قبل أربعين سنة, وفي مثل هذا اليوم, 24 كانون الثاني (يناير) 1964 أقدمت كاتبة شابة على الانتحار اختناقاً بالغاز, تاركة وراءها رواية جريئة ووحيدة عنوانها "فتاة تافهة". انها منى جبور التي انتحرت في الحادية والعشرين من عمرها والتي منذ غيابها, غاب الكلام عنها وعن روايتها "فتاة تافهة" التي كتبتها في الخامسة عشرة. ومثلما ظُلمت في انتحارها الذي احرج اهلها وبيئتها (ولدت في القبيات - قضاء عكار في 15 آب/ اغسطس 1943) ظُلمت كذلك بعد موتها, فهي سرعان ما وقعت في بئر النسيان ولم يُعد طبع روايتها الأولى والرواية الثانية التي صدرت بُعيد غيابها وعنوانها "الغربان والمسوح البيضاء". وحتى الآن لم تجمع قصصها ومقالاتها الكثيرة التي استطاعت ان تكتبها خلال عمرها القصير ونشرتها في مجلة "حوار" وصحيفة "الحياة" و"النهار" و"الحكمة" وسواها.
كاتبة فريدة, اطلت في المعترك الأدبي اللبناني بسرعة وغابت كذلك بسرعة! ولا تزال حتى اليوم شخصية غريبة وغامضة وربما ساحرة في ما تركت من أثر لم يستطع النسيان او التناسي الذي حاصرها ان يمحوه. هنا قراءة في روايتها "فتاة تافهة".
تكاد منى جبّور تشبه بطلة روايتها "فتاة تافهة" التي سمّتها ندى خوري وأوكلت اليها ان تؤدي دور "الراوي" لتسرد حكايتها الشخصية التي تخلو من الأحداث الجسام. لكن الضمير المتكلم (الأنا) سيضحي مرآة للكاتبة المتلبسة قناع البطلة (أو العكس), مرآة نقية في أحيان و"مغبّشة" في أحيان اخرى. فالكاتبة كتبت ما يشبه "الرواية الشخصية" وليس مذكرات او يوميات, على رغم ان حكاية البطلة لم تخل من التأملات التي تندرج عادة في نصوص "المذكرات". فالبطلة التي تروي عبر "الأنا" لا يمكنها ان تتحاشى الوقوع في شرك "السيرة الذاتية" وإن لم تتقصد سرد سيرتها. فوجهة النظر هنا واحدة, وكذلك الرؤية الى العالم والذات والآخر هي احادية بدورها.
تكبر البطلة ندى كاتبتها منى سنتين او ثلاثاً. ندى عمرها ثمانية عشر عاماً ومنى جبور كانت في الخامسة عشرة عندما أكبت على "وضع" روايتها وكأنها تضع مولوداً بعد مخاض. ولئن هجست البطلة بالانتحار مرددة هذه "المقولة" مرات عدة (لماذا لم انتحر؟ - لماذا لا انتحر؟ - أهرب من الحياة كلها فلمَ لا أموت؟...) فإن منى - الكاتبة انتحرت عوضاً عن بطلتها, على خلاف ما يحصل دوماً بين الكاتب وبطله. وقد تكون علاقة غوته ببطله فيرتر خير مثال عن هذه العلاقة المتواطئة بين هذين القطبين, اذ دفع الكاتب الكبير بطله الى الموت عوضاً عنه انتحاراً او هو استطاع من خلال انتحار البطل ان ينجو من الانتحار ولكن عبر عيشه في جسد بطله. منى جبور فعلت العكس وبدت, من خلال عيش بطلتها تجربة الانتحار, كأنها تهيئ نفسها لهذا الأمر, منتقلة به من مرتبة الكلام الى مرتبة الفعل. وقد تكون النهاية الغامضة التي شهدتها البطلة ندى هي اشبه بالانتحار: "رحت أسير وأسير وأسير... ولا أزل أسير دون أن أدري الى أين أمضي". هذا الكلام كتبت الشاعرة المنتحرة سيلفيا بلاث ما يشبهه في مذكراتها: "لا اعرف الى أين أمضي!". ولعل هذا المجهول الذي تنتهي الحياة امامه يمثل "المرجع المطلق" كما يعبر الناقد الفرنسي ميشال برود في كتابه "تجربة الانتحار في النصوص الاوتوبيوغرافية" (المنشورات الجامعية الفرنسية). ويقول في هذا الصدد ايضاً: "في نص يقدم نفسه كمرجع شامل, تبدو تجربة الانتحار هي البرهة التي اختبرها الكاتب والتي