مؤلفاته الأدبية. إذا كانت رواية "زهرة زوجة عامل المنجم" لاقت الكثير من النقد بسبب الخرق والرعونة في التعابير إلى جانب ثقلها في الأسلوب إلا أن حواراته مع روبرت راندو في "رفقاء الحديقة" هي التي أثارت نقدا عنيفا ولاذعا بسبب مثاليته التي تخفي حقيقة النظام الاستعماري ويوميات المسلمين في جزائر ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية. إن المسار الفكري لعبد القادر حاج حمو وارتباطه الداخلي يجعلان منه الروائي الأكثر ريبة وإشكالية عندما نتناول أعماله الأدبية. بالفعل ، كيف يمكن لنا الآن قراءة وفهم خطاب سماته الأساسية، التناقضات الضرورية والأوهام التي كان من الصعب تجنبها في تلك الفترة.
وكما سيظهر لاحقا فإن مجال الخيال الأدبي هو الكفيل بتحرير الروائي من الضغوطات الخارجية والداخلية التي تبقي نظرته للعالم رهينة إطار يحدده الخطاب الاستعماري لتلك الفترة.
-3-شكري خوجة (1891-1967) :
اسمه الحقيقي حسن خوجة حمدان، هو صاحب رواية"العلج أسير البرابره". يعتبره البعض بأنه الأكثر جرأة وإثارة من باقي الكتاب الجزائريين بالفرنسية في الحقبة الاستعمارية. بالفعل لم يكن له إسهامات في المجلات الأدبية والثقافية لتلك المرحلة، وبغض النظر عن الروايتين موضع دراستنا ، لم تعرف له إصدارات أخرى، بالرغم من أن سلفه ومساره الدراسي والمهني لم يختلفا كثيرا عن عبد القادر حاج حمو. ولد في عائلة من صغار التجار برأسمال ثقافي معتبر، فكان جده (والد أمه) رئيسا لمحكمة الجزائر وكاتبا. مساره الدراسي بدأ في المدرسة الابتدائية المخصصة لأبناء السكان الأصليين بحي سوسطارة حيث تحصل على شهادة الانتهاء من الدراسة الابتدائية. فقد أباه وسنه 16 عاما وهو ما دفعه إلى العمل بائعا عند تاجر يهودي في وسط العاصمة، ليتحول فيما بعد للعمل في الإدارة. وفي سنة 1916 عندما كان عمره 25 عاما تمكن من الالتحاق بمدرسة الجزائر ليحصل على شهادة المدرسة أولا ثم في سنة 1922 حصل على الشهادة العليا للمدارس. بحكم تمكنه الجيد للغتين الفرنسية والعربية وبعد اجتيازه للمسابقة ، تم تعيينه مترجما قضائيا في أحياء وبلدات مختلفة تابعة للجزائر العاصمة .
هذا الموظف الهادئ والوجداني حظي باحترام رؤسائه، وهو ما سمح له بالحصول على تعيين كممتحن لجميع أقسام الترجمة القضائية في سنة 1933. لم يشارك بفعالية في الحركات الشبابية في الجزائر إلا أننا يمكننا التخمين بأن أفكاره كانت تتقارب وأفكار هؤلاء الشبان وأن الانهيار السياسي لهم والعنف الذي انجر عن الحرب التحريرية أثر سلبيا على صاحبنا . من المهم الإشارة إلى أن هذا المثقف المزدوج اللغة الذي نشر روايتين بالفرنسية، كان عضوا نشيطا في جمعية ثقافية مسلمة في البليدة، وجمعية للتعاون الاجتماعي بالمدية. وهذا يوضح جليا ما سبق وأن تحدثنا عنه عن العلاقات التي كانت تربط المثقفين المفر نسين بنظرائهم في الحركات الإسلامية. ينتمي شكري خوجة إلى مجموعة المثقفين الذين حاولوا التحقيق عبر مؤلفاتهم وحياتهم تركيبة تشمل الجزائر المسلمة ومجتمع على الطريقة الفرنسية، بهوية ثقافية جزائرية وتكوين فرنسي، وضعية غير مريحة باستمرار والتي تسببت من دون شك في هموم وقلاقل داخلية انجر عنها انهيار عصبي شديد في السنوات القليلة التي سبقت وفاته والتي أتلف خلالها كل أعماله الأدبية وكتاباته المختلفة. في بداية سنوات التسعين أعيد نشر روايته من طرف الديوان الوطني للإصدارات الجامعية وهو ما يعتبر في حد ذاته حالة نادرة.
- 4- محمد ولد الشيخ (1906-1938)
في 23 فبراير سنة 1906 في الجنوب الوهراني وبالتحديد في مدينة بشار، من بين الخمس كتاب لمدونتنا يبقى الوحيد الذي يشتغل بالوظيفة ضمن الهيئات الاستعمارية كباقي المثقفين المفر نسين لتلك الفترة. ينحدر من أسرة كبيرة من الجنوب الوهراني والتي كانت لها تأثير حاسم في التطور التاريخي لتلك المنطقة ، ومن المهم الإشارة إلى كيف أن الدور التاريخي لهذه العائلة (أولاد سيد الشيخ) يطرح بشكل مغاير عن باقي المثقفين لفترة ما بين الحربين، فلننظر إلى تقديم هذه العائلة بحسب ما يرويه عنهم' جان ديجو' ثم حسب أحمد الأنصاري صاحب أعمال كثيرة بخصوص هذه الفترة.
"إنه ابن الأغا الشيخ بن عبد الله الذي عمل على انتشار النفوذ الفرنسي في منطقة كولمب بشار" .
فضلا عن ذلك فإن الروائي ينحدر من عائلة الأشراف الكبرى لأولاد سيد الشيخ التي لعبت دورا رئيسيا في إثبات الهوية الجزائرية. من انتفاضة 1864 إلى تلك التي اندلعت سنة 1891، برهن أولاد سيد الشيخ عن رفضهم الاستعمار واعتزازهم بهويتهم الإسلامية.
ولكون الروائي قد ورث من هذه العائلة الشريفة الأنفة والاعتزاز فقد احتفظ في أعماقه بتعلق شديد بالإسلام."
ومن دون الدخول في جدل إيديولوجي وتاريخي، فإن المقولتين السابقتين تتحدثان عن نفس العائلة ولكن بحسب حقبتين تاريخيتين مختلفتين، وباستعارتنا للمفردات التقنية التي استعملها عبد القادر جغلول أن العائلة مرت من مرحلة (المقاومة –الرفض) إلى مرحلة (المقاومة-الحوار)
وفي كل الأحوال فإن محمد ولد الشيخ تابع مساره الدراسي الكلاسيكي المخصص للعائلات الجزائرية المترفة، دراسة ابتدائية في مدرسة فرنسية في بشار ثم التحق بثانوية في وهران التي انفصل عنها لأسباب صحية عاد إلى الجنوب دون أن ينهي دراسته الثانوية بعد إصابته بمرض رئوي كاد يتفاقم بوجوده في وهران بالرغم من استجما مات في فيشي (Vichy)، بوحنيفية وتلمسان، إلا أن حالته الصحية لم تتحسن حيث وافته المنية وهو في 32 من العمر، وذلك في جانفي من سنة 1938. وعلى النقيض من كتاب الفترة هاته، لم يعمل صاحبنا في الهيئات الإدارية والقضائية أو التعليم الاستعماري بسبب مرضه، والنشاط الوحيد الذي عرفناه عنه هو الكتابة ونشر أعماله الأدبية. ولكن وفي واقع الأمر فإن عدم الارتباط يبقى نسبيا، كون عائلته المصدر الرئيسي لتموين حياة الكاتب الارستقراطية وإن كانت قصيرة والاستجمامات التي كانت بعيدة المنال بالنسبة لغالبية سكان المنطقة بقيت خاضعة لعلاقتها بالسلطة الاستعمارية.