فيها يحضر الوجود". هكذا يبدو هاجس الانتحار في الرواية هاجساً وجودياً (لئلا أقول فلسفياً) كونه يحاول ان يجيب على الشرط الذي افترضه ألبير كامو للانتحار في كتابه "اسطورة سيزيف" قائلاً: "ان نحكم اذا كانت الحياة تستحق او لا تستحق عناء ان تعاش, هو الاجابة عن السؤال الاساس للفلسفة". طبعاً لم تسع بطلة منى جبور الى ايجاد جواب فلسفي, فهي بطلة بريئة وإن كانت سلبية تماماً وذات منحى وجودي (فطري ربما اكثر منه فلسفياً) وهي اصلاً ولدت منتهية او ميتة, ولم تكن في حاجة الى ان تفسر حالها او واقعها العبثي والمأسوي. وقد تقربها اصابتها بمرض "الاغماء" من بطل دوستويفسكي "الأبله" ولكن من غير ان تمتلك "حكمته". تقول ندى: "حتى الآن لم اعرف السبب الحقيقي لنوبات الاغماء التي تنتابني كلما توترت اعصابي". وتصف على لسان الخادمة في البيت العائلي النوبة العصبية بـ"النقطة" وهي التعبير الشعبي عن مرض "الاغماء" او "الغيبوبة".
بطلة وجودية؟
ندى خوري اذاً بطلة او لنقل شخصية وجودية! لكنها وجودية في المعنى الأليف وليس في المعنى الفلسفي او الميتافيزيقي. لا يمكن مثلاً مقارنتها ببطل رواية سارتر "الغثيان" والذي يدعى انطوان روكونتان. هذا يعيش حالاً من الغثيان الداخلي وهذه تجاهر بـ"غثيانها" في الصفحات الأولى من الرواية: "أكاد أتقيأ", تقول وهي في الصف المدرسي. بل انها تمعن في تدمير نفسها تدميراً للعالم والحياة: "أنا بصقة وحجر جامد..." تقول. وتمعن كذلك في تشويه صورتها تشويهاً للأنوثة نفسها التي كثيراً ما رفضتها: "بشعة, بشعة أنا الآن, أحب لو تدوم هذه البشاعة...". لا تحاول ندى خوري البحث عن اجوبة للأسئلة, المريرة التي تعتمل في سريرتها مقدار ما تطرح الاسئلة مدركة مسبقاً استحالة الاجابة عنها. وهذا الاحساس يضفي على شخصيتها مواصفات عبثية ولكن في المعنى الغريزي لا الفكري او الثقافي. انها في هذا المنحى شخصية فطرية وغريزية, تحيا رد الفعل على الحياة التي ليست حياتها, اكثر مما تحاول أن تفعل. انها بطلة سلبية ولكن ضعيفة ومنهكة, انها الضحية دوماً حتى وإن حاولت ان تؤدي دور الجلاد في احيان: كأن تصفع الشاب الذي تحرش بها في السينما او كأن تجعل والديها يعيشان عقدة ذنب بعدما هجرتهما... هذه الفتاة القوية والعصبية التي يخشى اساتذتها في المدرسة ان يواجهوها, تخفي في حناياها الكثير من الضعف والرقة. انها شخصية متناقضة كل التناقض: ترفض سلطة الوالد وتعلن كراهيتها الشديدة له ورغبتها في قتله وتصفه بالطائفي والمجرم والعاهر والوحش... وتصف المعلم بالخنزير والمدير بالكلب وتعتبر النجاح "سخافة"... تكره الاطفال وترفض ان تصبح اماً أو "صنم جمال" و"بئر لذة". الرجال "خنازير" في نظرها والنسوة اللواتي يذعنَّ لرجالهن وللأدوار المرسومة لهن يجب ان يتعذبن... هذه الفتاة التي يصفها الآخرون بالعصبية والمجنونة والمتشائمة والغريبة الاطوار والعدائية والتي لا تتوانى عن تدمير نفسها وعائلتها وحياتها هي فتاة ذكية ومثقفة تقصد "دار الندوة" (التي اسسها ميشال أسمر) ودار الكتب وتقرأ الصحف وتلم ببعض شؤون السياسة وتردد اغنيات داليدا (التي انتحرت لاحقاً) وتستمع الى موسيقى الجاز وتمزق كتاب ميخائيل نعيمة "دروب" في احدى نوبات غضبها, وكانت عندما قرأته وجدت ان لا جديد فيه... لكنها لا تعترف بأنها كاتبة مع اقتناعها بـ"أن الثقافة تفتح جميع الابواب امامي"...