بالإضافة إلى الرواية المطروحة للدراسة، فإن محمد ولد الشيخ كتب العديد من الأقصوصات والحكايات والأشعار نشرت في "مجلة وهران" وديوان لأشعار نثرية صدر تحت عنوان "أغاني من أجل ياسمين" . لصاحبنا كذلك مسرحيتان، ثانيهما "صمصم الجزائري"؟ التي ترجمت إلى العربية ليقوم محمد بشطارزي بإخراجها أولا سنة 1937 وثانيا في سنة 1947 قبل أن تمنعها السلطات الاستعمارية. تعد " مريم بين النخيل" الرواية الأولى لفترة مابين الحربين التي يتم إعادة نشرها في الجزائر المستقلة سنة 1985 بتقديم مفصل لأحمدالأنصاري حول الظروف التاريخية والثقافية لهذه المرحلة. بإمكاننا القول الآن أن محمد ولد الشيخ هو الروائي الوحيد من بين كتاب مدونتنا الذي يلاقي قبولا وترحيبا في الجزائر اليوم. على النقيض من الروائيين المفر نسين الذين عاصروه يبقى محمد ولد الشيخ الوحيد الذي أعيد إدماجه في نطاق التراث الأدبي الوطني الرسمي.
-5-رابح زناتي (1877-1952)
هو آخر روائي جزائري يصدر رواية باللغة الفرنسية مليئة بالخطابات الداعية للإدماج. كما مكننا القول بأنه آخر ممثل للتوجه المعروف باسم (المقاومة-حوار). بالفعل فبعد نشره لروايته "بولنوار الشاب الجزائري" سنة 1945، لم نرى له إصدارات لروايات جديدة بهذا الأسلوب الذي تميزت به سنوات الاستعمار، حيث أن الخيال يرضخ بقوة للخطاب الإيديولوجي المهيمن. والذي يطغى على السطح إرادة واضحة في الإدماج تخفي في نفس الوقت كل الغموض والالتباس الذي يعتري المحاولة.
ولد رابح زناتي في منطقة القبائل الكبرى في عائلة متواضعة، ولنقل فقيرة والتي لم يكن لديها جميع الامتيازات الاجتماعية والاقتصادية لكتاب تلك الفترة.
في سنة 1871، شارك والده في ثورة المقراني ، أحرق البيت الذي كان يؤوي العائلة في العمليات الانتقامية التي كان ينتهجها جيش المحتل ، مما دفع العائلة للاحتماء في مغارات جبال جرجرة، في أيام صباه، الطفل رابح عمل على رعي قطيع صغير من الماعز طوال النهار على غرار أقرانه من أطفال منطقة القبائل، لم يلتحق بالمدرسة الفرنسية إلى حين بلوغه سن 12 من العمر دون رضا والده الذي كان يريد إبعاده عن سيطرة الفرنسيين.
بالرغم من هذه البداية المتأخرة إلا أن الطفل رابح برع في دراسته والشيء الأهم بالنسبة لمستقبله فإنه آمن بقوة بفرنسا مثالية عادلة وصانعة للحضارة. حصل على شهادة مدرس سنة 1903 ليحصل بعدها على الجنسية الفرنسية ولكن تجربته الكبيرة التي اكتسبها خلال الحرب العالمية الأولى صنعت منه مناضلا متحمسا في سبيل الإدماج وهو ما أهله للعب دور الوسيط بين الأوروبيين والمسلمين. في هذه المقدمة التي سبق الحديث عنها، يتحدث عن نفسه بصيغة الغائب.
"السنوات الأربع للحرب مكنته من الاطلاع على الكثير من الأشياء وبخاصة القيم الأخلاقية للبشر(...). معرفته الدقيقة لعقلية الفرنسيين في أوساط مختلفة، حياتهم النقية والمعتدلة مكنته من تكوين نظرة حول احتمال إدماج إخوانه الذين يشغلون مراتب منحطة ومهملة باحتراس وحكمة وعلى مراحل. ومن هنا فإن قراره بلعب دور الوسيط، نقطة الوصل لضمان الالتحام بين شعبين محكوم عليهما العيش في مجتمع بمصالح وأفكار مشتركة".
شغل بعد انقضاء الحرب، منصب معلم ثم مدير مدرسة في القطاع القسنطيني إلى حين حصوله على المعاش سنة 1934، وهي المرحلة التي عمل فيها في المجالين الفكري والثقافي، بدأ بكتابة مقالات صحفية، إلى جانب مساهمته سنة 1922 في إنشاء "صوت البسطاء" والتي عرفت بداية ب"نشريه المعلمين الذين ينحدرون من أصول جزائرية" ليؤسس في سنة 1929 جريدة خاصة به "صوت السكان الأصليين". عبر جميع كتاباته يظهر أن رابح زناتي كان يناضل من أجل تحرير وإدماج إخوانه في المذهب من خلال تعميم التعليم لديهم وتمكينهم من حقوقهم السياسية . ممثل حقيقي لتيار الشباب الجزائري، بعد أن كان قريبا من فيدرالية المنتخبين من أصول جزائرية، وبعد مرور الزمن، والإخفاقات السياسية التي تراكمت والراديكالية التي طبعت مواقفه، وجد نفسه تدريجيا وحيدا مع أفكاره. وبرغم كل خيبات الأمل التي مست الشبان الجزائريين وفيدرالية المنتخبين ، واظب في المحافظة على مواقفه وواصل العمل بتوظيف موارده الشخصية وكل طاقته. خلافا للرواية التي تشكل جزءا من مدونتنا هاته، لم نعرف له أعمالا أدبية أخرى.
لقد تحدث أساسا عبر صحيفته، التي أصبحت تعرف ب "الصوت الحر جريدة الاتحاد الفرنسي المسلم" بداية من سنة 1947 وعبر نصين بطابع سياسي صدرا له سنة 1938. ووفق مواقيت متباعدة ببضعة أشهر، الأول في باريس والآخر في قسنطينة تحت اسم مستعار .
إذا قدمنا أعمال أنصار الإدماج على أنها أعمال وطنية وأيديولوجية فهذا يعني أننا لم نتمعن إلا في المقاطع التي تمجد فرنسا ورسالتها الحضارية في الجزائر. ولكن في واقع الأمر ، قراءة معمقة وموضوعية لكتاب رابح زناتي تمكننا من اكتشاف عند هذا الرجل تعبيرا لنضال فكري صادق ويائس أحيانا، لم يتورع في انتقاد السلطة الاستعمارية مع التمسك بجذوره الفكرية والعقائدية.
وتصديقا لذلك، لننظر إلى مقطع من مقالة تميل إلى الهزل حينا وإلى الدراما حينا آخر، صدرت له في الصفحة الأولى من جريدة "صوت الأهالي" سنة 1933 والتي هي حسب ما يبدو بقلم مدير الجريدة.
الوصايا العشر للمستعمَر:
1- عليك أن تتخلى عن تاريخك وعليك أن تتعلم تاريخنا وعليك أن لا تحلم بالدخول إلى عائلتنا.
2- عليك أن تحفظ عن ظهر قلب قيمنا المتمثلة في الحرية والمساواة والإخاء وترتلها في المدرسة ولكن يستحيل عليك المطالبة بها في الحياة العملية.
3- في المجالس المنتخبة، عليك الاحتفاظ بمنصبك السفلي، والموافقة بإشارة من رأسك فقط ومن دون أن تطمع في الدفاع عن مصالحك(…)
مصادق عليه، البيكو الفرنسي
بقراءة هذه المقالات الصحفية المعبرة عن يأس يتزايد يوما بعد يوم، وبالاطلاع على النص السياسي الذي صدر له في قسنطينة سنة 1938، تحت اسم مستعار وبعنوان (كيف ستضمحل الجزائر الفرنسية) نبقى نتساءل كيف أن هذا الرجل بقي وفيا إلى حين وفاته لأفكاره المطالبة بالإدماج، أفكار ما فتئ أن تنازل عنها كثير من أصدقائه المثقفين المفر نسين تدريجيا في الثلاثينات من القرن الماضي وبخاصة بعد فشل مشروع بلوم – فيولات(Blum-Violette).*
صدور روايته في سنة 1945 التي هي موضوع دراستنا والتي هي تصوير مطابق لحركة الشاب الجزائري تبدو "متأخرة" مقارنة بالأحداث والتطورات التي عرفتها الدوائر الفكرية والأدبية في الجزائر المسلمة, وعليه إذا قرأنا كتابات رابح زناتي لأواخر الثلاثينات وإذا فكرنا في نصه "كيف ستضمحل الجزائر الفرنسية" يصعب علينا الفهم في كون الكاتب يصدر روايته سبع سنوات بعد ذلك موضوعها الأساسي إصراره على إمكانية الإدماج والتعايش مع الفرنسيين.