وقد لا يكون مفاجئاً ان تخفي ندى وراء قساوتها وعبثيتها وسخطها الكثير من الضعف والرقة والعاطفة, فهي لا تتمالك عن البكاء في الاوقات الأليمة والمواقف المأسوية: "طمرت رأسي بفيض من الدموع" تقول, او: "فتشت عن قساوتي لأحبس الدموع. استنجدت بثورتي لأحبس انفاسي ولكن لا استطيع". وإذ تعلن كراهيتها للرجل وقرفها من الحب والحمل, تصيبها نوبات من الشهوة والعاطفة, فتعبر عن حاجتها الى الحنان والجنس. وفي مشهد بديع تتعرى امام المرآة وتمعن في تأمل جسدها, فيما النار تشتعل فيها وتعربد في دمها, كما تعبر. وعلى رغم افتتانها بعريها تشعر ان جسدها يرعبها ولكن رعب فتاة ترغب في الجنس وترفضه في آن واحد. وعندما ترتمي في السرير تعيش ما يشبه "الفانتاسم" الجنسي متخيلة نفسها بين ذراعي شاب يدعى هنري, كان - كما روت - حاول ان يلاطفها فصدّته. وهنري هذا ستلتقي به في نهاية الرواية وتركض نحوه فيصدها هو قائلاً لها انه خطب فتاة كانت ترافقه. هنا تبدو خيبة ندى كبيرة: انها لحظة الفراغ العاطفي الأخير. اما مشهد المرآة فسيتكرر اكثر من مرة ومن خلال الموقف نفسه: "حملت المرآة: صدري واسع وأبيض. وفتحت القميص: صدري يتسع لصدر رجل. ابعدت القميص ايضاً: صدري مثير...". ووقوفها امام المرآة لا يعبر عن نزعة نرجسية لديها بل عن حال الوحدة والافتقاد العاطفي والجنسي والعزلة... وثمة مشهد آخر, بديع بدوره, يتم امام المرآة ايضاً, ويتمثل في تصنعها الحبل وقد دست ثياباً تحت فستانها وراحت تمشي امام المرآة مرددة: "بطني الآن منفوخ... انا حبلى... ليتني استطيع تقبيل بطني المنفوخ...". وعندما تسقط الثياب, ترى بطنها ممسداً وفارغاً وتُصعق كما لو انها طرحت حملها. وثمة مشهد آخر بديع ايضاً مسرحه الكنيسة, وقد دخلتها منهارة, ملؤها الرغبة في البكاء, هي التي طالما شككت بالخالق وبوجوده. تركع ندى امام صورة يسوع باكية سائلة اياه: "يا يسوع لماذا خلقتني؟ يا يسوع لماذا كوّنتني فتاة...". وتضيف: "انتظرت ان يتحرك فم يسوع ويتكلم لكنه لم يجبني, لم يهدئ الهلع المجنون في صدري, فأمسكت الصورة بكلتا يدي وبدأت اهزها وأصرخ: يا يسوع... ولم يتحرك يسوع... خبطت الصورة بالأرض ودست الشمعتين بحذائي ثم لذت بالفرار". موقف جريء حتماً يحمل صدى الحركات الالحادية والوجودية. وهذا الفعل هو فعل ايماني في جوهره وان بدا تجديفياً. انه الايمان السلبي الذي يخفي ايماناً عميقاً وقوة روحية. فالبغضاء هنا هي الوجه الآخر للمحبة, بحسب ما عبر كيركغارد.
الفتاة المتناقضة
متناقضة جداً, هذه الفتاة "التافهة", المضطربة والضائعة والغارقة في الفراغ, هذه الفتاة التي تشك بكل شيء كما تعبر: "أشك بعيشي, بحياتي, بمستقبلي, بنجاحي, اشك بوجود الله, بقدرة الانسان...". هذه الفتاة التي تعرب ايضاً عن حاجتها الى الحنان والحماية والى طفل وفم "يرضع ثديي"... وتناقضها يذكّر كثيراً بتناقض الفتاة التي اسمها سيمون دو بوفوار والتي كتبت في "مذكرات فتاة عاقلة" تقول: "عندما اصبح عمري تسعة عشر عاماً, كتبتُ حواراً طويلاً تناوب فيه صوتان هما صوتي: صوت يقول هباء كل شيء, التقزز والوهن, وصوت آخر يؤكد ان الوجود جميل ولو عقيماً". وكانت اعلنت في هذه المذكرات وعيها لـ"عدم كفاية الاشياء الانسانية".