سنحاول في أعمالنا التي ستلي الإجابة على هذه التساؤلات. وما هو مؤكد أنه وخلال سنة 1945 والمظاهرات التي شهدها القطاع القسنطيني والقمع الشنيع الذي تلاها طويت صفحة من تاريخ الجزائر نهائيا.
وفي كلتا الجهتين فإن مناضلي الإدماج أقروا باستحالة تحقيق هذا المبتغى وأن أحلامهم أضحت ضربا من الخيال. في المجال الأدبي، هذه الصحوة المفاجئة للحقائق ترجمتها نهاية سلسلة الروايات التي تمجد احتمالات ومزايا الإدماج من جهة ومحاولة تقديم جزائر مستعمرة وبثقافات متعددة ، فرنسية ومحترمة لحقوق السكان المسلمين.
من مجموع الروايات التي تتشكل منها مدونتنا، جلها صدرت بفرنسا واثنتين فقط صدرتا بالجزائر عن دور نشر يملكها فرنسيون في المستعمرة. هذه الملاحظة تبين لنا مدى ارتباط الدوائر الثقافية الجزائرية بالنظام الاستعماري.
ضعف الوسائل عند المثقفين الجزائريين يظهر جليا في جميع المستويات عند إصدار ونشر كتاباتهم وعند توزيعها أيضا. فبغض النظر عن بعض المحاولات فأن الصحافة ونشر الكتب يبقيان خاضعين للدوائر الاستعمارية فيما يخص التموين بالورق، الطباعة والتوزيع. هيمنة الدوائر الاستعمارية على المطبعات والتوزيع تؤثر من دون شك على الكتاب وتحد من حرية التعبير لديهم بحكم الرقابة المسلطة عليهم وبحكم الرقابة التي يمارسونها على أنفسهم أيضا.
وبالنظر إلى العدد الكبير للمقدمات التي تتصدر روايات مدونتنا والتي تتسم بميزتها الأبوية نفهم أكثر مدى إرتباط كتابنا بأصحاب دور النشر وبالدوائر الثقافية الاستعمارية.
للحديث عن مشاكل الطباعة والتوزيع، التساؤل الآخر الذي يكتسي أهمية قصوى والذي يجب أن نطرحه لمعرفة القارئ الرئيسي لكل هذه الأعمال الأدبية المدونة بلغة وأيديولوجية غربية، وأكثر غرابة منها الأسلوب المفروض على الروائيين أنفسهم ، لقد أشرنا في بداية هذا العمل إلى النسبة الكبيرة للأمية مابين الأهالي في جزائر ما بين الحربين والعدد المحدود للمثقفين الذين يقرؤون ويكتبون باللغة الفرنسية. حقيقة هذه الأرقام تؤكد الإحساس الذي يتولد عند قراءة هاته الروايات ، هذه الأعمال موجهة إلى الفرنسيين عموما وسكان فرنسا على وجه الخصوص. بعد قرن من الاستعمار بدأ المستعمر يتكلم عن نفسه، يقدم نفسه للآخر بتبنيه للغة وشكل وأيديولوجية فرضها المحتل. إنها الفترة التي تمكن فيها الجزائريون من اللغة الفرنسية إلى درجة التأليف بمحاكاة الكتاب الذين يفضلونهم ومنها توجيه النظرة التي صنعها الأوروبيون عن الشعوب المغزوة: تاريخ الأدب الجزائري باللغة الفرنسية بدأ مع فترة التشبع بالثقافة والمحاكاة حيث أن الانبهار بالآخر تساهم بجزء لا يمكن تجاهله في عوامل تحفيز الكتاب.
الخاتمة
إنه لمن الصعب أو حتى الخطأ الفصل بين الرواية الجزائرية المكتوبة بالعربية والرواية الجزائرية المكتوبة بالفرنسية، كما أنه لمن الصعب الجزم أيضا بتأثير هذه في تلك لمجرد الأسبقية عليها في الظهور و النشأة و التطور، ومما لا شك فيه أنهما تلتقيان في سمات مشتركة وذلك بفعل انطلاقهما من أرضية مشتركة لأن كلاهما تعيد صياغة للمجتمع بوصفه كيانا موضوعيا متميز بوجوده، ولا بد هنا من الوقوف عند ارتباط الحركة الأدبية الجزائرية باللغتين ومنذ نشأتها بالمسألة الوطنية والنضال الوطني، حتى غيبت هذه الحركة الأدبية التي سبقت حرب التحرير وفي كثير من الأحيان، أدبية الأدب وجماله بمنح الصدارة للعمل الإصلاحي و النضال من أجل المحافظة على مقومات الهوية الجماعية للشعب الجزائري.
وهذا البحث يتناول بواكير الأعمال الروائية للجزائريين باللغة الفرنسية في نشأتها، فيحدد مضامين هدا الأدب، ويسأل نصوصه الأولى مباشرة بالدراسة و التحليل و الاستنباط، بالتركيز بالخصوص على النصوص الروائية الصادرة ما بين 1920و1945 و التي أهملت نوعما من طرف الدارسين الجزائريين خاصة وغيرهم عامة. لذا اعتمدنا على النصوص مباشرة بالتحليل لاستنباط مدلولها أولا ثم تناولناها في سياق الأحداث التاريخية والظروف السياسية التي عايشها أدباء هذه الفترة التي تميزت بميلاد الحركة الوطنية عبر تيارات متعددة للتعبير عن هوية الشعب الجزائري الجماعية من خلال الدين و اللغة والتقاليد وذلك رغم كل ما قيل عن هذه الفترة التي اعتبر كتابها من منشدي الإدماج في المجتمع الفرنسي، حتى طرحت جملة من الأسئلة حول موضوع هوية أدب هذه الفترة وما جاء بعده ولا سيما ما تعلق منها بلغته ومن ثم بهويته الثقافية و الحضارية، وبعد محاولة قراءة وتحليل النصوص المختارة ،بقي لنا ادا أن نقف و لو قليلا مع الأدب الجزائري الذي كتب بالفرنسية،و دلك لعدة اعتبارات منها و أنه أدب جزائري لحما و دما، حتى و أن كان موجها في وقت من الأوقات إلى جمهور أخر غير الجمهور الجزائري، و حتى وأن كتب باللغة الفرنسية و وجهت اعتراضات لأجل دلك على"جزائريته". إلا أن هدا الأدب قد خدم القضية الجزائرية و أوصل صوت الجزائر إلى الرأي العام العلمي، نظرا لانتشار اللغة الفرنسية على نطاق واسع ممهدا بدالك الطريق إلى أدب الثورة الذي ازداد تطورا فيما بعد.
في الأخير لم يأت أدب هذه الفترة(1920-945) نتيجة احتكاك حضاري مؤثر ولا نتيجة تبادل ثقافي متميز بل جاء بعد تسعين عاما من حرب شاملة شنها الاستعمار الفرنسي في كل الميادين على الشعب الجزائري. فانطلاقا من هذه الحقيقة التاريخية، يمكننا القول بان هذا الأدب حملته أمه كرها ووضعته كرها، وهذا ما تعبر عنه موضوعاته الكبرى ولا سيما مسألة الإدماج المستحيل الذي كان مرفوضا من الطرفين لعمق الخلاف و الاختلاف السائد بين المستعمر و المستعمَر.
الدكتور مومن سعد
* نقلا عن أصوات الشمال