قد لا تكون رواية "فتاة تافهة" التي كتبتها منى جبور في السادسة عشرة من عمرها رواية في المعنى التقليدي او المعنى المتعارف عليه للرواية. ولا هي رواية تجريبية تسعى الى كسر الشكل عبر تداعيات الأنا - الراوي. وليست كذلك رواية مضادة تتخلى قصداً عن الاحداث والشخصيات لتمسي نسيجاً سردياً لغوياً. وليست ايضاً "مذكرات" ولا "يوميات" تدأب الكاتبة على تدوينها. انها "رواية شخصية" تجتمع فيها مواصفات سردية عدة وتغيب عنها مواصفات سردية عدة. وقد تكون صفة "الأدب الشخصي" خير ما يمكن اطلاقه عليها. فهذا الادب, كما يشير الناقدان آني كونتان وبول آرون, هو مقولة عامة تحدد كل الاشكال التي يمكن ان يتخذها "سرد الذات". يضم هذا الأدب أساليب عدة وأنواعاً متداخلة ومنسجمة او مستقلة وخاصة, كالمذكرات واليوميات الحميمة والسيرة الذاتية والاعتراف... ومن الممكن تبني ما يقوله سارتر في هذا الصدد واصفاً هذا النوع من الادب قائلاً: "توهم بيوغرافي يقوم على الاعتقاد بأن حياة معاشة تستطيع ان تشبه حياة مروية". ولعل هذا القول يؤكد دخول السيرة الذاتية في متاهة السرد, في رواية "فتاة تافهة" على ان السيرة تظل سيرة البطلة لا الكاتبة.
لا تخلو رواية "فتاة تافهة" من الهنات, لغوياً وبنائياً. وقد يسامح القارئ هذه الفتاة الموهوبة جداً التي استطاعت ان تصبح روائىة في السادسة عشرة, على تلك الهنات. ومنها مثلاً: الارتباك في رسم الانتقال الزمني والمكاني (طرابلس, بيروت, عاليه...), الارتباك في رسم الشخصيات التي مرّت بسرعة وكأن الكاتبة التي تسيطر على فعل السرد من خلال "الأنا" لم تكن معنية بها كثيراً, وقد اكتفت باطلاق الصفات عليها لا المواصفات الذاتية... ناهيك ببروز الكثير من التفاصيل والتكرار والأخطاء اللغوية والمطبعية... غير ان الرواية لا يمكن وصفها بـ"العمل الأول" الذي غالباً ما يندم الأدباء على اصداره. فهي تحمل من النضج ما يجعلها عملاً مهماً ولا سيما في زمنها, زمن الستينات الذي كان يشهد بداية جديدة للحركة الروائية النسائية. ولكن ما ينبغي ملاحظته هو ان رواية جبور لا تنتمي الى الادب النسوي, مهما بدت بطلتها مأخوذة بفكرة التحرر من سلطة الرجل والمجتمع البطريركي والدين. فالبطلة تدرك جيداً ان خيبتها الوجودية لن يشفيها النضال النسوي ولا السياسي, وأن قدرها هو ان تتوه من غير ان تحدد اين, ومن دون رجعة. ولا يمكن إلا التوقف عند لغة منى جبور الحديثة جداً وذات الطابع اليومي والبعيدة عن مضارب الفصاحة والانشائية والذاتية. لغة واقعية, تنساب بتوتر ونزق, فيها من البساطة قدر كبير وفيها من المتانة قدر كبير ايضاً.
لا أدري إن كانت منى جبور قرأت الأدب الوجودي الذي كان في أوج احتدامه في الستينات او إن قرأت الأدب العبثي, لكنها حتماً قرأت عيون الأدب اللبناني الذي كان يعيش في تلك الفترة نهضته الحداثية. يبدو جيداً انها قرأت "أنا أحيا" للكاتبة ليلى بعلبكي وكانت صدرت في 1958 وعرفت نجاحاً تبعاً لجرأتها والقضية التي أثارتها. فمنى جبور تستخدم عبارة "أنا أحيا" استخدامات عدة, لكنها استطاعت ان تكون اجرأ من ليلى بعلبكي وأعنف منها, لغةً وسرداً. ومثلما قرأت ليلى بعلبكي, قرأت توفيق يوسف عواد وفؤاد كنعان وجورج شامي وأنسي الحاج وسواهم... كل هذه الامور انجزتها منى جبور قبل ان تنتحر في الحادية والعشرين.
عبده وازن - الروائية المنسية منى جبّور كتبت -فتاة تافهة- في السادسة عشرة وانتحرت في الحادية والعشرين
كاتبة فريدة, اطلت في المعترك الأدبي اللبناني بسرعة وغابت كذلك بسرعة! ولا تزال حتى اليوم شخصية غريبة وغامضة وربما ساحرة في ما تركت من أثر لم يستطع النسيان او التناسي الذي حاصرها ان يمحوه. هنا قراءة في روايتها "فتاة تافهة".
تكاد منى جبّور تشبه بطلة روايتها "فتاة تافهة" التي سمّتها ندى خوري وأوكلت اليها ان تؤدي دور "الراوي" لتسرد حكايتها الشخصية التي تخلو من الأحداث الجسام. لكن الضمير المتكلم (الأنا) سيضحي مرآة للكاتبة المتلبسة قناع البطلة (أو العكس), مرآة نقية في أحيان و"مغبّشة" في أحيان اخرى. فالكاتبة كتبت ما يشبه "الرواية الشخصية" وليس مذكرات او يوميات, على رغم ان حكاية البطلة لم تخل من التأملات التي تندرج عادة في نصوص "المذكرات". فالبطلة التي تروي عبر "الأنا" لا يمكنها ان تتحاشى الوقوع في شرك "السيرة الذاتية" وإن لم تتقصد سرد سيرتها. فوجهة النظر هنا واحدة, وكذلك الرؤية الى العالم والذات والآخر هي احادية بدورها.
تكبر البطلة ندى كاتبتها منى سنتين او ثلاثاً. ندى عمرها ثمانية عشر عاماً ومنى جبور كانت في الخامسة عشرة عندما أكبت على "وضع" روايتها وكأنها تضع مولوداً بعد مخاض. ولئن هجست البطلة بالانتحار مرددة هذه "المقولة" مرات عدة (لماذا لم انتحر؟ - لماذا لا انتحر؟ - أهرب من الحياة كلها فلمَ لا أموت؟...) فإن منى - الكاتبة انتحرت عوضاً عن بطلتها, على خلاف ما يحصل دوماً بين الكاتب وبطله. وقد تكون علاقة غوته ببطله فيرتر خير مثال عن هذه العلاقة المتواطئة بين هذين القطبين, اذ دفع الكاتب الكبير بطله الى الموت عوضاً عنه انتحاراً او هو استطاع من خلال انتحار البطل ان ينجو من الانتحار ولكن عبر عيشه في جسد بطله. منى جبور فعلت العكس وبدت, من خلال عيش بطلتها تجربة الانتحار, كأنها تهيئ نفسها لهذا الأمر, منتقلة به من مرتبة الكلام الى مرتبة الفعل. وقد تكون النهاية الغامضة التي شهدتها البطلة ندى هي اشبه بالانتحار: "رحت أسير وأسير وأسير... ولا أزل أسير دون أن أدري الى أين أمضي". هذا الكلام كتبت الشاعرة المنتحرة سيلفيا بلاث ما يشبهه في مذكراتها: "لا اعرف الى أين أمضي!". ولعل هذا المجهول الذي تنتهي الحياة امامه يمثل "المرجع المطلق" كما يعبر الناقد الفرنسي ميشال برود في كتابه "تجربة الانتحار في النصوص الاوتوبيوغرافية" (المنشورات الجامعية الفرنسية). ويقول في هذا الصدد ايضاً: "في نص يقدم نفسه كمرجع شامل, تبدو تجربة الانتحار هي البرهة التي اختبرها الكاتب والتي فيها يحضر الوجود". هكذا يبدو هاجس الانتحار في الرواية هاجساً وجودياً (لئلا أقول فلسفياً) كونه يحاول ان يجيب على الشرط الذي افترضه ألبير كامو للانتحار في كتابه "اسطورة سيزيف" قائلاً: "ان نحكم اذا كانت الحياة تستحق او لا تستحق عناء ان تعاش, هو الاجابة عن السؤال الاساس للفلسفة". طبعاً لم تسع بطلة منى جبور الى ايجاد جواب فلسفي, فهي بطلة بريئة وإن كانت سلبية تماماً وذات منحى وجودي (فطري ربما اكثر منه فلسفياً) وهي اصلاً ولدت منتهية او ميتة, ولم تكن في حاجة الى ان تفسر حالها او واقعها العبثي والمأسوي. وقد تقربها اصابتها بمرض "الاغماء" من بطل دوستويفسكي "الأبله" ولكن من غير ان تمتلك "حكمته". تقول ندى: "حتى الآن لم اعرف السبب الحقيقي لنوبات الاغماء التي تنتابني كلما توترت اعصابي". وتصف على لسان الخادمة في البيت العائلي النوبة العصبية بـ"النقطة" وهي التعبير الشعبي عن مرض "الاغماء" او "الغيبوبة".
بطلة وجودية؟
ندى خوري اذاً بطلة او لنقل شخصية وجودية! لكنها وجودية في المعنى الأليف وليس في المعنى الفلسفي او الميتافيزيقي. لا يمكن مثلاً مقارنتها ببطل رواية سارتر "الغثيان" والذي يدعى انطوان روكونتان. هذا يعيش حالاً من الغثيان الداخلي وهذه تجاهر بـ"غثيانها" في الصفحات الأولى من الرواية: "أكاد أتقيأ", تقول وهي في الصف المدرسي. بل انها تمعن في تدمير نفسها تدميراً للعالم والحياة: "أنا بصقة وحجر جامد..." تقول. وتمعن كذلك في تشويه صورتها تشويهاً للأنوثة نفسها التي كثيراً ما رفضتها: "بشعة, بشعة أنا الآن, أحب لو تدوم هذه البشاعة...". لا تحاول ندى خوري البحث عن اجوبة للأسئلة, المريرة التي تعتمل في سريرتها مقدار ما تطرح الاسئلة مدركة مسبقاً استحالة الاجابة عنها. وهذا الاحساس يضفي على شخصيتها مواصفات عبثية ولكن في المعنى الغريزي لا الفكري او الثقافي. انها في هذا المنحى شخصية فطرية وغريزية, تحيا رد الفعل على الحياة التي ليست حياتها, اكثر مما تحاول أن تفعل. انها بطلة سلبية ولكن ضعيفة ومنهكة, انها الضحية دوماً حتى وإن حاولت ان تؤدي دور الجلاد في احيان: كأن تصفع الشاب الذي تحرش بها في السينما او كأن تجعل والديها يعيشان عقدة ذنب بعدما هجرتهما... هذه الفتاة القوية والعصبية التي يخشى اساتذتها في المدرسة ان يواجهوها, تخفي في حناياها الكثير من الضعف والرقة. انها شخصية متناقضة كل التناقض: ترفض سلطة الوالد وتعلن كراهيتها الشديدة له ورغبتها في قتله وتصفه بالطائفي والمجرم والعاهر والوحش... وتصف المعلم بالخنزير والمدير بالكلب وتعتبر النجاح "سخافة"... تكره الاطفال وترفض ان تصبح اماً أو "صنم جمال" و"بئر لذة". الرجال "خنازير" في نظرها والنسوة اللواتي يذعنَّ لرجالهن وللأدوار المرسومة لهن يجب ان يتعذبن... هذه الفتاة التي يصفها الآخرون بالعصبية والمجنونة والمتشائمة والغريبة الاطوار والعدائية والتي لا تتوانى عن تدمير نفسها وعائلتها وحياتها هي فتاة ذكية ومثقفة تقصد "دار الندوة" (التي اسسها ميشال أسمر) ودار الكتب وتقرأ الصحف وتلم ببعض شؤون السياسة وتردد اغنيات داليدا (التي انتحرت لاحقاً) وتستمع الى موسيقى الجاز وتمزق كتاب ميخائيل نعيمة "دروب" في احدى نوبات غضبها, وكانت عندما قرأته وجدت ان لا جديد فيه... لكنها لا تعترف بأنها كاتبة مع اقتناعها بـ"أن الثقافة تفتح جميع الابواب امامي"...
وقد لا يكون مفاجئاً ان تخفي ندى وراء قساوتها وعبثيتها وسخطها الكثير من الضعف والرقة والعاطفة, فهي لا تتمالك عن البكاء في الاوقات الأليمة والمواقف المأسوية: "طمرت رأسي بفيض من الدموع" تقول, او: "فتشت عن قساوتي لأحبس الدموع. استنجدت بثورتي لأحبس انفاسي ولكن لا استطيع". وإذ تعلن كراهيتها للرجل وقرفها من الحب والحمل, تصيبها نوبات من الشهوة والعاطفة, فتعبر عن حاجتها الى الحنان والجنس. وفي مشهد بديع تتعرى امام المرآة وتمعن في تأمل جسدها, فيما النار تشتعل فيها وتعربد في دمها, كما تعبر. وعلى رغم افتتانها بعريها تشعر ان جسدها يرعبها ولكن رعب فتاة ترغب في الجنس وترفضه في آن واحد. وعندما ترتمي في السرير تعيش ما يشبه "الفانتاسم" الجنسي متخيلة نفسها بين ذراعي شاب يدعى هنري, كان - كما روت - حاول ان يلاطفها فصدّته. وهنري هذا ستلتقي به في نهاية الرواية وتركض نحوه فيصدها هو قائلاً لها انه خطب فتاة كانت ترافقه. هنا تبدو خيبة ندى كبيرة: انها لحظة الفراغ العاطفي الأخير. اما مشهد المرآة فسيتكرر اكثر من مرة ومن خلال الموقف نفسه: "حملت المرآة: صدري واسع وأبيض. وفتحت القميص: صدري يتسع لصدر رجل. ابعدت القميص ايضاً: صدري مثير...". ووقوفها امام المرآة لا يعبر عن نزعة نرجسية لديها بل عن حال الوحدة والافتقاد العاطفي والجنسي والعزلة... وثمة مشهد آخر, بديع بدوره, يتم امام المرآة ايضاً, ويتمثل في تصنعها الحبل وقد دست ثياباً تحت فستانها وراحت تمشي امام المرآة مرددة: "بطني الآن منفوخ... انا حبلى... ليتني استطيع تقبيل بطني المنفوخ...". وعندما تسقط الثياب, ترى بطنها ممسداً وفارغاً وتُصعق كما لو انها طرحت حملها. وثمة مشهد آخر بديع ايضاً مسرحه الكنيسة, وقد دخلتها منهارة, ملؤها الرغبة في البكاء, هي التي طالما شككت بالخالق وبوجوده. تركع ندى امام صورة يسوع باكية سائلة اياه: "يا يسوع لماذا خلقتني؟ يا يسوع لماذا كوّنتني فتاة...". وتضيف: "انتظرت ان يتحرك فم يسوع ويتكلم لكنه لم يجبني, لم يهدئ الهلع المجنون في صدري, فأمسكت الصورة بكلتا يدي وبدأت اهزها وأصرخ: يا يسوع... ولم يتحرك يسوع... خبطت الصورة بالأرض ودست الشمعتين بحذائي ثم لذت بالفرار". موقف جريء حتماً يحمل صدى الحركات الالحادية والوجودية. وهذا الفعل هو فعل ايماني في جوهره وان بدا تجديفياً. انه الايمان السلبي الذي يخفي ايماناً عميقاً وقوة روحية. فالبغضاء هنا هي الوجه الآخر للمحبة, بحسب ما عبر كيركغارد.
الفتاة المتناقضة
متناقضة جداً, هذه الفتاة "التافهة", المضطربة والضائعة والغارقة في الفراغ, هذه الفتاة التي تشك بكل شيء كما تعبر: "أشك بعيشي, بحياتي, بمستقبلي, بنجاحي, اشك بوجود الله, بقدرة الانسان...". هذه الفتاة التي تعرب ايضاً عن حاجتها الى الحنان والحماية والى طفل وفم "يرضع ثديي"... وتناقضها يذكّر كثيراً بتناقض الفتاة التي اسمها سيمون دو بوفوار والتي كتبت في "مذكرات فتاة عاقلة" تقول: "عندما اصبح عمري تسعة عشر عاماً, كتبتُ حواراً طويلاً تناوب فيه صوتان هما صوتي: صوت يقول هباء كل شيء, التقزز والوهن, وصوت آخر يؤكد ان الوجود جميل ولو عقيماً". وكانت اعلنت في هذه المذكرات وعيها لـ"عدم كفاية الاشياء الانسانية".
قد لا تكون رواية "فتاة تافهة" التي كتبتها منى جبور في السادسة عشرة من عمرها رواية في المعنى التقليدي او المعنى المتعارف عليه للرواية. ولا هي رواية تجريبية تسعى الى كسر الشكل عبر تداعيات الأنا - الراوي. وليست كذلك رواية مضادة تتخلى قصداً عن الاحداث والشخصيات لتمسي نسيجاً سردياً لغوياً. وليست ايضاً "مذكرات" ولا "يوميات" تدأب الكاتبة على تدوينها. انها "رواية شخصية" تجتمع فيها مواصفات سردية عدة وتغيب عنها مواصفات سردية عدة. وقد تكون صفة "الأدب الشخصي" خير ما يمكن اطلاقه عليها. فهذا الادب, كما يشير الناقدان آني كونتان وبول آرون, هو مقولة عامة تحدد كل الاشكال التي يمكن ان يتخذها "سرد الذات". يضم هذا الأدب أساليب عدة وأنواعاً متداخلة ومنسجمة او مستقلة وخاصة, كالمذكرات واليوميات الحميمة والسيرة الذاتية والاعتراف... ومن الممكن تبني ما يقوله سارتر في هذا الصدد واصفاً هذا النوع من الادب قائلاً: "توهم بيوغرافي يقوم على الاعتقاد بأن حياة معاشة تستطيع ان تشبه حياة مروية". ولعل هذا القول يؤكد دخول السيرة الذاتية في متاهة السرد, في رواية "فتاة تافهة" على ان السيرة تظل سيرة البطلة لا الكاتبة.
لا تخلو رواية "فتاة تافهة" من الهنات, لغوياً وبنائياً. وقد يسامح القارئ هذه الفتاة الموهوبة جداً التي استطاعت ان تصبح روائىة في السادسة عشرة, على تلك الهنات. ومنها مثلاً: الارتباك في رسم الانتقال الزمني والمكاني (طرابلس, بيروت, عاليه...), الارتباك في رسم الشخصيات التي مرّت بسرعة وكأن الكاتبة التي تسيطر على فعل السرد من خلال "الأنا" لم تكن معنية بها كثيراً, وقد اكتفت باطلاق الصفات عليها لا المواصفات الذاتية... ناهيك ببروز الكثير من التفاصيل والتكرار والأخطاء اللغوية والمطبعية... غير ان الرواية لا يمكن وصفها بـ"العمل الأول" الذي غالباً ما يندم الأدباء على اصداره. فهي تحمل من النضج ما يجعلها عملاً مهماً ولا سيما في زمنها, زمن الستينات الذي كان يشهد بداية جديدة للحركة الروائية النسائية. ولكن ما ينبغي ملاحظته هو ان رواية جبور لا تنتمي الى الادب النسوي, مهما بدت بطلتها مأخوذة بفكرة التحرر من سلطة الرجل والمجتمع البطريركي والدين. فالبطلة تدرك جيداً ان خيبتها الوجودية لن يشفيها النضال النسوي ولا السياسي, وأن قدرها هو ان تتوه من غير ان تحدد اين, ومن دون رجعة. ولا يمكن إلا التوقف عند لغة منى جبور الحديثة جداً وذات الطابع اليومي والبعيدة عن مضارب الفصاحة والانشائية والذاتية. لغة واقعية, تنساب بتوتر ونزق, فيها من البساطة قدر كبير وفيها من المتانة قدر كبير ايضاً.
لا أدري إن كانت منى جبور قرأت الأدب الوجودي الذي كان في أوج احتدامه في الستينات او إن قرأت الأدب العبثي, لكنها حتماً قرأت عيون الأدب اللبناني الذي كان يعيش في تلك الفترة نهضته الحداثية. يبدو جيداً انها قرأت "أنا أحيا" للكاتبة ليلى بعلبكي وكانت صدرت في 1958 وعرفت نجاحاً تبعاً لجرأتها والقضية التي أثارتها. فمنى جبور تستخدم عبارة "أنا أحيا" استخدامات عدة, لكنها استطاعت ان تكون اجرأ من ليلى بعلبكي وأعنف منها, لغةً وسرداً. ومثلما قرأت ليلى بعلبكي, قرأت توفيق يوسف عواد وفؤاد كنعان وجورج شامي وأنسي الحاج وسواهم... كل هذه الامور انجزتها منى جبور قبل ان تنتحر في الحادية والعشرين.
عبده وازن - الروائية المنسية منى جبّور كتبت -فتاة تافهة- في السادسة عشرة وانتحرت في الحادية والعشرين